الكتاب: شرح نهج البلاغة
المؤلف: ابن أبي الحديد
الجزء: ١١
الوفاة: ٦٥٦
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ القسم العام
تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم
الطبعة:
سنة الطبع: ١٩٦١ م
المطبعة:
الناشر: دار إحياء الكتب العربية - عيسى البابي الحلبي وشركاه
ردمك:
ملاحظات: مؤسسة مطبوعاتي إسماعيليان

شرح نهج البلاغة
لابن أبي الحديد
بتحقيق
محمد أبو الفضل إبراهيم
الجزء الحادي عشر
دار أحياء الكتب العربية
عيسى البابي الحلبي وشركائه
1

الطبعة الثانية
(1387 ه‍ - 1967 م)
جميع الحقوق محفوظة
منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
قم - إيران 1404 ه‍ ق
2

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد العدل
(196)
الأصل:
ومن كلام له عليه السلام:
أيها الناس إنما الدنيا دار مجاز والآخرة دار قرار فخذوا من ممركم لمقركم
ولا تهتكوا أستاركم عند من يعلم أسراركم واخرجوا من الدنيا قلوبكم من
قبل أن تخرج منها أبدانكم ففيها اختبرتم ولغيرها خلقتم
إن المرء إذا هلك قال الناس ما ترك وقالت الملائكة ما قدم لله! آباؤكم
فقدموا بعضا يكن لكم ولا تخلفوا كلا فيكون فرضا عليكم
الشرح:
ذكر أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في الكامل (1) عن الأصمعي قال:
خطبنا اعرابي بالبادية فحمد الله واستغفره ووحده وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم
فأبلغ في إيجاز ثم قال: أيها الناس إن الدنيا دار بلاغ والآخرة دار قرار فخذوا
لمقركم من ممركم ولا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفى عليه أسراركم في الدنيا أنتم

(1) الكامل 4: 108 (طبعة نهضة مصر).
3

ولغيرها خلقتم أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم والمصلى عليه رسول الله والمدعو له
الخليفة (1) والأمير جعفر بن سليمان.
وذكر غيره الزيادة التي في كلام أمير المؤمنين عليه السلام وهي " إن المرء إذا
هلك... " إلى آخر الكلام.
وأكثر الناس على أن هذا الكلام لأمير المؤمنين عليه السلام.
ويجوز أن يكون الاعرابي حفظه فأورده كما يورد الناس كلام غيرهم.
* * *
قوله عليه السلام: دار مجاز أي يجاز فيها إلى الآخرة منه سمى المجاز في
الكلام مجازا لان المتكلم قد عبر الحقيقة إلى غيرها كما يعبر الانسان من موضع
إلى موضع.
ودار القرار دار الاستقرار الذي لا آخر له.
فخذوا من ممركم أي من الدنيا لمقركم، وهو الآخرة.
قوله عليه السلام: " قال الناس ما ترك! " يريد أن بنى بني آدم مشغولون بالعاجلة
لا يفكرون في غيرها ولا يتساءلون الا عنها فإذا هلك أحدكم فإنما قولهم بعضهم
لبعض ما الذي ترك فلان من المال ما الذي خلف من الولد وأما الملائكة فإنهم
يعرفون الآخرة ولا تستهويهم شهوات الدنيا وإنما هم مشغولون بالذكر والتسبيح
فإذا هلك الانسان قالوا ما قدم أي أي شئ قدم من الأعمال؟
ثم أمرهم عليه السلام بان يقدموا من أموالهم بعضها صدقة فإنها تبقى لهم ونهاهم
أن يخلفوا أموالهم كلها بعد موتهم فتكون وبالا عليهم في الآخرة

(1) يريد به أبا جعفر المنصور، وقد ولى ابن عمه جعفر بن سليمان بن عبد الله بن العباس المدينة
سنة ست وأربعين ومائة.
4

(197)
الأصل:
ومن كلام له عليه السلام كان كثيرا ما ينادى به أصحابه:
تجهزوا رحمكم الله فقد نودي فيكم بالرحيل وأقلوا العرجة على الدنيا
وانقلبوا بصالح ما بحضرتكم من الزاد فان أمامكم عقبة كؤودا ومنازل مخوفة
مهولة لا بد من الورود عليها والوقوف عندها.
واعلموا أن ملاحظ المنية نحوكم دائبة (1) وكأنكم بمخالبها وقد نشبت
فيكم وقد دهمتكم منها مفظعات الأمور ومضلعات (2) المحذور.
فقطعوا علائق الدنيا واستظهروا بزاد التقوى
* * *
وقد مضى شئ من هذا الكلام فيما تقدم يخالف هذه الرواية
* * *
الشرح:
تجهزوا لكذا أي تهيئوا له.
والعرجة التعريج وهو الإقامة تقول ما لي على ربعك عرجة (3) أي إقامة وعرج
فلان على المنزل إذا حبس عليه مطيته.

(1) مخطوطة النهج: " دانية ".
(2) مخطوطة النهج: " المعضلات ".
(3) في اللسان: " ما لي عندك عرجة [مثلثة العين مع اسكان الراء]، ولا عرجة [بفتحتين]، ولا
تعريج، ولا تعرج، أي مقام، وقيل محبس ".
5

والعقبة الكؤود الشاقة المصعد ودائبة جادة والمخلب للسبع بمنزلة الظفر للانسان.
وأفظع الامر فهو مفظع إذا جاوز المقدار شدة.
ومضلعات المحذور الخطوب التي تضلع أي تجعل الانسان ضليعا أي معوجا
والماضي ضلع بالكسر يضلع ضلعا.
ومن رواها بالظاء أراد الخطوب التي تجعل الانسان ظالعا أي يغمز في مشيه لثقلها
عليه والماضي ظلع بالفتح يظلع ظلعها فهو ظالع
6

(198)
الأصل:
ومن كلام له عليه السلام كلم به طلحة والزبير بعد بيعته بالخلافة وقد عتبا
عليه (1) من ترك مشهورتهما والاستعانة في الأمور بهما:
لقد نقمتما يسيرا وأرجأتما كثيرا الا تخبراني أي شئ كان لكما فيه حق
دفعتكما عنه أم أي قسم استأثرت عليكما به أو أي حق رفعه إلي أحد من
المسلمين ضعفت عنه أم جهلته أم أخطأت بابه.
والله ما كانت لي في الخلافة رغبة ولا في الولاية إربة ولكنكم
دعوتموني إليها وحملتموني عليها فلما أفضت إلى نظرت إلى تاب الله وما وضع لنا
وأمرنا بالحكم به فاتبعته وما استن النبي (2) صلى الله عليه وسلم فاقتديته
فلم احتج إلى رأيكما ولا رأي غيركما ولا وقع حكم جهلته فأستشيركما
وإخواني من المسلمين ولو كان ذلك لم ارغب عنكما ولا عن غيركما.
وأما ما ذكرتما من أمر الأسوة فان ذلك أمر لم احكم انا فيه برأيي
ولا وليته هوى منى بل وجدت أنا وأنتما ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم
قد فرغ منه فلم احتج إليكما فيما قد فرغ الله من قسمة وأمضى فيه حكمه
فليس لكما والله عندي ولا لغير كما في هذا عتبي.
أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم إلى الحق وألهمنا وإياكم الصبر!

(1) ساقطة من مخطوطة النهج.
(2) مخطوطة النهج " استسن ".
7

ثم قال عليه السلام:
رحم الله رجلا رأى حقا فأعان عليه أو رأى جورا فرده وكان عونا بالحق
على صاحبه
* * *
الشرح:
نقمت عليه بالفتح أنقم هذه اللغة الفصيحة وجاء نقمت بالكسر أنقم.
وأرجأتما أخرتما أي نقمتما من أحوالي اليسير وتركتما الكثير الذي ليس لكما
ولا لغير كما فيه مطعن فلم تذكراه فهلا اغتفرتما اليسير للكثير!.
وليس هذا اعترافا بان ما نقماه موضع الطعن والعيب ولكنه على جهة الجدل
والاحتجاج كما تقول لمن يطعن في بيت من شعر شاعر مشهور لقد ظلمته إذ تتعلق
عليه بهذا البيت وتنسى ما له من المحاسن الكثيرة في غيره!.
تم ذكر وجوه العتاب والاسترادة (1) وهي أقسام إما أن يكون لهما حق يدفعهما
عنه أو استأثر عليهما في قسم أو ضعف عن السياسة أو جهل حكما من أحكام الشريعة
أو أخطأ بابه.
فان قلت أي فرق بين الأول والثاني
قلت اما دفعهما عن حقهما فمنعهما عنه سواء صار إليه عليه السلام أو إلى غيره
أو لم يصر إلى أحد بل بقي بحاله في بيت المال.

(1) الاسترادة: طلب الرجوع واللين والانقياد، ومنه الحديث: فاسترداد لأمر الله، أي رجع ولان
وانقاد. (اللسان).
8

وأما القسم الثاني فهو أن يأخذ حقهما لنفسه وبين القسمين فرق ظاهر والثاني
أفحش من الأول.
فان قلت فأي فرق بين قوله " أم جهلته " أو " أخطأت بابه ".
قلت جهل الحكم أن يكون الله تعالى قد حكم بحرمه شئ فأحله الامام أو المفتى
وكونه يخطئ بابه هو أن يصيب في الحكم ويخطئ في الاستدلال عليه.
ثم أقسم انه لم يكن له في الخلافة رغبة ولا إربة بكسر الهمزة وهي الحاجة
وصدق عليه السلام فهكذا نقل أصحاب التواريخ وأرباب علم السير كلهم وروى
الطبري في التاريخ ورواه غيره أيضا أن الناس غشوة وتكاثروا عليه يطلبون مبايعته
وهو يأبى ذلك ويقول دعوني والتمسوا غيري فانا مستقبلون أمرا له وجوه وألوان
لا تثبت عليه العقول ولا تقوم له القلوب قالوا ننشدك الله الا ترى الفتنة الا ترى
إلى ما حدث في الاسلام الا تخاف الله فقال قد أجبتكم لما أرى منكم واعلموا
انى إن أجبتكم ركبت بكم ما اعلم وإن تركتموني فإنما انا كأحدكم بل انا أسمعكم
وأطوعكم لمن وليتموه امركم إليه فقالوا ما نحن بمفارقيك حتى نبايعك قال إن كان
لا بد من ذلك ففي المسجد فان بيعتي لا تكون خفيا ولا تكون الا عن رضا المسلمين
وفى ملا وجماعة فقام والناس حوله فدخل المسجد وانثال عليه المسلمون فبايعوه
وفيهم طلحة والزبير (1).
قلت قوله " إن بيعتي لا تكون خفيا ولا تكون الا في المسجد بمحضر من
جمهور الناس " يشابه قوله بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله للعباس لما سامه مد
يده للبيعة فقال إني
أحب أن أصحر بها (2) وأكره أن أبايع من وراء رتاج.

(1) تاريخ الطبري 5: 152 (المطبعة الحسينية) مع تصرف
(2) أصحر: من قولهم: أصحر الامر وبه، إذا أظهره.
9

ثم ذكر عليه السلام انه لما بويع عمل بكتاب الله وسنة رسوله ولم يحتج إلى رأيهما
ولا رأى غيرهما ولم يقع حكم يجهله فيستشيرهما ولو وقع ذلك لاستشارهما وغيرهما
ولم يأنف من ذلك.
ثم تكلم في معنى التنفيل في العطاء فقال فقال إني عملت بسنة رسول الله صلى الله عليه
وآله في ذلك وصدق عليه السلام فان رسول الله صلى الله عليه وآله سوى في
العطاء بين الناس وهو مذهب أبي بكر.
والعتبى الرضا الست أرضيكما بارتكاب ما لا يحل لي في الشرع ارتكابه
والضمير في " صاحبه " وهو الهاء المجرورة يرجع إلى الجور أي وكان عونا بالعمل
على صاحب الجور
* * *
[من اخبار طلحة والزبير]
قد تقدم منا ذكر ما عتب به طلحة والزبير على أمير المؤمنين عليه السلام وأنهما
قالا ما نراه يستشيرنا في أمر ولا يفاوضنا في رأي ويقطع الامر دوننا ويستبد
بالحكم عنا وكانا يرجوان غير ذلك وأراد طلحة أن يوليه البصرة وأراد الزبير أن
يوليه الكوفة فلما شاهدا صلابته في الدين وقوته في العزم وهجرة الادهان والمراقبة
ورفضه المدالسة والمواربة وسلوكه في جميع مسالكه منهج الكتاب والسنة وقد كانا
يعلمان ذلك قديما من طبعه وسجيته وكان عمر قال لهما ولغيرهما إن الأجلح (1) إن
وليها ليحملنكم على المحجة البيضاء والصراط المستقيم وكان رسول الله صلى الله عليه وآله

(1) الأجلح، من الجلح، وهو ذهاب الشعر من مقدم الرأس، وكان رضي الله عنه كذلك.
10

من قبل قال وإن تولوها عليا تجدوه هاديا مهديا " الا انه ليس الخبر كالعيان
ولا القول كالفعل ولا الوعد كالإنجاز وحالا عنه وتنكرا له ووقعا فيه وعاباه
وغمصاه (1) وتطلبا له العلل والتأويلات وتنقما عليه الاستبداد وترك المشاورة وانتقلا
من ذلك إلى الوقيعة فيه بمساواة الناس في قسمة المال وأثنيا على عمر وحمدا سيرته
وصوبا رأيه وقالا انه كان يفضل أهل السوابق وضللا عليا عليه السلام فيما رآه
وقالا انه أخطأ وانه خالف سيرة عمر وهي السيرة المحمودة التي لم تفضحها النبوة
مع قرب عهدنا منها واتصالها بها واستنجدا عليه بالرؤساء من المسلمين كان عمر يفضلهم
وينفلهم (2) في القسم على غيرهم والناس أبناء الدنيا ويحبون المال حبا جما - فتنكرت
على أمير المؤمنين عليه السلام بتنكرهما قلوب كثيرة ونغلت (3) عليه نيات كانت من
قبل سليمه ولقد كان عمر موفقا حيث منع قريشا والمهاجرين وذوي السوابق من الخروج من
المدينة ونهاهم عن مخالطة الناس ونهى الناس عن مخالطتهم ورأي أن ذلك أس الفساد
في الأرض وأن الفتوح والغنائم قد أبطرت المسلمين ومتى بعد الرؤوس والكبراء منهم
عن دار الهجرة وانفردوا بأنفسهم وخالطهم الناس في البلاد البعيدة لم يأمن أن يحسنوا
لهم الوثوب وطلب الامرة ومفارقة الجماعة وحل نظام الألفة ولكنه رضي الله عنه
نقض هذا الرأي السديد بما فعله بعد طعن أبى لؤلؤة له من أمر الشورى فان ذلك كان
سبب كل فتنة وقعت وتقع إلى أن تنقضي الدنيا وقد قدمنا ذكر ذلك وشرحنا ما أدى
إليه أمر الشورى من الفساد بما حصل في نفس كل من الستة من ترشيحه للخلافة.

(1) غمصناه: تهاونا بحقه.
(2) ينفلهم: يعطيهم النفل.
(3) نفلت: فسدت.
11

وروى أبو جعفر الطبري في تاريخه قال كان عمر قد حجر على اعلام قريش من
المهاجرين الخروج في البلدان الا باذن وأجل فشكوه فبلغه فقام فخطب فقال
الا فقال إني
قد سننت الاسلام سن البعير يبدأ فيكون جذعا ثم ثنيا (1) ثم يكون
رباعيا (2) ثم سديسا ثم بازلا (3) الا فهل ينتظر بالبازل الا النقصان الا وإن الاسلام
قد صار بازلا وأن قريشا يريدون أن يتخذوا مال الله معونات على ما في أنفسهم
الا إن في قريش من يضمر الفرقة ويروم خلع الربقة اما وابن الخطاب حي فلا انى
قائمك دون شعب الحرة آخذ بحلاقيم قريش وحجزها أن يتهافتوا في النار.
وقال أبو جعفر الطبري في التاريخ أيضا فلما ولى عثمان لم يأخذهم بالذي كان عمر
يأخذهم به فخرجوا إلى البلاد فلما نزلوها ورأوا الدنيا ورآهم الناس خمل من لم يكن له
طول ولا قدم في الاسلام ونبه أصحاب السوابق والفضل فانقطع إليهم الناس وصاروا
أوزاعا معهم وأملوهم وتقربوا إليهم وقالوا يملكون فيكون لنا في ملكهم حظوة
فكان ذلك أول وهن على الاسلام وأول فتنة كانت في العامة.
وروى أبو جعفر الطبري عن الشعبي قال لم يمت عمر حتى ملته قريش وقد كان
حصرهم بالمدينة وسألوه أن يأذن لهم في الخروج إلى البلاد فامتنع عليهم وقال إن
أخوف ما أخاف على هذه الأمة انتشاركم في البلاد حتى إن الرجل كان يستأذنه في
غزو الروم أو الفرس وهو ممن حبسه بالمدينة من قريش ولا سيما من المهاجرين فيقول له
إن لك في غزوك مع رسول الله صلى الله عليه وآله ما يكفيك ويبلغك ويحسبك (4) وهو
خير لك من الغزو اليوم وإن خيرا لك الا ترى الدنيا ولا تراك.

(1) الثني: الذي يلقى ثنيته.
(2) الرباعي: هو الذي ألقى رباعيته، والرباعية: السن التي بين الثنية والناب
(3) البازل: البعير فطر نابه وانشق، ويكون ذلك في السنة التاسعة.
(4) يقال: أحسبه إذا أرضاه أو أعطاه ما يرضيه وكفاه.
12

فلما مات عمر وولى عثمان خلى عنهم فانتشروا في البلاد واضطربوا وانقطع إليهم
الناس وخالطوهم فلذلك كان عثمان أحب إلى قريش من عمر.
فقد بان لك حسن رأي عمر في منع المهاجرين وأهل السابقة من قريش من مخالطة
الناس والخروج من المدينة وبان لك أن عثمان أرخى لهم في الطول (1) فخالطهم الناس
وأفسدوهم وحببوا إليهم الملك والإمرة والرئاسة لا سيما مع الثروة العظيمة التي حصلت لهم
والثراء مفسدة وأي مفسدة وحصل لطلحة والزبير من ذلك ما لم يحصل لغيرهما ثروة
ويسارا وقدما في الاسلام وصار لهما لفيف عظيم من المسلمين يمنونهما الخلافة ويحسنون لهما
طلب الامرة لا سيما وقد رشحهما عمر لها وأقامهما مقام نفسه في تحملها وأي امرئ
منى بها قط نفسه ففارقها حتى يغيب في اللحد ولا سيما طلحة قد كان يحدث بها نفسه
وأبو بكر حي ويروم أن يجعلها فيه بشبهه انه ابن عمه وسخط خلافه عمر وقال
لأبي بكر ما تقول لربك وقد وليت علينا فظا غليظا وكان له في أيام عمر قوم يجلسون إليه
ويحادثونه سرا في معنى الخلافة ويقولون له لو مات عمر لبايعناك بغته جلب الدهر
علينا ما جلب وبلغ ذلك عمر فخطب الناس بالكلام المشهور إن قوما يقولون إن
بيعه أبى بكر كانت فلتة وانه لو مات عمر لفعلنا وفعلنا اما أن بيعه أبى بكر كانت
فلتة الا إن الله وقى شرها وليس فيكم من تقطع إليه الرقاب كأبي بكر فأي امرئ
بايع أمرا من غير مشورة من المسلمين فإنهما بغرة أن يقتلا فلما صارت إلى عثمان سخطها
طلحة بعد أن كان رضيها وأظهر ما في نفسه والب عليه حتى قتل ولم يشك أن
الامر له فلما صارت إلى علي عليه السلام حدث منه ما حدث وآخر الدواء الكي.
واما الزبير فلم يكن الا علوي الرأي شديد الولاء جاريا من الرجل
مجرى نفسه.

(1) الطول: الحبل، يريد أنه لان وترك لهم الحبل على الغارب، حتى فعلوا ما فعلوا.
13

ويقال انه عليه السلام لما استنجد بالمسلمين عقيب يوم السقيفة وما جرى فيه وكان
يحمل فاطمة عليها السلام ليلا على حمار وابناها بين يدي الحمار، وهو عليه السلام يسوقه
فيطرق بيوت الأنصار وغيرهم، ويسألهم النصرة والمعونة، أجابه أربعون رجلا فبايعهم
على الموت وأمرهم أن يصبحوا بكرة محلقي رؤوسهم ومعهم سلاحهم فأصبح لم يوافه
منهم الا أربعة الزبير والمقداد وأبو ذر وسلمان ثم أتاهم من الليل فناشدهم فقالوا
نصبحك غدوة فما جاءه منهم الا أربعة وكذلك في الليلة الثالثة وكان الزبير أشدهم له
نصرة وأنفذهم في طاعته بصيرة حلق رأسه وجاء مرارا وفي عنقه سيفه وكذلك الثلاثة
الباقون الا أن الزبير هو كان الرأس فيهم وقد نقل الناس خبر الزبير لما هجم عليه
ببيت فاطمة عليه السلام وكسر سيفه في صخرة ضربت به ونقلوا اختصاصه بعلي عليه
السلام وخلواته به ولم يزل مواليا له متمسكا بحبه ومودته حتى نشأ ابنه عبد الله
وشب فنزع به عرق من الام ومال إلى تلك الجهة وانحرف عن هذه ومحبة
الوالد للولد معروفة فانحرف الزبير لانحرافه على أنه قد كانت جرت بين علي عليه السلام
والزبير هنات في أيام عمر كدرت القلوب بعض التكدير وكان سببها قصة موالي صفية
ومنازعة على للزبير في الميراث فقضى عمر للزبير فأذعن علي عليه السلام لقضائه
بحكم سلطانه لا رجوعا عما كان يذهب إليه من حكم الشرع في هذه المسألة وبقيت
في نفس الزبير على أن شيخنا أبا جعفر الإسكافي رحمه الله ذكر في كتاب
" نقض العثمانية " الزبير كلاما أن صح فإنه يدل على انحراف شديد ورجوع
عن موالاة أمير المؤمنين عليه السلام
قال: تفاخر علي عليه السلام والزبير فقال الزبير أسلمت بالغا وأسلمت طفلا
وكنت أول من سل سيفا في سبيل الله بمكة وأنت مستخف في الشعب (1) يكفلك الرجال

(1) هو شعب أبي بمكة، وانظر معجم البلدان 5: 270
14

ويمونك الأقارب من بني هاشم وكنت فارسا وكنت راجلا وفى هيئتي نزلت
الملائكة وانا حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال شيخنا أبو جعفر وهذا الخبر مفتعل مكذوب ولم يجر بين على والزبير شئ
من هذا الكلام ولكنه من وضع العثمانية ولم يسمع به في أحاديث الحشوية ولا في كتب
أصحاب السيرة.
ولعلي عليه السلام أن يقول طفل مسلم خير من بالغ كافر واما سل السيف
بمكة فلم يكن في موضعه وفى ذلك قال الله تعالى (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا
أيديكم...) (1) الآية وانا على منهاج الرسول في الكف والاقدام وليس كفالة الرجال
والأقارب بالشعب عارا على فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله في الشعب يكفله
الرجال والأقارب واما حربك فارسا وحربي راجلا فهلا اغنت فروسيتك يوم عمرو
ابن عبد ود في الخندق وهلا اغنت فروسيتك يوم طلحة بن أبي طلحة في أحد وهلا اغنت
فروسيتك يوم مرحب بخيبر ما كانت فرسك التي تحارب عليها في هذه الأيام الا أذل
من العنز الجرباء ومن سلمت عليه الملائكة أفضل ممن نزلت في هيئته وقد نزلت
الملائكة في صورة دحية الكلبي أفيجب من ذلك أن يكون دحية أفضل منى
واما كونك حواري رسول الله صلى الله عليه وآله فلو عددت خصائصي في مقابله هذه
اللفظة الواحدة لاستغرقت الوقت وأفنيت الزمان ورب صمت أبلغ من
نطق (2).
* * *
ثم نرجع إلى الحديث الأول فتقول إن طلحة والزبير لما آيسا من جهة علي عليه

(1) سورة النساء 77.
(2) انظر رسالة العثمانية 224 وما بعدها.
15

السلام ومن حصول الدنيا من قبله قلبا له ظهر المجن فكاشفاه وعاتباه قبل المفارقة
عتابا لاذعا روى شيخنا أبو عثمان قال
أرسل طلحة والزبير إلى علي عليه السلام قبل خروجهما إلى مكة مع محمد بن طلحة
وقالا لا تقل له " يا أمير المؤمنين " ولكن قل له " يا أبا الحسن " لقد فال فيك
رأينا وخاب ظننا أصلحنا لك الامر ووطدنا لك الامرة وأجلبنا على عثمان حتى
قتل فلما طلبك الناس لأمرهم أسرعنا إليك وبايعناك وقدنا إليك أعناق
العرب ووطئ المهاجرون والأنصار أعقابنا في بيعتك حتى إذا ملكت عنانك
استبددت برأيك عنا ورفضتنا رفض التريكة (1) وأذلتنا إذالة (2) الإماء وملكت
امرك الأشتر وحكيم بن جبله وغيرهما من الاعراب ونزاع الأمصار فكنا فيما رجوناه
منك وأملناه من ناحيتك كما قال الأول
فكنت كمهريق الذي في سقائه * لرقراق آل فوق رابية صلد
فلما جاء محمد بن طلحة أبلغه ذاك فقال اذهب إليهما فقل لهما فما الذي
يرضيكما فذهب وجاءه فقال إنهما يقولان ول أحدنا البصرة والاخر الكوفة
فقال لاها الله اذن يحلم الأديم ويستشري الفساد وتنتقض على البلاد من أقطارها
والله فقال إني لا آمنهما وهما عندي بالمدينة فكيف آمنهما وقد وليتهما العراقين اذهب
إليهما فقل أيها الشيخان احذرا من سطوة الله ونقمته ولا تبغيا للمسلمين غائلة وكيدا
وقد سمعتما قول الله تعالى (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في
الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين) (3) فقام محمد بن طلحة فأتاهما ولم يعد إليه
وتأخرا عنه أياما ثم جاءاه فاستأذناه في الخروج إلى مكة للعمرة فأذن لهما بعد أن أحلفهما

(1) التريكة: التي تترك فلا يتزوجها أحد.
(2) الإذالة الإهانة
(3) سورة القصص 83.
16

الا ينقضا بيعته ولا يغدرا به ولا يشقا عصا المسلمين ولا يوقعا الفرقة بينهم وأن
يعودا بعد العمرة إلى بيوتهما بالمدينة فحلفا على ذلك كله ثم خرجا ففعلا ما فعلا.
* * *
وروى شيخنا أبو عثمان قال لما خرج طلحة والزبير إلى مكة وأوهما الناس انهما
خرجا للعمرة قال علي عليه السلام لأصحابه والله ما يريدان العمرة وإنما يريدان
الغدرة (فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه
أجرا عظيما). (1)
وروى الطبري في التاريخ قال لما بايع طلحة والزبير عليا عليه السلام سألاه أن
يؤمرهما على الكوفة والبصرة فقال بل تكونان عندي أتجمل بكما فإنني
استوحش لفراقكما.
قال الطبري وقد كان قال لهما قبل بيعتهما له إن أحببتما أن تبايعاني وإن أحببتما
بايعتكما فقالا لا بل نبايعك ثم قالا بعد ذلك إنما بايعناه خشية على أنفسنا وقد
عرفنا انه لم يكن ليبايعنا ثم ظهرا إلى مكة وذلك بعد قتل عثمان بأربعة أشهر.
وروى الطبري أيضا في التاريخ قال لما بايع الناس عليا وتم له الامر قال
طلحة للزبير ما أرى أن لنا من هذا الامر الا كحسة (2) أنف الكلب.
وروى الطبري أيضا في التاريخ قال لما بايع الناس عليا عليه السلام بعد قتل
عثمان جاء على إلى الزبير فاستأذن عليه قال أبو حبيبة مولى الزبير: فأعلمته به فسل
السيف ووضعه تحت فراشه وقال ائذن له فأذنت له فدخل فسلم على الزبير وهو
واقف ثم خرج فقال الزبير لقد دخل لأمر ما قضاه قم مقامه وانظر هل ترى من

(1) سورة الفتح 10
(2) كذا في تاريخ الطبري 1: 3069 (طبع أوروبا)، والكلمة غير واضحة الأصول
17

السيف شيئا! فقمت في مقامه فرأيت ذباب السيف فأخبرته وقلت إن ذباب
السيف ليظهر لمن قام في هذا الموضع فقال ذاك أعجل الرجل
وروى شيخنا أبو عثمان قال كتب مصعب بن الزبير إلى عبد الملك
من مصعب بن الزبير إلى عبد الملك بن مروان سلام عليك فإني احمد إليك
الله الذي لا إله الا هو اما بعد:
ستعلم يا فتى الزرقاء أنى * سأهتك عن حلائلك الحجابا
وأترك بلدة أصبحت فيها * تهور من جوانبها خرابا
أما أن لله على الوفاء بذلك الا أن تتراجع أو تتوب ولعمري ما أنت كعبد الله بن
الزبير ولا مروان كالزبير بن العوام حواري رسول الله صلى الله عليه وآله وابن عمته
فسلم الامر إلى أهله فان نجاتك بنفسك أعظم الغنيمتين والسلام.
فكتب إليه عبد الملك:
من عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين إلى الذلول الذي أخطأ من سماه المصعب سلام
عليك فإني احمد إليك الله الذي لا إله الا هو اما بعد:
أتوعدني ولم أر مثل يومى * خشاش الطير يوعدن العقابا
متى تلق العقاب خشاش طير * يهتك عن مقاتلها الحجابا
أتوعد بالذئاب اسود غاب * وأسد الغاب تلتهم الذئابا!
اما ما ذكرت من وفائك فلعمري لقد وفى أبوك لتيم وعدى بعداء قريش وزعانفها
حتى إذا صارت الأمور إلى صاحبها عثمان الشريف النسب الكريم الحسب بغاه
الغوائل واعد له المخاتل حتى نال منه حاجته ثم دعا الناس إلى علي وبايعه فلما
18

دانت له أمور الأمة وأجمعت له الكلمة وأدركه الحسد القديم لبني عبد مناف فنقض
عهده ونكث بيعته بعد توكيدها ففكر وقدر وقتل كيف قدر وتمزقت لحمه الضباع
بوادي السباع ولعمري انك تعلم يا أخا بنى عبد العزى بن قصي انا بنو عبد مناف لم نزل
سادتكم وقادتكم في الجاهلية والاسلام ولكن الحسد دعاك إلى ما ذكرت ولم ترث
ذلك عن كلالة بل عن أبيك ولا أظن حسدك وحسد أخيك يؤول بكما الا إلى ما آل
إليه حسد أبيكما من قبل (ولا يحيق المكر السيئ الا باهله) (1) (وسيعلم الذين
ظلموا أي منقلب ينقلبون) (2).
وروى أبو عثمان أيضا قال دخل الحسن بن علي عليهما السلام على معاوية وعنده
عبد الله بن الزبير وكان معاوية يحب أن يغري بين قريش فقال يا أبا محمد أيهما كان
أكبر سنا على أم الزبير فقال الحسن ما أقرب ما بينهما وعلى أسن من الزبير رحم الله
عليا فقال ابن الزبير رحم الله الزبير وهناك أبو سعيد بن عقيل بن أبي طالب فقال
يا عبد الله وما يهيجك من أن يترحم الرجل على أبيه قال وانا أيضا ترحمت على أبى قال
أتظنه ندا له وكفؤا قال وما يعدل به عن ذلك كلاهما من قريش وكلاهما دعا إلى
نفسه ولم يتم له قال دع ذاك عنك يا عبد الله إن عليا من قريش ومن الرسول صلى الله
عليه وآله حيث تعلم ولما دعا إلى نفسه أتبع فيه وكان رأسا ودعا الزبير إلى أمر وكان
الرأس فيه امرأة ولما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وولى مدبرا قبل أن يظهر الحق
فيأخذه أو يدحض الباطل فيتركه فأدركه رجل لو قيس ببعض أعضائه لكان أصغر
فضرب عنقه واخذ سلبه وجاء برأسه ومضى على قدما كعادته مع ابن عمه رحم الله عليا

(1) سورة فاطر 43.
(2) سورة الشعراء 227.
19

فقال ابن الزبير اما لو أن غيرك تكلم بهذا يا أبا سعيد لعلم فقال إن الذي
تعرض به يرغب عنك وكفه معاوية فسكتوا.
وأخبرت عائشة بمقالتهم ومر أبو سعيد بفنائها فنادته يا أبا سعيد أنت القائل
لابن أختي كذا فالتفت أبو سعيد فلم ير شيئا فقال إن الشيطان يرانا ولا نراه
فضحكت عائشة وقالت لله أبوك ما أذلق لسانك
20

(199)
الأصل:
ومن كلام له عليه السلام وقد سمع قوما من أصحابه يسبون أهل الشام أيام
حربهم بصفين:
انى أكره لكم أن تكونوا سبابين ولكنكم لو وصفتم أعمالهم
وذكرتم حالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العذر وقلتم مكان
سبكم إياهم
اللهم احقن دماءنا ودماءهم وأصلح ذات بيننا وبينهم واهدهم من ضلالتهم
حتى يعرف الحق من جهله ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به
* * *
الشرح:
السب الشتم سبه يسبه بالضم والتساب التشاتم ورجل مسب بكسر الميم
كثير السباب ورجل سبه أي يسبه الناس ورجل سببه أي يسب الناس ورجل
سب كثير السباب وسبك الذي يسابك قال
لا تسبنني فلست بسبي * إن سبى من الرجال الكريم (1)
والذي كرهه عليه السلام منهم انهم كانوا يشتمون أهل الشام ولم يكن يكره
منهم لعنهم إياهم والبذاءة منهم لا كما يتوهمه قوم من الحشوية فيقولون لا يجوز

(1) لعبد الرحمن بن حسان، وانظر الصحاح 1: 145.
21

لعن أحد ممن عليه اسم الاسلام وينكرون على من يلعن ومنهم من يغالي في ذلك
فيقول لا العن الكافر والعن إبليس وإن الله تعالى لا يقول لأحد يوم القيامة
لم لم تلعن وإنما يقول لم لعنت.
واعلم أن هذا خلاف نص الكتاب لأنه تعالى قال (إن الله لعن الكافرين
واعد لهم سعيرا) (1).
وقال (أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون). (2)
وقال في إبليس (وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين) (3).
وقال (ملعونين أينما ثقفوا) (4).
وفى الكتاب العزيز من ذلك الكثير الواسع.
وكيف يجوز للمسلم أن ينكر التبرؤ ممن يجب التبرؤ منه ألم يسمع هؤلاء قول
الله تعالى (لقد كان لكم أسوة حسنه في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم
انا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم
العداوة والبغضاء ابدا) (5) وإنما يجب النظر فيمن قد اشتبهت حاله فإن كان قد قارف
كبيرة من الذنوب يستحق بها اللعن والبراء فلا ضير على من يلعنه ويبرأ منه وإن
لم يكن قد قارف كبيرة لم يجز لعنه ولا البراءة منه.
ومما يدل على أن من عليه اسم الاسلام إذا ارتكب الكبيرة يجوز لعنه بل يجب
في وقت قول الله تعالى في قصه اللعان (فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله انه

(1) سورة الأحزاب 64.
(2) سورة البقرة 159.
(3) سورة ص 78.
(4) سورة الأحزاب 61.
(5) سورة الممتحنة 4.
22

لمن الصادقين * والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين) (1)
وقال تعالى في القاذف (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات
لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم) (2).
فهاتان الآيتان في المكلفين من أهل القبلة والآيات قبلهما في الكافرين والمنافقين
ولهذا قنت أمير المؤمنين عليه السلام على معاوية وجماعة من أصحابه ولعنهم في
أدبار الصلوات.
فان قلت فما صورة السب الذي نهى أمير المؤمنين عليه السلام عنه.
قلت كانوا يشتمونهم بالآباء والأمهات ومنهم من يطعن في نسب قوم منهم
ومنهم من يذكرهم باللؤم ومنهم من يعيرهم بالجبن والبخل وبأنواع الأهاجي التي
يتهاجى بها الشعراء وأساليبها معلومة فنهاهم عليه السلام عن ذلك وقال فقال إني
أكره
لكن أن تكونوا سبابين ولكن الأصوب أن تصفوا لهم أعمالهم وتذكروا حالهم
أي أن تقولوا انهم فساق وانهم أهل ضلال وباطل.
ثم قال اجعلوا عوض سبهم أن تقولوا اللهم احقن دماءنا ودماءهم.
حقنت الدم أحقنه بالضم منعت أن يسفك أي ألهمهم الإنابة إلى الحق والعدول
عن الباطل فان ذلك إذا تم حقنت دماء الفريقين.
فان قلت كيف يجوز أن يدعو الله تعالى بما لا يفعله أليس من أصولكم أن الله
تعالى لا يضطر المكلف إلى اعتقاد الحق وإنما يكله إلى نظرة.
قلت الامر وأن كان كذلك الا أن المكلفين قد تعبدوا بان يدعوا الله تعالى

(1) سورة النور 6، 7.
(2) سورة النور 23.
23

بذلك لان في دعائهم إياه بذلك لطفا لهم ومصالح في أديانهم كالدعاء بزيادة الرزق
وتأخير الاجل.
قوله " وأصلح ذات بيننا وبينهم " يعنى أحوالنا وأحوالهم ولما كانت الأحوال
ملابسه للبين قيل لها " ذات البين " كما أنه لما كانت الضمائر ملابسة للصدور قيل
" ذات الصدور " وكذلك قولهم اسقني ذا إنائك لما كان ما فيه من الشراب ملابسا
له ويقولون للمتبرز قد وضع ذا بطنه وللحبلى تضع ألقت ذا بطنها.
وارعوى عن الغي رجع وكف.
لهج به بالكسر يلهج أغرى به وثابر عليه
24

(200)
ومن كلام له عليه السلام في بعض أيام صفين وقد رأى الحسن ابنه عليه
السلام يتسرع إلى الحرب:
املكوا عني هذا الغلام لا يهدني فإنني أنفس بهذين يعنى الحسن
والحسين عليهما السلام على الموت لئلا ينقطع بهما نسل رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم
* * *
قال الرضى أبو الحسن رحمه الله قوله عليه السلام: " املكوا عنى هذا الغلام "
من أعلى الكلام وأفصحه
* * *
الشرح:
الألف في " املكوا " الف وصل لان الماضي ثلاثي من ملكت الفرس والعبد
والدار أملك بالكسر أي احجروا عليه كما يحجر المالك على مملوكه.
وعن متعلقه بمحذوف تقديره استولوا عليه وابعدوه عنى ولما كان الملك سبب
الحجر على المملوك عبر بالسبب عن المسبب كما عبر بالنكاح عن العقد وهو في الحقيقة
اسم الوطء لما كان العقد طريقا إلى الوطء وسببا له.
ووجه علو هذا الكلام وفصاحته انه لما كان في " املكوا " معنى البعد أعقبه
25

بعن وذلك انهم لا يملكونه دون أمير المؤمنين عليه السلام الا وقد أبعدوه عنه الا ترى
انك إذا حجرت على زيد دون عمرو فقد باعدت زيدا عن عمرو فلذلك قال املكوا
عنى هذا الغلام واستفصح الشارحون قول أبى الطيب
إذا كان شم الروح أدنى إليكم * فلا برحتني روضه وقبول (1)
قالوا ولما كان في " فلا برحتني " معنى " فارقتني " عدى اللفظة وإن كانت لازمة
نظرا إلى المعنى. (1)
قوله " لا يهدني " أي لئلا يهدني فحذف كما حذف طرفه في قوله
الا أيهذا الزاجري أحضر الوغى (2)
أي لان أحضر.
وأنفس أبخل نفست عليه بكذا بالكسر.
فان قلت أيجوز أن يقال للحسن والحسين وولدهما أبناء رسول الله وولد رسول الله
وذرية رسول الله ونسل رسول الله.
قلت نعم لان الله تعالى سماهم (أبناءه) في قوله تعالى (ندع أبناءنا وأبناءكم) (3)
وإنما عنى الحسن والحسين ولو أوصي لولد فلان بمال دخل فيه أولاد البنات وسمى الله تعالى
عيسى ذرية إبراهيم في قوله (ومن ذريته داود وسليمان) (4) إلى أن قال (ويحيى
وعيسى) ولم يختلف أهل اللغة في أن ولد البنات من نسل الرجل.

(1) ديوانه 3: 96.
(2) من المعلقة - بشرح التبريزي 80 وبقيته
* وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي *
(3) سورة آل عمران 61.
(4) سورة الأنعام 84.
26

فان قلت فما تصنع بقوله تعالى (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم) قلت
أسألك عن أبوته لإبراهيم بن مارية فكما تجيب به عن ذلك فهو جوابي عن الحسن
والحسين عليهما السلام.
والجواب الشامل للجميع انه عنى زيد بن حارثة لان العرب كانت تقول زيد بن محمد
على عادتهم في تبنى العبيد فأبطل الله تعالى ذلك ونهى عن سنة الجاهلية وقال إن محمدا
عليه السلام ليس أبا لواحد من الرجال البالغين المعروفين بينكم ليعتزى إليه بالنبوة
وذلك لا ينفى كونه أبا لأطفال لم تطلق عليهم لفظة الرجال كإبراهيم وحسن وحسين
عليهم السلام.
فان قلت أتقول إن ابن البنت ابن علي الحقيقة الأصلية أم على سبيل المجاز.
قلت لذاهب أن يذهب إلى أنه حقيقة أصلية لان أصل الاطلاق الحقيقة وقد يكون
اللفظ مشتركا بين مفهومين وهو في أحدهما أشهر ولا يلزم من كونه أشهر في أحدهما الا
يكون حقيقة في الاخر.
ولذاهب أن يذهب إلى أنه حقيقة عرفية وهي التي كثر استعمالها وهي في الأكثر
مجاز حتى صارت حقيقة في العرف كالراوية للمزادة والسماء للمطر.
ولذاهب أن يذهب إلى كونه مجازا قد استعمله الشارع فجاز اطلاقه في كل حال
واستعماله كسائر المجازات المستعملة.
ومما يدل على اختصاص ولد فاطمة دون بني هاشم كافة بالنبي عليه السلام انه ما كان
يحل له عليه السلام أن ينكح بنات الحسن والحسين عليهما السلام ولا بنات ذريتهما
وإن بعدن وطال الزمان الزمان ويحل له نكاح بنات غيرهم من بني هاشم من الطالبيين وغيرهم
وهذا يدل على مزيد الأقربية وهي كونهم أولاده لأنه ليس هناك من القربى غير
27

هذا الوجه لأنهم ليسوا أولاد أخيه ولا أولاد أخته ولا هناك وجه يقتضى حرمتهم
عليه الا كونه والدا لهم وكونهم أولادا له فان قلت قد قال الشاعر
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا * بنوهن أبناء الرجال الأباعد.
وقال حكيم العرب أكثم بن صيفي في البنات يذمهن أنهن يلدن الأعداء
ويورثن البعداء.
قلت إنما قال الشاعر ما قاله على المفهوم الأشهر وليس في قول أكثم ما يدل على نفى
بنوتهم وإنما ذكر أنهن يلدن الأعداء وقد يكون ولد الرجل لصلبه عدوا قال الله تعالى
(إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم) (1) ولا ينفى كونه عدوا كونه ابنا.
قيل لمحمد بن الحنفية عليه السلام لم يغرر بك أبوك في الحرب ولم لا يغرر بالحسن
والحسين فقال لأنهما عيناه وانا يمينه فهو يذب عن عينيه بيمينه

(1) سورة التغابن 14.
28

(201)
الأصل:
ومن كلام عليه السلام قاله لما اضطرب عليه أصحابه في أمر الحكومة
أيها الناس انه لم يزل أمري معكم على ما أحب حتى نهكتكم الحرب
وقد والله اخذت منكم وتركت وهي لعدوكم أنهك.
لقد كنت أمس أميرا فأصبحت اليوم مأمورا وكنت أمس ناهيا فأصبحت
اليوم منهيا وقد أحببتم البقاء وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون
* * *
الشرح:
نهكتكم بكسر الهاء أدنفتكم وأذابتكم ويجوز فتح الهاء وقد نهك الرجل
أي دنف وضني فهو منهوك وعليه نهكه المرض أي اثره الحرب مؤنثة.
وقد اخذت منكم وتركت أي لم تستأصلكم بل فيكم بعد بقية وهي لعدوكم
أنهك لان القتل في أهل الشام كان أشد استحرارا والوهن فيهم أظهر ولولا فساد
أهل العراق برفع المصاحف لاستؤصل الشام وخلص الأشتر إلى معاوية فاخذه بعنقه
ولم يكن قد بقي من قوة الشام الا كحركة ذنب الوزغة عند قتلها يضطرب يمينا وشمالا
ولكن الأمور السماوية لا تغالب.
فاما قوله (كنت أمس أميرا فأصبحت اليوم مأمورا) فقد قدمنا شرح حالهم
من قبل وأن أهل العراق لما رفع عمرو بن العاص ومن معه المصاحف على وجه المكيدة
29

حين أحس بالعطب وعلو كلمة أهل الحق الزموا أمير المؤمنين عليه السلام بوضع أوزار
الحرب وكف الأيدي عن القتال وكانوا في ذلك على أقسام
فمنهم من دخلت عليه الشبهة برفع المصاحف وغلب على ظنه أن أهل الشام لم يفعلوا
ذلك خدعة وحيلة بل حقا ودعاء إلى الدين وموجب الكتاب فرأى أن الاستسلام
للحجة أولى من الاصرار على الحرب.
ومنهم من كان قد مل الحرب وآثر السلم فلما رأى شبهة ما يسوغ التعلق بها في
رفض المحاربة وحب العافية أخلد إليهم.
ومنهم من كان يبغض عليا عليه السلام بباطنه ويطيعه بظاهره كما يطيع كثير من
الناس السلطان في الظاهر ويبغضه بقلبه فلما وجدوا طريقا إلى خذلانه وترك نصرته
أسرعوا نحوها فاجتمع جمهور عسكره عليه وطالبوه بالكف وترك القتال فامتنع
امتناع عالم بالمكيدة وقال لهم انها حيلة وخديعة وأني أعرف بالقوم منكم انهم
ليسوا بأصحاب قرآن ولا دين قد صحبتهم وعرفتهم صغيرا وكبيرا فعرفت منهم
الاعراض عن الدين والركون إلى الدنيا فلا تراعوا برفع المصاحف وصمموا على
الحرب وقد ملكتموهم فلم يبق منهم الا حشاشة ضعيفة وذماء قليل فأبوا عليه
وألحوا وأصروا على القعود والخذلان وأمروه بالانفاذ إلى المحاربين من أصحابه
وعليهم الأشتر أن يأمرهم بالرجوع وتهددوه إن لم يفعل باسلامه إلى معاوية فأرسل
إلى الأشتر يأمره بالرجوع وترك الحرب فأبى عليه فقال كيف ارجع وقد لاحت
أمارات الظفر فقولوا له (ليمهلني ساعة واحدة) ولم يكن علم صورة الحال كيف قد وقعت
فلما عاد إليه الرسول بذلك غضبوا ونفروا وشغبوا وقالوا أنفذت إلى الأشتر سرا وباطنا
تأمره بالتصميم وتنهاه عن الكف وإن لم تعده الساعة والا قتلناك كما قتلنا عثمان
فرجعت الرسل إلى الأشتر فقالوا له ا تحب أن تظفر بمكانك وأمير المؤمنين قد سل عليه
30

خمسون الف سيف فقال ما الخبر قال إن الجيش بأسره قد أحدق به وهو قاعد
بينهم على الأرض تحته نطع وهو مطرق والبارقة تلمع على رأسه يقولون لئن لم تعد
الأشتر قتلناك قال ويحكم فما سبب ذلك قالوا رفع المصاحب قال والله لقد ظننت
حين رايتها رفعت انها ستوقع فرقة وفتنة.
ثم كر راجعا على عقبيه فوجد أمير المؤمنين عليه السلام تحت الخطر قد ردده
أصحابه بين أمرين يسلموه إلى معاوية أو يقتلوه ولا ناصر له منهم الا ولداه
وابن عمه ونفر قليل لا يبلغون عشرة فلما رآهم الأشتر سبهم وشتمهم وقال ويحكم
أبعد الظفر والنصر صب عليكم الخذلان والفرقة يا ضعاف الأحلام يا أشباه النساء
يا سفهاء العقول فشتموه وسبوه وقهروه وقالوا المصاحف المصاحف والرجوع إليها
لا نرى غير ذلك فأجاب أمير المؤمنين عليه السلام إلى التحكيم دفعا للمحذور الأعظم
بارتكاب المحظور الأضعف فلذلك قال (كنت أميرا فأصبحت مأمورا وكنت
ناهيا فصرت منهيا) وقد سبق من شرح حال التحكيم وما جرى فيه ما يغنى عن اعادته
31

(2)
الأصل:
ومن كلام له عليه السلام بالبصرة وقد دخل على العلاء بن زياد الحارثي
وهو من أصحابه يعوده فلما رأى سعة داره قال:
ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا اما أنت إليها في الآخرة كنت أحوج
وبلى إن شئت بلغت بها الآخرة تقري فيها الضيف وتصل فيها الرحم وتطلع
منها الحقوق مطالعها فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة
فقال له العلاء:
يا أمير المؤمنين أشكو إليك أخي عاصم بن زياد
قال: وما له
قال: لبس العباء وتخلى من الدنيا
قال: على به فلما جاء قال
يا عدى نفسه لقد استهام بك الخبيث اما رحمت أهلك وولدك أترى الله
أحل لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها أنت أهون على الله من ذلك
قال:
يا أمير المؤمنين هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك
قال:
ويحك فقال إني
لست كانت إن الله تعالى فرض على أئمة الحق أن يقدروا أنفسهم
بضعفة الناس كيلا يتبيغ بالفقير فقره
32

الشرح:
كنت هاهنا زائدة مثل قوله تعالى (كيف نكلم من كان في المهد
صبيا) (1)
وقوله (وبلى إن شئت بلغت بها الآخرة) لفظ فصيح كأنه استدرك
وقال وبلى على انك قد تحتاج إليها في الدنيا لتجعلها وصلة إلى نيل الآخرة
بان تقري فيها الضيف والضيف لفظ يقع على الواحد والجمع وقد يجمع فيقال
ضيوف وأضياف والرحم القرابة.
وتطلع منها الحقوق مطالعها توقعها في مظان استحقاقها.
والعباء جمع عباءة وهي الكساء وقد تلين كما قالوا عظاءة وعظاية وصلاءة وصلاية.
وتقول على بفلان أي أحضره والأصل أعجل به على فحذف فعل الامر
ودل الباقي عليه.
ويا عدى نفسه تصغير (عدو) وقد يمكن أن يراد به التحقير المحض هاهنا.
ويمكن أن يراد به الاستعظام لعداوته لها ويمكن أن يخرج مخرج التحنن والشفقة
كقولك يا بنى.
واستهام بك الخبيث يعنى الشيطان أي جعلك هائما ضالا والباء زائدة.
فان قيل ما معنى قوله عليه السلام: (أنت أهون على الله من ذلك)؟.
قلت لان في المشاهد قد يحل الواحد منا لصاحبه فعلا مخصوصا محاباة ومراقبة له

(1) سورة مريم 29.
33

وهو يكره أن يفعله والبشر أهون على الله تعالى من أن يحل لهم أمرا مجاملة واستصلاحا
للحال معهم وهو يكره منهم فعله.
وقوله (هذا أنت!) أي فما بالنا نراك خشن الملبس والتقدير (فها أنت تفعل
كذا فكيف تنهى عنه!).
وطعام جشب أي غليظ وكذلك مجشوب وقيل إنه الذي لا ادم معه.
قوله عليه السلام: (أن يقدروا أنفسهم بضعفه الناس) أي يشتبهوا ويمثلوا.
وتبيغ الدم بصاحبه وتبوغ به أي هاج به وفي الحديث (عليكم بالحجامة
لا يتبيغ بأحدكم الدم فيقتله) وقيل أصل (يتبيغ) يتبغى فقلب جذب وجبذ أي يجب
على الإمام العادل أن يشبه نفسه في لباسه وطعامه بضعفة الناس - جمع ضعيف - لكيلا
يهلك الفقراء من الناس فإنهم إذا رأوا امامهم بتلك الهيئة وبذلك المطعم كان ادعى لهم إلى
سلوان لذات الدنيا والصبر عن شهوات النفوس
* * *
[ذكر بعض مقامات العارفين والزهاد]
وروى أن قوما من المتصوفة دخلوا خراسان على علي بن موسى الرضى فقالوا له
إن أمير المؤمنين فكر فيما ولاه الله من الأمور فرآكم - أهل البيت - أولى الناس أن تؤموا
الناس ونظر فيك من أهل البيت فرآك أولى الناس بالناس فرأى أن يرد هذا الامر
إليك والإمامة تحتاج إلى من يأكل الجشب ويلبس الخشن ويركب الحمار ويعود
المريض فقال لهم إن يوسف كان نبيا يلبس أقبية الديباج المزررة بالذهب ويجلس
على متكات آل فرعون ويحكم إنما يراد من الامام قسطه وعدله إذا قال صدق
34

وإذا حكم عدل وإذا وعد أنجز إن الله لم يحرم لبوسا ولا مطعما ثم قرا (قل من
حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق الآية...) (1) الآية.
وهذا القول مخالف للقانون الذي أشار أمير المؤمنين إليه وللفلاسفة في هذا الباب
كلام لا باس به وقد أشار إليه أبو علي بن سينا في كتاب (الإشارات) وعليه يتخرج
قولا أمير المؤمنين وعلي بن موسى الرضى عليهما السلام قال أبو علي في مقامات العارفين
(العارفون قد يختلفون في الهمم بحسب ما يختلف فيهم من الخواطر على حسب ما يختلف
عندهم من دواعي العبر فربما استوى عند العارف القشف الترف بل ربما آثر القشف
وكذلك ربما سوى عنده التفل والعطر بل ربما آثر التفل وذلك عندما يكون
الهاجس بباله استحقار ما عدا الحق وربما صغا إلى الزينة وأحب من كل شئ عقيلته (2)
وكره الخداج والسقط وذلك عندما يعتبر عادته من صحبته الأحوال الظاهرة فهو يرتاد
إليها في كل شئ لأنه مزية خطوة من العناية الأولى وأقرب أن يكون من قبيل
ما عكف عليه بهواه وقد يختلف هذا في عارفين وقد يختلف في عارف بحسب وقتين.
واعلم أن الذي رويته عن الشيوخ ورايته بخط عبد الله بن أحمد بن الخشاب
رحمه الله أن الربيع بن زياد الحارثي اصابته نشابة في جبينه فكانت تنتقض عليه في
كل عام فاتاه علي عليه السلام عائدا فقال كيف تجدك أبا عبد الرحمن قال أجدني
يا أمير المؤمنين لو كان لا يذهب ما بي الا بذهاب بصرى لتمنيت ذهابه قال وما قيمة
بصرك عندك قال لو كانت لي الدنيا لفديته بها قال لا جرم ليعطينك الله على قدر
ذلك إن الله تعالى يعطى على قدر الألم والمصيبة وعنده تضعيف كثير قال الربيع

(1) سورة الأعراف 32
(2) العقيلة من كل شئ أكرمه جمعها عقائل.
35

يا أمير المؤمنين الا أشكوا إليك عاصم بن زياد أخي قال ما له قال لبس العباء وترك
الملاء وغم أهله وحزن ولده
فقال على ادعوا لي عاصما فلما اتاه عبس في وجهه وقال ويحك يا عاصم ا ترى
الله أباح لك اللذات وهو يكره ما اخذت منها لانت أهون على الله من ذلك أو ما سمعته
يقول (مرج البحرين يلتقيان) (1) ثم يقول (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) (2)
وقال (ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها) (3)
اما والله إن ابتذال نعم الله بالفعال أحب إليه من ابتذالها بالمقال وقد سمعتم الله يقول
(واما بنعمة ربك فحدث) (4) وقوله (من حرم زينة الله التي اخرج لعباده
والطيبات من الرزق) إن الله خاطب المؤمنين بما خاطب به المرسلين فقال
(يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) (5) وقال (يا أيها الرسل
كلوا من الطيبات واعملوا صالحا) (6) وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبعض نسائه
(ما لي أراك شعثاء مرهاء سلتاء) (7).
قال عاصم فلم اقتصرت يا أمير المؤمنين على لبس الخشن واكل الجشب قال
إن الله تعالى افترض على أئمة العدل أن يقدروا لأنفسهم بالقوام كيلا يتبيغ بالفقير فقره
فما قام علي عليه السلام حتى نزع عاصم العباء ولبس ملاءة.
والربيع بن زياد هو الذي افتتح بعض خراسان وفيه قال عمر دلوني على رجل إذا كان

(1) سورة الرحمن 19.
(2) سورة الرحمن 22.
(3) سورة فاطر 12.
(4) سورة الضحى 11.
(5) سورة البقرة 172.
(6) سورة المؤمنون 51.
(7) المرهاء: التي لا تكتحل. والسلتاء التي لا تخضب.
36

في القوم أميرا فكأنه ليس بأمير وإذا كان في القوم ليس بأمير فكأنه الأمير بعينه
وكان خيرا متواضعا وهو صاحب الوقعة مع عمر لما أحضر العمال فتوحش له الربيع
وتقشف واكل معه الجشب من الطعام فأقره على عمله وصرف الباقين وقد ذكرنا
هذه الحكاية فيما تقدم.
وكتب زياد بن أبيه إلى الربيع بن زياد وهو على قطعة من خراسان إن أمير المؤمنين
معاوية كتب إلى يأمرك أن تحرز الصفراء والبيضاء وتقسم الخرثى (1) وما أشبهه على أهل
الحرب فقال له الربيع فقال إني وجدت كتاب الله قبل كتاب أمير المؤمنين ثم نادى في
الناس أن اغدوا على غنائمكم فاخذ الخمس وقسم الباقي على المسلمين ثم دعا الله أن يميته
فما جمع حتى مات.
وهو الربيع بن زياد بن انس بن ديان بن قطر بن زياد بن الحارث بن مالك بن
ربيعة بن كعب بن مالك بن كعب بن الحارث بن عمرو بن وعلة بن خالد بن مالك
بن أدد.
واما العلاء بن زياد الذي ذكره الرضى رحمه الله فلا أعرفه لعل غيري يعرفه.

