الكتاب: شرح نهج البلاغة
المؤلف: ابن أبي الحديد
الجزء: ٨
الوفاة: ٦٥٦
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ القسم العام
تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: دار إحياء الكتب العربية - عيسى البابي الحلبي وشركاه
ردمك:
ملاحظات: مؤسسة مطبوعاتي إسماعيليان

شرح نهج البلاغة
لابن أبي الحديد
بتحقيق
محمد أبو الفضل إبراهيم
الجزء الثامن
(1960)
دار احياء الكتب العربية
عيسى البابي الحلبي وشركاه
1

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد العدل
(124)
الأصل:
ومن كلام له عليه السلام في حث أصحابه على القتال:
فقدموا الدارع، وأخروا الحاسر، وعضو على الأضراس، فإنه أنبى للسيوف
عن الهام، والتووا في أطراف الرماح، فإنه أمور للأسنة، وغضوا الابصار، فإنه
اربط للجأش، واسكن للقلوب وأميتوا الأصوات، فإنه اطرد للفشل، ورأيتكم
فلا تميلوها ولا تخلوها، ولا تجعلوها الا بأيدي شجعانكم، والمانعين الذمار منكم،
فان الصابرين على نزول الحقائق هم الذين يحفون براياتهم، ويكتنفونها: حفافيها،
ووراءها وأمامها، لا يتأخرون عنها فيسلموها، ولا يتقدمون عليها فيفردوها.
الشرح:
الدارع: لابس الدرع، والحاسر: الذي لا درع عليه و
لا مغفر، أمرهم عليه السلام
بتقديم المستلئم على غير المستلئم لان سوره الحرب وشدتها تلقى وتصادف الأول فالأول
فواجب ان يكون أول القوم مستلئما، وان يعضوا على الأضراس، وقد تقدم شرح هذا، وقلنا:
انه يجوز ان يبدأوهم بالحنق والجد، ويجوز أن يريد أن العض على الأضراس يشد شؤون
الدماغ ورباطاته، فلا يبلغ السيف منه مبلغه لو صادفه رخوا. وأمرهم بأن يلتووا إذا طعنوا،
3

لأنهم إذا فعلوا ذلك، فبالحر أن يمور السنان، أي يتحرك عن موضع الطعنة، فيخرج
زالقا، وإذا لم يلتووا لم يمر السنان، ولم يتحرك عن موضعه فيخرق وينفذ، فيقتل.
وأمرهم بغض الابصار في الحرب، فإنه أربط للجأش، أي أثبت للقلب، لان الغاض، بصره في الحرب أحرى ألا يدهش ولا يرتاع لهول ما ينظر.
وأمرهم بإماتة الأصوات وإخفائها، فإنه اطرد للفشل، وهو الجبن والخوف وذلك
لان الجبان يرعد ويبرق، والشجاع صامت.
وأمرهم بحفظ رايتهم الا يميلوها، فإنها إذا مالت انكسر العسكر، لأنهم إنما ينظرون
إليها وألا يخلوها من محام عنها، وألا يجعلوها بأيدي الجبناء وذوي الهلع منهم كي لا يخيموا
ويجبنوا عن إمساكها.
والذمار: ما وراء الرجل مما يحق عليه ان يحميه، وسمى ذمارا، لأنه يجب على أهله
التذمر له، أي الغضب.
والحقائق: جمع حاقه، وهي الامر الصعب الشديد، ومنه قول الله تعالى: (الحاقه
ما الحاقه)، يعنى الساعة.
ويكتنفونها: يحيطون بها. وحفافيها: جانباها، ومنه قول طرفة:
كأن جناحي مضرحي تكنفا * حفافيه شكا في العسيب بمسرد (1)
الأصل:
أجزأ امرؤ قرنة، وآسى أخاه بنفسه، ولم يكل قرنة إلى أخيه، فيجتمع

(1) المعلقات - بشرح التبريزي، 64. المضرحي: العتيق من النسور، يضرب إلى البياض. وحفافاه:
جانباه. والعسيب: عظم الذنب. والمسرد: المخصف.
4

عليه قرنه وقرن أخيه. وأيم الله لئن فررتم من سيف العاجلة، لا تسلموا من
سيف الآخرة. وأنتم لهاميم العرب، والسنام الأعظم.
إن في الفرار موجدة الله، والذل اللازم، والعار الباقي. وإن الفار لغير مزيد
في عمره، ولا محجوز بينه وبين يومه. من رائح إلى الله كالظمآن يرد الماء! الجنة تحت أطراف العوالي اليوم
تبلى الاخبار.
والله لأنا أشوق إلى لقائهم منهم إلى ديارهم. اللهم فإن ردوا الحق فافضض
جماعتهم، وشتت كلمتهم وابسلهم بخطاياهم.
الشرح:
من الناس من يجعل هذه الصيغة وهي صيغة الاخبار بالفعل الماضي، في قوله:
" أجزأ امرؤ قرنه " في معنى الامر، كأنه قال: ليجز كل امرئ قرنه، لأنه إذا جاز
الامر بصيغة
الاخبار في المستقبل جاز الامر بصيغة الماضي، وقد جاز الأول، نحو قوله
تعالى: (والوالدات يرضعن أولادهن) (1)، فوجب ان يجوز الثاني.
ومن الناس من قال: معنى ذلك: هلا أجزأ امرؤ قرنه! فيكون تحضيضا محذوف
الصيغة للعلم بها. وأجزأ بالهمزة، أي كفى. وقرنك: مقارنك في القتال أو نحوه.
وآسى أخاه بنفسه مؤاساة، بالهمز، أي جعله أسوة نفسه وفيه، ويجوز: واسيت زيدا
بالواو، وهي لغة ضعيفة.
ولم يكل قرنه إلى أخيه، أي لم يدع قرنه ينضم إلى قرن أخيه، فيصيرا معا في

(1) سورة البقرة 233.
5

مقاومة الأخ المذكور، وذلك قبيح محرم، مثاله: زيد وعمرو مسلمان، ولهما قرنان كافران
في الحرب، لا يجوز لزيد ان ينكل عن قرنه فيجتمع قرنه وقرن عمرو على عمرو.
ثم أقسم عليه السلام أنهم إن سلموا من الألم النازل بهم لو قتلوا بالسيف في الدنيا،
فإنهم لم يسلموا من عقاب الله تعالى في الآخرة، على فرارهم وتخاذلهم. وسمى ذلك سيفا
على وجه الاستعارة وصناعة الكلام، لأنه قد ذكر سيف الدنيا، فجعل ذلك في مقابلته.
واللهاميم: السادات الأجواد من الناس، والجياد من الخيل، الواحد لهموم. والسنام
الأعظم، يريد شرفهم وعلو أنسابهم، لان السنام أعلى أعضاء البعير.
وموجدة الله: غضبه وسخطه.
ويروى: " والذل اللاذم " بالذال المعجمة، وهو بمعنى اللازم أيضا، لذمت المكان
بالكسر، أي لزمته.
ثم ذكر أن الفرار لا يزيد في العمر، وقال الراجز: قد علمت حسناء دعجاء المقل * ان الفرار لا يزيد في الاجل.
ثم قال لهم: أيكم يروح إلى الله فيكون كالظمآن يرد الماء.
ثم قال: الجنة تحت أطراف العوالي، وهذا من قول رسول الله صلى الله عليه وآله:
" الجنة تحت ظلال السيوف ". وسمع بعض الأنصار رسول الله صلى الله عليه وآله، يقول
يوم أحد " الجنة تحت ظلال السيوف "، وفي يده تميرات يلوكها فقال: بخ بخ!
ليس بيني وبين الجنة إلا هذه التميرات! ثم قذفها من يده، وكسر جفن سيفه، وحمل على
قريش فقاتل حتى قتل.
ثم قال: " اليوم تبلى الاخبار،، هذا من قول الله تعالى: (ونبلوا أخباركم) (1)،
أي نختبر أفعالكم.

(1) سورة محمد 31.
6

ثم دعا على أهل الشام إن ردوا الحق بأن يفض الله جماعتهم، أي يهزمهم. ويشتت،
أي يفرق كلمتهم، وان يبسلهم بخطاياهم أي يسلمهم لأجل خطاياهم التي اقترفوها
ولا ينصرهم. أبسلت فلانا، إذا أسلمته إلى الهلكة، فهو مبسل، قال تعالى: (ان تبسل
نفس) (1)، أي تسلم، وقال: (أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا)، أي أسلموا للهلاك لأجل
ما اكتسبوه من الاثم، وهذه الألفاظ كلها لا يتلو بعضها بعضا، وإنما هي منتزعة من كلام
طويل انتزعها الرضى رحمه الله واطرح ما عداها.
الأصل:
إنهم لن يزولوا عن مواقفهم دون طعن دراك، يخرج منه النسيم، وضرب يفلق
الهام، ويطيح العظام، ويندر السواعد والاقدام. وحتى يرموا بالمناسر تتبعها
المناسر، ويرجموا بالكتائب تقفوها الحلائب. وحتى يجر ببلادهم الخميس يتلوه
الخميس. وحتى تدعق الخيول في نواحر أرضهم، وبأعنان مساربهم ومسارحهم.
قال الشريف الرضى رحمه الله تعالى:
أقول: الدعق: الدق، أي تدق الخيول بحوافرها أرضهم. ونواحر أرضهم:
متقابلاتها، ويقال منازل بنى فلان تتناحر أي تتقابل.
الشرح:
طعن دراك، أي متتابع يتلو بعضه بعضا. ويخرج منه النسيم، أي لسعته، ومن هذا
النحو قول الشاعر:

(1) سورة الأنعام 70.
7

طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائر * لها نفذ لولا الشعاع أضاءها (1)
ملكت بها كفى فأنهرت فتقها * يرى قائم من دونها ما وراءها (2)
فهذا وصف الطعنة، بأنها لاتساعها يرى الانسان المقابل لها ببصره ما وراءها، وأنه
لولا شعاع الدم، وهو ما تفرق منه لبان منها الضوء. وأمير المؤمنين عليه السلام أراد من
أصحابه طعنات يخرج النسيم - وهو الريح اللينة - منهن.
وفلقت الشئ أفلقه، بكسر اللام فلقا، أي شققته. ويطيح العظام: يسقطها.
طاح الشئ، أي سقط أو هلك أو تاه في الأرض، وأطاحه غيره، وطوحه.
ويندر السواعد: يسقطها أيضا، ندر الشئ يندر ندرا، أي سقط، ومنه النوادر،
وأندره غيره والساعد من الكوع إلى المرفق، وهو الذراع.
والمناسر: جمع منسر، وهو قطعة من الجيش تكون أمام الجيش الأعظم، بكسر
السين وفتح الميم، ويجوز منسر بكسر الميم وفتح السين وقيل إنها اللغة الفصحى.
ويرجموا، أي يغزوا بالكتائب، جمع كتيبة وهي طائفة من الجيش.
تقفوها الحلائب، أي تتبعها طوائف لنصرها والمحاماة عنها، يقال: قد احلبوا، إذا
جاءوا من كل أوب للنصرة، ورجل محلب، أي ناصر، حالبت الرجل، إذا نصرته
وأعنته، وقال الشاعر (3):
ألهفا بقرى سحبل حين أحلبت * علينا الولايا والعدو المباسل (4)

(1) لقيس بن الخطيم، ديوان الحماسة - بشرح التبريزي 1: 178. الشعاع: المتفرق. ومنه:
تطاير القوم شعاعا، والنفذ: الخرق، يقول: لولا انتشار الشمس لأضاءها.
(2) ملكت، من قولهم: ملكت العجين وأملكته، إذا بالغت في عجنه، أي شددت بهذه الطعنة
كفى ووسعت خرقها حتى يرى القائم من دونها الشئ الذي وراءها.
(3) هو جعفر بن علبة الحارثي، ديوان الحماسة - بشرح التبريزي 1: 44
(4) قرى: اسم موضع، وسحبل: واد يعينة. وأحلبت: أعانت: والولايا: جمع ولية، وهي
البرذعة، يكنى بها عن النساء أو الضعفاء، والحباسل، من البسالة، وهي الشجاعة.
8

أي أعانت ونصرت. والخميس: الجيش. والدعق قد فسره الرضى رحمه الله،
ويجوز أن يفسر بأمر آخر، وهو الهيج والتنفير، دعق القوم يدعقهم دعقا أي هاج
منهم ونفرهم.
ونواحر أرضهم، قد فسره رحمه الله أيضا، ويمكن أن يفسر بأمر آخر وهو أن يراد به
أقصى أرضهم وآخرها، من قولهم لآخر ليلة في الشهر ناحرة.
وأعنان مساربهم ومسارحهم: جوانبها، والمسارب: ما يسرب فيه المال الراعي،
والمسارح: ما يسرح فيه، والفرق بين " سرح " و " سرب "، أن السروح إنما يكون في أول
النهار وليس ذلك بشرط في السروب.
[عود إلى أخبار صفين]
واعلم أن هذا الكلام قاله أمير المؤمنين عليه السلام لأصحابه في صفين، يحرضهم به
وقد ذكرنا من حديث صفين فيما تقدم أكثره، ونحن نذكر هاهنا تتمة القصة ليكون
من وقف على ما تقدم وعلى هذا المذكور آنفا هنا قد وقف على قصة صفين بأسرها.
اتفق الناس كلهم أن عمارا رضي الله عنه أصيب مع علي عليه السلام بصفين، وقال
كثير منهم، بل الأكثر أن أويسا (1) القرني أصيب أيضا مع علي عليه السلام بصفين.
وذكر ذلك نصر بن مزاحم في " كتاب صفين "، رواه عن حفص بن عمران البرجمي،
عن عطاء بن السائب، عن أبي البختري، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله في أويس
ما قال، وقال الناس كلهم: إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: " إن الجنة لتشتاق إلى

(1) هو أويس بن عامر القرني (بفتح القاف والراء) سيد التابعين، ذكره ابن حجر في تهذيب التهذيب.
9

عمار " ورووا عنه صلى الله عليه وآله أن عمارا جاء يستأذن عليه، فقال: " ائذنوا له،
مرحبا بالطيب المطيب " (1).
وروى سلمة بن كهيل، عن مجاهد، أن النبي صلى الله عليه وآله رأى عمارا وهو يحمل
أحجار المسجد فقال: " ما لهم ولعمار! يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار " (2)
وروى الناس كافة أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال له: " تقتلك الفئة
الباغية ".
وروى نصر بن مزاحم في كتاب صفين، عن عمرو بن شمر، عن مالك بن أعين، عن
زيد بن وهب الجهني، أن عمار بن ياسر (3) نادى في صفين يوما قبل مقتله بيوم
أو يومين: أين من يبغي رضوان الله عز وجل ولا يؤوب إلى مال ولا ولد؟ فأتته عصابة من الناس،
فقال: أيها الناس اقصدوا بنا قصد هؤلاء القوم [الذين يتبعون دم عثمان، ويزعمون أنه قتل مظلوما،
والله إن كان إلا ظالما لنفسه، الحاكم بغير ما أنزل الله] (4). ودفع علي عليه السلام الراية
إلى هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وكان عليه ذلك اليوم درعان، فقال له علي عليه السلام
كهيئة المازح: أيا هاشم، أما تخشى على نفسك أن تكون أعور جبانا! قال: ستعلم
يا أمير المؤمنين، والله لألفن بين جماجم العرب لف رجل ينوى الآخرة. فأخذ رمحا فهزه
فانكسر، ثم أخذ آخر فوجده جاسيا فألقاه، ثم دعا برمح لين فشد به اللواء (5).
قال نصر: وحدثنا عمرو قال: لما دفع علي عليه السلام الراية إلى هاشم بن عتبة، قال

(1) صفين 367.
(2) صفين 366.
(3) صفين: " نادى يومئذ ".
(4) تكملة من صفين.
(5) صفين 369 - 370.
10

له رجل من أصحابه من بكر بن وائل أقدم هاشم! يكررها. ثم قال: مالك
[يا هاشم] (1)! قد انتفخ سحرك! أعورا وجبنا! قال: من هذا؟ قالوا: فلان، قال: أهلها
وخير منها، إذا رأيتني قد صرعت فخذها ثم قال لأصحابه: شدوا شسوع نعالكم،
وشدوا أزركم، فإذا رأيتموني قد هززت الراية ثلاثا، فاعلموا أن أحدا منكم لا يسبقني إلى
الحملة (2). ثم نظر إلى عسكر معاوية، فرأى جمعا عظيما، فقال: من أولئك؟ قيل: أصحاب
ذي الكلاع، ثم نظر فرأى جندا، فقال من أولئك؟ قيل: قريش وقوم من أهل المدينة
فقال: قومي، لا حاجه لي في قتالهم، من عند هذه القبة البيضاء؟ قيل: معاوية وجنده،
قال: فإني أرى دونهم أسودة (3)، قيل: [ذاك] (1) عمرو بن العاص وابناه ومواليه،
فأخذ الراية فهزها، فقال رجل من أصحابه: البث (4) قليلا ولا تعجل،
فقال هاشم:
قد أكثرا لومي وما أقلا (5) * إني شريت النفس لن أعتلا
أعور يبغي أهله محلا * قد عالج الحياة حتى ملا
لا بد أن يفل أو يفلا (6) * أشلهم بذي الكعوب شلا (7)

(1) تكملة من صفين.
(2) صفين: " إليها ".
(3) أسودة: جمع سواد، وهو الشخص.
(4) صفين: " أمكث ".
(5) مروج الذهب 2: 392: " قد أكثر القوم ".
(6) الفل " الهزيمة.
(7) الشل: الطرد، وذو الكعوب: الرمح. ورواية الطبري 6: 24:
* يتلهم بذي الكعوب تلا *
ويتلهم: يصرعهم. وفي إحدى روايتي صفين: " أشدهم بذي الكعوب ".
11

مع ابن عم احمد المعلى (1) * أول من صدقه وصلى (2)
قال نصر: وحدثنا عبد العزيز بن سياه، عن حبيب بن أبي ثابت، قال: لما تناول
هاشم الراية، جعل عمار بن ياسر يحرضه على الحرب، ويقرعه (3) بالرمح، ويقول:
أقدم يا أعور: * لا خير في أعور لا يأتي الفزع *
فيستحي من عمار، ويتقدم، ويركز الراية، فإذا ركزها عاوده عمار بالقول، فيتقدم
أيضا. فقال عمرو بن العاص إني لأرى لصاحب الراية السوداء عملا، لئن دام على هذا
لتفنين العرب اليوم! فاقتتلوا قتالا شديدا، وعمار ينادى (4) صبرا! والله إن الجنة (5) تحت
ظلال البيض. فكان بإزاء هاشم وعمار أبو الأعور السلمي، ولم يزل عمار بهاشم ينخسه
وهو يزحف بالراية حتى اشتد القتال وعظم، والتقى الزحفان، واقتتلا قتالا لم يسمع السامعون
بمثله، وكثرت القتلى في الفريقين جميعا (5).
وروى نصر، عن عمرو بن شمر، قال: حدثني (6) من أثق به من أهل العراق،

(1) بعده في صفين:
* فيه الرسول بالهدى استهلا *
(2) بعده في صفين:
* فجاهد الكفار حتى أبلى *
والخبر في صفين 370، 371، وبعده هناك: " قال: وقد كان على قال: له أتخاف أن يكون أعور
جبانا أبا هاشم المرقال؟ قال: يا أمير المؤمنين، لتعلمني - إن شاء الله - ألف اليوم بين جماجم القوم،
فحمل يومئذ يرقل إرقالا ".
(3) صفين: " يتناوله ".
(4 - 4) صفين: " صبرا عباد الله، الجنة ". والبيض: السيوف.
(5) صفين: " كليهما "، والخبر هناك في 371، 372.
(6) في صفين: " عن عمرو بن شمر، عن أبي إسحاق، عن أبي السفر ".
12

قال: لما التقينا بالقوم في ذلك اليوم، وجدناهم خمسة صفوف [قد قيدوا أنفسهم بالعمائم] (1)
فقتلنا صفا، ثم صفا، ثم خلصنا إلى الرابع، ما على لأرض شامي ولا عراقي يولى دبره،
وأبو الأعور يقول:
إذا ما فررنا كان أسوا فرارنا * صدود الخدود وازورار المناكب (2)
صدود الخدود والقنا متشاجر * ولا تبرح الاقدام عند التضارب
قال نصر: والتقت في هذا اليوم همدان العراق بعك الشام، فقال قائلهم:
همدان همدان، وعك وعك * ستعلم اليوم من الأرك (3)
وكانت على عك الدروع، وليس عليهم رايات (4)، فقالت: همدان: خدموا القوم.
أي اضربوا سوقهم - فقالت عك برك الكمل (5)، فبركوا كما يبرك (6) الجمل
ثم رموا الحجر وقالوا: لا نفر حتى يفر الحكر.
قال نصر: واقتتل الناس من لدن اعتدال النهار إلى صلاة المغرب، ما كان صلاة القوم
إلا التكبير عند مواقيت الصلاة.
ثم إن أهل العراق كشفوا ميمنة أهل الشام، فطاروا في سواد الليل، وكشف أهل
الشام ميسرة أهل العراق فاختلطوا في سواد الليل، وتبدلت الرايات بعضها ببعض، فلما
أصبح الناس وجد أهل الشام لواءهم وليس حوله إلا ألف رجل فاقتلعوه وركزوه من

(1) من صفين.
(2) لقيس بن الخطيم، ديوانه 10
(3) الأرك: الضعيف
(4) صفين: " رانات "، والرانات: جمع ران، وهو كالخف إلا أنه لأقدم له.
(5) يريد " الجمل "، وعك تقلب الجيم كافا. وانظر صفين 256.
(6) صفين: " كما برك ".
(7) أي الحجر، بلغة عك.
13

وراء موضعه الأول وأحاطوا به، ووجد أهل العراق لواءهم مركوزا وليس حوله إلا ربيعة،
وعلي عليه السلام بينها، وهم محيطون به، وهو لا يعلم من هم، ويظنهم غيرهم، فلما أذن
مؤذن علي عليه السلام الفجر قال علي عليه السلام.
يا مرحبا بالقائلين عدلا * وبالصلاة مرحبا وأهلا
ثم وقف وصلى الفجر، فلما انفتل أبصر وجوها ليست بوجوه أصحابه بالأمس، وإذا
مكانه الذي هو فيه ما بين الميسرة إلى القلب، فقال: من القوم؟ قالوا: ربيعة، وإنك
يا أمير المؤمنين لعندنا (1) منذ الليلة، فقال:
* فخر طويل لك يا ربيعة *
ثم قال لهاشم بن عتبة: خذ اللواء: فوالله ما رأيت مثل هذه الليلة فخرج هاشم باللواء
حتى ركزه في القلب (2).
قال نصر: حدثنا عمرو بن شمر، عن الشعبي قال: عبى معاوية تلك الليلة أربعة آلاف
وثلاثمائة من فارس وراجل معلمين (3) بالخضرة، وأمرهم أن يأتوا عليا عليه السلام من
ورائه، ففطنت لهم همدان فواجهوهم وصمدوا إليهم، فباتوا تلك الليلة يتحارسون، وعلي عليه
السلام قد أفضى به ذهابه ومجيئه إلى رايات ربيعة، فوقف بينها وهو لا يعلم، ويظن
أنه في عسكر الأشعث، فلما أصبح لم ير الأشعث ولا أصحابه، ورأي سعيد بن قيس
الهمداني على مركزه، فجاء إلى سعيد رجل من ربيعة، يقال له زفر (4) فقال [له] (5): ألست
القائل بالأمس: لئن لم تنته ربيعة لتكونن ربيعة ربيعة، وهمدان همدان، فما أغنت همدان

(1) صفين: " وقد بت فيهم تلك الليلة ".
(2) صفين 373، 374.
(3) يقال رجل معلم، بكسر اللام، إذا علم مكانه في الحرب بعلامة أعلمها، ومنه قول الشاعر:
فتعرفوني إنني أنا ذا كم * شاك سلاحي في الحوادث معلم
(4) صفين: " نفر "
(5) من صفين.
14

البارحة فنظر، إليه علي عليه السلام نظر، منكر ونادى منادى علي عليه السلام: أن
اتعدوا للقتال، واغدوا عليه، وانهدوا إلى عدوكم. فكلهم تحرك إلا ربيعة لم تتحرك، فبعث
إليهم علي عليه السلام: أن انهدوا إلى عدوكم، فبعث إليهم أبا ثروان، فقال: إن
أمير المؤمنين عليه السلام يقرئكم السلام، ويقول لكم: يا معشر ربيعة، ما لكم لا تنهدون
إلى عدوكم وقد نهد الناس؟ قالوا: كيف ننهد وهذه الخيل من وراء ظهرنا! قل
لأمير المؤمنين: فليأمر همدان أو غيرها بمناجزتهم لننهد. فرجع أبو ثروان إلى علي عليه
السلام، فأخبره فبعث إليهم الأشتر، فقال: يا معشر ربيعة، ما منعكم أن تنهدوا وقد نهد
الناس - وكان جهير الصوت - وأنتم أصحاب كذا وأصحاب كذا!، فجعل يعدد أيامهم.
فقالوا: لسنا نفعل حتى ننظر ما تصنع هذه الخيل التي خلف ظهورنا، وهي أربعة آلاف! قل لأمير المؤمنين فليبعث إليهم من يكفيه أمرهم.
وراية ربيعة يومئذ مع الحضين (1) بن المنذر. فقال لهم الأشتر: فان أمير المؤمنين يقول
لكم: أكفونيها، إنكم لو بعثتم إليهم طائفة منكم لتركوكم في هذه الفلاة، وفروا
كاليعافير (2). فوجهت حينئذ ربيعة إليهم تيم الله والنمر بن قاسط وعنزة. قالوا: فمشينا
إليهم مستلئمين مقنعين في الحديد، وكان عامة قتال صفين مشيا. قال: فلما أتيناهم هربوا
وانتشروا انتشار الجراد فذكرت قوله ة " وفروا كاليعافير ". ثم رجعنا إلى أصحابنا وقد
نشب القتال بينهم وبين أهل الشام، وقد اقتطع أهل الشام طائفة من أهل العراق،
بعضها من ربيعة فأحاطوا بها فلم نصل إليها حتى حملنا على أهل الشام فعلوناهم بالأسياف، حتى انفرجوا لنا، فأفضينا إلى أصحابنا فاستنقذناهم، وعرفناهم تحت النقع بسيماهم وعلامتهم،
وكانت علامة أهل العراق بصفين الصوف الأبيض قد جعلوه في رؤوسهم وعلى

(1) في الأصول: " حصين " بالصاد المهملة، تصحيف. وهو الحضين بن المنذر بن الحارث بن وعلة
الرقاشي، كان من كبار التابعين، وانظر المؤتلف 87.
(2) اليعافر: جمع يعفور، وهو الظبي.
15

أكتافهم، وشعارهم: يا الله، يا الله! يا أحد يا صمد! يا رب محمد! يا رحمن يا رحيم!
وكانت علامة أهل الشام خرقا صفرا، قد جعلوها على رؤوسهم وأكتافهم، وشعارهم:
* نحن عباد الله حقا حقا *
يا لثارات عثمان!
قال نصر: فاجتلدوا بالسيوف وعمد الحديد، فلم يتحاجزوا حتى حجز بينهم الليل،
وما يرى رجل من هؤلاء ومن هؤلاء موليا (1).
قال نصر: حدثنا عمر بن سعد (2)، قال: كانوا عربا يعرف بعضهم بعضا في
الجاهلية، وإنهم لحديثو عهد بها، فالتقوا في الاسلام، وفيهم بقايا تلك الحمية وعند
بعضهم بصيرة الدين والاسلام، فتضاربوا واستحيوا من الفرار، حتى كادت الحرب
تبيدهم، وكانوا إذا تحاجزوا دخل هؤلاء عسكر هؤلاء، فيستخرجون قتلاهم
فيدفنونهم (3).
قال نصر: فحدثنا عمر بن سعد، قال فبينا علي عليه السلام واقفا بين جماعة من
همدان وحمير وغيرهم من أفناء (4) قحطان، إذ نادى رجل من أهل الشام: من دل على
أبى نوح الحميري؟ فقيل له: قد وجدته، فما ذا تريد؟ قال: فحسر عن لثامه، فإذا هو
ذو الكلاع الحميري، ومعه جماعة من أهله ورهطه، فقال لأبي نوح: سر معي، قال:
إلى أين؟ قال: إلى أن نخرج عن الصف، قال: وما شأنك، قال: إن لي إليك لحاجة، فقال أبو نوح:
معاذ الله أن أسير إليك إلا في كتيبة، قال ذو الكلاع: بلى فسر فلك ذمة الله وذمة رسوله

(1) 274 - 276.
(2) في صفين: " نصر، عمر، حدثني صديق أبي عن الإفريقي بن أنعم قال ".
(3) الخبر في صفين 377 موصول بما بعده، وهناك كلمة: " فيد فنونهم ": فلما أصبحوا - وذلك
يوم الثلاثاء - خرج الناس إلى مصافهم، فقال أبو نوح: فكنت في الخيل يوم صفين، في خيل عليه عليه
السلام، وهو واقف بين جماعة من همدان وحمير وغيرهم من أفناء قحطان... ".
(4) أفناء الناس: أخلاطهم.
16

وذمة ذي الكلاع، حتى ترجع إلى خيلك، فإنما أريد أن أسألك عن أمر فيكم تمارينا
فيه. فسار أبو نوح، وسار ذو الكلاع، فقال له: إنما دعوتك أحدثك حديثا حدثناه
عمرو بن العاص قديما في خلافة (1) عمر بن الخطاب، ثم أذكرناه الان به فأعاده. إنه
يزعم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه قال: " يلتقي أهل الشام وأهل العراق، وفي
إحدى الكتيبتين الحق، وإمام الهدى ومعه عمار بن ياسر ". فقال أبو نوح: نعم (2) والله
إنه لفينا. قال: نشدتك الله أجاد هو (3) على قتالنا؟ قال أبو نوح: نعم ورب الكعبة،
لهو أشد على قتالكم منى، ولوددت أنكم خلق واحد فذبحته وبدأت بك قبلهم وأنت
ابن عمى (4). قال ذو الكلاع: ويلك! علام تمنى ذلك منا! فوالله ما قطعتك فيما
بيني وبينك قط، وإن رحمك لقريبة، وما يسرني أن أقتلك. قال أبو نوح إن الله
قطع بالاسلام أرحاما قريبة، ووصل به أرحاما متباعدة، وإني قاتلك وأصحابك، لأنا على
الحق وأنتم على الباطل. قال ذو الكلاع: فهل تستطيع أن تأتى معي صف أهل الشام
فأنا لك جار منهم، حتى تلقى عمرو بن العاص، فتخبره بحال عمار وجده في قتالنا لعله أن
يكون صلح بين هذين الجندين!
- قلت: وا عجباه من قوم يعتريهم الشك في أمرهم لمكان عمار، ولا يعتريهم الشك
لمكان علي عليه السلام! ويستدلون على أن الحق مع أهل العراق بكون عمار بين
أظهرهم، ولا يعبؤون بمكان علي عليه السلام! ويحذرون من قول النبي صلى الله عليه سلم:
" تقتلك الفئة الباغية " ويرتاعون لذلك، ولا يرتاعون لقوله صلى الله عليه وآله في علي
عليه السلام: " اللهم وال من والاه وعاد من عاداه "، ولا لقوله: " لا يحبك إلا مؤمن

(1) صفين: " إمارة ".
(2) صفين: " لعمر الله ".
(3) صفين: " في قتالنا ".
(4) كذا في د، وفي ب: " أنت وابن عمي ".
17

ولا يبغضك إلا منافق ". وهذا يدلك على أن عليا عليه السلام اجتهدت قريش كلها من
مبدأ الامر في إخمال ذكره وستر فضائله، وتغطية خصائصه حتى محى فضله ومرتبته من
صدور الناس كافة إلا قليلا منهم -
قال نصر: فقال له أبو نوح: إنك رجل غادر، وأنت في قوم غدر، وإن لم ترد
الغدر أغدروك، وإني أن أموت أحب إلى من أن أدخل مع معاوية. فقال ذو الكلاع: أنا جار لك من ذلك، ألا تقتل ولا تسلب ولا تكره على بيعة، ولا تحبس عن جندك، وإنما
هي كلمة تبلغها عمرو بن العاص، لعل الله أن يصلح بذلك بين هذين الجندين، ويضع عنهم
الحرب. فقال أبو نوح: إني أخاف غدراتك وغدرات أصحابك. قال ذو الكلاع:
أنا لك بما قلت زعيم، قال أبو نوح: اللهم إنك ترى ما أعطاني ذو الكلاع، وأنت تعلم
ما في نفسي، فاعصمني واختر لي وانصرني، وادفع عنى. ثم سار مع ذي الكلاع حتى أتى
عمرو بن العاص وهو عند معاوية وحوله الناس، وعبد الله بن عمر يحرض الناس على
الحرب، فلما وقفا على القوم، قال ذو الكلاع لعمرو: يا أبا عبد الله، هل لك في رجل
ناصح لبيب مشفق، يخبرك عن عمار بن ياسر فلا يكذبك؟ قال: ومن هو؟ قال: هو
ابن عمى هذا، وهو من أهل الكوفة. فقال عمرو: أرى عليك سيما أبى تراب! فقال
أبو نوح: على سيما محمد وأصحابه، وعليك سيما أبى جهل وسيما فرعون! فقام أبو الأعور فسل
سيفه، وقال: لا أرى هذا الكذاب اللئيم يسبنا بين أظهرنا وعليه سيما أبى تراب! فقال
ذو الكلاع: أقسم بالله لئن بسطت يدك إليه لأحطمن أنفك بالسيف، ابن عمى وجاري،
عقدت له ذمتي، وجئت به إليكم ليخبركم عما تماريتم فيه. فقال له عمرو بن العاص:
يا أبا نوح، أذكرك بالله إلا ما صدقتنا ولم تكذبنا، أفيكم عمار بن ياسر؟ قال أبو نوح:
ما أنا بمخبرك حتى تخبرني لم تسأل عنه ومعنا من أصحاب محمد صلى الله عليه عدة غيره،
وكلهم جاد على قتالكم؟ فقال عمرو: سمعت رسول الله صلى الله عليه يقول: " إن
18

عمارا تقتله الفئة الباغية، وإنه ليس لعمار أن يفارق الحق، ولن تأكل النار من عمار شيئا "،
فقال أبو نوح: لا إله إلا الله، والله أكبر، والله إنه لفينا جاد على قتالكم! فقال عمرو:
الله الذي لا إله إلا هو إنه لجاد على قتالنا! قال: نعم والله الذي لا إله إلا هو، ولقد
حدثني يوم الجمل أنا سنظهر على أهل البصرة ولقد قال لي أمس إنكم لو ضربتمونا
حتى تبلغوا بنا سعفات (1) هجر لعلمنا أنا على الحق، وأنكم على باطل ولكانت قتلانا
في الجنة وقتلاكم في النار. قال عمرو: فهل تستطيع أن تجمع بيني وبينه؟ قال: نعم،
فركب عمرو بن العاص وابناه وعتبة بن أبي سفيان وذو الكلاع، وأبو الأعور السلمي،
وحوشب، والوليد بن عقبة وانطلقوا، وسار أبو نوح ومعه شرحبيل بن ذي الكلاع
يحميه، حتى انتهى إلى أصحابه، فذهب أبو نوح إلى عمار، فوجده قاعدا مع أصحاب له،
منهم الأشتر وهاشم وابنا بديل، وخالد بن معمر، وعبد الله بن حجل، وعبد الله بن العباس.
فقال لهم (2) أبو نوح: إنه دعاني ذو الكلاع، وهو ذو رحم، فقال: أخبرني عن عمار
ابن ياسر، أفيكم هو؟ فقلت: لم تسأل؟ فقال: أخبرني عمرو بن العاص في إمرة عمر بن
الخطاب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه، يقول: " يلتقي أهل الشام وأهل العراق،
وعمار مع أهل الحق، وتقتله الفئة الباغية "، فقلت: نعم، إن عمارا فينا، فسألني أجاد
هو على قتالنا؟ فقلت: نعم والله، إنه لأجد منى في ذلك ولوددت أنكم خلق واحد فذبحته
وبدأت بك يا ذا الكلاع، فضحك عمار، وقال: أيسرك ذلك؟ قال: نعم، ثم قال
أبو نوح: أخبرني الساعة عمر بن العاص، إنه سمع رسول الله صلى الله عليه يقول:
" تقتل عمارا الفئة الباغية "، قال عمار أقررته بذلك؟ قال: نعم، لقد قررته بذلك فأقر،

(1) الحديث في النهاية 2: 162، قال في شرحه: " السعفات: جمع سعفة، بالتحريك، وهي
أغصان النخيل، وقيل: إذا يبست سميت سعفة، وإذا كانت رطبة، فهي شطبة، وإنما خص هجر
للمباعدة في المسافة، ولأنها موصوفة بكثرة النخيل ".
(2) صفين: " وقال أبو نوح ".
19

فقال عمار: صدق، وليضرنه ما سمع ولا ينفعه. قال أبو نوح: فإنه يريد أن يلقاك،
فقال عمار لأصحابه: اركبوا، فركبوا وساروا. قال: فبعثنا إليهم فارسا من عبد القيس يسمى
عوف بن بشر فذهب، حتى إذا كان قريبا منهم، نادى: أين عمرو بن العاص؟ قالوا: هاهنا
فأخبره بمكان عمار وخيله، قال عمرو: قل له: فليسر إلينا، قال عوف: إنه يخاف غدارتك
وفجراتك، قال عمرو: ما أجرأك على وأنت على هذه الحال؟ قال عوف: جرأني عليك
بصري فيك وفي أصحابك، وإن شئت نابذتك الان سواء [وإن شئت التقيت أنت
وخصماؤك، وأنت كنت غادرا] (1). فقال عمرو: إنك لسفيه، وإني باعث إليك رجلا من
أصحابي يواقفك (2)، قال ابعث من شئت، فلست بالمستوحش، وإنك لا تبعث إلا شقيا، فرجع
عمرو
وأنفذ إليه أبا الأعور، فلما تواقفا تعارفا، فقال عوف: إني لأعرف الجسد وأنكر
القلب، وإني لا أراك مؤمنا ولا أراك إلا من أهل النار. قال أبو الأعور: يا هذا، لقد أعطيت
لسانا يكبك الله به على وجهك في النار، قال عوف: كلا والله إني لأتكلم بالحق وتتكلم
بالباطل، وإني أدعوك إلى الهدى وأقاتلك على الضلال (3) وأفر من النار، وأنت بنعمة
الله ضال، تنطق بالكذب وتقاتل على ضلالة، وتشترى العقاب بالمغفرة والضلالة
بالهدى، انظر (4) إلى وجوهنا ووجوهكم وسيمانا وسيماكم، واسمع دعوتنا ودعوتكم،
فليس أحد منا إلا وهو أولى بالحق وبمحمد، وأقرب إليه منكم. فقال أبو الأعور: لقد
أكثرت الكلام، وذهب النهار، ويحك! ادع أصحابك وأدعو أصحابي وليأت أصحابك
في قلة إن شاءوا أو كثرة، فإني أجئ من أصحابي بعدتهم (5)، [فإن شاء أصحابك فليقلوا،

(1) تكملة من كتاب صفين.
(2) كذا في د، وفي ب: " يوافقك ".
(3) صفين: " وأقاتل أهل الضلال ".
(4) صفين: " انظروا... واسمعوا... ".
(5) صفين: " بعددهم ". وفي ب: " بعدة ".
20

وإن شاءوا فليكثروا] (1) فسار. (2) عمار في اثنى عشر فارسا حتى إذا كانوا بالمنصف سار
عمرو بن العاص في اثنى عشر فارسا حتى اختلفت أعناق الخيل (2)، خيل عمار وخيل عمرو،
ونزل القوم واحتبوا بحمائل سيوفهم، فتشهد عمرو بن العاص، فقال له عمار: اسكت،
فلقد تركتها وأنا أحق بها منك، فإن شئت كانت خصومة فيدفع حقنا باطلك، وإن
شئت كانت خطبة، فنحن أعلم بفصل الخطاب منك، وإن شئت أخبرتك بكلمة تفصل
بيننا وبينك، وتكفرك قبل القيام، وتشهد بها على نفسك ولا تستطيع أن تكذبني
فيها. فقال عمرو: يا أبا اليقظان، ليس لهذا جئت إنما جئت، لأني رأيتك أطوع أهل هذا
العسكر فيهم. أذكرك الله إلا كففت سلاحهم، وحقنت دماءهم وحرصت (3) على ذلك،
فعلام تقاتلوننا! أو لسنا نعبد إلها واحدا، ونصلي إلى قبلتكم وندعو دعوتكم، ونقرأ
كتابكم، ونؤمن نبيكم! قال عمار: الحمد لله الذي أخرجها من فيك، إنها لي ولأصحابي: القبلة والدين وعبادة
الرحمن، والنبي، والكتاب من دونك ودون أصحابك. الحمد لله
الذي قررك لنا بذلك، وجعلك ضالا مضلا أعمى، وسأخبرك على ما أقاتلك عليه وأصحابك، إن رسول الله صلى الله عليه أمرني أن أقاتل الناكثين، فقد فعلت، وأمرني أن أقاتل
القاسطين وأنتم هم، وأما المارقون فلا أدرى أدركهم أولا أيها الأبتر، ألست تعلم أن رسول
الله صلى الله عليه قال: " من كنت مولاه فعلى مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من
عاداه! "، فأنا مولى الله ورسوله وعلى مولاي بعدهما. قال عمرو: لم تشتمني يا أبا اليقظان
ولست أشتمك قال عمار: وبم تشتمني؟ أتستطيع أن تقول: إني عصيت الله ورسوله
يوما قط! قال عمرو: إن فيك لمساب (4) سوى ذلك، قال عمار: إن الكريم من أكرمه

(1) تكملة من كتاب صفين.
(2 - 2) صفين: " فسار أبو الأعور في مائة فارس حتى إذا كان حيث كنا بالمرة الأولى وقفوا وسار
في عشرة بعمرو، وسار عمار في اثنى عشر فارسا حتى اختلفت أعناق الخيل... ".
(3) صفين: " وحرضت على ذلك ".
(4) صفين: " لمسبات ".
21

الله! كنت وضيعا فرفعني الله، ومملوكا فأعتقني الله، وضعيفا فقواني الله، وفقيرا فأغناني
الله! قال عمرو: فما ترى في قتل عثمان، قال: فتح لكم باب كل سوء، قال عمرو: فعلى
قتله؟ قال عمار: بل الله رب على قتله وعلى معه، قال عمرو: فكنت (1) فيمن قتله؟ قال:
كنت مع من قتله، وأنا اليوم أقاتل معهم، قال عمرو: فلم قتلتموه؟ قال عمار: إنه أراد أن
يغير ديننا فقتلناه، فقال عمرو: ألا تسمعون؟ قد اعترف بقتل إمامكم! فقال عمار، قد قالها
فرعون قبلك لقومه: " ألا تستمعون " (2). فقام أهل الشام ولهم زجل فركبوا خيولهم،
ورجعوا، وقام عمار وأصحابه فركبوا خيولهم ورجعوا، وبلغ معاوية ما كان بينهم، فقال:
هلكت العرب إن حركتهم - خفة العبد الأسود - يعنى عمارا (3).
قال نصر: فحدثنا عمرو بن شمر، قال: فخرجت (4) الخيول إلى القتال واصطفت
بعضها لبعض، وتزاحف الناس وعلى عمار درع بيضاء، وهو يقول: أيها الناس، الرواح
إلى الجنة.
فقاتل القوم قتالا شديدا لم يسمع السامعون بمثله، وكثرت القتلى حتى أن كان الرجل
ليشد طنب فسطاطه بيد الرجل أو برجله. وحكى الأشعث بعد ذلك، قال لقد رأيت
أخبية صفين وأروقتها، وما فيها خباء ولا رواق ولا فسطاط إلا مربوطا بيد إنسان
أو برجله.
قال نصر: وجعل أبو السماك الأسدي يأخذ إداوة من ماء وشفرة حديدة، فيطوف
في القتلى، فإذا رأى رجلا جريحا وبه رمق أقعده فيقول له: من أمير المؤمنين؟ فإذا قال:

(1) صفين: " أكنت ".
(2) من الآية 25 في سورة الشعراء
(3) صفين 377 - 384.
(4) صفين: " وخرج للقتال " أي عمار.
22

" على " غسل الدم عنه، وسقاه من الماء، وإن سكت وجأه بالسكين حتى يموت
ولا يسقيه (1).
قال نصر: وحدثنا عمرو بن شمر، عن جابر، قال: سمعت الشعبي، يقول: قال
الأحنف بن قيس: والله إني إلى جانب عمار بن ياسر، [بيني وبينه رجل من بنى الشعيراء] (2).
فتقدمنا حتى دنونا من هاشم بن عتبة، فقال له عمار: احمل فداك أبي وأمي!
فقال له هاشم: يرحمك الله يا أبا اليقظان! إنك رجل تأخذك خفة في الحرب، وإني إنما
أزحف باللواء زحفا، أرجو أن أنال بذلك حاجتي، وإن خففت لم آمن
الهلكة، وقد كان قال معاوية لعمرو: ويحك! إن اللواء اليوم مع هاشم بن عتبة، وقد كان من
قبل يرقل به إرقالا وإن زحف به اليوم زحفا إنه لليوم الأطول على أهل الشام، فإن
زحف في عنق (3) من أصحابه، إني لأطمع أن تقتطع. فلم يزل به عمار حتى حمل،
فبصر به معاوية، فوجه إليه حماة أصحابه ومن يزن (4) بالبأس والنجدة منهم في ناحية وكان
في ذلك الجمع عبد الله بن عمرو بن العاص، ومعه يومئذ سيفان قد تقلد بأحدهما، وهو
يضرب بالآخر، فأطافت به خيول علي عليه السلام، وجعل عمرو يقول: يا الله، يا رحمن!
ابني، ابني! فيقول معاوية اصبر فلا بأس عليه. فقال عمرو: لو كان يزيد بن معاوية
أصبرت (5)! فلم يزل حماة أهل الشام تذب عن (6) عبد الله حتى نجا هاربا على فرسه (7) [ومن معه، وأصيب هاشم في المعركة] (2).

(1) صفين 385.
(2) من صفين.
(3) عنق: أي جماعة.
(4) أي يتهم.
(5) صفين: " إذا لصبرت ".
(6) صفين: " يذبون عنه ".
(7) صفين 385، 386.
23

قال نصر: وحدثنا عمر بن سعد، قال: وفي هذا اليوم قتل عمار بن ياسر رضي الله عنه
، أصيب في المعركة، وقد كان قال حين نظر إلى راية عمرو بن العاص: والله إنها
لراية قد قاتلتها ثلاث عركات وما هذه بأرشدهن، ثم قال:
نحن ضربناكم على تأويله * كما ضربناكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله * ويذهل الخليل عن خليله
* أو يرجع الحق إلى سبيله *
ثم استسقى وقد اشتد عطشه، فأتته امرأة طويلة اليدين، ما أدرى أعس معها
أم إداوة فيها ضياح (1) من لبن! فقال حين شرب: " الجنة تحت الأسنة، اليوم ألقى
الا حبه، محمدا وحزبه، " والله لو ضربونا حتى يبلغونا سعفات هجر لعلمنا أنا على
الحق، وأنهم على الباطل. ثم حمل وحمل عليه ابن حوى السكسكي (2) وأبو العادية،
فأما أبو العادية فطعنه، وأما ابن حوى فاحتز رأسه، وقد كان ذو الكلاع يسمع عمرو
ابن العاص، يقول: إن النبي صلى الله عليه يقول لعمار: " تقتلك الفئة الباغية، وآخر
شربك ضياح من لبن "، فقال ذو الكلاع لعمرو: ويحك ما هذا! قال عمرو: إنه سيرجع
إلينا، ويفارق أبا تراب، وذلك قبل أن يصاب عمار، فلما أصيب عمار في هذا اليوم
أصيب ذو الكلاع، فقال عمرو لمعاوية: والله ما أدرى بقتل أيهما أنا أشد فرحا! والله
لو بقي ذو الكلاع حتى يقتل عمار لمال بعامة قومه إلى علي، ولأفسد علينا أمرنا (3).
. قال نصر: وحدثنا عمر بن سعد، قال: كان لا يزال رجل يجئ فيقول لمعاوية وعمرو ة أنا قتلت عمارا، فيقول له عمرو: فما سمعته يقول؟ فيخلط، حتى أقبل ابن حوى (4)،

(1) الضياح بالفتح: اللبن الرقيق الكثير الماء.
(2) صفين: " ابن جون السكوني "، وفي مروج الذهب 2: 21: " أبو حواء السكسكي ".
(3) صفين: " جندنا " 386، 387.
(4) صفين: " ابن جون ".
24

فقال: أنا قتلته، فقال عمرو: فما كان آخر منطقه، قال: سمعته يقول: " اليوم ألقى الا حبه،
محمدا وحزبه ". فقال: صدقت، أنت صاحبه، أما والله ما ظفرت يداك، ولقد
أسخطت ربك (1).
قال نصر: حدثنا عمرو بن شمر، قال: حدثني إسماعيل السدى، عن عبد خير
الهمداني، قال: نظرت إلى عمار بن ياسر يوما من أيام صفين، قد رمى رمية فأغمي عليه
فلم يصل الظهر ولا العصر ولا المغرب ولا العشاء ولا الفجر، ثم أفاق فقضاهن جميعا يبدأ
بأول شئ فاته، ثم بالتي تليها (2).
قال نصر: وحدثنا عمرو بن شمر، عن السدى عن أبي حريث، قال: أقبل غلام
لعمار بن ياسر، اسمه راشد، يحمل إليه يوم قتل بشربة من لبن، فقال عمار: أما إني سمعت
خليلي رسول الله صلى الله عليه يقول: " إن آخر زادك من الدنيا شربة لبن " (3).
قال نصر: وروى عمرو بن شمر، عن السدى، أن رجلين بصفين اختصما في سلب
عمار وفى قتله، فأتيا عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال: ويحكما اخرجا عنى! فإن رسول
الله صلى الله عليه قال: " ما لقريش (4) ولعمار! يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار.
قاتله وسالبه في النار ".

(1) صفين: 387 - 388.
(2) صفين: 388.
(3) صفين: 388.
(4) العبارة في صفين: " ولعت قريش بعمار، مالهم ولعمار... "
25

قال السدى، فبلغني أن معاوية قال لما سمع ذلك: إنما قتله من أخرجه، يخدع
بذلك طغام أهل الشام (1).
قال نصر: وحدثنا عمرو، عن جابر عن أبي الزبير، قال أتى حذيفة بن اليمان رهط
من جهينة، فقالوا له: يا أبا عبد الله، إن رسول الله صلى الله عليه استجار من أن تصطلم
أمته (2)، فأجير من ذلك واستجار من أن يذيق (3) أمته بعضها بأس بعض، فمنع من
ذلك، فقال حذيفة: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه سلم، يقول: إن ابن سمية لم
يخير بين أمرين قط إلا اختار أشدهما - يعنى عمارا - فالزموا سمته " (4).
قال نصر: وحدثنا عمرو بن شمر، قال: حمل عمار ذلك اليوم على صف أهل الشام
وهو يرتجز:
كلا ورب البيت لا أبرح أجي * حتى أموت أو أرى ما أشتهي
لا أفتأ الدهر أحامي عن علي (5) * صهر الرسول ذي الأمانات الوفي
ينصرنا رب السماوات العلى (6) * ويقطع الهام بحد المشرفي
يمنحنا النصر على من يبتغى (7) * ظلما علينا جاهدا ما يأتلي
قال: فضرب أهل الشام حتى اضطرهم إلى الفرار (8).

(1) صفين: 388: 389.
(2) تصطلم: تستأصل.
(3) صفين: " واستجار من أن يذوق بعضها بأس بعض ".
(4) صفين: 389.
(5) صفين: " أنا مع الحق أحامي عن علي ".
(6) صفين: نقتل أعداءه وينصرنا العلى.
(7) صفين: " والله ينصرنا ".
(8) صفين: 389.
26

قال نصر: وقد كان عبد الله بن سويد الحميري من آل ذي الكلاع، قال لذي
الكلاع! ما حديث سمعته من ابن العاص في عمار؟ فأخبره، فلما قتل عمار خرج
عبد الله ليلا يمشى، فأصبح في عسكر علي عليه السلام، وكان عبد الله من عباد أهل
زمانه، وكاد أهل الشام أن يضطربوا لولا أن معاوية قال لهم: إن عليا قتل عمارا، لأنه
أخرجه إلى الفتنة. ثم أرسل معاوية إلى عمرو: لقد أفسدت على أهل الشام، أكل
ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه تقوله! فقال عمرو: قلتها ولست أعلم الغيب،
ولا أدرى أن صفين تكون! قلتها وعمار يومئذ لك ولى، وقد رويت أنت فيه مثل
ما رويت. فغضب معاوية وتنمر لعمرو، وعزم على منعه خيره، فقال عمرو لابنه وأصحابه:
لا خير في جوار معاوية، إن تجلت هذه الحرب عنه لأفارقنه - وكان عمرو حمى الانف،
قال (1):
تعاتبني أن قلت شيئا سمعته * وقد قلت لو أنصفتني مثله قبلي
أنعلك فيما قلت نعل ثبيتة * وتزلق بي في مثل ما قلته نعلي
وما كان لي علم بصفين أنها * تكون وعمار يحث على قتلى
ولو كان لي بالغيب علم كتمتها * وكايدت أقواما مراجلهم تغلي (2)
أبى الله إلا أن صدرك واغر * على بلا ذنب جنيت ولا ذحل
سوى أنني والراقصات عشية * بنصرك مدخول الهوى ذاهل العقل
فلا وضعت عنى حصان قناعها * ولا حملت وجناء ذعلبة رحلي (3)
ولا زلت أدعى في لؤي بن غالب * قليلا غنائي لا أمر ولا أحلى
إن الله أرخى من خناقك مرة * ونلت الذي رجيت إن لم أزر أهلي

(1) صفين: " فقال في ذلك ".
(2) ب: " كابدت " تصحيف صوابه من د.
(3) الوجناء: الناقة الشديدة، شبهت بالوجين من الأرض، وهو الأرض الصلبة. والذعلبة: السريعة
27

وأترك لك الشام التي ضاق رحبها * عليك، ولم يهنك بها العيش من أجلى
فأجابه معاوية:
الان لما ألقت الحرب بركها * وقام بنا الامر الجليل على رجل
غمزت قناتي بعد ستين حجة * تباعا كأني لا أمر ولا أحلى
أتيت بأمر فيه للشام فتنة * وفي دون ما أظهرته زلة النعل
فقلت لك القول الذي ليس ضائرا * ولو ضر لم يضررك حملك لي ثقلي
تعاتبني في كل يوم وليلة * كأن الذي أبليك ليس كما أبلى (1)
فيا قبح الله العتاب وأهله * ألم تر ما أصبحت فيه من الشغل!
فدع ذا لكن هل لك اليوم حيلة * ترد بها قوما مراجلهم تغلي!
دعاهم على فاستجابوا لدعوة * أحب إليهم من ثرى المال والأهل
إذا قلت هابوا حومة الموت أرقلوا * إلى الموت إرقال الهلوك إلى الفحل
قال: فلما أتى عمرا شعر معاوية أتاه، فأعتبه (2) وصار أمرهما واحدا.
قال " نصر: ثم إن عليا عليه السلام دعا في هذا اليوم هاشم بن عتبة ومعه لواؤه
[وكان أعور] (3) فقال له: يا هاشم (4) حتى متى! فقال هاشم: لأجهدن إلا أرجع إليك
أبدا. فقال علي عليه السلام إن بإزائك ذا الكلاع، وعنده الموت الأحمر. فتقدم هاشم

(1) صفين: " فعاتبتني ".
(2) أعتبه: أرضاه.
(3) من صفين.
(4) صفين: " يا هاشم حتى متى تأكل الخبز وتشرب الماء؟ فقال هاشم: لأجهدن على ألا أرجع إليك
أبدا، قال على: إن بإزائك ذا الكلاع وعنده الموت الأحمر! فتقدم هاشم فلما أقبل قال معاوية: من
هذا المقبل؟ فقيل: هاشم المرقال.، فقال: أعور بني زهرة! قاتله الله! وقال: إن حماة اللواء ربيعة،
فأجبلوا القداح، فمن خرج سهمه غيبته لهم، فخرج سهم ذي الكلاع لبكر بن وائل، فقال: ترحك الله
من سهم كرهت الضراب! وإنما كان جل أصحاب على أهل اللواء من بيعة، لأنه أمر حماة منهم أن
يحاموا عن اللواء، فأقبل هاشم وهو يقول ".
28

فلما أقبل، قال معاوية من هذا المقبل؟ فقيل: هاشم المرقال، فقال: أعور بنى زهرة!
قاتله الله! فأقبل هاشم وهو يقول:
أعور يبغي نفسه خلاصا * مثل الفنيق لابسا دلاصا (1)
لا دية يخشى ولا قصاصا * كل امرئ وإن كبا وحاصا (2)
* ليس يرى من يومه مناصا *
فحمل صاحب لواء ذي الكلاع - وهو رجل من عذرة فقال:
يا أعور العين وما بي من عور * أثبت فإني لست من فرعى مضر
نحن اليمانون وما فينا خور * كيف ترى وقع غلام من عذر!
ينعى ابن عفان ويلحى من عذر * سيان عندي من سعى ومن أمر
فاختلفا طعنتين، فطعنه هاشم فقتله، وكثرت القتلى حول هاشم، وحمل ذو الكلاع،
واختلط الناس واجتلدوا، فقتل هاشم وذو الكلاع جميعا، وأخذ عبد الله بن هاشم اللواء
وارتجز، فقال:
يا هاشم بن عتبة بن مالك * أعزز بشيخ من قريش هلك!
تحيطه الخيلان بالسنابك * في أسود من نقعهن حالك
أبشر بحور العين في الأرائك * والروح والريحان عند ذلك (3)
قال نصر: وحدثنا عمر بن سعد، عن الشعبي قال: أخذ عبد الله بن هاشم بن عتبة
رأى: أبيه، ثم قال أيها الناس، إن هاشما كان عبدا من عباد الله الذي قدر أرزاقهم،

(1) بعده في صفين:
* قد حرب الحرب ولا أناصا *
(2) حاص: هرب.
(3) صفين 393 - 395.
29

وكتب آثارهم، وأحصى أعمالهم، وقضى آجالهم، فدعاه الله ربه فاستجاب لامره (1)، وسلم لامره،
وجاهد في طاعة ابن عم رسوله. أول من آمن به، وأفقههم في دين الله، الشديد على أعداء
الله، المستحلين حرم الله، الذين عملوا في البلاد بالجور والفساد، واستحوذ عليهم الشيطان،
فأنساهم ذكر الله، وزين لهم الاثم والعدوان، فحق عليكم جهاد من خالف الله، وعطل
حدوده، ونابذ أولياءه. جودوا بمهجكم في طاعة الله في هذه الدنيا، تصيبوا الآخرة
والمنزل الأعلى، والأبد الذي لا يفنى. فوالله لو لم يكن ثواب ولا عقاب، ولا جنة ولا نار،
لكان القتال مع علي أفضل من القتال مع معاوية، فكيف وأنتم ترجون ما ترجون!
قال نصر: وحدثنا عمرو بن شمر، قال: لما انقضى أمر صفين، وسلم الحسن عليه
السلام الامر إلى معاوية، ووفدت عليه الوفود، أشخص عبد الله بن هاشم إليه أسيرا، فلما
مثل بين يديه، وعنده عمرو بن العاص، قال: يا أمير المؤمنين، هذا المختال ابن المرقال،
فدونك الضب المضب (2) المغر المفتون فاقتله، فان العصا من العصية وإنما تلد الحية
حيية، وجزاء السيئة سيئة مثلها.
فقال عبد الله: إن تقتلني فما أنا بأول رجل خذله قومه، وأسلمه يومه. فقال عمرو:
يا أمير المؤمنين أمكني منه أشخب أوداجه على أثباجه. فقال عبد الله: فهلا كانت هذه
الشجاعة منك يا بن العاص في أيام صفين، ونحن ندعوك إلى النزال، وقد ابتلت أقدام
الرجال من نقيع الجريال (3)، وقد تضايقت بك المسالك، وأشرفت منها على المهالك!
وأيم الله لولا مكانك منه لرميتك بأحد من وقع الأشافي (4) فإنك لا تزال تكثر في

(1) د " له ".
(2) المضب: الملازم.
(3) الجريال: صبغ أحمر، ويريد به الدم.
(4) الأشافي: جمع أشفى، وهو مخصف الإسكاف.
30

هوسك، وتخبط في دهسك، وتنشب في مرسك [تخبط العشواء في الليلة الحندس
الظلماء] (1). فأمر (2) معاوية به إلى الحبس، فكتب عمرو إلى معاوية (2):
أمرتك أمرا حازما فعصيتني * وكان من التوفيق قتل ابن هاشم
وكان أبوه يا معاوية الذي * رماك على حرب بحز الغلاصم
فقتلنا حتى جرت من دمائنا (3) * بصفين أمثال البحور الخضارم
وهذا ابنه، والمرء يشبه أصله * ستقرع إن أبقيته سن نادم!
فبعث معاوية بالشعر إلى عبد الله بن هاشم، فكتب في جوابه من السجن:
معاوي إن المرء عمرا أبت له * ضغينة صدر ودها غير سالم
يرى لك قتلى يا بن حرب، وإنما * يرى ما يرى عمرو ملوك الأعاجم
على أنهم لا يقتلون أسيرهم * إذا كان فيه منعة للمسالم
وقد كان منا يوم صفين نفرة * عليك، جناها هاشم وابن هاشم
قضى الله فيها ما قضى ثمت انقضى * وما ما مضى إلا كأضغاث حالم
فإن تعف عنى تعف عن ذي قرابة * وان تر قتلى تستحل محارمي
هذه رواية نصر بن مزاحم (4)

(1) من صفين.
(2 - 2) صفين: " قال فأعجب معاوية ما سمع من كلام ابن هاشم فأمر به إلى السجن وكف عن قتله،
فبعث إليه عمرو بأبيات يقول له ".
(3) صفين:
* فما برحوا حتى جرت من دمائنا *
(4) صفين: 395، 360.
31

وروى أبو عبيد الله محمد بن موسى بن عبيد الله المرزباني، أن معاوية لما تم له الامر
بعد وفاة علي عليه السلام، بعث زيادا على البصرة ونادى منادى معاوية: أمن الأسود
والأحمر بأمان الله، إلا عبد الله بن هاشم بن عتبة! فمكث معاوية يطلبه أشد الطلب،
ولا يعرف له خبرا، حتى قدم عليه رجل من أهل البصرة، فقال له: أنا أدلك على عبد الله
ابن هاشم بن عتبة، اكتب إلى زياد، فإنه عند فلانة المخزومية، فدعا كاتبه فكتب:
من معاوية بن أبي سفيان أمير المؤمنين إلى زياد بن أبي سفيان، أما بعد فإذا أتاك كتابي
هذا، فاعمد إلى حي بنى مخزوم، ففتشه دارا دارا، حتى تأتى إلى دار فلانة المخزومية،
فاستخرج عبد الله بن هاشم المرقال منها، فاحلق رأسه، وألبسه جبة شعر، وقيده، وغل
يده إلى عنقه، واحمله على قتب بعير بغير وطاء ولا غطاء، وانفذ به إلى.
قال المرزباني: فأما الزبير بن بكار فإنه قال: إن معاوية قال لزياد لما بعثه إلى البصرة
إن عبد الله بن المرقال في بنى ناجية بالبصرة عند امرأة منهم يقال لها فلانة وأنا أعزم
عليك إلا حططت رحلك ببابها، ثم اقتحمت الدار واستخرجته منها، وحملته إلى.
فلما دخل زياد إلى البصرة سأل عن بنى ناجية، وعن منزل المرأة فاقتحم الدار،
واستخرج عبد الله (1) منها، فأنفذه إلى معاوية فوصل إليه يوم الجمعة وقد لاقى نصبا كثيرا،
ومن الهجير ما غير جسمه، وكان معاوية يأمر بطعام فيتخذ في كل جمعة لأشراف قريش
ولأشراف الشام ووفود العراق، فلم يشعر معاوية إلا وعبد الله بين يديه، وقد ذبل وسهم
وجهه، فعرفه ولم يعرفه عمرو بن العاص، فقال معاوية يا أبا عبد الله، أتعرف هذا الفتى؟
قال لا، قال: هذا ابن الذي كان يقول في صفين:
أعور يبغي أهله محلا * قد عالج الحياة حتى ملا
* لا بد أن يفل أو يفلا *
قال عمرو: وإنه لهو! دونك الضب المضب فاشخب أوداجه، ولا ترجعه إلى أهل

(1) ب: " واستخرجه ".
32

العراق فإنهم أهل فتنة ونفاق، وله مع ذلك هوى يرديه، وبطانة تغويه فوالذي
نفسي بيده لئن أفلت من حبائلك، ليجهزن إليك جيشا تكثر صواهله، لشر يوم لك. فقال
عبد الله وهو في القيد: يا بن الأبتر، هلا كانت هذه الحماسة عندك يوم صفين، ونحن ندعوك
إلى البراز، وتلوذ بشمائل الخيل كالأمة السوداء والنعجة القوداء (1)! أما إنه إن قتلني قتل رجلا
كريم المخبرة، حميد المقدرة (2)، ليس بالجبس المنكوس، ولا الثلب (3) المركوس. فقال عمرو:
دع كيت وكيت، فقد وقعت بين لحيي لهزم فروس للأعداء، يسعطك إسعاط
الكودن (4) الملجم. قال عبد الله: أكثر إكثارك، فإني أعلمك بطرا في الرخاء، جبانا
في اللقاء هيابة عند كفاح الأعداء، ترى أن تقى مهجتك بأن تبدى سوأتك. أنسيت
صفين وأنت تدعى إلى النزال، فتحيد عن القتال، خوفا أن يغمرك رجال لهم أبدان
شداد، وأسنة حداد، ينهبون السرح، ويذلون العزيز!
قال عمرو: لقد علم معاوية أنى شهدت تلك المواطن، فكنت فيها كمدرة
الشوك، ولقد رأيت أباك في بعض تلك المواطن تخفق أحشاؤه، وتنق أمعاؤه. قال:
أما والله لو لقيك أبى في ذلك المقام، لارتعدت منه فرائصك، ولم تسلم منه مهجتك،
ولكنه قاتل غيرك فقتل دونك.
فقال معاوية ألا تسكت لا أم لك! فقال: يا بن هند، أتقول لي هذا! والله لئن
شئت لأعرقن جبينك، ولأقيمنك وبين عينيك وسم يلين له أخدعاك. أبأكثر من
الموت تخوفني! فقال معاوية أو تكف يا بن أخي! وأمر به إلى السجن.
فقال عمرو: وذكر الأبيات، فقال عبد الله: وذكر الأبيات أيضا، وزاد: " فأطرق
معاوية طويلا حتى ظن أنه لن يتكلم " ثم قال:

(1) القوداء: الذليلة المنقادة.
(2) المقدرة، مثلثة الدال: القوة واليسار.
(3) الثلب: المعيب.
(4) الكودن: البرذون يوكف ويشبه به البليد.
33

أرى العفو عن عليا قريش وسيلة * إلى الله في اليوم العبوس القماطر
ولست أرى قتلى فتى ذا قرابة * له نسب في حي كعب وعامر
بل العفو عنه بعد ما خاب قدحه * وزلت به إحدى الجدود العواثر
وكان أبوه يوم صفين محنقا * علينا فأردته رماح يحابر
ثم قال له: أتراك فاعلا ما قال عمرو من الخروج علينا! قال، لا تسل عن عقيدات
الضمائر، لا سيما إذا أرادت جهادا في طاعة الله. قال: إذن يقتلك الله كما قتل أباك، قال:
ومن لي بالشهادة!
قال: فأحسن معاوية جائزته، وأخذ عليه موثقا ألا يساكنه بالشام فيفسد عليه أهله.
قال نصر: وحدثنا عمرو بن شمر، عن السدى، عن عبد خير الهمداني، قال: قال هاشم
ابن عتبة يوم مقتله: أيها الناس، إني رجل ضخم، فلا يهولنكم مسقطي إذا سقطت، فإنه
لا يفرغ منى أقل من نحر جزور، حتى يفرغ الجزار من جزرها. ثم حمل فصرع، فمر عليه
رجل وهو صريع بين القتلى، فناداه: اقرأ على أمير المؤمنين السلام، وقل له: بركات الله
ورحمته عليك (1) يا أمير المؤمنين، أنشدك الله إلا أصبحت وقد ربطت مقاود خيلك بأرجل
القتلى، فإن الدبرة تصبح غدا لمن غلب على القتلى. فأخبر الرجل عليا عليه السلام بما قاله،
فسار في الليل بكتائبه حتى جعل القتلى خلف ظهره، فأصبح والدبرة له على أهل الشام (1).
قال نصر: وحدثنا عمرو بن شمر، عن السدى، عن عبد خير، قال: قاتل هاشم
الحارث بن المنذر التنوخي، حمل عليه بعد أن أعيا وكل، وقتل بيده، فطعنه بالرمح فشق
بطنه فسقط، وبعث إليه علي عليه السلام وهو لا يعلم: أقدم بلوائك، فقال للرسول: انظر

(1) ساقطة من ب.
(2) صفين 401.
34

إلى بطني، فإذا هو قد انشق، فجاء علي عليه السلام حتى وقف عليه، وحوله عصابة من
أسلم قد صرعوا معه، وقوم من القراء، فجزع عليه، وقال:
جزى الله خيرا عصبة أسلمية * صباح الوجوه صرعوا حول هاشم
يزيد وسعدان وبشر ومعبد * وسفيان، وابنا معبد ذي المكارم
وعروة لا يبعد نثاه وذكره (1) * إذا اخترطت يوما خفاف الصوارم (2)
قال نصر: وحدثنا عمر بن سعد، عن الشعبي، عن أبي سلمة (3)، أن هاشم بن عتبة
استصرخ الناس عند المساء: (4) ألا من كان له إلى الله حاجة ومن كان يريد الآخرة
فليقبل (4). فأقبل إليه ناس كثير شد بهم على أهل الشام مرارا، ليس من وجه يحمل عليه
إلا صبروا له، فقاتل قتالا شديدا ثم قال لأصحابه: لا يهولنكم ما ترون من صبرهم،
فوالله ما ترون منهم إلا حمية العرب وصبرها تحت راياتها، وعند مراكزها، وإنهم لعلى
الضلال، وإنكم لعلى الحق، يا قوم اصبروا وصابروا واجتمعوا، وامشوا بنا إلى عدونا على
تؤده، رويدا. واذكروا الله، ولا يسلمن رجل أخاه، ولا تكثروا الالتفات، واصمدوا
صمدهم، وجالدوهم محتسبين حتى يحكم الله بيننا وبينهم، وهو خير الحاكمين.
قال أبو سلمة فبينا هو وعصابة من القراء يجالدون أهل الشام، إذ طلع عليهم فتى
شاب، وهو يقول:
أنا ابن أرباب ملوك غسان * والدائن اليوم بدين عثمان

(1) نثاه: خبره.
(2) اخترطت: سلت، والخبر في صفين 404، 405.
(3) صفين: " عن عمرو بن شمر، عن رجل ".
(4 - 4) صفين: " ألا من كان يريد الله والدار الآخرة فليقل "
(5) صفين: " غسان ".
35

أنبأنا قراؤنا بما كان (1) * أن عليا قتل ابن عفان
ثم شد لا ينثني حتى يضرب بسيفه، ثم جعل يلعن عليا ويشتمه ويسهب في ذمه،
فقال له هاشم بن عتبة: يا هذا، إن الكلام بعده الخصام، وإن لعنك سيد الأبرار بعده
عقاب النار، فاتق الله، فإنك راجع إلى ربك فيسألك عن هذا الموقف وعن هذا المقال (2).
قال الفتى: إذا سألني ربى قلت: قاتلت أهل العراق، لان صاحبهم لا يصلى كما ذكر لي،
وإنهم لا يصلون، وصاحبهم قتل خليفتنا، وهم آزروه على قتله. فقال له هاشم: يا بنى،
وما أنت وعثمان! إنما قتله أصحاب محمد، الذين هم أولى بالنظر في أمور المسلمين، وإن
صاحبنا كان أبعد القوم عن دمه، وأما قولك: " إنه لا يصلى "، فهو أول من صلى مع
رسول الله وأول من آمن به. وأما قولك: إن أصحابه لا يصلون، فكل من ترى معه
قراء الكتاب، لا ينامون الليل تهجدا، فاتق الله واخش عقابه، ولا يغررك من نفسك
الأشقياء الضالون.
فقال الفتى: يا عبد الله، لقد دخل قلبي وجل من كلامك، وإني لأظنك صادقا
صالحا، وأظنني مخطئا آثما فهل لي من توبة؟ قال: نعم، ارجع إلى ربك وتب إليه،
فإنه يقبل التوبة ويعفو عن السيئات، ويحب التوابين ويحب المتطهرين. فرجع الفتى
إلى صفه منكسرا نادما، فقال له قوم من أهل الشام: خدعك العراقي! قال: لا،
ولكن نصحني العراقي (3).
قال نصر: وفى قتل هاشم وعمار تقول امرأة من أهل الشام:
لا تعدموا قوما أذاقوا ابن ياسر * شعوبا ولم يعطوكم بالخزائم

(1) صفين: " أنبأنا أقواما "
(2) صفين: " وما أردت به "
(3) صفين 403، 404.
36

فنحن قتلنا اليثربي ابن محصن * خطيبكم وابني بديل وهاشم (1)
قال نصر: أما اليثربي، فهو عمرو بن محصن الأنصاري، وقد رثاه النجاشي شاعر
أهل العراق، فقال:
لنعم فتى الحيين عمرو بن محصن * إذا صارخ الحي المصبح ثوبا (2)
إذا الخيل جالت بينها قصد القنا (3) * يثرن عجاجا ساطعا متنصبا
لقد فجع الأنصار طرا بسيد * أخي ثقة في الصالحات مجربا
فيا رب خير قد أفدت، وجفنة * ملأت وقرن قد تركت مسلبا (4)
ويا رب خصم قد رددت بغيظه * فآب ذليلا بعد أن كان مغضبا
وراية مجد قد حملت وغزوة * شهدت إذ النكس الجبان تهيبا
حويطا على جل العشيرة ماجدا * وما كنت في الأنصار نكسا مؤنبا (5)
طويل عماد المجد رحبا فناؤه * خصيبا إذا ما رائد الحي أجدبا
عظيم رماد النار لم يك فاحشا * ولا فشلا يوم النزال مغلبا
وكنت ربيعا ينفع الناس سيبه * وسيفا جرازا باتك الحد مقضبا
فمن يك مسرورا بقتل ابن محصن * فعاش شقيا ثم مات معذبا
وغودر منكبا لفيه ووجهه * يعالج رمحا ذا سنان وثعلبا (6)
فإن يقتلوا الحر الكريم ابن محصن * فنحن قتلنا ذا الكلاع وحوشبا