(1) الخرثى: أردأ المتاع.
37

(203)
الأصل:
ومن كلام له عليه السلام وقد سأله سائل عن أحاديث البدع وعما في أيدي
الناس من اختلاف الخبر فقال عليه السلام:
إن في أيدي الناس حقا وباطلا وصدقا وكذبا وناسخا ومنسوخا وعاما
وخاصا ومحكما ومتشابها وحفظا ووهما
وقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم على عهده حتى قام خطيبا
فقال (من كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) وإنما اتاك بالحديث
أربعة رجال ليس لهم خامس
رجل منافق مظهر للايمان متصنع بالاسلام لا يتأثم ولا يتحرج
يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم متعمدا فلو علم الناس انه منافق كاذب
لم يقبلوا منه ولم يصدقوا قوله ولكنهم قالوا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم
آه وسمع منه ولقف عنه فيأخذون بقوله وقد أخبرك الله عن
المنافقين بما أخبرك ووصفهم بما وصفهم به لك ثم بقوا بعده فتقربوا إلى أئمة
الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والبهتان فولوهم الأعمال وجعلوهم حكاما
على رقاب الناس فأكلوا بهم الدنيا وإنما الناس مع الملوك والدنيا الا من عصم
الله فهذا أحد الأربعة
ورجل سمع من رسول الله شيئا لم يحفظه على وجهه فوهم فيه ولم يتعمد
38

كذبا فهو في يديه ويرويه ويعمل به ويقول انا سمعته من رسول الله صلى
الله عليه وسلم فلو علم المسلمون انه وهم فيه لم يقبلوه منه ولو علم هو انه
كذلك لرفضه
ورجل ثالث سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا يأمر به ثم إنه
نهى عنه وهو لا يعلم أو سمعه ينهى عن شئ ثم أمر به وهو لا يعلم فحفظ
المنسوخ ولم يحفظ الناسخ فلو علم أنه منسوخ لرفضه ولو علم المسلمون إذ سمعوه
منه انه منسوخ لرفضوه
وآخر رابع لم يكذب على الله ولا على رسوله مبغض للكذب خوفا
من الله وتعظيما لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يهم بل حفظ ما سمع على
وجهه فجاء به على سمعه لم يزد فيه ولم ينقص منه فهو حفظ الناسخ فعمل
به وحفظ المنسوخ فجنب عنه وعرف الخاص والعام والمحكم والمتشابه فوضع
كل شئ موضعه وقد كان يكون من رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام له
وجهان فكلام خاص وكلام عام فيسمعه من لا يعرف ما عنى الله سبحانه به
ولا ما عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحمله السامع ويوجهه على غير معرفة بمعناه
وما قصد به وما خرج من اجله وليس كل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من
كان يسأله ويستفهمه حتى إن كانوا ليحبون أن يجئ الاعرابي والطارئ
فيسأله عليه السلام حتى يسمعوا وكان لا يمر بي من ذلك شئ الا سألته
عنه وحفظته
فهذه وجوه ما عليه الناس في اختلافهم وعللهم في رواياتهم
39

الشرح:
الكلام في تفسير الألفاظ الأصولية وهي العام والخاص والناسخ والمنسوخ
والصدق والكذب والمحكم والمتشابه موكول إلى فن أصول الفقه وقد ذكرناه فيما
أمليناه من الكتب الأصولية والإطالة بشرح ذلك في هذا الموضع مستهجنة.
قوله عليه السلام: (وحفظا ووهما) الهاء مفتوحة وهي مصدر وهمت بالكسر
أوهم أي غلطت وسهوت وقد روى (وهما) بالتسكين وهو مصدر وهمت بالفتح
أوهم إذا ذهب وهمك إلى شئ وأنت تريد غيره والمعنى متقارب.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم فليتبوأ مقعده من النار كلام صيغته الامر ومعناه
الخبر كقوله تعالى (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا) (1) وتبوأت
المنزل نزلته وبوأته منزلا أنزلته فيه
والتأثم الكف عن موجب الاثم والتحرج مثله واصله الضيق كأنه يضيق
على نفسه.
ولقف عنه تناول عنه.
وجنب عنه اخذ عنه جانبا.
و (إن) في قوله (حتى إن كانوا ليحبون) مخففة من الثقيلة ولذلك جاءت
اللام في الخبر.
والطارئ بالهمز الطالع عليهم طرا أي طلع وقد روى (عللهم) بالرفع
عطفا على (وجوه) وروى بالجر عطفا على (اختلافهم)

(1) سورة مريم 75.
40

[ذكر بعض أحوال المنافقين بعد وفاة محمد عليه السلام]
واعلم أن هذا التقسيم صحيح وقد كان في أيام الرسول صلى الله عليه وآله منافقون
وبقوا بعده وليس يمكن أن يقال إن النفاق مات بموته والسبب في استتار حالهم
بعده انه صلى الله عليه وآله كان لا يزال بذكرهم بما ينزل عليه من القرآن فإنه مشحون
بذكرهم الا ترى أن أكثر ما نزل بالمدينة من القرآن مملوء بذكر المنافقين فكان
السبب في انتشار ذكرهم وأحوالهم وحركاتهم هو القرآن فلما انقطع الوحي بموته صلى الله عليه وآله
لم يبق من ينعى عليهم سقطاتهم ويوبخهم على أعمالهم ويأمر بالحذر منهم
ويجاهرهم تارة ويجاملهم تارة وصار المتولي للامر بعده يحمل الناس كلهم على كاهل
المجاملة ويعاملهم بالظاهر وهو الواجب في حكم الشرع والسياسة الدنيوية بخلاف
حال الرسول صلى الله عليه وآله فإنه كان تكليفه معهم غير هذا التكليف ا لا ترى
انه قيل له (ولا تصل على أحد منهم مات ابدا) (1) فهذا يدل على أنه كان يعرفهم
بأعيانهم والا كان النهى له عن الصلاة عليهم تكليف ما لا يطاق والوالي بعده
لا يعرفهم بأعيانهم فليس مخاطبا بما خوطب به صلى الله عليه وسلم في أمرهم ولسكوت الخلفاء
عنهم بعده خمل ذكرهم فكان قصارى أمر المنافق أن يسر ما في قلبه ويعامل المسلمين
بظاهره ويعاملونه بحسب ذلك ثم فتحت عليهم البلاد وكثرت الغنائم فاشتغلوا بها
عن الحركات التي كانوا يعتمدونها أيام رسول الله وبعثهم الخلفاء مع الامراء إلى بلاد
فارس والروم فألهتهم الدنيا عن الأمور التي كانت تنقم منهم في حياة رسول الله صلى
الله عليه وآله ومنهم من استقام اعتقاده وخلصت نيته لما رأوا الفتوح وإلقاء الدنيا
أفلاذ كبدها من الأموال العظيمة والكنوز الجليلة إليهم فقالوا لو لم يكن هذا الدين

(1) سورة التوبة 84.
41

حقا لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه وبالجملة لما تركوا تركوا وحيث سكت عنهم سكتوا
عن الاسلام وأهله الا في دسيسة خفية يعملونها نحو الكذب الذي أشار إليه أمير
المؤمنين عليه السلام فإنه خالط الحديث كذب كثير صدر عن قوم غير صحيحي
العقيدة قصدوا به الإضلال وتخبيط القلوب والعقائد وقصد به بعضهم التنويه بذكر
قوم كان لهم في التنويه بذكرهم غرض دنيوي وقد قيل إنه افتعل في أيام معاوية
خاصة حديث كثير على هذا الوجه ولم يسكت المحدثون الراسخون في علم الحديث عن
هذا بل ذكروا كثيرا من هذه الأحاديث الموضوعة وبينوا وضعها وأن رواتها غير
موثوق بهم الا أن المحدثين إنما يطعنون فيما دون طبقة الصحابة ولا يتجاسرون في
الطعن على أحد من الصحابة لان عليه لفظ (الصحبة) على أنهم قد طعنوا في قوم
لهم صحبة كبسر بن أرطاة وغيره.
فان قلت من هم أئمة الضلالة الذين يتقرب إليهم المنافقون الذين رأوا رسول الله
صلى الله عليه وآله وصحبوه للزور والبهتان وهل هذا الا تصريح بما تذكره
الامامية وتعتقده.
قلت ليس الامر كما ظننت وظنوا وإنما يعنى معاوية وعمرو بن العاص ومن
شايعهما على الضلال كالخبر الذي الذي رواه من في حق معاوية اللهم قه العذاب
والحساب وعلمه الكتاب وكرواية عمرو بن العاص تقربا إلى قلب معاوية (إن آل أبي
طالب ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين) وكرواية قوم في أيام معاوية
اخبارا كثيرة من فضائل عثمان تقربا إلى معاوية بها ولسنا نجحد فضل عثمان وسابقته
ولكنا نعلم أن بعض الأخبار الواردة فيه موضوع كخبر وعمرو بن مرة فيه وهو مشهور
وعمر بن مرة ممن له صحبة وهو شامي
42

[ذكر بعض ما منى به آل البيت من الأذى والاضطهاد]
وليس يجب من قولنا إن بعض الأخبار الواردة في حق شخص فاضل مفتعلة أن
تكون قادحة في فضل ذلك الفاضل فانا مع اعتقادنا أن عليا أفضل الناس نعتقد أن
بعض الأخبار الواردة في فضائله مفتعل ومختلق.
وقد روى أن أبا جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام قال لبعض أصحابه يا فلان
ما لقينا من ظلم قريش إيانا وتظاهرهم علينا وما لقى شيعتنا ومحبونا من الناس إن رسول
الله صلى الله عليه وآله قبض وقد أخبر انا أولى الناس بالناس فتمالأت علينا قريش حتى
أخرجت الامر عن معدنه واحتجت على الأنصار بحقنا وحجتنا ثم تداولتها قريش
واحد بعد واحد حتى رجعت إلينا فنكثت بيعتنا ونصبت الحرب لنا ولم يزل
صاحب الامر في صعود كئود حتى قتل فبويع الحسن ابنه وعوهد ثم غدر به
وأسلم ووثب عليه أهل العراق حتى طعن بخنجر في جنبه ونهبت عسكره وعولجت
خلاليل أمهات أولاده فوادع معاوية وحقن دمه ودماء أهل بيته وهم قليل حق
قليل ثم بايع الحسين عليه السلام من أهل العراق عشرون ألفا ثم غدروا به وخرجوا
عليه وبيعته في أعناقهم وقتلوه ثم لم نزل - أهل البيت - نستذل ونستضام ونقصي
ونمتهن ونحرم ونقتل ونخاف ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا ووجد الكاذبون
الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعا يتقربون به إلى أوليائهم وقضاه السوء وعمال السوء
في كل بلدة فحدثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة ورووا عنا ما لم نقله وما لم نفعله
ليبغضونا إلى الناس وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن عليه السلام
فقتلت شيعتنا بكل بلدة وقطعت الأيدي والأرجل على الظنة وكان من يذكر بحبنا
والانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله أو هدمت داره ثم لم يزل البلاء يشتد ويزداد
43

إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين عليه السلام ثم جاء الحجاج فقتلهم كل قتله
وأخذهم بكل ظنه وتهمة حتى إن الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحب إليه من
أن يقال شيعة على وحتى صار الرجل الذي يذكر بالخير - ولعله يكون ورعا صدوقا -
يحدث بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة ولم يخلق الله
تعالى شيئا منها ولا كانت ولا وقعت وهو يحسب أنها حق لكثرة من قد رواها ممن
لم يعرف بكذب ولا بقلة ورع.
وروى أبو الحسن علي بن محمد بن أبي سيف المدايني في كتاب (الاحداث)
قال: كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة أن برئت الذمة ممن روى
شيئا من فضل أبى تراب وأهل بيته فقامت الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر
يلعنون عليا ويبرأون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته وكان أشد الناس بلاء حينئذ
أهل الكوفة لكثرة من بها من شيعة علي عليه السلام فاستعمل عليهم زياد بن سمية
وضم إليه البصرة فكان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف لأنه كان منهم أيام علي عليه
السلام فقتلهم تحت كل حجر ومدر وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل وسمل العيون
وصلبهم على جذوع النخل وطرفهم وشردهم عن العراق فلم يبق بها معروف منهم
وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق الا يجيزوا لأحد من شيعة على وأهل بيته
شهادة وكتب إليهم أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل ولايته والذين
يروون فضائله ومناقبه فأدنوا مجالسهم وقربوهم واكرموهم واكتبوا لي بكل ما يروى
كل رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته.
ففعلوا ذلك حتى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه لما كان يبعثه إليهم معاوية
من الصلات والكساء والحباء والقطائع ويفيضه في العرب منهم والموالي فكثر ذلك في
كل مصر وتنافسوا في المنازل والدنيا فليس يجئ أحد مردود من الناس عاملا من
44

عمال معاوية فيروى في عثمان فضيلة أو منقبة الا كتب اسمه وقربه وشفعه فلبثوا
بذلك حينا.
ثم كتب إلى عماله أن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر وفي كل
وجه وناحية فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة
والخلفاء الأولين ولا تتركوا خبرا يرويه أحد من المسلمين في أبى تراب الا وتأتوني
بمناقض له في الصحابة فان هذا أحب إلى وأقر لعيني وادحض لحجة أبى تراب
وشيعته وأشد عليهم من مناقب عثمان وفضله.
فقرئت كتبه على الناس فرويت اخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة
لها وجد الناس في رواية ما يجرى هذا المجرى حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر وألقى
إلى معلمي الكتاتيب فعلموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتى رووه
وتعلموه كما يتعلمون القرآن وحتى علموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم فلبثوا بذلك
ما شاء الله.
ثم كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان انظروا من قامت عليه
البينة انه يحب عليا وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه وشفع
ذلك بنسخة أخرى من اتهمتوه بموالاة هؤلاء القوم فنكلوا به واهدموا داره
فلم يكن البلاء أشد ولا أكثر منه بالعراق ولا سيما بالكوفة حتى إن الرجل من
شيعة علي عليه السلام ليأتيه من يثق به فيدخل بيته فيلقى إليه سره ويخاف من
خادمه ومملوكه ولا يحدثه حتى يأخذ عليه الايمان الغليظة ليكتمن عليه فظهر حديث
كثير موضوع وبهتان منتشر ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة وكان أعظم الناس
في ذلك بلية القراء المراءون والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك فيفتعلون
الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ويقربوا مجالسهم ويصيبوا به الأموال والضياع
45

والمنازل حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلون
الكذب والبهتان فقبلوها ورووها وهم يظنون أنها حق ولو علموا انها باطلة لما
رووها ولا تدينوا بها.
فلم يزل الامر كذلك حتى مات الحسن بن علي عليه السلام فازداد البلاء والفتنة
فلم يبق أحد من هذا القبيل الا وهو خائف على دمه أو طريد في الأرض.
ثم تفاقم الامر بعد قتل الحسين عليه السلام وولى عبد الملك بن مروان فاشتد
على الشيعة وولى عليهم الحجاج بن يوسف فتقرب إليه أهل النسك والصلاح والدين
ببغض على وموالاة أعدائه وموالاة من يدعى من الناس انهم أيضا أعداؤه فأكثروا
في الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم وأكثروا من الغض من علي عليه السلام
و عيبه والطعن فيه والشنان له حتى إن انسانا وقف للحجاج - ويقال انه جد الأصمعي
عبد الملك بن قريب - فصاح به أيها الأمير إن أهلي عقوني فسموني عليا وإني فقير
بائس وانا إلى صلة الأمير محتاج فتضاحك له الحجاج وقال للطف ما توسلت به قد
وليتك موضع كذا.
وقد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه وهو من أكابر المحدثين واعلامهم - في تاريخه
ما يناسب هذا الخبر وقال إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت
في أيام بنى أمية تقربا إليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم.
قلت ولا يلزم من هذا أن يكون علي عليه السلام يسوءه أن يذكر الصحابة
والمتقدمون عليه بالخير والفضل الا أن معاوية وبنى أمية كانوا يبنون الامر من هذا على
ما يظنونه في علي عليه السلام من أنه عدو من تقدم عليه ولم يكن الامر في الحقيقة كما
46

يظنونه ولكنه كان يرى أنه أفضل منهم وانهم استأثروا عليه بالخلافة من غير تفسيق
منه لهم ولا براءة منهم.
* * *
فاما قوله عليه السلام: (ورجل سمع من رسول الله شيئا ولم يحفظه على وجهه فوهم
فيه) فقد وقع ذلك وقال أصحابنا في الخبر الذي رواه عبد الله بن عمر (إن الميت ليعذب
ببكاء أهله عليه) إن ابن عباس لما روى له هذا الخبر قال ذهل ابن عمر إنما مر
رسول الله صلى الله عليه وآله على قبر يهودي فقال إن أهله ليبكون عليه
وانه ليعذب.
وقالوا أيضا إن عائشة أنكرت ذلك وقالت ذهل أبو عبد الرحمن كما ذهل في
خبر قليب بدر إنما قال عليه السلام (انهم ليبكون عليه وانه ليعذب بجرمه).
قالوا وموضع غلطه في خبر القليب انه روى أن النبي صلى الله عليه وآله وقف على
قليب بدر فقال (هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا) ثم قال (انهم يسمعون
ما أقول لهم) فأنكرت عائشة ذلك وقالت إنما (قال إنهم يعلمون أن الذي كنت
أقوله لهم هو الحق) واستشهد بقوله تعالى (انك لا تسمع الموتى). (1)
فاما الرجل الثالث وهو الذي يسمع المنسوخ ولم يسمع الناسخ فقد وقع كثيرا
وكتب الحديث والفقه مشحونة بذلك كالذين أباحوا لحوم الحمر الأهلية لخبر رووه في ذلك
ولم يرووا الخبر الناسخ.
واما الرجل الرابع فهم العلماء الراسخون في العلم.
واما قوله عليه السلام: (وقد كان يكون من رسول الله صلى الله عليه وآله الكلام له)

(1) سورة النمل 80.
47

وجهان) فهذا داخل في القسم الثاني وغير خارج عنه ولكنه كالنوع من الجنس
لان الوهم والغلط جنس تحته أنواع.
* * *
واعلم أن أمير المؤمنين عليه السلام كان مخصوصا من دون الصحابة رضوان الله عليهم
بخلوات كان يخلو بها مع رسول الله صلى الله عليه وآله لا يطلع أحد من الناس على
ما يدور بينهما وكان كثير السؤال للنبي صلى الله عليه وآله عن معاني القرآن وعن معاني
كلامه صلى الله عليه وآله وإذا لم يسال ابتداه النبي صلى الله عليه وآله بالتعليم والتثقيف
ولم يكن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله كذلك بل كانوا أقساما فمنهم من
يهابه أن يسأله وهم الذين يحبون أن يجئ الاعرابي أو الطارئ فيسأله وهم يسمعون
ومنهم من كان بليدا بعيد الفهم قليل الهمة في النظر والبحث ومنهم من كان مشغولا
عن طلب العلم وفهم المعاني اما بعبادة أو دنيا ومنهم المقلد يرى أن فرضه السكوت
وترك السؤال ومنهم المبغض الشانئ الذي ليس للدين عنده من الموقع ما يضيع وقته
وزمانه بالسؤال عن دقائقه وغوامضه وانضاف إلى الامر الخاص بعلي عليه السلام ذكاؤه
وفطنته وطهارة طينته وإشراق نفسه وضوءها وإذا كان المحل قابلا متهيئا كان
الفاعل المؤثر موجودا والموانع مرتفعة حصل الأثر على أتم ما يمكن فلذلك كان علي عليه
السلام - كما قال الحسن - البصري رباني هذه الأمة وذا فضلها ولذا تسميه الفلاسفة
امام الأئمة وحكيم العرب
[فصل فيما وضع الشيعة والبكرية من الأحاديث]
واعلم أن أصل الأكاذيب في أحاديث الفضائل كان من جهة الشيعة فإنهم وضعوا
48

في مبدأ الامر أحاديث مختلفه في صاحبهم حملهم على وضعها عداوة خصومهم نحو
حديث (السطل) وحديث (الرمانة) وحديث غزوة البئر التي كان فيها الشياطين وتعرف
كما زعموا (بذات العلم) وحديث غسل سلمان الفارسي وطي الأرض وحديث
الجمجمة ونحو ذلك فلما رأت البكرية ما صنعت الشيعة وضعت لصاحبها أحاديث
في مقابلة هذه الأحاديث نحو (لو كنت متخذا خليلا) فإنهم وضعوه في مقابله حديث
الإخاء ونحو سد الأبواب فإنه كان لعلى عليه السلام فقلبته البكرية إلى أبى بكر ونحو
(ائتوني بدواة وبياض اكتب فيه لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه اثنان) ثم قال (يأبى الله
تعالى والمسلمون الا أبا بكر) فإنهم وضعوه في مقابلة الحديث المروى عنه في مرضه
(ائتوني بدواة وبياض اكتب لكم ما لا تضلون بعده ابدا) فاختلفوا عنده وقال قوم
منهم لقد غلبه الوجع حسبنا كتاب الله ونحو حديث (انا راض عنك فهل أنت عنى
راض) ونحو ذلك فلما رأت الشيعة ما قد وضعت البكرية أو سعوا في وضع الأحاديث
فوضعوا حديث الطوق الحديد الذي زعموا انه فتله في عنق خالد وحديث اللوح الذي
زعموا انه كان في غدائر الحنفية أم محمد وحديث (لا يفعلن خالد ما آمر به) وحديث
الصحيفة التي علقت عام الفتح بالكعبة وحديث الشيخ الذي صعد المنبر يوم بويع
أبو بكر فسبق الناس إلى بيعته وأحاديث مكذوبة كثيرة تقتضي نفاق قوم من أكابر
الصحابة والتابعين الأولين وكفرهم وعلى أدون الطبقات فيهم فقابلتهم البكرية
بمطاعن كثيرة في علي وفي ولديه ونسبوه تارة إلى ضعف العقل وتارة إلى ضعف
السياسة وتارة إلى حب الدنيا والحرص عليها ولقد كان الفريقان في غنية عما اكتسباه
واجترحاه ولقد كان في فضائل علي عليه السلام الثابتة الصحيحة وفضائل أبى بكر المحققة
49

المعلومة ما يغنى عن تكلف العصبية لهما فان العصبية لهما أخرجت الفريقين من ذكر
الفضائل إلى ذكر الرذائل ومن تعديد المحاسن إلى تعديد المساوئ والمقابح ونسأل الله
تعالى أن يعصمنا من الميل إلى الهوى وحب العصبية وأن يجرينا على ما عودنا من حب
الحق أين وجد وحيث كان سخط ذلك من سخط ورضى به من رضى
بمنه ولطفه
50

(204)
الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام:
وكان من اقتدار جبروته وبديع لطائف صنعته أن جعل من ماء البحر
الزاخر المتراكم المتقاصف يبسا جامدا ثم فطر منه أطباقا فنتقها سبع سماوات
بعد ارتتاقها فاستمسكت بأمره وقامت على حده يحملها الأخضر المثعنجر
والقمقام المسخر
قد ذل لامره وأذعن لهيبته ووقف الجاري منه لخشيته وجبل جلاميدها
ونشوز متونها وأطوادها فأرساها في مراسيها وألزمها قرارتها فمضت رؤوسها
في الهواء ورست أصولها في الماء فانهد جبالها عن سهولها وأساخ قواعدها في
متون أقطارها ومواضع أنصابها فأشهق قلالها وأطال أنشازها وجعلها للأرض
عمادا وأرزها فيها أوتادا فسكنت على حركتها من أن تميد بأهلها أو تسيخ
بحملها أو تزول عن مواضعها
فسبحان من أمسكها بعد موجان مياهها وأجمدها بعد رطوبة أكنافها
فجعلها لخلقه مهادا وبسطها لهم فراشا فوق بحر لجي راكد لا يجرى وقائم
لا يسرى تكركره الرياح العواصف وتمخضه الغمام الذوارف
إن في ذلك لعبرة لمن يخشى
51

الشرح:
أراد أن يقول (وكان من اقتداره) فقال (وكان من اقتدار جبروته) تعظيما
وتفخيما كما يقال للملك أمرت الحضرة الشريفة بكذا
والبحر الزاخر الذي قد امتد جدا وارتفع
والمتراكم المجتمع بعضه على بعض
والمتقاصف الشديد الصوت قصف الرعد وغيره قصيفا.
واليبس بالتحريك المكان يكون رطبا ثم ييبس ومنه قوله تعالى (فاضرب
لهم طريقا في البحر يبسا) (1) واليبس بالسكون اليابس خلقه حطب يبس هكذا يقوله
أهل اللغة وفيه كلام لان الحطب ليس يابسا خلقه بل كان رطبا من قبل فالأصوب أن
يقال لا تكون هذه اللفظة محركة الا في المكان خاصة
وفطر خلق والمضارع يفطر بالضم فطرا.
والاطباق جمع طبق وهو اجزاء مجتمعة من جراد أو غيم أو ناس أو غير ذلك من
حيوان أو جماد يقول خلق منه أجساما مجتمعة مرتتقة ثم فتقها سبع سماوات وروى
(ثم فطر منه طباقا) أي أجساما منفصلة في الحقيقة متصلة في الصورة بعضها فوق بعض
وهي من ألفاظ القرآن (2) المجيد
والضمير في (منه) يرجع إلى ماء البحر في أظهر النظر وقد يمكن أن يرجع
إلى اليبس.
واعلم أنه قد تكرر في كلام أمير المؤمنين ما يماثل هذا القول ويناسبه وهو مذهب:

(1) سورة طه 77
(2) وهو قوله تعالى (الذي خلق سبع سماوات طباقا) وقوله في سورة نوح 15 (ألم تر كيف خلق الله سبع سماوات طباق)
52

كثير من الحكماء الذين قالوا بحدوث السماء منهم ثاليس الملطي قالوا أصل الأجسام الماء
وخلقت الأرض من زبدة والسماء من بخاره وقد جاء القرآن العزيز بنحو هذا قال
سبحانه (الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء) (1).
قال شيخنا أبو علي وأبو القاسم رحمهما الله في تفسيريهما هذه الآية داله على أن الماء
والعرش كانا قبل خلق السماوات والأرض قالا وكان الماء على الهواء قالا وهذا
يدل أيضا على أن الملائكة كانوا موجودين قبل خلق السماوات والأرض لان الحكيم
سبحانه لا يجوز أن يقدم خلق الجماد على خلق المكلفين لأنه يكون عبثا.
وقال علي بن عيسى الرماني من مشايخنا انه غير ممتنع أن يخلق الجماد قبل الحيوان
إذا علم أن في اخبار المكلفين بذلك لطفا لهم ولا يصح أن يخبرهم الا وهو صادق فيما
أخبر به وإنما يكون صادقا إذا كان المخبر خبره على ما أخبر عنه وفى ذلك حسن تقديم
خلق الجماد على خلق الحيوان وكلام أمير المؤمنين عليه السلام انه كان يذهب
إلى أن الأرض موضوعه على ماء البحر وأن البحر حامل لها بقدرة الله تعالى وهو معنى
قوله (يحملها الأخضر المثعنجر والقمقام المسخر) وأن البحر الحامل لها قد كان
جاريا فوقف تحتها وانه تعالى خلق الجبال في الأرض فجعل أصولها راسخة في ماء البحر
الحامل للأرض وأعاليها شامخة في الهواء وانه سبحانه جعل هذه الجبال عمادا للأرض
وأوتادا تمنعها من الحركة والاضطراب ولولاها لماجت واضطربت وأن هذا البحر
الحامل للأرض تصعد فيه الرياح الشديدة فتحركه حركة عنيفة وتموج السحب التي تغترف
الماء منه لتمطر الأرض به وهذا كله مطابق لما في الكتاب العزيز والسنة النبوية والنظر
الحكمي الا ترى إلى قوله تعالى (أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض

(1) سورة هود 7
53

كانتا رتقا ففتقناهما) (1) وهذا هو صريح قوله عليه السلام: (ففتقها سبع سماوات بعد
ارتتاقها) والى قوله تعالى (وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم) (2) والى
ما ورد في الخبر من أن الأرض مدحوة على الماء وأن الرياح تسوق السحب إلى الماء نازلة
ثم تسوقها عنه صاعدة بعد امتلائها ثم تمطر.
واما النظر الحكمي فمطابق لكلامه إذا تأمله المتأمل وحمله على المحمل العقلي
وذلك لان الأرض هي آخر طبقات العناصر وقبلها عنصر الماء وهو محيط بالأرض كلها
الا ما برز منها وهو مقدار الربع من كرة الأرض على ما ذكره علماء هذا الفن وبرهنوا
عليه فهذا تفسير قوله عليه السلام: (يحملها الأخضر المثعنجر).
واما قوله (ووقف الجاري منه لخشيته) فلا يدل دلالة قاطعة على أنه كان جاريا
ووقف ولكن ذلك كلام خرج مخرج التعظيم والتبجيل ومعناه أن الماء طبعه الجريان
والسيلان فهو جار بالقوة وإن لم يكن جاريا بالفعل وإنما وقف ولم يجر بالفعل
بقدرة الله تعالى المانعة له من السيلان وليس قوله (ورست أصولها في الماء) مما ينافي
النظر العقلي لأنه لم يقل (ورست أصولها في ماء البحر) ولكنه قال
(في الماء) ولا شبهة في أن أصول الجبال راسية في الماء المتخلخل بين اجزاء الأرض
فان الأرض كلها يتخلخل الماء بين اجزائها على طريق استحالة البخار من الصورة الهوائية
إلى الصورة المائية.
وليس ذكره للجبال وكونها مانعة للأرض من الحركة بمناف أيضا للنظر الحكمي
لان الجبال في الحقيقة قد تمنع من الزلزلة إذا وجدت أسبابها الفاعلة فيكون ثقلها مانعا
من الهدة والرجفة.

(1) سورة الأنبياء 30
(2) سورة الأنبياء 31
54

ليس قوله (تكركره الرياح) منافيا للنظر الحكمي أيضا لان كرة الهواء محيطة
بكرة وقد تعصف الرياح في كرة الهواء للأسباب المذكورة في موضعها من هذا العلم
فيتموج كثير من الكرة المائية لعصف الرياح.
وليس قوله عليه السلام: (تمخضه الغمام الذوارف) صريحا في أن
السحب تنزل في البحر فتغترف منه كما قد يعتقد في المشهور العامي نحو
قول الشاعر
كالبحر تمطره السحاب وما لها * فضل عليه لأنها من مائه.
بل يجوز أن تكون الغمام الذراف تمخضه وتحركه بما ترسل عليه من الأمطار السائلة
منها فقد ثبت أن كلام أمير المؤمنين عليه السلام إن شئت فسرته بما يقوله أهل
الظاهر وإن شئت فسرته بما يعتقده الحكماء.
فان قلت فكيف قال الله تعالى (أو لم ير الذين كفروا أن السماوات
والأرض كانتا رتقا ففتقناهما) وهل كان الذين كفروا رائين لذلك حتى يقول لهم
(أولم ير الذين كفروا).
قلت هذا في قوله (اعلموا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما) كما يقول
الانسان لصاحبه ألم تعلم أن الأمير صرف حاجبه الليلة عن بابه أي اعلم ذلك إن كنت
غير عالم والرؤية هنا بمعنى العلم.
واعلم أنه قد ذهب قوم من قدماء الحكماء - ويقال انه مذهب سقراط - إلى تفسير
القيامة وجهنم بما يبتنى على وضع الأرض على الماء فقالوا الأرض موضوعة على الماء
والماء على الهواء والهواء على النار والنار في حشو الإفك ولما كان العنصران الخفيفان
- وهما الهواء والنار - يقتضيان صعود ما يحيطان به العنصران الثقيلان اللذان في وسطهما وهما
55

الماء والأرض يقتضيان النزول والهبوط وقعت الممانعة والمدافعة فلزم من ذلك وقوف
الماء والأرض في الوسط.
قالوا ثم إن النار لا تزال يتزايد تأثيرها في إسخان الماء وينضاف إلى ذلك حر الشمس
والكواكب إلى أن تبلغ البحار والعنصر المائي غايتهما في الغليان والفوران فيتصاعد
بخار عظيم إلى الأفلاك شديد السخونة وينضاف إلى ذلك حر فلك الأثير الملاصق للأفلاك
فتذوب الأفلاك كما يذوب الرصاص وتتهافت وتتساقط وتصير كالمهل الشديد الحرارة
ونفوس البشر على قسمين أحدهما ما تجوهر وصار مجردا بطريق العلوم والمعارف وقطع
العلائق الجسمانية حيث كان مدبرا للبدن والاخر ما بقي على جسمانيته بطريق خلوة
من العلوم والمعارف وانغماسه في اللذات والشهوات الجسمانية فاما الأول فإنه يلتحق
بالنفس الكلية المجردة ويخلص من دائرة هذا العالم بالكلية واما الثاني فإنه تنصب
عليه تلك الأجسام الفلكية الذائبة فيحترق بالكلية ويتعذب ويلقى آلاما شديدة.
قالوا هذا هو باطن ما وردت به الرواية من العذاب عليها وخراب العالم
والأفلاك وانهدامها.
* * *
ثم نعود إلى شرح الألفاظ
قوله عليه السلام: (فاستمسكت) أي وقفت وثبتت.
والهاء في (حدة) تعود إلى امره أي قامت على حد ما أمرت به أي لم تتجاوزه
ولا تعدته.
والأخضر البحر ويسمى أيضا (خضارة) معرفه غير مصروف والعرب تسميه بذلك
اما لأنه يصف لون السماء فيرى أخضر أو لأنه يرى اسود لصفائه فيطلقون عليه لفظ
56

الأخضر كما سموا الأخضر اسود نحو قوله (مدهامتان) (1) ونحو تسميتهم قرى العراق
سوادا لخضرتها وكثرة شجرها ونحو قولهم للديزح (2) من الدواب أخضر.
المثعنجر السائل ثعجرت الدم وغيره فاثعنجر أي صببته فانصب وتصغير المثعنجر
مثيعج ومثيعيج.
والقمقام بالفتح من أسماء البحر ويقال لمن وقع في أمر عظيم وقع في قمقام من
الامر تشبيها بالبحر.
قوله عليه السلام: (وجبل جلاميدها) أي وخلق صخورها جمع جلمود.
والنشوز جمع نشز وهو المرتفع من الأرض ويجوز فتح الشين.
ومتونها جوانبها وأطوادها جبالها (ويروى) (وأطوادها) بالجر عطفا على متونها.
فأرساها في مراسيها أثبتها في مواضعها رسا الشئ يرسو ثبت ورست اقدامهم في
الحرب ثبتت ورست السفينة ترسو رسوا ورسوا أي وقفت في البحر وقوله تعالى
(بسم الله مجراها ومرساها) (3) بالضم من أجريت وأرسيت ومن قرا بالفتح
فهو من (رست) هي (وجرت) هي.
وألزمها قرارتها أمسكها حيث استقرت.
قوله (فانهد جبالها) أي أعلاها نهد ثدي الجارية ينهد بالضم إذا أشرف وكعب
فهي ناهد وناهدة.
وسهولها ما تطامن منها عن الجبال.
وأساخ قواعدها أي غيب قواعد الجبال في جوانب أقطار الأرض ساخت قوائم

(1) سورة الرحمن 64.
(2) في اللسان: (يقال فرس أخضر وهو الديزج)
(3) سورة هود 41.
57

الفرس في الأرض تسوخ وتسيخ أي دخلت فيها وغابت مثل ثاخت وأسختها انا
مثل أثختها
والأنصاب الأجسام المنصوبة الواحد نصب بضم النون والصاد ومنه سميت الأصنام
نصبا في قوله تعالى (وما ذبح على النصب) (1) لأنها نصبت فعبدت من دون الله
قال الأعشى
وذا المنصوب لا تنسكنه * لعاقبة والله ربك فاعبدا. (2)
أي وأساخ قواعد الجبال في متون أقطار الأرض وفي المواضع الصالحة لا تكون
فيها الأنصاب المماثلة وهي الجبال أنفسها.
قوله (فأشهق قلالها) جمع قلة وهي ما علا من رأس الجبل أشهقها جعلها
شاهقة أي عالية.
وأرزها أثبتها فيها رزت الجرادة ترز رزا وهو أن تدخل ذنبها في الأرض
فتلقى بيضها وأرزها الله أثبت ذلك منها في الأرض ويجوز (أرزت) لازما غير متعد
مثل رزت وارتز السهم في القرطاس ثبت فيه وروى (وآرزها) بالمد من قولهم
شجرة آرزة أي ثابتة في الأرض أرزت بالفتح تأرز بالكسر أي ثبتت وآرزها - بالمد -
غيرها أي أثبتها.
وتميد تتحرك وتسيخ تنزل وتهوى.
فان قلت ما الفرق بين الثلاثة تميد بأهلها أو تسيخ بحملها أو تزول
عن مواضعها.
قلت لأنها لو تحركت لكانت اما أن تتحرك على مركزها أو لا على مركزها

(1) سورة المائدة 3.
(2) ديوانه 103.
58

والأول هو المراد بقوله (تميد بأهلها) والثاني تنقسم إلى أن تنزل
إلى تحت أو لا تنزل إلى تحت فالنزول إلى تحت هو المراد بقوله (أو تسيخ بحملها) والقسم الثاني هو المراد
بقوله (أو تزول عن مواضعها).
فان قلت ما المراد ب‍ (على) في قوله (فسكنت على حركتها)؟.
قلت هي لهيئة الحال كما تقول عفوت عنه على سوء أدبه ودخلت إليه على شربه
أي سكنت على أن من شانها الحركة لأنها محمولة على سائل متموج.
قوله (موجان مياهها) بناء (فعلان) لما فيه اضطراب وحركة كالغليان والنزوان
والخفقان ونحو ذلك.
وأجمدها أي اجعلها جامدة وأكنافها جوانبها والمهاد الفراش.
فوق بحر لجي كثير الماء منسوب إلى اللجة وهي معظم البحر.
قوله (يكركره الرياح) الكركرة تصريف الريح السحاب إذا جمعته بعد تفريق
و أصله (يكرر) من التكرير فأعادوا الكاف كركرت الفارس عنى أي دفعته ورددته.
والرياح العواصف الشديدة الهبوب وتمخضه يجوز فتح الخاء وضمها وكسرها
والفتح أفصح لمكان حرف الحلق من مخضت اللبن إذا حركته لتأخذ زبدة.
والغمام جمع والواحدة غمامة ولذلك قال (الذوارف) لان (فواعل) أكثر
ما يكون لجمع المؤنث ذرفت عينه أي دمعت أي السحب المواطر والمضارع من
(ذرفت) عينه (تذرف) بالكسر ذرفا وذرفا والمذارف المدامع.
59

(205)
الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام:
اللهم أيما عبد من عبادك سمع مقالتنا العادلة غير الجائرة والمصلحة في الدين
والدنيا غير المفسدة فأبى بعد سمعه لها الا النكوص عن نصرتك والابطاء عن
اعزاز دينك فانا نستشهدك عليه يا أكبر الشاهدين شهادة ونستشهد عليه
جميع ما أسكنته أرضك وسماواتك ثم أنت بعده المغني عن نصره
والاخذ له بذنبه
* * *
الشرح:
ما في (أيما) زائدة مؤكدة ومعنى الفصل وعيد من استنصره فقعد عن نصره.
ووصف المقالة بأنها عادلة اما تأكيد كما قالوا شعر شاعر واما ذات عدل
كما قالوا رجل تأمر ولابن أي ذو تمر ولبن ويجوز أيضا أن يريد بالعادلة المستقيمة
التي ليست كاذبة ولا محرفة عن جهتها والجائرة نقيضها وهي المنحرفة جار فلان عن
الطريق أي انحرف وعدل.
والنكوص التأخر.
قوله عليه السلام: (نستشهدك عليه) أي نسألك أن تشهد عليه ووصفه تعالى
60

بأنه أكبر الشاهدين شهادة لقوله تعالى (قل أي شئ أكبر شهادة قل الله) (1)
يقول اللهم انا نستشهدك على خذلان من استنصرناه واستنفرناه إلى نصرتك والجهاد
عن دينك فأبى النهوض ونكث عن القيام بواجب الجهاد ونستشهد عبادك من البشر
في أرضك وعبادك من الملائكة في سمواتك عليه أيضا ثم أنت بعد ذلك المغني لنا عن
نصرته ونهضته بما تتيحه لنا من النصر وتؤيدنا به من الإعزاز والقوة والاخذ له
بذنبه في القعود والتخلف.
وهذا قريب من قوله تعالى (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا
أمثالكم) (2)

(1) سورة الأنعام 19
(2) سورة محمد 28
61

(206)
الأصل:
ومن خطبه له عليه السلام:
الحمد لله العلى عن شبه المخلوقين الغالب لمقال الواصفين الظاهر بعجائب
تدبيره للناظرين والباطن بجلال عزته عن فكر المتوهمين العالم بلا اكتساب
ولا ازدياد ولا علم مستفاد المقدر لجميع الأمور بلا روية ولا ضمير الذي
لا تغشاه الظلم ولا يستضئ بالأنوار ولا يرهقه ليل ولا يجرى عليه نهار
ليس ادراكه بالابصار ولا علمه بالاخبار
* * *
الشرح:
يجوز شبه وشبه والرواية هاهنا بالفتح وتعاليه سبحانه عن شبه المخلوقين كونه قديما
واجب الوجود وكل مخلوق محدث ممكن الوجود.
قوله (الغالب لمقال الواصفين) أي إن كنه جلاله وعظمته لا يستطيع الواصفون
وصفه وإن أطنبوا وأسهبوا فهو كالغالب لأقوالهم لعجزها عن إيضاحه وبلوغ منتهاه
والظاهر بأفعاله والباطن بذاته لأنه إنما يعلم منه أفعاله واما ذاته فغير معلومه.
ثم وصف علمه تعالى فقال إنه غير مكتسب كما يكتسب الواحد منا علومه بالاستدلال
والنظر ولا هو علم يزداد إلى علومه الأولى كما تزيد علوم الواحد منا ومعارفه وتكثر
لكثرة الطرق التي يتطرق بها إليها.
62

ثم قال (ولا علم مستفاد) أي ليس يعلم الأشياء بعلم محدث مجدد كما يذهب إليه
جهم واتباعه وهشام بن الحكم ومن قال بقوله.
ثم ذكر انه تعالى قدر الأمور كلها بغير رويه أي بغير فكر ولا ضمير وهو ما يطويه
الانسان من الرأي والاعتقاد والعزم في قلبه.
ثم وصفه تعالى بأنه لا يغشاه ظلام لأنه ليس بجسم ولا يستضئ بالأنوار كالأجسام
ذوات البصر ولا يرهقه ليل أي لا يغشاه ولا يجرى عليه نهار لأنه ليس بزماني
ولا قابل للحركة ليس ادراكه بالابصار لان ذلك يستدعى المقابلة ولا علمه بالاخبار
مصدر أخبر أي ليس علمه مقصورا على أن تخبره الملائكة بأحوال المكلفين بل هو
يعلم كل شئ لان ذاته ذات واجب لها أن تعلم كل شئ لمجرد ذاتها المخصوصة من
غير زيادة أمر على ذاتها.
* * *
الأصل:
منها في ذكر النبي صلى الله عليه وآله
أرسله بالضياء وقدمه في الاصطفاء فرتق به المفاتق وساور به المغالب
وذلل به الصعوبة وسهل به الحزونة حتى سرح الضلال عن يمين وشمال
* * *
الشرح:
أرسله بالضياء أي بالحق وسمى الحق ضياء لأنه يهتدى به أو أرسله بالضياء
أي بالقرآن.
63

وقدمه في الاصطفاء أي قدمه في الاصطفاء على غيره من العرب والعجم قالت قريش
(لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين) (1) أي على رجل من رجلين من
القريتين عظيم أي اما على الوليد بن المغيرة من مكة أو على عروة بن مسعود الثقفي
من الطائف.
ثم قال تعالى (أهم يقسمون رحمه ربك) (2) أي هو سبحانه العالم بالمصلحة
في ارسال الرسل وتقديم من يرى في في الاصطفاء على غيره.
فرتق به المفاتق أي أصلح به المفاسد والرتق ضد الفتق والمفاتق جمع مفتق
وهو مصدر كالمضرب والمقتل.
وساور به المغالب ساورت زيدا أي وأثبته ورجل سوار أي وثاب وسورة الخمر
وثوبها في الرأس.
والحزونة ضد السهولة والحزن ما غلظ من الأرض والسهل ما لان منها و استعير
لغير الأرض كالأخلاق ونحوها.
قوله (حتى سرح الضلال) أي طرده وأسرع به ذهابا.
عن يمين وشمال من قولهم ناقة سرح ومنسرحة أي سريعة ومنه تسريح المرأة
أي تطليقها

(1) سورة الزخرف 31
(2) سورة الزخرف 32
64

(207)
الأصل:
ومن خطبه له عليه السلام:
واشهد انه عدل عدل وحكم فصل واشهد أن محمدا عبده ورسوله
وسيد عباده كلما نسخ الله الخلق فرقتين جعله في خيرهما لم يسهم فيه عاهر
ولا ضرب فيه فاجر الا وإن الله سبحانه قد جعل للخير أهلا وللحق دعائم
وللطاعة عصما وإن لكم عند كل طاعة عونا من الله سبحانه يقول على الألسنة
ويثبت به الأفئدة فيه كفاء لمكتف وشفاء لمشتف
واعلموا أن عباد الله المستحفظين علمه يصونون مصونة ويفجرون عيونه
يتواصلون بالولاية ويتلاقون بالمحبة ويتساقون بكأس روية ويصدرون
برية لا تشوبهم الريبة ولا تسرع فيهم الغيبة على ذلك عقد خلقهم
وأخلاقهم فعليه يتحابون وبه يتواصلون فكانوا كتفاضل البذر ينتقى فيؤخذ
منه ويلقى قد ميزه التخليص وهذبه التمحيص
فليقبل امرؤ كرامة بقبولها وليحذر قارعة قبل حلولها ولينظر امرؤ في
قصير أيامه وقليل مقامه في منزل حتى يستبدل به منزلا فليصنع لمتحوله
ومعارف منتقله
فطوبى لذي قلب سليم أطاع من يهديه وتجنب من يرديه وأصاب سبيل
السلامة ببصر من بصره وطاعة هاد امره وبادر الهدى قبل أن تغلق أبوابه
65

وتقطع أسبابه واستفتح التوبة وأماط الحوبة فقد أقيم على الطريق وهدى
نهج السبيل
* * *
الشرح:
الضمير في أنه يرجع إلى القضاء والقدر المذكور في صدر هذه الخطبة ولم يذكره
الرضى رحمه الله يقول اشهد أن قضاءه تعالى عدل عدل وحكم بالحق فإنه حكم
فصل بين العباد بالإنصاف ونسب العدل والفصل إلى القضاء على طريق المجاز وهو
بالحقيقة منسوب إلى ذي القضاء والقاضي به هو الله تعالى.
قوله (وسيد عباده) هذا كالمجمع عليه بين المسلمين وإن كان قد خالف فيه
شذوذ منهم واحتج الجمهور بقوله (انا سيد ولد بني آدم
ولا فخر) وبقوله (ادعوا لي
سيد العرب عليا) فقالت عائشة الست سيد العرب فقال (انا سيد البشر وعلي
سيد العرب) وبقوله (بني آدم ومن دونه تحت لوائي)
واحتج المخالف بقوله عليه السلام (لا تفضلوني على أخي يونس بن متى).
وأجاب الأولون تارة بالطعن في اسناد الخبر وتارة بأنه حكاية كلام حكاه صلى الله عليه وآله
عن عيسى بن مريم وتارة بان النهى إنما كان عن الغلو فيه كما غلت الأمم في
أنبيائها فهو كما ينهى الطبيب المريض فيقول لا تأكل من الخبز ولا درهما وليس
مراده تحريم اكل الدرهم والدرهمين بل تحريم ما يستضر بأكله منه.
قوله عليه السلام: (كلما نسخ الله الخلق فرقتين جعله في خيرهما) النسخ النقل
ومنه نسخ الكتاب ومنه نسخت الريح آثار القوم ونسخت الشمس الظل يقول
66

كلما قسم الله تعالى الأب الواحد إلى ابنين جعل خيرهما وأفضلهما لولادة محمد عليه السلام
وسمى ذلك نسخا لان البطن الأول يزول ويخلفه البطن الثاني ومنه مسائل
المناسخات في الفرائض.
وهذا المعنى قد ورد مرفوعا في عدة أحاديث نحو قوله صلى الله عليه وآله
(ما افترقت فرقتان منذ نسل بني آدم ولده الا كنت في خيرهما)
ونحو قوله (إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل واصطفى من ولد إسماعيل
مضر واصطفى من مضر كنانة واصطفى من كنانة قريشا واصطفى من قريش هاشما
واصطفاني من بني هاشم)
قوله (لم يسهم فيه عاهر ولا ضرب فيه فاجر) لم يسهم لم يضرب فيه عاهر
بسهم أي بنصيب وجمعه سهمان والعاهر ذو العهر بالتحريك وهو الفجور والزنا
ويجوز تسكين الهاء مثل نهر ونهر وهذا هو المصدر والماضي عهر بالفتح والاسم العهر
بكسر العين وسكون الهاء والمرأة عاهرة ومعاهرة وعيهرة وتعيهر الرجل إذا زنى
والفاجر كالعاهر هاهنا واصل الفجور الميل قال لبيد
فان تتقدم تغش منها مقدما * غليظا وإن أخرت فالكفل فاجر (1)
يقول مقعد الرديف مائل
* * *
[ذكر بعض المطاعن في النسب وكلام للجاحظ في ذلك]
وفى الكلام رمز إلى جماعة من الصحابة في أنسابهم طعن كما يقال إن آل سعد
ابن أبي وقاص ليسوا من بنى زهرة بن كلاب وانهم من بنى عذرة من قحطان

(1) ديوانه 2: 5
67

وكما قالوا إن آل الزبير بن العوام من ارض مصر من القبط وليسوا من بنى أسد بن
عبد العزى قال الهيثم بن عدي في كتاب (مثالب العرب) إن خويلد بن أسد بن
عبد العزى كان أتى مصر ثم انصرف منها بالعوام فتبناه فقال حسان بن ثابت يهجو
آل العوام بن خويلد
بنى أسد ما بال آل خويلد * يحنون شوقا كل يوم إلى القبط (1)
متى يذكروا قهقي يحنوا لذكرها * وللرمث المقرون والسمك الرقط
عيون كأمثال الزجاج وضيعه * تخالف كعبا في لحى كثة ثط (2)
يرى ذاك في الشبان والشيب منهم * مبينا وفي الأطفال والجلة الشمط
لعمر أبى العوام إن خويلدا * غداة تبناه ليوثق في الشرط (3)
وكما يقال في قوم آخرين نرفع هذا الكتاب عن ذكر ما يطعن به في أنسابهم كي
لا يظن بنا انا المقالة في الناس.
قال شيخنا أبو عثمان في كتاب (مفاخرات قريش) لا خير في ذكر العيوب
الا من ضرورة ولا نجد كتاب مثالب قط الا لدعي أو شعوبي ولست واجدة لصحيح
النسب ولا لقليل الحسد وربما كانت حكاية الفحش أفحش من الفحش ونقل الكذب
أقبح من الكذب وقال النبي صلى الله عليه وآله (اعف عن ذي قبر) وقال (لا تؤذوا
الاحياء بسب الأموات) وقيل في المثل (يكفيك من شر سماعة) وقالوا أسمعك
من أبلغك وقالوا من طلب عيبا وجده وقال النابغة
ولست بمستبق أخا لا تلمه * على شعث أي الرجال المهذب. (4)

(1) ديوانه 239
(2) يقال رجل: ثط وأثط إذا عرى وجهه من الشعر الا طاقات في أسفل ضلعه.
(3) يريد شرط الخليفة.
(4) ديوانه 14.
68

قال أبو عثمان وبلغ عمر بن الخطاب أن أناسا من رواة الاشعار وحملة الآثار
يعيبون الناس ويثلبونهم في أسلافهم فقام على المنبر وقال إياكم وذكر العيوب
والبحث عن الأصول فلو قلت لا يخرج اليوم من هذه الأبواب الا من لا وصمة فيه
لم يخرج منكم أحد فقام رجل من قريش - نكره أن نذكره - فقال إذا كنت انا
وأنت يا أمير المؤمنين نخرج فقال كذبت بل كان يقال لك يا قين بن قين اقعد.
قلت الرجل الذي قام هو المهاجر بن خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي كان عمر
يبغضه لبغضه أباه خالدا ولان المهاجر كان علوي الرأي جدا وكان أخوه عبد الرحمن
بخلافة شهد المهاجر صفين مع علي عليه السلام وشهدها عبد الرحمن مع معاوية وكان
المهاجر مع علي عليه السلام في يوم الجمل وفقئت ذلك اليوم عينه ولان الكلام الذي
بلغ عمر بلغه عن المهاجر وكان الوليد بن المغيرة مع جلالته في قريش - وكونه يسمى
ريحانة قريش ويسمى العدل ويسمى الوحيد - حدادا يصنع الدروع وغيرها بيده ذكر
ذلك عنه عبد الله بن قتيبة في كتاب المعارف. (1)
وروى أبو الحسن المدائني هذا الخبر في كتاب (أمهات الخلفاء) وقال إنه روى
عند جعفر بن محمد عليه السلام بالمدينة فقال لا تلمه يا بن أخي انه أشفق أن يحدج (2)
بقضية نفيل بن عبد العزى وصهاك أمه الزبير بن عبد المطلب ثم قال رحم الله عمر
فإنه لم يعد السنة وتلا (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم
عذاب اليم). (3)
اما قول ابن جرير الآملي الطبرستاني في كتاب (المسترشد) إن عثمان والد

(1) المعارف 250
(2) يقال حدجة بذنب غيره أي عزاه إليه
(3) سورة النور 19
69

أبى بكر الصديق كان ناكحا أم الخير ابنه أخته فليس بصحيح ولكنها ابنة عمه لأنها
ابنة صخر بن عامر وعثمان هو ابن عمرو بن عامر والعجب لمن اتبعه من فضلاء الامامية
على هذه المقالة من غير تحقيق لها من كتب الأنساب وكيف تتصور هذه الواقعة في
قريش ولم يكن أحد منهم مجوسيا ولا يهوديا ولا كان من مذهبهم حل نكاح بنات
الأخ ولا بنات الأخت.
* * *
ثم نعود لإتمام حكاية كلام شيخنا أبى عثمان قال ومتى يقدر الناس - حفظك
الله - على رجل مسلم من كل ابنة ومبرأ من كل آفة في جميع آبائه وأمهاته وأسلافه
وأصهاره حتى تسلم له أخواله وأعمامه وخالاته وعماته وأخواته وبناته وأمهات
نسائه وجميع من يناسبه من قبل جداته وأجداده وأصهاره واختانه ولو كان ذلك
موجودا لما كان لنسب رسول الله صلى الله عليه وآله فضيلة في النقاء والتهذيب وفي التصفية
والتنقيح قال رسول الله صلى الله عليه وآله (ما مسني عرق سفاح قط وما زلت انقل
من الأصلاب السليمة من الوصوم (1) والأرحام البريئة من العيوب) فلسنا نقضي لأحد
بالنقاء من جميع الوجوه الا لنسب من صدقة القرآن واختاره الله على جميع الأنام
والا فلا بد من شئ يكون في نفس الرجل أو في طرفيه أو في بعض أسلافه أو في
بعض أصهاره ولكنه يكون مغطى بالصلاح ومحجوبا بالفضائل
ومغمورا بالمناقب.
ولو تأملت أحوال الناس لوجدت أكثرهم عيوبا أشدهم تعييبا قال الزبرقان من
بدر ما استب رجلان الا غلب ألأمهما وقال خصلتان كثيرتان في امرئ السوء

(1) الوصوم: العيوب
70

كثرة اللطام وشدة السباب ولو كان ما يقوله أصحاب المثالب حقا لما كان على
ظهرها عربي كما قال عبد الملك بن صالح الهاشمي إن كان ما يقول بعض في بعض
حقا فما فيهم صحيح وإن كان ما يقول بعض المتكلمين في بعض حقا فما
فيهم مسلم.
* * *
قوله عليه السلام: (الا وإن الله قد جعل للخير أهلا وللحق دعائم وللطاعة
عصما) الدعائم ما يدعم بها البيت لئلا يسقط والعصم جمع عصمة وهو ما يحفظ به
الشئ ويمنع فأهل الخير هم المتقون ودعائم الحق الأدلة الموصلة إليه المثبتة له في القلوب
وعصم الطاعة هي الإدمان على فعلها والتمرن على الاتيان بها لان المرون على الفعل
يكسب الفاعل ملكة تقتضي سهولته عليه والعون هاهنا هو اللطف المقرب من الطاعة
المبعد من القبيح.
ثم قال عليه السلام (انه يقول على الألسنة ويثبت الأفئدة) وهذا من باب
التوسع والمجاز لأنه لما كان مستهلا للقول أطلق عليه انه يقول على الألسنة ولما كان
الله تعالى هو الذي يثبت الأفئدة كما قال (يثبت الله الذين آمنوا بالقول
الثابت) (1) نسب التثبيت إلى اللطف لأنه من فعل الله تعالى كما ينسب الانبات إلى
المطر وإنما المنبت للزرع هو الله تعالى والمطر فعله.
ثم قال عليه السلام (فيه كفاء لمكتف وشفاء لمشتف) والوجه فيه (كفاية)
فان الهمز لا وجه له هاهنا لأنه من باب آخر ولكنه أتى بالهمزة للازدواج بين (كفاء)

(1) سورة إبراهيم 27
71

و (شفاء) كما قالوا الغدايا والعشايا وكما قال عليه السلام (مأزورات غير
مأجورات) فأتى بالهمز والوجه الواو للازدواج
* * *
[ذكر بعض أحوال العارفين والأولياء]
ثم ذكر العارفين فقال (واعلموا أن عباد الله المستحفظين علمه) إلى قوله
(وهذبه التمحيص).
واعلم أن الكلام في العرفان لم يأخذه أهل الملة الاسلامية الا عن هذا الرجل
ولعمري لقد بلغ منه إلى أقصى الغايات وابعد النهايات والعارفون هم القوم الذين اصطفاهم
الله تعالى وانتخبهم لنفسه واختصهم بأنسه أحبوه فأحبهم وقربوا منه فقرب منهم
قد تكلم أرباب هذا الشأن في المعرفة والعرفان فكل نطق بما وقع له وأشار إلى
ما وجده في وقته.
وكان أبو علي الدقاق يقول من أمارات المعرفة حصول الهيبة من الله فمن ازدادت
معرفته ازدادت هيبته.
وكان يقول المعرفة توجب السكينة في القلب كما أن العلم يوجب السكون
فمن ازدادت معرفته ازدادت سكينته.
وسئل الشبلي عن علامات العارف فقال ليس لعارف علامة ولا لمحب سكون
ولا لخائف قرار.
وسئل مرة أخرى عن المعرفة فقال أولها الله وآخرها ما لا نهاية له.
وقال أبو حفص الحداد منذ عرفت الله ما دخل قلبي حق ولا باطل وقد أشكل
هذا الكلام على أرباب هذا الشأن وتأوله بعضهم فقال عند القوم أن المعرفة توجب
72

غيبة العبد عن نفسه لاستيلاء ذكر الحق عليه فلا يشهد غير الله ولا يرجع الا إليه
وكما أن العاقل يرجع إلى قلبه وتفكره وتذكره فيما يسنح له من أمر أو يستقبله من حال
فالعارف رجوعه إلى ربه لا إلى قلبه وكيف يدخل المعنى قلب من لا قلب له.
وسئل أبو يزيد البسطامي عن العرفان فقال (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها
وجعلوا أعزة أهلها أذلة) (1) وهذا معنى ما أشار إليه أبو حفص الحداد.
وقال أبو يزيد أيضا للخلق أحوال ولا حال للعارف لأنه محيت رسومه وفنى
هو وصارت هويته هويه غيره وغيبت آثاره في آثار غيره.
قلت وهذا هو القول بالاتحاد الذي يبحث فيه أهل النظر.
وقال الواسطي لا تصح المعرفة وفى العبد استغناء بالله أو افتقار إليه وفسر بعضهم
هذا الكلام فقال إن الافتقار والاستغناء من أمارات صحو العبد وبقاء رسومه على
ما كانت عليه والعارف لا يصح ذلك عليه لأنه لاستهلاكه في وجوده أو لاستغراقه
في شهوده إن لم يبلغ درجة الاستهلاك في الوجود مختطف عن إحساسه بالغنى والفقر وغيرهما
من الصفات ولهذا قال الواسطي من عرف الله انقطع وخرس وانقمع قال صلى الله عليه وآله
(لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك).
وقال الحسين بن منصور الحلاج علامة العارف أن يكون فارغا من الدنيا والآخرة.
وقال سهل بن عبد الله التستري غاية العرفان شيئان الدهش والحيرة.
وقال ذو النون أعرف الناس بالله أشدهم تحيرا فيه.
وقيل لأبي يزيد بماذا وصلت إلى المعرفة قال ببدن عار وبطن جائع.

(1) سورة النمل 24
73

وقيل لأبي يعقوب السوسي هل يتأسف العارف على شئ غير الله فقال وهل
يرى شيئا غيره ليتأسف عليه.
وقال أبو يزيد العارف طيار والزاهد سيار.
وقال الجنيد لا يكون العارف عارفا حتى يكون كالأرض يطؤها البر والفاجر
وكالسحاب يظل كل شئ وكالمطر يسقى ما ينبت وما لا ينبت.
وقال يحيى بن معاذ يخرج العارف من الدنيا ولا يقضى وطره من شيئين بكائه على
نفسه وحبه لربه.
وكان ابن عطاء يقول أركان المعرفة ثلاثة الهيبة والحياء والانس
وقال بعضهم العارف انس بالله فأوحشه من خلقه وافتقر إلى الله فأغناه عن خلقه
وذل لله فأعزه في خلقه.
وقال بعضهم العارف فوق ما يقول والعالم دون ما يقول.
وقال أبو سليمان الداراني إن الله يفتح للعارف على فراشه ما لا يفتح للعابد وهو
قائم يصلى.
وكان رويم يقول رياء العارفين أفضل من إخلاص العابدين.
وسئل أبو تراب النخشبي عن العارف فقال هو الذي لا يكدره شئ
ويصفو به كل شئ.
وقال بعضهم المعرفة أمواج ترفع وتحط.
وسئل يحيى بن معاذ عن العارف فقال الكائن البائن.
وقيل ليس بعارف من وصف المعرفة عند أبناء الآخرة فكيف عند أبناء الدنيا.
وقال محمد بن الفضل المعرفة حياة القلب مع الله.
وسئل أبو سعيد الخراز هل يصير العارف إلى حال يجفو عليه البكاء؟ قال
74

نعم إنما البكاء في أوقات سيرهم إلى الله فإذا صاروا إلى حقائق القرب وذاقوا طعم
الوصول زال عنهم ذلك.
* * *
واعلم إن اطلاق أمير المؤمنين عليه السلام عليهم لفظه (الولاية) في قوله
(يتواصلون بالولاية ويتلاقون بالمحبة) يستدعى الخوض في مقامين جليلين من مقامات
العارفين المقام الأول الولاية وهو مقام جليل قال الله تعالى (الا إن أولياء الله
لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (1)
وجاء في الخبر الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله يقول الله تعالى (من آذى لي
وليا فقد استحل محارمي وما تقرب إلى العبد بمثل أداء ما فرضت عليه ولا يزال العبد
يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه ولا ترددت في شئ انا فاعله كترددي في قبض نفس
عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه.
واعلم أن الولي له معنيان
أحدهما (فعيل) بمعنى (مفعول) كقتيل وجريح وهو من يتولى الله امره كما
قال الله تعالى (إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين) (2)
فلا يكله إلى نفسه لحظة عين بل يتولى رعايته.
وثانيهما (فعيل) بمعنى (فاعل) كنذير وعليم وهو الذي يتولى طاعة الله وعبادته
فلا يعصيه.
ومن شرط كون الولي وليا الا يعصى مولاه وسيده كما أن من شرط كون النبي

(1) سورة يونس 62.
(2) سورة الأعراف 196.
75

نبيا العصمة فمن ظن فيه انه من الأولياء ويصدر عنه ما للشرع فيه اعتراض فليس
بولي عند أصحاب هذا العلم بل هو مغرور مخادع.
ويقال إن أبا يزيد البسطامي قصد بعض من يوصف بالولاية فلما وافى مسجده
قعد ينتظر خروجه فخرج الرجل وتنخم في المسجد فانصرف أبو يزيد ولم يسلم عليه
وقال هذا رجل غير مأمون على أدب من آداب الشريعة كيف يكون أمينا على
اسرار الحق.
وقال إبراهيم بن أدهم لرجل أتحب أن تكون لله وليا قال نعم قال لا ترغب
في شئ من الدنيا ولا من الآخرة وفرغ نفسك لله واقبل بوجهك عليه ليقبل
عليك ويواليك.
وقال يحيى بن معاذ في صفة الأولياء هم عباد تسربلوا بالأنس بعد المكابدة
وادرعوا بالروح بعد المجاهدة بوصولهم إلى مقام الولاية.
وكان أبو يزيد يقول أولياء الله عرائس الله ولا يرى العرائس الا المحارم
فهم مخدرون عنده في حجاب الانس لا يراهم أحد في الدنيا ولا في الآخرة.
وقال أبو بكر الصيدلاني كنت أصلح لقبر أبى بكر الطمستاني لوحا أنقر فيه اسمه
فيسرق ذلك اللوح فأنقر له لوحا آخر وأنصبه على قبره فيسرق وتكرر ذلك كثيرا دون
غيره من ألواح القبور فكنت أتعجب منه فسألت أبا على الدقاق عن ذلك فقال
إن ذلك الشيخ آثر الخفاء في الدنيا وأنت تريد أن تشهره باللوح الذي تنصبه على قبره
فالله سبحانه يأبى الا إخفاء قبره كما هو ستر نفسه.
وقال بعضهم إنما سمى الولي وليا لأنه توالت أفعاله على الموافقة.
76

وقال يحيى بن معاذ الولي لا يرائي ولا ينافق وما أقل صديق من يكون
هذا خلقه.
* * *
المقام الثاني المحبة قال الله سبحانه (من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله
بقوم يحبهم ويحبونه) والمحبة عند أرباب هذا الشأن حالة شريفة.
قال أبو يزيد البسطامي المحبة استقلال الكثير من نفسك واستكثار القليل
من حبيبك.
وقال أبو عبد الله القرشي المحبة أن تهب كلك لمن أحببت فلا يبقى لك منك
شئ وأكثرهم على نفى صفة العشق لان العشق مجاوزة الحد في المحبة والبارئ سبحانه
اجل من أن يوصف بأنه قد تجاوز أحد الحد في محبته.
سئل الشبلي عن المحبة فقال هي أن تغار على المحبوب أن يحبه أحد غيرك.
وقال سمنون ذهب المحبون بشرف الدنيا والآخرة لان النبي صلى الله عليه وآله
قال (المرء مع من أحب) فهم مع الله تعالى.
وقال يحيى بن معاذ حقيقة المحبة ما لا ينقص بالجفاء ولا يزيد بالبر.
وقال ليس بصادق من ادعى محبته ولم يحفظ حدوده.
وقال الجنيد إذا صحت المحبة سقطت شروط الأدب.
وأنشد في معناه
إذا صفت المودة بين قوم ودام ودادهم سمج الثناء
وكان أبو علي الدقاق يقول الست ترى الأب الشفيق لا يبجل ولده في الخطاب
والناس يتكلفون في مخاطبته والأب يقول له يا فلان باسمه.

(1) سورة المائدة 54.
77

وقال أبو يعقوب السوسي حقيقة المحبة أن ينسى العبد حظه من الله وينسى
حوائجه إليه.
قيل للنصر آباذي يقولون إنه ليس لك من المحبة شئ قال صدقوا ولكن
لي حسراتهم فهو ذو احتراق فيه.
وقال النصر آباذي أيضا المحبة مجانية السلو على كل حال ثم أنشد
ومن كان في طول الهوى ذاق سلوه * فإني من ليلى لها غير ذائق
وأكثر شئ نلته في وصالها * أماني لم تصدق كلمحة بارق.
وكان يقال الحب أوله خبل وآخره قتل.
وقال أبو علي الدقاق في معنى قول النبي صلى الله عليه وآله حبك الشئ يعمى
ويصم قال يعمى ويصم عن الغير اعراضا وعن المحبوب هيبة ثم أنشد
إذا ما بدا لي تعاظمته فأصدر في حال من لم يره.
وقال الجنيد سمعت الحارث المحاسبي يقول المحبة إقبالك على المحبوب بكليتك
ثم إيثارك له على نفسك ومالك وولدك ثم موافقتك له في جميع الأمور سرا وجهرا
ثم اعتقادك بعد ذلك انك مقصر في محبته.
وقال الجنيد سمعت السرى يقول لا تصلح المحبة بين اثنين حتى يقول الواحد
للآخر يا انا.
وقال الشبلي المحب إذا سكت هلك والعارف إذا لم يسكت هلك.
وقيل المحبة نار في القلب تحرق ما سوى ود المحبوب.
وقيل المحبة بذل الجهد والحبيب يفعل ما يشاء.
وقال الثوري المحبة هتك الأستار وكشف الاسرار.
78

حبس الشبلي في المارستان بين المجانين فدخل عليه جماعة فقال من أنتم قالوا
محبوك أيها الشيخ فاقبل يرميهم بالحجارة ففروا فقال إذا ادعيتم محبتي فاصبروا
على بلائي.
كتب يحيى بن معاذ إلى أبى يزيد البسطامي قد سكرت من كثرة ما شربت
من كأس محبته فكتب إليه أبو يزيد غيرك شرب بحور السماوات والأرض ومروي
بعد ولسانه خارج ويقول هل من مزيد.
ومن شعرهم في هذا المعنى
عجبت لمن يقول ذكرت ربى * وهل أنسى فاذكر ما نسيت
شربت الحب كأسا بعد كأس * فما نفد الشراب ولا رويت
ويقال إن الله تعالى أوحى إلى بعض الأنبياء إذا اطلعت على قلب عبد فلم أجد
فيه حب الدنيا والآخرة ملأته من حبى
وقال أبو علي الدقاق إن في بعض الكتب المنزلة عبدي انا وحقك لك محب
فبحقي عليك كن لي محبا.
وقال عبد الله بن المبارك من أعطى قسطا من المحبة ولم يعط مثله من الخشية
فهو مخدوع.
وقيل المحبة ما تمحو أثرك وتسلبك عن وجودك.
وقيل المحبة سكر لا يصحوا صاحبه الا بمشاهدة محبوبه ثم إن السكر الذي
يحصل عند المشاهدة لا يوصف وأنشد
فاكسر القوم دور كأس * وكان سكرى من المدير
وكان أبو علي الدقاق ينشد كثيرا
79

لي سكرتان وللندمان واحدة * شئ خصصت به من بينهم وحدي
وكان يحيى بن معاذ يقول مثقال خردلة من الحب أحب إلى من عباده سبعين سنة
بلا حب.
وقال بعضهم من أراد أن يكون محبا فليكن كما حكى عن بعض الهند انه
أحب جارية فرحلت عن ذلك البلد فخرج الفتى في وداعها فدمعت إحدى عينيه
دون الأخرى فغمض التي لم تدمع أربعا و ثمانين سنة ولم يفتحها عقوبة لأنها لم تبك
على فراق حبيبته.
وأنشدوا في هذا المعنى
بكت عيني غداة البين دمعا * وأخرى بالبكاء بخلت علينا
فعاقبت التي بخلت علينا * بان غمضتها يوم التقيا
وقيل إن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام فقال إني
حرمت على القلوب أن يدخلها
حبى وحب غيري.
وقيل المحبة إيثار المحبوب على النفس كامرأة العزيز لما أفرط بها الحب قالت
(انا راودته عن نفسه وانه لمن الصادقين) (1) وفي الابتداء قالت (ما جزاء
من أراد بأهلك سوءا الا أن يسجن) (2) فوركت (3) الذنب في الابتداء عليه
ونادت في الانتهاء على نفسها بالخيانة
وقال أبو سعيد الخراز رأيت النبي صلى الله عليه وآله في المنام فقلت يا رسول الله
اعذرني فان محبة الله شغلتني عن حبك فقال يا مبارك من أحب الله فقد أحبني.

(1) سورة يوسف 51.
(2) سورة يوسف 25.
(3) يقال ورك الذئب عليه: حمله.
80

ثم نعود إلى تفسير ألفاظ الفصل:
قوله عليه السلام: (يصونون مصونة) أي يكتمون من العلم الذي استحفظوه
ما يجب أن يكتم ويفجرون عيونه يظهرون منه ما ينبغي اظهاره وذلك أنه ليس ينبغي
اظهار كل ما استودع العارف من الاسرار وأهل هذا الفن يزعمون أن قوما منهم عجزوا
عن أن يحملوا بما حملوه فباحوا به فهلكوا منهم الحسين بن منصور الحلاج ولأبي
الفتوح الجارودي المتأخر اتباع يعتقدون فيه مثل ذلك.
والولاية بفتح الواو المحبة والنصرة ومعنى (يتواصلون بالولاية) يتواصلون وهم
أولياء ومثله (ويتلاقون بالمحبة) كما تقول خرجت بسلاحي أي خرجت وانا
متسلح فيكون موضع الجار والمجرور نصبا بالحال أو يكون المعنى أدق والطف من
هذا وهو أن يتواصلوا بالولاية أي بالقلوب لا بالأجسام كما تقول انا أراك بقلبي
وأزورك بخاطري وأواصلك بضميري.
قوله (ويتساقون بكأس روية) أي بكأس المعرفة والانس بالله يأخذ بعضهم
عن بعض العلوم والاسرار فكأنهم شرب يتساقون بكأس من الخمر (1).
قال (ويصدرون بريه) يقال من أين ريتكم مفتوحة الراء أي (2) من
أين ترتوون الماء.
قال (لا تشوبهم الريبة) أي لا تخالطهم الظنة والتهمة ولا تسرع فيهم الغيبة
لان أسرارهم مشغولة بالحق عن الخلق.
قال (على ذلك عقد خلقهم وأخلاقهم) الضمير في (عقد) يرجع إلى الله تعالى
أي على هذه الصفات والطبائع عقد الخالق تعالى خلقتهم وخلقهم أي هم متهيئون لما
صاروا إليه كما قال عليه السلام) (إذا أرادك لأمر هياك له)

(1) ب " الخمرة "، وما أثبته من ا
(2) ساقطة من ا.
81

وقال عليه السلام كل (ميسر لما خلق له).
قال (فعليه يتحابون وبه يتواصلون) أي ليس حبهم بعضهم بعضا الا في الله
وليست مواصلتهم بعضهم بعضا الا لله لا للهوى ولا لغرض من أغراض الدنيا
أنشد منشد عند عمر قول طرفة
فلولا ثلاث هن من عيشة الفتى * وجدك لم أحفل متى قام عودي (1)
فمنهن سبقي العاذلات بشربة * كميت متى ما تعل بالماء تزبد (2)
وكرى إذا نادى المضاف محنبا * كسيد الغضا نبهته المتورد (3)
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب * ببهكنة تحت الطراف المعمد (4)
فقال عمر وانا لولا ثلاث هن من عيشه الفتى لم أحفل متى قام عودي حبى في
الله وبغضي في الله وجهادي في سبيل الله.
قوله عليه السلام: (فكانوا كتفاضل البذر) أي مثلهم مثل الحب الذي
ينتفى للبذر يستصلح بعضه ويسقط بعضه.
قد ميزه التخليص قد فرق الانتقاء بين جيده ورديئه وهذبه التمحيص قال النبي
صلى الله عليه وآله (إن المرض ليمحص الخطايا كما تمحص النار الذهب) أي كما تخلص
النار الذهب مما يشوبه.
ثم أمر عليه السلام المكلفين بقبول كرامة الله ونصحه ووعظه وتذكيره وبالحذر

(1) من المعلقة بشرح التبريزي 81، 82.
(2) الكميت من الخمر التي تضرب إلى السواد وقوله متى ما تعل بالماء تزبد اي متى تمزج به تزبد
لأنها عتيقة.
(3) كرى عطفي والمضاف الذي اضافته الهموم والتحنيب احديداب في وضيفي يدي الفرس
وليس ذلك بالاعوجاج الشديد وهو مما يوصف صاحبه بالشدة والسبد الذئب والغضا شجر
وذئابه أخبث الذئاب ونبهته هيجته والمتورد الذي يطلب أن يرد الماء
(4) الدجن الباس الغيم السماء ومعجب يعجب من رآه والبهكنة التامة الخلق.
82

من نزول القارعة بهم وهي هاهنا الموت وسميت الداهية قارعة لأنها تقرع أي
تصيب بشدة.
قوله (فليصنع لمتحوله) أي فليعد ما يجب اعداده للموضع الذي يتحول إليه
تقول اصنع لنفسك أي اعمل لها.
قوله (ومعارف منتقلة) معارف الدار ما يعرفها المتوسم بها واحدها معرف
مثل معاهد الدار ومعالم الدار ومنه معارف المرأة وهو ما يظهر منها كالوجه واليدين
والمنتقل بالفتح موضع الانتقال.
قوله (فطوبى) هي (فعلى) من الطيب قلبوا الياء واوا للضمة قبلها ويقال
طوبى لك وطوباك! بالإضافة.
وقول العامة (طوبيك) بالياء غير جائز. قوله لذي قلب سليم هو من ألفاظ الكتاب العزيز (1) أي سليم من
الغل والشك.
قوله (أطاع من يهديه) أي قبل مشورة الناصح الامر له بالمعروف والناهي
له عن المنكر. وتجنب من يرديه أي يهلكه بإغوائه وتحسين القبيح له.
والباء في قوله (ببصر من بصره) متعلقة ب‍ (أصاب).
قوله قبل أن تغلق أبوابه أي قبل أن يحضره الموت فلا تقبل توبته.
والحوبة الاثم وإماطته ازالته ويجوز أمطت الأذى عنه ومطت الأذى عنه
أي نحيته ومنع الأصمعي منه الا بالهمزة

(1) وذلك قوله تعالى في سورة الشعراء 89 (الا من أتى الله بقلب سليم) وقوله في سورة
الصافات 84 (إذ جاء ربه بقلب سليم).
83

(208)
الأصل:
ومن دعاء كان يدعو به عليه السلام كثيرا:
الحمد لله الذي لم يصبح بي ميتا ولا سقيما ولا مضروبا على عروقي لسوء
ولا مأخوذا بأسوء عملي ولا مقطوعا دابري ولا مرتدا عن ديني ولا منكرا
لربي ولا مستوحشا من إيماني ولا ملتبسا عقلي ولا معذبا بعذاب الأمم
من قبلي
أصبحت عبدا مملوكا ظالما لنفسي لك الحجة على - ولا حجة لي
ولا أستطيع أن آخذ الا ما أعطيتني ولا اتقى الا ما وقيتني
اللهم إني أعوذ بك أن افتقر في غناك أو أضل في هداك أو أضام في
سلطانك أو اضطهد والامر لك
اللهم اجعل نفسي أول كريمة تنتزعها من كرائمي وأول وديعة ترتجعها من
ودائع نعمك عندي
اللهم انا نعوذ بك أن نذهب عن قولك أو أن نفتتن عن دينك أو تتابع بنا
أهواؤنا دون الهدى الذي جاء من عندك
84

الشرح:
قوله (كثيرا) منصوب بأنه صفة مصدر محذوف أي دعاء كثيرا وميتا
منصوب على الحال أي لم يفلق الصباح على ميتا ولا يجوز أن تكون (يصبح)
ناقصة ويكون (ميتا) خبرها كما قال الراوندي لان خبر (كان) وأخواتها يجب
أن يكون هو الاسم الا ترى انهما مبتدأ وخبر في الأصل واسم (يصبح) ضمير (الله)
تعالى و (ميتا) ليس هو الله سبحانه.
قوله (ولا مضروبا على عروقي بسوء) أي ولا أبرص والعرب تكنى عن
البرص بالسوء ومن أمثالهم ما أنكرك من سوء أي ليس إنكاري لك عن برص
حدث بك فغير صورتك.
وأراد بعروقه أعضاءه ويجوز أن يريد ولا مطعونا في نسبي والتفسير
الأول أظهر.
(ولا مأخوذا بأسوء عملي) أي ولا معاقبا بأفحش ذنوبي.
ولا مقطوعا دابري أي عقبى ونسلي والدابر في الأصل التابع لأنه يأتي دبرا
ويقال للهالك قد قطع الله دابره كأنه يراد انه عفا اثره ومحا اسمه قال سبحانه
(أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين).
ولا مستوحشا أي ولا شاكا في الايمان لان من شك في عقيدة استوحش منها.
ولا متلبسا عقلي أي ولا مختلطا عقلي لبست عليهم الامر بالفتح أي خلطته
وعذاب الأمم من قبل المسخ والزلزلة والظلمة ونحو ذلك.

(1) سورة الحجر 66
85

قوله (لك الحجة على ولا حجة لي) لان الله سبحانه قد كلفه بعد تمكينه
وأقداره واعلامه قبح القبيح ووجوب الواجب وترديد دواعيه إلى الفعل وتركه وهذه
حجة الله تعالى على عباده ولا حجة للعباد عليه لأنه ما كلفهم الا بما يطيقونه ولا كان
لهم لطف في أمر الا وفعله.
قوله (لا أستطيع أن آخذ الا ما أعطيتني ولا اتقى الا ما وقيتني)
لا أستطيع أن ارزق نفسي أمرا ولكنك الرزاق ولا ادفع عن نفسي محذورا من المرض
والموت الا ما دفعته أنت عنى.
وقال الشاعر
لعمرك ما يدرى الفتى كيف يتقى * نوائب هذا الدهر أم كيف يحذر
يرى الشئ مما يتقى فيخافه (1) * وما لا يرى مما يقي الله أكثر
وقال عبد الله بن سليمان بن وهب:
كفاية الله أجدى من توقينا * وعادة الله في الأعداء تكفينا
كاد الأعادي فما أبقوا ولا تركوا * عيبا وطعنا وتقبيحا وتهجينا
ولم نزد نحن في سر وفى علن * على مقالتنا الله يكفينا
وكان ذاك - ورد الله حاسدنا * بغيظه - لم ينل مأموله فينا.
قوله عليه السلام: (أن افتقر في غناك) موضع الجار والمجرور نصب على الحال
(وفي) متعلقه بمحذوف والمعنى أن افتقر وأنت الموصوف بالغنى الفائض على الخلق
وكذلك قوله (أو أضل في هداك) معناه أو أضل وأنت ذو الهداية العامة للبشر كافه
وكذلك (أو أضام في سلطانك) كما يقول المستغيث إلى السلطان كيف أظلم
في عدلك.
.

(1) كذا في ا وفي ب " ويخافه "
86

وكذلك قوله (أو اضطهد والامر لك) أي وأنت الحاكم صاحب الامر والطاء
في (اضطهد) هي تاء الافتعال واصل الفعل ضهدت فلانا فهو مضهود أي قهرته
وفلان ضهده لكل أحد أي كل من شاء أن يقهره فعل.
قوله (اللهم اجعل نفسي) هذه الدعوة مثل دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله
وهي قوله (اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا واجعله الوارث) منا أي لا تجعل موتنا
متأخرا عن ذهاب حواسنا وكان علي بن الحسين يقول في دعائه اللهم احفظ على
سمعي وبصرى إلى انتهاء أجلي.
وفسروا قوله عليه السلام: (واجعله الوارث منا) فقالوا الضمير في (واجعله)
يرجع إلى الامتاع.
فان قلت كيف يتقى الامتاع بالسمع والبصر بعد خروج الروح.
قلت هذا توسع في الكلام والمراد لا تبلنا بالعمى ولا الصمم فنكون احياء في
الصورة ولسنا باحياء في المعنى لان من فقدهما لا خير له في الحياة فحملته المبالغة
على أن طلب بقاءهما بعد ذهاب النفس إيذانا وإشعارا بحبه الا يبلى بفقدهما.
ونفتتن على ما لم يسم فاعله نصاب بفتنة تضلنا عن الدين وروى (نفتتن)
بفتح حرف المضارعة على (نفتعل) افتتن الرجل أي فتن ولا يجوز أن يكون الافتتان
متعديا كما ذكره الراوندي ولكنه قرا في (الصحاح) للجوهري (والفتون الافتتان يتعدى
ولا يتعدى) فظن أن ذلك للافتتان وليس كما ظن وإنما ذلك راجع إلى الفتون.
والتتابع التهافت في اللجاج والشر ولا يكون الا في مثل ذلك وروى أو (تتابع)
بطرح إحدى التاءات
87

(209)
الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام خطبها بصفين:
اما بعد فقد جعل الله سبحانه لي عليكم حقا بولاية امركم ولكم على
من الحق مثل الذي لي عليكم والحق أوسع الأشياء في التواصف وأضيقها في
التناصف لا يجرى لأحد الا جرى عليه ولا يجرى عليه الا جرى له ولو كان
لأحد أن يجرى له ولا يجرى عليه لكان ذلك خالصا لله سبحانه دون خلقه
لقدرة على عباده ولعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه ولكنه سبحانه
جعل حقه على العباد أن يطيعوه وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضلا منه
وتوسعا بما هو من المزيد أهله
الشرح:
الذي له عليهم من الحق هو وجوب طاعته والذي لهم عليه من الحق هو وجوب
معدلته فيهم والحق أوسع الأشياء في التواصف وأضيقها في التناصف معناه أن كل
أحد يصف الحق والعدل ويذكر حسنه ووجوبه ويقول لو وليت لعدلت فهو
بالوصف باللسان وسيع وبالفعل ضيق لان ذلك العالم العظيم الذين كانوا يتواصفون حسنه
ويعدون أن لو ولوا باعتماده وفعله لا تجد في الألف منهم واحدا لو ولى لعدل ولكنه
قول بغير عمل.
88

ثم عاد إلى تقرير الكلام الأول وهو وجوب الحق له وعليه فقال إنه لا يجرى
لأحد الا وجرى عليه وكذلك لا يجرى عليه الا وجرى له أي ليس ولا واحد من
الموجودين بمرتفع عن أن يجرى الحق عليه ولو كان أحد من الموجودين كذلك لكان
أحقهم بذلك البارئ سبحانه لأنه غاية الشرف بل هو فوق الشرف وفوق الكمال
والتمام وهو مالك الكل وسيد الكل فلو كان لجواز هذه القضية وجه ولصحتها
مساغ لكان البارئ تعالى أولى بها وهي الا يستحق عليه شئ وتقدير الكلام
لكنه يستحق عليه أمور فهو في هذا الباب كالواحد منا يستحق و يستحق عليه
ولكنه عليه السلام حذف هذا الكلام المقدر أدبا وإجلالا لله تعالى أن يقول إنه يستحق
عليه شئ.
فان قلت فما بال المتكلمين لا يتأدبون بأدبه عليه السلام وكيف يطلقون عليه
تعالى الوجوب والاستحقاق.
قلت ليست وظيفة المتكلمين وظيفة أمير المؤمنين عليه السلام في عباراتهم هؤلاء
أرباب صناعة وعلم يحتاج إلى ألفاظ واصطلاح لا بد لهم من استعماله للأفهام والجدل
بينهم وأمير المؤمنين امام يخطب على منبره يخاطب عربا ورعية ليسوا من أهل النظر
ولا مخاطبته لهم لتعليم هذا العلم بل لاستنفارهم إلى حرب عدوه فوجب عليه بمقتضى
الأدب أن يتوقى كل لفظة توهم ما يستهجنه السامع في الأمور الإلهية وفي غيرها.
فان قلت فما هذه الأمور التي زعمت أنها تستحق على البارئ سبحانه وأن
أمير المؤمنين عليه السلام حذفها من اللفظ واللفظ يقتضيها.
قلت الثواب والعوض و قبول التوبة واللطف والوفاء بالوعد والوعيد وغير
ذلك مما يذكره أهل العدل.
89

فان قلت فما معنى قوله (لكان ذلك خالصا لله سبحانه دون خلقه لقدرته على
عباده ولعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه) وهب أن تعليل عدم استحقاق
شئ على الله تعالى بقدرته على عباده صحيح كيف يصح تعليل ذلك بعدله في كل ما جرت
عليه صروف قضائه الا ترى انه ليس بمستقيم أن تقول لا يستحق على البارئ شئ
لأنه عادل وإنما المستقيم أن تقول لا يستحق عليه شئ لأنه مالك ولذلك عللت
الأشعرية هذا الحكم بأنه مالك الكل والاستحقاق إنما يكون على من دونه.
قلت التعليل صحيح وهو أيضا مما عللت به الأشعرية مذهبها وذلك لأنه إنما يتصور
الاستحقاق على الفاعل المختار إذا كان ممن يتوقع منه أو يصح منه أن يظلم فيمكن
حينئذ أن يقال قد وجب عليه كذا واستحق عليه كذا فاما من لا يمكن أن يظلم
ولا يتصور وقوع الظلم منه ولا الكذب ولا خلف الوعد والوعيد فلا معنى لاطلاق
الوجوب والاستحقاق عليه كما لا يقال كذا الداعي الخالص يستحق عليه أن يفعل ما دعاه
إليه الداعي ويجب عليه أن يفعل ما دعاه إليه الداعي مثل الهارب من الأسد والشديد
العطش إذا وجد الماء ونحو ذلك.
فان قلت أليس يشعر قوله عليه السلام: (وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب
تفضلا منه) بمذهب البغداديين من أصحابكم وهو قولهم إن الثواب تفضل من الله
سبحانه وليس بواجب.
قلت لا وذلك لأنه جعل المتفضل به هو مضاعفة الثواب لا أصل الثواب
وليس ذلك بمستنكر عندنا.
فان قلت أيجوز عندكم أن يستحق المكلف عشرة اجزاء من الثواب فيعطى عشرين
جزءا منه أليس من مذهبكم أن التعظيم والتبجيل لا يجوز من البارئ سبحانه أن يفعلهما
90

في الجنة الا على قدر الاستحقاق والثواب عندكم هو النفع المقارن للتعظيم والتبجيل
فيكف قلت إن مضاعفة الثواب عندنا جائزة!.
قلت مراده عليه السلام بمضاعفة الثواب هنا زيادة غير مستحقة من النعيم واللذة
الجسمانية خاصة في الجنة فسمى تلك اللذة الجسمانية ثوابا لأنها جزء من الثواب فاما اللذة
العقلية فلا يجوز مضاعفتها.
قوله عليه السلام: (بما هو من المزيد أهله أي بما هو أهله من المزيد فقدم
الجار والمجرور وموضعه نصب على الحال وفيه دلالة على أن حال المجرور تتقدم عليه
كما قال الشاعر
لئن كان برد الماء حران صاديا * إلى حبيبا انها لحبيب
* * *
الأصل:
ثم جعل سبحانه من حقوقه حقوقا افترضها لبعض الناس على بعض فجعلها
تتكافأ في وجوهها ويوجب بعضها بعضا ولا يستوجب بعضها الا ببعض.
وأعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية وحق
الرعية على الوالي فريضة فرضها الله سبحانه لكل على كل فجعلها نظاما
لألفتهم وعزا لدينهم فليست تصلح الرعية الا بصلاح الولاة ولا تصلح
الولاة الا باستقامة الرعية فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه وأدى الوالي إليها
حقها عز الحق بينهم وقامت مناهج الدين واعتدلت معالم العدل وجرت
على إذلالها السنن فصلح بذلك الزمان وطمع في بقاء الدولة ويئست
مطامع الأعداء.
91

وإذا غلبت الرعية واليها أو أجحف الوالي برعيته اختلفت هنالك
الكلمة وظهرت معالم الجور وكثر الأدغال في الدين وتركت محاج السنن
فعمل بالهوى وعطلت الاحكام وكثرت علل النفوس فلا يستوحش لعظيم
حق عطل ولا لعظيم باطل فعل فهنالك تذل الأبرار وتعز الأشرار وتعظم
تبعات الله سبحانه عند العباد.
فعليكم بالتناصح في ذلك وحسن التعاون عليه فليس أحد وإن اشتد على
رضا الله حرصه وطال في العمل اجتهاده ببالغ حقيقة ما الله سبحانه أهله من
الطاعة له ولكن من واجب حقوق الله سبحانه على عباده النصيحة بمبلغ جهدهم
والتعاون على إقامة الحق بينهم وليس امرؤ وإن عظمت في الحق منزلته
وتقدمت في الدين فضيلته بفوق أن يعان على ما حمله من حقه ولا امرؤ وإن
صغرته النفوس واقتحمته العيون بدون أن يعين على ذلك أو يعان عليه
* * *
الشرح:
تتكافأ في وجوهها تتساوى و هي حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي.
وفريضة قد روى بالنصب و بالرفع فمن رفع فخبر مبتدأ محذوف ومن نصب فبإضمار
فعل أو على الحال.
و جرت على إذلالها السنن بفتح الهمزة أي على مجاريها وطرقها.
وأجحف الوالي برعيته ظلمهم.
والإدغال في الدين الفساد.
92

ومحاج السنن جمع محجة وهي جادة الطريق.
قوله (وكثرت علل النفوس) أي تعللها بالباطل ومن كلام الحجاج إياكم
وعلل النفوس فإنها أدوى لكم من علل الأجساد.
واقتحمته العيون احتقرته وازدرته قال ابن دريد
ومنه ما تقتحم العين فان * ذقت جناة ساغ عذبا في اللها (1).
ومثل قوله عليه السلام: وليس امرؤ وإن عظمت في الحق منزلته قول زيد
ابن علي عليه السلام لهشام بن عبد الملك انه ليس أحد وإن عظمت منزلته بفوق أن
يذكر بالله ويحذر من سطوته وليس أحد وإن صغر بدون أن يذكر بالله ويخوف
من نقمته.
ومثل قوله عليه السلام: (وإذا غلبت الرعية) واليها قول الحكماء إذا علا صوت
بعض الرعية على الملك فالملك مخلوع فان قال نعم فقال أحد من الرعية لا
فالملك مقتول
[فصل فيما ورد من الآثار فيما يصلح الملك]
وقد جاء فوجوب الطاعة لأولى الامر الكثير الواسع قال الله سبحانه (أطيعوا الله
وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (2)
وروى عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وآله (السمع والطاعة على المرء

(1) من المقصورة 23 (طبعة مصر سنة 1319).
(2) سورة النساء 59.
93

المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بها فلا سمع ولا طاعة).
وعنه صلى الله عليه وآله (إن أمر عليكم عبد اسود مجدع فاسمعوا له وأطيعوا)
ومن كلام علي عليه السلام (إن الله جعل الطاعة غنيمة الأكياس عند
تفريط الفجرة).
بعث سعد بن أبي وقاص جرير بن عبد الله البجلي من العراق إلى عمر بن الخطاب
بالمدينة فقال له عمر كيف تركت الناس قال تركتهم كقداح الجعبة منها الأعصل (1)
الطائش ومنها القائم الرائش قال فكيف سعد لهم؟ قال هو ثقافها الذي يقيم
أودها ويغمز عصلها (2) قال فكيف طاعتهم قال يصلون الصلاة لأوقاتها ويؤدون
الطاعة إلى ولاتها قال الله أكبر إذا أقيمت الصلاة أديت الزكاة وإذا كانت الطاعة
كانت الجماعة.
ومن كلام أبرويز الملك اطع من فوقك يطعك من دونك.
ومن كلام الحكماء قلوب الرعية خزائن واليها فما أودعه فيها وجده.
وكان يقال صنفان متباغضان متنافيان السلطان والرعية وهما مع ذلك متلازمان
إن صلح أحدهما صلح الاخر وإن فسد فسد الاخر.
وكان يقال محل الملك من رعيته محل الروح من الجسد ومحل الرعية منه محل
الجسد من الروح فالروح تألم بألم كل عضو من أعضاء البدن وليس كل واحد من الأعضاء
يألم بألم غيره وفساد الروح فساد جميع البدن وقد يفسد بعض البدن وغيره من سائر
البدن صحيح.

(1) السهم الأعصل: القليل الريش.
(2) العصل: الاعوجاج والميل.
94

وكان يقال ظلم الرعية استجلاب البلية.
وكان يقال العجب ممن استفسد رعيته وهو يعلم أن عزه بطاعتهم.
وكان يقال موت الملك الجائر خصب شامل.
وكان يقال لا قحط أشد من جور السلطان.
وكان يقال قد تعامل الرعية المشمئزة بالرفق فتزول أحقادها ويذل قيادها
وقد تعامل بالخرق فتكاشف بما غيبت وتقدم على ما عيبت حتى يعود نفاقها شقاقا
ورذاذها سيلا بعاقا (1) ثم إن غلبت وقهرت فهو الدمار وإن غلبت وقهرت لم يكن بغلبها
افتخار ولم يدرك بقهرها ثار
وكان يقال الرعيد وإن كانت ثمارا مجتناه وذخائر مقتناه وسيوفا منتضاة
وأحراسا مرتضاة فان لها نفارا كنفار الوحوش وطغيانا كطغيان السيول ومتى قدرت
أن تقول قدرت على أن تصول.
وكان يقال أيدي الرعية تبع ألسنتها فلن يملك الملك ألسنتها حتى يملك جسومها
ولن يملك جسومها حتى يملك قلوبها فتحبه ولن تحبه حتى يعدل عليها في احكامه عدلا
يتساوى فيه الخاصة والعامة وحتى يخفف عنها المؤن والكلف وحتى يعفيها من رفع أوضاعها
وأراذلها عليها وهذه الثالثة تحقد على الملك العلية من الرعية وتطمع السفلة في الرتب السنية.
وكان يقال الرعية ثلاثة أصناف صنف فضلاء مرتاضون بحكم الرياسة والسياسة
يعلمون فضيلة الملك وعظيم غنائه ويرثون له من ثقل أعبائه فهؤلاء يحصل الملك موداتهم
بالبشر عند اللقاء ويلقى أحاديثهم بحسن الاصغاء وصنف فيهم خير وشر ظاهران
فصلاحهم يكتسب من معاملتهم بالترغيب والترهيب وصنف من السفلة الرعاع اتباع

(1) السيل البعاق. المتصبب بشدة.
95

لكل داع لا يمتحنون في أقوالهم وأعمالهم بنقد ولا يرجعون في الموالاة إلى عقد.
وكان يقال ترك المعاقبة للسفلة على صغار الجرائم تدعوهم إلى ارتكاب الكبائر
العظائم الا ترى أول نشور المرأة كلمة سومحت بها وأول حران الدابة حيدة
سوعدت عليها.
ويقال إن عثمان قال يوما لجلسائه وهو محصور في الفتنة وددت أن رجلا
صدوقا أخبرني عن نفسي وعن هؤلاء فقام إليه فتى فقال فقال إني
أخبرك تطأطأت لهم
فركبوك وما جراهم على ظلمك الا افراط حلمك قال صدقت فهل تعلم ما يشب
نيران الفتن قال نعم سالت عن ذلك شيخا من تنوخ كان باقعة قد نقب في الأرض
وعلم علما جما فقال الفتنة يثيرها أمران اثره تضغن على الملك الخاصة وحلم يجزئ
عليه العامة قال فهل سألته عما يخمدها قال نعم زعم أن الذي يخمدها في ابتدائها
استقاله العثرة وتعميم الخاصة بالإثرة فإذا استحكمت الفتنة أخمدها الصبر قال عثمان
صدقت وأني لصابر حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين ويقال إن يزدجرد بن
بهرام سال حكيما ما صلاح الملك قال الرفق بالرعية واخذ الحق منها بغير عنف
والتودد إليها بالعدل وآمن السبل وانصاف المظلوم قال فما صلاح الملك قال
وزراؤه إذا صلحوا صلح قال فما الذي يثير الفتن قال ضغائن يظهرها جرأه عامة
واستخفاف خاصة وانبساط الألسن بضمائر القلوب وإشفاق موسر وآمن معسر وغفلة
مرزوق ويقظة محروم قال وما يسكنها قال اخذ العدة لما يخاف وايثار الجد حين
يلتذ الهزل والعمل بالحزم وادراع الصبر والرضا بالقضاء.
وكان يقال خير الملوك من اشرب قلوب رعيته محبته كما أشعرها هيبته ولن ينال
ذلك منها حتى تظفر منه بخمسة أشياء اكرام شريفها ورحمة ضعيفها وإغاثة لهيفها
96

وكف عدوان عدوها وتامين سبل رواحها وغدوها فمتى أعدمها شيئا من ذلك
فقد أحقدها (1) بقدر ما أفقدها.
وكان يقال الأسباب التي تجر الهلك إلى الملك ثلاثة
أحدها من جهة الملك وهو أن تتآمر شهواته على عقله فتستهويه نشوات الشهوات
فلا تسنح له لذة الا اقتنصها ولا راحه الا افترصها.
والثاني من جهة الوزراء وهو تحاسدهم المقتضى تعارض الآراء فلا يسبق أحدهم إلى
حق الا كويد وعورض وعوند.
والثالث من جهة الجند المؤهلين لحراسة الملك والدين وتوهين المعاندين وهو نكولهم
عن الجلاد وتضجيعهم في المناصحة والجهاد وهم صنفان صنف وسع الملك عليهم فأبطرهم
الإتراف وضنوا بنفوسهم عن التعريض للاتلاف وصنف قدر عليهم الأرزاق فاضطغنوا
الأحقاد (2) واستشعروا النفاق
* * *
[الآثار الواردة في العدل والانصاف]
قوله عليه السلام: أو أجحف الوالي برعيته قد جاء من نظائره الكثير جدا
وقد ذكرنا فيما تقدم نكتا حسنة في مدح العدل والانصاف وذم الظلم والإجحاف وقال
النبي صلى الله عليه وآله (زين الله السماء بثلاثة الشمس والقمر والكواكب
وزين الأرض بثلاثة العلماء والمطر والسلطان العادل.
وكان يقال إذا لم يعمر الملك ملكه بإنصاف الرعية خرب ملكه بعصيان الرعية.
وقيل لأنوشروان أي الجنن أوقى قال الدين قيل فأي العدد أقوى قال العدل.

(1) يقال أحقده أي صيره حاقدا
(2) اضطغنوا الأحقاد: انطووا عليها.
97

وقع جعفر بن يحيى إلى عامل من عماله كثر شاكوك وقل حامدوك فاما عدلت
واما اعتزلت.
وجد في خزانة بعض الأكاسرة سفط ففتح فوجد فيه حب الرمان كل حبة
كالنواة الكبيرة من منوى المشمش وفي السفط رقعة فيها هذا حب رمان عملنا في
خراجه بالعدل.
جاء رجل من مصر إلى عمر بن الخطاب متظلما فقال يا أمير المؤمنين هذا مكان
العائذ بك قال له عذت بمعاذ ما شأنك قال سابقت ولد عمرو بن العاص بمصر
فسبقته فجعل يعنفني بسوطه ويقول انا ابن الأكرمين وبلغ أباه ذلك فحبسني خشية
أن أقدم عليك فكتب إلى عمرو إذا اتاك كتابي هذا فاشهد الموسم أنت وابنك فلما قدم
عمرو وابنه دفع الدرة إلى المصري وقال اضربه كما ضربك فجعل يضربه وعمر
يقول اضرب ابن الأمير اضرب ابن الأمير يرددها حتى قال يا أمير المؤمنين قد
استقدت منه فقال - وأشار إلى عمرو ضعها على صلعته فقال المصري يا أمير المؤمنين
إنما اضرب من ضربني فقال إنما ضربك بقوة أبيه وسلطانه فاضربه إن شئت فوالله
لو فعلت لما منعك أحد منه حتى تكون أنت الذي تتبرع بالكف عنه ثم قال يا بن
العاص متى تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرار.
خطب الإسكندر جنده فقال لهم بالرومية كلاما تفسيره يا عباد الله إنما إلهكم
الله الذي في السماء الذي نصرنا بعد حين الذي يسقيكم الغيث عند الحاجة واليه
مفزعكم عند الكرب والله لا يبلغني أن الله أحب شيئا الا أحببته وعملت به إلى يوم
أجلى ولا يبلغني انه أبغض شيئا الا أبغضته وهجرته إلى يوم أجلى وقد أنبئت أن الله
يحب العدل في عباده ويبغض الجور فويل للظالم من سوطي وسيفي ومن ظهر منه
98

العدل من عمالي فليتكئ في مجلسي كيف شاء وليتمن على ما شاء فلن تخطئه أمنيته
والله المجازي كلا بعمله.
قال رجل لسليمان بن عبد الملك وهو جالس للمظالم يا أمير المؤمنين ألم تسمع قول الله
تعالى (فأذن مؤذن بينهم أن لعنه الله على الظالمين) (1) قال ما خطبك قال
وكيلك اغتصبني ضيعتي وضمها إلى ضيعتك الفلانية قال فان ضيعتي لك وضيعتك
مردودة إليك ثم كتب إلى الوكيل بذلك وبصرفه عن عمله.
ورقى إلى كسرى قباذ أن في بطانة الملك قوما قد فسدت نياتهم وخبثت ضمائرهم
لان احكام الملك جرت على بعضهم لبعضهم فوقع في الجواب انا أملك الأجساد
لا النيات واحكم بالعدل لا بالهوى وافحص عن الأعمال لا عن السرائر.
وتظلم أهل الكوفة إلى المأمون من واليهم فقال ما علمت في عمالي أعدل ولا أقوم
بأمر الرعية ولا أعود بالرفق منه فقال له منهم واحد فلا أحد أولى منك
يا أمير المؤمنين بالعدل والانصاف وإذا كان بهذه الصفة فمن عدل أمير المؤمنين أن يوليه
بلدا بلدا حتى يلحق أهل كل بلد من عدله مثل ما لحقنا منه ويأخذوا بقسطهم منه
كما اخذ منه سواهم وإذا فعل أمير المؤمنين ذلك لم يصب الكوفة منه أكثر من ثلاث
سنين فضحك وعزله.
كتب عدى بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز اما بعد فان قبلنا قوما لا يؤدون
الخراج الا أن يمسهم نصب من العذاب فاكتب إلى أمير المؤمنين برأيك فكتب
اما بعد فالعجب لك كل العجب تكتب إلى تستأذنني في عذاب البشر كان إذني لك
جنة من عذاب الله أو كان رضاي ينجيك من سخط الله فمن أعطاك ما عليه عفوا

(1) سورة الأعراف 44.
99

فخذ منه ومن أبى فاستحلفه وكله إلى الله فلان يلقوا الله بجرائمهم أحب إلى من أن
ألقاه بعذابهم.
فضيل بن عياض ما ينبغي أن تتكلم بفيك كله أتدري من كان يتكلم بفيه
كله عمر بن الخطاب كان يعدل في رعيته ويجور على نفسه ويطعمهم الطيب ويأكل
الغليظ ويكسوهم اللين ويلبس الخشن ويعطيهم الحق ويزيدهم ويمنع ولده وأهله
أعطى رجلا عطاءه أربعة آلاف درهم ثم زاده ألفا فقيل له الا تزيد ابنك عبد الله
كما تزيد هذا فقال إن هذا ثبت أبوه يوم أحد وإن عبد الله فر أبوه ولم يثبت.
وكان يقال لا يكون العمران الا حيث يعدل السلطان.
وكان يقال العدل حصن وثيق في رأس نيق (1) لا يحطمه سيل ولا يهدمه منجنيق.
وقع المأمون إلى عامل كثر التظلم منه أنصف من وليت أمرهم والا أنصفهم منك
من ولى امرك.
بعض السلف العدل ميزان الله والجور مكيال الشيطان

(1) النبق: ارفع موقع في الجبل.
100

(210)
الأصل:
فأجابه عليه السلام رجل من أصحابه بكلام طويل يكثر فيه الثناء عليه
ويذكر سمعه وطاعته له فقال عليه السلام
إن من حق من عظم جلال الله سبحانه في نفسه وجل موضعه من قلبه أن
يصغر عنده - لعظم ذلك - كل ما سواه وإن أحق من كان كذلك لمن عظمت نعمة
الله عليه ولطف إحسانه إليه فإنه لم تعظم نعمة الله على أحد الا ازداد حق الله
عليه عظما
وإن من أسخف حالات الولاة عند صالح الناس أن يظن بهم حب الفخر
ويوضع أمرهم على الكبر وقد كرهت أن يكون جال في ظنكم فقال إني
أحب
الإطراء واستماع الثناء ولست بحمد الله كذلك ولو كنت أحب أن يقال
ذلك لتركته انحطاطا لله سبحانه عن تناول ما هو أحق به من العظمة
والكبرياء
وربما استحلى الناس الثناء بعد البلاء فلا تثنوا على بجميل ثناء لاخراجي
نفسي إلى الله سبحانه وإليكم من البقية في حقوق لم افرغ من أدائها وفرائض
لا بد من امضائها فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة ولا تتحفظوا بما
يتحفظ به عند أهل البادرة ولا تخالطوني بالمصانعة ولا تظنوا بي استثقالا
في حق قيل لي ولا التماس إعظام لنفسي فإنه من استثقل الحق أن يقال له
أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه
101

فلا تكفوا عن مقاله بحق أو مشورة بعدل فإني لست في نفسي بفوق أن
أخطئ ولا آمن ذلك من فعلى الا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به منى
فإنما انا وأنتم عبيد مملوكون لرب لا رب غيره يملك منا مالا نملك من أنفسنا
وأخرجنا مما كنا فيه إلى ما صلحنا عليه فأبدلنا بعد الضلالة بالهدى وأعطانا
البصيرة بعد العمى.
* * *
الشرح:
هذا الفصل وإن لم يكن فيه ألفاظ غريبة سبيلها أن تشرح ففيه معان مختلفة سبيلها
أن تذكر وتوضح وتذكر نظائرها وما يناسبها.
فمنها قوله عليه السلام: أن من حق من عظمت نعمة الله عليه أن تعظم عليه حقوق
الله تعالى وأن يعظم جلال الله تعالى في نفسه ومن حق من كان كذلك أن يصغر
عنده كل ما سوى الله.
وهذا مقام جليل من مقامات العارفين وهو استحقار كل ما سوى الله تعالى وذلك
أن من عرف الله تعالى فقد عرف ما هو أعظم من كل عظيم بل لا نسبة لشئ من الأشياء
أصلا إليه سبحانه فلا يظهر عند العارف عظمة غيره البتة كما أن من شاهد الشمس
المنيرة يستحقر ضوء القمر والسراج الموضوع في ضوء الشمس حال مشاهدته جرم الشمس
بل لا تظهر له في تلك الحال صنوبرة السراج ولا تنطبع صورتها في بصره.
* * *
ومنها قوله عليه السلام: من أسخف حالات الولاة أن يظن بهم حب الفخر ويوضع
102

أمرهم على الكبر قال النبي صلى الله عليه وآله (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال
حبه من كبر)
وقال صلى الله عليه وآله (لولا ثلاث مهلكات لصلح الناس شح مطاع وهوى
متبع واعجاب المرء بنفسه).
وكان يقال ليس لمعجب رأي ولا لمتكبر صديق.
وكان أبو مسلم صاحب الدولة يقول ما تاه الا وضيع ولا فاخر الا لقيط ولا تعصب
الا دخيل.
وقال عمر لبعض ولده التمس الرفعة بالتواضع والشرف بالدين والعفو من الله
بالعفو عن الناس وإياك والخيلاء فتضع من نفسك ولا تحقرن أحدا لأنك لا تدرى
لعل من تزدريه عيناك أقرب إلى الله وسيلة منك.
* * *
ومنها قوله عليه السلام: قد كرهت أن تظنوا بي حب الإطراء واستماع الثناء قد
روى عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال (احثوا في وجوه المداحين التراب) وقال عمر
المدح هو الذبح.
وكان يقال إذا سمعت الرجل يقول فيك من الخير ما ليس فيك فلا تأمن أن يقول
فيك من الشر ما ليس فيك.
ويقال إن في بعض الكتب المنزلة القديمة عجبا لمن قيل فيه الخير وليس فيه
كيف يفرح ولمن قيل فيه الشر وليس فيه كيف يغضب واعجب من ذلك من أحب
نفسه على اليقين وابغض الناس على الظن.
وكان يقال لا يغلبن جهل غيرك بك علمك بنفسك.
وقال رجل لعبد الملك فقال إني أريد أن أسر إليك يا أمير المؤمنين شيئا فقال لمن حوله
103

إذا شئتم فانهضوا فتقدم الرجل يريد الكلام فقال له عبد الملك قف لا تمدحني
فإني اعلم بنفسي منك ولا تكذبني فإنه لا رأي لمكذوب ولا تغتب عندي أحدا
فإني أكره الغيبة قال أفيأذن أمير المؤمنين في الانصراف قال إذا شئت.
وناظر المأمون محمد بن القاسم النوشجاني في مسالة كلامية فجعل النوشجاني يخضع
في الكلام ويستخذي له فقال يا محمد أراك تنقاد إلى ما أقوله قبل وجوب الحجة
لي عليك وقد ساءني منك ذلك ولو شئت أن أفسر الأمور بعزة الخلافة وهيبة الرياسة
لصدقت وإن كنت كاذبا وعدلت وإن كنت جائرا وصوبت وإن كنت مخطئا
ولكني لا اقنع الا بإقامة الحجة وإزالة الشبهة وإن أنقص الملوك عقلا وأسخفهم
رأيا من رضى بقولهم صدق الأمير.
وقال عبد الله بن المقفع في (اليتيمة) إياك إذا كنت واليا أن يكون من شأنك
حب المدح والتزكية وأن يعرف الناس ذلك منك فتكون ثلمة من الثلم يقتحمون عيك
منها وبابا يفتتحونك منه وغيبة يغتابونك بها ويسخرون منك لها واعلم أن قابل
المدح كمادح نفسه وأن المرء جدير أن يكون حبه المدح هو الذي يحمله على رده فان
الراد له ممدوح والقابل له معيب.
وقال معاوية لرجل من سيد قومك قال انا قال لو كنت كذلك لم تقله.
وقال الحسن ذم الرجل نفسه في العلانية مدح لها في السر.
كان يقال من أظهر عيب نفسه فقد زكاها.
* * *
ومنها قوله عليه السلام: لو كنت كذلك لتركته انحطاطا لله تعالى عن تناول ما هو
أحق به من الكبرياء في الحديث المرفوع (من تواضع لله رفعه الله ومن تكبر
خفضه الله).
104

وفيه أيضا العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني فيهما قصمته.
* * *
ومنها قوله عليه السلام: (فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة ولا تتحفظوا منى
بما يتحفظ به عند أهل البادرة).
أحسن ما سمعته في سلطان لا تخاف الرعية بادرته ولا يتلجلج المتحاكمون عنده
مع سطوته وقوته لإيثاره العدل قول أبى تمام في محمد بن عبد الملك:
وزير حق ووالى شرطة ورحا * ديوان ملك وشيعي ومحتسب (1)
كالأرحبي المذكى سيرة المرطى * والوخد والملع والتقريب والخبب (2)
عود تساجله أيامه فبها * من مسه وبه من مسها جلب (3)
ثبت الخطاب إذا اصطكت بمظلمة * في رحلة السن الأقوام والركب (4)

(1) ديوانه 1: 253.
(2) قال شارح ديوانه: كان بعض الناس يقول لأبي تمام انا استحسن قول امرئ القيس:
وتعرف فيه من أبيه شمائلا * ومن خاله ومن يزيد ومن حجر
سماحة ذا وجود ذا ووفاء ذا * ونائل ذا إذا صحا وإذا سكر
فذكر أربعة ورد عليها أربعة أصناف فلقيه أبو تمام بعد مدة فقال له أنشدتني بيتي امرء القيس
وتستحسن ذكره لأربعة ورده عليهم أربعة أصناف وقد ذكرت خمسة ورددت عليهم خمسة أصناف
وأنشده هذين البيتين الأرحبي يعني به نجيبا من الإبل منسوبا إلى أرحب وهم حي من همدان والمذكى
الذي قد تمت سنه وذكاؤه يقال فرس مذك ووحش مذك والمرطي ضرب من العدو سهل وقلما
يستعمل الا في الإبل فاما الوخد والملع فمجيئها كثير في وصف سير النوق والجمال ولا يكادون يقولون
وخد الفرس وقد حكى ذلك أبو نصر صاحب الأصمعي والتقريب أيضا لا يكاد يستعمل في الجمال يقول
هذا الممدوح جمع اصلاح الملك كما يجمع هذا الأرحبي هذه الضروب من السير.
(3) العود المسن من الإبل والمراد به هنا الرجل المجرب على الاستعارة والجلب جمع جلبة وهو
الأثر في ظهر البعير وغيره من اثر حمل أو نحوه يقول قد جرب الأمور خيرها وشرها يكون
الدهر مرة معه ومرة عليه فكأنه يساجله
(4) اصطكت اضطربت وقوله " بمظلمة " أي بخصلة مظلمة.
105