(1) صفين 405.
(2) المصبح: الذي صحبته الغارة، والتثويب: الاستصراخ.
(3) القصد: جمع قصيدة، وهي القطعة.
(4) صفين: " فخيبا ".
(5) صفين: " حووطا ".
(6) الثعلب: طرف الرمح
37

وإن يقتلوا ابني بديل وهاشما * فنحن تركنا منكم القرن أعضبا
ونحن تركنا حميرا في صفوفكم * لدى الحرب صرعى كالنخيل مشذبا
وأفلتنا تحت الأسنة مرثد * وكان قديما في الفرار مدربا
ونحن تركنا عند مختلف القنا * أخاكم عبيد الله لحما ملحبا
بصفين لما ارفض عنه رجالكم * ووجه ابن عتاب تركناه ملغبا (1)
وطلحة من بعد الزبير ولم ندع * لضبة في الهيجا عريفا ومنكا (2)
ونحن أحطنا بالبعير وأهله * ونحن سقيناكم سماما مقشبا (3)
قال نصر: وكان ابن محصن من أعلام أصحاب علي عليه السلام، قتل في المعركة،
وجزع علي عليه السلام لقتله.
قال: وفى قتل هاشم بن عتبة، يقول أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني، وهو من
الصحابة - وقيل إنه آخر من بقي من صحب رسول الله صلى الله عليه، وشهد مع علي
صفين، وكان من مخلصي الشيعة:
يا هاشم الخير جزيت الجنة * قاتلت في الله عدو السنة
والتاركي الحق وأهل الظنه * أعظم بما فزت به من منه!
صيرني الدهر كأني شنه * وسوف تعلو حول قبري رنه (4)
* من زوجة وحوبة وكنه *

(1) صفين: " عنه صفوفكم ". ملغب، من اللغب، وهو التعب والنصب
(2) العريف: النقيب دون الرئيس، والمنكب: من يعاونه.
(3) المقشب: المخلوط.
(4) الرنة: الندب والعويل على الميت
38

قال نصر: والحوبة (1) القراب:، يقال: لي في نبي فلان حوبة أي قربى (2).
قال نصر: وقال رجل من عذرة، من أهل الشام:
لقد رأيت أمورا كلها عجب * وما رأيت كأيام بصفينا
لما غدوا وغدونا كلنا حنق * كما رأيت الجمال الجلة الجونا
خيل تجول وأخرى في أعنتها * وآخرون على غيظ يرامونا
ثم ابتذلنا سيوفا في جماجمهم * وما نساقيهم من ذاك يجزونا
كأنها في أكف القوم لامعة * سلاسل البرق يجد عن العرانينا
ثم انصرفنا كأشلاء مقطعة * وكلهم عند قتلاهم يصلونا (3)
قال نصر: وقال رجل (4) لعدي بن حاتم الطائي، وكان من جملة أصحاب علي عليه
السلام: يا أبا طريف، ألم أسمعك تقول يوم الدار: " والله لا تحبق فيها عناق حولية " (5)!
وقد رأيت ما كان فيها! - وقد كان فقئت عين عدى، وقتل بنوه فقال: أما والله
لقد حبقت في قتله العناق والتيس الأعظم (6).
قال نصر: وحدثنا عمرو بن شمر، قال بعث علي عليه السلام خيلا ليحبسوا عن
معاوية مادته، فبعث معاوية الضحاك بن قيس الفهري في خيل إلى تلك الخيل، فأزالوها

(1) وفي اللسان عن أبي عبيد: " وهي عندي كل حرمة تضيع إن تركتها، من أم أو أخت أو ابنة أو
غيرها ".
(2) صفين 407، 408.
(3) صفين 405، 406.
(4) صفين: " نصر عن عمرو بن شمر بإسناده ".
(5) الحبق: ضراط المعز، والعناق: الأنثى من ولد المعز.
(6) صفين 408، 409.
39

وجاءت عيون علي عليه السلام فأخبروه بما كان، فقال لأصحابه: ما ترون فيما هاهنا؟ فقال
بعضهم: نرى كذا، وقال بعضهم: نرى كذا، فلما زاد الاختلاف، قال علي عليه السلام:
اغدوا إلى القتال فغاداهم إلى القتال، فانهزمت صفوف الشام من بين يديه ذلك اليوم، حتى فر
عتبة بن أبي سفيان عشرين فرسخا عن موضع المعركة فقال النجاشي فيه من قصيدة أولها: لقد أمعنت يا عتب الفرارا * وأورثك الوغى خزيا وعارا
فلا يحمد خصاك سوى طمر * إذا أجريته انهمر انهمارا
وقال كعب بن جعيل - وهو شاعر أهل الشام - بعد رفع المصاحف، يذكر أيام صفين
ويحرض معاوية:
معاوي لا تنهض بغير وثيقة * فإنك بعد اليوم بالذل عارف
تركتم عبيد الله بالقاع مسندا * يمج نجيعا والعروق نوازف
ألا إنما تبكي العيون لفارس * بصفين أجلت خيله وهو واقف
ينوء وتعلوه شآبيب من دم * كما لاح في جيب القميص اللفائف (1)
تبدل من أسماء أسياف وائل * وأي فتى لو أخطأته المتالف!
ألا إن شر الناس في الناس كلهم * بنو أسد، إني بما قلت عارف
وفرت تميم سعدها وربابها * وخالفت الجعراء فيمن يخالف (2)
وقد صبرت حول ابن عم محمد * على الموت شهباء المناكب شارف
فما برحوا حتى رأى الله صبرهم * وحتى أتيحت بالأكف المصاحف

(1) الجعراء: لقب بنى العنبر بن عمرو بن تميم.
(2) ورد هذا البيت وتاليه في كتاب صفين منسوبين إلى أبي جهمة الأسدي، يرد بهما على كعب
ابن جعيل.
40

وقد تقدم ذكر هذه الأبيات بزيادة على ما ذكرناه الان (1).
قال نصر: وهجا كعب بن جعيل عتبة بن أبي سفيان وعيره بالفرار، وكان كعب
من شيعة معاوية لكنه هجا عتبة تحريضا له، فهجاه عتبة جوابا، فقال له:
وسميت كعبا بشر العظام * وكان أبوك يسمى الجعل (2)
وإن مكانك من وائل * مكان القراد من است الجمل (3)
قال نصر: ثم كانت بين الفريقين الوقعة المعروفة بوقعة الخميس، حدثنا بها عمر
ابن سعد، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي، قال: حدثنا القعقاع بن الأبرد
الطهوي، قال: والله إني لواقف قريبا من علي عليه السلام بصفين يوم وقعة الخميس،
وقد التقت مذحج - وكانوا في ميمنة علي عليه السلام - وعك لخم وجذام والأشعريون، وكانوا
مستبصرين في قتال علي عليه السلام، فلقد والله رأيت ذلك اليوم من قتالهم، وسمعت من
وقع السيوف على الرؤوس وخبط الخيول بحوافرها في الأرض وفى القتلى، ما الجبال
تهد، ولا (4) الصواعق تصعق، بأعظم من هؤلاء في الصدور من تلك الأصوات. ونظرت
إلى علي عليه السلام وهو قائم، فدنوت منه فأسمعه يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله! اللهم إليك
الشكوى وأنت المستعان! ثم نهض حين قام قائم الظهيرة وهو يقول: ربنا افتح بيننا
وبين قومنا بالحق، وأنت خير الفاتحين. وحمل على الناس بنفسه، وسيفه مجرد بيده،
فلا والله ما حجز بين الناس ذلك اليوم إلا الله رب العالمين، في قريب من ثلث الليل

(1) صفين 410، 411.
(2) صفين: " سمى الجعل ".
(3) صفين: 412.
(4) تهد: تحدث صوتا، والهدة: الصوت.
41

الأول، وقتلت يومئذ أعلام العرب، وكان في رأس علي عليه السلام ثلاث ضربات،
وفى وجهه ضربتان.
قال نصر: وقد قيل: إن عليا عليه السلام لم يخرج قط، وقتل في هذا اليوم خزيمة
ابن ثابت ذو الشهادتين، وقتل من أهل الشام عبد الله بن ذي الكلأ ع الحميري، فقال
معقل بن نهيك بن يساف الأنصاري:
يا لهف نفسي ومن يشفى حزازتها * إذ أفلت الفاسق الضليل منطلقا
وأفلت الخيل عمرو وهي شاحبة * تحت العجاج تحث الركض والعنقا (1)
وافت منية عبد الله إذ لحقت * قب الخيول به، أعجز بمن لحقا
وأنساب مروان في الظلماء مستترا * تحت الدجى كلما خاف الردى أرقا
وقال مالك الأشتر:
نحن قتلنا حوشبا * لما غدا قد أعلما
وذا الكلاع قبله * ومعبدا إذ أقدما
إن تقتلوا منا أبا * اليقظان شيخا مسلما
فقد قتلنا منكم * سبعين كهلا مجرما
أضحوا بصفين وقد لاقوا نكالا مؤثما
وقالت ضبيعة بنت خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين ترثى أباها رحمه الله.
عين جودي على خزيمة بالدمع * قتيل الأحزاب يوم الفرات
قتلوا ذا الشهادتين عتوا * أدرك الله منهم بالترات!
قتلوه في فتية غير عزل * يسرعون الركوب في الدعوات
نصروا السيد الموفق ذا العدل، * ودانوا بذاك حتى الممات

(1) العنق: ضرب من السير.
42

لعن الله معشرا قتلوه * ورماهم بالخزي والآفات (1)
قال نصر: وحدثنا عمر بن سعد، عن الأعمش، قال: كتب معاوية إلى
أبى أيوب خالد بن زيد الأنصاري، صاحب منزل رسول الله صلى الله عليه وآله - وكان
سيدا معظما من سادات الأنصار، وكان من شيعة علي عليه السلام - كتابا، وكتب إلى
زياد بن سمية - وكان عاملا لعلى عليه السلام على بعض فارس - كتابا ثانيا. فأما كتابه
إلى أبى أيوب فكان سطرا واحدا: " حاجيتك! لا تنسى الشيباء أبا عذرها، ولا قاتل
بكرها "، فلم يدر أبو أيوب ما هو! قال: فأتى به عليا عليه السلام فقال: يا أمير
المؤمنين، إن معاوية كهف المنافقين، كتب إلى بكتاب لا أدرى ما هو. قال علي عليه
السلام: فأين الكتاب؟ فدفعه إليه، فقرأه، وقال: نعم، هذا مثل ضربه لك، يقول:
لا تنسى الشيباء أبا عذرها. والشيباء: المرأة البكر ليلة افتضاضها، لا تنسى بعلها
الذي افترعها أبدا، ولا تنسى قاتل بكرها، وهو أول ولدها، كذلك لا أنسى أنا
قتل عثمان.
وأما الكتاب الذي كتبه إلى زياد، فإنه كان وعيدا وتهددا، فقال زياد: ويلي
على معاوية، كهف المنافقين وبقية الأحزاب! يتهددني ويتوعدني، وبيني وبينه
ابن عم محمد، معه سبعون ألفا، سيوفهم على عواتقهم، يطيعونه (2) في جميع ما يأمرهم به،
لا يلتفت رجل منهم وراءه حتى يموت! أما والله لو ظفر ثم خلص إلى ليجدنني أحمر
ضرابا بالسيف.
قال نصر: أحمر أي مولى. فلما ادعاه معاوية عاد عربيا منافيا.

(1) صفين 413 - 416.
(2) صفين: " ومعه سبعون ألفا طوائع، سيوفهم عند أذقانهم ".
43

قال نصر: وروى عمرو بن شمر أن معاوية كتب في أسفل كتابه إلى أبى أيوب:
أبلغ لديك أبا أيوب مالكة * أنا وقومك مثل الذئب والنقد (1)
إما قتلتم أمير المؤمنين فلا * ترجوا الهوادة منا آخر الأبد (2)
إن الذي نلتموه ظالمين له * أبقت حزازته صدعا على كبدي (3)
إني حلفت يمينا غير كاذبة * لقد قتلتم إماما غير ذي أود (4)
لا تحسبوا أنني أنسى مصيبته * وفى البلاد من الأنصار من أحد
قد أبدل الله منكم خير ذي كلع * واليحصبيين أهل الخوف والجند (5)
إن العراق لنا فقع بقرقرة * أو شحمة بزها شاو ولم يكد (6)
والشام ينزلها الأبرار، بلدتها * أمن، وبيضتها عريسة الأسد (7)
فلما قرئ الكتاب على علي عليه السلام، قال لشد ما شحذكم معاوية! يا معشر
الأنصار أجيبوا الرجل، فقال أبو أيوب: يا أمير المؤمنين، إني ما أشاء أن أقول شيئا من
الشعر يعيا به الرجال إلا قلته، فقال: فأنت إذا أنت.
فكتب أبو أيوب إلى معاوية: أما بعد، فإنك كتبت: " لا تنسى الشيباء أبا عذرها
ولا قاتل بكرها "، فضربتها مثلا بقتل عثمان، وما نحن وقتل عثمان! إن الذي تربص بعثمان

(1) المألكة: الرسالة. والنقد: جنس صغير من الغنم، يكون بالبحرين.
(2) صفين: " عندي آخر الأبد ".
(3) صفين: " حرارته ".
(4) الأود: الاعوجاج.
(5) الجند، بالتحريك: مدينة باليمن، وفي صفين: " أهل الحق والجند ".
(6) الفقع: البيضاء الرخوة من الكمأة. والقرقرة: الأرض المنخفضة، ويقال في المثل: " هو أذل
من فقع بقرقرة "، لأنه لا يمتنع على من جناه، أو لأنه يداس بالأرجل.
(7) صفين: " وحومتها عريسة الأسد ".
44

وثبط يزيد بن أسد وأهل الشام عن نصرته لانت، وإن الذين قتلوه لغير الأنصار،
وكتب في آخر كتابه:
لا توعدنا ابن حرب إننا نفر * لا نبتغي ود ذي البغضاء من أحد (1)
واسعوا جميعا بنى الأحزاب كلكم * لسنا نريد رضاكم آخر الأبد
نحن الذين ضربنا الناس كلهم * حتى استقاموا وكانوا عرضة الأود
والعام قصرك منا إن ثبت لنا * ضرب يزيل بين الروح والجسد (2)
أما على فإنا لا نفارقه * ما رفرف الآل في الدوية الجرد (2)
إما تبدلت منا بعد نصرتنا * دين الرسول أناسا ساكني الجند
لا يعرفون أضل الله سعيهم * إلا اتباعكم، يا راعى النقد
فقد بغى الحق هضما شر ذي كلع * واليحصبيون طرا بيضة البلد (4)
قال: فلما أتى معاوية كتاب أبى أيوب كسره (5).
قال نصر: وحدثنا عمرو بن شمر، قال: حدثني مجالد، عن الشعبي، عن زياد
ابن النضر الحارثي، قال: شهدت مع علي عليه السلام صفين، فاقتتلنا مرة ثلاثة أيام، وثلاث
ليال، حتى تكسرت الرماح، ونفدت السهام، ثم صرنا إلى المسايفة، فاجتلدنا بها إلى
نصف الليل، حتى صرنا نحن وأهل الشام في اليوم الثالث، يعانق بعضنا بعضا، ولقد قاتلت
ليلتئذ بجميع السلاح، فلم يبق شئ من السلاح إلا قاتلت به، حتى تحاثينا بالتراب،

(1) صفين: " إننا بشر ".
(2) صفين: " أن أقمت لنا ".
(3) الدوية: المفازة، وفي صفين: " الداوية "، وهما سواء. والجرد: الفضاء لا نبات فيه.
(4) اليحصبيون: بنو يحصب، وهم بطن في حمير.
(5) صفين 417 - 419.
45

وتكادمنا بالأفواه، حتى صرنا قياما ينظر بعضنا إلى بعض، ما يستطيع أحد من الفريقين
أن ينهض إلى صاحبه، ولا يقاتل، فلما كان نصف الليل من الليلة الثالثة، انحاز معاوية
وخيله من الصف، وغلب علي عليه السلام على القتلى، فلما أصبح أقبل على أصحابه يدفهم
وقد قتل كثير منهم، وقتل من أصحاب معاوية أكثر، وقتل فيهم تلك الليلة شمر
بن أبرهة (1).
قال نصر: وحدثنا عمرو، عن جابر عن تميم، قال: والله إني لمع علي عليه السلام،
إذ أتاه علقمة بن زهير الأنصاري، فقال: يا أمير المؤمنين، إن عمرو بن العاص يرتجز في
الصف بشعر، أفأسمعكه؟ قال: نعم، قال: إنه يقول:
إذا تخازرت وما بي من خزر (2) * ثم كسرت العين من غير عور (3)
ألفيتني ألوى بعيد المستمر (4) * ذا صولة في المصمئلات الكبر (5)
أحمل ما حملت من خير وشر * كالحية الصماء في أصل الحجر
فقال على: اللهم العنه، فإن رسولك لعنه، قال علقمة وإنه يا أمير المؤمنين يرتجز برجز
آخر، فأنشدك؟ قال: قل، فقال:
أنا الغلام القرشي المؤتمن * الماجد الأبلج ليث كالشطن
ترضى بي الشام إلى أرض عدن * يا قادة الكوفة، يا أهل الفتن (6)

(1) صفين 420.
(2) التخازر: تصنع الخزر، وهو ضيق العين.
(3) صفين: " ثم خبأت العين ".
(4) الألوى: القوى الشديد المراس.
(5) المصمئلات: الوقائع الشديدة، وأصل المصمئلة: الداهية.
(6) بعده في صفين:
* يا أيها الاشراف من أهل اليمن *
46

أضربكم ولا أرى أبا حسن (1) * كفى بهذا حزنا من الحزن!
فضحك علي عليه السلام، وقال إنه
لكاذب، وإنه بمكاني لعالم، كما قال العربي:
" غير الوهى ترقعين وأنت مبصرة "، ويحكم! أروني مكانه، لله أبوكم، وخلاكم ذم!
وقال محمد بن عمرو بن العاص:
لو شهدت جمل مقامي ومشهدي (2) * بصفين يوما شاب منها الذوائب
غداة غدا أهل العراق كأنهم * من البحر موج لجه متراكب
وجئناهم نمشي صفوفا كأننا * سحاب خريف صففته الجنائب
فطارت إلينا بالرماح كماتهم * وطرنا إليهم والسيوف قواضب
فدارت رحانا واستدارت رحاهم * سراة نهار ما تولى المناكب
إذا قلت يوما قد ونوا برزت لنا * كتائب منهم وارحجنت كتائب
وقالوا نرى من رأينا أن تبايعوا * عليا، فقلنا بل نرى أن نضاربا (3)
فأبنا وقد أردوا سراة رجالنا (4) * وليس لما لاقوا سوى الله حاسب
فلم أر يوما كان أكثر باكيا * ولا عارضا منهم كميا يكالب
كأن تلألئ البيض فينا وفيهم * تلألؤ برق في تهامة ثاقب (5)

(1) بعده في صفين:
* أعني عليا وابن عم المؤتمن *
(2) صفين: " وموقفي ".
(3) في البيت إقواء.
(4) صفين: " نالوا سراة رجالنا ".
(5) في صفين: " فرد عليه محمد بن علي بن أبي طالب:
لو شهدت جمل مقامك أبصرت * مقام لئيم وسط تلك الكتائب
أتذكر يوما لم يكن لك فخره * وقد ظهرت فيها عليك الجلائب
وأعطيتمونا ما نقمتم أذلة * على غير تقوى الله والدين واصب
47

وقال النجاشي يذكر عليا عليه السلام، وجده في الامر:
إني إخال عليا غير مرتدع * حتى تقام حقوق الله والحرم
أما ترى النقع معصوبا بلمته * كأنه الصقر في عرنينه شمم (1)
غضبان يحرق نابيه على حنق (2) * كما يغط الفنيق المصعب القطم (3)
حتى يزيل ابن حرب عن إمارته * كما تنكب تيس الحبلة الحلم (4)
قال نصر: وحدثنا عمر بن سعد عن الشعبي، قال: بلغ النجاشي أن معاوية تهدده
فقال: (5)
يا أيها الرجل المبدى عداوته * روى لنفسك أي الامر تأتمر!
لا تحسبني كأقوام ملكتهم * طوع الأعنة لما ترشح الغدر
وما علمت بما أضمرت من حنق * حتى أتتني به الركبان والنذر
إذا نفست على الأنجاد مجدهم (6) * فابسط يديك، فإن الخير مبتدر
واعلم بأن على الخير من نفر * شم العرانين لا يعلوهم بشر
لا يجحد الحاسد الغضبان فضلهم (7) * ما دام بالحزن من صمائها حجر
نعم الفتى أنت إلا أن بينكما * كما تفاضل ضوء الشمس والقمر

(1) في صفين: " نقع القبائل في عرنينه شمم ".
(2) صفين: " تابيه بحرته ".
(3) المصعب: الفحل، والقطم: المشتهى للضراب.
(4) صفين 420 - 424، وبعد هذا البيت هناك:
لو تروه كمثل الصقر مرتبئا * يخفقن من حوله العقبان والرخم
(5) في صفين: " وقال النجاشي أيضا يمدح عليا ويهجو معاوية، وقد بلغه أنه يتهدده ".
(6) صفين: " الأمجاد ".
(7) صفين: " لا يرتقى الحاسد الغضبان مجدهم ".
48

ولا إخالك إلا لست منتهيا * حتى يمسك من أظفاره ظفر
لا تحمدن امرأ حتى تجربه * ولا تذمن من لم يبله الخبر
إني امرؤ قلما أثنى على أحد * حتى أرى بعض ما يأتي وما يذر
وإن طوى معشر عنى عداوتهم * في الصدر أو كان في أبصارهم خزر
أجمعت عزما جراميزي بقافية * لا يبرح الدهر منها فيهم أثر (1)
قال: فلما بلغ معاوية هذا الشعر، قال: ما أراه إلا قد قارب (2).
قال نصر: وحدثنا عمر بن سعد، عن محمد بن إسحاق أن عبد الله بن جعفر
بن أبي طالب، كان يحمل على الخيل يوما، فجاءه رجل، فقال هل من فرس
يا بن ذي الجناحين! قال: تلك الخيل فخذ أيتها شئت، فلما ولى قال ابن جعفر إن
تصب أفضل الخيل تقتل، فما عتم أن أخذ أفضل الخيل، فركبه ثم حمل على فارس قد
كان دعاه إلى البراز، فقتله الشامي، وحمل غلامان آخران من أهل العراق، حتى انتهيا
إلى سرادق معاوية، فقتلا عنده، وأقبلت الكتائب بعضها نحو بعض، فاقتتلت قياما
في الركب، لا يسمع السامع إلا وقع السيوف على البيض والدرق.
وقال عمرو بن العاص:
أجئتم إلينا تسفكون دماءنا * وما رمتم وعر من الامر أعسر
لعمري لما فيه يكون حجاجنا * إلى الله أدهى لو عقلتم وأنكر
تعاورتم ضربا بكل مهند * إذا شد وردان تقدم قنبر (3)
كتائبكم طورا تشد وتارة * كتائبنا فيها القنا والسنور (4)

(1) يقال: ضم فلان جراميزه، إذا رفع ما انتشر من ثيابه ثم مضى، يريد أنه أجمع أمره ومضى،
ويريد بالقافية الشعر بقوله في الهجاء، وفي صفين: " جمعت صبرا ".
(2) صفين 424.
(3) قنبر غلام على، ووردان غلام عمرو بن العاص.
(4) السنور: الدروع.
49

إذا ما التقوا يوما تدارك بينهم * طعان وموت في المعارك أحمر
قال رجل من كلب مع معاوية يهجو أهل العراق ويوبخهم:
لقد ضلت معاشر من نزار * إذا انقادوا لمثل أبى تراب
وإنهم وبيعتهم عليا * كواشمة التغضن بالخضاب
تزين من سفاهتها يديها * وتحسر باليدين عن النقاب
فإياكم وداهية نئودا * تسير إليكم تحت العقاب (1)
إذا ساروا سمعت لحافتيهم * دويا مثل تصفيق السحاب (2)
يجيبون الصريخ إذا دعاهم * وقد طعن الفوارس بالحراب (3)
عليهم كل سابغة دلاص * وأبيض صارم مثل الشهاب (4)
وقال أبو حية بن غزية الأنصاري، وهو الذي عقر الجمل يوم البصرة،
واسمه عمرو:
سائل حليلة معبد عن بعلها * وحليلة اللخمي وابن كلاع (5)
واسأل عبيد الله عن فرساننا * لما ثوى متجدلا بالقاع (6)
واسأل معاوية المولى هاربا * والخليل تمعج وهي جد سراع (7)
ما ذا يخبرك المخبر منهم * عنهم وعنا عند كل وقاع (8)
إن يصدقوك يخبروك بأننا * أهل الندى قدما مجيبو الداعي

(1) النئود: الداهية. والعقاب: الراية.
(2) صفين: " إذا هشوا ".
(3) الصريخ: المستغيث.
(4) الدلاص: الدرع.
(5) صفين: " عن فعلنا ".
(6) د: " متجدلا ".
(7) تمعج: تسرع، وفي صفين: " والخيل تعدو ".
(8) الوقاع: المواقعة في الحرب.
50

إن يصدقوك يخبروك بأننا * نحمي الحقيقة كل يوم مصاع (1)
ندعو إلى التقوى ونرعى أهلها * برعاية المأمون لا المضياع
ونسن للأعداء كل مثقف * لدن وكل مشطب قطاع (2)
وقال عدى بن حاتم الطائي:
أقول لما أن رأيت المعمعه * واجتمع الجندان وسط البلقعه
هذا علي والهدى حقا معه * يا رب فاحفظه ولا تضيعه
فإنه يخشاك رب فارفعه * ومن أراد عيبه فضعضعه
* أو كاده بالبغي منك فاقمعه *
وقال النعمان بن جعلان الأنصاري:
سائل بصفين عنا عند غدوتنا * أم كيف كنا إلى العلياء نبتدر (3)!
وسل غداة لقينا الأزد قاطبة * يوم البصيرة لما استجمعت مضر
لولا الاله وعفو من أبى حسن * عنهم، وما زال منه العفو ينتظر (4)
لما تداعت لهم بالمصر داعية * إلا الكلاب، وإلا الشاء والحمر
كم مقعص قد تركناه بمقفرة * تعوي السباع عليه وهو منعفر (5)
ما إن يؤوب ولا ترجوه أسرته * إلى القيامة حتى ينفخ الصور (6)
قال عمرو بن الحمق الخزاعي:

(1) المصاع: المجالدة والقتال. وفي صفين: " عند كل مصاع ".
(2) سيف مشطب: فيه شطب، وهي الخطوط والطرائق.
(3) صفين: " وكيف كنا غداة المحك نبتدر ".
(4) البيت في صفين:
لولا الاله وقوم قد عرفتهم * فيهم عفاف، وما يأتي به القدر
(5) المقعص: المقتول بمكانه، أو المجهز عليه.
(6) صفين: " ما إن تراه ولا يبكى علانية ".
51

تقول عرسي لما أن رأت أرقي * ماذا يهيجك من أصحاب صفينا!
ألست في عصبة يهدى الاله بهم * لا يظلمون، ولا بغيا يريدونا
فقلت إني على ما كان من رشد (1) * أخشى عواقب أمر سوف يأتينا
إدالة القوم في أمر يراد بنا * فاقني حياء وكفى ما تقولينا (2)
وقال حجر بن عدي الكندي:
يا ربنا سلم لنا عليا * سلم لنا المهذب التقيا (3)
المؤمن المسترشد الرضيا * واجعله هادي أمة مهديا
واحفظه رب حفظك النبيا * لا خطل الرأي ولا غبيا (4)
فإنه كان لنا وليا * ثم ارتضيه بعده وصيا (5)
قال نصر: وحدثنا عمر بن سعد، عن الشعبي، قال: قال الأحنف بن قيس في
صفين لأصحابه: هلكت العرب! قالوا له: وإن غلبنا يا أبا بحر؟ قال: نعم، قالوا: وإن
غلبنا؟ قال: نعم، قالوا: والله ما جعلت لنا مخرجا. فقال الأحنف: إنا إن غلبناهم
لم نترك بالشام رئيسا إلا ضربنا عنقه وإن غلبونا لم يعرج بعدها رئيس عن معصية
الله أبدا.
قال نصر: وحدثنا عمر بن سعد، عن الشعبي، قال: ذكر معاوية يوما صفين بعد
عام الجماعة، وتسليم الحسن عليه السلام الامر إليه، فقال للوليد بن عقبة: أي بنى عمك

(1) صفين: " من سدر ".
(2) أقنى حياء، أي الزمي الحياء.
(3) د صفين: " النقيا ".
(4) في الأصول: " بغيا "، وما أثبته من صفين.
(5) صفين 440.
52

كان أفضل يوم صفين [يا وليد] (1)، عند وقدان الحرب، واستشاطة لظاها حين قاتلت
الرجال على الأحساب؟ قال: كلهم قد وصل كنفيها عند انتشار وقعتها، حتى ابتلت
أثباج الرجال من الجريال، بكل لدن عسال، وبكل عضب قصال، فقال
عبد الرحمن بن خالد بن الوليد: أما والله لقد رأيتنا يوما من الأيام، وقد غشينا ثعبان في
مثل الطود الأرعن، قد أثار قسطلا حال بيننا وبين الأفق، وهو على أدهم شائل الغرة،
- يعنى عليا عليه السلام - يضرب بسيفه ضرب غرائب الإبل، كاشرا عن نابه كشر المخدر
الحرب، فقال معاوية: نعم إنه كان يقاتل عن ترة له وعليه (2).
قال نصر: وحدثنا عمر بن سعد، عن الشعبي، قال أرسل علي عليه السلام إلى
معاوية: أن أبرز إلى وأعف الفريقين من القتال، فأينا قتل صاحبه كان الامر له. فقال
عمرو: لقد أنصفك الرجل، فقال معاوية أنا أبارز الشجاع الأخرق، أظنك يا عمرو
طمعت فيها فلما! لم يجب قال علي عليه السلام وا نفساه! أيطاع معاوية وأعصى!
ما قاتلت أمة قط أهل بيت نبيها وهي مقره بنبيها غير هذه الأمة!
ثم إن عليا عليه السلام أمر الناس أن يحملوا على أهل الشام، فحملوا، فنقضوا صفوف
الشام، فقال عمرو: على من هذا الرهج الساطع؟ قالوا: على ابنيك عبد الله ومحمد، فقال
عمرو: يا وردان، قدم لوائي، فأرسل إليه معاوية إنه ليس على ابنيك بأس فلا تنقض
الصف، والزم موقفك، فقال عمرو: هيهات هيهات
الليث يحمى شبليه * ما خيره بعد ابنيه!
ثم تقدم باللواء، فأدركه رسول معاوية [فقال] (3): إنه ليس على ابنيك بأس، فلا تحملن،

(1) من صفين.
(2) صفين: 440، 441.
(3) من د وصفين.
53

فقال: قل له: إنك لم تلدهما، وإني أنا ولدتهما. وبلغ مقدم الصفوف، فقال له الناس:
مكانك! إنه لا بأس على ابنيك، إنهما في مكان حريز. فقال: أسمعوني أصواتهما حتى
أعلم أحيان هما أم قتيلان! ونادى: يا وردان، قدم لوائك قيد قوس، فقدم لواءه، فأرسل
علي عليه السلام إلى أهل الكوفة: أن احملوا، وإلى أهل البصرة، أن احملوا. فحمل
الناس من كل جانب، فاقتتلوا قتالا شديدا، وخرج رجل من أهل الشام، فقال: من
يبارز؟ فبرز إليه رجل من أهل العراق، فاقتتلا ساعة، وضرب العراقي الشامي على رجله،
فأسقط قدمه، فقاتل ولم يسقط إلى الأرض، فضربه العراقي أخرى، فأسقط يده، فرمى
الشامي سيفه إلى أهل الشام، وقال: دونكم سيفي هذا، فاستعينوا به على قتال عدوكم.
فاشتراه معاوية من أوليائه بعشرة آلاف درهم (1).
قال نصر: وحدثنا مالك الجهني، عن زيد بن وهب، أن عليا عليه السلام مر على
جماعة من أهل الشام بصفين، منهم الوليد بن عقبة، وهم يشتمونه ويقصبونه (2)، فأخبر
بذلك، فوقف على ناس من أصحابه وقال: انهدوا إليهم، وعليكم السكينة والوقار وسيما
الصالحين، أقرب بقوم من الجهل، قائدهم ومؤدبهم معاوية، وابن النابغة
وأبو الأعور [السلمي] (3)، وابن أبي معيط شارب الحرام، والمحدود (4) في الاسلام!
[وهم أولاء] (3)، يقصبونني ويشتمونني، وقبل اليوم ما قاتلوني وشتموني، وأنا إذ ذاك أدعوهم
إلى الاسلام وهم يدعونني إلى عبادة الأصنام، فالحمد لله، ولا إله إلا الله، لقديما ما عاداني
الفاسقون، إن هذا لهو الخطب الجلل، إن فساقا كانوا عندنا غير مرضيين، وعلى الاسلام

(1) صفين 441، 442.
(2) يقصبونه: يسبونه.
(3) من صفين.
(4) صفين: " المجلود ".
54

وأهله متخوفين، أصبحوا وقد خدعوا شطر هذه الأمة، واشربوا في قلوبهم حب الفتنة
واستمالوا أهواءهم بالإفك والبهتان، ونصبوا لنا الحرب، وجدوا في إطفاء نور الله، والله
متم نوره ولو كره الكافرون. اللهم فإنهم قد ردوا الحق فافضض جمعهم، وشتت
كلمتهم، وأبلسهم بخطاياهم، فإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت (1). قال نصر: وكان علي عليه السلام، إذا أراد الحملة هلل وكبر، ثم قال:
من أي يومى من الموت أفر * أيوم لم يقدر أو يوم قدر!
فجعل معاوية لواءه الأعظم مع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فامر علي عليه السلام
جارية بن قدامة السعدي أن يلقاه بأصحابه، وأقبل عمرو بن العاص بعده في خيل، ومعه
لواء ثان، فتقدم حتى خالط صفوف العراق فقال علي عليه السلام لابنه محمدا: امش نحو
هذا اللواء رويدا، حتى إذا أشرعت الرماح في صدورهم فامسك يدك، حتى يأتيك أمري.
ففعل - وقد كان أعد علي عليه السلام مثلهم مع الأشتر - فلما أشرع محمد الرماح في صدور
القوم، أمر علي عليه السلام الأشتر أن يحمل فحمل، فأزالهم عن مواقفهم، وأصاب منهم
رجالا، واقتتل الناس قتالا شديدا، فما صلى من أراد الصلاة إلا إيماء، فقال النجاشي
في ذلك اليوم يذكر الأشتر:
ولما رأينا اللواء العقاب (2) * يقحمه الشانئ الأخزر
كليث العرين خلال العجاج * وأقبل في خيله الأبتر
دعونا لها الكبش كبش العراق * وقد أضمر الفشل العسكر (3)
فرد اللواء على عقبه * وفاز بحظوتها الأشتر

(1) صفين: 444، 445.
(2) صفين: " رأيت اللواء لواء العقاب ".
(3) صفين: " وقد خالط العسكر العسكر ".
55

كما كان يفعل في مثلها * إذا ناب معصوصب منكر
فإن يدفع الله عن نفسه * فحظ العراق به الأوفر
إذا الأشتر الخير خلى العراق * فقد ذهب العرف والمنكر
وتلك العراق ومن عرفت * كفقع تضمنه القرقر (1)
قال نصر: وحدثنا محمد بن عتبة الكندي، قال: حدثني شيخ من حضرموت
شهد مع علي عليه السلام صفين، قال: كان منا رجل يعرف بهانئ بن فهد (2)، وكان
شجاعا، فخرج رجل من أهل الشام يدعو إلى البراز فلم يخرج إليه أحد، فقال هانئ:
سبحان الله! ما يمنعكم أن يخرج منكم رجل إلى هذا! فوالله لولا أنى موعوك، وأنى أجد
ضعفا شديدا لخرجت إليه، فما رد أحد عليه، فقام وشد عليه سلاحه ليخرج، فقال له
أصحابه: يا سبحان الله! أنت موعوك وعكة شديدة، فكيف تخرج! قال: والله
لأخرجن ولو قتلني، فخرج، فلما رآه عرفه، وإذا الرجل من قومه من حضرموت، يقال:
له يعمر بن أسد الحضرمي، فقال: يا هانئ، أرجع فإنه إن يخرج إلى رجل غيرك أحب
إلى، فإني لا أحب قتلك. قال هانئ: سبحان الله! أرجع وقد خرجت، لا والله لأقاتلن
اليوم حتى أقتل، ولا أبالي قتلتني أنت أو غيرك! ثم مشى نحوه، وقال: اللهم في سبيلك
ونصرا لابن عم رسولك. واختلفا ضربتين، فقتله هانئ، وشد أصحاب يعمر بن أسد على
هانئ، فشد أصحاب هانئ عليهم، فاقتتلوا وانفرجوا عن اثنين وثلاثين قتيلا. ثم إن عليا
عليه السلام أرسل إلى جميع العسكر: أن احملوا، فحمل الناس كلهم على راياتهم، كل منهم