لا المنطق اللغو يزكو في مقاومه * يوما ولا حجة الملهوف تستلب (1)
كأنما هو في نادى قبيلته * لا القلب يهفو ولا الأحشاء تضطرب (2).
ومن هذا المعنى قول أبى الجهم العدوي في معاوية
نقلبه لنخبر حالتيه * فنخبر منهما كرما ولينا
نميل على جوانبه كانا * إذا ملنا نميل على أبينا.
ومنها قوله عليه السلام: لا تظنوا بي استثقال رفع الحق إلى فإنه من استثقل
الحق أن يقال له كان العمل به عليه أثقل.
هذا معنى لطيف ولم اسمع منه شيئا منثورا ولا منظوما.
* * *
ومنها قوله عليه السلام: ولا تكفوا عن قول بحق أو مشورة بعدل.
قد ورد في المشورة شئ كثير قال الله تعالى (وشاورهم في الامر) (3).
وكان يقال إذا استشرت انسانا صار عقله لك.
وقال اعرابي ما غبنت قط حتى يغبن قومي قيل وكيف ذاك قال لا افعل
شيئا حتى أشاورهم.
وكان يقال من أعطي الاستشارة لم يمنع الصواب ومن أعطي الاستخارة
لم يمنع الخيرة ومن أعطي التوبة لم يمنع القبول ومن أعطي الشكر لم يمنع المزيد.
وفي آداب ابن المقفع لا يقذفن في روعك انك إذا استشرت الرجال ظهر منك
للناس حاجتك إلى رأى غيرك فيقطعك ذلك عن المشاورة فإنك لا تريد الرأي للفخر

(1) المنطق اللغو: الهذر وما لا يحتاج إليه من الكلام ويزكو يروج وينمو مقاوم جمع مقام.
(2) لا القلب يهفو اي لا يزيغ عما يريد.
(3) سورة آل عمران.
106

ولكن للانتفاع به ولو انك أردته للذكر لكان أحسن الذكر عند العقلاء أن يقال إنه
لا ينفرد برأيه دون ذوي الرأي من اخوانه.
* * *
ومنها أن يقال ما معنى قوله عليه السلام: (وربما استحلى الناس الثناء بعد
البلاء...) إلى قوله (لا بد من امضائها) فنقول إن معناه أن بعض من يكره الإطراء
والثناء قد يحب ذلك بعد البلاء والاختبار كما قال مرداس بن أدية لزياد إنما الثناء
بعد البلاء وإنما نثني بعد أن نبتلى فقال لو فرضنا أن ذلك سائغ وجائز وغير قبيح
لم يجز لكم أن تثنوا على في وجهي ولا جاز لي أن أسمعه منكم لأنه قد بقيت علي
بقية لم افرغ من أدائها وفرائض لم أمضها بعد ولا بد لي من امضائها وإذا لم يتم
البلاء الذي قد فرضنا أن الثناء يحسن بعده لم يحسن الثناء.
* * *
ومعنى قوله (لاخراجي نفسي إلى الله وإليكم) أي لاعترافي بين يدي الله وبمحضر
منكم أن على حقوقا في إيالتكم ورياستي عليكم لم أقم بها بعد وأرجو من الله القيام بها.
* * *
ومنها أن يقال ما معنى قوله (فلا تخالطوني بالمصانعة) فنقول إن معناه لا تصانعوني
بالمدح والإطراء عن عمل الحق كما يصانع به كثير من الولاة الذين يستفزهم المدح ويستخفهم
الإطراء والثناء فيغمضون عن اعتماد كثير من الحق مكافاة لما صونعوا به من التقريظ
والتزكية والنفاق.
* * *
ومنها قوله عليه السلام: فإني لست بفوق أن أخطئ هذا اعتراف منه عليه
السلام بعدم العصمة فاما أن يكون الكلام على ظاهره أو يكون قاله على سبيل هضم
107

النفس كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله (ولا انا الا أن يتداركني الله برحمته).
* * *
ومنها قوله عليه السلام: (أخرجنا مما كنا فيه فأبدلنا بعد الضلالة بالهدى وأعطانا
البصيرة بعد العمى) ليس هذا إشارة إلى خاص نفسه عليه السلام لأنه لم يكن كافرا
فأسلم ولكنه كلام يقوله ويشير به إلى القوم الذين يخاطبهم من أفناء الناس فيأتي بصيغة
الجمع الداخلة فيها نفسه توسعا ويجوز أن يكون معناه لولا ألطاف الله تعالى ببعثه محمد
صلى الله عليه وآله لكنت انا وغيري على أصل مذهب الأسلاف من عباده الأصنام
كما قال تعالى لنبيه (ووجدك ضالا فهدى) (1) ليس معناه انه كان كافرا بل معناه
لولا اصطفاء الله تعالى لك لكنت كواحد من قومك ومعنى (ووجدك ضالا) أي
ووجدك بعرضة (2) للضلال فكأنه ضال بالقوة لا بالفعل

(1) سورة الضحى.
(2) كذا وفي ب وفى ا: " بعرضية الضلال ".
108

(211)
الأصل:
ومن كلام له عليه السلام:
اللهم إني أستعديك على قريش ومن أعانهم فإنهم قد قطعوا رحمي وأكفئوا
إنائي وأجمعوا على منازعتي حقا كنت أولى به من غيري وقالوا الا إن في الحق
أن تأخذه وفي الحق أن تمنعه فاصبر مغموما أو مت متأسفا
فنظرت فإذا ليس لي رافد ولا ذاب ولا مساعد الا أهل بيتي فضننت بهم
عن المنية فأغضيت على القذى وجرعت ريقي على الشجا وصبرت من كظم الغيظ
على أمر من العلقم وآلم للقلب من وخز الشفار
* * *
قال الرضى رحمه الله وقد مضى هذا لكلام في أثناء خطبة متقدمة الا انى
ذكرته هاهنا لاختلاف الروايتين
* * *
الشرح:
العدوي طلبك إلى وال ليعديك على من ظلمك أي ينتقم لك منه يقال
استعديت الأمير على فلان فأعداني أي استعنت به عليه فأعانني.
وقطعوا رحمي وقطعوا قرابتي أي أجروني مجرى الأجانب ويجوز أن يريد انهم
عدوني كالأجنبي من رسول الله صلى الله عليه وآله ويجوز أن يريد انهم جعلوني كالأجنبي
109

منهم لا ينصرونه ولا يقومون بأمره.
وأكفئوا إنائي قلبوه وكبوه وحذف الهمزة من أول الكلمة أفصح وأكثر
وقد روى كذلك ويقال لمن قد أضيعت حقوقه قد أكفا إناءه تشبيها بإضاعة اللبن
من الاناء.
وقد اختلفت الرواية في قوله (الا إن في الحق أن تأخذه) فرواها قوم بالنون
وقوم بالتاء وقال الراوندي انها في خط الرضى بالتاء ومعنى ذلك انك إن وليت
أنت كانت ولايتك حقا وإن ولى غيرك كانت ولايته حقا على مذهب أهل الاجتهاد
ومن رواها بالنون فالمعنى ظاهر.
والرافد المعين والذاب الناصر.
وضننت بهم بخلت بهم وأغضيت على كذا صبرت.
وجرعت بالكسر والشجا ما يعترض في الحلق.
والوخز الطعن الخفيف وروى من (حز الشفار) والحز القطع
والشفار جمع شفرة وهي حد السيف والسكين
* * *
واعلم أن هذا الكلام قد نقل عن أمير المؤمنين عليه السلام ما يناسبه ويجرى مجراه
ولم يؤرخ الوقت الذي قاله فيه ولا الحال التي عناها به وأصحابنا يحملون ذلك على أنه عليه
السلام قاله عقيب الشورى وبيعه عثمان فإنه ليس يرتاب أحد من أصحابنا على أنه تظلم
وتألم حينئذ.
ويكره أكثر أصحابنا حمل أمثال هذا الكلام على التألم من يوم السقيفة.
ولقائل أن يقول لهم ا تقولون إن بيعة عثمان لم تكن صحيحة فيقولون لا فيقال
110

لهم فعلى ماذا تحملون كلامه عليه السلام مع تعظيمكم له وتصديقكم لأقواله فيقولون
نحمل ذلك على تألمه وتظلمه منهم إذا تركوا الأولى والأفضل فيقال لهم فلا تكرهوا
قول من يقول من الشيعة وغيرهم إن هذا الكلام وأمثاله صدر عنه عقيب السقيفة وحملوه
على أنه تألم وتظلم من كونهم تركوا الأولى والأفضل فإنكم لستم تنكرون انه كان
الأفضل والأحق بالامر بل تعترفون بذلك وتقولون ساغت امامه غيره وصحت
لمانع كان فيه عليه السلام وهو ما غلب على ظنون العاقدين للامر من أن العرب لا تطيعه
فإنه يخاف من فتنة عظيمة تحدث إن ولى الخلافة لأسباب يذكرونها ويعدونها وقد
روى كثير من المحدثين انه عقيب يوم السقيفة تألم وتظلم واستنجد واستصرخ حيث
ساموه الحضور والبيعة وانه قال وهو يشير إلى القبر (يا بن أم إن القوم استضعفوني
وكادوا يقتلونني) (1) وانه قال وا جعفراه ولا جعفر لي اليوم وا حمزتاه ولا حمزة
لي اليوم.
وقد ذكرنا من هذا المعنى جملة صالحة فيما تقدم وكل ذلك محمول عندنا على أنه
طلب الامر من جهة الفضل والقرابة وليس بدال عندنا على وجود النص لأنه لو كان
هناك نص لكان أقل كلفة وأسهل طريقا وأيسر لما يريد تناولا أن يقول يا هؤلاء
إن العهد لم يطل وإن رسول الله صلى الله عليه وآله امركم بطاعتي واستخلفني عليكم
بعده ولم يقع منه عليه السلام بعد ما علمتموه ونص ينسخ ذلك ولا يرفعه فما الموجب
لتركي والعدول عنى.
فان قالت الامامية كان يخاف القتل لو ذكر ذلك قيل لهم فهلا يخاف القتل
وهو يعتل ويدفع ليبايع وهو يمتنع ويستصرخ تارة بقبر رسول الله صلى الله عليه وآله

(1) سورة الأعراف 150.
111

وتارة بعمه حمزة وأخيه جعفر - وهما ميتان - وتارة بالأنصار وتارة ببني عبد مناف ويجمع
الجموع في داره ويبث الرسل والدعاة ليلا ونهارا إلى الناس يذكرهم فضله وقرابته
ويقول للمهاجرين خصمتم (1) الأنصار بكونكم أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله
وانا أخصمكم بما خصمتم به الأنصار لان القرابة أن كانت هي المعتبرة فانا
أقرب منكم.
وهلا خاف من هذا الامتناع ومن هذا الاحتجاج ومن الخلوة في داره بأصحابه
ومن تنفير الناس عن البيعة التي عقدت حينئذ لمن عقدت له.
وكل هذا إذا تأمله المنصف علم أن الشيعة أصابت في أمر وأخطأت في
أمر اما الامر الذي أصابت فيه فقولها انه امتنع وتلكأ وأراد الامر لنفسه واما الامر
الذي أخطأت فيه فقولها انه كان منصوصا عليه نصا جليا بالخلافة تعلمه الصحابة كلها
أو أكثرها وإن ذلك النص خولف طلبا للرئاسة الدنيوية وإيثارا للعاجلة وإن حال
المخالفين للنص لا تعدو أحد أمرين اما الكفر أو الفسق فان قرائن الأحوال وأماراتها
لا تدل على ذلك وإنما تدل وتشهد بخلافة وهذا يقتضى أن أمير المؤمنين عليه السلام
كان في مبدأ الامر يظن أن العقد لغيرة كان عن غير نظر في المصلحة وانه لم يقصد به
الا صرف الامر عنه والاستئثار عليه فظهر منه ما ظهر من الامتناع والعقود في بيته
إلى أن صح عنده وثبت في نفسه انهم أصابوا فيما فعلوه وانهم لم يميلوا إلى هوى
ولا أرادوا الدنيا وإنما فعلوا الأصلح في ظنونهم لأنه رأى من بغض الناس له وانحرافهم
عنه وميلهم عليه وثوران الأحقاد التي كانت في أنفسهم واحتدام النيران التي كانت
في قلوبهم وتذكروا التراث التي وتراهم فيما قبل بها والدماء التي سفكها
منهم وأرقها.

(1) خصمكم الأنصار: غلبوكم.
112

وتعلل طائفة أخرى منهم للعدول عنه بصغر سنه واستهجانهم تقديم الشباب على
الكهول والشيوخ.
وتعلل طائفة أخرى منهم بكراهية الجمع بين النبوة والخلافة في بيت واحد
فيجفخون (1) على الناس كما قاله من قاله واستصعاب قوم منهم شكيمته وخوفهم تعديه
وشدته وعلمهم بأنه لا يداجي ولا يحابي ولا يراقب ولا يجامل في الدين وأن الخلافة
تحتاج إلى من يجتهد برأيه ويعمل بموجب استصلاحه وانحراف قوم آخرين عنه
للحسد الذي كان عندهم له في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله لشدة اختصاصه له
وتعظيمه إياه وما قال فيه فأكثر من النصوص الدالة على رفعه شانه وعلو مكانه
وما اختص به من مصاهرته وإخوته ونحو ذلك من أحواله معه وتنكر قوم آخرين له
لنسبتهم إليه العجب والتيه كما زعموا واحتقاره العرب واستصغاره الناس كما عددوه عليه
وإن كانوا عندنا كاذبين ولكنه قول قيل وامر ذكر وحال نسبت إليه وأعانهم
عليها ما كان يصدر عنه من أقوال توهم مثل هذا نحو قوله (فانا صنائع ربنا والناس
بعد صنائع لنا) وما صح به عنده (2) أن الامر لم يكن ليستقيم له يوما واحدا ولا ينتظم
ولا يستمر وانه لو ولى الامر لفتقت العرب عليه فتقا يكون فيه استئصال شافة الاسلام
وهدم أركانه فأذعن بالبيعة وجنح إلى الطاعة وامسك عن طلب الامرة وإن كان
على مضض ورمض.
وقد روى عنه عليه السلام أن فاطمة عليها السلام حرضته يوما على النهوض والوثوب
فسمع صوت المؤذن (اشهد أن محمدا رسول الله) فقال لها أيسرك زوال هذا النداء
من الأرض قالت لا قال فإنه ما أقول لك.

(1) فيجحفون: يفخرون ويتكبرون.
(2) ب: " عنده " وما أثبته من ا
113

وهذا المذهب هو أقصد المذاهب وأصحها واليه يذهب أصحابنا المتأخرون من
البغداديين وبه يقول.
واعلم أن حال علي عليه السلام في هذا المعنى أشهر من أن يحتاج في الدلالة عليها إلى
الإسهاب والاطناب فقد رأيت انتقاض العرب عليه من أقطارها حين بويع بالخلافة بعد
وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله بخمس وعشرين سنة وفي دون هذه المدة تنسى
الأحقاد وتموت التراث وتبرد الأكباد الحامية وتسلو القلوب الواجدة ويعدم قرن
من الناس ويوجد قرن ولا يبقى من أرباب تلك الشحناء والبغضاء الا الأقل
فكانت حاله بعد هذه المدة الطويلة مع قريش كأنها حاله لو أفضت الخلافة إليه يوم وفاة
ابن عمه صلى الله عليه وآله من اظهار ما في النفوس وهيجان ما في القلوب حتى إن
الاخلاف من قريش والاحداث والفتيان الذين لم يشهدوا وقائعه وفتكاته في أسلافهم
وآبائهم فعلوا به ما لو كانت الأسلاف احياء لقصرت عن فعله وتقاعست عن بلوغ
شأوه فكيف كانت تكون حاله لو جلس على منبر الخلافة وسيفه بعد يقطر دما من
مهج العرب لا سيما قريش الذين بهم كان ينبغي - لو دهمه خطب - أن يعتضد وعليهم كان
يجب أن يعتمد اذن كانت تدرس اعلام الملة وتنعفي رسوم الشريعة وتعود الجاهلية
الجهلاء على حالها ويفسد ما أصلحه رسول الله صلى الله عليه وآله في ثلاث وعشرين
سنه في شهر واحد فكان من عناية الله تعالى بهذا الدين أن الهم الصحابة ما فعلوه والله
متم نوره ولو كره المشركون
114

[فصل في أن جعفرا وحمزة لو كان حيين لبايعا عليا]
وسالت النقيب أبا جعفر يحيى بن محمد بن أبي يزيد رحمه الله قلت له أتقول إن
حمزة وجعفرا لو كانا حيين يوم مات رسول الله صلى الله عليه وآله أكانا يبايعانه
بالخلافة فقال نعم كانا أسرع إلى بيعته من النار في يبس العرفج فقلت له أظن
أن جعفرا كان يبايعه ويتابعه وما أظن حمزة كذلك وأراه جبارا قوى النفس
شديد الشكيمة ذاهبا بنفسه شجاعا بهمة وهو العم والأعلى سنا وآثاره في الجهاد
معروفة وأظنه كان يطلب الخلافة لنفسه.
فقال الامر في أخلاقه وسجاياه كما ذكرت ولكنه كان صاحب دين متين
وتصديق خالص لرسول الله صلى الله عليه وآله ولو عاش لرأى من أحوال علي عليه
السلام مع رسول الله صلى الله عليه وآله ما يوجب أن يكسر له نخوته وأن يقيم له صعره
وأن يقدمه على نفسه وأن يتوخى رضا الله ورضا رسوله فيه وإن كان بخلاف ايثاره.
ثم قال أين خلق حمزة السبعي من خلق على الروحاني اللطيف الذي جمع بينه وبين
خلق حمزة فأنصفت بهما نفس واحدة وأين هيولانية نفس حمزة وخلوها من العلوم
من نفس على القدسية التي أدركت بالفطرة لا بالقوة التعليمية ما لم تدركه نفوس مدققي
الفلاسفة الإلهيين لو أن حمزة حيى حتى رأى من على ما رآه غيره لكان اتبع له من
ظله وأطوع له من أبي ذر والمقداد
اما قولك هو والعم والأعلى سنا فقد كان العباس العم والأعلى سنا وقد عرفت
ما بذله له وندبه إليه وكان أبو سفيان كالعم وكان أعلى سنا وقد عرفت ما عرضه عليه
ثم قال ما زالت الأعمام تخدم أبناء الاخوة وتكون اتباعا لهم الست ترى داود بن
115

على وعبد الله بن علي وصالح بن علي وسليمان بن علي وعيسى بن علي وإسماعيل
ابن علي وعبد الصمد بن علي خدموا ابن أخيهم - وهو عبد الله السفاح بن محمد بن علي -
وبايعوه وتابعوه وكانوا أمراء جيوشه وأنصاره وأعوانه الست ترى حمزة والعباس اتبعا ابن
أخيهما صلوات الله عليه وأطاعاه ورضيا برياسته وصدقا دعوته الست تعلم أن أبا طالب
كان رئيس بني هاشم وشيخهم والمطاع فيهم وكان محمد رسول الله صلى الله عليه وآله
يتيمه ومكفوله وجاريا مجرى أحد أولاده عنده ثم خضع له واعترف بصدقه ودان
لامره حتى مدحه بالشعر كما يمدح الأدنى الأعلى فقال فيه
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل (1)
يطيف به الهلاك من آل هاشم * فهم عنده في نعمة وفواضل
وإن سرا اختص به محمد صلى الله عليه وآله حتى أقام أبا طالب - وحاله معه حاله -
مقام المادح له لسر عظيم وخاصية شريفة وإن في هذا لمعتبر عبرة أن يكون هذا الانسان
الفقير الذي لا أنصار له ولا أعوان معه ولا يستطيع الدفاع عن نفسه فضلا عن أن يقهر
غيره تعمل دعوته وأقواله في الأنفس ما تعمله الخمر في الأبدان المعتدلة المزاج حتى تطيعه
أعمامه ويعظمه مربيه وكافله ومن هو إلى آخر عمره القيم بنفقته وغذاء بدنه وكسوة
جسده حتى يمدحه بالشعر كما يمدح الشعراء الملوك والرؤساء وهذا في باب المعجزات عند
المنصف أعظم من انشقاق القمر وانقلاب العصا ومن أنباء القوم بما يأكلون
وما يدخرون في بيوتهم.
ثم قال رحمه الله كيف قلت أظن أن جعفرا كان يبايعه ويتابعه ولا أظن في حمزة
ذلك إن كنت قلت ذلك لأنه أخوه فإنه أعلى منه سنا هو أكبر من على بعشر

(1) ديوانه 113 ثمال اليتامى: عمادهم وملاذهم.
عصمة للأرامل: حافظ للمساكين.
116

سنين وقد كانت له خصائص ومناقب كثيرة وقال فيه النبي صلى الله عليه وآله قولا
شريفا اتفق عليه المحدثون قال له لما افتخر هو وعلى وزيد بن حارثة وتحاكموا إلى
رسول الله صلى الله عليه وآله (اشبهت خلقي وخلقي) فخجل فرحا ثم قال لزيد
(أنت مولانا وصاحبنا) فخجل أيضا ثم قال لعلي (أنت أخي وخالصتي) قالوا
فلم يخجل قالوا كان ترادف التعظيم له وتكرره عليه لم يجعل عنده للقول ذلك الموضع
وكان غيره إذا عظم عظم نادرا فيحسن موقعه عنده واختلف الناس في أي
المدحتين أعظم.
فقلت له قد وقفت لأبي حيان التوحيدي في كتاب (البصائر) على فصل
عجيب يمازج ما نحن فيه قال في الجزء الخامس من هذا الكتاب سمعت قاضى القضاة
أبا سعد بشر بن الحسين - وما رأيت رجلا أقوى منه في الجدل - في مناظرة جرت بينه
وبين أبى عبد الله الطبري وقد جرى حديث جعفر بن أبي طالب وحديث إسلامه
والتفاضل بينه وبين أخيه على فقال القاضي أبو سعد إذا أنعم النظر علم أن اسلام جعفر
كان بعد بلوغ واسلام البالغ لا يكون الا بعد استبصار وتبين و معرفة بقبح ما يخرج
منه وحسن ما يدخل فيه وإن اسلام على مختلف في حاله وذلك أنه قد ظن أنه كان
عن تلقين لا تبيين إلى حين بلوغه واوان تعقبه ونظره وقد علم أيضا انهما قتلا
وإن قتله جعفر شهادة بالاجمال وقتله على فيها أشد الاختلاف ثم خص الله جعفرا بان
قبضه إلى الجنة قبل ظهور التباين واضطراب الحبل وكثرة الهرج وعلى انه لو انعقد
الاجماع وتظاهر جميع الناس على أن القتلتين شهادة لكانت الحال في الذي رفع
إليها جعفر أغلظ وأعظم وذلك أنه قتل مقبلا غير مدبر واما على فإنه اغتيل اغتيالا
وقصد من حيث لا يعلم وشتان ما بين من فوجئ بالموت وبين من عاين مخايل الموت
117

وتلقاه بالنحر والصدر وعجل إلى الله بالايمان والصدق الا تعلم أن جعفرا قطعت يمناه
فامسك اللواء بيسراه وقطعت يسراه فضم اللواء إلى حشاه ثم قاتله ظاهر الشرك
بالله وقاتل على ممن صلى إلى القبلة و شهد الشهادة وأقدم عليه بتأويل وقاتل جعفر
كافر بالنص الذي لا خلاف فيه اما تعلم أن جعفرا ذو الجناحين وذو الهجرتين إلى
الحبشة والمدينة.
قال النقيب رحمه الله اعلم - فداك شيخك - أن أبا حيان رجل ملحد زنديق يحب
التلاعب بالدين ويخرج ما في نفسه فيعزوه إلى قوم لم يقولوه وأقسم بالله أن القاضي
أبا سعد لم يقل من هذا الكلام لفظة واحدة ولكنها من موضوعات أبى حيان
وأكاذيبه وترهاته كما يسند إلى القاضي أبى حامد المروروذي كل منكر ويروى
عنه كل فاقرة.
ثم قال يا أبا حيان مقصودك أن تجعلها مسألة خلاف تثير بها فتنة بين الطالبيين
لتجعل بأسهم بينهم وكيف تقلبت الأحوال فالفخر لهم لم يخرج عنهم.
ثم ضحك رحمه الله حتى استلقى ومد رجليه وقال هذا كلام يستغنى عن الإطالة
في ابطاله باجماع المسلمين فإنه لا خلاف بين المسلمين في أن عليا أفضل من جعفر
وإنما سرق أبو حيان هذا المعنى الذي أشار إليه من رسالة المنصور أبى جعفر إلى محمد بن
عبد الله النفس الزكية قال له وكانت بنو أمية يلعنون أباك في أدبار الصلوات
المكتوبات كما تلعن الكفرة فعنفناهم وكفرناهم وبينا فضله وأشدنا بذكره فاتخذت
ذلك علينا حجة وظننت انه لما ذكرناه من فضله انا قدمناه على حمزة والعباس وجعفر
أولئك مضوا سالمين مسلمين منهم وابتلى أبوك بالدماء.
فقلت له رحمه الله وإذا لا اجماع في المسألة لان المنصور لم يقل بتفضيله عليهم
118

وأنت ادعيت الاجماع فقال إن الاجماع قد سبق هذا القائل وكل قول قد سبقه
الاجماع لا يعتد به.
فلما خرجت من عند النقيب أبى جعفر بحثت في ذلك اليوم في هذا الموضوع مع احمد
ابن جعفر الواسطي رحمه الله وكان ذا فضل وعقل وكان إمامي المذهب فقال لي
صدق النقيب فيما قال ا لست تعلم أن أصحابكم المعتزلة على قولين أحدهما أن أكثر المسلمين
ثوابا أبو بكر والاخر أن أكثرهم ثوابا على وأصحابنا يقولون أن أكثر المسلمين
ثوابا على وكذلك الزيدية واما الأشعرية والكرامية وأهل الحديث فيقولون
أكثر المسلمين ثوابا أبو بكر فقد خلص من مجموع هذه الأقوال أن ثواب حمزة وجعفر
دون ثواب علي عليه السلام اما على قول الإمامية والزيدية والبغداديين كافة وكثير
من البصريين من المعتزلة فالامر ظاهر واما الباقون فعندهم أن أكثر المسلمين ثوابا
أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم على ولم يذهب ذاهب إلى أن ثواب حمزة وجعفر أكثر
من ثواب على من جميع الفرق فقد ثبت الاجماع الذي ذكره النقيب إذا فسرنا الأفضلية
بالأكثرية ثوابا وهو التفسير الذي يقع الحجاج والجدال في اثباته لأحد الرجلين
وأما إذا فسرنا الأفضلية بزيادة المناقب والخصائص وكثرة النصوص الدالة على التعظيم
فمعلوم أن أحدا من الناس لا يقارب عليا عليه السلام في ذلك لا جعفر ولا حمزة
ولا غيرهما.
ثم وقع بيدي بعد ذلك كتاب لشيخنا أبى جعفر الإسكافي ذكر فيه أن مذهب
بشر بن المعتمر وأبي موسى وجعفر بن مبشر وسائر قدماء البغداديين أن أفضل
المسلمين علي بن أبي طالب ثم ابنه الحسن ثم ابنه الحسين ثم حمزة بن عبد المطلب
ثم جعفر بن أبي طالب ثم أبو بكر بن أبي قحافة ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان
بن عفان
119

قال والمراد بالأفضل أكرمهم عند الله وأكثرهم ثوابا وأرفعهم في دار
الجزاء منزلة.
ثم وقفت بعد ذلك على كتاب لشيخنا أبى عبد الله البصري يذكر فيه هذه المقالة
وينسبها إلى البغداديين وقال إن الشيخ أبا القاسم البلخي كان يقول بها وقبله الشيخ
أبو الحسين الخياط وهو شيخ المتأخرين من البغداديين قالوا كلهم بها فأعجبني هذا
المذهب وسررت بان ذهب الكثير من شيوخنا إليه ونظمته في الأرجوزة التي شرحت
فيها عقيدة المعتزلة فقلت
وخير خلق الله بعد المصطفى * أعظمهم يوم الفخار شرفا
السيد المعظم الوصي * بعل البتول المرتضى علي
وابناه ثم حمزة وجعفر * ثم عتيق بعدهم لا ينكر
المخلص الصديق ثم عمر * فاروق دين الله ذاك القسور
وبعده عثمان ذو النورين * هذا هو الحق بغير مين
120

(212)
الأصل:
ومن كلام له عليه السلام في ذكر السائرين إلى البصرة لحربه عليه السلام:
فقدموا على عمالي وخزان بيت مال المسلمين الذي في يدي وعلى أهل مصر
كلهم في طاعتي وعلى بيعتي فشتتوا كلمتهم وأفسدوا على جماعتهم ووثبوا على
شيعتي فقتلوا طائفة منهم غدرا وطائفة عضوا على أسيافهم فضاربوا بها حتى
لقوا الله صادقين
* * *
الشرح:
عضوا على أسيافهم كناية عن الصبر في الحرب وترك الاستسلام وهي كناية
فصيحة شبه قبضهم على السيوف بالعض وقد قدمنا ذكر ما جرى وأن عسكر
الجمل قتلوا طائفة من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام بالبصرة بعد أن آمنوهم غدرا وأن بعض
الشيعة صبر في الحرب ولم يستسلم وقاتل حتى قتل مثل حكيم بن جبلة العبدي وغيره وروى
(وطائفة عضوا على أسيافهم) بالرفع تقديره ومنهم طائفة.
قرأت في كتاب (غريب الحديث) لأبي محمد عبد الله بن قتيبة في حديث
حذيفة بن اليمان انه ذكر خروج عائشة فقال (تقاتل معها مضر مضرها الله في النار (1)

(1) قال ابن الأثير في شرحه للحديث (أي جعلها في النار فاشتق لذلك لفظا من اسمها يقال
مضرنا فلانا فتضمر اي صيرناه كذلك اي نسبناه إليها وقال الزمخشري مضرها جمعها كما يقال
جند الجنود وقيل مضرها أهلكها من قولهم ذهب دمه خضرا مضرا اي هدرا.
النهاية 98.
121

وأزد عمان سلت الله أقدامها (1) وإن قيسا لن تنفك تبغى دين الله شرا حتى يركبها
الله بالملائكة فلا يمنعوا ذنب تلعة) (2).
قلت هذا الحديث من اعلام نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله لأنه اخبار عن
غيب تلقاه حذيفة عن النبي صلى الله عليه وآله وحذيفة أجمع أهل السيرة على أنه مات
في الأيام التي قتل عثمان فيها اتاه نعيه وهو مريض فمات وعلي عليه السلام لم يتكامل
بيعه الناس ولم يدرك الجمل.
وهذا الحديث يؤكد مذهب أصحابنا في فسق أصحاب الجمل الا من ثبتت توبته
منهم وهم الثلاثة

(1) سلت الله أقدامها قطعها النهاية 2: 174
(2) التلاع مسايل الماء من علو إلى أسفل واحدها تلعة وذنب التلعة أسفلها قال الزمخشري
(اي يذلها الله حتى لا تقدر على أن تمنع ذنب تلعة. الفائق 3: 32.
122

(213)
الأصل:
ومن كلام له عليه السلام لما مر بطلحة بن عبيد الله وعبد الرحمن بن عتاب بن
أسيد وهما قتيلان يوم الجمل:
لقد أصبح أبو محمد بهذا المكان غريبا اما والله لقد كنت أكره أن
تكون قريش قتلى تحت بطون الكواكب أدركت وترى من بنى عبد مناف
وأفلتني أعيار بنى جمح لقد أتلعوا أعناقهم إلى أمر لم يكونوا أهله فوقصوا دونه
* * *
الشرح:
[عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد]
هو عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس ليس
بصحابي ولكنه من التابعين وأبوه عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس
من مسلمة الفتح ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله من مكة إلى حنين استعمله
عليها فلم يزل أميرها حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وبقى على حاله خلافه
أبى بكر الصديق ومات هو وأبو بكر في يوم واحد لم يعلم أحدهما بموت الاخر
وعبد الرحمن هذا هو الذي قال أمير المؤمنين فيه وقد مر به قتيلا يوم الجمل لهفي عليك
يعسوب قريش هذا فتى الفتيان هذا اللباب المحض من بنى عبد مناف شفيت نفسي
وقتلت معشري إلى الله أشكو عجري وبجري فقال له قائل لشد ما أطريت
123

الفتى يا أمير المؤمنين منذ اليوم قال إنه قام عنى وعنه نسوة لم يقمن عنك
وعبد الرحمن هذا هو الذي احتملت العقاب كفه يوم الجمل وفيها خاتمه فألقتها باليمامة
فعرفت بخاتمه وعلم أهل اليمامة بالوقعة.
* * *
ورأيت في شرح نهج البلاغة للقطب الراوندي في هذا الفصل عجائب وطرائف
فأحببت أن أوردها هاهنا منها أنه قال في تفسير قوله عليه السلام: (أدركت وترى (1) من
بنى عبد مناف) قال يعنى طلحة والزبير كانا من بنى عبد مناف وهذا غلط قبيح
لان طلحة من تيم بن مرة والزبير من أسد بن عبد العزى بن قصي وليس أحد
منهما من بنى عبد مناف وولد عبد مناف أربعة هاشم وعبد شمس ونوفل وعبد المطلب
فكل من لم يكن من ولد هؤلاء الأربعة فليس من ولد عبد مناف.
ومنها أنه قال إن مروان بن الحكم من بنى جمح ولقد كان هذا الفقيه رحمه الله
بعيدا عن معرفة الأنساب مروان من بنى أمية بن عبد شمس وبنو جمح من بن
هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب واسم جمح تيم بن عمرو بن هصيص وأخوه
سهم بن عمرو بن هصيص رهط عمرو بن العاص فأين هؤلاء وأين مروان
ابن الحكم.
ومنها أنه قال (وأفلتتني أغيار بنى جمح) بالغين المعجمة قال هو جمع غير
الذي بمعنى (سوى) وهذا لم يرو ولا مثله مما يتكلم به أمير المؤمنين لركته
وبعده عن طريقته فإنه يكون قد عدل عن أن يقول (ولم يفلتني الا بنو جمح) إلى
مثل هذه العبارة الركيكة المتعسفة

(1) الوتر: الذحل والثأر.
124

[بنو جمح]
واعلم أنه عليه السلام اخرج هذا الكلام مخرج الذم لمن حضر الجمل مع عائشة زوجة
النبي صلى الله عليه وآله من بنى جمح فقال (وأفلتتني أعيار بنى جمح) جمع عير
وهو الحمار وقد كان معها منهم يوم الجمل جماعة هربوا ولم يقتل منهم الا اثنان فممن
هرب ونجا بنفسه عبد الله الطويل بن صفوان بن أمية بن خلف بن وهب بن حذافة
ابن جمح وكان شريفا وابن شريف وعاش حتى قتل مع ابن الزبير بمكة.
ومنهم يحيى بن حكيم بن صفوان بن أمية بن خلف عاش حتى استعمله عمرو بن
سعيد الأشدق على مكة لما جمع له بين مكة والمدينة فأقام عمرو بالمدينة ويحيى بمكة.
ومنهم عامر بن مسعود بن أمية بن خلف كان يسمى دحروجة الجعل لقصره وسواده
وعاش حتى ولاه زياد صدقات بكر بن وائل وولاه عبد الله بن الزبير بن
العوام الكوفة.
ومنهم أيوب بن حبيب بن علقمة بن ربيعة بن الأعور بن أهيب بن حذافة بن
جمح عاش حتى قتل بقديد قتلته الخوارج.
فهؤلاء الذين أعرف حضورهم الجمل مع عائشة من بنى جمح وقتل من بنى جمح مع
عائشة عبد الرحمن بن وهب بن أسيد بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح وعبد الله
ابن ربيعة بن دراج العنبس بن وهبان بن وهب بن حذافة بن جمح لا أعرف انه
قتل من بنى جمح ذلك اليوم غيرهما فان صحت الرواية (وأفلتني أعيان بنى جمح)
بالنون فالمراد رؤساءهم وساداتهم.
* * *
وأتلعوا أعناقهم رفعوها ورجل أتلع بين التلع أي طويل العنق وجيد تليع
أي طويل قال الأعشى
125

يوم تبدى لنا قتيلة عن جيد * تليع تزينه الأطواق (1)
ووقص الرجل إذا اندقت عنقه فهو موقوص ووقصت عنق الرجل أقصها
وقصا أي كسرتها ولا يجوز وقصت العنق نفسها.
الضمير في قوله عليه السلام: (لقد أتلعوا) يرجع إلى قريش أي راموا الخلافة
فقتلوا دونها.
فان قلت أتقول أن طلحة والزبير لم يكونا من أهل الخلافة إن قلت ذلك
تركت مذهب أصحابك وإن لم تقله خالفت قول أمير المؤمنين (لم يكونوا أهله).
قلت هما أهل للخلافة ما لم يطلبها أمير المؤمنين فإذا طلبها لم يكونا أهلا لها
لا هما ولا غيرهما ولولا طاعته لمن تقدم وما ظهر من رضاه به لم نحكم بصحة خلافته

(1) ديوانه: 140.
126

(214)
الأصل:
ومن كلام له عليه السلام:
قد أحيا عقله وأمات نفسه حتى دق جليله ولطف غليظة وبرق له
لامع كثير البرق فأبان له الطريق وسلك به السبيل وتدافعته الأبواب إلى
باب السلامة ودار الإقامة وثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه في قرار الامن والراحة
بما استعمل قلبه وأرضى ربه
* * *
الشرح:
يصف العارف يقول قد أحيا قلبه بمعرفة الحق سبحانه وأمات نفسه بالمجاهدة
ورياضة القوة البدنية بالجوع والعطش والسهر والصبر على مشاق السفر والسياحة.
حتى دق جليله أي حتى نحل بدنه الكثيف.
ولطف غليظه تلطفت أخلاقه وصفت نفسه فان كدر النفس في الأكثر إنما
يكون من كدر الجسد والبطنة - كما قيل - تذهب الفطنة
* * *
[فصل في مجاهدة النفوس وما ورد في ذلك من الآثار]
وتقول أرباب هذه الطريقة من لم يكن في بدايته صاحب مجاهدة لم يجد من هذه
الطريقة شمه.
127

وقال عثمان المغربي الصوفي من ظن أنه يفتح عليه شئ من هذه الطريقة أو يكشف
له عن سر من اسرارها من غير لزوم المجاهدة فهو غالط.
وقال أبو علي الدقاق من لم يكن في بدايته قومه لم يكن في نهايته جلسه.
ومن كلامهم الحركة بركة حركات الظواهر توجب بركات السرائر.
ومن كلامهم من زين ظاهرة بالمجاهدة حسن الله سرائره بالمشاهدة.
وقال الحسن الفرازيني هذا الامر على ثلاثة أشياء الا تأكل الا عند الفاقة
ولا تنام الا عند الغلبة ولا تتكلم الا عند الضرورة.
وقال إبراهيم بن أدهم لن ينال الرجل درجة الصالحين حتى يغلق عن نفسه باب
النعمة ويفتح عليها باب الشدة.
ومن كلامهم من كرمت عليه نفسه هان عليه دينه.
وقال أبو علي الروذباري إذا قال الصوفي بعد خمسة أيام انا جائع فالزموه
السوق ومروه بالكسب.
وقال حبيب بن أوس أبو تمام وهو يقصد غير ما نحن فيه ولكنه يصلح أن يستعمل
فيما نحن فيه
خذي عبرات عينك عن زماعي * وصوني ما أزلت من القناع (1)
أقلي قد أضاق بكاك ذرعي * وما ضاقت بنازلة ذراعي
أآلفة النحيب كم افتراق * أظل فكان داعية اجتماع

(1) ديوانه 2: 336 قال في شرحه يقول لها: نحي عن عزمي بكاءك وزماع اسم من أزمعت
وتقنعي بالقناع الذي ألقيتيه من رأسك.
128

فليست فرحة الأوبات الا * لموقوف على ترح الوداع (1)
تعجب إن رأت جسمي نحيلا * كان المجد يدرك بالصراع (2)
أخو النكبات من يأوي إذا ما * أطفن به إلى خلق وساع (3)
يثير عجاجة في كل فج * يهيم به عدى بن الرقاع (4)
ابن مع السباع الماء حتى * لخالته السباع من السباع
وقال أيضا:
فاطلب هدوءا بالتقلقل واستثر * بالعيس من تحت السهاد هجودا (5)
ما إن ترى الأحساب بيضا وضحا * الا بحيث ترى المنايا سودا (6)
وجاء في الحديث أن فاطمة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله بكسرة خبز
فقال ما هذه قالت قرص خبزته فلم تطب نفسي حتى أتيتك منه بهذه الكسرة
فأكلها وقال (اما انها لأول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاث).
وكان يقال ينابيع الحكمة من الجوع وكسر عادية النفس بالمجاهدة.

(1) قال في شرحه (أي لمن يعرف ترح الوداع من قولهم وقفت فلانا على أمري فهو موقوف
عليه أي من لم يجد ألما للفراق لم يجد فرحا باللقاء
(2) الديوان (توجع إن رأت)
(3) رواية الديوان:
فتى النكبات من يأوي إذا ما * قطفن به إلى خلق وساع
وقال في شرحه (قطفن من قولهم دابة قطوف ويروى (أطفن به) ويروى (أضفن به)
يقول هو صاحب النكبات والشدائد يرتكبها ويأوي إلى خلق واسع إذا ضيقن في مذاهبه
وأحطن به)
(4) في الديوان (في كل ثغر)
(5) ديوانه 1: 416، 422 قال في شرحه (أي اطلب بالحركة في الاسفار سكونا ودعة فيما بعد
وبالأرق نوما وقوله (بالعيس) أي بركوب العيس ومن تحت السهاد أي من تحت الصبر على
السهاد (6) أي من لم يصبر في معركة الابطال لم يذكر.
129

وقال يحيى بن معاذ لو أن الجوع يباع في السوق لما كان ينبغي لطلاب الآخرة إذا
دخلوا السوق أن يشتروا غيره.
وقال سهل بن عبد الله لما خلق الله الدنيا جعل في الشبع المعصية والجهل وجعل
في الجوع الطاعة والحكمة.
وقال يحيى بن معاذ الجوع للمريدين رياضة وللتائبين تجربة وللزهاد سياسة
وللعارفين تكرمة.
وقال أبو سلمان الداراني مفتاح الدنيا الشبع ومفتاح الآخرة الجوع.
وقال بعضهم أدب الجوع الا ينقص من عادتك الا مثل اذن السنور هكذا على
التدريج حتى تصل إلى ما تريد.
ويقال إن أبا تراب النخشبي خرج من البصرة إلى مكة فوصل إليها على أكلتين
اكلة بالنباج وأكله بذات عرق.
قالوا وكان سهل بن عبد الله التستري إذا جاع قوى وإذا اكل ضعف.
وكان منهم من يأكل كل أربعين يوما اكله واحدة ومنهم من يأكل كل
ثمانين يوما اكله واحدة.
قالوا واشتهى أبو الخير العسقلاني السمك سنين كثيرة ثم تهيا له اكله من وجه
حلال فلما مد يده ليأكل أصابت إصبعه شوكة من شوك السمك فقام وترك
الاكل وقال يا رب هذا لمن مد يده بشهوة إلى الحلال فكيف بمن مد يده بشهوة
إلى الحرام.
وفي الكتاب العزيز (واما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فان
الجنة هي المأوى) (1) فالجملة الأولى هي التقوى والثانية هي المجاهدة.

(1) سورة النازعات 40، 41
130

وقال النبي صلى الله عليه وآله أخوف ما أخاف على أمتي اتباع الهوى وطول
الامل اما اتباع الهوى فيصد عن الحق واما طول الامل فينسى الآخرة).
وسئل بعض الصوفية عن المجاهدة فقال ذبح النفس بسيوف المخالفة.
وقال من نجمت طوارق نفسه أفلت شوارق أنسه.
وقال إبراهيم بن شيبان ما بت تحت سقف ولا في موضع عليه غلق (1) أربعين سنة
وكنت اشتهى في أوقات أن أتناول شبعه (2) عدس فلم يتفق ثم جملت إلى وانا بالشام
غضارة (3) فيها عدسية فتناولت منها وخرجت فرأيت قوارير معلقة فيها شبهة أنموذجات
فظننتها خلا فقال بعض الناس أتنظر إلى هذه وتظنها خلا وإنما هي خمر وهي
أنموذجات هذه الدنان - لدنان - هناك فقلت قد لزمني فرض الانكار فدخلت حانوت
ذلك الخمار لأكسر الدنان والجرار فحملت إلى ابن طولون فامر بضربي مائتي
خشبة وطرحي (4) في السجن فبقيت مدة حتى دخل أبو عبد الله الوباني المغربي
أستاذ ذلك البلد فعلم فقال إني
محبوس فشفع في فأخرجت إليه فلما وقع بصره على
قال أي شئ فعلت فقلت شبعة عدس ومائتي خشبه فقال لقد
نجوت مجانا.
وقال إبراهيم الخواص كنت في جبل فرأيت رمانا فاشتهيته فدنوت فأخذت
منه واحده فشققها فوجدتها حامضه فمضيت وتركت الرمان فرأيت رجلا مطروحا
قد اجتمع عليه الزنابير فسلمت عليه فرد على باسمي فقلت كيف عرفتني قال
من عرف الله لم يخف عليه شئ فقلت له أرى لك حالا مع الله فلو سألته أن يحميك
ويقيك من أذى هذه الزنابير فقال وارى لك حالا مع الله فلو سألته أن يقيك
من شهوة الرمان فان لذع الرمان يجد الانسان ألمه في الآخرة ولذع الزنابير

(1) الغلق هنا الباب
(2) الشبعة من الطعام: قدر ما يشبع به.
(3) الغضارة القصعة الكبيرة.
(4) كذا في ا، وفى ب: وطرحني).
131

يجد الانسان ألمه في الدنيا فتركته ومضيت على وجهي.
وقال يوسف بن أسباط لا يمحو الشهوات من القلب الا خوف مزعج
أو شوق مقلق.
وقال الخواص من ترك شهوة فلم يجد عوضها في قلبه فهو كاذب في تركها.
وقال أبو علي الرباطي صحت عبد الله المروزي وكان يدخل البادية قبل أن اصحبه
بلا زاد فلما صحبته قال لي أيما أحب إليك تكون أنت الأمير أم انا قلت بل
أنت فقال وعليك الطاعة قلت نعم فاخذ مخلاة ووضع فيها زادا وحملها على
ظهره فكنت إذا قلت له أعطني حتى أحملها قال الأمير انا وعليك الطاعة قال
فأخذنا المطر ليله فوقف إلى الصباح على رأسي وعليه كساء يمنع عنى المطر فكنت
أقول في نفسي يا ليتني مت ولم أقل له أنت الأمير ثم قال لي إذا صحبت انسانا فاصحبه
كما رأيتني صحبتك.
أبو الطيب المتنبي
ذريني أنل ما لا ينال من العلا * فصعب العلافي الصعب والسهل في السهل
تريدين ادراك المعالي رخيصة * ولا بد دون الشهد من أبر النحل
وله أيضا
وإذا كانت النفوس كبارا * تعبت في مرادها الأجسام (3).
ومن أمثال العامة من لم يغل دماغه في الصيف لم تغل قدره في الشتاء.
من لم يركب الاخطار لم ينل الأوطار

(1) ديوانه 3: 290.
(2) في الديوان (تريدين لقيان المعالي)
(3) ديوانه 3: 345.
132

. ادراك السول وبلوغ المأمول بالصبر على الجوع وفقد الهجوع وسيلان الدموع
واعلم أن تقليل المأكول لا ريب في أنه نافع للنفس والأخلاق والتجربة قد دلت
عليه لأنا نرى المكثر من الاكل يغلبه النوم والكسل وبلادة الحواس وتتبخر
المأكولات الكثيرة أبخرة كثيرة فتتصاعد إلى الدماغ فتفسد القوى النفسانية وأيضا
فان كثرة المأكل تزيل الرقة وتورث القساوة والسبعية والقياس أيضا يقتضى ذلك
لان كثرة المزاولات سبب لحصول الملكات فالنفس إذا توفرت على تدبير الغذاء
وتصريفه كان ذلك شغلا شاغلا لها وعائقا عظيما عن انصبابها إلى الجهة الروحانية
العالية ولكن ينبغي أن يكون تقليل الغذاء إلى حد وجب جوعا قليلا فان الجوع
المفرط يورث ضعف الأعضاء الرئيسة واضطرابها واختلال قواها وذلك يقتضى
تشويش النفس واضطراب الفكر واختلال العقل ولذلك تعرض الأخلاط السوداوية
لمن أفرط عليه الجوع فأذن لا بد من اصلاح أمر الغذاء بان يكون قليل الكمية
كثير الكيفية فتؤثر قلة كميته في أنه لا يشغل النفس بتدبير الهضم عن التوجه إلى الجهة
العالية الروحانية وتؤثر كثرة كيفيته في تدارك الخلل الحاصل له من قلة الكمية ويجب
أن يكون الغذاء شديد الامداد للأعضاء الرئيسة لأنها هي المهمة من أعضاء البدن
وما دمت باقيه على كمال حالها لا يظهر كثير خلل من ضعف غيرها من الأعضاء
133

[فصل في الرياضة لنفسية وأقسامها]
واعلم أن الرياضة والجوع هي أمر يحتاج إليه المريد الذي هو بعد في طريق السلوك
إلى الله.
وينقسم طالبوا هذا الامر الجليل الشاق إلى أقسام أربعة
أحدها الذين مارسوا العلوم الإلهية وأجهدوا أنفسهم في طلبها والوصول إلى كنهها
بالنظر الدقيق في الزمان الطويل فهو لا يحصل لهم شوق شديد وميل عظيم إلى الجهة
العالية الشريفة فيحملهم حب الكمال على الرياضة.
وثانيها الأنفس التي هي بأصل الفطرة والجوهر مائلة إلى الروحانية من غير ممارسة
علم ولا در به بنظر وبحث وقد رأينا مثلهم كثيرا وشاهدنا قوما من العامة متى سنح
لهم سانح مشوق مثل صوت مطرب أو انشاد بيت يقع في النفس أو سماع كلمة توافق
أمرا في بواطنهم فإنه يستولي عليهم الوجد ويشتد الحنين وتغشاهم غواش لطيفة
روحانية يغيبون بها عن المحسوسات والجسمانيات.
وثالثها نفوس حصل لها الأمران معا الاستعداد الأصلي والاشتغال بالعلوم
النظرية الإلهية.
ورابعها النفوس التي لا استعداد لها في الأصل ولا ارتضات بالعلوم الإلهية
ولكنهم (1) قوم سمعوا كمال هذه الطريقة وأن السعادة الانسانية ليست الا بالوصول إليها
فمالت نحوها وحصل لها اعتقاد فيها.
فهذه أقسام المريدين والرياضة التي تليق بكل واحد من هذه الأقسام غير الرياضة
اللائقة بالقسم الاخر.

(1) ا: (وكان)
134

ونحتاج قبل الخوض في ذلك إلى تقديم أمرين
أحدهما أن النفحات الإلهية دائمة مستمرة وانه كل من توصل إليها وصل قال
سبحانه وتعالى (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) وقال النبي صلى الله عليه
وآله
(إن لربكم في أيام عصركم نفحات الا فتعرضوا لنفحاته).
وثانيهما أن النفوس البشرية في الأكثر مختلفه بالنوع فقد تكون بعض النفوس
مستعدة غاية الاستعداد لهذا المطلب وربما لم تكن البتة مستعدة له وبين هذين
الطرفين أوساط مختلفة بالضعف والقوة.
وإذا تقرر ذلك فاعلم أن القسمين الأولين لما اختلفا فيما ذكرناه لا جرم اختلفا في
الكسب والمكتسب.
اما الكسب فان صاحب العلم الأولى به في الأكثر العزلة والانقطاع عن الخلق
لأنه قد حصلت له الهداية والرشاد فلا حاجة له إلى مخالطة أحد يستعين به على حصول
ما هو حاصل واما صاحب الفطرة الأصلية من غير علم فإنه لا يليق به العزلة لأنه
يحتاج إلى المعلم والمرشد فإنه ليس يكفي الفطرة الأصلية في الوصول إلى المعالم الإلهية
والحقائق الربانية ولا بد من موقف ومرشد في مبدأ الحال هذا هو القول في الكسب
بالنظر إليها.
واما المكتسب فان صاحب العلم إذا اشتغل بالرياضة كانت مشاهداته ومكاشفاته
أكثر كمية وأقل كيفية مما لصاحب الفطرة المجردة ما كثرة الكمية فلان قوته
النظرية تعينه على ذلك واما قلة الكيفية فلان القوة النفسانية تتوزع على تلك الكثرة
وكلما كانت الكثرة أكثر كان توزع القوة إلى أقسام أكثر وكان كل واحد منها

(1) سورة العنكبوت 69.
135

أضعف مما لو كانت الأقسام أقل عددا وإذا عرفت ذلك عرفت أن الامر في جانب
صاحب الفطرة الأصلية بالعكس من ذلك وهو أن مشاهداته ومكاشفاته تكون أقل
كميه وأكثر كيفية.
واما الاستعداد الثالث وهو النفس التي قد جمعت الفطرة الأصلية والعلوم الإلهية
النظرية بالنظر فهي النفس الشريفة الجليلة الكاملة.
وهذه الأقسام الثلاثة مشتركة في أن رياضتها القلبية يجب أن تكون زائدة في
الكم والكيف على رياضتها البدنية لان الغرض الأصلي هو رياضة القلب وطهارة
النفس وإنما شرعت الرياضات البدنية والعبادات الجسمانية لتكون طريقا إلى
تلك الرياضة الباطنة فإذا حصلت كان الاشتغال بالرياضة البدنية عبثا لان الوسيلة
بعد حصول المتوسل إليه فضله مستغنى عنها بل ربما كانت عائقة عن المقصود نعم
لابد من المحافظة على الفرائض خاصة لئلا تعتاد النفس الكسل وربما أفضى ذلك
إلى خلل في الرياضة النفسانية ولهذا حكى عن كثير من كبراء القوم قلة الاشتغال
بنوافل العبادات.
واما القسم الرابع وهو النفس التي خلت عن الوصفين معا فهذه النفس يجب
الا تكون رياضتها في مبدأ الحال الا بتهذيب الأخلاق بما هو مذكور في كتب الحكمة
الخلقية فإذا لانت ومرنت واستعدت للنفحات الإليهة حصل لها ذوق ما فأوجب
ذلك الذوق شوقا فأقبلت بكليتها على مطلوبها
136

[فصل أن الجوع يؤثر في صفاء النفس]
واعلم أن السبب الطبيعي في كون الجوع مؤثرا في صفاء النفس أن البلغم
الغالب على مزاج البدن يوجب بطبعه البلادة وإبطاء الفهم لكثرة الأرضية فيه
وثقل جوهرة وكثرة ما يتولد عنه من البخارات التي تسد المجاري وتمنع نفوذ الأرواح
ولا ريب أن الجوع يقتضى تقليل البلغم لان القوة الهاضمة إذا لم تجد غذاء تهضمه
عملت في الرطوبة الغريبة الكائنة في الجسد فكلما انقطع الغذاء استمر عملها في
البلغم الموجود في البدن فلا تزال تعمل فيه وتذيبه الحرارة الكائنة في البدن حتى يفنى
كل ما في البدن من الرطوبات الغريبة ولا يبقى الا الرطوبات الأصلية فان استمر
انقطاع الغذاء اخذت الحرارة والقوة الهاضمة في تنقيص الرطوبات الأصلية من جوهر البدن
فإن كان ذلك يسيرا والى حد ليس بمفرط لم يضر ذلك بالبدن كل الاضرار وكان
ذلك هو غاية الرياضة التي أشار أمير المؤمنين عليه السلام إليها بقوله (حتى دق جليلة)
ولطف غليظة) وإن أفرط وقع الحيف والإجحاف على الرطوبة الأصلية وعطب البدن
ووقع صاحبة في الدق والذبول وذلك منهي عنه لأنه قتل للنفس فهو كمن يقتل نفسه
بالسيف أو بالسكين
* * *
[كلام للفلاسفة والحكماء في المكاشفات الناشئة عن الرياضة]
واعلم أن قوله عليه السلام: (وبرق له لامع كثير البرق) هو حقيقة مذهب
الحكماء وحقيقة قول الصوفية أصحاب الطريقة والحقيقة وقد صرح به الرئيس أبو علي
ابن سينا في كتاب (الإشارات) فقال في ذكر السالك إلى مرتبة العرفان ثم إنه
137

إذا بلغت به الإرادة والرياضة حدا ما عنت له خلسات من اطلاع نور الحق إليه لذيذة
كأنها بروق تومض إليه ثم تخمد عنه وهي التي تسمى عندهم أوقاتا وكل وقت يكتنفه
وجد إليه ووجد عليه ثم إنه لتكثر عليه هذه الغواشي إذا أمعن في الارتياض
ثم إنه ليتوغل في ذلك حتى يغشاه في غير الارتياض فكلما لمح شيئا عاج منه إلى جانب
القدس فتذكر من امره أمرا فغشيه غاش فيكاد يرى الحق في كل شئ ولعله إلى
هذا الحد تستولي عليه غواشيه ويزول هو عن سكينته ويتنبه جليسه لاستنفاره عن
قراره فإذا طالت عليه الرياضة لم تستنفره غاشية وهدى للتأنس بما هو فيه ثم إنه لتبلغ
به الرياضة مبلغا ينقلب له وقته سكينة فيصير المخطوب مألوفا والوميض شهابا بينا ويحصل
له معارف مستمرة كأنها صحبة مستمرة ويستمتع فيها ببهجته فإذا انقلب عنها انقلب
حيران آسفا.
فهذه ألفاظ الحكيم أبى علي بن سينا في (الإشارات) وهي كما نراها مصرح فيها
بذكر البروق اللامعة للعارف.
وقال القشيري في الرسالة لما ذكر الحال والأمور الواردة على العارفين قال هي
بروق تلمع ثم تخمد وأنوار تبدو ثم تخفى ما أحلاها لو بقيت مع صاحبها ثم تمثل
بقول البحتري (1)
خطرت في النوم منها خطرة * خطرة البرق بدا ثم اضمحل
أي زور لك لو قصدا سرى * وملم بك لو حقا فعل.
فهو كما تراه يذكر البروق اللامعة حسبما ذكره الحكيم وكلاهما يتبع ألفاظ أمير
المؤمنين عليه السلام لأنه حكيم الحكماء وعارف العارفين ومعلم الصوفية ولولا أخلاقه

(1) ديوانه 2: 181
138

وكلامه وتعليمه للناس هذا الفن تارة بقوله وتارة بفعله لما اهتدى أحد من هذه الطائفة
ولا علم كيف يورد ولا كيف يصدر.
وقال القشيري أيضا في الرسالة المحاضرة قبل المكاشفة فإذا حصلت المكاشفة
فبعدها المشاهدة.
وقال وهي ارفع الدرجات قال فالمحاضرة حضور القلب وقد تكون بتواتر
البرهان والانسان بعد وراء الستر وإن كان حاضرا باستيلاء سلطان الذكر.
واما المكاشفة فهي حضور البين غير مفتقر إلى تأمل الدليل وتطلب السبيل ثم
المشاهدة وهي وجود الحق من غير بقاء تهمة.
وأحسن ما ذكر في المشاهدة قول الجنيد هي وجود الحق مع فقدانك.
وقال عمرو بن عثمان المكي المشاهدة أن تتوالى أنوار التجلي على القلب من غير أن
يتخللها ستر ولا انقطاع كما لو قدر اتصال البروق في الليلة المظلمة فكما انها تصير من
ذلك بضوء النهار فكذلك القلب إذا دام له التجلي مع النهار فلا ليل.
وأنشدوا شعرا:
ليلى بوجهك مشرق * وظلامه في الناس سار
فالناس في سدف الظلام * ونحن في ضوء النهار.
وقال الثوري لا تصح للعبد المشاهدة وقد بقي له عرق قائم.
وقالوا إذا طلع الصباح استغنى عن المصباح.
وأنشدوا أيضا
فلما استنار الصبح طوح ضوءه * بأنواره أنوار ضوء الكواكب
139

فجرعهم كأسا لو ابتليت لظى * بتجريعه طارت كأسرع ذاهب.
كأس وأي كأس تصطلمهم عنهم وتفنيهم وتخطفهم منهم ولا تبقيهم كأس لا
تبقى ولا تذر تمحو بالكلية ولا تبقى شظيه من آثار البشرية كما قال قائلهم
ساروا فلم يبق لا عين ولا أثر (1).
وقال القشيري أيضا هي ثلاث مراتب اللوائح ثم اللوامع ثم الطوالع فاللوائح
كالبروق ما ظهرت حتى استترت كما قال القائل:
فافترقنا حولا فلما التقينا * كان تسليمه على وداعا
وأنشدوا
يا ذا الذي زار وما زارا * كأنه مقتبس نارا
مر بباب الدار مستعجلا * ما ضره لو دخل الدارا.
ثم اللوامع وهي أظهر من اللوائح وليس زوالها بتلك السرعة فقد تبقى وقتين
وثلاثة ولكن كما قيل
العين باكية لم تشبع النظرا
أو كما قالوا:
وبلائي من مشهد ومغيب * وحبيب منى بعيد قريب
لم ترد ماء وجهه العين حتى * شرقت قبل ريها برقيب.
فأصحاب هذا المقام بين روح وفوح لأنهم بين كشف وستر يلمع ثم يقطع لا يستقر
لهم نور النهار حتى تكر عليه عساكر الليل فهم كما قيل
والليل يشملنا بفاضل برده * والصبح يلحفنا رداء مذهبا.
ثم الطوالع وهي أبقى وقتا وأقوى سلطانا وأدوم مكثا وأذهب للظلمة
وأنفى للمهمة. (2)

(1) الرسالة القشيرية 43.
(2) الرسالة القشيرية 43، 44.
140

أفلا ترى كلام القوم كله مشحون بالبروق واللمعان.
وكان مما نقم حامد بن العباس وزير المقتدر وعلي بن عيسى الجراح وزيره أيضا على
الحلاج انهما وجدا في كتبه لفظ (النور الشعشعاني) وذلك لجهالتهما مراد القوم
واصطلاحهم ومن جهل أمرا عاداه.
ثم قال عليه السلام (وتدافعته الأبواب إلى باب السلامة ودار الإقامة) أي لم يزل
ينتقل من مقام من مقامات القوم إلى مقام فوقه حتى وصل وتلك المقامات معروفة عند
أهلها ومن له انس بها وسنذكرها فيما بعد.
ثم قال (وثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه في قرار الامن والراحة بما استعمل قلبه وأرضى
ربه) أي كانت الراحة الكلية والسعادة الأبدية مستثمرة من ذلك التعب الذي تحمله
لما استعمل قلبه وراض جوارحه ونفسه حتى وصل كما قيل
عند الصباح يحمد القوم السرى * وتنجلي عنا غيابات الكرى (1).
وقال الشاعر:
تقول سليمي لو أقمت بأرضنا * ولم تدر فقال إني للمقام أطوف
وقال آخر:
ما ابيض وجه المرء في طلب العلا * حتى يسود وجهه في البيد
وقال:
فاطلب هدوءا بالتقلقل واستثر * بالعيس من تحت السهاد هجودا (2)
ما إن ترى الأحساب بيضا وضحا * الا بحيث ترى المنايا سودا

(1) مثل يضرب للرجل يحتمل المشقة رجاء الراحة وأول من قاله خالد بن الوليد في أبيات ذكرها
الميداني عند الكلام على مضرب المثل ومورده: (2: 2).
(2) لأبي تمام، ديوانه 1: 416.
141

(215)
الأصل:
ومن كلام له عليه السلام يحث فيه أصحابه على الجهاد:
والله مستأديكم شكره ومورثكم امره وممهلكم في مضمار ممدود
لتتنازعوا سبقه فشدوا عقد المآزر واطووا فضول الخواصر لا تجتمع عزيمة
ووليمة ما انقض النوم لعزائم اليوم وامحى الظلم لتذاكير الهمم
الشرح:
مستأديكم شكره أي طالب منكم أداء ذلك والقيام به استأديت ديني عند
فلان أي طلبته.
وقوله (ومورثكم امره) أي سيرجع أمر الدولة إليكم ويزول أمر بنى أمية.
ثم شبه الآجال التي ضربت للمكلفين ليقوموا فيها بالواجبات ويتسابقوا فيها إلى
الخيرات بالمضمار الممدود لخيل تتنازع فيه السبق.
ثم قال (فشدوا عقد المآزر) أي شمروا عن ساق الاجتهاد ويقال لمن يوصى
بالجد والتشمير اشدد عقدة إزارك لأنه إذا شدها كان أبعد عن العثار
وأسرع للمشي.
قوله (واطووا فضول الخواصر) نهى عن كثرة الاكل لان الكثير الاكل
لا يطوى فضول خواصره لامتلائها والقليل الاكل يأكل في بعضها ويطوي بعضها
قال الشاعر
142

كلوا في بعض بطنكم وعفو * فان زمانكم زمن خميص
وقال أعشى باهلة:
طاوي المصير على العزاء منصلت * بالقوم ليلة لا ماء ولا شجر (1)
وقال الشنفري
واطوى على الخمص الحوايا كما انطوت * خيوطه ماري تغار وتفتل (2)
* * *
ثم أتى عليه السلا بثلاثة أمثال مخترعة له لم يسبق بها وإن كان قد سبق بمعناها
وهي قوله (لا تجتمع عزيمة ووليمة) وقوله (ما انقض النوم العزائم اليوم) وقوله
(وامحى الظلم لتذاكير الهمم).
فمما جاء للمحدثين من ذلك ما كتبه بعض الكتاب إلى ولده
خدمة السلطان والكاسات * في أيدي الملاح
ليس يلتامان فاطلب * رفعه أو شرب راح.
ومثله قول آخر لولده:
ما للمطيع هواه * من الملام ملاذ
فاختر لنفسك هذا * مجد وهذا التذاذ.
وقال آخر
وليس فتى الفتيان من راح واغتدى * لشرب صبوح أو لشرب غبوق
ولكن فتى الفتيان من راح واغتدى * لضر عدو أو لنفع صديق.

(1) الكامل للمبرد 4: 65 قال في شرحه: (طاوي المصير) يقال لواحد المصران مصير
والعزاء: الامر الشديد يقال سيف منصلت وصلت إذا جرد من غمده.
(2) من لاميته وهي من نوادر القالي 203، 207.
143

وهذا كثير جدا يناسب قوله (لا تجتمع عزيمة ووليمة)
ومثل قوله (ما انقض النوم لعزائم اليوم) قول الشاعر
فتى لا ينام على عزمه * ومن صمم العزم لم يرقد
وقوله (وامحى الظلم لتذاكير الهمم) أي الظلم التي ينام فيها لا كل الظلم الا ترى
انه إذا لم ينم في الظلمة بل كان عنده من شدة العزم وقوة التصميم ما لا ينام معه فان
الظلمة لا تمحو تذاكير هممه والتذاكير جمع تذكار.
والمثلان الأولان أحسن من الثالث وكان الثالث من تتمه الثاني
وقد قالت العرب في الجاهلية هذا المعنى وجاء في القرآن العزيز (أم حسبتم أن
تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء
وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله الا إن نصر الله
قريب) (1).
وهذا مثل قوله (لا تجتمع عزيمة ووليمة) أي لا يجتمع لكم دخول الجنة والدعة
والقعود عن مشقة الحرب

(1) سورة البقرة 214.
144

(216)
الأصل:
ومن كلام له عليه السلام قاله بعد تلاوته (ألهاكم التكاثر حتى زرتم
المقابر).
يا له مراما ما أبعده وزورا ما أغفله وخطرا ما أفظعه لقد استخلوا منهم أي
مدكر وتناوشوهم من مكان بعيد
أفبمصارع آبائهم يفخرون أم بعديد الهلكى يتكاثرون
* * *
الشرح:
قد اختلف المفسرون في تأويل هاتين الآيتين فقال قوم المعنى انكم قطعتم أيام عمركم
في التكاثر بالأموال والأولاد حتى اتاكم الموت فكنى عن حلول الموت بهم
بزيارة المقابر.
وقال قوم بل كانوا يتفاخرون بأنفسهم وتعدى ذلك إلى أن تفاخروا بأسلافهم
الأموات فقالوا منا فلان وفلان - لقوم كانوا وانقرضوا.
وهذا هو التفسير الذي يدل عليه كلام أمير المؤمنين عليه السلام قال
(يا له مراما) منصوب على التمييز.
ما أبعده أي لا فخر في ذلك وطلب الفخر من هذا الباب بعيد وإنما الفخر بتقوى
الله وطاعته.
145

وزورا ما أغفله إشارة إلى القوم الذين افتخروا جعلهم بتذكر الأموات السالفين
كالزائرين لقبورهم والزور اسم للواحد والجمع كالخصم والضيف قال ما أغفلهم
عما يراد منهم لأنهم تركوا العبادة والطاعة وصرموا الأوقات بالمفاخرة بالموتى.
ثم قال (وخطرا ما أفظعه) إشارة إلى الموت أي ما أشده فظع الشئ بالضم فهو فظيع
أي شديد شنيع مجاوز للمقدار.
قوله (لقد استخلوا منهم أي مدكر) قال الراوندي أي وجدوا موضع
التذكر خاليا من الفائدة وهذا غير صحيح وكيف يقول ذلك وقد قال (وخطرا
ما أفظعه) وهل يكون أمر أعظم تذكيرا من الاعتبار بالموتى والصحيح انه أراد ب‍ (استخلوا)
ذكر من خلا من آبائهم أي من مضى يقال هذا الامر من الأمور الخالية وهذا القرن
من القرون الخالية أي الماضية.
واستخلى فلان في حديثه أي حدث عن أمور خالية والمعنى انه استعظم ما يوجبه
حديثهم عما خلا وعمن خلا من أسلافهم وآثار أسلافهم من التذكير فقال أي
مدكر (1) وواعظ في ذلك وروى أي مذكر بمعنى المصدر كالمعتقد بمعنى الاعتقاد
والمعتبر بمعنى الاعتبار.
(وتناوشوهم من مكان بعيد) أي تناولوهم والمراد ذكروهم وتحدثوا عنهم فكأنهم
تناولوهم وهذه اللفظة من ألفاظ القرآن العزيز (وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش
من مكان بعيد) (2) وأنى لهم تناول الايمان حينئذ بعد فوات الامر

(1) ا: (تذكر) وما أثبته من ب.
(2) سورة سبأ 52.
146

الأصل:
يرتجعون (1) منهم أجسادا خوت وحركات سكنت ولان يكونوا عبرا
أحق من أن يكونوا مفتخرا ولان يهبطوا بهم جناب ذلة أحجى من
أن يقوموا بهم مقام عزة
لقد نظروا إليهم بأبصار العشوة وضربوا منهم في غمرة جهالة
ولو استنطقوا عنهم عرصات تلك الديار الخاوية والربوع الخالية لقالت
ذهبوا في الأرض ضلالا وذهبتم في أعقابهم جهالا تطؤون في هامهم وتستنبتون
في أجسادهم وترتعون فيما لفظوا وتسكنون فيما خربوا وإنما الأيام بينكم
وبينهم بواك ونوائح عليكم
أولئكم سلف غايتكم وفراط مناهلكم الذين كانت لهم مقاوم العز
وحلبات الفخر ملوكا وسوقا
* * *
الشرح:
(يرتجعون منهم أجسادا) أي يذكرون آباءهم فكأنهم ردوهم إلى الدنيا
وارتجعوهم من القبور وخوت خلت.
قال وهؤلاء الموتى أحق بان يكونوا عبرة وعظه من أن يكونوا فخرا وشرفا
والمفتخرون بهم أولى بالهبوط إلى جانب الذلة منهم بالقيام مقام العز.
وتقول هذا أحجى من فلان أي أولى وأجدر والجناب الفناء.

(1) ب " ترجعون ".
147

ثم قال (لقد نظروا إليهم بأبصار العشوة) أي لم ينظروا النظر المفضى إلى
الرؤية لان أبصارهم ذات عشوة وهو مرض في العين ينقص به الابصار و في عين
فلان عشاء وعشوة بمعنى ومنه قيل لكل أمر ملتبس يركبه الراكب على غير بيان
أمر عشوة ومنه أوطأتني عشوة ويجوز بالضم والفتح.
قال (وضربوا بهم في غمرة جهالة) أي وضربوا من ذكر هؤلاء الموتى في بحر
جهل والضرب ها هنا استعارة أو يكون من الضرب بمعنى السير كقوله تعالى
(وإذا ضربتم في الأرض) (1) أي خاضوا وسبحوا من ذكرهم في غمرة جهالة
وكل هذا يرجع إلى معنى واحد وهو تسفيه رأى المفتخرين بالموتى والقاطعين الوقت
بالتكاثر بهم اعراضا عما يجب انفاقه من العمر في الطاعة والعبادة.
ثم قال (لو سألوا عنهم ديارهم التي خلت منهم) ويمكن أن يريد بالديار
والربوع القبور (لقالت ذهبوا في الأرض ضلالا) أي هالكين ومنه قوله تعالى
(وقالوا أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد) (2).
وذهبتم في أعقابهم أي بعدهم (جهالا) لغفلتكم وغروركم.
قوله عليه السلام: (تطؤون في هامهم) اخذ هذا المعنى أبو العلاء المعرى فقال
خفف الوطء ما أظن أديم الأرض * الا من هذه الأجساد (3)
رب لحد قد صار لحدا مرارا * ضاحك من تزاحم الأضداد

(1) سورة النساء 101.
(2) سورة السجدة 10.
(3) ديوانه سقط الزند 974، 975 مع اختلاف في الرواية وترتيب الأبيات وأديم الأرض ظاهرها.
148

ودفين على بقايا دفين * من عهود الاباء والأجداد (1)
صاح هذى قبورنا تملأ الأرض * فأين القبور من عهد عاد (2)
سر إن اسطعت في الهواء رويدا * لا اختيالا على رفات العباد.
قوله (وتستنبتون في أجسادهم) أي تزرعون النبات في أجسادهم وذلك لان أديم
الأرض الظاهر إذا كان من أبدان الموتى فالزرع لا محالة يكون نابتا في الاجزاء الترابية
التي هي أبدان الحيوانات وروى وتستثبتون بالثاء أي وتنصبون الأشياء الثابتة
كالعمد والأساطين للأوطان في أجساد الموتى.
ثم قال (وترتعون فيما لفظوا) لفظت الشئ بالفتح رميته من فمي ألفظه
بالكسر ويجوز أن يريد بذلك انكم تأكلون ما خلفوه وتركوه ويجوز أن يريد
انكم تأكلون الفواكه التي تنبت في اجزاء ترابية خالطها الصديد الجاري
من أفواههم
ثم قال (وتسكنون فيما خربوا) أي تسكنون في المساكن التي لم يعمروها بالذكر
والعبادة فكأنهم أخربوها في المعنى ثم سكنتم أنتم فيها بعدهم ويجوز أن يريد أن
كل دار عامرة قد كانت من قبل خربة وإنما أخربها قوم بادوا وماتوا فإذن لا ساكن
منا في عمارة الا ويصدق عليه انه ساكن فيما قد كان خرابا من قبل والذين أخربوه
الان موتى ويجوز أن يريد بقوله (وتسكنون فيما خربوا) وتسكنون في دور فارقوها
وأخلوها فأطلق على الخلو والفراغ لفظ (الخراب) مجازا.
قوله (وإنما الأيام بينكم وبينهم بواك ونوائح عليكم) يريد أن الأيام والليالي
تشيع رائحا إلى المقابر وتبكي وتنوح على الباقين الذين سيلتحقون به عن قريب.

(1) الديوان:
* في طويل الأزمان والآباد *
(2) الديوان: (تملأ الرجب).
149

قوله (أولئكم سلف غايتكم) السلف المتقدمون والغاية الحد الذي ينتهى
إليه اما حسيا أو معنويا والمراد هاهنا الموت.
والفرط القوم يسبقون الحي إلى المنهل.
ومقاوم العز دعائمه جمع مقوم وأصلها الخشبة التي يمسكها الحراث وحلبات
الفخر جمع حلبة وهي الخيل تجمع للسباق.
والسوق بفتح الواو جمع سوقه وهو من دون الملك
الأصل:
سلكوا في بطون البرزخ سبيلا سلطت الأرض عليهم فيه فأكلت من
لحومهم وشربت من دمائهم فأصبحوا في فجوات قبورهم جمادا ينمون
وضمارا لا يوجدون لا يفزعهم ورود الأهوال ولا يحزنهم تنكر الأحوال
ولا يحفلون بالرواجف ولا يأذنون للقواصف غيبا لا ينتظرون وشهودا
لا يحضرون وإنما كانوا جميعا فتشتتوا وآلافا فافترقوا
وما عن طول عهدهم ولا بعد محلهم عميت اخبارهم وصمت ديارهم
ولكنهم سقوا كأسا بدلتهم بالنطق خرسا وبالسمع صمما وبالحركات
سكونا فكأنهم في ارتجال الصفة صرعى سبات
جيران لا يتأنسون وأحباء لا يتزاورون بليت (1) بينهم عرا التعارف
وانقطعت منهم أسباب الإخاء فكلهم وحيد وهم جميع وبجانب الهجر
وهم أخلاء
لا يتعارفون لليل صباحا ولا لنهار مساء أي الجديدين ظعنوا فيه كان

(1) كذا في ا في ب (وبليت).
150

عليهم سرمدا شاهدوا من اخطار دارهم أفظع مما خافوا ورأوا من آياتها أعظم
مما قدروا فكلا الغايتين مدت لهم إلى مباءة فاتت مبالغ الخوف والرجاء
فلو كانوا ينطقون بها لعيوا بصفة ما شاهدوا وما عاينوا ولئن عميت آثارهم
وانقطعت اخبارهم لقد رجعت فيهم ابصار العبر وسمعت عنهم آذان العقول
وتكلموا من غير جهات النطق فقالوا كلحت الوجوه النواضر وخوت الأجسام
النواعم ولبسنا أهدام البلى وتكاءدنا ضيق المضجع وتوارثنا الوحشة
وتهدمت علينا الربوع الصموت فانمحت محاسن أجسادنا وتنكرت معارف
صورنا وطالت في مساكن الوحشة إقامتنا ولم نجد من كرب فرجا ولا من
ضيق متسعا
فلو مثلتهم بعقلك أو كشف عنهم محجوب الغطاء لك وقد ارتسخت
أسماعهم بالهوام فاستكت واكتحلت أبصارهم بالتراب فخسفت وتقطعت الألسنة
في أفواههم بعد ذلاقتها وهمدت القلوب في صدورهم بعد يقظتها وعاث في كل
جارحة منهم جديد بلى سمجها وسهل طرق الآفة إليها مستسلمات فلا أيد
تدفع ولا قلوب تجزع - لرأيت أشجان قلوب وأقذاء عيون لهم في كل
فظاعة صفة حال لا تنتقل وغمرة لا تنجلي
فكم اكلت الأرض من عزيز جسد وأنيق لون كان في الدنيا غذي ترف
وربيب شرف يتعلل بالسرور في ساعة حزنة ويفزع إلى السلوة إن مصيبة
نزلت به ظنا بغضارة عيشه وشحاحه بلهوه ولعبه فبينا هو يضحك إلى الدنيا
وتضحك إليه في ظل عيش غفول إذ وطئ الدهر به حسكه ونقضت الأيام
قواه ونظرت إليه الحتوف من كثب فخالطه بث لا يعرفه ونجى هم
151

ما كان يجده وتولدت فيه فترات علل آنس ما كان بصحته ففزع إلى ما كان
عوده الأطباء من تسكين الحار بالقار وتحريك البارد بالحار فلم يطفئ ببارد
الا ثور حرارة ولا حرك بحار الا هيج برودة ولا اعتدل بممازج لتلك
الطبائع الا أمد منها كل ذات داء حتى فتر معللة وذهل ممرضه وتعايا أهله
بصفة دائه وخرسوا عن جواب السائلين عنه وتنازعوا دونه شجى خبر يكتمونه
فقائل هو لما به وممن لهم إياب عافيته ومصبر لهم على فقده يذكرهم أسى
الماضين من قبله
فبينا هو كذلك على جناح من فراق الدنيا وترك الأحبة إذ عرض له
عارض من غصصه فتحيرت نوافذ فطنته ويبست رطوبة لسانه
فكم من مهم من جوابه عرفه فعي عن رده ودعاء مؤلم بقلبه سمعه
فتصام عنه من كبير كان يعظمه أو صغير كان يرحمه
وإن للموت لغمرات هي أفظع من أن تستغرق بصفة أو تعتدل على
عقول أهل الدنيا.
* * *
الشرح:
هذا موضع المثل (ملعا (1) يا ظليم والا فالتخوية) من أراد أن يعظ ويخوف
ويقرع صفاة القلب ويعرف الناس قدر الدنيا وتصرفها بأهلها فليأت بمثل هذه الموعظة
في مثل هذا الكلام الفصيح والا فليمسك فان السكوت استر والعي خير من
منطق يفضح صاحبه ومن تأمل هذا الفصل علم صدق معاوية في قوله فيه (والله ما سن

(1) الملع: السير السريع، ويقال: خوي الطائر إذا أرسل جناحيه
152

الفصاحة لقريش غيره) وينبغي لو اجتمع فصحاء العرب قاطبة في مجلس وتلي عليهم أن
يسجدوا له كما سجد الشعراء لقول عدى بن الرقاع
* قلم أصاب من الدواة مدادها (1) *.
فلما قيل لهم في ذلك قالوا انا نعرف مواضع السجود في الشعر كما تعرفون مواضع
السجود في القرآن
وإني لأطيل التعجب من رجل يخطب في الحرب بكلام يدل على أن طبعه مناسب
لطباع الأسود والنمور وأمثالهما من السباع الضارية ثم يخطب في ذلك الموقف بعينه
إذا أراد الموعظة بكلام يدل على أن طبعه مشاكل لطباع الرهبان لابسي المسوح الذين
لم يأكلوا لحما ولم يريقوا دما فتارة يكون في صورة بسطام بن قيس الشيباني وعتيبة
ابن الحارث اليربوعي وعامر بن الطفيل العامري وتارة يكون في صورة سقراط الحبر
اليوناني ويوحنا المعمدان الإسرائيلي والمسيح بن مريم الإلهي.
وأقسم بمن تقسم الأمم كلها به لقد قرأت هذه الخطبة منذ خمسين سنة والى الان
أكثر من الف مرة ما قرأتها قط الا وأحدثت عندي روعة وخوفا وعظة وأثرت
في قلبي وجيبا وفي أعضائي رعدة ولا تأملتها الا وذكرت الموتى من أهلي وأقاربي
وأرباب ودي وخيلت في نفسي فقال إني
انا ذلك الشخص الذي وصف عليه السلام حاله
وكم قد قال الواعظون والخطباء والفصحاء في هذا المعنى وكم وقفت على ما قالوه
وتكرر وقوفي عليه فلم أجد لشئ منه مثل تأثير هذا الكلام في نفسي فاما أن يكون
ذلك لعقيدتي في قائله أو كانت نية القائل صالحة ويقينه كان ثابتا وإخلاصه كان محضا

(1) صدره:
* تزجي أغن كان إبرة روقة *
153

خالصا فكان تأثير قوله في النفوس أعظم وسريان موعظته في القلوب أبلغ
* * *
ثم نعود إلى تفسير الفصل
فالبرزخ الحاجز بين الشيئين والبرزخ ما بين الدنيا والآخرة من وقت الموت
إلى البعث فيجوز أن يكون البرزخ في هذا الموضع القبر لأنه حاجز بين الميت وبين أهل
الدنيا كالحائط المبنى بين اثنين فإنه برزخ بينهما ويجوز أن يريد به الوقت الذي
بين حال الموت إلى حال النشور والأول أقرب إلى مراده عليه السلام لأنه قال (في
بطون البرزخ) ولفظة (البطون) تدل على التفسير الأول ولفظتا (اكلت الأرض من لحومهم
وشربت من دمائهم) مستعارتان.
والفجوات جمع فجوة وهي الفرجة المتسعة بين الشيئين قال سبحانه (وهم في
فجوة منه) (1) وقد تفاجى الشئ إذا صارت له فجوة.
وجمادا لا ينمون أي خرجوا عن صورة الحيوانية إلى صورة الجماد الذي لا ينمى
ولا يزيد ويروى (لا ينمون) بتشديد الميم من النميمة وهي الهمس والحركة ومنه
قولهم اسكت الله نامته في قول من شدد ولم يهمز.
وضمارا يقال لكل ما لا يرجى من الدين والوعد وكل ما لا تكون منه على
ثقة ضمار.
ثم ذكر أن الأهوال الحادثة في الدنيا لا تفزعهم وأن تنكر الأحوال بهم وباهل
الدنيا لا يحزنهم ويروى (تحزنهم) على أن الماضي رباعي.
ومثله قوله (لا يحفلون بالرواجف) أي لا يكترثون بالزلازل

(1) سورة الكهف 17
154

قوله (ولا يأذنون للقواصف) أي لا يسمعون الأصوات الشديدة أذنت لكذا
أي سمعته.
وجمع الغائب غيب وغيب وكلاهما مروي هاهنا وأراد انهم شهود في الصورة وغير
حاضرين في المعنى.
وآلاف على فعال جمع آلف كالطراق جمع طارق والسمار جمع سامر والكفار
جمع كافر.
* * *
ثم ذكر انه لم تعم اخبارهم أي لم تستبهم اخبارهم وتنقطع عن بعد عهد بهم
ولا عن بعد منزل لهم وإنما سقوا كأس المنون التي أخرستهم بعد النطق وأصمتهم بعد
السمع وأسكنتهم بعد الحركة.
وقوله (وبالسمع صمما) أي لم يسمعوا فيها نداء المنادى ولا نوح النائح أو لم
يسمع في قبورهم صوت منهم.
قوله (فكأنهم في ارتجال الصفة) أي إذا وصفهم الواصف مرتجلا غير مترو في
الصفة ولا متهئ للقول.
قال (كأنهم صرعى سبات) وهو نوم لأنه لا فرق في الصورة بين الميت حال موته
والنائم المسبوت
* * *
ثم وصفهم بأنهم جيران الا انهم لا مؤانسة بينهم كجيران الدنيا وانهم أحباء
الا انهم لا يتزاورون كالأحباب من أهل الدنيا.
وقوله (أحباء) جمع حبيب كخليل وأخلاء وصديق وأصدقاء.
ثم ذكر أن عرا التعارف قد بليت منهم وانقطعت بينهم أسباب الإخاء وهذه كلها
استعارات لطيفة مستحسنة.
155

ثم وصفهم بصفة أخرى فقال كل واحد منهم موصوف بالوحدة وهم مع
ذلك مجتمعون بخلاف الاحياء الذين إذا انضم بعضهم إلى بعض انتفى عنه
وصف الوحدة.
ثم قال (وبجانب الهجر وهم أخلاء) أي وكل منهم في جانب الهجر وهم مع ذلك
أهل خله ومودة أي كانوا كذلك وهذا كله من باب الصناعة المعنوية والمجاز الرشيق.
ثم قال إنهم لا يعرفون للنهار ليلا ولا لليل نهارا وذلك لان الواحد من البشر
إذا مات نهارا لم يعرف لذلك النهار ليلا ابدا وأن مات ليلا لم يعرف لذلك الليل صباحا
ابدا وقال الشاعر:
* * *
لا بد من يوم بلا ليلة * أو ليلة تأتى بلا يوم.
وليس المراد بقوله (أي الجديدين ظعنوا فيه كان عليهم سرمدا) انهم وهم موتى
يشعرون بالوقت الذي ماتوا فيه ولا يشعرون بما يتعقبه من الأوقات بل المراد أن صورة ذلك
الوقت لو بقيت عندهم لبقيت ابدا من غير أن يزيلها وقت آخر يطرأ عليها ويجوز
أن يفسر على مذهب من قال ببقاء الأنفس فيقال إن النفس التي تفارق ليلا تبقى
الصورة الليلية والظلمة حاصلة عندها ابدا لا تزول يطرآن نهار عليها لأنها قد فارقت
الحواس فلا سبيل لها إلى أن يرتسم فيها شئ من المحسوسات بعد المفارقة وإنما حصل
ما حصل من غير زيادة عليه وكذلك الأنفس التي تفارق نهارا
* * *
[بعض الاشعار والحكايات في وصف القبور والموتى]
واعلم أن الناس قد قالوا في حال الموتى فأكثروا فمن ذلك قول الرضى أبى الحسن
رحمه الله تعالى:
156

أعزز على بان نزلت بمنزل * متشابه الأمجاد بالأوغاد (1)
في عصبة جنبوا إلى آجالهم * والدهر يعجلهم عن الإرواد
ضربوا بمدرجة الفناء قبابهم * من غير اطناب ولا أعماد
ركب أناخوا لا يرجى منهم * قصد لاتهام ولا أنجاد
كرهوا النزول فأنزلتهم وقعة * للدهر باركة بكل مفاد
فتهافتوا عن رحل كل مذلل (2) * وتطاوحوا عن سرج كل جواد
بأدون في صور الجميع وانهم * متفردون تفرد الآحاد.
قوله (بأدون في صور الجميع) مأخوذ من قول أمير المؤمنين عليه السلام
(فكلهم وحيد وهم جميع).
وقال أيضا:
ولقد حفظت له فأين حفاظه * ولقد وفيت له فأين وفاؤه (3)
أوعى الدعاء فلم يجبه قطيعة * أم ضل عنه من البعاد دعاؤه
هيهات أصبح سمعه وعيانه * في الترب قد حجبتهما أقذاؤه
يمسي ولين مهادة حصباؤه * فيه ومؤنس ليله ظلماؤه
قد قلبت أعيانه وتنكرت * اعلامه وتكسفت أضواؤه

(1) من مرثيته لأبي إسحق الصابي ومطلعها:
أعلمت من حملوا على الأعواد * أرأيت كيف خبا ضياء النادي
ديوانه لوحة 129.
(2) الديوان (عن ظهر كل مذلل).
(3) ديوانه لوحة 116، من مرثية لبعض أصدقائه.
157

مغف وليس للذة إغفاؤه * مغض وليس لفكرة إغضاؤه
وجه كلمع البرق غاض وميضه * قلب كصدر العضب فل مضاؤه
حكم البلى فيه فلو تلقى به * أعداءه لرثى له أعداؤه
وقال أبو العلاء:
استغفر الله ما عندي لكم خبر * وما خطابي الا معشرا قبروا
أصبحتم في البلى غبرا ملابسكم * من الهباء فأين البرد والقطر (1)
كنتم على كل خطب فادح صبرا * فهل شعرتم وقد جادتكم الصبر (2)
وما درى يوم أحد بالذين ثووا * فيه ولا يوم بدر انهم نصروا
وقال أبو عارم الكلابي:
أجازعة ردينة أن اتاها * نعي أم يكون لها اصطبار
إذا ما أهل قبري ودعوني * وراحوا والأكف بها غبار
وغودر أعظمي في لحد قبر * تراوحه الجنائب والقطار
تهب الريح فوق محط قبري * ويرعى حوله اللهق النوار (3)
مقيم لا يكلمه صديق * بقبر لا أزور ولا أزار
فذاك النأي لا الهجران حولا * وحولا ثم تجتمع الديار.
مر الإسكندر بمدينة قد ملكها سبعة املاك من بيت واحد وبادوا فسال هل
بقي من نسلهم أحد قالوا بقي واحد وهو يلزم المقابر فدعا به فسأله لم تلزم المقابر
قال أردت أن أميز عظام الملوك من عظام عبيدهم فوجدتها سواء قال هل لك أن
تلزمني حتى أنيلك بغيتك قال لو علمت أنك تقدر على ذلك للزمتك قال وما بغيتك

(1) القطر من البرود
(2) الصبر السحابة البيضاء
(3) اللهق الثور الأبيض والنوار النافر.
158

قال حياة لا موت معها قال لن أقدر على ذلك قال فدعني اطلبه ممن
يقدر عليه.
قال النبي صلى الله عليه وآله (ما رأيت منظرا الا والقبر أفظع منه)
وقال صلى الله عليه وآله (القبر أول منزل من منازل الآخرة فمن نجا منه فما بعده
أيسر ومن لم ينج فما بعده شر له).
مر عبد الله بن عمر رضي الله عنه بمقبرة فصلى فيها ركعتين وقال ذكرت أهل
القبور وانه حيل بينهم وبين هذا فأحببت أن أتقرب بهما إلى الله.
* * *
فان قلت ما معنى قوله عليه السلام: (وبجانب الهجر) وأي فائدة في لفظة
(جانب) في هذا الموضع.
قلت لأنهم يقولون فلان في جانب الهجر وفي جانب القطيعة ولا يقولون
(في جانب الوصل) وفي (جانب المصافاة) وذلك أن لفظة (جنب)
في الأصل موضوعة للمباعدة ومنه قولهم (الجار الجنب) وهو جارك من
قوم غرباء يقال جنبت الرجل وأجنبته وتجنبته وتجانبته كله بمعنى ورجل
أجنبي وأجنب وجنب وجانب كله بمعنى.
قوله عليه السلام: (شاهدوا من اخطار دارهم) المعنى انه شاهد المتقون من آثار
الرحمة وأماراتها وشاهد المجرمون من آثار النقمة وأماراتها عند الموت والحصول في
القبر أعظم مما كانوا يسمعون ويظنون أيام كونهم في الدنيا.
ثم قال (فكلا الغايتين مدت لهم) المعنى مدت الغايتان غاية الشقي منهم
وغاية السعيد.
159

إلى مباءة أي إلى منزل يعظم حاله عن أن يبلغه خوف خائف أو رجاء راج وتلك
المباءة هي النار أو الجنة و تقول قد استباء الرجل أي اتخذ مباءة وأبات الإبل رددتها
إلى مباءتها وهي معاطنها.
ثم قال (فلو كانوا ينطقون بها لعيوا) بتشديد الياء قال الشاعر
عيوا بأمرهم كما * عيت ببيضتها الحمامة
جعلت لها عودين من * نشم وآخر من ثمامة.
وروى (لعيوا) بالتخفيف كما تقول (حيوا) قالوا ذهبت الياء الثانية لالتقاء
الساكنين لان الواو ساكنة وضمت الياء الأولى لأجل الواو قال الشاعر
وكنا حسبناهم فوارس كهمس * حيوا بعد ما ماتوا من الدهر اعصرا.
قوله (لقد رجعت فيهم) يقال رجع البصر نفسه ورجع زيد بصره يتعدى ولا
يتعدى يقول تكلموا معنى لا صورة فأدركت حالهم بالابصار والاسماع العقلية لا الحسية
وكلحت الوجوه كلوحا وكلاحا وهو تكشر في عبوس.
والنواضر النواعم والنضرة الحسن والرونق.
وخوت الأجساد النواعم خلت من دمها ورطوبتها وحشوتها ويجوز أن يكون
خوت أي سقطت قال تعالى (فهي خاوية على عروشها) (1) والاهدام جمع
هدم وهو الثوب البالي قال أوس
وذات هدم عار نواشرها * تصمت بالماء تولبا جذعا (2)

(1) سورة الحج 45.
(2) ديوانه 55 النواشر عصب الذراع الواحد ناشرة وبها سمى الرجل وأراد بالتولب طفلها
والجذع السئ الغذاء تضمته بالماء لأنه ليس لها لبن من شدة الضر
160

وتكاءدنا شق علينا ومنه عقبة كؤود ويجوز تكادنا جاءت هذه الكلمة
في أخوات لها (تفعل وتفاعل) بمعنى ومثله تعهد الضيعة وتعاهدها.
ويقال قوله (وتوارثنا الوحشة) كأنه لما مات الأب فاستوحش أهله منه
ثم مات الابن فاستوحش منه أهله أيضا صار كان الابن ورث تلك الوحشة من أبيه كما
تورث الأموال وهذا من باب الاستعارة.
قوله (وتهدمت علينا الربوع) يقال تهدم فلان على فلان غضبا إذا اشتد
غضبه ويجوز أن يكون تهدمت أي تساقطت وروى (وتهكمت) بالكاف وهو كقولك
(تهدمت) بالتفسيرين جميعا ويعنى بالربوع الصموت القبور وجعلها صموتا لأنه لا
نطق فيها كما تقول ليل قائم ونهار صائم أي يقام ويصام فيهما وهذا كله على طريق
الهز والتحريك واخراج الكلام في معرض غير المعرض المعهود جعلهم لو كانوا ناطقين
مخبرين عن أنفسهم [لأتوا] بما وصفه من أحوالهم وورد في الحديث أن عمر حضر جنازة
رجل فلما دفن قال لأصحابه قفوا ثم ضرب فأمعن في القبور واستبطاه الناس جدا
ثم رجع وقد احمرت عيناه وانتفخت أوداجه فقيل أبطأت يا أمير المؤمنين فما الذي
حبسك قال اتيت قبور الأحبة فسلمت فلم يردوا على السلام فلما ذهبت أقفي ناداني
التراب فقال الا تسألني يا عمر ما فعلت باليدين قلت ما فعلت بهما قال قطعت
الكفين من الرسغين وقطعت الرسغين من الذراعين وقطعت الذراعين من المرفقين
وقطعت المرفقين من العضدين وقطعت العضدين من المنكبين وقطعت المنكبين من
الكتفين فلما ذهبت أقفي ناداني التراب فقال ا لا تسألني يا عمر ما فعلت بالأبدان والرجلين
قلت ما فعلت قال قطعت الكتفين من الجنبين وقطعت الجنبين من الصلب وقطعت
الصلب من الوركين وقطعت الوركين من الفخذين وقطعت الفخذين من الركبتين
161

وقطعت الركبتين من الساقين وقطعت الساقين من القدمين فلما ذهبت أقفي ناداني
التراب فقال يا عمر عليك بأكفان لا تبلى فقلت وما أكفان لا تبلى قال تقوى
الله والعمل بطاعته وهذا من الباب الذي نحن بصدده نسب الأقوال المذكورة إلى
التراب وهو جماد ولم يكن ذلك ولكنه اعتبر فانقدحت في نفسه هذه المواعظ الحكمية
فأفرغها في قالب الحكاية ورتبها على قانون المسألة والإجابة وأضافها إلى جماد موات
لأنه أهز لسامعها إلى تدبرها ولو قال نظرت فاعتبرت في حال الموتى فوجدت التراب
قد قطع كذا من كذا لم تبلغ عظته المبلغ الذي بلغته حيث أودعها في الصورة التي اخترعها.
قوله عليه السلام: (فلو مثلتهم بعقلك أو كشف عنهم محجوب الغطاء لك) إلى آخر
جواب (لو) هذا الكلام اخذه ابن نباته بعينه فقال فلو كشفتم عنهم أغطية الأجداث
بعد ليلتين أو ثلاث لوجدتم الأحداق على الخدود سائلة والألوان من ضيق اللحود حائلة
وهوام الأرض في نواعم الأبدان جائلة والرؤوس الموسدة على الايمان زائلة ينكرها من
كان لها عارفا ويفر عنها من لم يزل لها آنفا.
قوله عليه السلام: (ارتسخت أسماعهم) ليس معناه ثبتت كما زعمة الراوندي لأنها لم
تثبت وإنما ثبتت الهوام فيها بل الصحيح انه من رسخ الغدير إذا نش ماؤه ونضب و
يقال قد ارتسخت الأرض بالمطر إذا ابتلعته حتى يلتقي الثريان.
واستكت أي ضاقت وانسدت قال النابغة
ونبئت خير الناس انك لمتني * وتلك التي تستك منها المسامع (1).

(1) ب (فيها) والبيت في ديوانه 53 وروايته
* اتاني أبيت اللعن انك لمتني *
162

قوله (واكتحلت أبصارهم بالتراب فخسفت) أي غارت وذهبت في الرأس
واخذ المتنبي قوله (واكتحلت أبصارهم بالتراب) فقال
يدفن بعضنا بعضا ويمشي * أواخرنا على هام الأوالي (1)
وكم عين مقبلة النواحي * كحيل بالجنادل والرمال
ومغض كان لا يغضي لخطب * وبال كان يفكر في الهزال
وذلاقة الألسن حدتها ذلق اللسان والسنان يذلق ذلقا أي ذرب فهو
ذلق وأذلق.
وهمدت بالفتح سكنت وخمدت وعاث أفسد وقوله (جديد بلى) من
فن البديع لان الجدة ضد البلى وقد اخذ الشاعر هذه اللفظة فقال
يا دار غادرني جديد بلاك * رث الجديد فهل رثيت لذاك
وسمجها قبح صورتها وقد سمج الشئ بالضم فهو سمج بالسكون مثل ضخم
فهو ضخم ويجوز فهو سمج بالكسر مثل خشن فهو خشن.
قوله (وسهل طرق الآفة إليها) وذلك أنه إذا استولى العنصر الترابي على
الأعضاء قوى استعدادها للاستحالة من صورتها الأولى إلى غيرها.
ومستسلمات أي منقادة طائعة غير عاصية فليس لها أيد تدفع عنها ولا لها
قلوب تجزع وتحزن لما نزل بها.
والأشجان جمع شجن وهو الحزن. و
الأقذاء جمع قذى وهو ما يسقط في العين فيؤذيها.

(1) ديوانه 3: 18 والأوالي الأوائل ولكنه قلب.
163

قوله صفة حال لا تنتقل أي لا تنتقل إلى حسن وصلاح وليس يريد لا تنتقل
مطلقا لأنها تنتقل إلى فساد واضمحلال.
ورجل عزيز أي حدث وعزيز الجسد أي طري وأنيق اللون معجب اللون
وغذي ترف قذ غذي بالترف وهو التنعم المطغي.
وربيب شرف أي قد ربى في الشرف والعز يقال رب فلان ولده يربه ربا
ورباه يربيه تربية.
ويتعلل بالسرور يتلهى به عن غيره ويفزع إلى السلوة يلتجئ إليها وضنا أي
بخلا وغضارة العيش نعيمة ولينة.
وشحاحة أي بخلا شححت بالكسر أشح وشححت أيضا بالفتح أشح
واشح بالضم والكسر شحا وشحاحة ورجل شحيح وشحاح بالفتح وقوم
شحاح وأشحة.
ويضحك إلى الدنيا وتضحك إليه كناية عن الفرح بالعمر والعيشة وكذا كل
واحد منهما يضحك إلى صاحبة لشدة الصفاء كان الدنيا تحبه وهو يحبها.
وعيش غفول قد غفل عن صاحبه فهو مستغرق في العيش لم ينتبه له الدهر
فيكدر عليه وقته قال الشاعر
وكان المرء في غفلات عيش كان الدهر عنها في وثاق
وقال الآخر:
الا إن أحلى العيش ما سمحت به * صروف الليالي والحوادث نوم.
قوله (إذ وطئ الدهر به حسكه) أي إذ أوطأه الدهر حسكه الهاء في
(حسكه) ترجع إلى الدهر عدى الفعل بحرف الجر كما تقول قام زيد بعمرو
أي أقامه.
164

وقواه جمع قوة وهي المرة من مرائر الحبل وهذا الكلام استعارة.
ومن كثب من قرب والبث الحزن والبث أيضا الامر الباطن الدخيل.
ونجى الهم ما يناجيك ويسارك والفترات أوائل المرض.
وآنس ما كان بصحته منصوب على الحال وقال الراوندي في الشرح هذا من
باب (اخطب ما يكون الأمير قائما) ثم ذكر أن العامل في الحال (فترات)
قال تقديره (فترات آنس ما كان) وما ذكره الراوندي فاسد فإنه ليس هذا من
باب (اخطب ما يكون الأمير قائما لان ذلك حال سد مسد خبر المبتدا وليس
هاهنا مبتدأ وأيضا فليس العامل في الحال (فترات) ولا (فتر) بل العامل
(تولدت) والقار البارد.
فان قلت لم قال (تسكين الحار بالقار وتحريك البارد بالحار) ولأي
معنى جعل الأول التسكين والثاني التحريك قلت لان من شان الحرارة التهييج
والتثوير فاستعمل في قهرها بالبارد لفظة (التسكين) ومن شان البرودة التخدير والتجميد
فاستعمل في قهرها بالحار لفظة (التحريك).
قوله (ولا اعتدل بممازج لتلك الطبائع الا أمد منها كل ذات داء) أي ولا استعمل
دواء مفردا معتدل المزاج أو مركبا كذلك الا وأمد كل طبيعة منها ذات مرض بمرض
زائد على الأول.
وينبغي أن يكون قوله (ولا اعتدل بممازج) أي ولا رام الاعتدال لممتزج
لأنه لو حصل له الاعتدال لكان قد برئ من مرضة فسمى محاولة الاعتدال اعتدالا
لأنه بالاستدلال المعتدلات قد تهيا للاعتدال فكان قد اعتدل بالقوة.
وينبغي أيضا أن يكون قد حذف مفعول (أمد) وتقديره (بمرض) كما قدرناه
نحن وحذف المفعولات كثير واسع.
165

قوله (حتى فتر معللة) لان معللي المرض في أوائل المرض يكون عندهم نشاط
لأنهم يرجون البرء فإذا رأوا أمارات الهلاك فترت همتهم.
قوله (وذهل ممرضة) ذهل بالفتح وهذا كالأول لان الممرض إذا أعيا عليه
المرض وانسدت عليه أبواب التدبير يذهل.
قوله (وتعايا أهله بصفة دائه) أي تعاطوا العي وتساكتوا إذا سئلوا عنه
وهذه عادة أهل المريض المثقل يجمجمون إذا سئلوا عن حاله.
قوله (وتنازعوا دونه شجى خبر يكتمونه أي تخاصموا في خبر ذي شجى
أي خبر ذي غصة يتنازعونه وهم حول المريض سترا دونه وهو لا يعلم بنجواهم وبما
يفيضون فيه من امره.
فقائل منهم هو لما به أي قد أشفى على الموت وآخر يمنيهم إياب عافيته أي
عودها آب فلان إلى أهله أي عاد.
وآخر يقول قد رأينا مثل هذا ومن بلغ إلى أعظم من هذا ثم عوفي فيمني
أهله عود عافيته.
وآخر يصبر أهله على فقده ويذكر فضيلة الصبر وينهاهم عن الجزع ويروى
لهم اخبار الماضين.
واسى أهليهم والأسى جمع أسوة وهو ما يتأسى به الانسان قالت الخنساء
وما يبكون مثل أخي ولكن أسلي النفس عنه بالتأسي (1).
قوله (على جناح من فراق الدنيا) أي سرعان ما يفارقها لان من كان على جناح
طائر فأوشك به أن يسقط.

(1) ديوانها 153 وروايته " وما يبكين "
166

قوله (إذ عرض له عارض) يعنى الموت ومن غصصه جمع غصة وهو
ما يعترض مجرى الأنفاس ويقال إن كل ميت من الحيوان لا يموت الا خنقا وذلك
لأنه من النفس يدخل فلا يخرج عوضة أو يخرج فلا يدخل عوضة ويلزم من ذلك
الاختناق لان الرئة لا تبقى حينئذ مروحة للقلب وإذا لم تروحه اختنق.
قوله (فتحيرت نوافذ فطنته) أي تلك الفطنة النافذة الثاقبة تحيرت عند
الموت وتبلدت.
قوله (ويبست رطوبة لسانه) لان الرطوبة اللعابية التي بها يكون الذوق
تنشف حينئذ ويبطل الاحساس باللسان تبعا لسقوط القوة.
قوله (فكم من مهم من جوابه عرفة فعي عن رده) نحو أن يكون له مال
مدفون يسال عنه حال ما يكون محتضرا فيحاول أن يعرف أهله به فلا يستطيع ويعجز
عن رد جوابهم وقد رأينا من عجز عن الكلام فأشار إشارة فهموا معناها وهي
الدواة والكاغد فلما حضر ذلك اخذ القلم وكتب في الكاغد ما لم يفهم ويده
ترعد ثم مات
قوله (ودعاء مؤلم لقلبه سمعه فتصام عنه) أظهر الصمم لأنه لا حيلة له.
ثم وصف ذلك الدعاء فقال (من كبير كان يعظمه) نحو صراخ الوالد على الولد
والولد يسمع ولا يستطيع الكلام (وصغير كان يرحمه) نحو صراخ الولد على الوالد وهو
يسمع ولا قدرة له على جوابه.
ثم ذكر غمرات الدنيا فقال إنها أفظع من أن تحيط الصفات بها وتستغرقها أي تأتى
على كنهها وتعبر عن حقائقها.
قوله (أو تعتدل على عقول أهل الدنيا) هذا كلام لطيف فصيح غامض ومعناه
167

أن غمرات الموت وأهواله عظيمة جدا لا تستقيم على العقول ولا تقبلها إذا شرحت لها
ووصفت كما هي على الحقيقة بل تنبو عنها ولا نصدق بما يقال فيها فعبر عن عدم
استقامتها على العقول بقوله (أو يعتدل) كأنه جعلها كالشئ المعوج عند العقل
فهو غير مصدق به
* * *
[ايراد اشعار وحكايات في وصف الموت وأحوال الموتى]
ومما يناسب ما ذكر من حال الانسان قول الشاعر:
بينا الفتى مرح الخطا فرحا بما * يسعى له إذ قيل قد مرض الفتى
إذ قيل بات بليلة ما نامها * إذ قيل أصبح مثقلا ما يرتجى
إذ قيل أمسى شاخصا وموجها * إذ قيل فارقهم وحل به الردى.
* * *
وقال أبو النجم العجلي:
والمرء كالحالم في المنام * يقول فقال إني مدرك أمامي
في قابل ما فاتني في العام * والمرء يدنيه إلى الحمام
مر الليالي السود والأيام * إن الفتى يصبح للأسقام
كالغرض المنصوب للسهام * أخطأ رام وأصاب رام.
وقال عمران بن حطان
أفي كل عام مرضه ثم نقهه * وينعى ولا ينعى متى ذا إلى متى
168

ولا بد من يوم يجئ وليلة * يسوقان حتفا راح نحوك أو غدا
وجاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله مر بمقبرة فنادى يا أهل
القبور الموحشة والربوع المعطلة الا أخبركم بما حدث بعدكم تزوج نساؤكم وتبوأت
مساكنكم وقسمت أموالكم هل أنتم مخبرون بما عاينتم ثم قال الا انهم لو
اذن لهم في الجواب لقالوا وجدنا خير الزاد التقوى.
ونظر الحسن إلى رجل يجود بنفسه فقال إن أمرا هذا آخره لجدير أن يزهد
في أوله وإن أمرا هذا أوله لجدير أن يخاف آخره.
* * *
وقال عبده بن الطبيب - ويعجبني قوله على الحال التي كان عليها فإنه كان اسود
لصا من لصوص بنى سعد بن زيد مناه بن تميم.
ولقد علمت بان قصري حفرة * غبراء يحملني إليها شرجع (1)
فبكى بناتي شجوهن وزوجتي * والأقربون إلى ثم تصدعوا
وتركت في غبراء يكره وردها * تسفى على الريح ثم أودع
إن الحوادث يخترمن وإنما * عمر الفتى في أهله مستودع
ونظير هذه الأبيات في رويها وعروضها قول متمم بن نويرة اليربوعي:
ولقد علمت ولا محالة إنني * للحادثات فهل تريني أجزع (2)
أهلكن عادا ثم آل محرق * فتركنهم بلدا وما قد جمعوا (3)

(1) من مفضليته 145 - 149 والشرجع خشب يشد بعضه إلى بعض كالسرير يحمل عليه الموتى.
(2) من مفضليته 48 - 54.
(3) بلدا أي ترابا.
169

ولهن كان الحارثان كلاهما * ولهن كان أخو المصانع تبع (1)
فعددت آبائي إلى عرق الثرى * فدعوتهم فعلمت أن لم يسمعوا
ذهبوا فلم أدركهم ودعتهم * غول أتوها والطريق المهيع
لا بد من تلف مصيب فانتظر * أبأرض قومك أم بأخرى تصرع
وليأتين عليك يوم مرة * يبكى عليك مقنعا لا تسمع (2)
* * *
لما فتح خالد بن الوليد عين التمر سال عن الحرقة بنت النعمان بن المنذر فدل
عليها فأتاها - وكانت عمياء - فسألها عن حالها فقالت لقد طلعت علينا الشمس
ما شئ يدب تحت الخورنق الا تحت أيدينا ثم غربت وقد رحمنا كل من يدور به
وما بيت دخلته حبره الا دخلته عبرة ثم قالت
وبينا نسوس الناس والامر أمرنا * إذا نحن فيه سوقه نتنصف
فأف لدنيا لا يدوم نعيمها * تقلب تارات بنا وتصرف
فقال قائل ممن كان حول خالد قاتل الله عدى بن زيد لكأنه ينظر إليها
حين يقول:
إن للدهر صرعة فاحذرنها * لا تبيتن قد آمنت الدهورا (3)
قد يبيت الفتى معافى فيردى * ولقد كان آمنا مسرورا
دخل عبد الله بن العباس على عبد الملك بن مروان يوم قر وهو على فرش

(1) الحارثان: هما الحارث الأصغر والحارث الأكبر الأعرج المصانع القصور تبع ملك من
ملوك اليمن.
(2) مقنع ملفف في أثوابه.
(3) الأغاني 2: 138 - 140.
170

يكاد يغيب فيها فقال يا بن عباس فقال إني لأحسب اليوم باردا قال اجل وإن
ابن هند عاش في مثل ما ترى عشرين أميرا وعشرين خليفة ثم هو ذاك على قبره
ثمامة تهتز.
فيقال إن عبد الملك أرسل إلى قبر معاوية فوجد عليه ثمامة نابتة.
* * *
كان محمد بن عبد الله بن طاهر في قصره ببغداد على دجلة فإذا بحشيش على وجه الماء
في وسطه قصبة على رأسها رقعة فامر بها فوجد هذا:
تاه الأعيرج واستولى به البطر * فقل لخير ما استعملته الحذر
أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت * ولم تخف سوء ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررت بها * وعند صفو الليالي يحدث الكدر
فلم ينتفع بنفسه أياما.
* * *
عدي بن زيد
أيها الشامت المعير بالدهر * أأنت المبرأ الموفور
أم لديك العهد الوثيق من الأيام بل أنت جاهل مغرور
من رأيت المنون خلدن أم من * ذا عليه من أن يضام خفير
أين كسرى كسرى الملوك أنوشروان * أم أين قبله سابور (1)
وبنو الأصفر الكرام ملوك الروم * ولم يبق منهم مذكور

(1) سابور الجنود هو ابن أردشير وسابور ذو الأكتاف هو سابور بن هرمز وكلاهما
من ملوك العجم.
171

وأخو الحضر إذ بناه وإذ دجلة * تجبى إليه والخابور (1)
لم يهبه ريب المنون فباد * الملك عنه فبابه مهجور
شاده مرمرا وجلله كلسا * فللطير في ذراه وكور (2)
وتبين رب الخورنق إذ أشرف * يوما وللهدى تفكير (3)
سره حاله وكثرة ما يملك والبحر معرضا والسدير (4)
فارعوى قلبه وقال فما غبطه * حي إلى الممات يصير
ثم بعد الفلاح والملك والأمة وارتهم هناك القبور (5)
ثم أضحوا كأنهم ورق جف * فألوت به الضبا والدبور (6)
قد اتفق الناس على أن هذه الأبيات أحسن ما قيل من القريض في هذا المعنى وأن
الشعراء كلهم أخذوا منها واحتذوا في هذا المعنى حذوها.
* * *
وقال الرضى أبو الحسن رضي الله عنه:
انظر إلى هذا الأنام بعبرة * لا يعجبنك خلقه ورواؤه (7)
فتراه كالورق النضير تقصفت * أغصانه وتسلبت شجراؤه (8)
انى تحاماه المنون وإنما * خلقت مراعى للردى خضراؤه
أم كيف تأمل فلتة أجساده * من ذا الزمان وحشوها أدواؤه

(1) الخابور اسم نهر كبير بين رأس عين والفرات من ارض الجزيرة.
(2) الكلس الصاروج وأخلاطها التي تصرج (تطلى) بها النزل وغيرها.
(3) في الأغاني (وتذكر).
(4) في الأغاني (سره ماله)
(5) الأمة النعمة.
(6) ألوت به أي ذهبت به.
(7) ديوانه لوحة 116.
(8) ديوانه (فبيناه).
172