(1) الفقع: الكمأة الرخوة، والقرقر: الأرض اللينة المطمئنة. والشعر في صفين 451 - 452.
(2) صفين: " ابن نمر ".
56

يحمل على من بإزائه (1)، فتجالدوا بالسيوف، وعمد الحديد لا يسمع إلا صوت ضرب
الهامات، كوقع المطارق على السنادين، ومرت الصلوات كلها، فلم يصل أحد إلا تكبيرا
عند مواقيت الصلاة، حتى تفانوا، ورق الناس، وخرج رجل من بين الصفين، لا يعلم
من هو، فقال: أيها الناس، أخرج فيكم المحلقون؟ فقيل: لا فقال إنهم سيخرجون،
ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمر من الصبر، لهم حمة كحمة الحيات. ثم غاب
الرجل فلم يعلم من هو (2)!
قال نصر: وحدثنا عمرو بن شمر، عن السدى، قال: اختلط أمر الناس تلك الليلة،
وزال أهل الرايات عن مراكزهم، وتفرق أصحاب علي عليه السلام عنه، فأتى ربيعة ليلا، فكان فيهم، وتعاظم الامر جدا، وأقبل عدى بن حاتم يطلب عليا عليه السلام في موضعه
الذي تركه فيه فلم يجده، فطاف يطلبه، فأصابه بين رماح ربيعة، فقال: يا أمير المؤمنين،
أما إذ كنت حيا، فالامر أمم، ما مشيت إليك إلا على قتيل، وما أبقت هذه الوقعة لهم
عميدا، فقاتل حتى يفتح الله عليك، فإن في الناس بقية بعد. واقبل الأشعث يلهث جزعا،
فلما رأى عليا عليه السلام هلل فكبر، وقال: يا أمير المؤمنين، خيل كخيل ورجال
كرجال، ولنا الفضل عليهم إلى ساعتنا هذه فعد إلى مكانك الذي كنت فيه، فإن
الناس إنما يظنونك حيث تركوك. وأرسل سعيد بن قيس الهمداني إلى علي عليه السلام:
إنا مشتغلون بأمرنا مع القوم، وفينا فضل، فإن أردت أن نمد أحدا أمددناه. فأقبل علي عليه
السلام على ربيعة، فقال: أنتم درعي ورمحي - قال: فربيعة تفخر بهذا الكلام إلى
اليوم - فقال عدى بن حاتم: يا أمير المؤمنين، إن قوما أنست بهم، وكنت في هذه الجولة

(1) صفين: " فحمل الناس على راياتهم كل قوم بحيالهم ".
(2) صفين 447، 448.
57

فيهم، لعظيم حقهم، والله إنهم لصبر عند الموت، أشداء عند القتال - فدعا علي عليه
السلام بفرس رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يقال له المرتجز، فركبه، ثم تقدم
أمام الصفوف، ثم قال: بل البغلة، بل البغلة، فقدمت له بغلة رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وكانت شهباء، فركبها ثم تعصب بعمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت
سوداء، ثم نادى: أيها الناس من يشر نفسه الله يربح، إن هذا ليوم (1) له ما بعده
إن عدوكم قد مسه القرح كما مسكم، فانتدبوا لنصرة دين الله. فانتدب له ما بين عشرة
آلاف إلى اثنى عشر ألفا، قد وضعوا سيوفهم على عواتقهم، فشد بهم على أهل الشام،
وهو يقول:
دبوا دبيب النمل لا تفوتوا * وأصبحوا في حربكم وبيتوا
حتى تنالوا الثأر أو تموتوا * أولا فإني طالما عصيت
قد قلتموا لو جئتنا! فجيت * ليس لكم ما شئتم وشيت
* بل ما يريد المحيى المميت *
وتبعه عدى بن حاتم بلوائه، وهو يقول:
أبعد عمار وبعد هاشم * وابن بديل فارس الملاحم
نرجو البقاء، ضل حلم الحالم * لقد عضضنا أمس بالأباهم!
فاليوم لا نقرع سن نادم * ليس امرؤ من حتفه بسالم
وحمل وحمل الأشتر بعدهما في أهل العراق كافة فلم يبق لأهل الشام صف إلا أنتقض،
وأهمد أهل (2) العراق ما أتوا عليه حتى أفضى الامر إلى مضرب معاوية وعلي عليه السلام
يضرب الناس بسيفه قدما قدما، ويقول:

(1) ج، د: " إن هذا اليوم ".
(2) صفين: " وأهمدوا ما أتوا عليه "
58

أضربهم ولا أرى معاوية * الأخزر العين العظيم الحاويه
* هوت به في النار أم هاويه *
فدعا معاوية بفرسه لينجو عليه، فلما وضع رجله في الركاب توقف وتلوم قليلا،
ثم أنشد قول عمرو بن الإطنابة:
أبت لي عفتي وأبى بلائي * وأخذ الحمد بالثمن الربيح
وإقدامي على المكروه نفسي * وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت * مكانك تحمدي أو تستريحي
لأدفع عن مآثر صالحات * وأحمى بعد عن عرض صحيح
بذي شطب كلون الملح صاف * ونفس ما تقر على القبيح
ثم قال: يا عمرو بن العاص، اليوم صبر وغدا فخر، قال صدقت، إنك وما أنت فيه،
كقول القائل (1):
ما علتي وأنا جلد نابل (2) * والقوس فيها وتر عنابل (3)
تزل عن صفحتها المعابل (4) الموت حق والحياة باطل
فثنى معاوية رجله من الركاب، ونزل واستصرخ بعك والأشعريين، فوقفوا دونه،
وجالدوا عنه، حتى كره كل من الفريقين صاحبه، وتحاجز الناس (5).

(1) صفين: " ابن أبي الأفلح "، وهو عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح، صحابي، ذكره ابن حجر في
الإصابة 2: 235. والرجز في اللسان 13: 506.
(2) في اللسان: " طب خاتل ".
(3) العنابل: الوتر الغليظ.
(4) المعابل: جمع معبلة، وهي النصل الطويل العريض.
(5) صفين 557 - 560.
59

قال نصر: جاء رجل إلى معاوية بعد انقضاء صفين وخلوص الامر له، فقال: يا أمير
المؤمنين، إن لي عليك حقا، قال: وما هو؟ قال: حق عظيم! قال: ويحك ما هو! قال:
أتذكر يوما قدمت فرسك لتفر، وقد غشيك أبو تراب والأشتر، فلما أردت أن تستوثبه
وأنت على ظهره، أمسكت بعنانك وقلت لك: أين تذهب! إنه للؤم بك ان تسمح
العرب بنفوسها لك شهرين، ولا تسمح لها بنفسك ساعة وأنت ابن ستين! وكم عسى أن
تعيش في الدنيا بعد هذه السن إذا نجوت! فتلومت في نفسك ساعة، ثم أنشدت شعرا
لا أحفظه ثم نزلت! فقال: ويحك! فإنك لأنت هو! والله ما أحلني هذا المحل إلا أنت،
وأمر له بثلاثين ألف درهم.
قال نصر: وحدثنا عمرو بن شمر، عن النخعي، عن ابن عباس، قال: تعرض
عمرو بن العاص لعلى عليه السلام يوما من أيام صفين، وظن أنه يطمع منه في غرة
فيصيبه، فحمل عليه علي عليه السلام فلما كاد ان يخالطه أذرى نفسه عن فرسه، ورفع ثوبه
وشغر برجله، فبدت عورته، فصرف عليه السلام وجهه عنه [وارتث] (1)، وقام معفرا
بالتراب، هاربا على رجليه، معتصما بصفوفه. فقال أهل العراق: يا أمير المؤمنين، أفلت
الرجل! فقال أتدرون من هو؟ قالوا: لا، قال: فإنه عمرو بن العاص، تلقاني بسوءته،
فصرفت وجهي عنه، ورجع عمرو إلى معاوية، فقال: ما صنعت يا أبا عبد الله؟ فقال:
لقيني على فصرعني، قال: أحمد الله وعورتك، والله إني لأظنك لو عرفته لما أقحمت عليه،
وقال معاوية في ذلك:
ألا لله من هفوات عمرو * يعاتبني على تركي برازي

(1) من صفين.
60

فقد لاقى أبا حسن عليا * فآب الوائلي مآب خازي
فلو لم يبد عورته لطارت * بمهجته قوادم أي بازي (1)
فإن تكن المنية أخطأته * فقد غنى بها أهل الحجاز!
فغضب عمرو وقال: ما أشد تعظيمك [عليا] (2) أبا تراب في أمري! هل (3) أنا إلا رجل
لقيه ابن عمه فصرعه! أفترى السماء قاطرة لذلك دما! قال: لا ولكنها معقبة لك
خزيا (4).
قال نصر: وحدثنا عمر بن سعد، قال: لما اشتد الامر، وعظم على أهل الشام،
قال معاوية لأخيه عتبة بن أبي سفيان الق الأشعث، فإنه إن رضى رضيت العامة - وكان
عتبة فصيحا - فخرج فنادى الأشعث، فقال الأشعث: سلوا من هو المنادى؟ قالوا: عتبة
بن أبي سفيان، قال: غلام مترف ولابد من لقائه! فخرج إليه، فقال: ما عندك يا عتبة؟
فقال: أيها الرجل، إن معاوية لو كان لاقيا رجلا غير على للقيك، إنك رأس أهل
العراق، وسيد أهل اليمن، وقد سلف من عثمان إليك ما سلف من الصهر والعمل، ولست
كأصحابك، أما الأشتر فقتل عثمان، وأما عدى فحرض عليه، وأما سعيد بن قيس فقلد
عليا ديته، وأما شريح وزحر بن قيس فلا يعرفان غير الهوى، وإنك حاميت عن أهل
العراق تكرما، وحاربت أهل الشام حمية وقد بلغنا منك وبلغت منا ما أردت، وإنا
لا ندعوك إلى ترك على، ونصرة معاوية ولكنا ندعوك إلى البقية التي فيها صلاحك
وصلاحنا فتكلم الأشعث، فقال: يا عتبة، أما قولك: " إن معاوية لا يلقى إلا عليا "،

(1) صفين: " به ليثا يذلل كل نازي ".
(2) صفين.
(3) صفين: " هو ".
(4) صفين 463، 464.
61

فلو لقيني والله لما عظم عنى، ولا صغرت عنه، وإن أحب أن أجمع بينه وبين على فعلت.
وأما قولك " إني رأس أهل العراق، وسيد أهل اليمن "، فإن الرأس المتبع والسيد المطاع،
هو علي بن أبي طالب وأما ما سلف من عثمان إلى، فوالله ما زادني صهره شرفا، ولا عمله
عزا. وأما عيبك أصحابي فإنه لا يقربك منى ولا يباعدني عنهم، وأما محاماتي عن أهل
العراق، فمن نزل بيتا حماه، وأما البقية فلستم بأحوج إليها منا، وسنرى رأينا فيها.
فلما عاد عتبه إلى معاوية وأبلغه قوله قال له لا تلقه بعدها فإن الرجل عظيم عند
نفسه وإن كان قد جنح للسلم وشاع في أهل العراق ما قاله عتبه للأشعث وما رده
الأشعث عليه فقال النجاشي يمدحه:
يا بن قيس وحارث ويزيد * أنت والله رأس أهل العراق
أنت والله حية تنفث السم قليل منها غناء الراقي (1)
أنت كالشمس والرجال نجوم * لا يرى ضوءها مع الاشراق
قد حميت العراق بالأسل السمر * وبالبيض كالبروق الرقاق
وسعرت القتال في الشام بالبيض * المواضي وبالرماح الدقاق
لا ترى غير أذرع وأكف * ورؤوس بهامها أفلاق (2)
كلما قلت قد تصرمت الهيجا * سقيتهم بكأس دهاق
قد قضيت الذي عليك من الحق * وسارت به القلاس المناقى (3)
أنت حلو لمن تقرب بالود * وللشانئين مر المذاق
بئسما ظنه ابن هند ومن مثلك في الناس عند ضيق الخناق

(1) صفين: " قليل فيها "
(2) أفلاق: جمع فلق وهو المكسور
(3) المناقى: النياق السمينة، جمع منقية
62

قال نصر فقال معاوية لما يئس من جهة الأشعث لعمرو بن العاص إن رأس
الناس بعد على هو عبد الله بن العباس فلو كتبت إليه كتابا لعلك ترققه ولعله لو قال
شيئا لم يخرج على منه وقد أكلتنا الحرب ولا أرانا نصل إلى العراق إلا بهلاك أهل
الشام فقال عمرو إن ابن عباس لا يخدع ولو طمعت فيه لطمعت في علي قال معاوية:
على ذلك فاكتب فكتب عمرو إليه:
أما بعد فإن الذي نحن فيه وأنتم ليس بأول أمر قاده البلاء وأنت رأس هذا
الجمع بعد على فانظر فيما بقي ودع ما مضى فوالله ما أبقت هذه الحرب لنا ولا لكم حياة
ولا صبرا فاعلم أن الشام لا تهلك إلا بهلاك العراق وأن العراق لا تهلك إلا بهلاك الشام
فما خيرنا بعد هلاك أعدادنا منكم وما خيركم بعد هلاك أعدادكم منا ولسنا نقول:
ليت الحرب عادت ولكنا نقول ليتها لم تكن وإن فينا من يكره اللقاء كما إن
فيكم من يكرهه وإنما هو أمير مطاع ومأمور مطيع أو مؤتمن مشاور وهو أنت
فأما الأشتر الغليظ الطبع القاسي القلب فليس بأهل أن يدعى في الشورى ولا في خواص
أهل النجوى وكتب في أسفل الكتاب:
طال البلاء وما يرجى له آسى * بعد الاله سوى رفق ابن عباس
قولا له قول من يرجو مودته لا (1): * لا تنس حظك إن الخاسر الناسي
انظر فدى لك نفسي قبل قاصمه * للظهر ليس لها راق ولا آسى
إن العراق وأهل الشام لن يجدوا * طعم الحياة مع المستغلق القاسي
يا بن الذي زمزم سقيا الحجيج له * أعظم بذلك من فخر على الناس
إني أرى الخير في سلم الشام لكم * والله يعلم ما بالسلم من باس
فيها التقى وأمور ليس يجهلها * إلا الجهول وما نوكى كأكياس.

(1) صفين: " قول من يرضى لخطوته ".
63

فلما وصل الكتاب إلى ابن عباس عرضه على أمير المؤمنين عليه السلام فضحك
وقال قاتل الله ابن العاص ما أغراه بك يا عبد الله أجبه وليرد إليه شعره الفضل
بن العباس فإنه شاعر فكتب ابن عباس إلى عمرو: أما بعد فإني لا أعلم أحدا من العرب أقل حياء منك إنه مال بك معاوية إلى
الهوى فبعته دينك بالثمن اليسير ثم خبطت الناس في عشوة طمعا في الدنيا فأعظمتها
إعظام أهل الدنيا ثم تزعم أنك تتنزه عنها تنزه أهل الورع فإن كنت صادقا فارجع
إلى بيتك ودع الطمع في مصر والركون إلى الدنيا الفانية واعلم أن هذه الحرب
ما معاوية فيها كعلى بدأها على بالحق وانتهى فيها إلى العذر وبدأها معاوية بالبغي
وانتهى فيها إلى السرف وليس أهل العراق فيها كأهل الشام، بايع أهل العراق عليا،
وهو خير منهم، وبايع أهل الشام معاوية وهم خير منه ولست أنا وأنت فيها سواء،
أردت الله وأردت مصر، وقد عرفت الشئ الذي باعدك منى ولا أعرف الشئ الذي
قربك من معاوية، فإن ترد شرا لا نسبقك به وان ترد خيرا لا تسبقنا
إليه والسلام.
ثم دعا أخاه الفضل، فقال: يا بن أم أجب عمرا فقال الفضل:
يا عمرو حسبك من مكر ووسواس * فاذهب فليس لداء الجهل من آس
إلا تواتر طعن في نحوركم * يشجي النفوس ويشفى نخوة الرأس
اما على فان الله فضله * بفضل ذي شرف عال على الناس
إن تعقلوا الحرب نعقلها مخيس ة * أو تبعثوها فانا غير انكاس (1)

(1) بعده في صفين:
قد كان منا ومنكم في عجاجتها * مالا يرد وكل عرضة الباس
64

قتلى العراق بقتلى الشام ذاهبة * هذا بهذا، وما بالحق من باس. (1)
ثم عرض الشعر والكتاب على علي عليه السلام، فقال لا أراه يجيبك بعدها ابدا
بشئ إن كان يعقل وإن عاد عدت (2) عليه. فلما انتهى الكتاب إلى عمرو بن العاص
عرضه على معاوية فقال إن قلب ابن عباس وقلب على قلب واحد، وكلاهما ولد
عبد المطلب وإن كان قد خشن فلقد لان، وإن كان قد تعظم أو عظم صاحبه فلقد
قارب وجنح إلى السلم.
قال نصر وقال: معاوية لأكتبن إلى ابن عباس كتابا أستعرض فيه عقله وأنظر
ما في نفسه فكتب إليه:
اما بعد فإنكم معشر بني هاشم لستم إلى أحد أسرع بالمساءة منكم إلى أنصار
ابن عفان، حتى إنكم قتلتم طلحة والزبير لطلبهما دمه واستعظامهما ما نيل منه فإن
كان ذلك منافسة لبني أمية في السلطان، فقد وليها عدى وتيم فلم تنافسوهم، وأظهرتم
لهم الطاعة، وقد وقع من الامر ما ترى وأكلت هذه الحروب بعضها بعضا، حتى
استوينا فيها، فما يطمعكم فينا يطمعنا فيكم وما يؤيسنا منكم يؤيسكم منا، ولقد رجونا
غير ما كان، وخشينا دون ما وقع، ولست ملاقينا اليوم بأحد من حد أمس، ولا غدا
بأحد من حد اليوم، وقد قنعنا بما في أيدينا من ملك الشام فاقنعوا بما في أيديكم من
ملك العراق، وأبقوا على قريش، فإنما بقي من رجالها ستة: رجلان بالشام، ورجلان
بالعراق، ورجلان بالحجاز، فأما اللذان بالشام فأنا وعمرو، وأما اللذان بالعراق فأنت

(1) بعده في صفين:
لا بارك الله في مصر لقد جلبت * شرا وحظك منها حسوة الكاس
يا عمرو إنك عار من مغارمها * - والراقصات - ومن يوم الجزا كأس
(2) صفين: " فتعود إليه ":
65

وعلى، وأما اللذان بالحجاز فسعد وابن عمر، فاثنان من الستة ناصبان لك واثنان
واقفان فيك وأنت رأس هذا الجمع ولو بايع لك الناس بعد عثمان كنا إليك أسرع
منا إلى علي. (1)
فلما وصل الكتاب إلى ابن عباس أسخطه، وقال: حتى متى يخطب ابن هند
إلى عقلي! وحتى متى أجمجم على ما في نفسي! وكتب إليه:
أما بعد [فقد] (2) أتاني كتابك، وقرأته. فأما ما ذكرت من سرعتنا إليك
بالمساءة إلى أنصار ابن عفان، وكراهتنا لسلطان بني أمية، فلعمري لقد أدركت في عثمان
حاجتك حين استنصرك فلم تنصره، حتى صرت إلى ما صرت إليه. وبيني وبينك في
ذلك ابن عمك وأخو عثمان، وهو الوليد بن عقبة. وأما طلحة والزبير فإنهما أجلبا عليه
وضيقا خناقه، ثم خرجا ينقضان البيعة، ويطلبان الملك، فقاتلناهما على النكث، كما
قاتلناك على البغي وأما قولك: إنه لم يبق من قريش غير ستة، فما أكثر رجالها،
وأحسن بقيتها! وقد قاتلك من خيارها من قاتلك، ولم يخذلنا إلا من خذلك، وأما
إغراؤك إيانا بعدي وتيم، فإن أبا بكر وعمر خير من عثمان، كما أن عثمان خير منك وقد بقي
لك منا ما ينسيك ما قبله وتخاف ما بعده، وأما قولك: لو بايع الناس لي لاستقاموا فقد
بايع الناس عليا وهو خير منى فلم يستقيموا له. وما أنت والخلافة يا معاوية! وإنما
أنت طليق وابن طليق! والخلافة للمهاجرين الأولين: وليس الطلقاء منها في
شئ! والسلام.
فلما وصل الكتاب إلى معاوية قال: هذا عملي بنفسي، لا أكتب والله إليه كتابا
سنة
كاملة وقال:

(1) بعدها في صفين: " في كلام كثير كتب إليه ".
(2) من صفين.
66

دعوت ابن عباس إلى جل حظه (1) * وكان امرأ أهدى إليه رسائلي
فأخلف ظني والحوادث جمة * وما زاد أن أغلى عليه مراجلي
فقل لابن عباس: أراك مخوفا * بجهلك حلمي، إنني غير غافل
فأبرق وأرعد ما استطعت فإنني * إليك بما يشجيك سبط الأنامل (2)
قال نصر: وحدثنا عمر بن سعد، قال: عقد معاوية يوما من أيام صفين الرياسة على
اليمن من قريش، قصد بذلك إكرامهم ورفع منازلهم، منهم عبيد الله بن عمر بن الخطاب
ومحمد وعتبة أبنا أبي سفيان، وبسر بن أبي أرطاة، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد،
وذلك في الوقعات الأولى من صفين، فغم ذلك أهل اليمن، وأرادوا ألا يتأمر عليهم
أحد إلا منهم. فقام إليه رجل من كندة، يقال له عبد الله بن الحارث السكوني،
فقال: أيها الأمير، إني قد قلت شيئا فاسمعه، وضعه منى على النصيحة، قال: هات، فأنشده:
معاوي أحييت فينا الإحن * وأحدثت بالشام ما لم
يكن عقدت لبسر وأصحابه * وما الناس حولك إلا اليمن
فلا تخلطن بنا غيرنا * كما شيب بالماء صفو اللبن (3)
وإلا فدعنا على حالنا * فانا وإنا إذا لم نهن
ستعلم إن جاش بحر العراق * وأبدى نواجذه في الفتن
وشد علي بأصحابه (4) * ونفسك إذ ذاك عند الذقن

(1) صفين: " حد ".
(2) صفين 472، 473.
(3) صفين: " محصن اللبن ".
(4) صفين: " على وأصحابه ".
67

بأنا شعارك دون الدثار * وأنا الرماح وإنا الجنن
وأنا السيوف، وأنا الحتوف * وأنا الدروع، وإنا المجن
قال: فبكى لها معاوية، ونظر إلى وجوه أهل اليمن، فقال: أعن رضاكم يقول
ما قال؟ قالوا: لا مرحبا بما قال، إنما الامر إليك فاصنع ما أحببت فقال معاوية: إنما
خلطت بكم أهل ثقتي، ومن كان لي فهو لكم، ومن كان لكم فهو لي. فرضى القوم
وسكتوا، فلما بلغ أهل الكوفة مقال عبد الله بن الحارث لمعاوية [فيمن عقد له من رؤوس
أهل الشام] (1) قام، الأعور الشني إلى علي عليه السلام، فقال يا أمير المؤمنين، إنا
لا نقول لك كما قال صاحب أهل الشام لمعاوية، ولكن نقول: زاد الله في سرورك (2)
وهداك! نظرت بنور الله، فقدمت رجالا، وأخرت رجالا. عليك أن تقول،
وعلينا أن نفعل. أنت الامام، فإن هلكت فهذان من بعدك - يعنى حسنا وحسينا
عليهما السلام - وقد قلت شيئا فاسمعه، قال: هات فأنشده:
أبا حسن أنت شمس النهار * وهذان في الحادثات القمر
وأنت وهذان حتى الممات * بمنزلة السمع بعد البصر
وأنتم أناس لكم سورة * تقصر عنها أكف البشر
يخبرنا الناس عن فضلكم * وفضلكم اليوم فوق الخبر
عقدت لقوم أولى نجدة * من أهل الحياء وأهل الخطر (3)
مساميح بالموت عند اللقاء * منا وإخواننا من مضر
ومن حي ذي يمن جلة * يقيمون في النائبات الصعر
فكل يسرك في قومه * ومن قال لا، فبفيه الحجر

(1) من صفين.
(2) صفين: " زاد الله في سرورك وهداك ".
(3) صفين 384، 484.
68

ونحن الفوارس يوم الزبير * وطلحة إذ قيل أودى غدر
ضربناهم قبل نصف النهار * إلى الليل حتى قضينا الوطر
ولم يأخذ الضرب إلا الرؤوس * ولم يأخذ الطعن إلا الثغر
فنحن أولئك في * أمسنا ونحن كذلك فيما غبر
قال: فلم يبق أحد من الرؤساء إلا وأهدى إلى الشني، [أو اتحفه].
قال نصر: وحدثنا عمر بن سعد، قال: لما تعاظمت الأمور على معاوية قبل قتل
عبيد الله بن عمر بن الخطاب، دعا عمرو بن العاص، وبسر بن أبي أرطاة، وعبيد الله
ابن عمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فقال لهم: إنه قد غمني مقام
رجال من أصحاب على، منهم سعيد بن قيس الهمداني في قومه، والأشتر في قومه،
والمرقال، وعدي بن حاتم، وقيس بن سعد في الأنصار، وقد علمتم أن يمانيتكم
وقتكم بأنفسها أياما كثيرة، حتى لقد استحييت لكم، وأنتم عدتهم من قريش، وأنا
أحب أن يعلم الناس أنكم أهل غناء، وقد عبأت لكل رجل منهم رجلا منكم،
فاجعلوا ذلك إلى، قالوا: ذاك إليك، قال فأنا أكفيكم غدا سعيد بن قيس وقومه،
وأنت يا عمرو للمرقال أعور بنى زهرة، وأنت يا بسر لقيس بن سعيد، وأنت يا عبيد الله
للأشتر، وأنت يا عبد الرحمن لأعور طيئ - يعنى عدى بن حاتم - وقد جعلتها نوبا في
خمسة أيام، لكل رجل منكم يوم، فكونوا على أعنه الخيل، قالوا: نعم، فأصبح
معاوية في غده، فلم يدع فارسا إلا حشده، ثم قصد لهمدان بنفسه، وارتجز فقال:
لن تمنع الحرمة بعد العام * بين قتيل وجريح دام (1)
سأملك العراق بالشآم * أنعى ابن عفان مدى الأيام.

(1) قبله في صفين:
لا عيش إلا فلق قحف الهام * من أرحب وشاكر وشبام.
69

فطعن في أعرض الخيل مليا. ثم إن همدان تنادت بشعارها. وأقحم سعيد بن قيس
فرسه على معاوية، واشتد القتال حتى حجز بينهم الليل، فهمدان تذكر أن سعيدا
كاد يقتنصه، إلا أنه فاته ركضا، وقال سعيد في ذلك:
يا لهف نفسي فاتني معاوية * فوق طمر كالعقاب هاوية
* والراقصات لا يعود ثانية (1) "
قال نصر: وأنصرف معاوية ذلك اليوم، ولم يصنع شيئا، وغدا عمرو بن العاص في
اليوم الثاني في حماة الخيل، فقصد المرقال، ومع المرقال لواء علي عليه السلام الأعظم في
حماة الناس، [وكان عمرو من فرسان قريش] (2)، فارتجز عمرو، فقال:
لا عيش إن لم ألق يوما هاشما * ذاك الذي جشمني المجاشما (3)
ذاك الذي يشتم عرضي ظالما * ذاك الذي إن ينج منى سالما
* يكن شجى حتى الممات لازما *
فطعن في أعراض الخيل مزبدا، وحمل المرقال عليه، وارتجز فقال:
لا عيش إن لم ألق يوما عمرا * ذاك الذي أحدث فينا الغدرا
أو يبدل الله بأمر أمرا (4) * لا تجزعي يا نفس صبرا صبرا
ضربا هذا ذيك وطعنا شزرا (5) * يا ليت ما تجنى يكون القبرا!

(1) والرقص: ضرب من سير الإبل، وبعده في صفين:
إلا على ذات خصيل طاويه * إن يعد اليوم فكفى عالية
(2) من صفين.
(3) بعده في صفين:
* ذاك الذي أقام لي المآتما *
(4) صفين: " أو يحدث الله لأمر أمرا ".
(5) هذا ذيك، أي هذا بعد هذا، يعنى قطعا بعد قطع.
70

فطاعن عمرا حتى رجع، وأنصرف الفريقان بعد شدة القتال، ولم يسر معاوية
ذلك، وغدا بسر بن أبي أرطاة في اليوم الثالث في حماة الخيل، فلقى قيس بن سعد
ابن عبادة في كماة الأنصار، فاشتدت الحرب بينهما، وبرز قيس كأنه فنيق مقرم،
وهو يقول:
أنا ابن سعد زانه عباده * والخزرجيون كماة ساده
ليس فراري في الوغى بعاده * إن الفرار للفتى قلادة
يا رب أنت لقني الشهادة * فالقتل خير من عناق غاده
* حتى متى تثنى لي الوسادة *
وطاعن خيل بسر، وبرز بسر فارتجز وقال:
أنا ابن أرطاة العظيم القدر * مردد في غالب وفهر
ليس الفرار من طباع بسر * إن أرجع اليوم بغير وتر
وقد قضيت في العدو نذري * يا ليت شعري كم بقي من عمري!
ويطعن بسر قيسا، ويضربه قيس بالسيف، فرده على عقبيه، ورجع القوم جميعا،
ولقيس الفضل وتقدم عبيد الله بن عمر بن الخطاب في اليوم الرابع، لم يترك فارسا مذكورا
إلا جمعه، واستكثر ما استطاع، فقال له معاوية: إنك اليوم تلقى أفعى أهل العراق،
فارفق واتئد، فلقيه الأشتر أمام الخيل مزبدا - وكان الأشتر إذا أراد القتال أزبد -
وهو يقول:
يا رب قيض لي سيوف الكفرة * واجعل وفاتي بأكف الفجرة
فالقتل خير من ثياب الحبره * لا تعدل الدنيا جميعا وبره
* ولا بعوضا في ثواب البررة *
71

وشد على الخيل خيل الشام، فردها فاستحيا عبيد الله وبرز أمام الخيل، وكان
فارسا شجاعا، وقال:
أنعى ابن عفان وأرجو ربى * ذاك الذي يخرجني من ذنبي
ذاك الذي يكشف عنى كربي * إن ابن عفان عظيم الخطب
يأبى له حبى بكل قلبي * إلا طعاني دونه وضربي
* حسبي الذي أنويه حسبي حسبي *
فحمل عليه الأشتر، وطعنه واشتد الامر، وانصرف القوم، وللأشتر الفضل. فغم
ذلك معاوية، وغدا عبد الرحمن بن خالد في اليوم الخامس، وكان رجاء معاوية أن ينال
حاجته، فقواه بالخيل والسلاح، وكان معاوية يعده ولدا، فلقيه عدى بن حاتم في كماة
مذحج وقضاعة، فبرز عبد الرحمن أمام الخيل، وقال:
قل لعدي ذهب الوعيد * أنا ابن سيف الله لا مزيد
وخالد يزينه الوليد * ذاك الذي قيل له الوحيد (1)
ثم حمل فطعن الناس، فقصده عدى بن حاتم، وسدد إليه الرمح، وقال:
أرجو إلهي وأخاف ذنبي * ولست أرجو غير عفو ربى
يا بن الوليد بغضكم في قلبي * كالهضب بل فوق قنان الهضب.
فلما كاد أن يخالطه بالرمح، توارى عبد الرحمن في العجاج، واستتر بأسنة
أصحابه،
واختلط القوم، ثم تحاجزوا، ورجع عبد الرحمن مقهورا، وانكسر معاوية، وبلغ أيمن
ابن خزيم ما لقى معاوية وأصحابه، فشمت بهم، وكان ناسكا من أنسك أهل الشام، وكان
معتزلا للحرب في ناحية عنها، فقال:

(1) صفين: " ذاك الذي هو فيكم الوحيد ".
72

معاوي إن الامر لله وحده * وإنك لا تسطيع ضرا ولا نفعا
عبأت رجالا من قريش لعصبة * يمانية لا تستطيع لها دفعا
فكيف رأيت الامر إذ جد جده * لقد زادك الامر الذي جئته جدعا
تعبي لقيس أو عدى بن حاتم * والأشتر، يا للناس أغمارك الجدعا
وتجعل للمرقال عمرا وإنه * لليث لقى من دون غايته ضبعا
وإن سعيدا إذ برزت لرمحه * لفارس همدان الذي يشعب الصدعا
ملي بضرب الدارعين بسيفه * إذ الخيل أبدت من سنابكها نقعا
رجعت فلم تظفر بشئ تريده * سوى فرس أعيت وأبت بها ظلعا
فدعهم فلا والله لا تستطيعهم * مجاهرة فاعمل لقهرهم خدعا
قال: وإن معاوية أظهر لعمرو شماتة، وجعل يقرعه ويوبخه، وقال: لقد أنصفتكم،
إذ لقيت سعيد بن قيس في همدان، وفررتم. وإنك لجبان يا عمرو. فغضب عمرو، وقال:
فهلا برزت إلى علي إذ دعاك إن كنت شجاعا كما تزعم! وقال:
تسير إلى ابن ذي يزن سعيد * وتترك في العجاجة من دعاكا
فهل لك في أبى حسن على * لعل الله يمكن من قفاكا!
دعاك إلى البراز فلم تجبه * ولو نازلته تربت يداكا
وكنت أصم، إذ ناداك عنها * وكان سكوته عنها مناكا
فآب الكبش قد طحنت رحاه * بنجدته وما طحنت رحاكا
فما أنصفت صحبك يا بن هند * أتفرقه وتغضب من كفاكا
فلا والله ما أضمرت خيرا * ولا أظهرت لي إلا هواكا
73

قال وإن القرشيين استحيوا ما صنعوا، وشمت بهم اليمانية من أهل الشام، فقال
معاوية: يا معشر قريش، والله لقد قربكم لقاء القوم إلى الفتح ولكن لا مرد لأمر الله،
ومم تستحيون إنما لقيتم كباش العراق، فقتلتم منهم وقتلوا منكم، وما لكم على من حجة
لقد عبأت نفسي لسيدهم وشجاعهم سعيد بن قيس. فانقطعوا عن معاوية أياما، فقال
معاوية [في ذلك] (1):
لعمري لقد أنصفت والنصف عادتي * وعاين طعنا في العجاج المعاين
ولولا رجائي أن تئوبوا بنهزة (2) * وأن تغسلوا عارا وعته الكنائن
لناديت للهيجا رجالا سواكم * ولكنما تحمى الملوك البطائن
أتدرون من لاقيتم، فل جيشكم! * لقيتم ليوثا أصحرتها العرائن (3)
لقيتم صناديد العراق ومن بهم * إذا جاشت الهيجاء تحمى الظعائن
وما كان منكم فارس دون فارس * ولكنه ما قدر الله كائن!
فلما سمع القوم ما قاله معاوية، أتوه فاعتذروا إليه، واستقاموا إليه على ما يحب (4).
قال نصر: وحدثنا عمرو بن شمر، قال: لما اشتد القتال وعظم الخطب، أرسل
معاوية إلى عمرو بن العاص: أن قدم عكا والأشعريين إلى من بإزائهم. فبعث عمرو إليه
أن بإزاء عك همدان (5). فبعث إليه معاوية " أن قدم عكا. فأتاهم عمرو. فقال:
يا معشر عك، إن عليا قد عرف أنكم حي أهل الشام، فعبأ لكم حي أهل العراق همدان،

(1) من صفين.
(2) صفين: " أن تبوءوا ".
(3) أصحرتها: أبرزتها. والعرائن: جمع عرين، مسكن الأسد.
(4) صفين 482 - 492.
(5) صفين: " أن همدان بإزاء عك ".
74

فاصبروا وهبوا إلى جماجمكم ساعة من النهار، فقد بلغ الحق مقطعه. فقال ابن مسروق
العكي: أمهلني حتى آتي معاوية، فأتاه فقال: يا معاوية، أجعل لنا فريضة ألفي رجل
في ألفين ألفين، ومن هلك فأبن عمه مكانه، لنقر اليوم عينك. فقال: لك ذلك، فرجع
ابن مسروق إلى أصحابه، فأخبرهم الخبر، فقالت عك: نحن لهمدان، ثم تقدمت عك،
ونادى سعيد بن قيس: يا همدان، أن تقدموا (1)! فشدت همدان على عك رجالة،
فأخذت السيوف أرجل عك، فنادى ابن مسروق:
* يا لعك بركا كبرك الكمل *
فبركوا تحت الحجف، فشجرتهم (2) همدان بالرماح، وتقدم شيخ من همدان،
وهو يقول:
يا لبكيل لخمها وحاشد (3) * نفسي فداكم طاعنوا وجالدوا
حتى تخر منكم القماحد (4) وأرجل تبعها سواعد
* بذاك أوصى جدكم والوالد *
وقام رجل من عك، فارتجز فقال:
تدعون همدان وندعو عكا * بكوا الرجال يا لعك
بكا إن خدم القوم فبركا بركا * لا تدخلوا اليوم عليكم شكا (5)
* قد محك القوم فزيدوا محكا *

(1) صفين: " خدموا ".
(2) صفين ": وشجروهم بالرماح "، وشجروهم طعنوهم.
(3) بكيل وحاشد: من بطون همدان.
(4) القماحد: جمع قمحددة، وهي ما أشرف على القفا من عظم الرأس.
(5) خدموا، أي اضربوا موضع الخدمة، وهي الخلخال، يعنى اضربوهم في سوقهم.
75

قال: فالتقى القوم جميعا بالرماح، وصاروا إلى السيوف، وتجالدوا حتى أدركهم الليل.
فقالت همدان: يا معشر عك، نحن نقسم بالله إننا لا ننصرف حتى تنصرفوا. وقالت عك
مثل ذلك، فأرسل معاوية إلى عك أن أبروا قسم (1) إخوتكم وهلموا. فانصرفت
عك، فلما انصرفت انصرفت همدان، فقال عمرو: يا معاوية، والله لقد لقيت أسد
أسدا: لم أر والله كهذا اليوم قط لو أن معك حيا كعك، أو مع علي حي كهمدان
لكان الفناء.
وقال عمرو في ذلك:
إن عكا وحاشدا وبكيلا * كأسود الضراء لاقت أسودا
وجثا القوم بالقنا وتساقوا * بظباة السيوف موتا عتيدا
ازورار المناكب العلب بالشم وضرب المسومين الخدودا
ليس يدرون ما الفرار ولو كان * فرارا لكان ذاك سديدا
يعلم الله ما رأيت من القوم * ازورارا، ولا رأيت صدودا
غير ضرب فوق الطلى على الهام * وقرع الحديد يعلو الحديدا
ولقد قال قائل خدموا السوق * فخرت هناك عك قعودا
كبروك الجمال أثقلها الحمل * فما تستقل إلا وئيدا
قال: ولما اشترطت علك والأشعريون على معاوية ما اشترطوا من الفريضة والعطاء
فأعطاهم، لم يبق من أهل العراق أحد في قلبه مرض إلا طمع في معاوية، وشخص (2)
ببصره إليه، حتى فشا ذلك في الناس، وبلغ عليا عليه السلام، فساءه.

(1) صفين: أبروا قسم القوم.
(2) صفين: " وشخص بصره إليه ".
76

قال نصر وجاء عدى بن حاتم يلتمس عليا عليه السلام، ما يطأ إلا على قتيل أو قدم
أو ساعد فوجده تحت رايات بكر بن وائل فقال: يا أمير المؤمنين، ألا تقوم حتى نقاتل
إلى أن نموت! فقال له علي عليه السلام: ادن فدنا حتى وضع أذنه عند أنفه، فقال: ويحك!
إن عامة من معي اليوم يعصيني، وإن معاوية فيمن يطيعه ولا يعصيه!
قال نصر: وجاء المنذر بن أبي حميصة الوداعي - وكان شاعر همدان وفارسها - عليا
عليه
السلام، فقال: يا أمير المؤمنين، إن عكا والأشعريين طلبوا إلى معاوية الفرائض والعطاء
فأعطاهم، فباعوا الدين بالدنيا، وإنا قد رضينا بالآخرة من الدنيا، وبالعراق من الشام، وبك
من معاوية، والله لآخرتنا خير من دنياهم، ولعراقنا خير من شامهم، ولإمامنا أهدى
من إمامهم، فاستفتحنا بالحرب، وثق منا بالنصر، واحملنا على الموت، وأنشده:
إن عكا سألوا الفرائض والأشعر سألوا جوائزا بثنيه
تركوا الدين للعطاء وللفرض *، فكانوا بذاك شر البرية
وسألنا حسن الثواب من الله * وصبرا على الجهاد ونيه
فلكل ما سأله ونواه * كلنا يحسب الخلاف خطيه
ولأهل العراق أحسن في الحرب * إذا ما تدانت السمهريه
ولأهل العراق أحمل للثقل * إذا عمت البلاد بليه
ليس منا من لم يكن في الله * وليا يا ذا الولا والوصية
فقال علي عليه السلام: حسبك الله يرحمك الله! وأثنى عليه وعلى قومه خيرا. وانتهى
شعره إلى معاوية، فقال: والله لأستميلن بالدنيا ثقات على، ولأقسمن فيهم الأموال حتى
تغلب دنياي آخرته.
قال نصر: فلما أصبح الناس غدوا على مصافهم، وأصبح معاوية يدور في أحياء
اليمن وقال: عبوا إلى كل فارس مذكور فيكم، أتقوى به على هذا الحي من همدان
77

فخرجت خيل عظيمة فلما رآها علي عليه السلام وعرف أنها عيون الرجال، فنادى:
يا لهمدان! فأجابه سعيد بن قيس، فقال له علي عليه السلام: أحمل، فحمل حتى خالط
الخيل بالخيل، واشتد القتال، وحطمتهم همدان حتى ألحقتهم بمعاوية: فقال معاوية: ما لقيت
من همدان! وجزع جزعا شديدا، وأسرع القتل في فرسان الشام، وجمع علي عليه السلام
همدان، فقال لهم: يا معشر همدان، أنتم درعي ورمحي ومجني، يا همدان ما نصرتم إلا الله،
ولا أجبتم غيره. فقال سعيد بن قيس: أجبنا الله وأجبناك، ونصرنا رسول الله في قبره،
وقاتلنا معك من ليس مثلك، فارمنا حيث شئت.
قال نصر: وفي هذا اليوم قال علي عليه السلام:
ولو كنت بوابا على باب جنة * لقلت لهمدان ادخلي بسلام
فقال علي عليه السلام لصاحب لواء همدان: اكفني أهل حمص، فإني لم ألق من
أحد ما لقيت منهم. فتقدم وتقدمت همدان، وشدوا شدة واحدة على أهل حمص،
فضربوهم ضربا شديدا متداركا، بالسيوف وعمد الحديد، حتى ألجئوهم إلى قبة معاوية،
وارتجز من همدان رجل، عداده في أرحب، فقال:
قد قتل الله رجال حمص * غروا بقول كذب وخرص
حرصا على المال وأي حرص! * قد نكص القوم وأي نكص!
* عن طاعة الله وفحوى النص *
قال نصر: فحدثنا عمر بن سعد، قال: لما ردت خيول معاوية أسف، فجرد سيفه
وحمل في كماه أصحابه، فحملت عليه فوارس همدان، ففاز منها ركضا، وانكسرت كماته
ورجعت همدان إلى مراكزها، فقال حجر بن قحطان الهمداني، يخاطب سعيد
ابن قيس:
78

ألا يا بن قيس قرت العين إذا رأت * فوارس همدان بن زيد بن مالك
على عارفات للقاء عوابس * طوال الهوادي مشرفات الحوارك
معودة للطعن في ثغراتها * يجلن فيحطمن الحصى بالسنابك
عباها على لابن هند وخيله * فلو لم يفتها كان أول هالك
وكانت له في يومه عند ظنه * وفي كل يوم كاسف الشمس حالك
وكانت بحمد الله في كل كربة * حصونا وعزا للرجال الصعالك
فقل لأمير المؤمنين أن ادعنا * متى شئت إنا عرضه للمهالك (1)
ونحن حطمنا السمر في حي حمير * وكندة والحي الخفاف السكاسك
وعك ولخم شائلين سياطهم * حذار العوالي كالإماء العوارك (2)
* * *
قال نصر: وحدثنا عمر بن سعد عن رجاله، أن معاوية دعا يوما بصفين مروان
ابن الحكم، فقال له: إن الأشتر قد غمني وأقلقني، فأخرج بهذه الخيل في يحصب
والكلاعيين، فالقه. فقال مروان: ادعا لهما عمرا، فإنه شعارك دون دثارك قال: فأنت نفسي
دون وريدي. قال: لو كنت كذلك ألحقتني به في العطاء أو ألحقته بي في الحرمان، ولكنك
أعطيته ما في يدك، ومنيته ما في يد غيرك، فإن غلبت طاب له المقام، وإن غلبت خف عليه
الهرب. فقال معاوية: سيغني الله عنك. قال: أما إلى اليوم فلم يغن. فدعا معاوية عمرا، فأمره بالخروج إلى الأشتر، فقال: أما إني لا أقول لك ما قال مروان، قال: وكيف تقوله،
وقد قدمتك وأخرته، وأدخلتك وأخرجته! قال: أما والله إن كنت فعلت، لقد قدمتني كافيا، وأدخلتني ناصحا، وقد أكثر القوم عليك في أمر مصر، وإن كان لا يرضيهم

(1) صفين ": إذا شئت.
(2) العوارك: الحوائض.
79

إلا رجوعك فيما وثقت لي به منها فارجع فيه. ثم قام فخرج في تلك الخيل، فلقيه الأشتر
أمام القوم، وقد علم أنه سيلقاه، وهو يرتجز ويقول:
يا ليت شعري كيف لي بعمرو * ذاك الذي أوجبت فيه نذري!
ذاك الذي أطلبه بوتري * ذاك الذي فيه شفاء صدري
من بائعي يوما بكل عمري * يعلى به عند اللقاء قدري
أجعله فيه طعام النسر * أو لا فربي عاذري بعذري
فلما سمع عمرو هذا الرجز فشل (1) وجبن، واستحيا أن يرجع، وأقبل نحو
الصوت، وقال:
يا ليت شعري كيف لي بمالك؟ * كم كاهل جببته وحارك (2)
وفارس قتلته وفاتك (3) * ومقدم آب بوجه حالك
* ما زلت دهري عرضة المهالك (4) *
فغشيه الأشتر بالرمح، فراغ عمرو عنه، فلم يصنع الرمح شيئا، ولوى عمرو عنان
فرسه، وجعل يده على وجهه، وجعل يرجع راكضا نحو عسكره فنادى غلام من يحصب:
يا عمرو عليك العفا ما هبت الصبا، يا آل حمير [إنا لكم ما كان معكم] (5)، هاتوا اللواء (6)،
فأخذه وتقدم، وكان غلاما حدثا، فقال:

(1) صفين: " وفشل حبله وجبن ".
(2) جبيته: " قطعته، والجارك أعلى الكامل.
(3) بعده في صفين:
* ونابل فتكته وباتك *
(4) صفين: " هذا وهذا عرضة المهالك ".
(5) من صفين.
(6) صفين: " أبلغوني اللواء ".
80

إن يك عمرو قد علاه الأشتر * بأسمر فيه سنان أزهر
فذاك والله لعمري مفخر * يا عمرو تكفيك الطعان حمير
واليحصبي بالطعان أمهر * دون اللواء اليوم موت أحمر
فنادى الأشتر ابنه إبراهيم: خذ اللواء، فغلام لغلام. وتقدم فأخذ إبراهيم اللواء،
وقال:
يا أيها السائل عنى لا ترع * أقدم فإني من عرانين النخع
كيف ترى طعن العراقي الجذع * أطير في يوم الوغى ولا أقع
ما ساءكم سر وما ضر نفع * أعددت ذا اليوم لهول المطلع
ويحمل على الحميري فالتقاه الحميري بلوائه ورمحه فلم يبرحا يطعن كل واحد
منهما صاحبه، حتى سقط الحميري قتيلا وشمت مروان بعمرو وغضب القحطانيون على
معاوية وقالوا: تولى علينا من لا يقاتل معنا! ول رجلا منا، وإلا فلا حاجة لنا فيك.
وقال شاعرهم:
معاوي إما تدعنا لعظيمة * يلبس من نكرائها الغرض بالحقب (1)
فول علينا من يحوط ذمارنا * من الحميريين الملوك على العرب
ولا تأمرنا بالتي لا نريدها * ولا تجعلنا بالهوى موضع الذنب
ولا تغضبنا والحوادث جمة * عليك، فيفشو اليوم في يحصب الغضب
فإن لنا حقا عظيما وطاعة * وحبا دخيلا في المشاش وفي العصب (2).
فقال لهم معاوية: والله لا أولى عليكم بعد هذا اليوم إلا رجلا منكم (3).

(1) الغرض: حزام الرجل. والحقب: حبل يشد به الرجل في بطن البعير.
(2) المشاش: رؤوس العظام، وفى صفين: " في المشاشة والعصب ".
(3) صفين 499 - 502.
81

قال نصر: وحدثنا عمر بن سعد، قال: لما أسرع أهل العراق في أهل الشام،
قال لهم معاوية: هذا يوم تمحيص، وإن لهذا اليوم ما بعده، وقد أسرعتم في القوم كما
أسرعوا فيكم، فاصبروا وموتوا كراما. وحرض علي عليه السلام أصحابه فقام إليه
الأصبغ بن نباتة وقال: يا أمير المؤمنين، قدمني في البقية من الناس، فإنك لا تفقد لي
اليوم صبرا ولا نصرا، أما أهل الشام فقد أصبنا منهم، وأما نحن ففينا بعض البقية،
ائذن لي فأتقدم، فقال له: تقدم على اسم الله والبركة، فتقدم وأخذ الراية ومضى بها،
وهو يقول:
إن الرجاء بالقنوط يدمغ * حتى متى يرجو البقاء الأصبغ!
أما ترى أحداث دهر تنبغ * فأدبغ هواك، والأديم يدبغ
والرفق فيما قد تريد أبلغ * اليوم شغل، وغدا لا تفرغ
فما رجع إلى علي عليه السلام حتى خضب سيفه دما ورمحه. وكان شيخا ناسكا
عابدا، وكان إذا لقى القوم بعضهم بعضا يغمد سيفه، وكان من ذخائر علي عليه السلام
ممن قد بايعه على الموت، وكان علي عليه السلام يضن به عن الحرب والقتال (1).
قال نصر: وحدثنا عمرو بن شمر، عن جابر قال: نادى الأشتر يوما أصحابه،
فقال: أما من رجل يشرى نفسه لله! فخرج أثال بن حجل بن عامر المذحجي فنادى
بين العسكرين: هل من مبارز؟ فدعا معاوية - وهو لا يعرفه - أباه حجل بن عامر المذحجي،
فقال: دونك الرجل - قال: وكانا مستبصرين في رأيهما - فبرز كل واحد منهما إلى
صاحبه، فبدره بطعنة وطعنه الغلام، وانتسبا فإذا هو ابنه، فنزلا فاعتنق كل

(1) صفين 502، 503.
82

واحد منهما صاحبه، وبكيا. فقال له الأب: يا بنى هلم إلى الدنيا. فقال له الغلام: يا أبي هلم
إلى الآخرة. ثم قال: يا أبت والله لو كان من رأيي الانصراف إلى أهل الشام لوجب
عليك أن يكون من رأيك لي أن تنهاني، وا سوأتاه! فماذا أقول لعلى وللمؤمنين الصالحين!
كن على ما أنت عليه، وأنا على ما أنا عليه. فانصرف حجل إلى صف الشام، وانصرف
ابنه أثال إلى أهل العراق، فخبر كل واحد منهما أصحابه، وقال في ذلك حجل:
إن حجل بن عامر وأثالا * أصبحا يضربان في الأمثال
أقبل الفارس المدجج في النقع أثال يدعو يريد نزالي
دون أهل العراق يخطر كالفحل على ظهر هيكل ذيال
فدعاني له ابن هند وما * زال قليلا في صحبه أمثالي
فتناولته ببادرة الرمح وأهوى بأسمر عسال
فاطعنا وذاك من حدث الدهر * عظيم، فتى بشيخ بجال (1)
شاجرا بالقناة صدر أبيه * وعزيز على طعن أثال (2)
لا أبالي حين اعترضت أثالا * وأثال كذاك ليس يبالي
فافترقنا على السلامة، والنفس يقيها مؤخر الآجال
لا يراني على الهدى وأراه * من هداي على سبيل ضلال
فلما انتهى شعره إلى أهل العراق، قال أثال ابنه مجيبا له (3):
إن طعني وسط العجاجة حجلا * لم يكن في الذي نويت عقوقا
كنت أرجو به الثواب من الله * وكوني مع النبي رفيقا

(1) البجال: الكبير.
(2) صفين: " وعظيم على ".
(3) صفين: " وكان مجتهدا ومستبصرا ".
83

لم أزل أنصر العراق على الشام * أراني بفعل ذاك حقيقا
قال أهل العراق إذ عظم الخطب * ونق المبارزون نقيقا
من فتى يسلك الطريق إلى الله *، فكنت الذي سلكت الطريقا (1)
حاسر الرأس لا أريد سوى الموت * أرى الأعظم الجليل دقيقا
فإذا فارس تقحم في الروع * خدبا مثل السحوق عتيقا (2)
فبدأني حجل ببادرة الطعن * وما كنت قبلها مسبوقا
فتلقيته بعالية الرمح * كلانا يطاول العيوقا
أحمد الله ذا الجلالة والقدرة * حمدا يزيدني توفيقا
إذ كففت السنان عنه ولم أدن * قتيلا منه ولا ثفروقا (3)
قلت للشيخ لست أكفر نعماك * لطيف الغذاء والتفنيقا (4)
غير أنى أخاف أن تدخل النار *، فلا تعصني وكن لي رفيقا
وكذا قال لي فغرب تغريبا، * وشرقت راجعا تشريقا (5)
قال نصر: وحدثنا عمرو بن شمر بالاسناد المذكور، أن معاوية دعا النعمان بن
بشير بن سعد الأنصاري، ومسلمة بن مخلد الأنصاري - ولم يكن معه من الأنصار غيرهما -
فقال: يا هذان لقد غمني ما لقيت من الأوس والخزرج، واضعي سيوفهم على عواتقهم يدعون إلى النزال، حتى لقد جبنوا أصحابي الشجاع منهم والجبان، وحتى والله ما أسأل عن

(1) صفين: " فكنت الذي أخذت ".
(2) الخدب: الضخم العظيم. والسحوق: النخلة الطويلة، وفى صفين: " تقحم في النقع ".
(3) التفروق: قمع التمرة التمرة.
(4) التفنيق: التنعيم.
(5) صفين 503، 506.
84

فارس من أهل الشام إلا قيل قتله الأنصار، أما والله لألقينهم بحدي وحديدي، ولأعبين
لكل فارس منهم فارسا ينشب في حلقه، ولأرمينهم بأعدادهم من قريش رجال لم يغذهم
التمر والطفيشل (1)، يقولون: نحن الأنصار قد والله آووا ونصروا، ولكن أفسدوا
حقهم بباطلهم!
فغضب النعمان، وقال: يا معاوية لا تلومن الأنصار في حب الحرب والسرعة (2) نحوها
فإنهم كذلك كانوا في الجاهلية. وأما دعاؤهم إلى النزال (3) فقد رأيتهم مع رسول
الله صلى الله عليه وآله يفعلون ذلك كثيرا. وأما لقاؤك إياهم في أعدادهم من قريش فقد
علمت ما لقيت قريش منهم قديما، فإن أحببت أن ترى فيهم مثل ذلك آنفا فافعل.
وأما التمر والطفيشل، فإن التمر كان لنا فلما (4) ذقتموه شاركتمونا فيه. وأما الطفيشل،
فكان لليهود، فلما أكلناه غلبناهم عليه، كما غلبت قريش على السخينة (5).
ثم تكلم مسلمة بن مخلد، فقال: يا معاوية، إن الأنصار لا تعاب أحسابها ولا نجداتها.
وأما غمهم إياك فقد والله غمونا، ولو رضينا ما فارقونا ولا فارقنا جماعتهم، وإن في ذلك
ما فيه من مباينة العشيرة، ولكنا حملنا ذلك لك، ورجونا منك عوضه. وأما التمر
والطفيشل، فإنهما يجران عليك السخينة والخرنوب.
قال: وانتهى هذا الكلام إلى الأنصار، فجمع قيس بن سعد الأنصار، ثم قام فيهم
خطيبا فقال إن معاوية قال ما بلغكم، وأجابه عنكم صاحباكم، ولعمري إن غظتم

(1) الطفيشل، بوزن سميدع، ذكره صاحب. القاموس وقال: إنه نوع من المرق.
(2) صفين: " بسرعتهم في الحرب ".
(3) صفين: " فأما دعاؤهم الله ".
(4) صفين: " فلما أن ذقتموه ".
(5) في اللسان: " السخينة: دقيق يلقى على ماء أو لبن فيطبخ ثم يؤكل بتمر أو يحسى، وهو
الحساء... وفى حديث معاوية أنه مازح الأحنف بن قيس فقال: ما الشئ الملفف في البجاد؟ قال: هو
السخينة يا أمير المؤمنين. والملف في البجاد وطب اللبن يلف فيه ليحمي ويدرك، وكانت تميم تعير به،.
والسخينة: الحساء المذكور يؤكل في الجدب، وكانت قريش تعير بها ".
85

معاوية اليوم لقد، غظتموه أمس، وإن وترتموه في الاسلام، فلقد وترتموه في الشرك،
وما لكم إليه من ذنب أعظم من نصر هذا الدين، فجدوا اليوم جدا تنسونه به ما كان
أمس، وجدوا غدا جدا تنسونه به ما كان اليوم، فأنتم مع هذا اللواء الذي كان يقاتل
عن يمينه جبريل، وعن يساره ميكائيل، والقوم مع لواء أبي جهل والأحزاب. فأما التمر
فإنا لم نغرسه، ولكن غلبنا عليه من غرسه، وأما الطفيشل، فلو كان طعامنا لسمينا به
كما سميت قريش بسخينة، ثم قال سعد في ذلك:
يا بن هند دع التوثب في الحرب * إذا نحن بالجياد سرينا (1)
نحن من قد علمت فادن إذا شئت بمن شئت في العجاج إلينا (2)
إن تشأ فارس له فارس منا وإن شئت باللفيف التقينا
أي هذين ما أردت فخذه * ليس منا وليس منك الهوينى
ثم لا نسلخ العجاجة حتى * تنجلي حربنا، لنا أو علينا (3)
ليت ما تطلب الغداة أتانا * أنعم الله بالشهادة عينا
فلما أتى شعره وكلامه معاوية دعا عمرو بن العاص، فقال: ما ترى في شتم الأنصار؟
قال: أرى أن توعدهم ولا تشتمهم (4). ما عسى أن تقول لهم إذا أردت ذمهم! فذم
أبدانهم ولا تذم أحسابهم. (5 فقال: إن قيس بن سعد يقوم كل يوم خطيبا 5)، وأظنه
والله يفنينا غدا إن لم يحبسه عنا حابس الفيل، فما الرأي؟ قال: الصبر والتوكل، وأرسل

(1) صفين: " في البلاد نأينا ".
(2) بعده في صفين:
إن برزنا بالجمع نلقك في الجمع، وإن شئت محضة أسرينا
فالقنا في اللفيف نلقك في الحزرج * ندعو في حربنا أبوينا
(3) في صفين: " ثم لا تنزع العجاجة "، والعجاج: ما تثيره الريح من التراب، واحده عجاجة.
(4) صفين: " أرى أن توعد ولا تشتم ".
(5 - 5) صفين: " قال معاوية، إن خطيب الأنصار قيس بن سعد يقوم كل يوم خطيبا ".
86

إلى رؤوس الأنصار مع علي فعاتبهم وأمرهم أن يعاتبوه، فأرسل معاوية إلى أبى مسعود (1)
والبراء بن عازب وخزيمة بن ثابت والحجاج بن غزية، وأبى أيوب، فعاتبهم فمشوا
إلى قيس بن سعد، وقالوا له: إن معاوية لا يحب الشتم، فكف عن شتمه، فقال: إن
مثلي لا يشتم ولكني لا أكف عن حربه حتى ألقى الله. قال: وتحركت الخيل غدوة،
فظن قيس أن فيها معاوية، فحمل على رجل يشبهه، فضربه بالسيف فإذا هو ليس، به ثم حمل
على آخر يشبهه أيضا فقنعه بالسيف (2).
فلما تحاجز الفريقان شتمه معاوية شتما قبيحا، وشتم الأنصار فغضب النعمان ومسلمة،
فأرضاهما بعد أن هما أن ينصرفا إلى قومهما.
ثم إن معاوية سأل النعمان أن يخرج إلى قيس فيعاتبه ويسأله السلم. فخرج النعمان،
فوقف بين الصفين، ونادى: يا قيس بن سعد أنا النعمان بن بشير، فخرج إليه، وقال: هيه
يا نعمان! ما حاجتك؟ قال: يا قيس، إنه قد أنصفكم من دعاكم إلى ما رضى لنفسه. يا معشر
الأنصار. إنكم أخطأتم في خذل عثمان يوم الدار، وقتلتم أنصاره يوم الجمل، وأقحمتم
خيولكم على أهل الشام بصفين، فلو كنتم إذ خذلتم عثمان خذلتم عليا، لكانت واحدة
بواحدة، ولكنكم (3) لم ترضوا أن تكونوا كالناس حتى أعلمتم في الحرب، ودعوتم

(1) صفين: " فأرسل معاوية إلى رجال من الأنصار، فعاتبهم، فهم عقبة بن عمر وأبو
مسعود... ".
(2) في صفين: ثم انصرف وهو يقول:
قولوا لهذا الشاتمي معاوية * إن كل ما أوعدت ريح هاويه
خوفتنا أكلب قوم عاويه * إلى يا بن الخاطئين الماضية
ترقل إرقال العجوز الجارية * في أثر الساري ليالي الشاتيه
(3) صفين: " ولكنكم خذلتم حقا، ونصرتم باطلا، ثم لم ترضوا... ".
87

إلى البراز. ثم لم ينزل بعلي حطب قط إلا هو نتم عليه المصيبة، ووعدتموه الظفر. وقد
أخذت الحرب منا ومنكم ما قد رأيتم، فاتقوا الله في البقية.
فضحك قيس، وقال: ما كنت أظنك يا نعمان محتويا على هذه المقالة، إنه لا ينصح أخاه من غش نفسه، وأنت الغاش الضال المضل. أما ذكرك عثمان، فإن كانت الاخبار
تكفيك فخذ منى واحدة، قتل عثمان من لست خيرا منه، وخذله من هو خير منك.
وأما أصحاب الجمل فقاتلناهم على النكث. وأما معاوية فوالله لو اجتمعت عليه العرب قاطبة
لقاتلته الأنصار، وأما قولك إنا لسنا كالناس. فنحن في هذه الحرب كما كنا مع رسول الله،
نتقي السيوف بوجوهنا. والرماح بنحورنا، حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون.
ولكن انظر يا نعمان، هل ترى مع معاوية إلا طليقا أو، أعرابيا، أو يمانيا مستدرجا بغرور!
انظر أين المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان، الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه!
ثم انظر، هل ترى مع معاوية أنصاريا غيرك وغير صويحبك، ولستما والله ببدريين
ولا عقبيين ولا أحديين، ولا لكما سابقة في الاسلام، ولا آية في القرآن. ولعمري لئن
شغبت علينا لقد شغب علينا أبوك (1)!
* * *
قال نصر: وحدثنا عمر بن سعد عن مالك بن أعين، عن زيد بن وهب، قال:
كان فارس أهل الشام الذي لا ينازع عوف بن مجزأة المرادي، المكنى أبا أحمر، وكان
فارس أهل الكوفة العكبر بن جدير الأسدي. فقام العكبر إلى علي عليه السلام، وكان

(1) الخبر في صفين 507 - 512، وبعده، وقال قيس في ذلك.
والراقصات بكل أشعث أغبر * خوص العيون تحثها الركبان
ما ابن المخلد ناسيا أسيافنا * فيمن نحاربه ولا النعمان
تركا البيان وفى العيان كفاية * لو كان ينفع صاحبيه عيان
88

منطيقا فقال يا أمير المؤمنين، إن في أيدينا عهدا من الله لا نحتاج فيه إلى الناس، قد ظننا
بأهل الشام الصبر (1) وظنوا بنا، فصبرنا وصبروا، وقد عجبت من صبر أهل الدنيا [لأهل
الآخرة، وصبر أهل الحق على أهل الباطل ورغبة أهل الدنيا (2)] (3 ثم قرأت آية من
كتاب الله فعلمت أنهم مفتونون 3): (ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم
لا يفتنون. ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن
الكاذبين) (4). فقال له عليه السلام خيرا. وخرج الناس إلى مصافهم وخرج عوف
ابن مجزأة المرادي نادرا من الناس، وكذا كان يصنع، وقد كان قتل نفرا من أهل العراق
مبارزة، فنادى: يا أهل العراق، هل من رجل عصاه سيفه يبارزني! ولا أغركم من نفسي!
أنا عوف بن مجزأة (5). فنادى الناس، بالعكبر، فخرج إليه منقطعا عن أصحابه ليبارزه، فقال عوف: بالشام
أمن ليس فيه خوف * بالشام عدل ليس فيه حيف
بالشام جود ليس فيه سوف * أنا ابن مجزاة واسمي عوف
هل من عراقي عصاه سيف * يبرز لي وكيف لي وكيف!
فقال له العكبر:
الشام محل والعراق ممطر (6) * بها إمام طاهر مطهر (7)
والشام فيها أعور ومعور * أنا العراقي واسمي عكبر (8)

(1) صفين: " وظنوه ".
(2) من صفين.
(3 - 3) صفين: " ثم نظرت فإذا أعجب ما يعجبني جهله بآية من كتاب الله ".
(4) سورة العنكبوت 1 - 3.
(5) صفين: " فأنا فارس زوف "، وزوف أبو قبيلة
(6) صفين: " تمطر ".
(7) صفين: بها الامام والامام معذر ".
(8) المعور: القبيح السريرة.
89

ابن جدير وأبوه المنذر * أدن، فإني في البراز قسور (1)
فاطعنا، فصرعه العكبر وقتله، ومعاوية على التل في وجوه قريش ونفر قليل من
الناس، فوجه العكبر فرسه، يملأ (2) فروجه ركضا، ويضربه بالسوط مسرعا نحو التل.
فنظر معاوية إليه فقال: هذا الرجل مغلوب على عقله أو مستأمن، فاسألوه، فأتاه رجل وهو
في حمو فرسه، فناداه فلم يجبه ومضى مبادرا، حتى انتهى إلى معاوية، فجعل يطعن في
أعراض الخيل، ورجا أن ينفرد بمعاوية فيقتله، فاستقبله رجال، قتل منهم قوما، وحال
الباقون بينه وبين معاوية بسيوفهم ورماحهم، فلما لم يصل إليه قال: أولى لك يا بن هند (3)!
أنا الغلام الأسدي ورجع إلى صف العراق ولم يكلم، فقال له علي عليه السلام: ما دعاك
إلى ما صنعت؟ لا تلق نفسك إلى التهلكة، قال: يا أمير المؤمنين، أردت غرة ابن هند
فحيل بيني وبينه، وكان العكبر شاعرا فقال:
قتلت المرادي الذي كان باغيا * ينادى وقد ثار العجاج نزال
يقول أنا عوف بن مجزاة والمنى * لقاء ابن مجزاة بيوم قتال
فقلت له لما علا القوم صوته * منيت بمشبوح اليدين طوال (4)
فأوجرته في ملتقى الحرب صعدة * ملأت بها رعبا صدور رجال (5)

(1) صفين: " فإني للكمى مصحر "، والمصحر: المنكشف لقرنه.
(2) صفين: " فملأ فروجه "، يقال: ملا الفرس فرجه وفروجه، إذا أسرع، والفرج:
ما بين فخذي الفرس ورجليها.
(3) أولى لك، كلمة تهدد ووعيد، معناه قد وليك، أي قاربك الشر فاحذر. وقيل: أولاك الله
ما تكرهه، وقيل: معناه أولى لك العقاب والهلاك.
(4) رجل مشبوح الذراعين، أي عريضهما، وفى النهاية: في صفته صلى الله عليه وسلم أنه كان مشبوح
الذراعين، أي طويلهما، وقيل: عريضهما، وفى رواية: " كان شبح الدراعين "، والشبح: مد
الشئ بأوتاد كالجلد والحبل، وشبحت العود إذا نحته حتى تعرضه ".
(5) يقال: أوجر فلانا الرمح طعنه به في فيه، وقيل في صدره. والصعدة: القناة المستوية تنبت كذلك
لا تحتاج إلى تثقيف.
90

فغادرته يكبو صريعا لوجهه * ينوء مرارا في مكر مجال (1)
وقدمت مهري راكضا نحو صفهم * أصرفه في جريه بشمالي (2)
أريد به التل الذي فوق رأسه * معاوية الجاني لكل خبال (3)
فقام رجال دونه بسيوفهم * وقام رجال دونه بعوالي
فلو نلته نلت التي ليس بعدها * وفزت بذكر صالح وفعال (4)
ولو مت في نيل المنى ألف موتة * لقلت إذا ما مت: لست أبالي
قال: فانكسر أهل الشام لقتل عوف المرادي، وهدر معاوية دم العكبر، فقال
العكبر: يد الله فوق يده، فأين الله جل جلاله ودفاعه عن المؤمنين (5)!
قال نصر: وروى عمر بن سعد، عن الحارث بن حصين، عن أبي الكنود، قال:
جزع أهل الشام على قتلاهم جزعا شديدا، وقال معاوية بن خديج: قبح الله ملكا
يملكه المرء بعد حوشب وذي الكلاع، والله لو ظفرنا بأهل الدنيا بعد قتلهما بغير مئونة
ما كان ظفرا. وقال يزيد بن أسد لمعاوية: لا خير في أمر لا يشبه آخره أوله، لا يدمى
جريح ولا يبكى قتيل حتى تنجلي هذه الفتنة، فإن يكن الامر لك أدميت وبكيت على

(1) صفين: " ينادى مرارا ".
(2) في صفين: " فأضربه في حومة بشمال ".
(3) بعده في صفين:
يقول ومهري يعرف الجري جامحا * بفارسه قد بان كل ضلال
فلما رأوني أصدق الطعن فيهم * جلا عنهم رجم الغيوب فعالي
(4) صفين: " من الامر شئ غير قيل وقال ".
(5) صفين 512 - 516.
91

قرار، وإن يكن لغيرك فما أصبت به أعظم. فقال معاوية: يا أهل الشام، ما جعلكم
أحق بالجزع على قتلاكم من أهل العراق على قتلاهم، والله ما ذو الكلاع فيكم بأعظم من
عمار بن ياسر فيهم، ولا حوشب فيكم بأعظم من هاشم فيهم، وما عبيد الله بن عمر فيكم
بأعظم من ابن بديل فيهم، وما الرجال إلا أشباه، وما التمحيص إلا من عند الله فأبشروا
فإن الله قد قتل من القوم ثلاثة: قتل عمارا وكان فتاهم، وقتل هاشما وكان حمزتهم، وقتل
ابن بديل وهو الذي فعل الأفاعيل، وبقى الأشتر، والأشعث، وعدي بن حاتم، فأما
الأشعث فإنما حمى عنه (1) مصره وأما الأشتر وعدي فغضبا والله [للفتنة] (2)، قاتلهما
غدا إن شاء الله تعالى، فقال معاوية بن خديج: إن يكن الرجال عندك أشباها فليست
عندنا كذلك، وغضب، وقال شاعر اليمن يرثى ذا الكلاع وحوشبا (3):
معاوي قد نلنا ونيلت سراتنا * وجدع أحياء الكلاع ويحصب
فذو كلع لا يبعد الله داره * وكل يمان قد أصيب بحوشب
هما ما هما كانا معاوي عصمة * متى قلت كانا عصمة لا أكذب
ولو قبلت في هالك بذل فدية * فديتهما بالنفس والام والأب (4)
وروى نصر، عن عمر بن سعد، عن عبيد الرحمن بن كعب، قال: لما قتل عبد الله
ابن بديل يوم صفين مر به الأسود بن طهمان الخزاعي، وهو بآخر رمق، فقال له: عز على
والله مصرعك! أما والله لو شهدتك لآسيتك، ولدافعت عنك، ولو رأيت الذي أشعرك (5)

(1) صفين: " فحماه مصري ".
(2) من صفين.
(3) صفين: " وقال الحضرمي في ذلك شعرا ".
(4) صفين 518، 519.
(5) الاشعار: الإدماء بطعن أو رمى أو وجئ بحديدة.
92

لأحببت إلا أزايله ولا يزايلني حتى أقتله، أو يلحقني بك. ثم نزل إليه، فقال: رحمك الله
يا عبد الله [والله] (1) إن كان جارك ليأمن بوائقك، وإن كنت لمن الذاكرين الله
كثيرا. أوصني رحمك الله. قال: أوصيك بتقوى الله، وأن تناصح أمير المؤمنين، وتقاتل
معه حتى يظهر الحق أو تلحق بالله، وأبلغ أمير المؤمنين عنى السلام، وقل له: قاتل على
المعركة حتى تجعلها خلف ظهرك، فإنه من أصبح والمعركة خلف ظهره، كان الغالب.
ثم لم يلبث أن مات.
فأقبل أبو الأسود إلى علي عليه السلام، فأخبره، فقال: رحمه الله جاهد معنا
عدونا في الحياة ونصح لنا في الوفاة (2).
قال نصر: وقد روى نحو هذا عن عبد الرحمن بن كلدة حدثني محمد بن إسحاق
عن عبد الله بن أبي بحر، عن عبد الرحمن بن حاطب، قال: خرجت ألتمس أخي سويدا
في قتلى صفين، فإذا رجل صريع في القتلى، قد أخذ بثوبي فالتفت، فإذا هو عبد الرحمن
ابن كلدة، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون! هل لك في الماء ومعي (3) إداوة؟ فقال:
لا حاجة لي فيه، قد أنفذ في السلاح وخرقني، فلست أقدر على الشراب، هل أنت مبلغ
عنى أمير المؤمنين رسالة أرسلك بها؟ قلت: نعم، قال: إذا رأيته فاقرأ عليه السلام،
وقل له: يا أمير المؤمنين، احمل جرحاك إلى عسكرك حتى تجعلهم من وراء ظهرك، فإن
الغلبة لمن فعل ذلك، ثم لم أبرح حتى مات. فخرجت حتى أتيت أمير المؤمنين عليه السلام
فقلت له: إن عبد الرحمن بن كلدة يقرأ عليك السلام، قال وأين هو؟ قلت: وجدته
وقد أنفذه السلاح وخرقة، فلم يستطع شرب الماء، ولم أبرح حتى مات. فاسترجع عليه
السلام، فقلت: قد أرسلني إليك برسالة، قال: وما هي؟ قلت: إنه يقول: أحمل جرحاك