لا تعجبن فما العجيب فناؤه * بيد المنون بل العجيب بقاؤه
انا لنعجب كيف حم حمامة * عن صحة ويغيب عنا داؤه
من طاح في سبل الردى آباؤه * فليسلكن طريقهم أبناؤه
ومؤمر نزلوا به في سوقه * لا شكله فيهم ولا نظراؤه (1)
قد كان يفرق ظله أقرانه * ويغض دون جلالة أكفاؤه (2)
ومحجب ضربت عليه مهابة * يعشي العيون بهاؤه وضياؤه
نادته من خلف الحجاب منية * أمم فكان جوابها حوباؤه (3)
شقت إليه سيوفه ورماحه * وأميط عنه عبيده وإماؤه
لم يغنه من كان ود لو أنه * قبل المنون من المنون فداؤه
حرم عليه الذل الا انه * ابدا ليشهد بالجلال بناؤه (4)
متخشع بعد الأنيس جنابه * متضائل بعد القطين فناؤه
عريان تطرد كل ريح تربه * ويطيع أول أمرها حصباؤه
ولقد مررت ببرزخ فسألته * أين الألى ضمتهم أرجاؤه
مثل المطي بواركا أجداثه * تسفى على جنباتها بوغاؤه (5)
ناديته فخفي على جوابه * بالقول الا ما زقت أصداؤه (6)

(1) الديوان (قرناؤه)
(2) يفرق يخاف ويهاب.
(3) أمم قريبة والحوباء النفس.
(4) حرم عليه حرام عليه.
(5) بواركا جمع بارك أو باركة البوغاء التراب.
(6) زقت صاحت الأصداء جمع صدى وهو حكاية الصوت في الجبال والكهوف والأماكن
العالية.
173

من ناظر مطروفة ألحاظه * أو خاطر مظلولة سوداؤه (1)
أو واجد مكظومة زفراته * أو حاقد منسية شحناؤه (2)
ومسندين على الجنوب كأنهم * شرب تخاذل بالطلا أعضاؤه
تحت الصعيد لغير اشفاق إلى * يوم المعاد يضمهم أحشاؤه
أكلتهم الأرض التي ولدتهم * اكل الضروس حلت له إكلاؤه
* * *
وقال أيضا:
وتفرق البعداء بعد تجمع * صعب فكيف تفرق القرباء (3)
وخلائق الدنيا خلائق مومس * للمنع آونة وللإعطاء (4)
طورا تبادلك الصفاء وتارة * تلقاك تنكرها من البغضاء
وتداول الأيام يبلينا كما * يبلى الرشاء تطاوح الارجاء (5)
وكان طول العمر روحة راكب * قضى اللغوب وجد في الاسراء (6)
لهفي على القوم الأولى غادرتهم * وعليهم طبق من البيداء (7)

(1) مطروقة من قولهم طرق فلان بصره إذا أطبق أحد جفنيه على الاخر ومطلولة من
قولهم طل دم فلان إذا ذهب هدرا.
(2) واجد من الوجد وهو الحزن.
(3) من مرثية لوالدته فاطمة بنت الناصر وأولها
أبكيك لو نفع الغليل بكائي * وأقول لو ذهب المقال بدائي
ديوانه لوحة 115.
(4) المومس المرأة الفاجر
(5) الرشاء الحبل يستقى به من البئر والأرجاء جمع رجا وهو ناحية البئر.
(6) روحة راكب راحته واللغوب الإعياء والإسراء سير الليل.
(7) الطبق وجه الأرض أو عطاء كل شئ.
174

متوسدين على الخدود كأنما * كرعوا على ظما من الصهباء
صور ضننت على العيون بلحظها * أمسيت أوقرها من البوغاء (1)
ونواظر كحل التراب جفونها * قد كنت أحرسها من الأقذاء
قربت ضرائحهم على زوارها * ونأوا عن الطلاب أي تناء (2)
ولبئس ما يلقى بعقر ديارهم * اذن المصيخ بها وعين الرائي (3)

(1) البوغاء التربة الرخوة
(2) الضرائح جمع ضريح وهو القبر.
(3) عقر ديارهم وسطها
175

(217)
الأصل:
ومن كلام له عليه السلام:
قاله عند تلاوته (يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة
ولا بيع عن ذكر الله) (1)
إن الله سبحانه وتعالى جعل الذكر جلاء للقلوب تسمع به بعد الوقرة وتبصر
به بعد العشوة وتنقاد به بعد المعاندة وما برح لله - عزت آلاؤه في البرهة
بعد البرهة وفي أزمان الفترات - عباد ناجاهم في فكرهم وكلمهم في ذات
عقولهم فاستصبحوا بنور يقظة في الاسماع والابصار والأفئدة يذكرون بأيام
الله ويخوفون مقامة بمنزلة الأدلة في الفلوات من اخذ القصد حمدوا إليه
طريقه وبشروه بالنجاة ومن اخذ يمينا وشمالا ذموا إليه الطريق
وحذروه من الهلكة وكانوا كذلك مصابيح تلك الظلمات وأدلة
تلك الشبهات.
وإن للذكر لأهلا أخذوه من الدنيا بدلا فلم تشغلهم تجارة ولا بيع
عنه يقطعون به أيام الحياة ويهتفون بالزواجر عن محارم الله في اسماع
الغافلين ويأمرون بالقسط ويأتمرون به وينهون عن المنكر ويتناهون عنه
فكأنهم قطعوا الدنيا إلى الآخرة وهم فيها فشاهدوا ما وراء ذلك فكأنما

(1) سورة النور 36، 37
176

اطلعوا غيوب أهل البرزخ في طول الإقامة فيه وحققت القيامة عليهم عداتها
فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدنيا حتى كأنهم يرون ما لا يرى الناس ويسمعون
مالا يسمعون
فلو مثلتهم لعقلك في مقاومهم المحمودة ومجالسهم المشهودة وقد نشروا
دواوين أعمالهم وفرغوا لمحاسبة أنفسهم على كل صغيرة وكبيرة أمروا بها فقصروا
عنها أو نهوا عنها ففرطوا فيها وحملوا ثقل أوزارهم ظهورهم فضعفوا عن
الاستقلال بها فنشجوا نشيجا وتجاوبوا نحيبا يعجون إلى ربهم من مقام
ندم واعتراف - لرأيت اعلام هدى ومصابيح دجى قد حفت بهم الملائكة
وتنزلت عليهم السكينة وفتحت لهم أبواب السماء واعدت لهم مقاعد الكرامات
في مقعد اطلع الله عليهم فيه فرضى سعيهم وحمد مقامهم
يتنسمون بدعائه روح التجاوز رهائن فاقه إلى فضله وأسارى ذلة لعظمته
جرح طول الأسى قلوبهم وطول البكاء عيونهم
لكل باب رغبة إلى الله منهم يد قارعة يسألون من لا تضيق لديه المنادح
ولا يخيب عليه الراغبون
فحاسب نفسك لنفسك فان غيرها من الأنفس لها حسيب غيرك
* * *
الشرح:
من قرا (يسبح له فيها) بفتح الباء (1) ارتفع (رجال) عنده بوجهين

(1) هي قراءة ابن عامر وأبي بكر بن مجاهد والباقون بكسرها وانظر أيضا إتحاف فضلاء البشر 325
177

أحدهما أن يضمر له فعل يكون هو فاعله تقديره (يسبحه رجال) وعلى
(يسبحه) يسبح كما قال الشاعر
ليبك يزيد ضارع لخصومة ومختبط مما تطيح الطوائح (1)
أي يبكيه ضارع ودل على (يبكيه) ل‍ (يبك).
والثاني أن يكون خبر مبتدأ محذف تقديره (المسبحون رجال) ومن قرا
(يسبح له فيها) بكسر الباء ف‍ (رجال) فاعل وأوقع لفظ (التجارة) في مقابلة لفظ
(البيع) اما لأنه أراد بالتجارة هاهنا الشراء خاصة أو لأنه عمم بالتجارة المشتملة على
البيع والشراء ثم خص البيع لأنه ادخل في باب الإلهاء لان البيع يحصل ربحه
بيقين وليس كذلك الشراء والذكر يكون تارة باللسان وتارة بالقلب فالذي
باللسان نحو التسبيح والتكبير والتهليل والتحميد والدعاء والذي بالقلب فهو التعظيم
والتبجيل والاعتراف والطاعة.
وجلوت السيف والقلب جلاء بالكسر وجلوت اليهود عن المدينة جلاء بالفتح.
والوقرة الثقل في الاذن والعشوة بالفتح فعله من العشا في العين
وآلاؤه نعمة.
فان قلت أي معنى تحت قوله عزت آلاؤه وعزت بمعنى قلت وهل
يجوز مثل ذلك في تعظيم الله.
قلت عزت هاهنا ليس بمعنى قلت ولكن بمعنى كرمت وعظمت
تقول منه عززت على فلان بالفتح أي كرمت عليه وعظمت عنده وفلان عزيز
علينا أي كريم معظم.

(1) البيت من شواهد مغني اللبيب 620.
178

والبرهة من الدهر المدة الطويلة ويجوز فتح الباء.
وأزمان الفترات ما يكون منها بين النوبتين.
وناجاهم في فكرهم ألهمهم بخلاف مناجاة الرسل ببعث الملائكة إليهم
وكذلك (وكلمهم في ذات عقولهم) فاستصبحوا بنور يقظة صار ذلك النور مصباحا
لهم يستضيئون به.
قوله (من اخذ القصد حمدوا إليهم طريقة) إلى هاهنا هي التي في قولهم احمد الله
إليك أي منهيا ذلك إليك أو مفضيا به إليك ونحو ذلك وطريقة العرب في الحذف
في مثل هذا معلومة قال سبحانه (ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة) (1) أي لجعلنا
بدلا منكم ملائكة وقال الشاعر
فليس لنا من ماء زمزم شربة * مبردة بانت على طهيان
أي عوضا من ماء زمزم.
قوله (ومن اخذ يمينا وشمالا) أي ضل عن الجادة.
و (إلى) في قوله (ذموا إليه الطريق) مثل (إلى) الأولى.
ويهتفون بالزواجر يصوتون بها هتفت الحمامة تهتف هتفا وهتف زيد بالغنم هتافا
بالكسر وقوس هتافه وهتفي أي ذات صوت.
والقسط العدل ويأتمرون به يمتثلون الامر.
وقوله (فكأنما قطعوا الدنيا إلى الآخرة) إلى قوله (ويسمعون ما لا يسمعون)
هو شرح قوله عن نفسه عليه السلام (لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا).
والأوزار الذنوب والنشيج صوت البكاء والمقعد موضع القعود.

(1) سورة الزخرف 60
179

ويد قارعة تطرق باب الرحمة وهذا الكلام مجاز.
والمنادح المواضع الواسعة.
و (على) في قوله (ولا يخيب عليه الراغبون) متعلقة بمحذوف مثل (إلى) المتقدم
ذكرها والتقدير (نادمين عليه).
والحسيب المحاسب.
* * *
واعلم أن هذا الكلام في الظاهر صفة حال القصاص والمتصدين لانكار المنكرات
الا تراه يقول (يذكرون بأيام الله) أي بالأيام التي كانت فيها النقمة بالعصاة ويخوفون
مقامه من قوله (ولمن خاف مقام ربه جنتان) (1) ثم قال فمن سلك القصد
حمدوه ومن عدل عن الطريق ذموا طريقة وخوفوه الهلاك ثم قال يهتفون بالزواجر
عن المحارم في اسماع الغافلين ويأمرون بالقسط وينهون عن المنكر.
وهذا كله ايضاح لما قلناه أولا أن ظاهر الكلام شرح حال القصاص وأرباب
المواعظ في المجامع والطرقات والمتصدين لانكار القبائح وباطن الكلام شرح حال
العارفين الذين هم صفوة الله تعالى من خلقه وهو عليه السلام دائما يكنى عنهم و يرمز
إليهم على أنه في هذا الموضع قد صرح بهم في قوله (حتى كأنهم يرون ما لا يرى الناس
ويسمعون ما لا يسمعون).
وقد ذكر من مقامات العارفين في هذا الفصل الذكر ومحاسبة النفس والبكاء
والنحيب والندم والتوبة والدعاء والفاقة والذلة والحزن وهو الأسى الذي ذكر انه
جرح قلوبهم بطوله

(1) سورة الرحمن 46.
180

[بيان أحوال العارفين]
وقد كنا وعدنا بذكر مقامات العارفين فيما تقدم وهذا موضعه فنقول إن أول
مقام من مقامات العارفين وأول منزل من منازل السالكين التوبة قال الله تعالى
(وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون) (1) وقال النبي صلى الله عليه وآله (التائب من الذنب كمن لا ذنب له)
وقال علي عليه السلام (ما من شئ أحب إلى الله من شاب تائب).
والتوبة في عرف أرباب هذه الطريقة الندم على ما عمل من المخالفة وترك الزلة في
الحال والعزم على الا يعود إلى ارتكاب معصية وليس الندم وحده عند هؤلاء توبة
وإن جاء في الخبر (الندم توبة) لأنه على وزان قوله عليه السلام: (الحج عرفة) ليس
على معنى أن غيرها ليس من الأركان بل المراد انه أكبر الأركان وأهمها ومنهم من قال
يكفي الندم وحدة لأنه يستتبع الركنين الآخرين لاستحالة كونه نادما على ما هو مصر
على مثله أو ما هو عازم على الاتيان بمثله.
قالوا وللتوبة شروط وترتيبات
فأول ذلك انتباه القلب من رقدة الغفلة ورؤية العبد ما هو عليه من سوء الحالة
وإنما يصل إلى هذه الجملة بالتوفيق للإصغاء إلى ما يخطر بباله من زواجر الحق سبحانه
يسمع قلبه فان في الخبر النبوي عنه صلى الله عليه وآله (واعظ كل حال الله في قلب
كل امرئ مسلم)
وفي الخبر (إن في بدن المرء لمضغة إذا صلحت صلح جميع البدن الا وهي القلب
وإذا فسدت فسد جميع البدن الا وهي القلب).

(1) سورة النور 31.
181

وإذا أفكر العبد بقلبه في سوء صنيعه وابصر ما هو عليه من ذميم الافعال
سنحت في قلبه إرادة التوبة والإقلاع عن قبيح المعاملة فيمده الحق سبحانه بتصحيح
العزيمة والاخذ في طرق الرجوع والتأهب لأسباب التوبة.
وأول ذلك هجران اخوان السوء فإنهم الذين يحملونه على رد هذا القصد و
عكس هذا العزم ويشوشون عليه صحة هذه الإرادة ولا يتم ذلك له الا بالمواظبة على المشاهد
والمجالس التي تزيده رغبة في التوبة وتوفر دواعيه إلى اتمام ما عزم عليه مما يقوى خوفه
ورجاءه فعند ذلك تنحل عن قلبه عقدة الاصرار على ما هو عليه من قبيح الفعال فيقف
عن تعاطى المحظورات ويكبح نفسه بلجام الخوف عن متابعة الشهوات فيفارق الزلة
في الحال ويلزم العزيمة على الا يعود إلى مثلها في الاستقبال فان مضى على موجب
قصده ونفذ على مقتضى عزمه فهو الموفق حقا وإن نقض التوبة مرة أو مرات ثم
حملته ارادته على تجديدها فقد يكون مثل هذا كثيرا فلا ينبغي قطع الرجاء عن توبة
أمثال هؤلاء فان لكل اجل كتابا وقد حكى عن أبي سليمان الداراني انه (1) قال
اختلفت إلى مجلس قاص فأثر كلامه في قلبي فلما قمت لم يبق في قلبي شئ فعدت
ثانيا فسمعت كلامه فبقي من كلامه في قلبي أثر في الطريق ثم زال ثم عدت ثالثا
فوقر كلامه في قلبي وثبت حتى رجعت إلى منزلي وكسرت آلات المخالفة
ولزمت الطريق.
وحكيت هذه الحكاية ليحيى بن معاذ فقال عصفور اصطاد كركيا يعنى
بالعصفور القاص وبالكركي أبا سليمان.
ويحكى أن أبا حفص الحداد ذكر بدايته فقال تركت ذلك العمل - يعنى
المعصية - كذا وكذا مرة ثم عدت إليها ثم تركني العمل فلم أعد إليه.

(1) ساقط من: ب.
182

وقيل إن بعض المريدين تاب ثم وقعت له فترة وكان يفكر ويقول ا ترى
لو عدت إلى التوبة كيف كان يكون حكمي فهتف به هاتف يا فلان أطعتنا فشكرناك
ثم تركتنا فأمهلناك وإن عدت إلينا قبلناك فعاد الفتى إلى الإرادة.
وقال أبو علي الدقاق التوبة على ثلاثة أقسام فأولها التوبة وأوسطها الإنابة
وآخرها الأوبة فجعل التوبة بداية والأوبة نهاية والإنابة واسطة بينهما والمعنى أن من
تاب خوفا من العقاب فهو صاحب التوبة ومن تاب طمعا في الثواب فهو صاحب
الإنابة ومن تاب مراعاة للامر فقط فهو صاحب الأوبة.
وقال بو على أيضا التوبة صفة المؤمنين قال سبحانه (وتوبوا إلى الله جميعا أيها
المؤمنون) والإنابة صفة الأولياء قال سبحانه (وجاء بقلب منيب) (2) والأوبة
صفة الأنبياء قال سبحانه (نعم العبد انه أواب) (3).
وقال الجنيد دخلت على السرى يوما فوجدته متغيرا فسألته فقال دخل على
شاب فسألني عن التوبة فقلت الا تنسى ذنبك فقال بل التوبة الا تذكر ذنبك
قال الجنيد فقلت له إن الامر عندي ما قاله الشاب قال كيف قلت لأني إذا
كنت في حال الجفاء فنقلني إلى حال الصفاء فذكر الجفاء في حال الصفاء جفاء
فسكت السرى.
وقال ذو النون المصري الاستغفار من غير إقلاع توبة الكذابين.
وسئل البوشنجي عن التوبة فقال إذا ذكرت الذنب ثم لا تجد حلاوته عند
ذكره فذاك حقيقة التوبة.

(1) سورة النور 31.
(2) سورة ق 33.
(3) سورة ص 30.
183

وقال ذو النون حقيقة التوبة أن تضيق عليك الأرض بما رحبت حتى لا يكون
لك قرار ثم تضيق عليك نفسك كما أخبر الله تعالى في كتابه بقوله (حتى إذا ضاقت
عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجا من الله الا
إليه ثم تاب عليهم) (1).
وقيل لأبي حفص الحداد لم تبغض الدنيا فقال لأني باشرت فيها الذنوب
قيل فهلا أحببتها لأنك وفقت فيها للتوبة فقال انا من الذنب على يقين ومن
هذه التوبة على ظن.
وقال رجل لرابعة العدوية فقال إني قد أكثرت من الذنوب والمعاصي فهل يتوب على
إن تبت قالت لا بل لو تاب عليك لتبت.
قالوا ولما كان الله تعالى يقول في كتابه العزيز (إن الله يحب التوابين) دلنا
ذلك على محبته لمن صحت له حقيقة التوبة ولا شبهة أن من قارف الزلة فهو من خطئه
على يقين فإذا تاب فإنه من القبول على شك لا سيما إذا كان من شرط القبول محبة
الحق سبحانه له والى أن يبلغ العاصي محلا يجد في أوصافه أمارة محبة الله تعالى إياه
مسافة بعيدة فالواجب إذا على العبد إذا علم أنه ارتكب ما يجب عنه التوبة دوام
الانكسار وملازمة التنصل والاستغفار كما قيل استشعار الوجل إلى الاجل.
وكان من سنته عليه السلام دوام الاستغفار وقال (انه ليغان على قلبي فاستغفر
الله في اليوم سبعين مره) (2).

(1) سورة التوبة 25.
(2) أورده ابن الأثير في النهاية 3: 180 وقال الغين وغينت السماء تغان إذا أطبق
عليها الغين وقيل الغين شجر ملتف أراد ما يغشاه من السهو الذي لا يخلو منه البشر لان
قلبه ابدا كان مشغولا بالله تعالى فان عرض له وقتا ما عارض بشرى يشغله من أمور الأمة والملة
ومصالحها عد ذلك ذنبا وتقصيرا فيفزع إلى الاستغفار)
184

وقال يحيى بن معاذ زلة واحدة بعد التوبة أقبح من سبعين قبلها.
ويحكى أن علي بن عيسى الوزير ركب في موكب عظيم فجعل الغرباء يقولون من
هذا من هذا فقالت امرأة قائمة على السطح إلى متى تقولون من هذا من هذا
هذا عبد سقط من عين الله فابتلاه بما ترون فسمع علي بن عيسى كلامها فرجع إلى
منزلة ولم يزل يتوصل في الاستعفاء من الوزارة حتى أعفي وذهب إلى مكة
فجاور بها.
* * *
ومنها المجاهدة وقد قلنا فيها ما يكفي فيما تقدم.
ومنها العزلة والخلوة وقد ذكرنا في جزء قبل هذا الجزء مما جاء في ذلك
طرفا صالحا.
* * *
ومنها التقوى وهي الخوف من معصية الله ومن مظالم العباد قال سبحانه (إن
أكرمكم عند الله أتقاكم) (1) وقيل إن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه
وآله فقال يا رسول الله أوصني فقال (عليك بتقوى الله فإنه جماع كل خير وعليك
بالجهاد فإنه رهبانية المسلم وعليك بذكر الله فإنه نور لك).
وقيل في تفسير قوله تعالى (اتقوا الله حق تقاته) (2) أن يطاع فلا يعصى
ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر.

(1) سورة الحجرات 13.
(2) سورة آل عمران 102.
185

وقال النصر آباذي من لزم التقوى بادر إلى مفارقة الدنيا لان الله تعالى يقول
(وللدار الآخرة خير للذين يتقون) (1).
وقيل يستدل على تقوى الرجل بثلاث التوكل فيما لم ينل والرضا (2) بما قد نال
وحسن الصبر على ما فات.
وكان يقال من كان رأس ماله التقوى كلت الألسن عن وصف ربحه.
وقد حكوا من حكايات المتقين شيئا كثيرا مثل ما يحكى عن ابن سيرين انه
اشترى أربعين حبا (3) سمنا فأخرج غلامه فارة من حب فسأله من أي حب أخرجها
قال لا أدري فصبها كلها.
وحكى أن أبا يزيد البسطامي غسل ثوبه في الصحراء ومعه مصاحب له فقال
صاحبه نضرب هذا الوتد في جدار هذا البستان ونبسط الثوب عليه فقال لا يجوز
ضرب الوتد في جدار الناس قال فنعلقه على شجرة حتى يجف قال يكسر الأغصان
فقال نبسطه على الإذخر (4) قال إنه علف الدواب لا يجوز أن نستره منها فولى ظهره
قبل الشمس وجعل القميص على ظهره حتى جف أحد جانبيه ثم قلبه حتى جف
الجانب الآخر.
* * *
ومنها الورع وهو اجتناب الشبهات وقال صلى الله عليه وآله لأبي هريرة (كن
ورعا تكن أعبد الناس)
وقال بو بكر كنا ندع سبعين بابا من الحلال مخافة أن نقع في باب واحد
من الحرام.

(1) سورة الأنعام 302.
(2) ب (الشكر) وما أثبته من: ا.
(3) الحب هنا الجرة.
(4) الإذخر الحشيش الأخضر.
186

وكان يقال الورع في المنطق أشد منه في الذهب والفضة والزهد في الرياسة أشد
منه في الذهب والفضة لأنك تبذلهما في طلب الرياسة.
وقال أبو عبد الله الجلاء أعرف من أقام بمكة ثلاثين سنة لم يشرب من ماء
زمزم الا ما استقاه بركوته ورشائه.
وقال بشر بن الحارث أشد الأعمال ثلاثة الجود في القلة والورع في الخلوة
وكلمة الحق عند من يخاف ويرجى.
ويقال إن أخت بشر بن الحارث (1) جاءت إلى أحمد بن حنبل فقالت انا
نعزل على سطوحنا فتمر بنا مشاعل الطاهرية فيقع شعاعها علينا ا فيجوز لنا الغزل في
ضوئها فقال احمد من أنت يا أمة الله قالت أخت بشر الحافي فبكى احمد
وقال من بيتكم خرج الورع لا تغزلي في ضوء مشاعلهم.
وحكى بعضهم قال مررت بالبصرة في بعض الشوارع فإذا بمشايخ قعود وصبيان
يلعبون فقلت اما تستحيون من هؤلاء المشايخ فقال غلام من بينهم هؤلاء المشايخ قل
ورعهم فقلت هيبتهم.
ويقال إن مالك بن دينار مكث بالبصرة أربعين سنة ما صح له أن يأكل من
تمر البصرة ولا من رطبها حتى مات ولم يذقه وكان إذا انقضى أوان الرطب يقول يا أهل البصرة
هذا بطني ما نقص منه شئ سواء على اكلت من رطبكم أو لم آكل.
وقال الحسن مثقال ذرة من الورع خير من ألف مثقال من الصوم والصلاة.
ودخل الحسن مكة فرأى غلاما من ولد علي بن أبي طالب قد أسند ظهره إلى

(1) هو بشر بن الحارث بن عبد الرحمن أبو نصر الحافي تاريخ بغداد 7: 67.
187

الكعبة وهو يعظ الناس فقال له الحسن ما ملاك الدين قال الورع قال فما
آفته قال الطمع فجعل الحسن يتعجب منه.
وقال سهل بن عبد الله من لم يصحبه الورع اكل رأس الفيل ولم يشبع.
وحمل إلى عمر بن عبد العزيز مسك من الغنائم فقبض على مشمة وقال إنما
ينتفع من هذا بريحه وانا أكره أن أجد ريحه دون المسلمين.
وسئل أبو عثمان الحريري عن الورع فقال كان أبو صالح بن حمدون عند صديق له
وهو في النزع فمات الرجل فنفث أبو صالح في السراج فأطفأه فقيل له في ذلك
فقال إلى الان كان الدهن الذي في المسرجة له فلما مات صار إلى الورثة.
* * *
ومنها الزهد وقد تكلموا في حقيقته فقال سفيان الثوري الزهد في الدنيا قصر الامل.
وقال الخواص الزهد أن تترك الدنيا فلا تبالي من اخذها.
وقال أبو سليمان الداراني الزهد ترك كل ما يشغل عن الله.
وقيل الزهد تحت كلمتين من القرآن العزيز (لكيلا لا تأسوا على ما فاتكم
ولا تفرحوا بما آتاكم) (1).
وكان يقال من صدق في زهده أتته الدنيا وهي راغمة ولهذا قيل لو سقطت قلنسوة
من السماء لما وقعت الا على رأس من لا يريدها.
وقال يحيى بن معاذ الزهد يسعطك (2) الخل والخردل والعرفان يشمك
المسك والعنبر.

(1) سورة الحديد 23.
(2) سعطه الدواء وغيره أدخله في أنفه.
188

وقيل لبعضهم ما الزهد في الدنيا قال ترك ما فيها على من فيها.
وقال رجل لذي النون المصري متى تراني أزهد في الدنيا قال إذا زهدت
في نفسك.
وقال رجل ليحيى بن معاذ متى تراني ادخل حانوت التوكل والبس رداء الزهد
واقعد بين الزاهدين فقال إذا صرت من رياضتك لنفسك في السر إلى حد لو قطع
الله عنك القوت ثلاثة أيام لم تضعف في نفسك ولا في يقينك فاما ما لم تبلغ إلى هذه
الدرجة فقعودك على بساط الزاهدين جهل ثم لا آمن أن تفتضح.
وقال أحمد بن حنبل الزهد على ثلاثة أوجه ترك الحرام وهو زهد العوام وترك
الفضول من الحلال وهو زهد الخواص وترك كل ما يشغلك عن الله وهو زهد العارفين.
وقال يحيى بن معاذ الدنيا كالعروس فطالبها كماشطتها تحسن وجهها وتعطر ثوبها
والزاهد فيها كضرتها تسخم وجهها وتنتف شعرها وتحرق ثوبها و العارف مشتغل بالله
لا يلتفت إليها ولا يشعر بها.
وكان النصر آباذي يقول في مناجاته يا من حقن دماء الزاهدين وسفك
دماء العارفين.
وكان يقال إن الله تعالى جعل الخير كله في بيت وجعل مفتاحه الزهد وجعل
الشر كله في بيت وجعل مفتاحه حب الدنيا.
* * *
ومنها الصمت وقدمنا فيما سبق من الاجزاء نكتا نافعه في هذا المعنى ونذكر
الان شيئا آخر
قال رسول الله صلى الله عليه وآله (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذين
جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر
فليقل خيرا أو فليصمت).
189

وقال أصحاب هذا العلم الصمت من آداب الحضرة قال الله تعالى (وإذا قرئ
القرآن فاستمعوا له وانصتوا) (1).
وقال مخبرا عن الجن (فلما حضروه قالوا انصتوا) (2).
وقال الله تعالى مخبرا عن يوم القيامة (وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع
الا همسا) (3).
وقالوا كم بين عبد سكت تصونا عن الكذب والغيبة وعبد سكت لاستيلاء سلطان
الهيبة.
وأنشدوا:
أرتب ما أقول إذا افترقنا * واحكم دائما حجج المقال
فأنساها إذا نحن التقينا * وأنطق حين أنطق بالمحال.
وأنشدوا:
فيا ليل كمن حاجة لي مهمة * إذا جئتكم لم أدر بالليل ماهيا.
قالوا وربما كان سبب الصمت والسكوت حيرة البديهة فإنه إذا ورد كشف بغتة
خرست العبارات عند ذلك فلا بيان ولا نطق وطمست الشواهد فلا علم ولا حس
قال الله تعالى (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا انك
أنت علام الغيوب) (4) فاما إيثار أرباب المجاهدة الصمت فلما علموا في الكلام
من الآفات ثم ما فيه من حط النفس واظهار صفات المدح والميل إلى أن يتميز من بين
اشكاله بحسن النطق وغير ذلك من ضروب آفات الكلام وهذا نعت أرباب

(1) سورة الأعراف 204.
(2) سورة الأحقاف 29.
(3) سورة طه 108
(4) سورة المائدة 109
190

الرياضة وهو أحد أركانهم في حكم مجاهدة النفس ومنازلتها وتهذيب الأخلاق.
ويقال إن داود الطائي لما أراد أن يقعد في بيته اعتقد ان يحضر مجلس أبي حنيفة
لأنه كان تلميذا له ويقعد بين أضرابه من العلماء ولا يتكلم في مسالة على سبيل رياضته
نفسه فلما قويت نفسه على ممارسة هذه الخصلة سنة كاملة قعد في بيته عند ذلك
وآثر العزلة.
ويقال إن عمر بن عبد العزيز كان إذا كتب كتابا فاستحسن لفظه مزق
الكتاب وغيره.
وقال بشر بن الحارث إذا أعجبك الكلام فاصمت فإذا أعجبك الصمت فتكلم
وقال سهل بن عبد الله لا يصح لأحد الصمت حتى يلزم نفسه الخلوة ولا يصح
لأحد التوبة حتى يلزم نفسه الصمت.
* * *
ومنها الخوف قال الله تعالى (يدعون ربهم خوفا وطمعا) (1).
وقال تعالى (وإياي فارهبون) (2).
وقال (يخافون ربهم من فوقهم) (3).
وقال أبو علي الدقاق الخوف على مراتب خوف وخشية وهيبة.
فالخوف من شروط الايمان وقضاياه قال الله تعالى (فلا تخافوهم وخافون إن
كنتم مؤمنين) (4).
والخشية من شروط العلم قال الله تعالى (إنما يخشى الله من عباده العلماء) (5).

(1) سورة السجدة 16.
(2) سورة البقرة 40.
(3) سورة النحل 50.
(4) سورة آل عمران 175.
(5) سورة فاطر 28.
191

والهيبة من شروط المعرفة قال سبحانه (ويحذركم الله نفسه) (1).
وقال أبو عمر الدمشقي الخائف من يخاف من نفسه أكثر مما يخاف
من الشيطان.
وقال بعضهم من خاف من شئ هرب منه ومن خاف الله هرب إليه.
وقال أبو سليمان الداراني ما فارق الخوف قلبا الا خرب
* * *
ومنها الرجاء وقد قدمنا فيما قبل من ذكر الخوف والرجاء طرفا صالحا قال سبحانه
(من كان يرجو لقاء الله فان اجل الله لات) (2).
والفرق بين الرجاء والتمني وكون أحدهما محمودا والاخر مذموما أن التمني
الا يسلك طريق الاجتهاد والجد والرجاء بخلاف ذلك فلهذا كان التمني يورث
صاحبه الكسل.
وقال أبو علي الروذباري الرجاء والخوف كجناحي الطائر إذا استويا
استوى الطائر وتم طيرانه وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص وإذا ذهبا صار الطائر
في حد الموت.
وقال أبو عثمان المغربي من حمل نفسه على الرجاء تعطل ومن حمل نفسه على الخوف
قنط ولكن من هذا مرة ومن هذا مرة.
ومن كلام يحيى بن معاذ ويروى عن علي بن الحسين عليهما السلام يكاد رجائي
لك مع الذنوب يغلب رجائي لك مع الأعمال لأني أجدني اعتمد في الأعمال على

(1) سورة آل عمران 28.
(2) سورة العنكبوت 5.
192

الاخلاص وكيف أحرزها وانا بالآفة معروف وأجدني في الذنوب اعتمد على عفوك
وكيف لا تغفرها وأنت بالجود موصوف.
* * *
ومنها الحزن وهو من أوصاف أهل السلوك.
وقال أبو علي الدقاق صاحب الحزن يقطع من طريق الله في شهر ما لا يقطعه من فقد الحزن
في سنتين.
في الخبر النبوي صلى الله عليه وآله (إن الله يحب كل قلب حزين).
وفي بعض كتب النبوات القديمة (إذا أحب الله عبدا نصب في قلبه نائحة وإذا
أبغض عبدا جعل في قلبه مزمارا).
وروى أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان متواصل الأحزان دائم الفكر.
وقيل إن القلب إذا لم يكن فيه حزن خرب كما أن الدار إذا لم يكن فيها ساكن خربت.
وسمعت رابعة رجلا يقول وا حزناه فقالت قل وا قلة حزناه لو كنت محزونا
ما تهيا لك أن تتنفس.
وقال سفيان بن عيينة لو أن محزونا بكى في أمة لرحم الله تلك الأمة ببكائه.
وكان بعض هؤلاء القوم إذا سافر واحد من أصحابه يقول إذا رأيت محزونا فاقرئه
عنى السلام.
وكان الحسن البصري لا يراه أحد الا ظن أنه حديث عهد بمصيبة.
وقال وكيع يوم مات الفضيل ذهب الحزن اليوم من الأرض.
وقال بعض السلف أكثر ما يجده (1) المؤمن في صحيفته من الحسنات الحزن والهم.

(1) ب (يوجده) وما أثبته من ا.
193

وقال الفضيل أدركت السلف يقولون إن لله في كل شئ زكاة وزكاة العقل
طول الحزن.
* * *
ومنها الجوع وترك الشهوات وقد تقدم ذكر ذلك.
* * *
ومنها الخشوع والتواضع قال سبحانه (الذين هم في صلاتهم خاشعون) (1)
وفي الخبر النبوي عنه صلى الله عليه وآله (لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من
كبر ولا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من ايمان) فقال رجل يا رسول الله
إن المرء ليحب أن يكون ثوبة حسنا فقال (إن الله جميل يحب الجمال إنما المتكبر
من بطر الحق وغمص الناس)
وروى انس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يعود المريض ويشيع
الجنائز ويركب الحمار ويجيب دعوة العبد.
وكان يوم قريظة والنضير على حمار مخطوم بحبل من ليف عليه أكاف من ليف.
ودخل مكة يوم فتحها راكب بعير برحل خلق وإن ذقنه لتمس وسط الرحل
خضوعا لله تعالى وخشوعا وجيشه يومئذ عشرة آلاف.
قالوا في حد الخشوع هو الانقياد للحق وفي التواضع هو الاستسلام وترك
الاعتراض على الحكم.
وقال بعضهم الخشوع قيام القلب بين يدي الحق بهم مجموع.
وقال حذيفة بن اليمان أول ما تفقدون من دينكم الخشوع.

(1) سورة المؤمنين 2.
194

وكان يقال من علامات الخشوع أن العبد إذا اغضب أو خولف أو رد عليه استقبل
ذلك بالقبول.
وقال محمد بن علي الترمذي الخاشع من خمدت نيران شهوته وسكن دخان
صدره وأشرق نور التعظيم في قلبه فماتت حواسه وحيى قلبه وتطامنت جوارحه.
وقال الحسن الخشوع هو الخوف الدائم اللازم للقلب.
وقال الجنيد الخشوع تذلل القلوب لعلام الغيوب قال الله تعالى (وعباد الرحمن
الذين يمشون على الأرض هونا) أي خاشعون متواضعون.
ورأي بعضهم رجلا منقبض الظاهر منكسر الشاهد قد زوى منكبيه فقال
يا فلان الخشوع هاهنا - وأشار إلى صدره لا هاهنا - وأشار إلى منكبيه.
وروى أن رسول الله صلى الله عليه وآله رأى رجلا يعبث بلحيته في صلاته فقال
(لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه).
وقيل شرط الخشوع في الصلاة الا يعرف من على يمينه ولا من على شماله.
وقال بعض الصوفية الخشوع قشعريرة ترد على القلب بغتة عند مفاجأة
كشف الحقيقة.
وكان يقال من لم يتضع عند نفسه لم يرتفع عند غيره.
وقيل إن عمر بن عبد العزيز لم يكن يسجد الا على التراب.
وكان عمر بن الخطاب يسرع في المشي ويقول هو انجح للحاجة وابعد
من الزهو.
كان رجاء بن حياة ليلة عند عمر بن عبد العزيز وهو خليفة فضعف المصباح فقام
رجل ليصلحه فقال اجلس فليس من الكرم أن يستخدم المرء ضيفه فقال
195

أنبه (1) الغلام قال إنها أول نومة نامها ثم قام بنفسه فأصلح السراج فقال رجاء
ا تقوم إلى السراج وأنت أمير المؤمنين قال قمت وانا عمر ابن عبد العزيز ورجعت وانا عمر
ابن عبد العزيز.
وفي حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يعلف البعير
ويقم البيت ويخصف النعل ويرقع الثوب ويحلب الشاة ويأكل مع الخادم
ويطحن معها إذا أعيت وكان لا يمنعه الحياء أن يحمل بضاعته من السوق إلى منزل أهله
وكان يصافح الغنى والفقير ويسلم مبتدئا ولا يحقر ما دعى إليه ولو إلى حشف التمر
وكان هين المؤنة لين الخلق كريم السجية جميل المعاشرة طلق الوجه بساما من
غير ضحك محزونا من غير عبوس متواضعا من غير ذلة جوادا من غير سرف رقيق
القلب رحيما لكل مسلم ما تجشأ قط من شبع ولا مد يده إلى طبع.
وقال الفضيل أوحى الله إلى الجبال فقال إني
مكلم على واحد منكم نبيا فتطاولت
الجبال وتواضع طور سيناء فكلم الله عليه موسى لتواضعه.
سئل الجنيد عن التواضع فقال خفض الجناح ولين الجانب.
ابن المبارك التكبر على الأغنياء والتواضع للفقراء من التواضع.
وقيل لأبي يزيد متى يكون الرجل متواضعا قال إذا لم ير لنفسه مقاما ولا حالا
ولا يرى أن في الخلق من هو شر منه.
وكان يقال التواضع نعمة لا يحسد عليها والتكبر محنة لا يرحم منها والعز في
التواضع فمن طلبه في الكبر لم يجده.
وكان يقال الشرف في التواضع والعز في التقوى والحرية في القناعة.
يحيى بن معاذ التواضع حسن في كل أحد لكنه في الأغنياء أحسن والتكبر
سمج في كل أحد ولكنه في الفقراء أسمج.

(1) ب " انتبه " تصحيف
196

وركب زيد بن ثابت فدنا ابن عباس ليأخذ بركابه فقال مه يا بن عم رسول الله
فقال انا كذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا فقال زيد أرني يدك فأخرجها فقبلها فقال
هكذا أمرنا أن نفعل باهل بيت نبينا.
وقال عروة بن الزبير رأيت عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى وعلى عاتقه
قربة ماء فقلت يا أمير المؤمنين انه لا ينبغي لمثلك هذا فقال إنه لما أتتني الوفود
سامعة مهادنة دخلت نفسي نخوة فأحببت أن أكسرها ومضى بالقربة إلى حجرة
امرأة من الأنصار فأفرغها في إنائها.
أبو سليمان الداراني من رأى لنفسه قيمة لم يذق حلاوة الخدمة.
يحيى بن معاذ التكبر على من تكبر عليك تواضع.
بشر الحافي سلموا على أبناء الدنيا بترك السلام عليهم
بلغ عمر بن عبد العزيز أن ابنا له اشترى خاتما بألف درهم فكتب إليه بلغني
انك اشتريت خاتما وفصه بألف درهم فإذا اتاك كتابي فبع الخاتم واشبع به الف
بطن واتخذ خاتما من درهمين واجعل فصه حديدا صينيا واكتب عليه (رحم الله
أمرا عرف قدرة).
قومت ثياب عمر بن عبد العزيز وهو يخطب أيام خلافته باثني عشر درهما وهي قباء
وعمامة وقميص وسراويل ورداء وخفان وقلنسوة.
وقال إبراهيم بن أدهم ما سررت قط سروري في أيام ثلاثة كنت في سفينة
وفيها رجل مضحك كان يلعب لأهل (1) السفينة فيقول كنا نأخذ العلج من بلاد
الترك هكذا ويأخذ بشعر رأسي فيهزني فسرني ذلك لأنه لم يكن في تلك السفينة
أحقر منى في عينه وكنت عليلا في مسجد فدخل المؤذن وقال اخرج فلم أطق فاخذ

(1) في الأصول " أهل ".
197

برجلي وجرني إلى خارج المسجد وكنت بالشام وعلى فرو فنظرت إليه فلم أميز بين الشعر
وبين القمل لكثرته.
عرض على بعض الامراء مملوك بألوف من الدراهم فاستكثر الثمن فقال العبد
اشترني يا مولاي ففي خصلة تساوى أكثر من هذا الثمن قال ما هي قال
لو قدمتني على جميع مماليك وخولتني بكل مالك لم أغلظ في نفسي بل اعلم انى
عبدك فاشتراه.
تشاجر أبو ذر وبلال فعير أبو ذر بلالا بالسواد فشكاه إلى رسول الله صلى الله
عليه وآله فقال يا أبا ذر ما علمت أنه قد بقي في قلبك شئ من كبر الجاهلية
فألقى أبو ذر نفسه وحلف الا يحمل رأسه حتى يطأ بلال خده بقدمه فما رفع رأسه
حتى فعل بلال ذلك
مر الحسن بن علي عليه السلام بصبيان يلعبون وبين أيديهم كسر خبز يأكلونها
فدعوه فنزل واكل معهم ثم حملهم إلى منزلة فأطعمهم وكساهم وقال الفضل لهم
لأنهم لم يجدوا غير ما أطعموني ونحن نجد أكثر مما أطعمناهم.
* * *
ومنها مخالفة النفس وذكر عيوبها وقد تقدم ذكر ذلك.
* * *
ومنها القناعة قال الله تعالى (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن
فلنحيينه حياة طيبة) (1) قال كثير من المفسرين هي القناعة.
وفي الحديث - النبوي ويقال انه من كلام أمير المؤمنين عليه السلام (القناعة
كنز لا ينفد)

(1) سورة النحل 57
198

وفى الحديث النبوي أيضا (كن ورعا تكن أعبد الناس وكن قنوعا تكن
اشكر الناس وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا وأحسن مجاورة من جاورك
تكن مسلما وأقل الضحك فان كثرة الضحك تميت القلب).
وكان يقال الفقراء أموات الا من أحياه الله تعالى بعز القناعة.
وقال أبو سليمان الداراني القناعة من الرضا بمنزلة الورع من الزهد هذا أول الرضا
وهذا أول الزهد.
وقيل القناعة سكون النفس وعدم انزعاجها عند عدم المألوفات.
وقيل في تفسير قوله تعالى (ليرزقنهم الله رزقا حسنا (1)) انه القناعة.
وقال أبو بكر المراغي العاقل من دبر أمر الدنيا بالقناعة والتسويف وأنكر
أبو عبد الله بن خفيف فقال القناعة ترك التسويف بالمفقود والاستغناء بالموجود.
وكان يقال خرج العز والغنى يجولان فلقيا القناعة فاستقرا.
وكان يقال من كانت قناعته سمينة طابت له كل مرقة.
مر أبو حازم الأعرج بقصاب فقال له خذ يا أبا حازم فقال ليس معي درهم
قال انا أنظرك قال نفسي أحسن نظرة لي منك.
وقيل وضع الله تعالى خمسة أشياء في خمسة مواضع العز في الطاعة والذل في
المعصية والهيبة في قيام الليل والحكمة في البطن الخالي والغنى في القناعة.
وكان يقال انتقم من فلان بالقناعة كما تنتقم من قاتلك بالقصاص.
ذو النون المصري من قنع استراح من أهل زمانه واستطال على أقرانه.
وأنشدوا
وأحسن بالفتى من يوم عار * ينال به الغنى كرم وجوع

(1) سورة الحج 58.
199

ورأي رجل حكيما يأكل ما تساقط من البقل على رأس الماء فقال له لو خدمت
السلطان لم تحتج إلى اكل هذا فقال وأنت لو قنعت بهذا لم تحتج إلى
خدمة السلطان.
وقيل العقاب عزيز في مطاره لا تسمو إليه مطامع الصيادين فإذا طمع في جيفة
علقت على حباله نزل من مطاره فنشب في الأحبولة.
وقيل لما نطق موسى بذكر الطمع فقال (لو شئت لاتخذت عليه أجرا) (1)
قال له الخضر (هذا فراق بيني وبينك) (1)
وفسر بعضهم قوله (هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي) (2) فقال
مقاما في القناعة لا يبلغه أحد.
* * *
ومنها التوكل قال الله تعالى (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) (3)
وقال سهل بن عبد الله أول مقام في التوكل أن يكون العبد بين يدي الله
تعالى كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف يشاء لا يكون له حركة
ولا تدبير.
وقال رجل لحاتم الأصم من أين تأكل فقال (ولله خزائن السماوات والأرض
ولكن المنافقين لا يفقهون) (4).
وقال أصحاب هذا الشأن التوكل بالقلب وليس ينافيه الحركة بالجسد بعد أن
يتحقق العبد أن التقدير من الله فان تعسر شئ فبتقديره وإن تسهل فبتيسيره.

(1) سورة الكهف 77، 78.
(2) سورة ص 35.
(3) سورة الطلاق 3.
(4) سورة المنافقون 7.
200

وفى الخبر النبوي انه عليه السلام قال للأعرابي الذي ترك ناقته مهملة فندت فلما
قيل له قال توكلت فتركتها فقال عليه السلام (أعقل وتوكل).
وقال ذو النون التوكل الانخلاع من الحول والقوة وترك تدبير الأسباب
وقال بعضهم التوكل رد العيش إلى يوم واحد باسقاط هم غد.
وقال أبو علي الدقاق التوكل ثلاث درجات التوكل وهو أدناها ثم التسليم
ثم التفويض فالأولى للعوام والثانية للخواص والثالثة لخواص الخواص.
جاء رجل إلى الشبلي يشكو إليه كثرة العيال فقال ارجع إلى بيتك فمن وجدت
منهم ليس رزقه على الله فأخرجه من البيت.
وقال سهل بن عبد الله من طعن في التوكل فقط طعن في الايمان ومن طعن في
الحركة فقد طعن في السنة.
وكان يقال المتوكل كالطفل لا يعرف شيئا يأوي إليه الا ثدي أمة كذلك المتوكل
لا يهتدى الا إلى ربه.
ورأي أبو سليمان الداراني رجلا بمكة لا يتناول شيئا الا شربة من ماء زمزم فمضت
عليه أيام فقال له يوما أرأيت لو غارت - أي زمزم - أي شئ كنت تشرب فقام
وقبل رأسه وقال جزاك الله خيرا حيث أرشدتني فإني كنت أعبد زمزم منذ أيام
ثم تركه ومضى.
وقيل التوكل نفى الشكوك والتفويض إلى مالك الملوك.
ودخل جماعة على الجنيد فقالوا نطلب الرزق قال إن علمتم في أي موضع هو
فاطلبوه قالوا فنسأل الله ذلك قال إن علمتم انه ينساكم فذكروه قالوا لندخل
البيت فنتوكل قال التجربة شك قالوا فما الحيلة قال ترك الحيلة.
201

وقيل التوكل الثقة بالله واليأس عما في أيدي الناس.
* * *
ومنها الشكر وقد تقدم منا ذكر كثير مما قيل فيه.
* * *
ومنها اليقين وهو مقام جليل قال الله تعالى (وبالآخرة هم يوقنون) (1)
وقال علي بن أبي طالب عليه السلام لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا.
وقال سهل بن عبد الله حرام على قلب أن يشم رائحة اليقين وفيه شكوى
إلى غير الله.
وذكر للنبي صلى الله عليه وآله ما يقال عن عيسى بن مريم عليه السلام انه مشى
على الماء فقال لو ازداد يقينا لمشى على الهواء
وفي الخبر المرفوع عنه صلى الله عليه وآله أنه قال لعبد الله بن مسعود (لا ترضين
أحدا بسخط الله ولا تحمدن أحدا على فضل الله ولا تذمن أحدا على ما لم يؤتك الله
واعلم أن الرزق لا يسوقه حرص حريص ولا يرده كراهة كاره أن الله جعل الروح
والفرج في الرضا واليقين وجعل الهم والحزن في الشك والسخط).
* * *
ومنها الصبر قال الله تعالى (واصبر وما صبرك الا بالله) (2)
وقال علي عليه السلام الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد.
وسئل الفضيل عن الصبر قال تجرع المرارة من غير تعبيس.
وقال رويم الصبر ترك الشكوى.

(1) سورة البقرة 4.
(2) سورة النحل 127.
202

وقال علي عليه السلام الصبر مطية لا تكبو.
وقف رجل على الشبلي فقال أي صبر أشد على الصابرين قال الشبلي الصبر
في الله تعالى فقال لا قال فالصبر لله فقال لا قال فالصبر مع الله تعالى فقال
لا قال فأي شئ قال الصبر عن الله فصرخ الشبلي صرخة عظيمة ووقع.
ويقال إن الشبلي حبس في المارستان فدخل عليه قوم فقال من أنتم
قالوا محبوك جئناك زائرين فرماهم بالحجارة فهربوا فقال لو كنتم أحبائي لصبرتم
على بلائي
وجاء في بعض الأخبار عن الله تعالى بعيني ما يتحمل المتحملون من أجلي
وقال عمر بن الخطاب لو كان الصبر والشكر بعيرين لم أبال أيهما ركبت
وفي الحديث المرفوع (الايمان الصبر والسخاء) وفي الخبر العلم خليل المؤمن والحلم وزيره والعقل دليله العمل قائده والرفق
والده والبر أخوه والصبر أمير جنوده قالوا فناهيك بشرف خصلة تتأمر على هذه
الخصال والمعنى أن الثبات على هذه الخصال واستدامة التخلق بها إنما يكون بالصبر
فلذلك كان أمير الجنود.
* * *
ومنها المراقبة جاء في الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله أن سائلا سأله عن
الاحسان فقال (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)
وهذه إشارة إلى حال المراقبة لان المراقبة علم العبد باطلاع الرب عليه فاستدامة
العبد لهذا العلم مراقبة للحق وهو أصل كل خير ولا يكاد يصل (1) إلى هذه الرتبة
الأبعد فراغه عن المحاسبة فإذا حاسب نفسه على ما سلف وأصلح حاله في الوقت

(1) كذا في ا وفي ب: " يوصل ".
203

ولازم طريق الحق وأحسن بينه وبين الله تعالى بمراعاة القلب وحفظ مع الله سبحانه
الأنفاس راقبه تعالى في عموم أحواله فيعلم انه تعالى رقيب عليه يعلم أحواله ويرى
أفعاله ويسمع أقواله ومن تغافل عن هذه الجملة فهو بمعزل عن بداية الوصلة
فكيف عن حقائق القربة.
ويحكى أن ملكا كان يتحظى جارية له وكان لوزيره ميل باطن إليها فكان
يسعى في مصالحها ويرجح جانبها على جانب غيرها من حظايا الملك ونسائه فاتفق أن
عرض عليها الملك حجرين من الياقوت الأحمر أحدهما أنفس من الاخر بمحضر من
وزيره فتحيرت أيهما تأخذ فأومأ الوزير بعينه إلى الحجر الأنفس وحانت من الملك
التفاته فشاهد عين الوزير وهي مائلة إلى ذلك الجانب فبقي الوزير بعدها أربعين سنة
لا يراه الملك قط الا كاسرا عينه نحو الجانب الذي كان طرفه مائلا إليه ذلك اليوم
أي كان (1) ذلك خلقه وهذا عزم قوى في المراقبة ومثله فليكن حال من
يريد الوصول.
ويحكى أيضا أن أميرا كان له غلام يقبل عليه أكثر من إقباله على غيره من
مماليكه ولم يكن أكثرهم قيمة ولا أحسنهم صورة فقيل له في ذلك فأحب أن يبين
لهم فضل الغلام في الخدمة على غيره فكان يوما راكبا ومعه حشمه وبالبعد منهم
جبل عليه ثلج فنظر الأمير إلى الثلج وأطرق فركض الغلام فرسه ولم يعلم الغلمان لما ذا
ركض فلم يلبث الا قليلا حتى جاء ومعه شئ من الثلج فقال الأمير ما ادراك انى
أردت الثلج فقال إنك نظرت إليه ونظر السلطان إلى شئ لا يكون الا عن قصد
فقال الأمير لغلمانه إنما اختصه بإكرامي واقبالي لان لكل واحد منكم شغلا وشغله
مراعاة لحظاتي ومراقبة أحوالي.

(1) ب: " أن "
204

وقال بعضهم من راقب الله في خواطره عصمة الله في جوارحه.
* * *
ومنها الرضا وهو أن يرضى العبد بالشدائد والمصائب التي يقضيها الله
تعالى عليه وليس المراد بالرضا رضا العبد بالمعاصي والفواحش أو نسبتها إلى
الرب تعالى عنها فإنه سبحانه لا يرضاها كما قال جل جلاله (ولا يرضى لعباده
الكفر) (1).
وقال (كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها) (2).
قال رويم الرضا أن لو أدخلك جهنم لما سخطت عليه.
وقيل لبعضهم متى يكون العبد راضيا قال إذا سرته المصيبة كما
سرته النعمة.
قال الشبلي مرة - والجنيد حاضر لا حول ولا قوة الا بالله فقال الجنيد أرى
أن قولك هذا ضيق صدر وضيق الصدر يجئ من ترك الرضا بالقضاء.
وقال أبو سليمان الداراني الرضا الا تسأل الله الجنة ولا تستعيذ به من النار.
و قال تعالى فيمن سخط قسمته (ومنهم من يلمزك في الصدقات فان أعطوا
منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون) (3).
ثم نبه على ما حرموه من فضيلة الرضا فقال (ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله
ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله انا إلى الله راغبون) (3)
وجواب (لو) هاهنا محذوف لفهم المخاطب وعلمه به.

(1) سورة الزمر 7.
(2) سورة الإسراء 38.
(3) سورة التوبة 58، 59
205

وفى حذفه فائدة لطيفة وهو أن تقديره (لرضى الله عنهم) ولما كان رضاه عن
عباده مقاما جليلا جدا حذف ذكره لان الذكر له لا ينبئ عن كنهه وحقيقة فضله
فكان الاضراب عن ذكره أبلغ في تعظيم مقامه.
ومن الاخبار المرفوعة انه صلى الله عليه وآله قال (اللهم إني أسألك الرضا بعد
القضاء) قالوا إنما قال (بعد القضاء) لان الرضا قبل القضاء لا يتصور وإنما
يتصور توطين النفس عليه وإنما يتحقق الرضا بالشئ بعد وقوع ذلك الشئ.
وفي الحديث أنه قال لابن عباس يوصيه (اعمل لله باليقين والرضا فإن لم يكن
فالصبر فان في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا)
وفي الحديث انه ص رأى رجلا من أصحابه وقد أجهده المرض
والحاجة فقال ما الذي بلغ بك ما أرى قال المرض والحاجة قال أو لا أعلمك
كلاما إن أنت قلته اذهب الله عنك ما بك قال والذي نفسي بيده ما يسرني بحظي
منهما أن شهدت معك بدرا والحديبية فقال صلى الله عليه وآله (وهل لأهل
بدر والحديبية ما للراضي والقانع).
وقال أبو الدرداء ذروة الايمان الصبر والرضا.
قدم سعد بن أبي وقاص مكة بعد ما كف بصره فانثال الناس عليه يسألونه الدعاء
لهم فقال له عبد الله بن السائب يا عم انك تدعو للناس فيستجاب لك هلا دعوت
أن يرد عليك بصرك فقال يا بن أخي قضاء الله تعالى أحب إلى من بصرى.
عمر بن عبد العزيز أصبحت وما لي سرور الا في مواقع القدر.
وكان يقال الرضا اطراح الاقتراح على العالم بالصلاح وكان يقال إذا كان
القدر حقا كان سخطه حمقا.
206

وكان يقال من رضى حظي ومن أطرح الاقتراح أفلح واستراح.
وكان يقال كن بالرضا عاملا قبل أن تكون له معمولا وسر إليه عادلا والا
سرت نحوه معدولا.
وقيل للحسن من أين أتي الخلق قال من قلة الرضا عن الله فقيل ومن أين
دخلت عليهم قلة الرضا عن الله قال من قلة المعرفة بالله.
وقال صاحب (1) سلوان المطاع في الرضا (2)
يا مفزعي فيما يجئ وراحمي فيما مضى
عندي لما تقضيه ما * يرضيك من حسن الرضا
ومن القطيعة أستعيذ مصرحا ومعرضا
وقال أيضا (3):
كن من مدبرك الحكيم علا وجل على وجل
وارض القضاء فإنه * حتم اجل وله اجل
وقال أيضا (4):
يا من يرى حالي وأن ليس لي * في غير قربى منه أوطار (5)
وليس لي ملتحد دونه * ولا عليه لي أنصار
حاشا لذاك العز الفضل أن * يهلك من أنت له جار
وإن تشأ هلكى فهب لي رضا * بكل ما تقضى وتختار

(1) هو شمس الدين أبو عبد الله عبد الله محمد بن محمد بن ظفر المكي المتوفى 565.
(2) سلوان المطاع ص 66.
(3) سلوان المطاع ص 66.
(4) سلوان المطاع ص 66، 67.
(5) في سلوان المطاع: في غير ما يرضيه أوطار.
207

عندي لأحكامك يا مالكي * قلب كما أنعمت صبار (1)
كل عذاب منك مستعذب * ما لم يكن سخطك والنار (2)
ومنها العبودية وهي أمر وراء العبادة معناها التعبد والتذلل قالوا العبادة للعوام
من المؤمنين والعبودية للخواص من السالكين.
وقال أبو علي الدقاق العبادة لمن له علم اليقين والعبودية لمن له عين اليقين.
وسئل محمد بن خفيف متى تصح العبودية فقال إذا طرح كله على مولاه
وصبر معه على بلواه.
وقال بعضهم العبودية معانقة ما أمرت به ومفارقة ما زجرت عنه.
وقيل العبودية أن تسلم إليه كلك وتحمل عليه كلك.
وفي الحديث المرفوع (تعس عبد الدينار وتعس عبد الخبيصة).
رأى أبو يزيد البسطامي رجلا فقال له ما حرفتك قال خربندة قال أمات الله
حمارك لتكون عبدا لله لا عبدا للحمار.
وكان ببغداد في رباط شيخ الشيوخ صوفي كبير اللحية جدا وكان مغرى
ومعنى بها أكثر زمانه يدهنها ويسرحها ويجعلها ليلا عند نومه في كيس فقام بعض
المريدين إليه في الليل وهو نائم فقصها من الاذن إلى الاذن فأصبحت كالصريم
وأصبح الصوفي شاكيا إلى شيخ الرباط فجمع الصوفية وسألهم فقال المريد انا قصصتها
قال وكيف فعلت ويلك ذلك قال أيها الشيخ انها كانت صنمه وكان يعبدها
من دون الله فأنكرت ذلك بقلبي وأردت أن اجعله عبدا لله لا عبدا للحية.