(1) من صفين.
(2) صفين 520، 521.
(3) الإداوة: إناء صغير من جلد، ويجمع على أداوى.
93

إلى عسكرك، وأجعلهم وراء ظهرك، فإن الغلبة لمن فعل ذلك، فقال: صدق فنادى
مناديه في العسكر أن احملوا جرحاكم من بين القتلى إلى معسكركم، ففعلوا (1)
قال نصر: وحدثني عمرو بن شمر، عن جابر، عن عامر، عن صعصعة بن صوحان،
أن أبرهة بن الصباح الحميري قام بصفين، فقال: ويحكم يا معشر أهل اليمن! إني لأظن
الله قد أذن بفنائكم! ويحكم خلوا بين الرجلين، فليقتتلا، فأيهما قتل صاحبه ملنا معه
جميعا - وكان أبرهة من رؤساء أصحاب معاوية - فبلغ قوله عليا عليه السلام فقال:
صدق أبرهة! والله ما سمعت بخطبة منذ وردت الشام أنا بها أشد سرورا منى
بهذه الخطبة!
قال: وبلغ معاوية كلام أبرهة فتأخر آخر الصفوف وقال لمن حوله: إني لأظن
أبرهة مصابا في عقله. فأقبل أهل الشام يقولون والله إن أبرهة لأكملنا دينا وعقلا،
ورأيا وبأسا، ولكن الأمير (2) كره مبارزة على، وسمع ما دار من الكلام أبو داود عروة
ابن داود العامري - وكان من فرسان معاوية - فقال: إن كان معاوية كره مبارزة أبى
حسن، فأنا أبارزه، ثم خرج بين الصفين، فنادى: أنا أبو داود فأبرز إلى يا أبا حسن،
فتقدم علي عليه السلام نحوه، فناداه الناس: ارجع يا أمير المؤمنين عن هذا الكلب فليس
لك بخطر، فقال: والله ما معاوية اليوم بأغيظ لي منه، دعوني وإياه ثم حمل عليه فضربه
فقطعه قطعتين، سقطت إحداهما يمنية والأخرى شامية فارتج العسكران لهول الضربة،
وصرخ ابن عم لأبي داود: وا سوء صباحاه! وقبح الله البقاء بعد أبي داود! وحمل على علي عليه
السلام، فطعنه فضرب الرمح فبراه، ثم قنعه ضربة فألحقه بأبي داود، ومعاوية

(1) صفين 488، 449.
(2) صفين: " معاوية ".
94

واقف على التل، يبصر ويشاهد، فقال: تبا لهذه الرجال وقبحا! أما فيهم من يقتل هذا
مبارزة أو غيلة، أو في اختلاط الفيلق وثوران النقع! فقال الوليد بن عقبة: أبرز إليه أنت
فإنك أولى الناس بمبارزته، فقال: والله لقد دعاني إلى البراز حتى لقد استحييت من قريش،
وإني والله لا أبرز إليه، ما جعل العسكر بين يدي الرئيس إلا وقاية، له فقال عتبة بن أبي
سفيان: الهوا عن هذا كأنكم لم تسمعوا نداءه فقد علمتم أنه قتل حريثا، وفضح عمرا
ولا أرى أحدا يتحكك به إلا قتله. فقال معاوية لبسر بن أرطاة: أتقوم لمبارزته؟ فقال:
ما أحد أحق بها منك، أما إذ بيتموه فأنا له، قال معاوية: إنك ستلقاه غدا في أول الخيل
وكان عند بسر ابن عم له قدم من الحجاز يخطب ابنته، فأتى بسرا، فقال له: إني
سمعت أنك وعدت من نفسك أن تبارز عليا، أما تعلم أن الوالي من بعد معاوية عتبة ثم
بعده محمد أخوه، وكل من هؤلاء قرن على، فما يدعوك إلى ما أرى! قال: الحياء، خرج
منى كلام، فأنا أستحي أن أرجع عنه. فضحك الغلام، وقال:
تنازله يا بسر إن كنت مثله * وإلا فإن الليث للشاء آكل (1)
كأنك يا بسر بن أرطاة جاهل * بآثاره في الحرب أو متجاهل
معاوية الوالي وصنواه بعده * وليس سواء مستعار وثاكل
أولئك هم أولى به منك إنه * على فلا تقربه، أمك هابل!
متى تلقه فالموت في رأس رمحه * وفي سيفه شغل لنفسك شاغل
وما بعده في آخر الخيل عاطف * ولا قبله في أول الخيل حامل.
فقال بسر: هل هو إلا الموت، لابد من لقاء الله فغدا علي عليه السلام منقطعا من
خيله، ويده في يد الأشتر وهما يتسايران رويدا يطلبان التل ليقفا عليه إذ برز له بسر
مقنعا في الحديد، لا يعرف فناداه أبرز إلى أبا حسن، فانحدر إليه على تؤده غير مكترث به

(1) صفين: " للضبع آكل ".
95

حتى إذا قاربه طعنه وهو دارع فألقاه إلى الأرض، ومنع الدرع السنان أن يصل إليه،
فاتقاه بسر بعورته، وقصد أن يكشفها، يستدفع بأسه، فانصرف عنه عليه السلام مستدبرا
له فعرفه الأشتر حين سقط فقال: يا أمير المؤمنين، هذا بسر بن أرطاة، هذا عدو الله
وعدوك، فقال: دعه عليه لعنة الله، أبعد أن فعلها! فحمل ابن عم بسر من أهل الشام، شاب،
على علي عليه السلام، وقال:
أرديت بسرا والغلام ثأئره * أرديت شيخا غاب عنه ناصره
* وكلنا حام لبسر واتره *
فلم يلتفت إليه علي عليه السلام، وتلقاه الأشتر فقال له:
في كل يوم رجل شيخ شاغره * وعورة وسط العجاج ظاهره
تبرزها طعنة كف واتره * عمرو وبسر منيا بالفاقره.
فطعنه الأشتر، فكسر صلبه، وقام بسر من طعنة علي عليه السلام موليا، وفرت
خيله، وناداه علي عليه السلام: يا بسر، معاوية كان أحق بها منك، فرجع بسر إلى
معاوية فقال له معاوية: أرفع طرفك، فقد أدال الله عمرا منك، وقال الشاعر
في ذلك:
أفي كل يوم فارس تندبونه * له عورة تحت العجاجة باديه
يكف بها عنه على سنانه * ويضحك منها في الخلاء معاوية
بدت أمس من عمرو فقنع رأسه * وعورة بسر مثلها حذو حاذيه
فقولا لعمرو وابن أرطاة أبصرا * سبيلكما، لا تلقيا الليث ثانيه
ولا تحمدا إلا الحيا وخصاكما * هما كانتا للنفس والله واقيه
فلولاهما لم تنجوا من سنانه * وتلك بما فيها عن العود ناهيه
96

متى تلقيا الخيل المغيرة صبحة * وفيها على فاتركا الخيل ناحية (1)
وكونا بعيدا حيث لا تبلغ القنا * ونار الوغى، إن التجارب كافيه (2)
وإن كان منه بعد للنفس حاجة * فعودا إلى ما شئتما هي ماهية.
قال: فكان بسر بعد ذلك اليوم، إذا لقى الخيل التي فيها على ينتحي ناحية،
وتحامي فرسان الشام بعدها عليا عليه السلام (3).
قال نصر: وحدثنا عمر بن سعد، عن الأجلح بن عبد الله الكندي، عن أبي
جحيفة، قال: جمع معاوية كل قرشي بالشام، وقال لهم: العجب يا معشر قريش! أنه ليس لأحد منكم في هذه الحرب فعال (4) يطول بها لسانه غدا ما عدا عمرا، فما بالكم!
أين حمية قريش؟ فغضب الوليد بن عقبة، وقال: أي فعال تريد؟ والله ما نعرف في
أكفائنا من قريش العراق من يغنى غناءنا باللسان ولا باليد، فقال معاوية: بلى إن
أولئك وقوا عليا بأنفسهم. قال الوليد: كلا، بل وقاهم على بنفسه. قال: ويحكم! أما فيكم
من يقوم لقرنه منهم مبارزه ومفاخره فقال مروان: أما البراز فإن عليا لا يأذن لحسن
ولا لحسين ولا لمحمد بنيه فيه، ولا لابن عباس وإخوته، ويصلى بالحرب دونهم، فلأيهم نبارز! وأما المفاخرة، فبماذا نفاخرهم! بالاسلام أم بالجاهلية! فإن كان بالاسلام،
فالفخر لهم بالنبوة، وإن كان بالجاهلية فالملك فيه لليمن، فإن قلنا قريش، قالوا لنا عبد المطلب.

(1) صفين: " الخيل المشيحة ".
(2) صفين: " وحمى الوغى ".
(3) صفين: 521 - 527.
(4) فعال، بالكسر: جمع فعل، وفى صفين: " فعال يطول به لسانه "، والفعال بالفتح: الفعل الحسن.
97

فقال عتبه بن أبي سفيان الهوا عن هذا، فإني لاق بالغداة جعدة بن هبيرة،
فقال معاوية: بخ بخ! قومه بنو مخزوم، وأمه أم هانئ بنت أبي طالب
كفء كريم.
وكثر العتاب والخصام بين القوم، حتى أغلظوا لمروان وأغلظ لهم، فقال مروان:
أما والله لولا ما كان منى إلى علي عليه السلام في أيام عثمان، ومشهدي بالبصرة،
لكان لي في علي رأى يكفي امرأ ذا حسب ودين، ولكن ولعل. ونابذ معاوية الوليد بن عقبة [دون القوم] (1)، فأغلظ له الوليد فقال معاوية. إنك إنما تجترئ على
بنسبك من عثمان، ولقد ضربك الحد وعزلك عن الكوفة.
ثم إنهم ما أمسوا حتى اصطلحوا، وأرضاهم معاوية من نفسه، ووصلهم بأموال جليلة.
وبعث معاوية إلى عتبة، فقال: ما أنت صانع في جعدة! قال: ألقاه اليوم وأقاتله غدا،
وكان لجعدة في قريش شرف عظيم، وكان له لسان، وكان من أحب الناس إلى علي عليه
السلام، فغدا عليه عتبة فنادى: أبا جعدة أبا جعدة! فاستأذن عليا عليه السلام في
الخروج إليه، فأذن له، واجتمع الناس، فقال عتبة: يا جعدة، والله ما أخرجك علينا
إلا حب خالك وعمك عامل البحرين، وإنا والله ما نزعم إن معاوية أحق بالخلافة
من على، لولا أمره في عثمان، ولكن معاوية أحق بالشام لرضا أهلها به، فاعفوا لنا
عنها فوالله ما بالشام رجل به طرق (2) إلا وهو أجد من معاوية في القتال، وليس
بالعراق رجل له مثل جد على في الحرب، ونحن أطوع لصاحبنا منكم لصاحبكم، وما أقبح بعلي
أن يكون في قلوب المسلمين أولى الناس، بالناس حتى إذا أصاب سلطانا أفنى العرب. فقال
جعدة: أما حبى لخالي، فلو كان لك خال مثله لنسيت أباك، وأما ابن أبي سلمة فلم
يصب أعظم من قدره، والجهاد أحب إلى من العمل، وأما فضل على على معاوية،

(1) من صفين.
(2) الطرق هنا: القوة:.
98

فهذا ما لا يختلف فيه اثنان. وأما رضاكم اليوم بالشام، فقد رضيتم بها أمس فلم نقبل.
وأما قولك: " ليس بالشام أحد إلا وهو أجد من معاوية وليس بالعراق رجل
مثل جد على: فهكذا ينبغي أن يكون، مضى بعلي يقينه، وقصر بمعاوية شكة،
وقصد أهل الحق خير من جهد أهل الباطل. وأما قولك: نحن أطوع لمعاوية منكم لعلى
فوالله ما نسأله أن سكت، ولا نرد عليه إن قال. وأما قتل العرب، فإن الله كتب
القتل والقتال، فمن قتله الحق فإلى الله.
فغضب عتبة، وفحش على جعدة فلم يجبه.
وأعرض عنه. فلما انصرف عنه. جمع
خيله فلم يستبق [منها] (1) شيئا، وجل أصحابه السكون والأزد والصدف وتهيأ جعدة
بما استطاع، والتقوا، فصبر القوم جميعا، وباشر جعدة يومئذ القتال بنفسه، وجزع عتبة،
فأسلم خيله وأسرع هاربا إلى معاوية، فقال له: فضحك جعدة وهزمتك لا تغسل
رأسك منها أبدا. فقال: والله لقد أعذرت، ولكن أبى الله أن يديلنا منهم، فما
أصنع! وحظي جعدة بعدها عند علي عليه السلام.
وقال النجاشي فيما كان من فحش عتبة على جعدة:
إن شتم الكريم يا عتب خطب * فاعلمنه من الخطوب عظيم
أمه أم هانئ وأبوه * من معد ومن لؤي صميم
ذاك منها هبيرة بن أبي وهب أقرت بفضله مخزوم
كان في حربكم يعد بألف * حين يلقى بها القروم القروم
وابنه جعدة الخليفة منه * هكذا تنبت الفروع الأروم (2)

(1) من صفين.
(2) صفين: " هكذا يخلف الفرع الأروم ".
99

كل شئ تريده فهو فيه * حسب ثاقب ودين قويم
وخطيب إذا تمعرت الأوجه * يشجي به الألد الخصيم
وحليم إذا الحبى حلها الجهل، وخفت من الرجال الحلوم
وشكيم الحروب قد علم الناس * إذا حل في الحروب الشكيم
وصحيح الأديم من نغل العيب إذا كان لا يصح الأديم
حامل للعظيم في طلب الحمد إذا عظم الصغير اللئيم
ما عسى أن تقول للذهب الأحمر عيبا، هيهات منك النجوم!
كل هذا بحمد ربك فيه * وسوى ذاك كان وهو فطيم
وقال الأعور الشني في ذلك، يخاطب عتبة بن أبي سفيان:
ما زلت تظهر في عطفيك أبهة * لا يرفع الطرف منك التيه والصلف
لا تحسب القوم إلا فقع قرقرة * أو شحمة بزها شاو لها نطف (1)
حتى لقيت ابن مخزوم وأي فتى * أحيا مآثر آباء له سلفوا!
إن كان رهط أبى وهب جحاجحة * في الأولين فهذا منهم خلف
أشجاك جعدة إذ نادى فوارسه * حاموا عن الدين والدنيا فما وقفوا
هلا عطفت على قوم بمصرعة * فيها السكون وفيها الأزد والصدف (2).
قال نصر: وحدثنا عمر بن سعد، عن الشعبي، قال: كان رجل من أهل الشام

(1) الفقع: ضرب من أردأ الكمأة. والقرقرة: الأرض السهلة المطمئنة.
(2) صفين 527 - 533، وبعد هذا البيت:
قد كنت في منظر من ذا ومستمع * يا عتب لولا سفاه الرأي والسرف
فاليوم يقرع منك السن من ندم * ما للمبارز إلا العجز والنصف.
100

يقال له الأصبغ بن ضرار الأزدي من مسالح معاوية وطلائعه فندب له علي عليه السلام الأشتر فأخذه أسيرا من غير قتال، فجاء به ليلا فشده وثاقا وألقاه عند أصحابه ينتظر به الصباح، وكان الأصبغ شاعرا مفوها فأيقن بالقتل ونام أصحابه، فرفع صوته فأسمع الأشتر، وقال:
ألا ليت هذا الليل أصبح سرمدا * على الناس لا يأتيهم بنهار (1)
يكون كذا حتى القيامة إنني * أحاذر في الاصباح يوم بواري (2)
فيا ليل أطبق، إن في الليل راحة * وفي الصبح قتلى أو فكاك أسارى
ولو كنت تحت الأرض ستين واديا * لما رد عنى ما أخاف حذاري
فيا نفس مهلا إن للموت غاية * فصبرا على ما ناب يا بن ضرار
أأخشى ولى في القوم رحم قريبة * أبى الله أن أخشى ومالك جارى (3)
ولو أنه كان الأسير ببلدة * أطاع بها، شمرت ذيل إزاري
ولو كنت جار الأشعث الخير فكنى * وقل من الامر المخوف فراري
وجار سعيد أو عدى بن حاتم * وجار شريح الخير قر قراري
وجار المرادي الكريم وهانئ * وزحر بن قيس ما كرهت نهاري (4)
ولو أنني كنت الأسير لبعضهم * دعوت فتى منهم ففك أساري (5)
أولئك قومي لا عدمت حياتهم * وعفوهم عنى وستر عواري

(1) صفين: " طبق سرمدا ".
(2) صفين: " ضرمة نار ".
(3) صفين: " والأشتر جارى ".
(4) صفين: " المرادي العظيم ".
(5) صفين: " دعوت رئيس القوم ".
101

قال: فغدا به الأشتر إلى علي عليه السلام، فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا رجل
من مسالح معاوية، أصبته أمس وبات عندنا الليل، فحركنا بشعره، وله رحم، فإن
كان فيه القتل فاقتله، وإن ساغ لك العفو عنه فهبه لنا، فقال: هو لك يا مالك، وإذا
أصبت منهم أسيرا فلا تقتله، فإن أسير أهل القبلة لا يقتل.
فرجع به الأشتر إلى منزله وخلى سبيله (1)

(1) صفين 533، 534.
102

(125)
الأصل:
ومن كلام له عليه السلام في الخوارج لما أنكروا تحكيم الرجال، ويذم
فيه أصحابه في التحكيم، فقال:
إنا لم نحكم الرجال وإنما حكمنا القرآن هذا القرآن إنما هو خط
مستور بين الدفتين لا ينطق بلسان، ولا بد له من ترجمان وإنما ينطق عنه
الرجال. ولما دعانا القوم إلى أن نحكم بيننا القرآن، لم نكن الفريق المتولي
عن كتاب الله سبحانه وتعالى، وقد قال الله تعالى عز من قائل: (فإن تنازعتم في
شئ فردوه إلى الله والرسول) (1) فرده إلى الله أن نحكم بكتابه، ورده إلى
الرسول أن نأخذ بسنته، فإذا حكم بالصدق في كتاب الله فنحن أحق الناس
به، وإن حكم بسنة رسول الله صلى الله عليه، فنحن أحق الناس وأولاهم بها.
وأما قولكم: لم جعلت بينك وبينهم أجلا في التحكيم؟ فإنما فعلت ذلك
ليتبين الجاهل، ويتثبت العالم، ولعل الله أن يصلح في هذه الهدنة أمر هذه
الأمة ولا تؤخذ بأكظامها، فتعجل عن تبين الحق، وتنقاد لأول الغي.
إن أفضل الناس عند الله من كان العمل بالحق أحب إليه وإن نقصه وكرثه
من الباطل وإن جر إليه فائدة (2) وزاده، فأين يتاه بكم ومن أين أتيتم!

(1) سورة النساء 59.
(2) ساقطة من مخطوطة النهج.
103

استعدوا للمسير إلى قوم حيارى عن الحق لا يبصرونه وموزعين بالجور
لا يعدلون به، جفاة عن الكتاب، نكب عن الطريق.
ما أنتم بوثيقة يعلق بها، ولا زوافر عز يعتصم إليها، لبئس حشاش نار
الحرب أنتم!
أف لكم! لقد لقيت منكم برحا (1) يوما أناديكم، ويوما أناجيكم، فلا
أحرار صدق عند النداء ولا إخوان ثقة عند النجاء
* * *
الشرح:
دفتا المصحف: جانباه اللذان يكنفانه، وكان الناس يعملونهما قديما من خشب،
ويعملونهما الان من جلد، يقول عليه السلام: لا اعتراض على في التحكيم، وقول
الخوارج: " حكمت الرجال " دعوى غير صحيحة، وإنما حكمت القرآن، ولكن
القرآن لا ينطق بنفسه، ولا بد له ممن يترجم عنه والترجمان بفتح التاء وضم الجيم،
هو مفسر اللغة بلسان آخر، ويجوز ضم التاء لضمة الجيم، قال الراجز:
* كالترجمان لقى الانباطا *
ثم قال: لما دعينا إلى تحكيم الكتاب، لم نكن القوم الذين قال الله تعالى في حقهم:
(وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون) (2)، بل
أجبنا إلى ذلك، وعملنا بقول الله تعالى: (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول).
وقال: معنى ذلك أن نحكم بالكتاب والسنة، فإذا عمل الناس بالحق في هذه الواقعة،
وأطرحوا الهوى والعصبية كنا أحق بتدبير الأمة وبولاية الخلافة من المنازع لنا عليها.

(1) مخطوطة النهج: " ترحا ".
(2) سورة النور 48.
104

فإن قلت: إنه عليه السلام لم يقل هكذا، وإنما قال: إذا حكم بالصدق في كتاب الله،
فنحن أولى به، وإذا حكم بالسنة فنحن أحق بها!
قلت: إنه رفع نفسه عليه السلام أن يصرح بذكر الخلافة فكنى عنها وقال نحن:
إذا حكم بالكتاب والسنة أولى بالكتاب والسنة، ويلزم من كونه أولى بالكتاب والسنة من جميع الناس أن يكون أولى بالخلافة من جميع الناس، فدل على ما كنى عنه
بالامر المستلزم له.
فإن قلت إذا كان الرجال الذين يترجمون القرآن ويفسرونه وقد كلفوا أن يحكموا في واقعة
أهل العراق وأهل الشام، بما يدلهم القرآن عليه، يجوز أن يختلفوا في تفسير القرآن وتأويله،
فيدعى صاحب أهل العراق من تفسيره ما يستدل به على مراده، ويدعى وكيل أهل الشام
ما يقابل ذلك ويناقضه، بطريق الشبهة التي تمسكوا بها من دم عثمان، ومن كون الاجماع لم
يحصل على بيعة أمير المؤمنين عليه السلام، احتاج الحكمان حينئذ إلى أن يحكم بينهما
حكمان آخران، والقول فيهما كالقول في الأول إلى مالا نهاية له وإنما كان يكون التحكيم
قاطعا للشغب لو كان القرآن ينص بالصريح الذي لا تأويل فيه، أما على أمير المؤمنين عليه
السلام وإما على معاوية، ولا نص صريح فيه، بل الذي فيه يحتمل التأويل والتجاذب فما الذي
يفيد التحكيم والحال تعود لا محالة جذعة!
قلت: لو تأمل الحكمان الكتاب حق التأمل، لوجدا فيه النص الصريح على صحة
خلافة أمير المؤمنين عليه السلام، لان فيه النص الصريح على أن الاجماع حجة، ومعاوية
لم يكن مخالفا في هذه المقدمة ولا أهل الشام، وإذا كان الاجماع حجة، فقد وقع الاجماع
لما توفى رسول الله صلى الله عليه وآله، على أن اختيار خمسة من صلحاء المسلمين لواحد منهم
وبيعته توجب لزوم طاعته وصحة خلافته، وقد بايع أمير المؤمنين عليه السلام خمسة من
105

صلحاء الصحابة بل خمسون فوجب، أن تصح خلافته، وإذا صحت خلافته نفذت
أحكامه، ولم يجب عليه أن يقيد بعثمان، إلا إن حضر أولياؤه عنده، طائعين له مبايعين،
ملتزمين لأحكامه، ثم بعد ذلك يطلبون القصاص من أقوام بأعيانهم يدعون، عليهم
دم المقتول، فقد ثبت أن الكتاب لو تؤمل حق التأمل لكان الحق مع أهل العراق،
ولم يكن لأهل الشام من الشبهة ما يقدح في استنباطهم المذكور.
ثم قال عليه السلام: فأما ضربي للأجل في التحكيم فإنما فعلته لان الأناة والتثبت
من الأمور المحمودة أما الجاهل فيعلم فيه ما جهله، وأما العالم فيثبت فيه على ما علمه، فرجوت
أن يصلح الله في ذلك الاجل أمر هذه الأمة المفتونة.
ولا تؤخذ بأكظامها: جمع كظم، وهو مخرج النفس، يقول كرهت أن أعجل
القوم عن التبين والاهتداء، فيكون إرهاقي لهم، وتركي للتنفيس عن خناقهم، وعدولي
عن ضرب الاجل بيني وبينهم، أدعى إلى استفسادهم، وأحرى أن يركبوا غيهم وضلالهم،
ولا يقلعوا عن القبيح الصادر عنهم. ثم قال: أفضل الناس من آثر الحق وإن كرثه - أي اشتد عليه، وبلغ منه المشقة.
ويجوز " أكرثه " بالألف - على الباطل وإن انتفع به وأورثه زيادة.
ثم قال: " فأين يتاه بكم؟ " أي أين تذهبون في التيه؟ يعنى في الحيرة. وروي:
" فأني يتاه بكم؟ ".
ومن أين أتيتم؟ أي كيف دخل عليكم الشيطان أو الشبهة، ومن أي المداخل دخل
اللبس عليكم!
ثم أمرهم بالاستعداد للمسير إلى حرب أهل الشام، وذكر أنهم موزعون بالجور،
106

أي ملهمون، قال تعالى: (رب أوزعني أن أشكر نعمتك) (1) أي ألهمني، أوزعته
بكذا وهو موزع به، والاسم والمصدر جميعا الوزع بالفتح، واستوزعت إليه تعالى شكره
فأوزعني، أي استلهمته فألهمني.
ولا يعدلون عنه، لا يتركونه إلى غيره، وروى " لا يعدلون به " أي لا يعدلون
بالجور شيئا آخر، أي لا يرضون إلا بالظلم والجور ولا يختارون عليهما غيرهما. قوله: " جفاة عن الكتاب ": جمع جاف وهو النابي عن الشئ، أي قد نبوا
عن الكتاب لا يلائمهم ولا يناسبونه تقول: جفا السرج عن ظهر الفرس إذا نبا
وارتفع، وأجفيته أنا، ويجوز أن يريد أنهم أعراب جفاة، أي أجلاف لا أفهام لهم.
قوله: " نكب عن الطريق "، أي عادلون، جمع ناكب، نكب ينكب عن
السبيل، بضم الكاف نكوبا.
قوله: " وما أنتم بوثيقة "، أي بذي وثيقة، فحذف المضاف، والوثيقة: الثقة يقال:
قد أخذت في أمر فلان بالوثيقة، أي بالثقة، والثقة مصدر.
والزوافر: العشيرة والأنصار، ويقال: هم زافرتهم عند السلطان، للذين يقومون
بأمره عنده.
وقوله: " يعتصم " إليها "، أي بها، فأناب " إلى " مناب الباء، كقول طرفة:
وإن يلتق الحي الجميع تلاقني * إلى ذروة البيت الرفيع المصمد (2).
وحشاش النار: ما تحش به، أي توقد، قال الشاعر:
أفي أن أحش الحرب فيمن يحشها * ألام، وفي ألا أقر المخازيا!.

(1) سورة النمل 19.
(2) من المعلقة - بشرح التبريزي 77.
107

وروى حشاش بالفتح كالشياع، وهو الحطب الذي يلقى في النار قبل الجزل،
وروى: " حشاش " بضم الحاء وتشديد الشين، جمع حاش، وهو الموقد للنار.
قوله: " أف لكم " من الألفاظ القرآنية وفيها لغات " أف " بالكسر وبالضم
وبالفتح و " أف " منونا بالثلاث أيضا، ويقال: أفا وتفا، وهو اتباع له، وأفة وتفة، والمعنى
استقذار المعنى بالتأفيف.
قوله: " لقد لقيت منكم برحا "، أي شدة، يقال: لقيت منهم برحا بارحا، أي
شدة وأذى، قال الشاعر:
أجدك هذا عمرك الله كلما * دعاك الهوى برح لعينك بارح (1)!
ويروى: " ترحا "، أي حزنا.
ثم ذكر أنه يناديهم جهارا طورا، ويناجيهم سرا طورا، فلا يجدهم أحرارا
عند ندائه، أي لا ينصرون ولا يجيبون، ولا يجدهم ثقاتا وذوي أمانة عند المناجاة، أي
لا يكتمون السر.
والنجاء: المناجاة، مصدر ناجيته نجاء، مثل ضاربته ضرابا، وصارعته صراعا.

(1) اللسان (برح) من غير نسبة.
108

(126)
الأصل:
ومن كلام له عليه السلام لما عوقب على التسوية في العطاء وتصييره الناس
أسوة في العطاء من غير تفضيل أولى السابقات والشرف:
أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه! والله لا أطور به ما سمر
سمير، وما أم نجم في السماء نجما! ولو كان المال لي لسويت بينهم، فكيف وإنما
المال مال الله!
ثم قال عليه السلام:
ألا وإن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف، وهو يرفع صاحبه في الدنيا،
ويضعه في الآخرة، ويكرمه في الناس، ويهينه عند الله، ولم يضع امرؤ ماله
في غير حقه، وعند غير أهله، إلا حرمه الله شكرهم، وكان لغيره ودهم، فإن
زلت به النعل يوما فاحتاج إلى معونتهم فشر خليل، والام خدين.
* * *
الشرح:
أصل " تأمروني ": تأمرونني، بنونين، فأسكن الأولى وأدغم، قال تعالى: (أفغير
الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون) (1).

(1) سورة الزمر 64.
109

ولا أطور به: لا أقربه ولا تطر حولنا، أي لا تقرب ما حولنا، وأصله من طوار الدار.
وهو ما كان ممتدا معها من الفناء.
وقوله: " ما سمر سمير " يعنى الدهر، أي ما أقام الدهر وما بقي، والأشهر في المثل:
" ما سمر ابنا سمير قالوا: السمير الدهر، وابناه الليل والنهار. وقيل: ابنا سمير الليل
والنهار، لأنه يسمر فيهما، ويقولون: لا فعله السمر والقمر، أي ما دام الناس يسمرون في
ليلة قمراء، ولا أفعله سمير الليالي، أي أبدا، قال الشنفري:
هنا لك لا أرجو حياة تسرني * سمير الليالي مبسلا بالجرائر (1)
قوله: " وما أم نجم في السماء نجما "، أي قصد وتقدم لان النجوم تتبع بعضها بعضا،
فلا بد فيها من تقدم وتأخر فلا يزال النجم يقصد نجما غيره، ولا يزال النجم يتقدم
نجما غيره.
والخدين: الصديق يقول عليه السلام: كيف تأمرونني أن أطلب النصر من الله بأن
أجور على قوم وليت عليهم! يعنى الذين لا سوابق لهم ولا شرف، وكان عمر ينقصهم في
العطاء عن غيرهم.
ثم قال عليه السلام: لو كان المال لي وأنا أفرقه بينهم لسويت، فكيف وإنما
هو مال الله وفيئه!
ثم ذكر أن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف، وقد نهى الله عنه وأنه يرفع
صاحبه عند الناس، ويضعه عند الله، وأنه لم يسلك أحد هذه المسلك إلا حرمه الله ود الذين
يتحبب إليهم بالمال، ولو احتاج إليهم يوما عند عثرة يعثرها لم يجدهم.
* * *

(1) ديوانه 36.
110

واعلم أن هذه مسألة فقهية ورأي علي عليه السلام وأبى بكر فيها واحد، وهو التسوية
بين المسلمين في قسمة الفئ والصدقات، وإلى هذا ذهب الشافعي رحمه الله، وأما عمر فإنه
لما ولى الخلافة فضل بعض الناس على بعض، ففضل السابقين على غيرهم، وفضل المهاجرين
من قريش على غيرهم من المهاجرين وفضل المهاجرين كافة على الأنصار كافة وفضل العرب
على العجم، وفضل الصريح على المولى، وقد كان أشار على أبى بكر أيام خلافته بذلك،
فلم يقبل، وقال: إن الله لم يفضل أحدا على أحد، ولكنه قال: (إنما الصدقات للفقراء
والمساكين (1))، ولم يخص قوما دون قوم فلما أفضت إليه الخلافة عمل بما كان أشار به
أولا، وقد ذهب كثير من فقهاء المسلمين إلى قوله، والمسألة محل اجتهاد، وللامام أن يعمل
بما يؤديه إليه اجتهاده، وإن كان اتباع علي عليه السلام عندنا أولى، لا سيما إذا عضده
موافقة أبى بكر على المسألة، وإن صح الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سوى فقد صارت المسألة منصوصا عليها، لان فعله عليه السلام كقوله

(1) سورة التوبة 9.
111

(127)
الأصل:
ومن كلام له عليه السلام: فإن أبيتم إلا أن تزعموا أنى أخطأت وضللت، فلم تضللون عامة أمه محمد
صلى الله عليه بضلالي، وتأخذونهم بخطئي، وتكفرونهم بذنوبي! سيوفكم على
عواتقكم تضعونها مواضع البرء والسقم، وتخلطون من أذنب بمن لم يذنب، وقد
علمتم أن رسول الله صلى الله عليه رجم الزاني المحصن، ثم صلى عليه، ثم ورثه
أهله، وقتل القاتل وورث ميراثه أهله، وقطع وجلد الزاني غير المحصن، ثم قسم
عليهما من الفئ، ونكحا المسلمات، فآخذهم رسول الله صلى الله عليه بذنوبهم
وأقام حق الله فيهم، ولم يمنعهم سهمهم من الاسلام، ولم يخرج أسماءهم من
بين أهله.
ثم أنتم شرار الناس، ومن رمى به الشيطان مراميه وضرب به تيهه.
وسيهلك في صنفان: محب مفرط يذهب به الحب إلى غير الحق، ومبغض مفرط
يذهب به البغض إلى غير الحق.
وخير الناس في حالا النمط الأوسط فالزموه، والزموا السواد الأعظم، فإن يد
الله على الجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشاذ من الناس للشيطان، كما أن الشاذ من
الغنم للذئب.
ألا من دعا إلى هذا الشعار فاقتلوه، ولو كان تحت عمامتي هذه، فإنما حكم
112

الحكمان ليحييا ما أحيا القرآن، ويميتا ما أمات القرآن، وإحياؤه الاجتماع عليه،
وإماتته الافتراق عنه، فإن جرنا القرآن إليهم اتبعناهم، وإن جرهم إلينا اتبعونا،
فلم آت لا أبا لكم بجرا، ولا ختلتكم عن أمركم، ولا لبسته عليكم.
إنما اجتمع رأى ملئكم على اختيار رجلين، أخذنا عليهما ألا يتعديا القرآن،
فتاها عنه، وتركا الحق وهما يبصرانه، وكان الجور هواهما، فمضيا عليه، وقد
سبق استثناؤنا عليهما في الحكومة بالعدل، والصمد للحق سوء رأيهما، وجور
حكمهما.
* * *
الشرح:
ليس لقائل أن يقول له عليه السلام معتذرا عن الخوارج: إنهم إنما ضللوا عامة أمة محمد
صلى الله عليه وآله، وحكموا بخطئهم وكفرهم وقتلهم بالسيف خبطا، لأنهم وافقوك في تصويب
التحكيم، وهو عندهم كفر فلم يأخذوهم بذنبك كما قلت لهم؟ وذلك لان أمير المؤمنين عليه
السلام ما قال هذه المقالة إلا لمن رأى منهم استعراض العامة، وقتل الأطفال حتى البهائم،
فقد كان منهم قوم فعلوا ذلك. وقد سبق منا شرح أفعالهم ووقائعهم بالناس، وقالوا: إن
الدار دار كفر لا يجوز الكف عن أحد من أهلها، فهؤلاء هم الذين وجه أمير المؤمنين
عليه السلام إليهم خطابه وإنكاره، دون غيرهم من فرق الخوارج.
[مذهب الخوارج في تكفير أهل الكبائر]
واعلم أن الخوارج كلها تذهب إلى تكفير أهل الكبائر، ولذلك أكفروا عليا عليه
السلام ومن اتبعه على تصويب التحكيم، وهذا الاحتجاج الذي احتج به عليهم لازم وصحيح،
لأنه لو كان صاحب الكبيرة كافرا لما صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله، ولا ورثه من
113

المسلم، ولا مكنه من نكاح المسلمات، ولا قسم عليه من الفئ، ولأخرجه عن
لفظ الاسلام.
وقد احتجت الخوارج لمذهبها بوجوه:
منها قوله تعالى: " (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن
كفر فإن الله غنى عن العالمين) (1)، قالوا: فجعل تارك الحج كافرا.
والجواب أن هذه الآية مجملة، لأنه تعالى لم يبين (ومن كفر) بماذا؟ فيحتمل أن
يريد تارك الحج، ويحتمل أن يريد تارك اعتقاد وجوبه على من استطاع إليه سبيلا، فلا بد
من الرجوع إلى دلالة، والظاهر أنه أراد لزوم الكفر لمن كفر باعتقاد كون الحج غير واجب،
ألا تراه في أول الآية قال: (ولله على الناس حج البيت)، فأنبأ عن اللزوم، ثم قال:
(ومن كفر) بلزوم ذلك! ونحن نقول: إن من لم يقل: لله على الناس حج البيت، فهو كافر.
ومنها قوله تعالى: (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) (2)،
قالوا: والفاسق لفسقه وإصراره عليه آيس من روح الله، فكان كافرا.
والجواب أنا لا نسلم أن الفاسق آيس من روح الله مع تجويزه تلافى أمره بالتوبة
والإقلاع، وإنما يكون اليأس مع القطع، وليس هذه صفة الفاسق، فأما الكافر الذي
يجحد الثواب والعقاب، فإنه آيس من روح الله، لأنه لا تخطر له التوبة والإقلاع، ويقطع
على حسن معتقده.
ومنها قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) (3) وكل مرتكب للذنوب فقد حكم بغير ما أنزل الله ولم يحكم بما أنزل الله.

(1) سورة آل عمران 97.
(2) سورة يوسف 87.
(3) سورة المائدة 44.
114

والجواب أن هذا مقصور على اليهود لان ذكرهم هو المقدم في الآية: قال سبحانه
وتعالى: (سماعون للكذب أكالون للسحت) (1) ثم قال عقيب قوله: (هم الكافرون):
(وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم) (2) فدل على أنها مقصورة على اليهود.
ومنها قوله تعالى: (فأنذرتكم نارا تلظى * لا يصلاها إلا الأشقى * الذي
كذب وتولى) (3) قالوا وقد اتفقنا مع المعتزلة على أن الفاسق يصلى النار، فوجب أن يسمى كافرا.
والجواب، أن قوله تعالى: (نارا) نكرة في سياق الاثبات فلا تعم، وأنما تعم
النكرة في سياق النفي نحو قولك: " ما في الدار من رجل "، وغير ممتنع أن يكون في
الآخرة نار مخصوصة لا يصلاها إلا الذين كذبوا وتولوا، ويكون للفساق نار
أخرى غيرها.
ومنها قوله تعالى: (وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) (4)، قالوا: والفاسق
تحيط به جهنم، فوجب أن يكون كافرا.
والجواب أن لم يقل سبحانه: " وإن جهنم لا تحيط إلا بالكافرين " وليس يلزم
من كونها محيطة بقوم ألا تحيط بقوم سواهم. ومنها قوله سبحانه: (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت
وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) (5). قالوا:

(1) سورة المائدة 43.
(2) سورة المائدة 46.
(3) سورة الليل 14 - 16.
(4) سورة التوبة 49.
(5) سورة آل عمران 107.
115

والفاسق لا يجوز أن يكون ممن ابيضت وجوههم، فوجب أن يكون ممن اسودت،
ووجب أن يسمى كافرا، لقوله: بما كنتم تكفرون.
والجواب أن هذه القسمة ليست متقابلة، فيجوز أن يكون المكلفون ثلاثة أقسام:
بيض الوجوه، وسود الوجوه، وصنف آخر ثالث بين اللونين وهم الفساق.
ومنها قوله تعالى: (وجوه يومئذ مسفرة ضاحكه مستبشرة * ووجوه يومئذ
عليها غبرة * ترهقها قترة * أولئك هم الكفرة الفجرة) (1). قالوا: والفاسق على
وجهه غبرة، فوجب أن يكون من الكفرة والفجرة. والجواب أنه يجوز أن يكون الفساق قسما ثالثا لا غبرة على وجوههم، ولا هي مسفرة
ضاحكة، بل على ما كانت عليه في دار الدنيا. ومنها قوله تعالى: (ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور) (2)
قالوا: والفاسق لابد أن يجازى، فوجب أن يكون كفورا.
والجواب، أن المراد بذلك: " وهل نجازي بعقاب الاستئصال إلا الكفور "!
لان الآية وردت في قصة أهل سبأ، لكونهم استؤصلوا بالعقوبة. ومنها أنه تعالى قال: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من
الغاوين (3) وقال في آية أخرى: (إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به
مشركون (4) فجعل الغاوي الذي يتبعه مشركا. والجواب أنا لا نسلم أن لفظة " إنما " تفيد الحصر وأيضا فإنه عطف قوله:

(1) سورة عبس 38 - 42.
(2) سورة سبأ 47.
(3) سورة الحجر 42.
(4) سورة النحل 100.
116

(والذين هم به مشركون) على قوله: (الذين يتولونه)، فوجب أن يثبت التغاير
بين الفريقين وهذا مذهبنا لان الذين يتولونه هم الفساق، والذين هم به مشركون
هم الكفار.
ومنها قوله تعالى: " وأما الذين فسقوا فمأواهم النار) إلى قوله تعالى: (وقيل لهم
ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون) (1) فجعل الفاسق مكذبا.
والجواب، أن المراد به الذين فسقوا عن الدين، أي خرجوا عنه بكفرهم، ولا شبهة أن من كان فسقه من هذا
الوجه فهو كافر مكذب، ولا يلزم منه أن كل فاسق على الاطلاق
فهو مكذب وكافر.
ومنها قوله تعالى: (ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) (2)، قالوا: فأثبت
الظالم جاحدا، وهذه صفة الكفار.
والجواب أن المكلف قد يكون ظالما بالسرقة والزنا، وإن كان عارفا بالله تعالى، وإذا
جاز إثبات ظالم ليس بكافر ولا جاحد بآيات الله تعالى، جاز إثبات فاسق ليس بكافر.
ومنها قوله تعالى: (ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) (3).
والجواب أن هذه الآية تدل على أن الكافر فاسق، ولا تدل على أن
الفاسق كافر.
ومنها قوله تعالى: (فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت
موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون * تلفح وجوههم النار
وهم فيها كالحون * ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون) (4).

(1) سورة السجدة 20.
(2) سورة الأنعام 33.
(3) سورة النور 55.
(4) سورة الأعراف 102 - 105.
117

فنص سبحانه على أن من تخف موازينه يكون مكذبا، والفاسق تخف موازينه، فكان
مكذبا، وكل مكذب كافر. والجواب أن ذلك لا يمنع من قسم ثالث، وهم الذين لا تخف موازينهم ولا تثقل،
وهم الفساق، ولا يلزم من كون كل من خفت موازينه يدخل النار ألا يدخل النار إلا من
خفت موازينه.
ومنها قوله تعالى: (هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن) (1)
وهذا يقتضى أن من لا يكون مؤمنا فهو كافر والفاسق ليس بمؤمن، فوجب أن يكون كافرا.
والجواب أن " من " هاهنا للتبعيض، وليس في ذكر التبعيض نفى الثالث، كما أن قوله:
(فمنهم من يمشى على رجلين ومنهم يمشى على أربع) (2)، لا ينفى وجود دابة
تمشى على أكثر من أربع كبعض الحشرات.
* * *
ثم نعود إلى الشرح:
قوله عليه السلام: " ومن رمى به الشيطان مراميه "، أي أضله، كأنه رمى به مرمى
بعيدا، فضل عن الطريق، ولم يهتد إليها.
قوله: " وضرب به تيهه " أي حيره وجعله تائها.
ثم قال عليه السلام: يهلك في رجلان، فأحدهما من أفرط حبه له واعتقاده فيه حتى
ادعى له الحلول كما ادعت النصارى ذلك في المسيح عليه السلام، والثاني من أفرط بغضه له،
حتى حاربه، أو لعنه، أو برئ منه، أو أبغضه، هذه المراتب الأربع، والبغض أدناها، وهو

(1) سورة التغابن 2.
(2) سورة النور 45.
118

موبق مهلك، وفي الخبر الصحيح المتفق عليه أنه لا يحبه إلا مؤمن، ولا يبغضه إلا منافق،
وحسبك بهذا الخبر، ففيه وحده كفاية.
[فصل في ذكر الغلاة من الشيعة والنصيرية وغيرهم]
فأما الغلاة فيه فهالكون كما هلك الغلاة في عيسى عليه السلام. وقد روى المحدثون
أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال له عليه السلام: " فيك مثل من عيسى بن مريم،
أبغضته اليهود فبهتت أمه، وأحبته النصارى فرفعته فوق قدره "، وقد كان أمير المؤمنين
عثر على قوم من أصحابه خرجوا من حد محبته باستحواذ الشيطان عليهم إ أن كفروا
بربهم، وجحدوا ما جاء به نبيهم، فاتخذوه ربا وادعوه إلها، وقالوا له: أنت خالقنا ورازقنا،
فاستتابهم، واستأنى وتوعدهم، فأقاموا على قولهم، فحفر لهم حفرا دخن عليهم فيها، طمعا في
رجوعهم، فأبوا فحرقهم، وقال:
ألا تروني قد حفرت حفرا (1) * إني إذا رأيت أمرا منكرا
* أوقدت ناري ودعوت قنبرا *
وروى أبو العباس أحمد بن عبيد الله بن عمار الثقفي، عن محمد بن سليمان بن حبيب
المصيصي، المعروف بنوين وروى أيضا عن علي بن محمد النوفلي عن مشيخته، أن عليا عليه
السلام مر بقوم وهم يأكلون في شهر رمضان نهارا، فقال: أسفر أم مرضى؟ قالوا:
لا ولا واحدة منهما، قال: فمن أهل الكتاب أنتم فتعصمكم الذمة والجزية؟ قالوا: لا،
قال: فما بال الاكل في نهار رمضان؟ فقاموا إليه، فقالوا: أنت أنت! يومون إلى ربوبيته،
فنزل عليه السلام عن فرسه، فألصق خده بالأرض، وقال: ويلكم! إنما عبد من
عبيد الله، فاتقوا الله وارجعوا إلى الاسلام. فأبوا فدعاهم مرارا، فأقاموا على كفرهم
فنهض إليهم، وقال شدوهم وثاقا وعلى بالفعلة والنار والحطب ثم أمر بحفر بئرين

(1) الحفر: البئر الواسعة.
119

فحفرتا فعجل، أحداهما سربا والأخرى مكشوفة، وألقى الحطب في المكشوفة، وفتح بينهما
فتحا، وألقى النار في الحطب، فدخن عليهم، وجعل يهتف بهم ويناشدهم ليرجعوا إلى
الاسلام، فأبوا، فأمر بالحطب والنار فألقى عليهم، فأحرقوا، فقال الشاعر:
لترم بي المنية حيث شاءت * إذا لم ترمني في الحفرتين
إذا ما حشتا حطبا بنار * فذاك الموت نقدا غير دين.
قال: فلم يبرح عليه السلام حتى صاروا حمما.
ثم استترت هذه المقالة سنة أو نحوها، ثم ظهر عبد الله بن سبأ، وكان يهوديا يتستر
بالاسلام بعد وفاة أمير المؤمنين عليه السلام فأظهرها واتبعه قوم فسموا السبئية (1)،
وقالوا: إن عليا عليه السلام لم يمت، وإنه في السماء، والرعد صوته والبرق صوته، وإذا
سمعوا صوت الرعد قالوا: السلام عليك يا أمير المؤمنين! وقالوا في رسول الله صلى الله
عليه وآله أغلظ قول، وافتروا عليه أعظم فرية، فقالوا: كتم تسعة أعشار الوحي، فنعى
عليهم قولهم الحسن بن علي بن محمد بن الحنفية رضي الله عنه في رسالته، التي يذكر فيها
الارجاء رواها عنه سليمان بن أبي شيخ، عن الهيثم بن معاوية، عن عبد العزيز بن أبان،
عن عبد الواحد بن أيمن المكي، قال: شهدت الحسن بن علي بن محمد بن الحنفية يملي
هذه الرسالة فذكرها وقال فيها ومن قول هذه السبئية هدينا لوحي ضل عنه الناس،
وعلم خفى عنهم وزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتم تسعه أعشار الوحي ولو كتم صلى الله
عليه وآله شيئا مما أنزل الله عليه لكتم شأن امرأة زيد، وقوله تعالى: (تبتغى
مرضات أزواجك) (2).

(1) والسبئية هم أول فرقة قالت بالتوقف والغيبة والرجعة، وقالت بتناسخ الجزء الإلهي بعد علي رضي الله عنه
. وانظر الملل والنحل للشهرستاني 1: 154، 155.
(2) سورة التحريم 1
120

ثم ظهر المغيرة بن سعيد (1) مولى بجيلة، فأراد أن يحدث لنفسه مقالة يستهوي بها
قوما، وينال بها ما يريد الظفر به من الدنيا، فغلا في علي عليه السلام، وقال: لو شاء على
لأحيا عادا وثمود وقرونا بين ذلك كثيرا.
وروى علي بن محمد النوفلي، قال جاء المغيرة بن سعيد، فاستأذن على أبى جعفر محمد
ابن علي بن الحسين، وقال له: أخبر الناس أنى أعلم الغيب، وأنا أطعمك العراق.
فزجره أبو جعفر زجرا شديدا، وأسمعه ماكره، فانصرف عنه، فأتى أبا هاشم عبد الله
ابن محمد بن الحنفية رحمه الله، فقال له مثل ذلك - وكان أبو هاشم أيدا - فوثب عليه
فضربه ضربا شديدا أشفى به على الموت، فتعالج حتى برئ، ثم أتى محمد بن عبد الله
ابن الحسن بن الحسن رحمه الله - وكان محمد سكيتا (2) - فقال له كما قال للرجلين، فسكت
محمد فلم يجبه، فخرج وقد طمع فيه بسكوته، وقال: أشهد أن هذا هو المهدى الذي
بشر به رسول الله صلى الله عليه وآله، وأنه قائم أهل البيت، وادعى أن علي بن الحسين
عليه السلام أوصى إلى محمد بن عبد الله بن الحسن. ثم قدم المغيرة الكوفة، وكان
مشعبذا، فدعا الناس إلى قوله، واستهواهم واستغواهم، فاتبعه خلق كثير، وادعى، على محمد
ابن عبد الله أنه أذن له في خنق الناس وإسقائهم السموم، وبث أصحابه في الاسفار يفعلون
ذلك بالناس، فقال له بعض أصحابه: إنا نخنق من لا نعرف، فقال: لا عليكم! إن كان
من أصحابكم عجلتموه إلى الجنة، وأن كان من عدوكم عجلتموه إلى النار، ولهذا السبب
كان المنصور يسمى محمد بن عبد الله الخناق، وينحله ما ادعاه عليه المغيرة.
ثم تفاقم أمر الغلاة بعد المغيرة وأمعنوا في الغلو، فادعوا حلول الذات الإلهية

(1) هو المنيرة بن سعيد العجلي، مولى خالد بن عبد الله القسري، وادعى الإمامة لنفسه بعد الإمام محمد
بن علي بن الحسين، وبعد ذلك ادعى النبوة ادعى النبوة لنفسه، واستحل المحارم، وغلا في علي غلوا لا يعتقده عاقل،
وزاد على ذلك قوله بالتشبيه. الشهرستاني 1: 155.
(2) السكيت، على التصغير: الكثير السكوت.
121

المقدسة في قوم من سلالة أمير المؤمنين عليه السلام، وقالوا بالتناسخ وجحدوا البعث
والنشور، وأسقطوا الثواب والعقاب، وقال قوم منهم: إن الثواب والعقاب إنما هو ملاذ
هذه الدنيا ومشاقها، وتولدت من هذه المذاهب القديمة التي قال بها سلفهم مذاهب أفحش
منها قال بها خلفهم، حتى صاروا إلى المقالة المعروفة بالنصيرية (1)، وهي التي أحدثها محمد
ابن نصير النميري، وكان من أصحاب الحسن العسكري عليه السلام، والمقالة المعروفة
بالإسحاقية وهي التي أحدثها إسحاق بن زيد بن الحارث، وكان من أصحاب عبد الله
ابن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، كان يقول بالإباحة وإسقاط التكاليف،
ويثبت لعلى عليه السلام شركة مع رسول الله صلى الله عليه وآله في النبوة على وجه غير
هذا الظاهر الذي يعرفه الناس، وكان محمد بن نصير من أصحاب الحسن بن علي بن محمد
ابن الرضا، فلما مات ادعى وكالة لابن الحسن الذي تقول الإمامية بإمامته، ففضحه
الله تعالى بما أظهره من الالحاد والغلو والقول بتناسخ الأرواح، ثم ادعى أنه رسول الله
ونبي من قبل الله تعالى، وأنه أرسله علي بن محمد بن الرضا، وجحد إمامة الحسن العسكري
وإمامة ابنه، وادعى بعد ذلك الربوبية، وقال بإباحة، المحارم.
وللغلاة أقوال كثيرة طويلة عريضة، وقد رأيت أنا جماعة منهم، وسمعت أقوالهم،
ولم أر فيهم محصلا، ولا من يستحق أن يخاطب، وسوف أستقصي ذكر فرق الغلاة
وأقوالهم في الكتاب الذي كنت متشاغلا بجمعه، وقطعني عنه اهتمامي بهذا الشرح، وهو
الكتاب المسمى " بمقالات الشيعة " إن شاء الله تعالى.
* * *
قوله عليه السلام: " والزموا السواد الأعظم، وهو الجماعة وقد جاء في الخبر عن

(1) انظر الشهرستاني 1: 168، 169.
122

رسول الله صلى الله عليه وآله هذه اللفظة التي ذكرها عليه السلام، وهي: " يد الله على الجماعة
ولا يبالي بشذوذ من شذ " وجاء في معناها كثير، نحو قوله عليه السلام: " الشيطان مع
الواحد وهو من الاثنين أبعد "، وقوله: " لا تجتمع أمتي على خطأ "، وقوله: سألت
الله إلا تجتمع أمتي على خطأ، فأعطانيها "، وقوله: ما رآه المسلمين حسنا فهو عند الله حسن "، وقوله: " لا تجتمع أمتي على ضلالة "، و " سألت ربى إلا تجتمع أمتي على ضلالة فأعطانيها ". و " لم يكن الله ليجمع أمتي على ضلال ولا خطأ ".
وقوله عليه السلام: " عليكم بالسواد الأعظم "، وقوله: " من خرج من الجماعة قيد
شبر فقد خلع ربقة الاسلام عن عنقه ".
وقوله: من فارق الجماعة مات ميتة جاهلية ". وقوله: " من سره بحبوحة الجنة
فليلزم الجماعة ".
والاخبار في هذا المعنى كثيرة جدا.
ثم قال عليه السلام من دعا إلى هذا الشعار فاقتلوه "، يعنى شعار الخوارج، وكان
شعارهم أنهم يحلقون وسط رؤوسهم ويبقى الشعر مستديرا حوله كالإكليل.
قال: " ولو كان تحت عمامتي هذه - أي لو اعتصم واحتمى بأعظم الأشياء حرمة - فلا
تكفوا عن قتله.
ثم ذكر أنه إنما حكم الحكمان ليحييا ما أحياه القرآن أي ليجتمعا على ما شهد القرآن
باستصوابه واستصلاحه، ويميتا ما أماته القرآن، أي ليفترقا ويصدا وينكلا عما كرهه
القرآن، وشهد بضلاله.
والبجر، بضم الباء: الشر العظيم، قال الراجز:
* أرمى عليها وهي شئ بجر
123

أي داهية.
ولاختلتكم: أي خدعتكم، ختله وخاتله: أي خدعة والتخاتل: التخادع. ولا لبسته عليكم، أي جعلته مشتبها ملتبسا، ألبست عليهم الامر
ألبسه بالكسر. والملا: الجماعة من الناس. والصمد: القصد.
قال: سبق شرطنا سوء رأيهما، لأنا اشترطنا عليهما في كتاب الحكومة مالا مضرة
علينا، مع تأمله فيما فعلاه من اتباع الهوى وترك النصيحة للمسلمين
124

(128)
الأصل:
ومن كلام له عليه السلام فيما يخبر به عن الملاحم بالبصرة:
يا أحنف، كأني به وقد سار بالجيش الذي لا يكون له غبار ولا لجب
ولا قعقعة لجم، ولا حمحمة خيل، يثيرون الأرض بأقدامهم كأنها
أقدام النعام.
- قال الشريف الرضى أبو الحسن رحمه الله تعالى: يومئ بذلك إلى
صاحب الزنج -
* * *
ثم قال عليه السلام:
ويل لسكككم العامرة والدور المزخرفة، التي لها أجنحة كأجنحة
النسور، وخراطيم كخراطيم الفيلة، من أولئك الذين لا يندب قتيلهم، ولا يفقد
غائبهم.
إنا كأب الدنيا لوجهها، وقادرها بقدرها، وناظرها بعينها!
الشرح:
اللجب الصوت. والدور المزخرفة: المزينة المموهة بالزخرف، وهو الذهب.
وأجنحة الدور التي شبهها بأجنحة النسور: رواشينها. والخراطيم: ميازيبها.
125

وقوله: " لا يندب قتيلهم ": ليس يريد به من يقتلونه، بل القتيل منهم، وذلك لان
أكثر الزنج الذين أشار إليهم، كانوا عبيدا لدهاقين البصرة وبناتها، ولم يكونوا ذوي
زوجات وأولاد، بل كانوا على هيئة الشطار عزابا فلا نادبة لهم.
وقوله: " ولا يفقد غائبهم "، يريد به كثرتهم وأنهم كلما قتل منهم قتيل سد مسدة غيره،
فلا يظهر أثر فقده.
وقوله: " أنا كأب الدنيا لوجهها " مثل الكلمات المحكية عن عيسى عليه السلام:
أنا الذي كببت الدنيا على وجهها ليس، لي زوجة تموت، ولا بيت يخرب، وسادي الحجر
وفراشي المدر، وسراجي القمر.
* * *
[أخبار صاحب الزنج وفتنته وما انتحله من عقائد]
فأما صاحب الزنج (1) هذا فإنه ظهر في فرات البصرة في سنة خمس وخمسين ومائتين
رجل زعم أنه علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي
طالب عليه السلام فتبعه الزنج الذين كانوا يكسحون (2) السباخ في البصرة.
وأكثر الناس يقدحون في نسبه وخصوصا الطالبيين.. وجمهور النسابين اتفقوا على

(1) ذكره صاحب الاعلام فقال: " علي بن محمد الورزنيني العلوي، الملقب بصاحب الزنج، من كبار
أصحاب الفتن في العهد العباسي، وفتنته معروفة بفتنة الزنج، لان أكثر أنصاره منهم. ولد ونشأ في
ورزنين، إحدى قرى الري، وظهر في أيام المهتدي بالله العباسي، سنة 255 ه‍، وكان يرى رأى
الأزارقة، والتف حوله سودان أهل البصرة ورعاعها، فامتلكها واستولى على الأبلة، وتتابعت لقتاله
الجيوش، فكان يظهر عليها ويشتتها، ونزل البطائح، وامتلك الأهواز، وأغار على واسط، وبلغ
عدد جيشه ثمانمائة ألف مقاتل، وجعل مقامه في قصر اتخذه بالمختارة، وعجز عن قتاله الخلفاء، حتى ظفر
به الموفق بالله، فقتله، وبعث برأسه إلى بغداد. قال المرزباني: تروى له أشعار كثيرة في البسالة والفتك
كان يقولها وينحلها غيره، وفي نسبه العلوي طعن وخلاف.
(2) كسح البيت: كنسه، ثم استعير لتنقية البئر والنهر وغيره.
126

أنه من عبد القيس، وأنه علي بن محمد بن عبد الرحيم، وأمه سدية من أسد بن خزيمة،
جدها محمد بن حكيم الأسدي، من أهل الكوفة، أحد الخارجين مع زيد بن علي
بن الحسين عليه السلام على هشام بن عبد الملك، فلما قتل زيد، هرب فلحق بالري
وجاء إلى القرية التي يقال لها ورزنين، فأقام بها مدة، وبهذه القرية ولد علي بن محمد
صاحب الزنج، وبها منشؤه، وكان أبو أبيه المسمى عبد الرحيم رجلا من عبد القيس،
كان مولده بالطالقان، فقدم العراق، واشترى جارية سندية، فأولدها محمدا أباه.
وكان على هذا متصلا بجماعة من حاشية السلطان وخول بنى العباس، منهم غانم
الشطرنجي، وسعيد الصغير، وبشير (1)، خادم المنتصر، وكان منهم معاشه ومن قوم من
كتاب الدولة يمدحهم ويستمنحهم بشعره، ويعلم الصبيان الخط والنحو والنجوم، وكان
حسن الشعر (2) مطوعا عليه، فصيح اللهجة بعيد الهمة، تسمو نفسه إلى معالي الأمور،
ولا يجد إليها سبيلا، ومن شعره القصيدة المشهورة التي أولها

(1) الطبري: " بشر ".
(2) وذكره المرزباني في معجم الشعراء 29، وقال: تروى له أشعار كثيرة في البسالة والفتك،
سمعت ابن دريد يذكر أنها - أو أكثرها - له، لأنه كان يقولها وينحلها لغيره، وقرئت عليه بحضرتي
فاغترف بها. قال: وفيما يروى لعلى لما هرب من الدار التي كان فيها في اليوم الذي قتل فيه:
عليك سلام الله يا خير منزل * خرجنا وخلفناه غير ذميم
فإن تكن الأيام أحدثن فرقة * فمن ذا الذي من ريبهن سليم.
وله:
لهف نفسي على قصور ببغداد *، وما قد حوته كل عاص
وخمور هناك تشرب جهرا * ورجال على المعاصي حراص
لست بابن الفواطم الغر إن لم * أجل الخيل حول تلك العراص
لست بابن الفواطم الغر إن لن * أجل الخيل حول تلك العراص
127

رأيت المقام على الاقتصاد * قنوعا به ذلة في العباد
ومن جملتها:
إذا النار ضاق بها زندها * ففسحتها في فراق الزناد
إذا صارم قر في غمده * حوى غيره السبق يوم الجلاد.
ومن الشعر المنسوب إليه:
وإنا لتصبح أسيافنا * إذا ما انتضين ليوم سفوك
منابرهن بطون الأكف * وأغمادهن رؤوس الملوك
ومن شعره في الغزل:
ولما تبينت المنازل بالحمى * ولم أقض منها حاجة المتورد
زفرت إليها زفرة لو حشوتها * سرابيل أبدان الحديد المسرد (1)
لرقت حواشيها، وظلت متونها * تلين كما لانت لداود في اليد
ومن شعره أيضا:
وإذا تنازعني أقول لها قرى * موت يريحك أو صعود المنبر
ما قد قضى سيكون فاصطبري له * ولك الأمان من الذي لم يقدر
* * *
وقد ذكر المسعودي في كتابه المسمى " مروج الذهب "، أن أفعال علي بن محمد صاحب
الزنج، تدل على أنه لم يكن طالبيا، وتصدق ما رمى به من دعوته في النسب، لان ظاهر
حاله كان ذهابه إلى مذهب الأزارقة، في قتل النساء والأطفال والشيخ الفاني والمريض،

(1) البدن: الدرع القصيرة، وجمعه أبدان.
128

وقد روى أنه خطب مرة، فقال في أول خطبته: " لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر
لا حكم إلا لله "، وكان يرى الذنوب كلها شركا (1).
ومن الناس من يطعن في دينه ويرميه بالزندقة والالحاد، وهذا هو الظاهر من أمره،
لأنه كان متشاغلا في بدايته بالتنجيم والسحر والإصطرلابات.
* * *
وذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (2)، أن علي بن محمد شخص من سامراء
وكان يعلم الصبيان بها، ويمدح الكتاب، ويستميح الناس، في سنة تسع وأربعين ومائتين
إلى البحرين، فادعى بها أنه علي بن محمد بن الفضل بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن علي
ابن أبي طالب عليه السلام، ودعا الناس بهجر إلى طاعته، فاتبعه جماعة كثيرة من أهلها،
واتبعه (3) جماعة أخرى، فكانت بسببه بين الذين اتبعوه والذين أبوه عصبية، قتل
فيها بينهم جماعة، فانتقل عنهم لما حدث ذلك إلى الأحساء، وضوى (4) إلى حي من
بنى تميم، ثم من بنى سعد يقال لهم بنو الشماس، فكان بينهم مقامه، وقد كان أهل
البحرين أحلوه من أنفسهم محل النبي صلى الله عليه وآله - فيما ذكر - حتى جبي له الخراج
هنالك ونفذ حكمه فيهم، وقاتلوا أسباب السلطان لأجله، ووتر منهم جماعة كثيرة فتنكروا
له، فتحول عنهم إلى البادية، ولما انتقل إلى البادية صحبه جماعة من أهل البحرين، منهم
رجل كيال من أهل الأحساء، يقال له يحيى بن محمد الأزرق، مولى بنى دارم، ويحيى بن أبي

(1) مروج الذهب 4: 194، 195.
(2) تاريخ الطبري 3: 1743 وما بعدها (طبع أوروبا).
(3) في الطبري: " وأبته جماعة أخر ".
(4) ضوي: التجأ وانضم.
129

تغلب، وكان تاجرا من أهل هجر وبعض موالي بنى حنظلة، أسود يقال له سليمان
ابن جامع، وكان قائد جيشه حيث كان بالبحرين.
ثم تنقل في البادية من حي إلى حي، فذكر عنه أنه كان يقول: أوتيت في تلك
الأيام آيات من آيات إما متى، منها أنى لقيت سورا من القرآن لم أكن أحفظها، فجرى بها
لساني في ساعة واحدة منها " سبحان " و " الكهف " و " صاد "، ومنها أنى ألقيت نفسي
على فراشي، وجعلت أفكر في الموضع الذي أقصد له، وأجعل مقامي به إذا نبت البادية بي.
وضقت ذرعا بسوء طاعة أهلها، فأظلتني سحابة، فبرقت ورعدت، واتصل صوت الرعد
منها بسمعي، فخوطبت فقيل لي: اقصد البصرة، فقلت لأصحابي وهم يكتنفونني: إني أمرت
بصوت من هذا الرعد بالمصير إلى البصرة.
وذكر عنه أنه عند مصيره إلى البادية أوهم أهلها أنه يحيى بن عمر أبو الحسين (1)
المقتول بناحية الكوفة في أيام المستعين، فاختدع بذلك قوما منهم، حتى اجتمع عليه
منهم جماعة، فزحف بهم إلى موضع من البحرين، يقال له الردم، فكانت بينه وبين أهله
وقعة عظيمة كانت، الدبرة (2) فيها عليه وعلى أصحابه، قتلوا فيها قتلا ذريعا فتفرقت عنه
العرب وكرهته، وتجنبت صحبته.
فلما تفرقت العرب عنه ونبت به البادية، شخص عنها إلى البصرة، فنزل بها في بنى
ضبيعة فاتبعه بها جماعة، منهم علي بن أبان المعروف بالمهلبي من ولد المهلب بن أبي
صفرة، وأخواه محمد والخليل وغيرهم، وكان قدومه البصرة في سنة أربع وخمسين ومائتين

(1) هو يحيى بن عمر بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، خرج في أيام
المتوكل، وقتل في أيام المستعين سنة 250، ورثاه الشعراء. قال أبو الفرج: وما بلغني أن أحدا ممن
قتل في الدولة العباسية من آل أبي طالب رثى بأكثر مما رثى به يحيى، ولا قيل فيه الشعر بأكثر مما
قيل فيه. وانظر أخباره في مقاتل الطالبيين 639 - 664.
(2) في الطبري: " الدائرة "، وهما بمعنى.
130

وعامل السلطان بها يومئذ محمد بن رجاء، ووافق ذلك فتنة أهل البصرة بالبلالية والسعدية فطمع في أحد الفريقين أن يميل إليه، فأرسل أربعة من أصحابه يدعون إليه، وهم محمد
ابن سلم القصاب الهجري وبريش القريعي وعلى الضراب، والحسين الصيدناني، وهم
الذين كانوا صحبوه بالبحرين فلم يستجب لهم أحد من أهل البلد، وثار عليهم الجند
فتفرقوا، وخرج علي بن محمد من البصرة هاربا، وطلبه ابن رجاء فلم يقدر عليه وأخبر
ابن رجاء بميل جماعة من أهل البصرة إليه، فأخذهم فحبسهم وحبس معهم زوجة على
ابن محمد، وابنه الأكبر، وجارية له كانت حاملا، ومضى علي بن محمد لوجهه يريد بغداد
ومعه قوم من خاصته، منهم محمد بن سلم، ويحيى بن محمد، وسليمان بن جامع، وبريش
القريعي، فلما صاروا بالبطيحة، نذر بهم بعض موالي الباهليين، كان يلي أمر البطيحة، فأخذهم وحملهم إلى محمد بن أبي عون وهو عامل السلطان بواسط، فاحتال لابن أبي
عون حتى تخلص هو وأصحابه من يده، ثم صار إلى بغداد فأقام بها سنة، وانتسب في
هذه السنة إلى محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد، وكان يزعم أنه ظهر له أيام مقامه ببغداد في
هذه السنة آيات، وعرف ما في ضمائر أصحابه وما يفعله كل واحد منهم، وأنه سأل ربه أن
يعلمه حقيقة أمور كانت في نفسه، فرأى كتابا يكتب له على حائط، ولا يرى
شخص كاتبه.
* * *
قال أبو جعفر: واستمال ببغداد جماعة منهم جعفر بن محمد الصوحاني، من ولد زيد
ابن صوحان العبدي، ومحمد بن القاسم وغلامان لبني خاقان (1)، وهما مشرق ورفيق، فسمى
مشرقا حمزة وكناه أبا أحمد، وسمى رفيقا جعفرا وكناه أبا الفضل: فلما انقضى عامه ذلك
ببغداد، عزل محمد بن رجاء عن البصرة، فوثبت رؤساء الفتنة بها من البلالية والسعدية،

(1) الطبري: " وغلاما يحيى بن عبد الرحمن بن خاقان ".
131

ففتحوا المحابس، وأطلقوا من كان فيها فتخلص أهله وولده فيمن تخلص، فلما بلغه ذلك
شخص عن بغداد، فكان رجوعه إلى البصرة في شهر رمضان من سنة خمس وخمسين ومائتين
ومعه علي بن أبان المهلبي، وقد كان لحق به وهو بمدينة السلام مشرق ورفيق، وأربعة أخر
من خواصه، وهم يحيى بن محمد، ومحمد بن سلم وسليمان بن جامع وأبو يعقوب المعروف
بجربان، فساروا جميعا حتى نزلوا بالموضع المعروف ببرنخل من أرض البصرة في قصر
هناك يعرف بقصر القرشي على نهر يعرف بعمود بن المنجم، كان بنو موسى بن المنجم
احتفروه، وأظهر أنه وكيل لولد الواثق في بيع ما يملكونه هناك من السباخ.
قال أبو جعفر: فذكر عن ريحان بن صالح، أحد غلمان الشورجيين الزنوج، وهو
أول من صحبه منهم، قال: كنت موكلا بغلمان مولاي، أنقل الدقيق إليهم فمررت به
وهو مقيم بقصر القرشي يظهر الوكالة لأولاد الواثق، فأخذني أصحابه وصاروا بي إليه،
وأمروني بالتسليم عليه بالإمرة ففعلت ذلك، فسألني عن الموضع الذي جئت منه،
فأخبرته أنى أقبلت من البصرة فقال: هل سمعت لنا بالبصرة خبرا؟ قلت: لا، قال:
فخبر البلالية والسعدية قلت: لم أسمع لهم خبرا، فسألني عن غلمان الشورجيين وما يجرى
لكل جماعه منهم من الدقيق والسويق والتمر، وعمن يعمل في الشورج من الأحرار والعبيد، فأعلمته ذلك، فدعاني إلى ما هو عليه، فأجبته فقال لي: احتل فيمن قدرت
عليه من الغلمان، فأقبل بهم إلى. ووعدني أن يقودني على من آتيه به منهم، وأن
يحسن إلى واستحلفني ألا أعلم أحدا بموضعه، وأن أرجع إليه، فخلى سبيلي، فأتيت
بالدقيق الذي معي إلى غلمان مولاي، وأخبرتهم خبره، وأخذت له البيعة عليهم، ووعدتهم
عنه بالاحسان والغنى، ورجعت إليه من غد ذلك اليوم، وقد وافاه رفيق غلام الخاقانية (1).