(1) هذا البيت ساقط من السلوان.
(2) في السلوان بعدك والنار.
208

قالوا وليس شئ أشرف من العبودية ولا اسم أتم للمؤمن من اسمه بالعبودية
ولذلك قال سبحانه في ذكر النبي صلى الله عليه وآله ليلة المعراج وكان ذلك الوقت أشرف
أوقاته في الدنيا (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا) (1) وقال تعالى (فأوحى
إلى عبده ما أوحى) (2) فلو كان اسم اجل من العبودية لسماه به.
وأنشدوا:
لا تدعني الا بيا عبدها * فإنه أشرف أسمائي
* * *
ومنها الإرادة قال تعالى (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي
يريدون وجهه) (3).
قالوا الإرادة هي بدء طريق السالكين وهي اسم لأول منازل القاصدين إلى
الله وإنما سميت هذه الصفة إرادة لان الإرادة مقدمة كل أمر فما لم يرد العبد
شيئا لم يفعله فلما كان هذا الشأن أول الأمر لمن يسلك طريق الله سمى إرادة تشبيها له
بالقصد إلى الأمور التي هو مقدمتها.
قالوا والمريد على موجب الاشتقاق من له إرادة ولكن المريد في هذا الاصطلاح
من لا إرادة له فما لم يتجرد عن ارادته لا يكون مريدا كما أن من لا إرادة له على موجب
الاشتقاق لا يكون مريدا.
وقد اختلفوا في العبارات الدالة على ماهية الإرادة في اصطلاحهم فقال بعضهم
الإرادة ترك ما عليه العادة وعادة الناس في الغالب التعريج على أوطان الغفلة

(1) سورة الإسراء 1.
(2) سورة النجم 10.
(3) سورة الأنعام 52.
209

والركون إلى اتباع الشهوة والإخلاد إلى ما دعت إليه المنية والمريد هو المنسلخ عن
هذه الجملة.
وقال بعضهم الإرادة نهوض القلب في طلب الرب ولهذا قيل إنها لوعة تهون
كل روعة.
وقال أبو علي الدقاق الإرادة لوعة في الفؤاد ولذعة في القلب وغرام في الضمير
وانزعاج في الباطن ونيران تأجج في القلوب.
وقال ممشاذ الدينوري مذ علمت أن أحوال الفقراء جد كلها لم أمازح فقيرا وذلك
أن فقيرا قدم على فقال أيها الشيخ أريد أن تتخذ لي عصيدة فجرى على لساني
(إرادة وعصيدة) فتأخر الفقير ولم اشعر فأمرت باتخاذ عصيدة وطلبته فلم أجده فتعرفت
خبره فقيل إنه انصرف من فوره وهو يقول (إرادة وعصيدة إرادة وعصيدة) وهام
على وجهه حتى خرج إلى البادية وهو يكرر هذه الكلمة فما زال يقول ويرددها
حتى مات.
وحكى بعضهم قال كنت بالبادية وحدي فضاق صدري فصحت يا انس
كلموني يا جن كلموني فهتف هاتف أي شئ ناديت فقلت الله فقال الهاتف
كذبت لو أردته لما ناديت الانس ولا الجن.
فالمريد هو الذي لا يشغله عن الله شئ ولا يفتر آناء الليل وأطراف النهار
فهو في الظاهر بنعت المجاهدات وفي الباطن بوصف المكابدات فارق الفراش ولازم
الانكماش وتحمل المصاعب وركب المتاعب وعالج الأخلاق ومارس المشاق وعانق
الأهوال وفارق الاشكال فهو كما قيل
ثم قطعت الليل في مهمة * لا أسدا أخشى ولا ذيبا
210

يغلبني شوقي فأطوي السرى * ولم يزل ذو الشوق مغلوبا
وقيل من صفات المريدين التحبب إليه بالتوكل والاخلاص في نصيحة الأمة
والانس بالخلوة والصبر على مقاساة الاحكام والايثار لامرة والحياء من نظره وبذل
المجهود في محبته والتعرض لكل سبب يوصل إليه والقناعة بالخمول وعدم الفرار من
القلب إلى أن يصل إلى الرب.
وقال بعضهم آفة المريد ثلاثة أشياء التزويج وكتبه الحديث والاسفار.
وقيل من حكم المريد أن يكون فيه ثلاثة أشياء نومه غلبه وأكله فاقه
وكلامه ضرورة.
وقال بعضهم نهاية الإرادة أن يشير إلى الله فيجده مع الإشارة فقيل له وأي
شئ يستوعب الإرادة فقال أن يجد الله بلا إشارة.
وسئل الجنيد ما للمريدين وسماع القصص والحكايات فقال الحكايات جند
من جند الله تعالى يقوى بها قلوب المريدين فقيل له هل في ذلك شاهد فتلا قوله
تعالى (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك) (1).
وقال أصحاب الطريقة بين المريد والمراد فرق فالمريد من سلك الرياضة طلبا
للوصول والمراد من فاضت عليه العناية الإلهية ابتداء فكان مخطوبا لا خاطبا وبين
الخاطب والمخطوب فرق عظيم.
قالوا كان موسى عليه السلام مريدا قال (رب اشرح لي صدري) (2) وكان
محمد صلى الله عليه وآله مرادا قال له (ألم نشرح لك صدرك) (3) وسئل الجنيد عن

(1) سورة هود 120.
(2) سورة طه 25.
(3) سورة الشرح 1.
211

المريد والمراد فقال المريد سائر والمراد طائر ومتى يلحق السائر الطائر.
أرسل ذو النون المصري رجلا إلى أبى يزيد وقال له إلى متى النوم والراحة
قد سارت القافلة فقال له أبو يزيد قل لأخي الرجل من ينام الليل كله ثم يصبح
في المنزل قبل القافلة فقال ذو النون هنيئا له هذا الكلام لا تبلغه أحوالنا.
وقد تكلم الحكماء في هذا المقام فقال أبو علي بن سينا في كتاب (الإشارات)
أول درجات حركات العارفين ما يسمونه هم الإرادة وهو ما يعتري المستبصر باليقين
البرهاني أو الساكن النفس إلى العقد الإيماني من الرغبة في اعتلاق العروة الوثقى
فيتحرك سره إلى القدس لينال من روح الاتصال فما دامت درجته هذه
فهو مريد.
ثم إنه ليحتاج إلى الرياضة والرياضة موجهة إلى ثلاثة أغراض
الأول تنحيه ما دون الحق عن سنن الايثار.
والثاني تطويع النفس الامارة للنفس المطمئنة لتنجذب قوى التخيل والوهم إلى
التوهمات المناسبة للامر القدسي منصرفة من التوهمات المناسبة للامر السفلى.
والثالث تلطيف السر لنفسه.
فالأول يعين عليه الزهد الحقيقي والثاني يعين عليه عدة أشياء العبادة المشفوعة
بالفكرة ثم الألحان المستخدمة لقوى النفس الموقعة لما لحن بها من الكلام موقع القبول
من الأوهام ثم نفس الكلام الواعظ من قائل ذكى بعبارة بليغة ونغمة رخيمة
وسمت رشيد والثالث يعين عليه الفكر اللطيف والعشق العفيف الذي تتآمر فيه
شمائل المعشوق دون سلطان الشهوة.
212

ومنها الاستقامة وحقيقتها الدوام والاستمرار على الحال قال تعالى (إن الذين
قالوا ربنا الله ثم استقاموا) (1).
وسئل بعضهم عن تارك الاستقامة فقال قد ذكر الله ذلك في كتابه فقال
(ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا) (2)
وفي الحديث المرفوع (شيبتني هود) فقيل له في ذلك فقال قوله (فاستقم
كما أمرت) (112).
وقال تعالى وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا فلم
يقل (سقيناهم) بل (أسقيناهم) أي جعلنا لهم سقيا دائمة وذلك لان من دام على
الخدمة دامت عليه النعمة.
* * *
ومنها الاخلاص وهو افراد الحق خاصة في الطاعة بالقصد والتقرب إليه بذلك
خاصة من غير رياء ومن غير أن يمازجه شئ آخر من تصنع لمخلوق أو اكتساب
محمدة بين الناس أو محبه مدح أو معنى من المعاني ولذلك قال أرباب هذا الفن
الاخلاص تصفية العمل عن ملاحظة المخلوقين.
وقال الخواص من هؤلاء القوم نقصان كل مخلص في إخلاصه رؤية إخلاصه
فإذا أراد الله أن يخلص إخلاص عبد أسقط عن إخلاصه رؤيته لإخلاصه فيكون
مخلصا لا مخلصا.
وجاء في الأثر عن مكحول ما أخلص عبد لله أربعين صباحا الا ظهرت ينابيع
الحكمة من قلبه على لسانه.

(1) سورة فصلت 30.
(2) سورة النحل 92
(3) سورة هود 112.
(4) سورة الجن 16.
213

ومنها الصدق ويطلق على معنيين تجنب الكذب وتجنب الرياء وقد تقدم
القول فيهما.
* * *
ومنها الحياء وفي الحديث الصحيح (إذا لم تستحي فاصنع ما شئت)
وفي الحديث أيضا (الحياء من الايمان) وقال تعالى (ألم يعلم بان الله
يرى) (1) قالوا معناه ألم يستحى.
وفي الحديث أنه قال لأصحابه (استحيوا من الله حق الحياء) قالوا انا لنستحي
ونحمد الله قال (ليس كذلك من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما
وعى والبطن وما حوى وليذكر الموت وطول البلى وليترك زينة الحياة الدنيا
فمن يعمل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء).
وقال ابن عطاء العلم الأكبر الهيبة والحياء فإذا ذهبا لم يبق خير.
وقال ذو النون الحب ينطق والحياء يسكت والخوف يقلق.
وقال السرى الحياء والانس يطرقان القلب فان وجدا فيه الزهد والورع حطا
والا رحلا.
وكان يقال تعامل القرن الأول من الناس فيما بينهم بالدين حتى رق الدين ثم
تعامل القرن الثاني بالوفاء حتى ذهب الوفاء ثم تعامل القرن الثالث بالمروءة حتى
فنيت المروءة ثم تعامل القرن الرابع بالحياء حتى قل الحياء ثم صار الناس يتعاملون
بالرغبة والرهبة

(1) سورة العلق 14.
214

وقال الفضيل خمس من علامات الشقاء القسوة في القلب وجمود العين وقلة
الحياء والرغبة في الدنيا وطول الامل.
وفسر بعضهم قوله تعالى (ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه) (1)
انها كان لها صنم في زاوية البيت فمضت فألقت على وجهه ثوبا فقال يوسف ما هذا
قالت استحيى منه قال فانا أولى أن أستحي من الله.
وفي بعض الكتب القديمة ما أنصفني عبدي يدعوني فاستحيى أن أرده ويعصيني
وانا أراه فلا يستحيى منى
* * *
ومنها الحرية وهو الا يكون الانسان بقلبه رق شئ من المخلوقات لا من أغراض
الدنيا ولا من أغراض الآخرة فيكون فردا لفرد لا يسترقه عاجل دنيا ولا آجل
منى ولا حاصل هوى ولا سؤال ولا قصد ولا أرب.
قال له صلى الله عليه وآله بعض أصحاب الصفة قد عزفت نفسي يا رسول الله عن
الدنيا فاستوى عندي ذهبها وحجرها قال صرت حرا.
وكان بعضهم يقول لو صحت صلاة بغير قرآن لصحت بهذا البيت
أتمنى على الزمان (2) محالا * أن ترى مقلتاي طلعة حر
وسئل الجنيد عمن لم يبق له من الدنيا الا مقدار مص نواة فقال المكاتب عبد
ما بقي عليه درهم.
* * *
ومنها الذكر قال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا
كثيرا) (3)

(1) سورة يوسف 24.
(2) ب " من الزمان " وما أثبته من ا.
(3) سورة الأحزاب 41.
215

وروى أبو الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال الا أنبئكم بخير أعمالكم
وأزكاها عند خالقكم وأرفعها في درجاتكم وخير من إعطائكم الذهب والفضة في
سبيل الله ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم) قالوا
ما ذلك يا رسول الله قال (ذكر الله)
وفي الحديث المرفوع (لا تقوم الساعة على أحد يقول الله الله).
وقال أبو علي الدقاق الذكر منشور الولاية فمن وفق للذكر فقد أعطى المنشور
وسلب الذكر فقد عزل.
وقيل ذكر الله تعالى بالقلب سيف المريدين به يقاتلون أعداءهم وبه يدفعون
الآفات التي تقصدهم وإن البلاء إذا أظل العبد ففزع بقلبه إلى الله حاد عنه
كل ما يكرهه.
وفي الخبر المرفوع (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا فيها) قيل وما رياض الجنة
قال (مجالس الذكر)
وفي الخبر المرفوع (انا جليس من ذكرني).
وسمع الشبلي هو ينشد:
ذكرتك لا فقال إني نسيتك لمحة * وأيسر ما في الذكر ذكر لساني
فكدت بلا وجد أموت من الهوى * وهام على القلب بالخفقان
فلما أراني الوجد انك حاضري * شهدتك موجودا بكل مكان
فخاطبت موجودا بغير تكلم * ولاحظت معلوما بغير عيان.
216

ومنها الفتوة قال سبحانه مخبرا عن أصحاب الأصنام (قالوا سمعنا فتى يذكرهم
يقال له إبراهيم) (1).
وقال تعالى في أصحاب الكهف (انهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى) (2).
وقد اختلفوا في التعبير عن الفتوة ما هي فقال بعضهم الفتوة الا ترى لنفسك
فضلا على غيرك.
وقال بعضهم الفتوة الصفح عن عثرات الاخوان.
قالوا إنما هتف الملك يوم أحد بقوله.
لا سيف الا ذو الفقار * ولا فتى الا علي
لأنه كسر الأصنام فسمى بما سمى به أبوه إبراهيم الخليل حين كسرها وجعلها جذاذا.
قالوا وصنم كل انسان نفسه فمن خالف هواه فقد كسر صنمه فاستحق أن يطلق
عليها لفظ الفتوة.
وقال الحارث المحاسبي الفتوة أن تنصف ولا تنتصف.
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل سئل أبى عن الفتوة فقال ترك ما تهوى
لما تخشى.
وقيل الفتوة الا تدخر ولا تعتذر.
سال شقيق البلخي جعفر بن محمد الصادق عليه السلام عن الفتوة فقال ما تقول
أنت قال إن أعطينا شكرنا وإن منعنا صبرنا قال إن الكلاب عندنا بالمدينة
هذا شانها ولكن قل إن أعطينا آثرنا وإن منعنا شكرنا.

(1) سورة الأنبياء 60.
(2) سورة الكهف 13.
217

ومنها الفراسة قيل في تفسير قوله تعالى (إن في ذلك لآيات للمتوسمين) (1)
أي للمتفرسين وقال النبي صلى الله عليه وآله (اتقوا فراسة المؤمن فإنها لا تخطى)
قيل الفراسة سواطع أنوار لمعت في القلوب حتى شهدت الأشياء من حيث أشهدها
الحق إياها وكل من كان أقوى ايمانا كان أشد فراسة.
وكان يقال إذا صحت الفراسة ارتقى منها صاحبها إلى المشاهدة.
* * *
ومنها حسن الخلق وهو من صفات العارفين فقد اثنى الله تعالى به على نبيه فقال
(وانك لعلى خلق عظيم) (2)
وقيل له صلى الله عليه وآله أي المؤمنين أفضل ايمانا فقال أحسنهم خلقا
وبالخلق تظهر جواهر الرجال والانسان مستور بخلقه مشهور بخلقه.
وقال بعضهم حسن الخلق استصغار ما منك واستعظام ما إليك.
وقال النبي صلى الله عليه وآله (انكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم
بأخلاقكم).
قيل لذي النون من أكبر الناس هما قال أسوأهم خلقا.
وكان يقال ما تخلق أحد أربعين صباحا بخلق الا صار ذلك طبيعة فيه.
قال الحسن في قوله تعالى (وثيابك فطهر) (3) أي وخلقك فحسن.
شتم رجل الأحنف بن قيس وجعل يتبعه ويشتمه فلما قرب الحي وقف وقال
يا فتى إن كان قد بقي في قلبك شئ فقله كيلا يسمعك سفهاء الحي فيجيبوك.

(1) سورة الحجر 75.
(2) سورة القلم 4.
(3) سورة المدثر 4.
218

ويقال إن معروفا الكرخي نزل دجلة ليسبح ووضع ثيابه ومصحفه فجاءت
امرأة فاحتملتهما فتبعها وقال انا معروف الكرخي فلا باس عليك ا لك ابن يقرا
قالت لا قال ا فلك بعل قالت لا قال فهاتي المصحف وخذي الثياب.
قيل لبعضهم ما أدب الخلق قال ما أدب الله به نبيه في قوله (خذ العفو
وامر بالعرف واعرض عن الجاهلين) (1)
يقال إن في بعض كتب النبوات القديمة يا عبدي اذكرني حين تغضب أذكرك
حين اغضب.
قالت امرأة لمالك بن دينار يا مرائي فقال لقد وجدت اسمي الذي أضله
أهل البصرة.
قال بعضهم - وقد سئل عن غلام سوء له لم يمسكه قال ا تعلم عليه الحلم.
وكان يقال ثلاثة لا يعرفون الا عند ثلاثة الحليم عند الغضب والشجاع عند
الحرب والصديق عند الحاجة إليه.
وقيل في تفسير قوله تعالى (وأسبغ عليكم نعمه ظاهره وباطنه) (2) الظاهرة
تسوية الخلق والباطنة تصفية الخلق.
الفضيل لان يصحبني فاجر حسن الخلق أحب إلى من أن يصحبني عابد
سيئ الخلق.
خرج إبراهيم بن أدهم إلى بعض البراري فاستقبله جندي فسأله أين العمران
فأشار إلى المقبرة فضرب رأسه فشجه وأدماه فلما جاوزه قيل له إن ذلك إبراهيم بن أدهم

(1) سورة الأعراف 199.
(2) سورة لقمان 20.
219

زاهد خراسان فرد إليه يعتذر فقال إبراهيم انك لما ضربتني سالت الله لك الجنة.
قال لم سالت ذلك قال علمت فقال إني
أوجر على ضربك لي فلم أرد أن يكون نصيبي
منك الخير ونصيبك منى الشر.
وقال بعض أصحاب الجنيد قدمت من مكة فبدأت بالشيخ كي لا يتعنى إلى
فسلمت عليه ثم مضيت إلى منزلي فلما صليت الصبح في المسجد إذا أنا به خلفي في
الصف فقلت إنما جئتك أمس لئلا تتعنى فقال ذلك فضلك وهذا حقك.
كان أبو ذر على حوض يسقى إبله فزاحمه انسان فكسر الحوض فجلس أبو ذر
ثم اضطجع فقيل له في ذلك فقال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله (إذا غضب الرجل
وهو قائم فليجلس فان ذهب عنه والا فليضطجع).
دعا انسان بعض مشاهير الصوفية إلى ضيافة فلما حضر باب داره رده واعتذر إليه
ثم فعل به مثل ذلك وثانية وثالثة والصوفي لا يغضب ولا يضجر فمدحه ذلك الانسان
وأثنى عليه بحسن الخلق فقال إنما تمدحني على خلق تجد مثله في الكلب إن دعوته
حضر وإن زجرته انزجر.
مر بعضهم وقت الهاجرة بسكة فألقى عليه من سطح طست رماد فغضب من
كان في صحبته فقال لا تغضبوا من استحق أن يصب عليه النار فصولح على الرماد
لم تجز له أن يغضب.
كان لبعض الخياطين جار يدفع إليه ثيابا فيخيطها ويدفع إليه أجرتها دراهم زيوفا
فيأخذها فقام يوما من حانوته واستخلف ولده فجاء الجار بالدراهم الزائفة فدفعها
إلى الولد فلم يقبلها فأبدلها بدراهم جيدة فلما جاء أبوه دفع إليه الدراهم فقال ويحك
هل جرى بينك وبينه أمر قال نعم انه أحضر الدراهم زيوفا فرددتها فاحضر هذه
220

فقال بئس ما صنعت انه منذ كذا وكذا سنه يعاملني بالزائف واصبر عليه وألقيها في
بئر كي لا يغر غيري بها
وقيل الخلق السيئ هو أن يضيق قلب الانسان عن أن يتسع لغير ما تحبه النفس
وتؤثره كالمكان الضيق لا يسع غير صاحبه.
وكان يقال من سوء الخلق أن تقف على سوء خلق غيرك وتعيبه به.
قيل لرسول الله ادع الله على المشركين فقال (إنما بعثت رحمة
ولم ابعث عذابا)
دعا علي عليه السلام غلاما له مرارا وهو لا يجيبه فقام إليه فقال الا تسمع
يا غلام قال بلى قال فما حملك على ترك الجواب قال أمني لعقوبتك قال اذهب
فأنت حر.
* * *
ومنها الكتمان قال رسول الله صلى الله عليه وآله (استعينوا على أموركم
بالكتمان).
وقال السرى علامة الحب الصبر والكتمان ومن باح بسرنا فليس منا.
وقال الشاعر
كتمت حبك حتى منك تكرمة * ثم استوى فيك إسراري وإعلاني
كأنه غاض حتى فاض عن جسدي * فصار سقمي به في جسم كتماني
وهذا ضد ما يذهب إليه القوم من الكتمان وهو عذر لأصحاب السر والإعلان
وكان يقال المحبة فاضحة والدمع نمام.
وقال الشاعر:
لا جزى الله دمع عيني خيرا * وجزى الله كل خير لساني
221

فاض دمعي فليس يكتم شيئا * ووجدت اللسان ذا كتمان
يقال إن بعض العارفين أوصي تلميذه بكتمان ما يطلع عليه من الحال فلما شاهد
الامر غلب فكان يطلع في بئر في موضع خال فيحدثها بما يشاهد فنبتت في تلك البئر
شجرة سمع منها صوت يحكى كلام ذلك التلميذ كما يحكى الصدا كلام المتكلم فاسقط
بذلك من ديوان الأولياء.
وأنشدوا:
ابدا تحن إليكم الأرواح * ووصالكم ريحانها والراح
وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم * والى لقاء جمالكم ترتاح
وارحمه للعاشقين تحملوا * ثقل المحبة والهوى فضاح
بالسر إن باحوا تباح دماؤهم * وكذا دماء البائحين تباح.
وقال الحسين بن منصور الحلاج:
انى لأكتم من علمي جواهره * كي يرى العلم ذو جهل فيفتننا
وقد تقدمني فيه أبو حسن * إلى الحسين وأوصى قبله الحسنا
يا رب مكنون علم لو أبوح به * لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل رجال صالحون دمى * يرون أقبح ما يأتونه حسنا.
* * *
ومنها الجود والسخاء والايثار قال الله تعالى (ويؤثرون على أنفسهم ولو
كان بهم خصاصة) (1)
وقال النبي صلى الله عليه وآله السخي قريب من الله قريب من الناس

(1) سورة الحشر 9.
222

والبخيل بعيد من الله بعيد من الناس وإن الجاهل السخي أحب إلى الله من العابد البخيل.
قالوا لا فرق بين الجود والسخاء في اصطلاح أهل العربية الا أن الباري سبحانه
لا يوصف بالسخاء لأنه يشعر بسماح النفس عقيب التردد في ذلك واما في اصطلاح
أرباب هذه الطريقة فالسخاء هو الرتبة الأولى والجود بعده ثم الايثار فمن أعطى
البعض وأبقى البعض فهو صاحب السخاء ومن أعطى الأكثر وأبقى لنفسه شيئا فهو
صاحب الجود والذي قاسى الضراء وآثر غيره بالبلغة فهو صاحب الايثار.
قال أسماء بن خارجة الفزاري ما أحب أن أرد أحدا عن حاجة طلبها إن كان
كريما صنت عرضه عن الناس وإن كان لئيما صنت عنه عرضي.
كان مؤرق العجلي يتلطف في بر اخوانه يضع عندهم ألف درهم ويقول امسكوها
حتى أعود إليكم ثم يرسل إليهم أنتم منها في حل.
وكان يقال الجود إجابة الخاطر الأول.
وكان أبو الحسن البوشنجي في الخلاء فدعا تلميذا له فقال انزع عنى هذا القميص
وادفعه إلى فلان فقيل له هلا صبرت فقال لم آمن على نفسي أن تغير على ما وقع لي
من التخلق معه بالقميص.
رئي علي عليه السلام يوما باكيا فقيل له لم تبكي فقال لم يأتني ضيف منذ سبعة
أيام أخاف أن يكون الله قد أهانني.
أضاف عبد الله بن عامر رجلا فأحسن قراه فلما أراد أن يرتحل لم يعنه غلمانه فسئل
عن ذلك فقال إنهم إنما يعينون من نزل علينا لا من ارتحل عنا.
* * *
ومنها الغيرة قال رسول الله صلى الله عليه وآله (لا أحد أغير من الله إنما حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن لغيرته)
223

وفي حديث أبي هريرة (إن الله ليغار وإن المؤمن ليغار)
قال والغيرة هي كراهية المشاركة فيما هو حقك.
وقيل الغيرة الأنفة والحمية.
وحكى عن السرى انه قرئ بين يديه (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين
الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا) (1)
فقال لأصحابه ا تدرون ما هذا الحجاب هذا حجاب الغيرة ولا أحد أغير من الله.
قالوا ومعنى حجاب الغيرة انه لما أصر الكافرون على الجحود عاقبهم بان لم يجعلهم
أهلا لمعرفة اسرار القرآن.
وقال أبو علي الدقاق إن أصحاب الكسل عن عبادته هم الذين ربط الحق بأقدامهم
مثقلة الخذلان فاختار لهم البعد وآخرهم عن محل القرب ولذلك تأخروا.
وفي معناه أنشدوا فقالوا
انا صب بمن هويت ولكن * ما احتيالي في سوء رأى الموالى.
وفي معناه قالوا سقيم لا يعاد ومريد لا يراد.
وكان أبو علي الدقاق إذا وقع شئ في خلال المجلس يشوش قلوب الحاضرين
يقول هذا من غيره الحق يريد به الا يتم ما أملناه من صفاء هذا الوقت.
وأنشدوا في معناه:
همت بإتياننا حتى إذا نظرت * إلى المرأة نهانا وجهها الحسن.
وقيل لبعضهم ا تريد أن تراه قال لا قيل لم قال أنزه ذلك الجمال عن
نظر مثلي وفي معناه أنشدوا
انى لأحسد ناظري عليك * حتى أغض إذا نظرت إليك

(1) الاسراء: 45.
224

واراك تخطر في شمائلك التي * هي فتنتي فأغار منك عليكا
وسئل الشبلي متى تستريح قال إذا لم أر له ذاكرا.
وقال أبو علي الدقاق في قول النبي صلى الله عليه وآله عند مبايعته فرسا من اعرابي
وانه استقاله فأقاله فقال الاعرابي عمرك الله فمن أنت قال صلى الله عليه وآله
انا امرؤ من قريش فقال بعض الصحابة من الحاضرين للأعرابي كفاك جفاء
الا تعرف نبيك فكان أبو علي يقول إنما قال (امرؤ من قريش) غيره ونوعا
من الأنفة والا فقد كان الواجب عليه أن يتعرف لكل أحد انه من هو لكن
الله سبحانه أجرى على لسان ذلك الصحابي التعريف للأعرابي بقوله (كفاك جفاء
الا تعرف نبيك).
وقال أصحاب الطريقة مساكنة أحد من الخلق للحق في قلبك توجب الغيرة
منه تعالى.
اذن الشبلي مرة فلما انتهى إلى الشهادتين قال وحقك لولا انك أمرتني
ما ذكرت معك غيرك.
وسمع رجل رجلا يقول جل الله فقال أحب أن تجله عن هذا.
وكان بعض العارفين يقول لا إله إلا الله من داخل القلب محمد رسول الله من
قرط الاذن.
وقيل لأبي الفتوح السهروردي - وقد اخذ بحلب ليصلب على خشبه ما الذي
أباحهم هذا منك قال إن هؤلاء دعوني إلى أن اجعل محمدا شريكا لله في الربوبية
فلم افعل فقتلوني.
225

ومنها التفويض قال الله تعالى (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم
وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) (1) فاستوقف
من عقل امره عن الاقتراح عليه وأفهمه ما يرضاه به من التفويض إليه فالعاقل تارك
للاقتراح على العالم بالصلاح.
وقال تعالى (فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا) (2)
فبعث على تأكيد الرجاء بقوله (خيرا كثيرا).
ولما فوض مؤمن آل فرعون امره إلى الله وقاه (الله سيئات ما مكروا وحاق
بال فرعون سوء العذاب) (3) كما ورد في الكتاب العزيز.
وحقيقة التفويض هي التسليم لأحكام الحق سبحانه والى ذلك وقعت الإشارة
بقوله تعالى (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل
المؤمنون) (4) فاس التفويض والباعث عليه هو اعتقاد العجز عن مغالبة القدر
وانه لا يكون في الخير والشر - أعني الرخص والصحة وسعة الرزق والبلايا
والأمراض والعلل وضيق الرزق الا ما أراد الله تعالى كونه ولا يصح التفويض ممن
لم يعتقد ذلك ولم يعلمه علم اليقين.
وقد بالغ النبي صلى الله عليه وآله في التصريح به والنص عليه بقوله لعبد الله بن
مسعود (ليقل همك ما قدر اتاك وما لم يقدر لم يأتك ولو جهد الخلق أن ينفعوك
بشئ لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه ولو جهدوا أن يضروك بشئ لم يكتبه الله
عليك لم يقدروا على ذلك)

(1) سورة البقرة 216.
(2) سورة النساء 19.
(3) سورة غافر 45.
(4) سورة التوبة 51.
226

وفى صحيح مسلم بن الحجاج أنه قال لأبي هريرة في كلام له (فان أصابك شئ
فلا تقل لو فعلت كذا لكان كذا فان (لو) تفتح عمل الشيطان ولكن قل ما قدر
الله وما شاء فعل)
وفي صحيح مسلم أيضا عن البراء بن عازب (إذا اخذت مضجعك فقل كذا...)
إلى أن قال (وجهت وجهي إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا منجى
ولا ملجا منك الا إليك).
وكان يقال معارضة المريض طبيبة توجب تعذيبه وكان يقال إنما الكيس الماهر
من أمسى (1) في قبضه القاهر.
وكان يقال إذا كانت مغالبة القدر مستحيلة فما من أعوان تقوده إلى الحيلة.
وكان يقال إذا التبست المصادر ففوض إلى القادر.
وكان يقال من الدلالة على أن الانسان مصرف مغلوب ومدبر مربوب أن
يتبلد رأيه في بعض الخطوب ويعمى عليه الصواب المطلوب.
وإذا كان كذلك فربما كان تدميره في تدبيره واغتياله من احتياله وهلكته
من حركته.
وفي ذلك أنشدوا:
أيا من يعول في المشكلات * على ما رآه وما دبره (2)
إذا أعضل الامر فافزع به * إلى من يرى منه ما لم تره
تكن بين عطف يقيل الخطوب * ولطف يهون ما قدره
إذا كنت تجهل عقبى الأمور * وما لك حول ولا مقدرة
فلم ذا العنا وعلام الأسى * ومم الحذار وفي م الشره!

(1) كذا في ا وفى ب: (استسلم)
(2) الأبيات لابن ظفر وهي في كتابه سلوان المطاع 8.
227

وأنشدوا في هذا المعنى:
يا رب مغتبط ومغبوط بأمر فيه هلكة (1)
ومنافس في ملك ما * يشقيه في الدارين ملكه
علم العواقب دونه * ستر وليس يرام هتكه
ومعارض الاقدار بالآراء * سئ الحال ضنكه
فكن أمرا محض اليقين * وزيف الشبهات سبكة
تفويضه توحيده * وعناده المقدار شركه
* * *
ومنها الولاية والمعرفة وقد تقدم القول فيهما.
ومنها الدعاء والمناجاة قال الله تعالى (ادعوني استجب لكم) (2)
وفي الحديث المرفوع (الدعاء مخ العبادة).
وقد اختلف أرباب هذا الشأن في الدعاء فقال قوم (الدعاء مفتاح الحاجة
ومستروح أصحاب الفاقات وملجأ المضطرين ومتنفس ذوي المآرب.
وقد ذم الله تعالى قوما فقال (ويقبضون أيديهم) (2) فسروه وقالوا لا يمدونها
إليه في السؤال.
وقال سهل بن عبد الله التستري خلق الله الخلق وقال تاجروا في فإن لم تفعلوا
فاسمعوا منى فإن لم تفعلوا فكونوا ببابي فإن لم تفعلوا فانزلوا حاجاتكم بي.
قالوا وقد اثنى الله على نفسه فقال (امن يجيب المضطر إذا دعاه) (4) قالوا
الدعاء اظهار فاقة العبودية.

(1) لابن ظفر سلوان المطاع 8.
(2) سورة غافر 60
(3) سورة التوبة 67
(4) سورة النمل 62
228

وقال أبو حاتم الأعرج لان أحرم الدعاء أشد على من أن أحرم الإجابة.
وقال قوم بل السكوت والخمود تحت جريان الحكم والرضا بما سبق من اختيار
الحكيم العالم بالمصالح أولى ولهذا قال الواسطي اختيار ما جرى لك في الأزل خير لك
من معارضة الوقت.
وقال النبي صلى الله عليه وآله اخبارا عن الله تعالى (من شغله ذكرى عن مسألتي
أعطيته أفضل ما أعطى السائلين).
وقال قوم يجب أن يكون العبد صاحب دعاء بلسانه وصاحب رضا بقلبه ليأتي
بالامرين جميعا.
وقال قوم إن الأوقات تختلف ففي بعض الأحوال يكون الدعاء أفضل من السكوت
وفي بعض الأحوال يكون بالعكس وإنما يعرف هذا في الوقت لان علم الوقت يحصل في
الوقت فإذا وجد في قلبه الإشارة إلى الدعاء فالدعاء أولى وإن وجد بقلبه الإشارة
إلى السكوت فالسكوت له أتم وأولى.
وجاء في الخبر (إن الله يبغض العبد فيسرع إجابته بغضا لسماع صوته وانه
يحب العبد فيؤخر إجابته حبا لسماع صوته).
* * *
ومن أدب الدعاء حضور القلب فقد روى عنه صلى الله عليه وآله (إن الله
لا يستجيب دعاء قلب لاه).
ومن شروط الإجابة طيب الطعمة وحل المكسب قال صلى الله عليه وآله لسعد بن أبي
وقاص (أطب كسبك تستجب دعوتك).
229

وينبغي أن يكون الدعاء بعد المعرفة قيل لجعفر بن محمد الصادق عليه السلام ما بالنا
ندعو فلا يستجاب لنا قال لأنكم تدعون من لا تعرفونه.
كان صالح المري يقول كثيرا ادعوا فمن أدمن قرع الباب يوشك أن يفتح له
فقالت له رابعة العدوية ماذا تقول أغلق هذا الباب حتى يستفتح فقال صالح
شيخ جهل وامرأة علمت.
وقيل فائدة الدعاء اظهار الفاقة من الخلق والا فالرب يفعل ما يشاء.
وقيل دعاء العامة بالأقوال ودعاء العابد بالافعال ودعاء العارف بالأحوال.
وقيل خير الدعاء ما هيجه الأحزان والوجد.
وقيل أقرب الدعاء إلى الإجابة دعاء الاضطرار لقوله تعالى (امن يجيب
المضطر إذا دعاه).
قال أصحاب هذه الطريقة السنة المبتدئين أرباب الإرادة منطلقة بالدعاء والسنة
المحققين الواصلين قد خرست عن ذلك.
وكان عبد الله بن المبارك يقول ما دعوته منذ خمسين سنة ولا أريد أن يدعو
لي أحد.
وقيل الدعاء سلم المذنبين.
وقال من قال بنقيض هذا الدعاء مراسلة وما دامت المراسلة باقية فالامر جميل بعد.
وقالوا السنة المذنبين دموعهم.
وكان أبو علي الدقاق يقول إذا بكى المذنب فقد راسل الله.
وفي معناه أنشدوا:
دموع الفتى عما يجن تترجم * وأنفاسه تبدين ما القلب يكتم.
230

وقال بعضهم لبعض العارفين ادع لي فقال كفاك من الإجابة الا تجعل بينك
وبينه واسطة.
* * *
ومنها التأسي قال سبحانه (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنه) (1)
أي في مصابه وما نيل منه في نفسه وفي أهله يوم أحد فلا تجزعوا إن أصيب بعضكم.
وجاء في الحديث المرفوع لا تنظروا إلى من فوقكم وانظروا إلى من دونكم
فإنه أجدر الا تزدروا نعم الله عليكم.
وقالت الخنساء ترثى أخاها:
ولولا كثرة الباكين حولي * على إخوانهم لقتلت نفسي (2)
وما يبكون مثل أخي ولكن * أعزي النفس عنه بالتأسي.
وحقيقة التأسي تهوين المصائب والنوائب على النفس بالنظر إلى ما أصاب أمثالك
ومن هو ارفع محلا منك.
وقد فسر العلماء قوله تعالى (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم انكم في العذاب
مشتركون) (3) قال إنه لا يهون على أحد من أهل النار عذابه وإن تأسي بغيره
من المعذبين لان الله تعالى جعل لهم التأسي نافعا في الدنيا ولم يجعله نافعا لأهل النار
مبالغة في تعذيبهم ونفيا لراحة تصل إليهم.

(1) سورة الأحزاب 21.
(2) ديوانها 152
(3) سورة الزخرف 39
231

ومنها الفقر وهو شعار الصالحين قال رسول الله صلى الله عليه وآله (اللهم
أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني مع المساكين).
قال لعلي عليه السلام (إن الله قد زينك بزينة لم يزين العباد بأحسن منها
وهب لك حب المساكين فجعلك ترضى بهم اتباعا ويرضون بك إماما).
وجاء في الخبر المرفوع (الفقراء الصبر جلساء الله يوم القيامة).
وسئل يحيى بن معاذ عن الفقر فقال الا تستغنى الا بالله.
وقال أبو الدرداء لان أقع من فوق قصر فأتحطم أحب إلى من مجالسة الغني
لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول (إياكم ومجالسه الموتى) فقيل له
وما الموتى قال الأغنياء.
قيل للربيع بن خثيم قد غلا السعر قال نحن أهون على الله من أن يجيعنا إنما
يجيع أولياءه.
وقيل ليحيى بن معاذ ما الفقر قال خوف الفقر.
وقال الشبلي أدنى علامات الفقير أن لو كانت الدنيا بأسرها لواحد فأنفقها في يوم
واحد ثم خطر بباله (لو أمسكت منها قوت يوم آخر) لم يصدق في فقره.
سئل ابن الجلاء عن الفقر فسكت ثم ذهب قليلا وعاد فقال كانت عندي أربعة
دوانيق فضه فاستحييت من الله أن أتكلم في الفقر وهي عندي فذهبت فأخرجتها ثم
قعد فتكلم في الفقر.
وقال أبو علي الدقاق في تفسير قوله صلى الله عليه وآله (من تواضع لغنى ذهب
ثلثا دينه إن المرء بقلبه ولسانه وجوارحه فمن تواضع لغنى بلسانه وجوارحه ذهب ثلثا
دينه فان تواضع له مع ذلك بقلبه ذهب دينه كله.
232

ومنها الأدب قالوا في تفسير قوله تعالى (ما زاع البصر وما طغى) (1) حفظ
أدب لحضره.
قيل إنه عليه السلام لم يمد نظره فوق المقام الذي أوصل إليه ليله شاهد السدرة
وهي أقصى ما يمكن أن ينتهى إليه البشريون.
وفي الحديث المرفوع (أدبني ربى فأحسن تأديبي)
وقيل إن الجنيد لم يمد رجله في الخلوة عشرين سنة وكان يقول الأدب مع الله
أولى من الأدب مع الخلق.
وقال أبو علي الدقاق من صاحب الملوك بغير أدب أسلمه الجهل إلى القتل.
ومن كلامه عليه السلام ترك الأدب يوجب الطرد فمن أساء الأدب على البساط
رد إلى الباب ومن أساء الأدب على الباب رد إلى ساحة الدواب.
وقال عبد الله بن المبارك قد أكثر الناس في الأدب وعندي إن الأدب معرفه
الانسان بنفسه.
وقال الثوري من لم يتأدب للوقت فوقته مقت.
وقال أبو علي الدقاق في قوله تعالى حكاية عن أيوب (إذ نادى ربه فقال إني
مسني
الضر وأنت ارحم الراحمين) (2) قال لم يقل (فارحمني) لأنه حفظ آداب الخطاب
وكذلك قال في قول عيسى (إن كنت قلته فقد علمته) (3) قال لم يقل (لم أقل)
رعاية لأدب الحضرة.

(1) سورة النجم 17.
(2) سورة الأنبياء 83.
(3) سورة المائدة 116.
233

ومنها المحبة وهي مقام جليل قالوا المحبة أن تهب كلك لمن أحببت فلا يبقى لك
منك شئ.
قيل لبعض العرب ما وجدت من حب فلأنه قال أرى القمر على جدارها أحسن
منه على جدران الناس.
وقال أبو عبد الرحمن السلمي المحبة أن تغار على محبوبك أن يحبه غيرك.
وقال النصر آباذي المحبة نوعان نوع يوجب حقن الدماء ونوع يوجب سفك الدماء.
وقال يحيى بن معاذ المحبة الخالصة الا تنقص بالجفاء ولا تزيد بالبر
وقيل للنصر آباذي كيف حالك في المحبة قال عدمت وصال المحبين ورزقت
حسراتهم فهو ذا انا احترق فيها ثم قال المحبة مجانبة السلو على كل حال.
وأنشدوا:
ومن كان في طول الهوى ذاق سلوة * فإني من ليلى لها غير ذائق
وأكثر شئ نلته من وصالها * أماني لم تصدق كلمحه بارق
وجاء في الحديث المرفوع (المرء مع من أحب) ولما سمع سمنون هذا الخبر
قال فاز المحبون بشرف الدنيا والآخرة لأنهم مع الله تعالى.
وفي الحديث المرفوع (لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله
ورسوله) وهذا يتجاوز حد الجلالة والشرف.
وكان يقال الحب أوله ختل وآخره قتل.
قيل كتب يحيى بن معاذ إلى أبى يزيد سكرت من كثرة ما شربت من محبته فكتب
إليه أبو زيد غيرك شرب بحور السماوات والأرض وما روى بعد ولسانه خارج
وهو يقول هل من مزيد.
234

وأنشد:
عجبت لمن يقول ذكرت حبي * وهل أنسى فاذكر ما نسيت
شربت الحب كأسا بعد كأس * فما نفد الشراب ولا رويت.
وقيل المحبة سكر لا يصحو صاحبه الا بمشاهدة محبوبه ثم السكر الذي يحصل
عند المشاهدة لا يوصف.
وأنشدوا:
فأسكر القوم دور كأس * وكان سكرى من المدير
* * *
ومنها الشوق جاء في الخبر المرفوع إن الجنة لتشتاق إلى ثلاثة على
وسلمان وعمار.
الشوق مرتبة من مراتب القوم ومقام من مقامتهم سئل ابن عطاء الشوق
أعلى أم المحبة فقال المحبة لان الشوق منها يتولد.
ومن الأدعية النبوية المأثورة الدعاء الذي كان يدعو به عمار بن ياسر رضي الله عنه
(اللهم بعلمك بالغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرا لي وتوفني
ما كانت الوفاة خيرا لي اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة وأسألك كلمة
الحق في الرضا والغضب وأسألك القصد في الغنى والفقر وأسألك نعيما لا يبيد وقرة عين
لا تنقطع وأسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت وأسألك النظر إلى
وجهك والشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة اللهم زينا بزينة الايمان واجعلنا
هداة مهتدين).
قالوا الشوق احتياج القلب إلى لقاء المحبوب وعلى قدر المحبة يكون الشوق
وعلامة الشوق حب الموت.
235

وهذا هو السر في قوله تعالى (فتمنوا الموت إن كنتم صادقين) (1) أي إن
من كان صاحب محبة يتمنى لقاء محبوبه فمن لا يتمنى ذلك لا يكون صادق المحبة.
قيل لبعض الصوفية هل تشتاق إليه فقال إنما الشوق إلى غائب وهو حاضر
لا يغيب.
وقالوا في قوله تعالى (من كان يرجو لقاء الله فان اجل الله لات) (2) انه
تطيب لقلوب المشتاقين.
ويقال انه مكتوب في بعض كتب النبوات القديمة شوقناكم فلم تشتاقوا
وزمرنا لكم فلم ترقصوا وخوفناكم فلم ترهبوا ونحنا لكم فلم تحزنوا
وقيل إن شعيبا بكى حتى عمى فرد الله إليه بصره ثم بكى حتى عمى فرد
عليه بصره ثم كذلك ثلاثا فقال الله تعالى (إن كان هذا البكاء شوقا إلى الجنة فقد
أبحتها لك وإن كان خوفا من النار فقد أجرتك منها) فقال وحقك لا هذا ولا هذا
ولكن شوقا إليك فقال له (لأجل ذلك أخدمتك نبيي وكليمي عشر سنين.
* * *
ومنها الزهد ورفض الدنيا قال سبحانه (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به
أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا) (3)
وجاء في الخبر إن يوسف عليه السلام كان يجوع في سنى الجدب فقيل له ا تجوع
وأنت على خزائن مصر فقال أخاف أن أشبع فأنسى الجياع
وكذلك قال علي عليه السلام وقد قيل له ا هذا لباسك وهذا ما مأكولك وأنت أمير

(1) سورة البقرة 94
(2) سورة العنكبوت 5
(3) سورة طه 131
236

المؤمنين فقال نعم إن الله فرض على أئمة العدل أن يقدروا لأنفسهم كضعفه الناس
كيلا يتبيغ (1) بالفقير فقره.
ومنع عمر بن الخطاب نفسه عام الرمادة الدسم وقال لا آكله حتى يصيبه
المسلمون جميعا.
وكان عمر بن عبد العزيز من أكثر الناس تنعما قبل أن يلي الخلافة قومت ثيابه
حينئذ بألف دينار وقومت وهو يخطب الناس أيام خلافته بثلاثة دراهم.
* * *
واعلم أن بعض هذه المراتب والمقامات التي ذكرناها للقوم قد يكون متداخلا في
الظاهر وله في الباطن عندهم فرق يعرفه من يأنس بكتبهم وقد اتينا في تقسيم مراتبهم
وتفصيل مقاماتهم في هذا الفصل بما فيه كفاية

(1) يتبيغ به فقره اي يغلبه ويحمله على الشر.
237

(218)
الأصل:
ومن كلام له عليه السلام:
قاله عند تلاوته (يا أيها الانسان ما غرك بربك الكريم) (1)
أدحض مسؤول حجة واقطع مغتر معذرة لقد أبرح جهالة بنفسه
يا أيها الانسان ما جراك على ذنبك وما غرك بربك وما انسك
بهلكة نفسك
اما من دائك بلول أم ليس من نومك يقظة اما ترحم من نفسك ما ترحم
من غيرك فلربما ترى الضاحي من حر الشمس فتظله أو ترى المبتلى بألم يمض
جسده فتبكي رحمة له
فما صبرك على دائك وجلدك على مصابك وعزاك عن البكاء على نفسك
وهي أعز الأنفس عليك وكيف لا يوقظك خوف بيات نقمة وقد تورطت
بمعاصيه مدارج سطواته
فتداو من داء الفترة في قلبك بعزيمة ومن كرى الغفلة في ناظرك بيقظة
وكن لله مطيعا وبذكره آنسا
وتمثل في حال توليك عنه إقباله عليك يدعوك إلى عفوه ويتغمدك
بفضله وأنت متول عنه إلى غيره

(1) سورة الانفطار 6
238

فتعالى من قوى ما أكرمه وتواضعت من ضعيف ما أجرأك على معصيته
وأنت في كنف ستره مقيم وفي سعة فضله متقلب فلم يمنعك فضله ولم يهتك
عنك ستره بل لم تخل من لطفه مطرف عين في نعمه يحدثها لك أو سيئة
يسترها عليك أو بلية يصرفها عنك فما ظنك به لو أطعته
وأيم الله لو إن هذه الصفة كانت في متفقين في القوة متوازيين في القدرة
لكنت أول حاكم على نفسك بذميم الأخلاق ومساوئ الأعمال
وحقا أقول ما الدنيا غرتك ولكن بها اغتررت ولقد كاشفتك العظات
وآذنتك على سواء
ولهى بما تعدك من نزول البلاء بجسمك والنقض في قوتك أصدق وأوفى من
أن تكذبك أو تغرك ولرب ناصح لها عندك متهم وصادق من
خبرها مكذب
ولئن تعرفتها في الديار الخاوية والربوع الخالية لتجدنها من حسن تذكيرك
وبلاغ موعظتك بمحله الشفيق عليك والشحيح بك ولنعم دار من لم يرض
بها دارا ومحل من لم يوطنها محلا
وإن السعداء غدا هم الهاربون منها اليوم إذا رجفت الراجفة وحقت
بجلائلها القيامة ولحق بكل منسك أهله وبكل معبود عبدته وبكل مطاع
أهل طاعته فلم يجر في عدله وقسطه يومئذ خرق بصر في الهواء ولا همس
قدم في الأرض الا بحقه فكم حجه يوم ذاك داحضة وعلائق عذر منقطعة
فتحر من امرك ما يقوم به عذرك وتثبت به حجتك وخذ ما يبقى لك
مما لا تبقى له وتيسر لسفرك وشم برق النجاة وارحل مطايا التشمير
239

الشرح:
لقائل أن يقول (لو قال ما غرك بربك العزيز أو المنتقم) أو نحو ذلك لكان أولى
لان للانسان المعاتب أن يقول غرني كرمك الذي وصفت به نفسك.
وجواب هذا أن يقال إن مجموع الصفات صار كشئ واحد وهو الكريم الذي
خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك والمعنى ما غرك برب هذه صفته
وهذا شانه وهو قادر على أن يجعلك في أي صورة شاء فما الذي يؤمنك من أن يمسخك
في صورة القردة والخنازير ونحوها من الحيوانات العجم ومعنى الكريم هاهنا الفياض
على المواد بالصور ومن هذه صفته ينبغي أن يخاف منه تبديل الصورة.
قال عليه السلام (أدحض مسؤول حجه) المبتدا محذوف والحجة
الداحضة الباطلة.
والمعذرة بكسر الذال العذر.
ويقال لقد أبرح فلان جهالة وأبرح لؤما وأبرح شجاعة وأتى بالبرح من ذلك
أي بالشديد العظيم ويقال هذا الامر أبرح من هذا أي أشد وقتلوه أبرح قتل
وجهالة منصوب على التمييز.
وقال القطب الراوندي مفعول به قال معناه جلب جهالة إلى نفسه وليس
بصحيح وأبرح لا يتعدى هاهنا وإنما يتعدى (أبرح) في موضعين أحدهما أبرحه
الأمر أي أعجبه والاخر أبرح زيد عمرا أي أكرمه وعظمه.
قوله (ما جراك) بالهمزة وفلان جرئ القوم أي مقدمهم.
وما انسك بالتشديد وروى (ما آنسك) بالمد كلاهما من أصل واحد وتأنست
240

بفلان واستأنست بمعنى وفلان أنيسي ومؤانسي وقد آنسني كله بمعنى
أي كيف لم تستوحش من الأمور التي تؤدى إلى هلكه نفسك.
والبلول مصدر بل الرجل من مرضه إذا برئ ويجوز (أبل) قال الشاعر
إذا بل من داء به ظن أنه * نجا وبه الداء الذي هو قاتله (1).
والضاحي لحر الشمس البارز وهذا داء ممض أي مؤلم أمضني الجرح إمضاضا
ويجوز (مضني).
وروى وجلدك على مصائبك) بصيغة الجمع.
وبيات نقمة بفتح الباء طروقها ليلا وهي من ألفاظ القرآن العزيز (2).
وتورط وقع في الورطة بتسكين الراء وهي الهلاك واصل الورطة ارض مطمئنة
لا طريق فيها وقد أورطه وورطه توريطا أي أوقعه فيها.
والمدارج الطرق والمسالك ويجوز انتصاب (مدارج) هاهنا لأنها مفعول به
صريح ويجوز أن ينتصب على تقدير حرف الخفض وحذفه أي في مدارج سطواته.
قوله و (تمثل) أي وتصور.
ويتغمدك بفضله أي يسترك بعفوه وسمى العفو والصفح فضلا تسميه
للنوع بالجنس.
قوله (مطرف عين) بفتح الراء أزمان طرف العين وطرفها اطباق أحد

(1) الصحاح 4: 1640 (من غير نسبة).
(2) مكنه قوله تعالى (وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون).
4 سورة الأعراف
241

جفنيها على الاخر وانتصاب (مطرف) هاهنا على الظرفية كقولك وردت مقدم الحاج
أي وقت قدومهم.
قوله (متوازيين في القدرة) أي متساويين وروى (متوازنين) بالنون.
والعظات جمع عظة وهو منصوب على نزع الخافض أي كاشفتك بالعظات وروى
(العظات) بالرفع على أنه فاعل وروى (كاشفتك الغطاء).
وآذنتك أي أعلمتك.
وعلى سواء أي على عدل وانصاف وهذا من الألفاظ القرآنية (1).
والراجفة الصيحة الأولى وحقت بجلائلها القيامة أي بأمورها العظام والمنسك
الموضع الذي تذبح فيه النسائك وهي ذبائح القربان ويجوز فتح السين وقد قرئ بهما
في قوله تعالى (لكل أمه جعلنا منسكا) (2).
فان قلت إذا كان يلحق بكل معبود عبدته فالنصارى اذن تلحق بعيسى
والغلاة من المسلمين بعلي وكذلك الملائكة فما القول في ذلك.
قلت لا ضرر في التحاق هؤلاء بمعبوديهم ومعنى الالتحاق أن يؤمر الاتباع في
الموقف بالتحيز إلى الجهة التي فيها الرؤساء ثم يقال للرؤساء أهؤلاء أتباعكم وعبدتكم
فحينئذ يتبرأون منهم فينجو الرؤساء وتهلك الاتباع كما قال سبحانه (ا هؤلاء إياكم
كانوا يعبدون * قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم
بهم مؤمنون) (3) أي إنما كانوا يطيعون الشياطين المضلة لهم فعبادتهم في

(1) منه قوله تعالى (واما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء)
58 الأنفال.
(2) سورة الحج 67.
(3) سورة سبأ 41.
242

الحقيقة للشياطين لا لنا وانهم ما أطاعونا ولو أطاعونا لكانوا مهتدين وإنما أطاعوا
شياطينهم.
ولا حاجة في هذا الجواب إلى أن يقال ما قيل في قوله تعالى (انكم وما تعبدون
من دون الله) (1) من تخصيص العموم بالآية الأخرى وهي قوله تعالى (إن الذين
سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون) (2).
فان قلت فما قولك في اعتراض ابن الزبعرى على الآية هل هو وارد.
قلت لا لأنه قال تعالى (انكم وما تعبدون) و (ما) لما لا يعقل فلا يرد
عليه الاعتراض بالمسيح والملائكة والذي قاله المفسرون من تخصيص العموم بالآية الثانية
تكلف غير محتاج إليه.
فان قلت فما الفائدة في إن قرن القوم بأصنامهم في النار وأي معنى لذلك في زيادة
التعذيب والسخط.
قلت لان النظر إلى وجه العدو باب من أبواب العذاب وإنما أصاب هؤلاء
ما أصابهم بسبب الأصنام التي ضلوا بها فكلما رأوها معهم زاد غمهم وحسرتهم.
وأيضا فإنهم قدروا أن يستشفعوا بها في الآخرة فإذا صادفوا الامر على عكس ذلك
لم يكن شئ أبغض إليهم منها.
قوله (فلم يجر) قد اختلف الرواة في هذه اللفظة فرواها قوم (فلم يجر) وهو
مضارع (جرى يجرى) تقول ما الذي جرى للقوم فيقول من سألته قدم الأمير من
السفر فيكون المعنى على هذا فلم يكن ولم يتجدد في ديوان حسابه ذلك اليوم صغير
ولا حقير الا بالحق والانصاف وهذا مثل قوله تعالى (لا ظلم اليوم إن الله سريع

(1) سورة الأنبياء 98.
(2) سورة الأنبياء 101.
243

الحساب) (1) ورواها قوم (فلم يجز) مضارع (جاز يجوز) أي لم يسغ ولم يرخص
ذلك اليوم لأحد من المكلفين في حركة من الحركات المحقرات المستصغرات الا إذا كانت
قد فعلها بحق وعلى هذا يجوز فعل مثلها ورواها قوم (فلم يجر) من (جار) أي عدل
عن الطريق أي لم يذهب عنه سبحانه ولم يضل ولم يشذ عن حسابه شئ من أمر
محقرات الأمور الا بحقه أي الا ما لا فائدة في اثباته والمحاسبة عليه نحو الحركات المباحة
والعبثية التي لا تدخل تحت التكليف.
وقال الراوندي (خرق بصر) مرفوع لأنه اسم ما لم يسم فاعله ولا أعرف لهذا
الكلام معنى.
والهمس الصوت الخفي.
قوله (فتحر من امرك) تحريت كذا أي توخيته وقصدته واعتمدته.
قوله (وتيسر لسفرك) أي هيئ أسباب السفر ولا تترك لذاك عائقا.
والشيم النظر إلى البرق.
ورحلت مطيتي إذا شددت على ظهرها الرحل قال الأعشى
رحلت سمية غدوة اجمالها * غضبى عليك فما تقول بدا لها (2).
والتشمير الجد والانكماش في الامر.
ومعاني الفصل ظاهرة وألفاظه الفصيحة تعطيها وتدل عليها بما لو أراد المفسر أن
يعبر عنه بعبارة غير عبارته عليه السلام لكان لفظه عليه السلام أولى أن يكون تفسيرا
لكلام ذلك المفسر

(1) سورة غافر 17.
(2) مطلع قصيدته ديوانه 22.
244

(219)
الأصل:
ومن كلام له عليه السلام:
والله لان أبيت على حسك السعدان مسهدا أو اجر في الأغلال مصفدا
أحب إلى من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد وغاصبا لشئ
من الحطام وكيف أظلم أحدا لنفس يسرع إلى البلى قفولها ويطول في
الثرى حلولها
والله لقد رأيت عقيلا وقد أملق حتى استماحني من بركم صاعا ورأيت
صبيانه شعث الشعور غبر الألوان من فقرهم كأنما سودت وجوههم بالعظلم
وعاودني مؤكدا وكرر على القول مرددا فأصغيت إليه سمعي فظن فقال إني
أبيعه
ديني واتبع قياده مفارقا طريقتي فأحميت له حديدة ثم أدنيتها من
جسمه ليعتبر بها فضج ضجيج ذي دنف من المها وكاد أن يحترق من ميسمها
فقلت له ثكلتك الثواكل يا عقيل أتئن من حديدة أحماها انسانها للعبه
وتجرني إلى نار سجرها جبارها لغضبه أتئن من الأذى ولا أئن من لظى
واعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة في وعائها ومعجونة شنئتها كأنما
عجنت بريق حية أو فيئها فقلت أصله أم زكاة أم صدقة فذلك محرم
علينا أهل البيت فقال لا ذا ولا ذاك ولكنها هديه فقلت هبلتك الهبول
ا عن دين الله اتيتني لتخدعني أمختبط أم ذو جنه أم تهجر والله لو أعطيت
الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة
245

ما فعلته وإن دنياكم عندي لاهون من ورقة في فم جرادة تقضمها
ما لعلى ولنعيم يفنى ولذة لا تبقى نعوذ بالله من سبات العقل وقبح
الزلل وبه نستعين
* * *
الشرح:
السعدان نبت ذو شوك يقال له حسك السعدان وحسكة السعدان وتشبه
به حلمة الثدي فيقال سعدانه الثندوة وهذا النبت من أفضل مراعى الإبل وفي
المثل (مرعى ولا كالسعدان) ونونه زائدة لأنه ليس في الكلام (فعلال) غير
مضاعف الا (خزعال) وهو ظلع يلحق الناقة و (قهقار) وهو الحجر الصلب
و (قسطال) وهو الغبار.
والمسهد الممنوع النوم وهو السهاد.
والأغلال القيود والمصفد المقيد والحطام عروض الدنيا ومتاعها شبه
لزواله وسرعة فنائه بما يتحطم من العيدان ويتكسر.
ثم قال كيف أظلم الناس لأجل نفس تموت سريعا - يعنى نفسه عليه السلام.
فان قلت ا ليس قوله (عن نفس يسرع إلى البلى قفولها) يشعر بمذهب من
قال بقدم الأنفس لان القفول الرجوع ولا يقال في مذهبه للمسافرة قافلة الا إذا
كانت راجعة.
قلت لا حاجة إلى القول بقدم الأنفس محافظة على هذه اللفظة وذلك لان
النفس إذا كانت حادثة فقد كان أصلها العدم فإذا مات الانسان عدمت نفسه فرجعت
إلى العدم الأصلي وهو المعبر عنه بالبلى.
246

وأملق افتقر قال تعالى (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق) (1).
واستماحني طلب منى أن أعطيه صاعا من الحنطة والصاع أربعة امداد والمد
رطل وثلث فمجموع ذلك خمسه أرطال وثلث رطل وجمع الصاع أصوع وإن
شئت همزت والصواع لغة في الصاع ويقال هو اناء يشرب فيه.
والعظلم بالكسرة في الحرفين نبت يصبغ به ما يراد اسوداده ويقال
هو الوسمة
وشعث الألوان أي غبر.
وأصغيت إليه أملت سمعي نحوه.
واتبع قياده أطيعه وانقاد له.
وأحميت الحديدة في النار فهي محماة ولا يقال حميت الحديدة.
وذي دنف أي ذي سقم مؤلم.
ومن ميسمها من أثرها في يده.
وثكلتك الثواكل دعاء عليه وهو جمع ثاكلة وفواعل لا يجئ الا جمع
المؤنث الا فيما شذ نحو فوارس أي ثكلتك نساؤك.
قوله (أحماها انسانها) أي صاحبها ولم يقل (انسان) لأنه يريد أن يقابل
هذه اللفظة بقوله (جبارها).
وسجرها بالتخفيف أوقدها و أحماها والسجور ما يسجر به التنور.
قوله (بملفوفة في وعائها) كان أهدى له الأشعث بن قيس نوعا من الحلواء
تأنق فيه وكان عليه السلام يبغض الأشعث لان الأشعث كان يبغضه وظن الأشعث
انه يستميله بالمهاداة لغرض دنيوي كان في نفس الأشعث وكان أمير المؤمنين

(1) سورة الأنعام 151.
247

عليه السلام يفطن لذلك ويعلمه ولذلك رد هدية الأشعث ولولا ذلك لقبلها لان
النبي صلى الله عليه وآله قبل الهدية وقد قبل علي عليه السلام هدايا جماعة من أصحابه
ودعاه بعض من كان يأنس إليه إلى حلواء عملها يوم نوروز فاكل وقال لم عملت
هذا فقال لأنه يوم نوروز فضحك وقال نورزوا لنا في كل يوم إن استطعتم.
وكان عليه السلام من لطافة الأخلاق وسجاحة الشيم على قاعدة عجيبة جميلة ولكنه
كان ينفر عن قوم كان يعلم من حالهم الشنان له وعمن يحاول إن يصانعه بذلك عن مال
المسلمين وهيهات حتى يلين لضرس الماضغ الحجر.
وقال بملفوفة في وعائها لأنه كان طبق مغطى.
ثم قال (ومعجونة شنئتها) أي أبغضتها ونفرت عنها كأنها عجنت بريق
الحية أو بقيئها وذلك أعظم الأسباب للنفرة من المأكول.
وقال الراوندي وصفها باللطافة فقال كأنها عجنت بريق الحية وهذا تفسير
أبعد من الصحيح.
قوله (ا صلة أم زكاة أم صدقة فذلك محرم علينا أهل البيت) الصلة
العطية لا يراد بها الاجر بل يراد وصلة التقرب إلى الموصول وأكثر ما تفعل للذكر
والصيت والزكاة هي ما تجب في النصاب من المال.
والصدقة هاهنا هي صدقة التطوع وقد تسمى الزكاة الواجبة صدقة الا انها هنا
هي النافلة.
فان قلت كيف قال (فذلك محرم علينا أهل البيت) وإنما يحرم عليهم الزكاة
الواجبة خاصة ولا يحرم عليهم صدقة التطوع ولا قبول الصلات قلت أراد
بقوله (أهل البيت) الاشخاص الخمسة محمدا وعليا وفاطمة وحسنا وحسينا
248

عليهم السلام فهؤلاء خاصه دون
غيرهم من بني هاشم محرم عليهم الصلة وقبول الصدقة واما
غيرهم من بني هاشم فلا يحرم عليهم الا الزكاة الواجبة خاصة.
فان قلت كيف قلت إن هؤلاء الخمسة يحرم عليهم قبول الصلات وقد كان
حسن وحسين عليه السلام يقبلان صلة معاوية.
قلت كلا لم يقبلا صلته ومعاذ الله أن يقبلاها وإنما قبلا منه ما كان يدفعه
إليهما من جملة حقهما من بيت المال فان سهم ذوي القربى منصوص عليه في الكتاب
العزيز ولهما غير سهم ذوي القربى سهم آخر للاسلام من الغنائم.
* * *
قوله (هبلتك الهبول) أي ثكلتك أمك والهبول التي لها عادة بثكل الولد.
فان قلت ما الفرق بين مختبط وذي جنة يهجر.
قلت المختبط المصروع من غلبة الأخلاط السوداوية أو غيرها عليه وذو الجنة من
به مس من الشيطان والذي يهجر هو الذي يهذي في مرض ليس بصرع كالمحموم
والمبرسم ونحوهما.
وجلب الشعيرة بضم الجيم قشرها والجلب والجلبة أيضا جليدة تعلو الجرح عند
البرء يقال منه جلب الجرح يجلب ويجلب واجلب الجرح أيضا ويقال للجليدة التي
تجعل على القتب جلبة أيضا.
وتقضمها بفتح الضاد والماضي قضم بالكسر
249

[نبذ من اخبار عقيل بن أبي طالب]
وعقيل هو عقيل بن أبي طالب - عليه السلام - بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف
أخو أمير المؤمنين عليه السلام لامه وأبيه وكان بنو أبى طالب أربعة طالب وهو أسن
من عقيل بعشر سنين وعقيل وهو أسن من جعفر بعشر سنين وجعفر وهو أسن من
على بعشر سنين وعلى وهو أصغرهم سنا وأعظمهم قدرا بل وأعظم الناس بعد ابن
عمه قدرا.
وكان أبو طالب يحب عقيلا أكثر من حبه سائر بنيه فلذلك قال للنبي صلى الله
عليه وآله وللعباس حين أتياه لا ليقتسما بنيه عام المحل فيخففا عنه ثقلهم (دعوا لي
عقيلا وخذوا من شئتم) فاخذ العباس جعفرا واخذ محمد صلى الله عليه وآله عليا
عليه السلام
وكان عقيل يكنى أبا يزيد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله (يا أبا يزيد انى
أحبك حبين حبا لقرابتك منى وحبا لما كنت اعلم من حب عمى إياك.
اخرج عقيل إلى بدر مكرها كما اخرج العباس فأسر وفدى وعاد إلى مكة
ثم اقبل مسلما مهاجرا قبل الحديبية وشهد غزاة مؤتة مع أخيه جعفر عليه السلام وتوفى
في خلافة معاوية في سنة خمسين وعمره ست وتسعون سنة.
وله دار بالمدينة معروفة وخرج إلى العراق ثم إلى الشام ثم عاد إلى المدينة ولم
يشهد مع أخيه أمير المؤمنين عليه السلام شيئا من حروبه أيام خلافته وعرض نفسه
وولده عليه فأعفاه ولم يكلفه حضور الحرب.
وكان انسب قريش وأعلمهم بأيامها وكان مبغضا إليهم لأنه كان يعد مساوئهم
250

وكانت له طنفسة تطرح في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله فيصلى عليها
ويجتمع إليه الناس في علم النسب وأيام العرب وكان حينئذ قد ذهب بصره وكان
أسرع الناس جوابا وأشدهم عارضه.
كان يقال إن في قريش أربعة يتحاكم إليهم في علم النسب وأيام قريش ويرجع
إلى قولهم عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل الزهري وأبو الجهم بن حذيفة
العدوي وحويط بن عبد العزى العامري.
واختلف الناس في عقيل هل التحق بمعاوية وأمير المؤمنين حي فقال قوم نعم
ورووا أن معاوية قال يوما وعقيل عنده هذا أبو زيد لولا علمه فقال إني
خير له من أخيه
لما أقام عندنا وتركه فقال عقيل أخي خير لي في ديني وأنت خير لي في دنياي
وقد آثرت دنياي أسأل الله خاتمة خير.
وقال قوم انه لم يعد إلى معاوية الا بعد وفاة أمير المؤمنين عليه السلام واستدلوا
على ذلك بالكتاب الذي كتبه إليه في آخر خلافته والجواب الذي أجابه عليه السلام و
قد ذكرناه فيما تقدم وسيأتي ذكره أيضا في باب كتبه عليه السلام وهذا القول هو
الأظهر عندي
* * *
وروى المدائني قال قال معاوية يوما يوما لعقيل بن أبي طالب هل من حاجة فأقضيها
لك قال نعم جارية عرضت على وأبى أصحابها أن يبيعوها الا بأربعين ألفا فأحب
معاوية أن يمازحه فقال وما تصنع بجارية قيمتها أربعون ألفا وأنت أعمى تجتزئ
بجارية قيمتها خمسون درهما قال أرجو أن أطأها فتلد لي غلاما إذا أغضبته يضرب
عنقك بالسيف فضحك معاوية وقال مازحناك يا أبا يزيد وامر فابتيعت له الجارية
251

التي أولد منها مسلما فلما أتت على مسلم ثماني عشرة سنة - وقد مات عقيل أبوه - قال
لمعاوية يا أمير المؤمنين إن لي أرضا بمكان كذا من المدينة وأني أعطيت بها مائة الف
وقد أحببت أن أبيعك إياها فادفع إلى ثمنها فامر معاوية بقبض الأرض ودفع
الثمن إليه.
فبلغ ذلك الحسين عليه السلام فكتب إلى معاوية اما بعد فإنك غررت غلاما
من بني هاشم فابتعت منه أرضا لا يملكها فاقبض من الغلام ما دفعته إليه واردد
إلينا أرضنا.
فبعث معاوية إلى مسلم فأخبره ذلك وأقرأه كتاب الحسين عليه السلام وقال
أردد علينا مالنا وخذ أرضك فإنك بعت ما لا تملك فقال مسلم اما دون أن اضرب
رأسك بالسيف فلا فاستلقى معاوية ضاحكا يضرب برجليه فقال يا بنى هذا والله
كلام قاله لي أبوك حين ابتعت له أمك.
ثم كتب إلى الحسين فقال إني
قد رددت عليكم الأرض وسوغت مسلما ما اخذ
فقال الحسين عليه السلام أبيتم يا آل أبي سفيان الا كرما.
* * *
وقال معاوية لعقيل يا أبا يزيد أين يكون عمك أبو لهب اليوم قال إذا دخلت
جهنم فاطلبه تجده مضاجعا لعمتك أم جميل بنت حرب بن أمية.
وقالت له زوجته ابنه عتبه بن ربيعة يا بني هاشم لا يحبكم قلبي ابدا ابن عمى
أين أخي كان أعناقهم أباريق الفضة ترى آنافهم الماء قبل شفاههم قال إذا دخلت
جهنم فخذي على شمالك.
252

سال معاوية عقيلا عن قصة الحديدة المحماة المذكورة فبكى وقال انا أحدثك
يا معاوية عنه ثم أحدثك عما سالت نزل بالحسين ابنه ضيف فاستسلف درهما اشترى
به خبزا واحتاج إلى الادام فطلب من قنبر خادمهم أن يفتح له زقا من زقاق عسل
جاءتهم من اليمن فاخذ منه رطلا فلما طلبها عليه السلام ليقسمها قال يا قنبر أظن أنه
حدث بهذا الزق حدث فأخبره فغضب عليه السلام وقال على بحسين فرفع عليه
الدرة فقال بحق عمى جعفر - وكان إذا سئل بحق جعفر سكن - فقاله ما حملك أن
اخذت منه قبل القسمة قال إن لنا فيه حقا فإذا أعطيناه رددناه قال فداك أبوك
وإن كان لك فيه حق فليس لك أن تنتفع بحقك قبل أن ينتفع المسلمون بحقوقهم اما
لولا فقال إني
رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله يقبل ثنيتك لأوجعتك ضربا ثم دفع إلى
قنبر درهما كان مصرورا في ردائه وقال اشتر به خير عسل تقدر عليه
قال عقيل والله لكأني انظر إلى يدي على وهي على فم الزق وقنبر يقلب
العسل فيه ثم شده وجعل يبكى ويقول اللهم اغفر لحسين فإنه لم يعلم.
فقال معاوية ذكرت من لا ينكر فضله رحم الله أبا حسن فلقد سبق من كان
قبله وأعجز من يأتي بعده هلم حديث الحديدة.
قال نعم أقويت وأصابتني مخمصة شديدة فسألته فلم تند صفاته فجمعت صبياني
وجئته بهم والبؤس والضر ظاهران عليهم فقال أئتني عشية لأدفع إليك شيئا فجئته
يقودني أحد ولدى فأمره بالتنحي ثم قال الا فدونك فأوهيت حريصا - قد غلبني
الجشع أظنها صرة - فوضعت يدي على حديدة تلتهب نارا فلما قبضتها نبذتها
وخرت كما يخور الثور تحت يد جازره فقال لي ثكلتك أمك هذا من حديدة
253

أوقدت لها نار الدنيا فكيف بك وبي غدا إن سلكنا في سلاسل جهنم ثم قرا
(إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون) (1).
ثم قال ليس لك عندي فوق حقك الذي فرضه الله لك الا ما ترى فانصرف
إلى أهلك.
فجعل معاوية يتعجب ويقول هيهات هيهات عقمت النساء أن يلدن مثله

(1) سورة غافر 71.
254

(220)
الأصل:
ومن دعاء له عليه السلام:
اللهم صن وجهي باليسار ولا تبذل جاهي بالإقتار فأسترزق طالبي رزقك
واستعطف شرار خلقك وابتلى بحمد من أعطاني وافتتن بذم من منعني
وأنت من وراء ذلك كله ولى الاعطاء والمنع (انك على كل شئ قدير)
* * *
الشرح:
صن وجهي باليسار أي استره بان ترزقني يسارا وثروة استغنى بهما عن
مسالة الناس.
ولا تبذل جاهي بالإقتار أي لا تسقط مروءتي وحرمتي بين الناس بالفقر الذي احتاج
معه إلى تكفف الناس.
* * *
وروى أن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب الجواد رقت حاله في آخر عمره
لان عبد الملك جفاه فراح يوما إلى الجمعة فدعا فقال اللهم انك عودتني عادة
جريت عليها فإن كان ذلك قد انقضى فاقبضني إليك فلم يلحق الجمعة الأخرى.
وكان الحسن بن علي عليه السلام يدعو فيقول (اللهم وسع على فإنه لا يسعني
الا الكثير).
255

قوله (فأسترزق) منصوب لأنه جواب الدعاء كقولهم ارزقني بعيرا فأحج عليه
بين عليه السلام كيفية تبذل جاهه بالإقتار وفسره فقال بان اطلب الرزق ممن يطلب
منك الرزق.
و استعطف الأشرار من الناس أي اطلب عاطفتهم وأفضالهم ويلزم من ذلك
أمران محذوران
أحدهما أن ابتلى بحمد المعطى.
والاخر أن أفتتن بذم المانع.
قوله عليه السلام: (وأنت من وراء ذلك كله) مثل يقال للمحيط بالامر
القاهر له القادر عليه كما نقول للملك العظيم هو من وراء وزرائه وكتابه أي مستعد متهيئ
لتتبعهم وتعقبهم واعتبار حركاتهم لإحاطته بها وإشرافه عليها.
وولى مرفوع بأنه خبر المبتدا ويكون خبرا بعد خبر ويجوز أن يكون
(ولى) هو الخبر ويكون (من وراء ذلك) جملة مركبة من جار ومجرور
منصوبة الموضع لأنه حال
256

(221)
الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام:
دار بالبلاء محفوفة وبالغدر معروفة لا تدوم أحوالها ولا يسلم نزالها
أحوال مختلفة وتارات متصرفة العيش فيها مذموم والأمان منها (1) معدوم
وإنما أهلها فيها أغراض مستهدفة ترميهم بسهامها وتفنيهم بحمامها
واعلموا عباد الله انكم وما أنتم فيه من هذه الدنيا على سبيل من قد
مضى قبلكم ممن كان أطول منكم أعمارا وأعمر ديارا وابعد آثارا
أصبحت أصواتهم هامدة ورياحهم راكدة وأجسادهم بالية وديارهم خالية
وآثارهم عافيه فاستبدلوا بالقصور المشيدة والنمارق الممهدة الصخور
والأحجار المسندة والقبور اللاطئة الملحدة التي قد بنى على الخراب فناؤها
وشيد بالتراب بناؤها فمحلها مقترب وساكنها مغترب بين أهل محله موحشين
وأهل فراغ متشاغلين لا يستأنسون بالأوطان ولا يتواصلون تواصل الجيران
على ما بينهم من قرب الجوار ودنو الدار وكيف يكون بينهم تزاور وقد طحنهم
بكلكلة البلى وأكلتهم الجنادل والثرى
وكان قد صرتم إلى ما صاروا إليه وارتهنكم ذلك المضجع وضمكم
ذلك المستودع
فكيف بكم لو تناهت بكم الأمور وبعثرت القبور (هنالك تبلو كل

(1) ب " فيها ".
257

نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون) (1)
* * *
الشرح:
بالبلاء محفوفة قد أحاط بها من كل جانب.
وتارات جمع تارة وهي المرة الواحدة ومتصرفة منتقلة متحولة.
ومستهدفة بكسر الدال منتصبة مهيأة للرمي وروى (مستهدفة) بفتح الدال على
المفعولية كأنها قد استهدفها غيرها أي جعلها أهدافا.
ورياحهم راكدة ساكنة وآثارهم عافية مندرسة.
والقصور المشيدة العالية ومن روى (المشيدة) بالتخفيف وكسر الشين فمعناه
المعمولة بالشيد وهو الجص.
والنمارق الوسائد.
والقبور الملحدة ذوات اللحود.
وروى (والأحجار المسندة) بالتشديد.
قوله عليه السلام: (قد بنى على الخراب فناؤها) أي بنيت لا لتسكن الاحياء فيها
كما تبنى منازل أهل الدنيا.
والكلكل الصدر وهو ها هنا استعارة.
والجنادل الحجارة وبعثرت القبور أثيرت.
وتبلو كل نفس ما أسلفت تخبر وتعلم جزاء أعمالها وفيه حذف مضاف ومن

(1) سورة يونس 30.
258

قرا (تتلو) بالتاء بنقطتين أي تقرأ كل نفس كتابها وضل عنهم ما كانوا يفترون
بطل عنهم ما كانوا يدعونه ويكذبون فيه من القول بالشركاء وانهم شفعاء
* * *
[ذكر بعض الآثار والاشعار الواردة في ذم الدنيا]
ومن كلام بعض البلغاء في ذم الدنيا اما بعد فان الدنيا قد عاتبت نفسها بما أبدت
من تصرفها وأنبأت عن مساوئها بما أظهرت عن مصارع أهلها ودلت على عوراتها
بتغير حالاتها ونطقت السنة العبر فيها بزوالها وشهد اختلاف شؤونها على فنائها ولم يبق
لمرتاب فيها ريب ولا ناظر في عواقبها شك بل عرفها جل من عرفها معرفة يقين
وكشفوها أوضح تكشيف ثم اختلجتهم الأهواء عن منافع العلم ودلتهم الآمال بغرور
فلججت بهم في غمرات العجز فسبحوا في بحورها موقنين بالهلكة ورتعوا في عراصها
عارفين بالخدعة فكان يقينهم شكا وعلمهم جهلا لا بالعلم انتفعوا ولا بما عاينوا
اعتبروا قلوبهم عالمة جاهلة وأبدانهم شاهدة غائبة حتى طرقتهم المنية فأعجلتهم عن
الأمنية فبغتتهم القيامة وأورثتهم الندامة وكذلك الهوى حلت مذاقته وسمت
عاقبته والأمل ينسى طويلا ويأخذ وشيكا فانتفع امرؤ بعلمه وجاهد هواه
أن يضله وجانب أمله أن يغره وقوى يقينه على العمل ونفى عنه الشك بقطع الامل
فان الهوى والأمل إذا استضعفا اليقين صرعاه وإذا تعاونا على ذي غفلة خدعاه
فصريعهما لا ينهض سالما وخديعهما لا يزال نادما والقوى من قوى عليهما والحازم
من احترس منهما ألبسنا الله وإياكم جنة السلامة ووقانا وإياكم سوء العذاب.
259

كان عمر بن عبد العزيز إذا جلس للقضاء قرا (ا فرأيت إن متعناهم سنين *
ثم جاءهم ما كانوا يوعدون * ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون) (1).
قال منصور بن عمار لأهل مجلسه ما أرى إساءة تكبر على عفو الله فلا تياس
وربما آخذ الله على الصغير فلا تأمن وقد علمت أنك بطول عفو الله عنك عمرت مجالس
الاغترار به ورضيت لنفسك المقام على سخطه ولو كنت تعاقب نفسك بقدر تجاوزه
عن سيئاتك ما استمر بك لجاج فيما نهيت عنه ولا قصرت دون المبالغة فيه
ولكنك رهين غفلتك وأسير حيرتك.
قال إسماعيل بن زياد أبو يعقوب قدم علينا بعبادان راهب من الشام ونزل دير ابن أبي
كبشة فذكروا حكمة كلامه فحملني ذلك على لقائه فأتيته وهو يقول إن لله عبادا
سمت بهم هممهم فهووا عظيم الذخائر فالتمسوا من فضل سيدهم توفيقا يبلغهم سمو الهمم
فان استطعتم أيها المرتحلون عن قريب أن تأخذوا ببعض أمرهم فإنهم قوم قد ملكت
الآخرة قلوبهم فلم تجد الدنيا فيها ملبسا فالحزن بثهم والدمع راحتهم والدؤوب
وسيلتهم وحسن الظن قربانهم يحزنون بطول المكث في الدنيا إذا فرح أهلها فهم
فيها مسجونون والى الآخرة منطلقون.
فما سمعت موعظة كانت أنفع لي منها.
* * *
ومن جيد شعر أبى نواس في الزهد (2):
يا بنى النقص والغير * وبنى الضعف والخور
وبنى البعد في الطباع * على القرب في الصور

(1) سورة الشعراء 205، 207.
(2) ديوانه 195.
260

والشكول التي تباين * في الطول والقصر
أين من كان قبلكم * من ذوي الباس والخطر
سائلوا عنهم المدائن * واستبحثوا الخبر
سبقونا إلى الرحيل وانا لبالأثر
من مضى عبرة لنا * وغدا نحن معتبر
إن للموت اخذه * تسبق اللمح بالبصر
فكأني بكم غدا * في ثياب من المدر
قد نقلتم من القصور * إلى ظلمة الحفر
حيث لا تضرب القباب * عليكم ولا الحجر
حيث لا تطربون منه * للهو ولا سمر (1)
رحم الله مسلما * ذكر الموت فازدجر
رحم الله مؤمنا * خاف فاستشعر الحذر.
* * *
ومن جيد شعر الرضى أبى الحسن رحمه الله في ذكر الدنيا وتقلبها بأهلها (1)
وهل نحن الا مرامي السهام * يحفزها نابل دائب (3)
نسر إذا جازنا طائش * ونجزع إن مسنا صائب
ففي يومنا قدر لا بد * وعند غد قدر واثب (4)

(1) رواية الديوان:
حيث لا تظهرون * فيه للهو ولا سمر
(2) ديوانه لوحة 711 من قصيدة يرثي فيها عميد الجيوش أبا على الحسن بن جعفر.
(3) النابل: صاحب النبل والدائب المجد.
(4) لابد: مقيم.
261

طرائد تطردها النائبات * ولا بد أن يدرك الطالب
أرى المرء يفعل فعل وهو غدا حما لازب (1)
عواري من سلب الهالكين * يمد يدا نحوها السالب
لنا بالردى موعد صادق * ونيل المنى موعد كاذب
حبائل للدهر مبثوثة * يرد إلى جذبها الهارب
وكيف نجاوز غاياتنا * وقد بلغ المورد القارب (2)
نصبح بالكاس مجدوحة (3) * ذعافا ولا يعلم الشارب (4)
* * *
وقال أيضا وهي من محاسن شعره:
ما أقل اعتبارنا بالزمان * وأشد اغترارنا بالأماني (5)
وقفات على غرور وإقدام * على مزلق من الحدثان
في حروب مع الردى فكأنا اليوم * في هدنة مع الأزمان
وكفانا مذكرا بالمنايا * علمنا أننا من الحيوان
كل يوم رزية بفلان * ووقوع من الردى بفلان
كم تراني أضل نفسا وألهو * فكأني وثقت بالوجدان
قل لهذي الهوامل استوقفي السير أو استنشدي عن الأعطان
واستقيمي قد ضمك اللقم النهج وغنى وراءك الحاديان (6)

(1) الحمأ الطين الأسود المنتن واللازب الصلب اللازق.
(2) المورد مكان ورد الماء والقارب الذي يطلب الماء.
(3) نصبح نؤتي بها وقت الصبح ومجدوحة مخلوطة
(4) رواية الديوان:
* ولا علم لي أينا الشارب *
(5) ديوانه لوحة 155 يرثي صديقا له من بنى العباس اسمه أبو عبد الله بن الإمام.
(6) اللقم معظم الطريق.
262

كم محيدا عن الطريق وقد ضرح خلج البري وجذب العران
ننثني جازعين من عدوة الدهر * ونرتاع للمنايا الرواني
جفلة السرب في الظلام وقد ذعذع * روعا من عدوة الذؤبان
ثم ننسى جرح الحمام وإن كان * رغيبا يا قرب ذا النسيان
كل يوم تزايل من خليط * بالردى أو تباعد من دان (1)
وسواء مضى بنا القدر الجد عجولا أو ماطل العصران.
* * *
وأيضا من هذه القصيدة
قد مررنا على الديار خشوعا * ورأينا البنا فأين الباني
وجهلنا الرسوم ثم علمنا * فذكرنا الأوطار بالأوطان
التفاتا إلى القرون الخوالي * هل ترى اليوم غير قرن فان
أين رب السدير فالحيرة البيضاء أم أين صاحب الإيوان
والسيوف الحداد من آل بدر * والقنا الصم من بنى الريان
طردتهم وقائع الدهر عن لعلع طرد السفاف عن نجران
والمواضي من آل جفنة أرسى * طنبا ملكهم على الجولان
يكرعون العقار في فلق الإبريز كرع الظماء في الغدران (2)
من أباة اللعن الذين يحيون * بها في معاقد التيجان
تتراءاهم الوفود بعيدا * ضاربين الصدور بالأذقان

(1) الخليط: الصديق والداني القريب
(2) الفلق: القطعة من الجفان
263

في رياض من السماح حوال * وجبال من الحلوم رزان
وهم الماء لذ للناهل الظمآن بردا والنار للحيران
كل مستيقظ الجنان إذا أظلم ليل النوامة المبطان
يغتدي في السباب غير شجاع * ويرى في النزال غير جبان
ما ثنت عنهم المنون يدا شوكاء * أطرافها من المران (1)
عطف الدهر فرعهم فرآه * بعد بعد الذرا قريب المجاني
وثنتهم بعد الجماح المنايا * في عنان التسليم والاذعان
عطلت منهم المقاري وبأخت * في حماهم مواقد النيران (2)
ليس يبقى على الزمان جرئ * في إباء أو عاجز في هوان
لا شبوب من الصوار ولا أعنق يرعى منابت العلجان
لا ولا خاضب من الربد يختال * بريط أحم غير يمان (3)
يرتمي وجهه الرئال إذا * آنس لون الإظلام والإدجان
وعقاب الملاع تلحم فرخيها بإزليقة زلول القنان
نائلا في مطامح الجو هاتيك * وذا في مهابط الغيطان
وهذا شعر فصيح نادر معرق في العربية

(1) المران: الرماح.
(2) بأخت خمدت
(3) الربط: جمع ربطة.
264

ومن شعره الجيد أيضا في ذكر الدنيا ومصائبها (1):
أوما رأيت وقائع الدهر * أفلا تسئ الظن بالعمر
بينا الفتى كالطود تكنفه * هضباته والعضب ذي الأثر
يأبى الدنية في عشيرته * ويجاذب الأيدي على الفخر
وإذا أشار إلى قبائله * حشدت عليه بأوجه غر
يترادفون على الرماح فهم * سيل يعب وعارض يسرى
إن نهنهوا زادوا مقاربة * فكأنما يدعون بالزجر
عدد النجوم إذا دعى بهم * يتزاحمون تزاحم الشعر
عقدوا على الجلي مآزرهم * سبطي الأنامل طيبي النشر
زل الزمان بوطء أخمصه * ومواطئ الاقدام للعثر
نزع الاباء وكان شملته * وأقر اقرارا على صغر
صدع الردى أعيا تلاحمه * من الحم الصدفين بالقطر
جر الجياد على الوجى ومضى * أمما يدق السهل بالوعر
حتى التقى بالشمس مغمدة * في قعر منقطع من البحر
ثم انثنت كف المنون به * كالضغث بين الناب والظفر
لم تشتجر عنه الرماح ولا * رد القضاء بماله الدثر
جمع الجنود وراءه فكأنما * لاقته وهو مضيع الظهر
وبنى الحصون تمنعا فكأنما * أمسى بمضيعة وما يدرى
وبري المعابل للعدا فكأنما * لحمامه كان الذي يبرى

(1) من قصيدة يرثى بها أبا الحسن عبد الله بن محمد ديوانه لوحة 132.
265

إن التوقي فرط معجزة * فدع القضاء يقد أو يفرى
وحمى المطاعم للبقا وذي الآجال ملء فروجها تجرى
لو كان حفظ النفس ينفعنا * كان الطبيب أحق بالعمر
الموت داء لا دواء له * سيان ما يوبي وما يمري.
وهذا من حر الكلام وفصيحة ونادرة ولا عجب فهذه الورقة من تلك الشجرة
وهذا القبس من تلك النار!
266

(222)
الأصل:
ومن دعاء عليه السلام اللهم انك آنس الآنسين لأوليائك واحضرهم بالكفاية للمتوكلين
عليك تشاهدهم في سرائرهم وتطلع عليهم في ضمائرهم وتعلم مبلغ
بصائرهم فأسرارهم لك مكشوفة وقلوبهم إليك ملهوفة إن أوحشتهم الغربة
آنسهم ذكرك وإن صبت عليهم المصائب لجأوا إلى الاستجارة بك علما بان
أزمة الأمور بيدك ومصادرها عن قضائك
اللهم إن فههت عن مسألتي أو عميت عن طلبتي فدلني على مصالحي وخذ
بقلبي إلى مراشدي فليس ذلك بنكر من هداياتك ولا ببدع
من كفاياتك
اللهم احملني على عفوك ولا تحملني على عدلك
* * *
الشرح:
آنست ضد وحشت والإيناس ضد الإيحاش وكان القياس أن يقول
انك آنس المؤنسين لان الماضي (افعل) وإنما الآنسون جمع آنس وهو الفاعل من
آنست بكذا لا من (آنست) فالرواية الصحيحة اذن (بأوليائك) أي أنت أكثرهم انسا
بأوليائك وعطفا وتحننا عليهم.
واحضرهم بالكفاية أي ابلغهم احضارا لكفاية المتوكلين عليهم وأقومهم بذلك
267

تشاهدهم في سرائرهم أي تطلع على غيبهم والبصائر العزائم نفذت بصيرته في كذا
أي حق عزمه.
وقلوبهم إليك ملهوفة أي صارخة مستغيثة.
وفههت عن مسألتي بالكسر عييت والفهة والفهاهة العي رجل أفه ورجل
فه أيضا وامرأة فههة قال الشاعر
فلم تلفني فها ولم تلف حاجتي ملجلجة أبغي لها من يقيمها (1).
وقد فههت يا رجل فهها اي عييت ويقال سفيه فهيه وفههه الله وخرجت
لحاجة فأفهني عنها فلان اي أنسانيها.
ويروى (أو عمهت) بالهاء والميم المكسورة والعمه التحير والتردد عمه الرجل فهو
عمه وعامه والجمع عمه وارض عمهاء لا اعلام بها.
والنكر العجب والبدع المبتدع ومنه قوله تعالى (قل ما كنت بدعا من
الرسل) (2) أي لم آت بما لم أسبق إليه.
ومثل قوله عليه السلام: (اللهم احملني على عفوك ولا تحملني على عدلك) قول
المروانية للهاشمية لما قتل مروان في خبر قد اقتصصناه قديما ليسعنا عدلكم قالت
الهاشمية اذن لا نبقى منكم أحدا لأنكم حاربتم عليا عليه السلام وسممتم الحسن
عليه السلام وقتلتم الحسين وزيدا وابنه وضربتم علي بن عبد الله وخنقتم إبراهيم
الامام في جراب النورة.
قالت قد يسعنا عفوكم قالت اما هذا فنعم

(1) الصحاح 1245 من غير نسبة
(2) سورة الأحقاف 9.
268

[أدعية فصيحة من كلام أبى حيان التوحيدي]
ومن الدعوات الفصيحة المستحسنة فصول من كلام أبى حيان التوحيدي نقلتها.
فمنها اللهم إني أبرأ من الثقة الا بك ومن الامل الا فيك ومن التسليم الا لك
ومن التفويض الا إليك ومن التوكل الا عليك ومن الطلب الا منك ومن الرضا
الا عنك ومن الذل الا في طاعتك ومن الصبر الا على بلائك وأسألك أن تجعل
الاخلاص قرين عقيدتي والشكر على نعمك شعاري ودثاري والنظر إلى ملكوتك
دأبي وديدني والانقياد لك شأني وشغلي والخوف منك أمني وايماني واللياذ بذكرك
بهجتي وسروري.
اللهم تتابع برك واتصل خيرك وعظم رفدك وتناهى إحسانك وصدق وعدك
وبر قسمك وعمت فواضلك وتمت نوافلك ولم تبق حاجة الا وقد قضيتها أو تكلفت
بقضائها فاختم ذلك كله بالرضا والمغفرة انك هل ذلك والقادر عليه والملي به.
* * *
ومنها اللهم إني أسألك خفايا لطفك وفواتح توفيقك ومألوف برك وعوائد
إحسانك وجاه المقدسين من ملائكتك ومنزلة المصطفين من رسلك ومكاثرة الأولياء
من خلقك وعاقبة المتقين من عبادك.
وأسألك القناعة برزقك والرضا بحكمك والنزاهة عن محظورك والورع في
شبهاتك والقيام بحجتك والاعتبار بما أبديت والتسليم لما أخفيت والاقبال
على ما أمرت والوقوف عما زجرت حتى اتخذ الحق حجة عندما خف وثقل والصدق
سنة فيما عسر وسهل وحتى أرى أن شعار الزهد أعز شعار ومنظر الباطل أشوه منظر
269

فأتبختر في ملكوتك بفضفاض الرداء بالدعاء إليك وأبلغ الغاية القصوى بين خلقك
بالثناء عليك.
* * *
ومنها اللهم إليك ارفع عجري وبجري وبك استعين في عسري ويسرى
وإياك ادعو رغبا ورهبا فإنك العالم بتسويل النفس وفتنة الشيطان وزينة الهوى
وصرف الدهر وتلون الصديق وبائقة الثقة وقنوط القلب وضعف المنة
وسوء الجزع.
فقني اللهم ذلك كله واجمع من أمري شمله وانظم من شأني شتيته واحرسني عند
الغنى من البطر وعند الفقر من الضجر وعند الكفاية من الغفلة وعند الحاجة من
الحسرة وعند الراحة من الفسولة وعند الطلب من الخيبة وعند المنازلة من الطغيان
وعند البحث من الاعتراض عليك وعند التسليم من التهمة لك.
وأسألك أن تجعل صدري خزانة توحيدك ولساني مفتاح تمجيدك وجوارحي
خدم طاعتك فإنه لا عز الا في الذل لك ولا غنى الا في الفقر إليك ولا امن الا في
الخوف منك ولا قرار الا في القلق نحوك ولا روح الا في الكرب لوجهك ولا ثقة
الا في تهمة خلقك ولا راحة الا في الرضا بقسمك ولا عيش الا في جوار المقربين عندك.
* * *
ومنها اللهم ببرهانك الصادع وبنور وجهك الساطع صل على محمد نبيك نبي الرحمة
وقائد الأمة وامام الأئمة واحرس على إيماني بك بالتسليم لك وخفف عنى مؤنة الصبر
على امتحانك وواصل لي أسباب المزيد عند الشكر على نعمتك واجعل بقية عمري في
غنى عن خلقك ورضا بالمقدم من رزقك.
270

اللهم انك إن آخذتنا بذنوبنا خسفت الأرض بنا وإن جازيتنا على ظلمنا قطعت
دوابرنا فإنك قلت (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) (1)
اللهم إليك نشكو قسوة قلوبنا وغل صدورنا وفتنة أنفسنا وطموح أبصارنا ورفث
ألسنتنا وسخف أحلامنا وسوء أعمالنا وفحش لجاجنا وقبح دعوانا ونتن أشرارنا
وخبث أخيارنا وتلزق ظاهرنا وتمزق باطننا.
اللهم فارحمنا وارأف بنا واعطف علينا وأحسن إلينا وتجاوز عنا واقبل الميسور
منا فإننا أهل عقوبة وأنت أهل مغفرة وأنت بما وصفت به نفسك أحق منا
بما وسمنا به أنفسنا فان في ذلك ما اقترن بكرمك وأدى إلى عفوك ومن قبل ذلك
وبعده فأطب عيشنا بنعمتك وأرح أرواحنا من كد الامل في خلقك وخذ بأزمتنا
إلى بابك واله قلوبنا عن هذه الدار الفانية وازرع فيها محبة الدار الباقية وقلبنا على
بساط لطفك وحثنا بالاحسان إلى كنفك ورفهنا عن التماس ما عند غيرك واغضض
عيوننا من ملاحظة ما حجب من غيرك وصل بيننا وبين الرضا عنك وارفع عنا مؤنة
العرض عليك وخفف علينا كل ما أوصلنا إليك وأذقنا حلاوة قربك واكشف
عن سرائرنا سواتر حجبك ووكل بنا الحفظة وارزقنا اليقظة حتى لا نقترف
سيئة ولا نفارق حسنة انك قائم على كل نفس بما كسبت وأنت بما نخفى وما نعلن
خبير بصير.
* * *
ومنها اللهم أنت الحي القيوم والأول الدائم والإله القديم والبارئ المصور
والخالق المقدس والجبار الرفيع والقهار المنيع والملك الصفوح والوهاب المنوح

(1) سورة الأنعام 45.
271

والرحمن الرؤوف والحنان العطوف والمنان اللطيف مالك الذوائب والنواصي وحافظ
الأداني والأقاصي ومصرف المطيع والعاصي.
اللهم أنت الظاهر الذي لا يجحدك جاحد الا زايلته الطمأنينة وأسلمه الياس
وأوحشه القنوط ورحلت عنه العصمة وتردد بين رجاء قد نأى عنه التوفيق وأمل قد
حفت به الخيبة وطمع يحوم على ارجاء التكذيب وسر قد أطاف به الشقاء وعلانية
قد أناف عليها البلاء موهون المنة منسوخ العقدة مسلوب العدة تشنؤه العين
وتقليه النفس عقله عقل طائر ولبه لب حائر وحكمه حكم جائر لا يروم قرارا الا
أزعج عنه ولا يستفتح بابا الا ارتج دونه ولا يقتبس ضرما الا أجج عليه عثرته
موصولة بالعثرة وحسرته مقرونة إلى حسرة إن سمع زيف وإن قال حرف
وإن قضى خرف وإن احتج زخرف ولو فاء إلى الحق لوجد ظله ظليلا وأصاب
تحته مثوى ومقيلا
وأنت الباطن الذي لا يرومك رائم ولا يحوم على حقيقتك حائم الا غشيه من
نور إلهيتك وعز سلطانك وعجيب قدرتك وباهر برهانك وغرائب غيوبك
وخفى شأنك ومخوف سطوتك ومرجو إحسانك ما يرده خاسئا من مزحزحه عن
الغاية خجلا مبهورا ويرده إلى عجزه ملتحفا بالندم مرتديا بالاستكانة راجعا إلى
الصغار موقوفا مع الذلة فظاهرك يدعو إليك بلسان الاضطرار وباطنك يحير فيك لسعة
قضاء الاعتبار وفعلك يدل عليك الاسماع والابصار وحكمتك تعجب منك الألباب
والاسرار لك السلطان والملكة وبيدك النجاة والهلكة فإليك
المفر ومعك
المقر ومنك صنوف الاحسان والبر أسألك بأصح سر وأكرم لفظ وأفصح لغة
وأتم إخلاص وأشرف همة وأفضل نية وأطهر عقيدة وأثبت يقين أن تصد عنى
272

كل ما يصد عنك وتصلني بكل ما يصل بك وتحبب إلى كل ما يحبب إليك فإنك
الأول و الثاني والمشار إليه في جميع المعاني لا إله الا أنت.
* * *
ومنها اللهم إني أسألك جدا مقرونا بالتوفيق وعلما بريئا من الجهل وعملا عريا
من الرياء وقولا موشحا بالصواب وحالا دائرة مع الحق وفطنة عقل مضروبة في
سلامة صدور وراحة جسم راجعة إلى روح بال وسكون نفس موصولا بثبات يقين
وصحة حجة بعيدة من مرض شبهة حتى تكون غايتي في هذه الدنيا موصولة بالأمثل
فالأمثل وعاقبتي عندك محمودة بالأفضل فالأفضل من حياة طيبة أنت الواعد بها
ونعيم دائم أنت المبلغ إليه.
اللهم لا تخيب رجاء هو منوط بك ولا تصفر كفا هي ممدودة إليك ولا تعذب
عينا فتحتها بنعمتك ولا تذل نفسا هي عزيزة بمعرفتك ولا تسلب عقلا هو مستضئ
بنور هدايتك ولا تخرس لسانا عودته الثناء عليك فكما كنت أولا بالتفضل
فكن آخرا بالاحسان.
الناصية بيدك والوجه عان لك والخير متوقع منك والمصير على كل
حال إليك.
ألبسني في هذه الحياة البائدة ثوب العصمة وحلني في تلك الدار الباقية بزينة الامن
وافطم نفسي عن طلب العاجلة الزائدة وآجرني على العادة الفاضلة ولا تجعلني ممن سها عن
باطن مالك عليه بظاهر ما لك عنده فالشقي من لم تأخذ بيده ولم تؤمنه من غده والسعيد
من آويته إلى كنفه نعمتك ونقلته حميدا إلى منازل رحمتك غير مناقش في الحساب
ولا سائق له إلى العذاب فإنك على ذلك قدير.
* * *
ومنها اللهم اجعل غدونا إليك مقرونا بالتوكل عليك ورواحنا عنك موصولا
273

بالنجاح منك وإجابتنا لك راجعة إلى التهالك فيك وذكرنا إياك منوطا بالسكون
معك وثقتنا بك هادية إلى التفويض إليك ولا تخلنا من يد تستوعب الشكر
ومن شكر يمتري خلف المزيد ومن مزيد يسبق اقتراح المقترحين وصنع يفوق
ذرع الطالبين حتى نلقاك مبشرين بالرضا محكمين في المنى غير مناقشين
ولا مطرودين.
اللهم أعذنا من جشع الفقير وريبة المنافق وتجليح (1) المعاند وطيشة العجول وفترة
الكسلان وحيلة المستبد وفتور العقل (2) وحيرة المخرج وحسرة المحوج وفلتة
الذهول وحرقة النكول (3) ورقة الخائف وطمأنينة المغرور وغفلة الغرور.
واكفنا مؤنة أخ يرصد مسكونا إليه ويمكر موثوقا به ويخيس (4) معتمدا عليه.
وصل الكفاية بالسلوة عن هذه الدنيا واجعل التهافنا عليها حنينا إلى دار السلام
ومحل القرار وغلب ايماننا بالغيب على يقيننا بالعيان واحسرنا من أنفسنا فإنها ينابيع
الشهوة ومفاتيح البلوى.
وأرنا من قدرتك ما يحفظ علينا هيبتك وأوضح لنا من حكمتك ما يقلبنا في
ملكوتك وأسبغ علينا من نعمتك ما يكون لنا عونا على طاعتك وأشع في صدورنا
من نورك ما تتجلى به حقائق توحيدك
واجعل ديدننا ذكرك وعادتنا الشوق إليك وعلمنا النصح لخلقك واجعل غايتنا
الاتصال بك واحجبنا عن قول يبرئ من رضاك وعمل يعمى صاحبه عن هداك وآلف
بيننا وبين الحق وقربنا من معادن الصدق واعصمنا من بوائق الخلق وانقلنا من
مضايق الرق واهدنا إلى فوائد العتق.
اللهم انك بدأت بالصنع وأنت أهله فعد بالتوفيق فإنك أهله

(1) جلح في الامر ركب رأسه
(2) ا: " الفعل "
(3) ب: " الثكول " وما أثبته من ا
(4) يخيس يغدر.
274

اللهم انا نتضاءل لك عند مشاهدة عظمتك وندل عليك عند تواتر برك ونذل لك
عند ظهور آياتك ونلح عليك عند علمنا بجودك.
ونسألك من فضلك ما لا يرزؤك ولا ينكؤك ونتوسل إليك بتوحيد لا ينتمي
إليه خلق ولا يفارقه حق.
ومنها اللهم عليك أتوكل وبك استعين وفيك أوالي وبك انتسب ومنك
أفرق ومعك استأنس ولك أمجد وإياك أسأل لسانا سمحا بالصدق وصدرا قد ملئ
من الحق وأملا منقطعا عن الخلق وحالا مكنونها يبوئ الجنة وظاهرها يحقق المنة
وعاقبة تنسى ما سلف وتتصل بما يتمنى ويتوكف.
وأسألك اللهم كبدا رجوفا خئوفا ودمعا نطوفا شوقا إليك ونفسا عزوفا اذعانا لك
وسرا ناقعا ببرد الايمان بك ونهارا مشتملا على ما كسب من مرضاتك وليلا مالئا
بما أزلف لديك.
أشكو إليك اللهم تلهفي على ما يفوتني من الدنيا وإنني في طاعة الهوى جاهلا
بحقك ساهيا عن واجبك ناسيا ما تكرره من وعظك وإرشادك وبيانك وتنبيهك
حتى كان حلاوة وعدك لم تلج أذني ولم تباشر فؤادي وحتى كان مرارة عتابك ولائمتك
لم تهتك حجابي ولم تعرض على أوصابي.
اللهم إليك المفر من دار منهومها لا يشبع وحائمها لا ينقع (1) وطالبها لا يربع
وواجدها لا يقنع والعيش عنك رقيق وللأمل فيك تحقيق.
اللهم كما ابتليت بحكمتك الخفية التي أشكلت على العقول وحارت معها البصائر
فعاف برحمتك اللطيفة التي تطاولت إليها الأعناق وتشوفت نحوها السرائر وخذ معنا
بالفضل الذي إليك هو منسوب وعنك هو مطلوب وافطم نفوسنا من رضاع الدنيا

(1) الحائم: العطشان. ولا يقطع: لا يروى.
275

والطف بما أنت له أهل انك على كل شئ قدير.
اللهم قدنا بأزمة التوحيد إلى محاضر طاعتك واخلطنا في زمرة المخلصين لذكرك
واجعل إجابتك من قبيل ما يتصل بكرم عفوك ولا تجعل خيبتنا من قبل جهلنا بقدرك
وإضرابنا عن امرك فلا سائل أحوج منا ولا مسؤول أجود منك.
اللهم احجر بيننا وبين كل ما دل على غيرك ببيانك ودعا إلى سواك ببرهانك
وانقلنا عن مواطن العجز مرتقيا بنا إلى شرفات العز فقد استحوذ الشيطان وخبثت
النفس وساءت العادة وكثر الصادون عنك وقل الداعون إليك وذهب المراعون
لأمرك وفقد الواقفون عند حدودك وخلت ديار الحق من سكانها وبيع دينك
بيع الخلق واستهزئ بناشر مجدك وأقصى المتوسل بك.
اللهم فأعد نضارة دينك وافض بين خلقك بركات إحسانك وامدد عليهم
ظل توفيقك واقمع ذوي الاعتراض عليك واخسف بالمقتحمين في دقائق غيبك واهتك
أستار الهاتكين لستر دينك والقارعين أبواب سرك القائسين بينك وبين خلقك
اللهم إني أسألك أن تخصني بالهام اقتبس الحق منه وتوفيق يصحبني وأصحبه
ولطف لا يغيب عنى ولا أغيب عنه حتى أقول إذا قلت لوجهك واسكت إذا سكت باذنك
وأسأل إذا سالت بأمرك وأبين إذا ابنت بحجتك وابعد إذا بعدت بإجلالك وأقرب
إذا قربت برحمتك واعبد إذا عبدت مخلصا لك وأموت إذا مت منتقلا إليك
اللهم فلا تكلني إلى غيرك ولا تؤيسني من خيرك.
* * *
ومنها اللهم انا بك نعز كما انا بغيرك نذل وإياك نرجو كما انا من غيرك نيأس
واليك نفوض كما انا من غيرك نعرض أذنت لنا في دعائك وأدنيتنا إلى فنائك
وهيأتنا لعطائك وخصصتنا بحبائك ووسمتنا بولائك وعممتنا بآلائك وغمستنا
في نعمائك وناغيتنا بالسن ملكوتك عن دفائن ما في عالمك ولاطفتنا بظاهر قولك
276

وتوليتنا بباطن فعلك فسمت نحوك أبصارنا وشامت بروق جودك بصائرنا فلما استقر
ما بيننا وبينك أرسلت علينا سماء فضلك مدرارا وفتحت لنا منا أسماعا وأبصارا فرأينا
ما طاح معه تحصيلنا وسمعنا ما فارقنا عنده تفضيلنا فلما سرنا إلى خلقك من ذلك
ذروا (1) اتخذونا من اجله لعبا وهزوا فبقدرتك على بلوانا بهم أرنا بك الغنى عنهم
اللهم قيض لنا فرجا من عندك وانح لنا مخلصا إليك فانا قد تعبنا بخلقك
وعجزنا عن تقويمهم لك ونحن إلى مقاربتهم في مخالفتك أقرب منا إلى منابذتهم في موافقتك
لأنه لا طاقة لنا بدهمائهم ولا صبر لنا على بلوائهم ولا حيلة لنا في شفائهم فنسألك
بالضراعة التامة وبالإخلاص المرفود الا اخذت بأيدينا وأرسلت رحمتك علينا
فما أقدرك على الإجابة وما أجودك بكل مصون يا ذا الجلال والاكرام.
* * *
ومنها اللهم انا قربنا بك فلا تنئنا عنك وظهرنا لك فلا تبطنا دونك ووجدناك
بما ألقيت إلينا من غيب ملكوتك وعزفنا عن كل ما لوانا عن بابك ووثقنا بكل
ما وعدتنا في كتابك وتوكلنا بالسر والعلن على لطيف صنعك.
اللهم إليك نظرت العيون فعادت خاسئة عبرى وفيك تقسمت الظنون فانقلبت
يائسة حسرى وفي قدرتك حارت الابصار وفي حكمتك طاحت البصائر وفي آلائك
غرقت الأرواح وعلى ما كان منك تقطعت الأنفاس ومن اجل إعراضك التهبت
الصدور ولذكر ما مضى منك هملت الدموع
اللهم تولنا فيما وليتنا حتى لا نتولى عنك وآمنا مما خوفتنا حتى نقر معك
وأوسعنا رحمتك حتى نطمئن إلى ما وعدتنا في كتابك وفرق بيننا وبين الغل حتى
لا نعامل به خلقك واغننا بك حتى لا نفتقر إلى عبادك فإنك إذا يسرت أمرا تيسر
ومهما بلوتنا فلا تبلنا بهجرك ولا تجرعنا مرارة سخطك قد اعترفنا بربوبيتك

(1) ذروا: طرفا
277

عبودية لك فعرفنا حقيقتها بالعفو عنا والاقبال علينا والرفق بنا يا رحيم.
* * *
ومنها اللهم إن الرغبات بك منوطة والوسائل إليك متداركة والحاجات ببابك مرفوعة
والثقة بك مستحصفة (أي مستحكمة) والاخبار بجودك شائعة والآمال نحوك نازعة والأماني
وراءك منقطعة والثناء عليك متصل ووصفك بالكرم معروف والخلائق إلى لطفك محتاجة
والرجاء فيك قوى والظنون بك جميلة والأعناق لعزك خاضعة والنفوس إلى مواصلتك
مشتاقة والأرواح لعظمتك مبهوتة لأنك الإله العظيم والرب الرحيم والجواد الكريم
والسميع العليم تملك العالم كله وما بعده وما قبله ولك فيه تصاريف القدرة وخفيات
الحكمة ونوافذ الإرادة ولك فيه ما لا ندريه مما تخفيه ولا تبديه جللت عن الاجلال
وعظمت عن التعظيم وقد أزف ورودنا عليك ووقوفنا بين يديك وظننا ما قد علمت
ورجاؤنا ما قد عرفت فكن عند ظننا بك وحقق رجاءنا فيك فما خالفناك جرأه عليك
ولا عصيناك تقحما في سخطك ولا اتبعنا هوانا استهزاء بأمرك ونهيك ولكن غلبت
علينا جواذب الطينة التي عجنتنا بها وبذور الفطرة التي أنبتنا منها فاسترخت قيودنا
عن ضبط أنفسنا وعزبت ألبابنا عن تحصيل حظوظنا ولسنا ندعى حجة ولكن
نسألك رأفة فبسترك السابغ الذيال وفضلك الذي يستوعب كل مقال الا تممت
ما سلف منك إلينا وعطفت بجودك الفياض علينا وجذبت بأضباعنا وأقررت
عيوننا وحققت آمالنا انك أهل ذلك وأنت على كل شئ قدير
278