(1) في الطبري: " غلام يحيى بن عبد الرحمن ".
132

وقد كان وجهه إلى البصرة، يدعو إليه غلمان الشورج (1)، ووافى إليه صاحب له آخر
يعرف بشبل بن سالم (2، قد كان دعا إليه قوما منهم أيضا 2)، وأحضر معه حريرة
كان أمره بابتياعها، ليتخذها لواء، فكتب فيها بالحمرة (3): (إن الله اشترى من
المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله) الآية، وكتب
اسمه واسم أبيه عليها، وعلقها في رأس مردي (4)، وخرج وقت السحر من ليلة السبت
لليلتين بقيتا من شهر رمضان، فلما صار إلى مؤخر القصر الذي كان فيه، لقيه غلمان رجل من
الشورجيين، يعرف بالعطار [متوجهين إلى أعمالهم] (5) فأمر بأخذ وكيلهم، فأخذ وكتف،
واستضم غلمانه إلى غلمانه، وكانوا خمسين غلاما، ثم صار إلى الموضع المعروف بالسنائي
فاتبعه الغلمان الذين كانوا فيه، وهم خمسمائة غلام فيهم الغلام المعروف بأبي حديد، وأمر
بأخذ وكيلهم، وكتفه ثم مضى إلى الموضع المعروف بالسيرافي، فاتبعه من كان فيه من
غلمان، وهم مائة وخمسون غلاما، منهم زريق وأبو الخنجر، ثم صار إلى الموضع المعروف
بسبخة ابن عطاء، فأخذ طريفا، وصبيحا الأعسر، وراشدا المغربي، وراشدا القرمطي؟ (6)؟،
وكل هؤلاء من وجوه الزنج وأعيانهم الذين صاروا قوادا وأمراء في جيوشه، وأخذ معهم
ثمانين غلاما.
ثم أتى إلى الموضع المعروف بغلام سهل الطحان، فاستضاف من كان به من الغلمان،
ثم لم يزل يفعل مثل ذلك في يومه حتى اجتمع إليه بشر كثير من الزنج، ثم قام فيهم

(1) الطبري: " في حوائج من حوائجه ".
(2 - 2) الطبري: " وكان من غلمان الدباسين ".
(3) الطبري: " بحمرة وخضرة ".
(4) المردي: خشبة تدفع بها السفينة.
(5) من الطبري.
(6) الطبري: " القرماطي ".
133

آخر الليل خطيبا، فمناهم ووعدهم أن يقودهم ويرأسهم ويملكهم الأموال والضياع،
وحلف لهم بالايمان الغليظة ألا يغدر بهم، ولا يخذلهم، ولا يدع شيئا من الاحسان
إلا أتى إليهم.
ثم دعا وكلاءهم، فقال: قد أردت ضرب أعناقكم لما كنتم تأتون إلى هؤلاء الغلمان
الذين استضعفتموهم وقهرتموهم، وفعلتم بهم ما حرم الله عليكم أن تفعلوه بهم، وكلفتموهم
مالا يطيقونه، فكلمني أصحابي فيكم، فرأيت إطلاقكم.
فقالوا له: أصلحك الله! إن هؤلاء الغلمان أباق (1)، وإنهم سيهربون منك
فلا يبقون عليك ولا علينا، فخذ من مواليهم مالا، وأطلقهم.
فأمر الغلمان فأحضروا شطوبا (2)، ثم بطح كل قوم وكيلهم، فضرب كل رجل
منهم خمسمائة شطبة، [وأحلفهم بطلاق نسائهم ألا يعلموا أحدا بموضعه] (3)، ثم أطلقهم
فمضوا نحو البصرة ومضى رجل منهم حتى عبر دجيل الأهواز، فأنذر الشورجيين ليحفظوا
غلمانهم، وكان هناك خمسة عشر ألف غلام زنجي (4)، ثم سار، وعبر دجيلا، وسار
إلى نهر ميمون بأصحابه، واجتمع إليه السودان من كل جهة.
فلما كان يوم الفطر جمعهم وخطب خطبة ذكر فيها ما كانوا عليه من سوء الحال،
وأن الله تعالى قد استنقذهم من ذلك، وأنه يريد أن يرفع أقدارهم، ويملكهم العبيد
والأموال والمنازل، ويبلغ بهم أعلى الأمور، ثم حلف لهم على ذلك. فلما فرغ من خطبته

(1) أباق: هاربون.
(2) الشطوب: جريد النخل المجفف.
(3) من الطبري.
(4) في الطبري: " يقال له عبد الله، ويعرف بكريخا ".
134

أمر الذين فهموا عنه قوله أن يفهموه من لا فهم له من عجمهم، لتطيب بذلك أنفسهم،
ففعلوا ذلك.
* * *
قال أبو جعفر: فلما كان في اليوم الثالث من شوال، وافاه الحميري أحد عمال السلطان
بتلك النواحي، في عدد كثير، فخرج إليه صاحب الزنج في أصحابه، فطرده وهزم أصحابه،
حتى صاروا في بطن دجلة، واستأمن إلى صاحب الزنج رجل من رؤساء السودان، يعرف
بأبي صالح القصير في ثلاثمائة من الزنج، فلما كثر من اجتمع إليه من الزنج قود قواده، وقال
لهم: من أتى منكم برجل من السودان فهو مضموم إليه.
قال أبو جعفر: وانتهى إليه أن قوما من أعوان السلطان هناك، منهم خليفة بن أبي
عون على الأبلة، ومنهم الحميري قد أقبلوا نحوه، فأمر أصحابه بالاستعداد لهم، فاجتمعوا
للحرب، وليس في عسكره يومئذ إلا ثلاثة أسياف: سيفه، وسيف علي بن أبان، وسيف
محمد بن سلم، ولحقه القوم ونادى الزنج، فبدر مفرج النوبي والمكنى بأبي صالح، وريحان
ابن صالح، وفتح الحجام، وقد كان فتح حينئذ يأكل وبين يديه طبق فلما نهض تناول
ذلك الطبق، وتقدم أمام أصحابه، فلقيه رجل من عسكر أصحاب السلطان، فلما رآه فتح
حمل عليه وحذفه بالطبق الذي كان في يده، فرمى الرجل (1) سلاحه، وولى هاربا، وانهزم
القوم كلهم، وكانوا أربعة آلاف، فذهبوا على وجوههم وقتل من قتل منهم، ومات بعضهم عطشا، وأسر كثير منهم، فأتى بهم صاحب الزنج، فأمر بضرب أعناقهم، فضربت، وحملت الرؤوس على بغال كان أخذها من الشورجيين، كانت
تنقل الشورج.
* * *

(1) الطبري: " فرمى بلبل ".
135

قال أبو جعفر: ومر في طريقه بالقرية المعروفة بالمحمدية (1) فخرج منها رجل من موالي
الهاشميين، فحمل على بعض السودان فقتله، ودخل القرية، فقال له أصحابه: ائذن لنا في
انتهاب القرية وطلب قاتل صاحبنا، فقال: لا سبيل إلى ذلك دون أن نعرف ما عند
أهلها (2)، وهل فعل القاتل ما فعل عن رأيهم، ونسائلهم أن يدفعوه إلينا، فإن فعلوا
وإلا حل (3) لنا قتالهم، وعجل المسير من القرية، فتركها وسار (4). قال أبو جعفر: ثم مر على القرية المعروفة بالكرخ، فأتاه كبراؤها، وأقاموا له
الانزال (5)، وبات ليلته تلك عندهم، فلما أصبح أهدى له رجل من أهل القرية المسماة
جبى فرسا كميتا، فلم يجد سرجا ولا لجاما، فركبه بحبل وشنفه (6) بحبل ليف.
* * *
قلت: هذا تصديق قول أمير المؤمنين عليه السلام، كأنه به قد سار في الجيش الذي
ليس له غبار ولا لجب، ولا قعقعة لجم، ولا حمحمة خيل، يثيرون الأرض بأقدامهم كأنها
أقدام النعام.
* * *
قال أبو جعفر: وأول مال صار إليه مائتا دينار وألف درهم، لما نزل القرية المعروفة
بالجعفرية، أحضر بعض رؤسائها وسأله عن المال فجحد، فأمر بضرب عنقه، فلما خاف

(1) في الطبري: " ومضى حتى وافى القادسية ".
(2) الطبري: " القوم ".
(3) الطبري: " وإلا ساغ ".
(4) الطبري: " وأعجلهم عن المسير، فصاروا إلى نهر ميمون راجعين، فأقام في المسجد الذي كان أقام
فيه. في بدأته، وأمر بالرؤوس المحمولة، معه، وأمر بالاذان أبا صالح النوبي فأذن وسلم عليه بالإمرة،
فأقام فصلى بأصحابه العشاء الآخرة، وبات ليلته بها، ثم مضى من الند حتى من بالكرخ... "
(5) الأنزل: جمع نزل، وهو ما هيئ للضيف أن ينزل عليه.
(6) سنفه: شده بالسناف، وهو حبل يشد على رقبة البعير.
136

أحضر له هذا القدر، وأحضر له ثلاثة برازين كميتا وأشقر وأشهب، فدفع أحدها إلى
محمد بن سلم، والاخر إلى يحيى بن محمد، والاخر إلى مشرق غلام الخاقانية. ووجدوا في دار لبعض الهاشميين سلاحا فانتهبوه، فصار ذلك اليوم بأيدي بعض الزنج سيوف
وآلات وأتراس.
قال أبو جعفر: ثم كانت بينه وبين من يليه من أعوان السلطان كالحميري، ورميس
وعقيل وغيرهم وقعات، كان الظفر فيها كلها له، وكان يأمر بقتل الأسرى، ويجمع الرؤوس معه، وينقلها من منزل إلى منزل، وينصبها أمامه إذا نزل، وأوقع الهيبة والرهبة في
في صدور الناس بكثرة القتلى، وقلة العفو، وعلى الخصوص المأسورين، فإنه كان يضرب
أعناقهم ولا يستبقى منهم أحدا.
قال أبو جعفر: ثم كان له مع أهل البصرة وقعة بعد ذلك سار يريدها في ستة آلاف
زنجي، فاتبعه أهل الناحية المعروفة بالجعفرية ليحاربوه، فعسكر عليهم فقتل منهم
مقتلة عظيمة، أكثر من خمسمائة رجل، فلما فرغ منهم صمد نحو البصرة واجتمع أهلها
ومن بها من الجند، وحاربوه حربا شديدا، فكانت الدائرة عليه، وانهزم أصحابه،
ووقع كثير منهم في النهرين المعروفين بنهر كثير ونهر شيطان، وجعل يهتف بهم ويردهم
ولا يرجعون، وغرق من أعيان جنده وقواده جماعة منهم أبو الجون، ومبارك البحراني
وعطاء البربري، وسلام الشامي، فلحقه قوم من جند البصرة، وهو على قنطرة نهر كثير،
فرجع إليهم بنفسه، وسيفه في يده، فرجعوا عنه، حتى صاروا إلى الأرض وهو يومئذ
في دراعة (1) وعمامة ونعل وسيف وفي يده اليسرى ترس، ونزل عن القنطرة فصعدها البصريون يطلبونه، فرجع إليهم، فقتل منهم رجلا بيده على خمس مراق من القنطرة،
وجعل يهتف بأصحابه، ويعرفهم مكانه، ولم يكن بقي معه في ذلك الموضع من أصحابه

(1) الدراعة: جبة مشقوقة من المقدم، وهو ضرب من الثياب.
137

إلا أبو الشوك ومصلح ورفيق ومشرق غلاما الخاقانية، وضل أصحابه عنه، وانحلت
عمامته، فبقي على رأسه كور (1) منها أو كوران، فجعل يسحبها من ورائه، ويعجله المشي
عن رفعها وأسرع غلاما الخاقانية في الانصراف وقصر عنهما فغابا عنه، واتبعه رجلان
من أهل البصرة بسيفيهما، فرجع إليهما، فانصرفا عنه، وخرج إلى الموضع الذي فيه، مجمع
أصحابه، وقد كانوا تحيروا، فلما رأوه سكنوا.
* * *
قال أبو جعفر: ثم سأل عن رجاله وإذا قد هرب كثير منهم، ونظر فإذا هو من
جميع أصحابه في مقدار خمسمائة رجل، فأمر بالنفخ في البوق الذي كانوا يجتمعون لصوته،
فنفخ فيه فلم يرجع إليه أحد.
قال: وانتهب أهل البصرة سفنا كانت معه، وظفروا بمتاع من متاعه، وكتب من
كتبه وأصطرلابات كان معه، ثم تلاحق به جماعة ممن كان هرب، فأصبح وإذا معه ألف
رجل، فأرسل محمد بن سلم وسليمان بن جامع ويحيى بن محمد إلى أهل البصرة يعظهم
ويعلمهم أنه لم يخرج إلا غضبا لله وللدين، ونهيا عن المنكر، فعبر محمد بن سلم حتى توسط
أهل البصرة، وجعل يكلمهم ويخاطبهم، فرأوا منه غرة فوثبوا عليه فقتلوه، ورجع سليمان ويحيى إلى صاحب الزنج، فأخبراه، فأمرهما بطي ذلك عن أصحابه، حتى
يكون هو الذي يخبرهم.
فلما صلى بهم العصر، نعى إليهم محمد بن سلم، وقال لهم: إنكم تقتلون به في غد
عشرة آلاف من أهل البصرة.
قال أبو جعفر: وكان الوقعة التي كانت الدبرة عليه فيها يوم الأحد لثلاث عشرة

(1) كور العمامة: يريد كل دائرة من العمامة، وكل دور منها كور. (اللسان).
138

ليلة خلون من ذي القعدة سنة خمس وخمسين ومائتين، فلما كان يوم الاثنين جمع له أهل
البصرة وحشدوا لما رأوا من ظهورهم عليه يوم الأحد، وانتدب لذلك رجل من أهل
البصرة يعرف بحماد الساجي، وكان من غزاة البحر في الشذا (1)، وله علم بركوبها والحرب
فيها، فجمع المطوعة ورماة الأهداف وأهل المسجد الجامع ومن خف معه من حزبي
البلالية والسعدية، ومن غير هذه الأصناف من الهاشميين والقرشيين ومن يحب النظر
ومشاهدة الحرب من سائر أصناف الناس، فشحن ثلاثة مراكب من الشذا (1) بالرماة،
وجعل الناس يزدحمون في الشذا حرصا على حضور ذلك المشهد، ومضى جمهور الناس
رجالة منهم من معه سلاح ومنهم من لا سلاح معه بل نظارة، فدخلت السفن النهر المعروف
بأم حبيب، بعد زوال الشمس من ذلك اليوم في المد، ومرت الرجالة والنظارة على شاطئ
النهر، قد سدوا ما ينفذ فيه البصر كثرة وتكاثفا، فوجه صاحب الزنج صاحبه زريقا
وأبا الليث الأصبهاني، فجعلهم كمينا من الجانب الشرقي من نهر شيطان، وكان مقيما
بموضع منه، ووجه صاحبيه شبلا وحسينا الحمامي فجعلهما كمينا في غربيه، ومع كل
من الكمينين جماعة، وأمر علي بن أبان المهلبي أن يتلقى القوم فيمن بقي معه من جمعه،
وأمره أن يستتر هو وأصحابه بتراسهم، ولا يثور إليهم منه ثائر، حتى يوافيهم القوم
ويخالطوهم بأسيافهم فإذا فعلوا ذلك ثاروا إليهم وتقدم إلى الكمينين إذا جاوزهما الجمع،
وأحسا بثورة أصحابهم إليهم أن يخرجا من جنبي النهر، ويصيحا بالناس.
وكان يقول لأصحابه بعد ذلك: لما أقبل إلى جمع البصرة وعاينته، رأيت أمرا هائلا
راعني وملأ صدري رهبة وجزعا، ففزعت إلى الدعاء، وليس معي من أصحابي إلا نفر
يسير منهم مصلح، وليس منا أحد إلا وقد خيل إليه مصرعه، فجعل مصلح يعجبني من

(1) الشذا: ضرب عن السفن، الواحدة شذاة، قال صاحب التهذيب: هذا معروف، لكنه ليس
بعربي (اللسان).
139

كثرة ذلك الجمع، وجعلت أومى إليه أن أسكت (1)، فلما قرب القوم منى قلت: اللهم
إن هذه ساعة العسرة فأعني، فرأيت طيورا بيضا أقبلت فتلقت ذلك الجمع، فلم أستتم
دعائي حتى بصرت بسميرية (2) من سفنهم قد انقلبت بمن فيها، فغرقوا، ثم تلتها،
الشذا فغرقت واحدة بعد واحدة وثار أصحابي إلى القوم، وخرج الكمينان
من جنبي
النهر، وصاحوا وخبطوا الناس، فغرقت طائفة، وقتلت طائفة، وهربت طائفة نحو الشط
طمعا، فأدركها السيف، فمن ثبت قتل، ومن رجع إلى الماء غرق، حتى أبيد أكثر ذلك الجمع، ولم ينج منهم إلا الشريد، وكثر المفقودون بالبصرة، وعلا العويل
من نسائهم.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا يوم الشذا الذي ذكره الناس في أشعارهم، وعظموا ما فيه من
القتل، فكان ممن قتل من بني هاشم، جماعة من ولد جعفر بن سليمان (3) وانصرف
صاحب الزنج (4) وجمع الرؤوس وملأ بها سفنا، وأخرجها من النهر المعروف بأم حبيب في
الجزر وأطلقها، فوافت البصرة، فوقفت في مشرعة تعرف بمشرعة القيار، فجعل الناس
يأتون تلك الرؤوس، فيأخذ رأس كل رجل أولياؤه، وقوى صاحب الزنج بعد هذا اليوم،
وسكن الرعب قلوب أهل البصرة منه، وأمسكوا عن حربه، وكتب إلى السلطان بخبره،
فوجه جعلان التركي مددا لأهل البصرة، في جيش ذوي عدة وأسلحة (5).

(1) الطبري: " أن يمسك ".
(2) السيرية على التصغير: ضرب من السفن (اللسان).
(3) بعدها في الطبري: " وأربعون رجلا من الرماة المشهورين في خلق كثير لا يحصى عددهم ".
(4) في الطبري: " وانصرف الخبيث وجمعت له الرؤوس ".
(5) في الطبري: " وأمر أبا الحوص الباهلي بالمصير إلى الأبلة واليا، وأمده برجل من الأتراك يقال
له جريج ".
140

قال أبو جعفر: وقال أصحاب علي بن محمد له (1): أنا قد قتلنا مقاتلة أهل البصرة ولم يبق فيها إلا ضعفاؤهم، ومن لا حراك به، فإذن لنا في تقحمها، فنهاهم (2) وهجن آراءهم
وقال: بل نبعد عنها، فقد رعبناهم وأخفناهم، ولنقتحمها وقتا آخر، وانصرف بأصحابه إلى
سبخة في آخر أنهار البصرة تعرف بسبخة (3) أبى قرة، قريبة من النهر المعروف بالحاجر
فأقام هناك، وأمر أصحابه باتخاذ الأكواخ، وهذه السبخة متوسطة النخل والقرى
والعمارات، وبث أصحابه يمينا وشمالا، يعيثون ويغيرون على القرى، ويقتلون الإكرة،
وينهبون أموالهم، ويسرقون مواشيهم (4).
وجاءه شخص من أهل الكتاب من اليهود يعرف بما رويه، فقبل يده وسجد له
وسأله عن مسائل كثيرة، فأجابه عنها، فزعم اليهودي أنه يجد صفته في التوراة، وأنه يرى
القتال معه، وسأله عن علامات في يده وجسده ذكر أنها مذكورة في الكتب، فأقام معه.
قال أبو جعفر: ولما صار جعلان التركي إلى البصرة بعسكره، أقام ستة أشهر يحارب
صاحب الزنج، فإذا التقوا لم يكن بينهم إلا الرمي بالحجارة والنشاب، ولم يجد جعلان إلى لقائه
سبيلا، لضيق الموضع بما فيه من النخل والدغل (5) عن مجال الخيل، ولان صاحب الزنج قد
كان خندق على نفسه وأصحابه.

(1) في الطبري: " فزعم الخبيث أن أصحابه قالوا له بعقب هذه الوقعة: إنا قد قتلنا مقاتلة أهل
البصرة... ".
(2) في الطبري: " فزبرهم ".
(3) في الطبري عن شبل: " هي سبخة أبى قرة، موقعها بين النهرين: نهر أبى قرة، والنهر
المعروف بالحاجر ".
(4) في الطبري: فهذا ما كان من خبره وخبر الناس الذين قربوا من موضعه في هذه السنة "، أي
سنة أربع وخمسين ومائتين.
(5) الدغل بالتحريك: الشجر الكثير الملتف. وكل موضع يخاف فيه الاغتيال.
141

ثم إن صاحب الزنج بيت جعلان، فقتل جماعة من أصحابه وروع الباقون روعا شديدا،
فانصرف جعلان إلى البصرة ووجه إليه مقاتلة السعدية والبلالية في جمع كثيف، فواقعهم
صاحب الزنج، فقهرهم، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وانصرفوا مفلولين، ورجع جعلان
بأصحابه إلى البصرة، فأقام بها معتصما بجدرانها، وظهر عجزه للسلطان، فصرفه عن حرب
الزنج، وأمر سعيد الحاجب بالشخوص إلى البصرة لحربهم.
قال أبو جعفر: واتفق لصاحب الزنج من السعادة أن أربعا وعشرين مركبا من
مراكب البحر كانت اجتمعت تريد البصرة، وانتهى إلى أصحابها خبر الزنج وقطعهم السبل،
وفيها أموال عظيمة للتجار، فاجتمعت آراؤهم على أن شدوا المراكب بعضها إلى بعض،
حتى صارت كالجزيرة، يتصل أولها بآخرها، وسارت في دجلة، فكان صاحب الزنج
يقول: نهضت ليلة إلى الصلاة وأخذت في الدعاء والتضرع، فخوطبت بأن قيل لي: قد
أظلك فتح عظيم، فالتفت فلم ألبث أن طلعت المراكب، فنهض أصحابي إليها في شذاتها
فلم يلبثوا أن حووها، وقتلوا مقاتلتها، وسبوا ما فيها من الرقيق، وغنموا منها أموالا
لا تحصى، ولا يعرف قدرها فأنهبت ذلك أصحابي ثلاثة أيام وأمرت بما بقي منها
فحيز لي.
قال أبو جعفر: ثم دخل الزنج الأبلة في شهر رجب من سنة ست وخمسين ومائتين،
وذلك أن جعلان لما تنحى إلى البصرة، لح صاحب الزنج بالسرايا على أهل الأبلة، فجعل
يحاربهم من ناحية شط عثمان بالرجالة، وبما خف له من السفن من ناحية دجلة، وجعلت
سراياه تضرب إلى ناحية نهر معقل.
142

فذكر عن صاحب الزنج أنه قال: ميلت (1) بين عبادان والأبلة، فملت إلى التوجه
إلى عبادان فندبت الرجال إلى ذلك، فخوطبت وقيل لي: إن أقرب عدو دارا، وأولاه
ألا يتشاغل عنه بغيره أهل الأبلة، فرددت بالجيش الذي كنت سيرته نحو عبادان إلى
الأبلة، ولم يزالوا يحاربون (2) أهلها إلى أن اقتحموها وأضرموها نارا، وكانت مبنية بالساج
بناء متكاثفا، فأسرعت فيها النار، ونشأت ريح عاصف، فأطارت شرر ذلك الحريق إلى
أن انتهى إلى شط عثمان، وقتل بالأبلة خلق كثير، وحويت الأسلاب والأموال، على
أن الذي أحرق منها كان أكثر مما انتهب، واستسلم أهل عبادان بعدها لصاحب الزنج
فإن قلوبهم ضعفت وخافوه على أنفسهم وحرمهم، فأعطوا بأيديهم، وسلموا إليه بلدهم،
فدخلها أصحابه، فأخذوا من كان فيها من العبيد، وحملوا ما كان فيها من السلاح، ففرقه
على أصحابه، وصانعه أهلها بمال كف به عنهم.
* * * قال أبو جعفر: ثم دخل الزنج بعد عبادان إلى الأهواز ولم يثبت لهم أهلها، فأحرقوا ما فيها، وقتلوا ونهبوا، وأخربوا، فكان بالأهواز إبراهيم بن محمد المدبر الكاتب، إليه
خراجها (3) وضياعها، فأسروه بعد أن ضربوه ضربة على وجهه، وحووا كل ما كان
يملكه من مال وأثاث ورقيق وكراع، واشتد خوف أهل البصرة وانتقل كثير ما أهلها
عنها، وتفرقوا في بلاد شتى وكثرت الأراجيف من عوامها.
* * *

(1) في الأصول: " مثلث "، وما أثبته من الطبري.
(2) الطبري: " فلم يزالوا يحاربون أهل الأبلة ليلة الأربعاء لخمس بقين من رجب سنة 256، فلما
كان في هذه الليلة اقتحمها الزنج مما يلي دجلة ونهر الأبلة، فقتل بها أبو الأحوص وابنه وأضرمت نارا "
وكانت مبنية بالساج ".
(3) الطبري: " وإليه الخراج والضياع ".
143

قال أبو جعفر: فلما دخلت سنة سبع وخمسين أنفذ السلطان بغراج التركي على حرب
البصرة وسعيد بن صالح الحاجب للقاء صاحب الزنج، وأمر بغراج بإمداده بالرجال، فلما
صار سعيد إلى نهر معقل، وجد هناك جيشا لصاحب الزنج في النهر المعروف بالمرغاب، فأوقع بهم سعيد
فهزمهم، واستنقذ ما في أيديهم من النساء والنهب، وأصابت سعيدا في
تلك الوقعة جراحات منها جراحة في فيه.
ثم بلغه أن جيشا لصاحب الزنج في الموضع المعروف بالفرات فتوجه إليه فهزمه
واستأمن إليه بعض قواد صاحب الزنج، حتى لقد كانت المرأة من سكان ذلك الموضع تجد
الزنجي مستترا بتلك الأدغال فتقبض عليه، حتى تأتى به عسكر سعيد، ما به عنها امتناع.
ثم قصد سعيد حرب صاحب الزنج، فعبر إليه إلى غربي دجلة، فأوقع به وقعات
متتالية كلها يكون الظفر فيها لسعيد، إلى أن تهيأ لصاحب الزنج عليه أن وجه إلى يحيى
ابن محمد البحراني صاحبه، وهو إذ ذاك مقيم بنهر معقل، في جيش من الزنج، فأمره
بتوجيه ألف رجل من أصحابه، عليهم سليمان بن جامع وأبو الليث القائدان، ويأمرهما
بقصد عسكر سعيد ليلا، حتى يوقعا به وقت طلوع الفجر، من ليلة عينها لهم، ففعلا ذلك
وصارا إلى عسكر سعيد في ذلك الوقت، فصادفا منه غرة وغفلة، فأوقعا به وبأصحابه،
وقت طلوع الفجر، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وأصبح سعيد وقد ضعف أمره، واتصل
بالسلطان خبره، فأمره بالانصراف إلى باب السلطان، وتسليم الجيش الذي معه إلى منصور
ابن جعفر الخياط، وكان إليه يومئذ حرب الأهواز وكوتب بحرب صاحب الزنج، وأن
يصمد له، فكانت بينهم وقعة كان الظفر فيها للزنج، فقتل من أصحاب منصور خلق كثير
عظيم وحمل من الرؤوس خمسمائة رأس إلى عسكر يحيى بن محمد البحراني القائد، فنصبت
على نهر معقل.
144

قال أبو جعفر: ثم كانت بين الزنج وبين أصحاب السلطان بالأهواز وقعات كثيرة
تولاها علي بن أبان المهلبي، فقتل شاهين بن بسطام، وكان من أكابر أصحاب السلطان،
وهزم إبراهيم بن سيما، وكان أيضا من الامراء المشهورين، واستولى الزنج على عسكره.
* * *
قال أبو جعفر: ثم كانت الواقعة العظمى بالبصرة في هذه السنة وذلك أن صاحب
الزنج قطع الميرة عنهم، فأضر ذلك بهم، وألح بجيوشه وزنوجه عليهم بالحرب صباحا
ومساء، فلما كان في شوال من هذه السنة، أزمع على جمع أصحابه للهجوم على البصرة، والجد
في خرابها، وذلك لعلمه بضعف أهلها وتفرقهم، وإضرار الحصار بهم، وخراب ما حولها
من القرى. وكان قد نظر في حساب النجوم، ووقف على انكساف القمر، الليلة الرابعة
عشرة من هذا الشهر، فذكر محمد بن الحسن بن سهل أنه قال: سمعته يقول: اجتهدت في الدعاء على أهل البصرة، وابتهلت إلى الله تعالى في تعجيل خرابها، فخوطبت وقيل لي: إنما البصرة خبزه [لك] (1) تأكلها من جوانبها، فإذا انكسر نصف الرغيف خربت
البصرة. فأولت انكسار نصف الرغيف بانكساف نصف القمر المتوقع في هذه الليالي،
وما أخلق أمر أهل البصر أن يكون بعده!
قال: فكان يحدث بهذا حتى أفاض فيه أصحابه، وكثر تردده في أسماعهم وإجالتهم إياه بينهم.
ثم ندب محمد بن يزيد الدارمي - وهو أحد من كان صحبه بالبحرين للخروج إلى

(1) من الطبري.
145

الاعراب واستنفار من قدر عليه منهم - فأتاه منهم بخلق كثير، ووجه إلى بصرة سليمان بن
موسى الشعراني، فأمره بتطرق البصرة، والإيقاع بأهلها، وتقدم إلى سليمان [بن موسى] (1)
بتمرين (2) الاعراب على ذلك. فلما وقع الكسوف، أنهض إليها علي بن أبان، وضم
إليه جيشا من الزنج وطائفة من الاعراب، وأمره بإتيان البصرة مما يلي بنى سعد، وكتب
إلى يحيى بن محمد البحراني في إتيانها مما يلي نهر عدى، وضم باقي الاعراب إليه، فكان
أول من واقع أهل البصرة علي بن أبان وبغراج التركي يومئذ بالبصرة في جماعة من الجند، فأقام يقاتلهم يومين، وأقبل يحيى بن محمد مما يلي قصر أنس، قاصدا نحو الجسر، فدخل
علي بن أبان البلد وقت صلاة الجمعة، لثلاث عشرة بقين من شوال. فأقبل يقتل الناس
ويحرق المنازل والأسواق بالنار، فتلقاه بغراج وإبراهيم بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن
سليمان الهاشمي، المعروف ببرية - وكان وجيها مقدما مطاعا - في جمع عظيم - فرداه، فرجع
فأقام ليلته تلك (3). ثم غاداهم وقد تفرق جند البصرة فلم يكن في وجهه أحد يدافعه، وانحاز
بغراج بمن معه، وهرب إبراهيم بن محمد الهاشمي المعروف ببريه، فوضع علي بن أبان السيف
في الناس، وجاء إليه إبراهيم بن محمد المهلبي - وهو ابن عمه - فاستأمنه لأهل البصرة، فحضر
أهل البصرة قاطبة فأمنهم، ونادى مناديه: من أراد الأمان فليحضر دار إبراهيم بن محمد المهلبي. فحضر أهل البصرة قاطبة، حتى ملئوا الأزقة، فلما رأى اجتماعهم انتهز الفرصة،
فأمر بأخذ السكك والطرق عليهم، وغدر بهم، وأمر الزنوج بوضع السيف فيهم، فقتل
كل من شهد ذلك المشهد.

(1) من الطبري.
(2) الطبري: " في تمرين ".
(3) الطبري: " يومه ذلك ".
146

ثم انصرف آخر نهار يومه ذلك، فأقام بقصر عيسى بن جعفر بالخربية.
وروى أبو جعفر قال: حدثني محمد بن الحسن بن سهل، قال: حدثني محمد بن سمعان، قال: كنت
يومئذ بالبصرة، فمضيت مبادرا إلى منزلي لا تحصن به، وهو في سكة المربد، فلقيت أهل
البصرة هاربين، يدعون بالويل والثبور، وفي آخرهم القاسم بن جعفر
ابن سليمان الهاشمي على بغل، متقلدا سيفا يصيح بالناس ويحكم! تسلمون بلدكم وحرمكم!
هذا عدوكم قد دخل البلد، فلم يلووا عليه، ولم يسمعوا منه، فمضى هاربا، ودخلت أنا منزلي،
وأغلقت بابي، وأشرفت فمر بي الاعراب ورجالة الزنج يقدمهم رجل
على حصان كميت، بيده رمح، وعليه عذبة صفراء، فسألت بعد ذلك عنه، فقيل لي:
إنه علي بن أبان. قال: ونادى منادى علي بن أبان: من كان من آل المهلب فليدخل دار إبراهيم
ابن يحيى المهلبي، فدخلت جماعة قليلة، وأغلق الباب دونهم، ثم قيل للزنج: دونكم
الناس فاقتلوهم، ولا تبقوا منهم أحدا، وخرج إليهم أبو الليث الأصفهاني أحد قواد الزنج،
فقال للزنج: كيلوا: وهي العلامة التي كانوا يعرفونها فيمن يؤمرون بقتله، فأخذ الناس
السيف، قال: فوالله إني لأسمع تشهدهم وضجيجهم وهم يقتلون، وقد ارتفعت أصواتهم
بالتشهد، حتى سمعت بالطفاوة، وهو على بعد من الموضع الذي كانوا فيه.
قال: ثم انتشر الزنج في سكك البصرة وشوارعها، يقتلون من وجدوا، ودخل علي بن
أبان يومئذ المسجد فأحرقه وبلغ إلى الكلاء فأحرقه إلى الجسر، وأخذت النار
كل ما مرت به من إنسان وبهيمة وأثاث ومتاع، ثم ألحوا بالغدو والرواح على من وجدوه، ويسوقونهم إلى يحيى بن محمد البحراني، وهو نازل ببعض سكك البصرة فمن كان ذا مال
قرره حتى يستخرج ماله ثم يقتله، ومن كان مختلا قتله معجلا.
147

قال أبو جعفر: وقد كان علي بن أبان كف بعض الكف عن العيث بناحية بنى سعد
وراقب قوما من المهلبيين وأتباعهم، فانتهى ذلك إلى علي بن محمد صاحب الزنج، فصرفه
عن البصرة، وأقر يحيى بن محمد البحراني بها لموافقته على رأيه في الإثخان في القتل، ووقوع
ذلك بمحبته، وكتب إلى يحيى بن محمد يأمره بإظهار الكف ليسكن الناس، ويظهر
المستخفي، ومن قد عرف باليسار والثروة، فإذا ظهر فليأخذوا بالدلالة على ما دفعوه وأخفوه
من أموالهم، ففعل يحيى بن محمد ذلك، وكان لا يخلو في اليوم من الأيام من جماعة
يؤتى بهم، فمن عرف منهم باليسار استنزف ما عنده ثم قتله، ومن ظهرت له خلته عاجله بالقتل
حتى لم يدع أحدا ظهر له إلا قتله.
* * * قال أبو جعفر: وحدثني محمد بن الحسن، قال: لما انتهى (1) إلى علي بن محمد عظيم
ما فعل أصحابه بالبصرة سمعته يقول: دعوت على أهل البصرة في غداة اليوم الذي دخل فيه
أصحابي إليها واجتهدت في الدعاء، وسجدت وجعلت أدعو في سجودي، فرفعت إلى
البصرة فرأيتها ورأيت أصحابي يقاتلون فيها، ورأيت بين السماء والأرض رجلا واقفا في
صورة جعفر المعلوف المتولي كان للاستخراج في ديوان الخراج بسامراء، وهو قائم قد خفض
يده اليسرى، ورفع يده اليمنى، يريد قلب البصرة فعلمت أن الملائكة تولت إخرابها
دون أصحابي، ولو كان أصحابي تولوا ذلك ما بلغوا هذا الامر العظيم الذي يحكى عنها، ولكن
الله تعالى نصرني بالملائكة، وأيدني في حروبي، وثبت بهم من ضعف قلبه من أصحابي.
قال أبو جعفر وانتسب صاحب الزنج (2) في هذه الأيام إلى محمد بن محمد بن زيد بن
علي بن الحسين، بعد انتسابه الذي كان إلى أحمد بن عيسى بن زيد وذلك لأنه بعد

(1) الطبري: " لما أخرب الخائن البصرة ".
(2) الطبري: " وانتسب الخبيث ".
148

إخرابه البصرة جاء إليه جماعة من العلوية الذين كانوا بالبصرة، وأتاه فيمن أتاه منهم
قوم من ولد أحمد بن عيسى بن زيد، في جماعة من نسائهم وحرمهم، فلما خافهم ترك الانتساب
إلى أحمد بن عيسى، وانتسب إلى محمد بن محمد بن زيد.
قال أبو جعفر فحدثني محمد بن الحسن بن سهل، قال: (1 كنت حاضرا عنده وقد حضر
جماعة من النوفليين 1)، فقال له القاسم بن إسحاق النوفلي: إنه انتهى إلينا أن الأمير (2) من
ولد أحمد بن عيسى بن زيد، فقال: لست من ولد عيسى، أنا من ولد يحيى بن زيد.
قال محمد بن الحسن: فانتقل من أحمد بن عيسى بن زيد إلى محمد بن محمد بن زيد،
ثم انتقل من محمد إلى يحيى بن زيد، وهو كاذب لان الاجماع واقع على أن يحيى بن زيد
مات ولم يعقب ولم يولد له إلا بنت واحدة ماتت، وهي ترضع.
فهذا ما ذكره أبو جعفر الطبري في " التاريخ الكبير " (3).
* * *
وذكر علي بن الحسن المسعودي في " مروج الذهب " أن هذه الواقعة بالبصرة، هلك فيها من أهلها ثلاثمائة ألف إنسان، وأن علي بن أبان المهلبي بعد فراغه من الواقعة،
نصب منبرا في الموضع المعروف ببني يشكر، صلى فيه يوم الجمعة وخطب لعلي بن محمد
صاحب الزنج، وترحم بعد ذلك على أبى بكر وعمر، ولم يذكر عثمان ولا عليا عليه السلام
في خطبته، ولعن أبا موسى الأشعري وعمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان، قال:

(1 - 1) الطبري: " سمعت الخبيث وقد حضره جماعة من النوفليين ".
(2) الطبري: " إنك ".
(3) في الجزء الحادي عشر 187 - 222.
149

وهذا يؤكد ما ذكرناه وحكيناه من رأيه، وأنه كان يذهب إلى قول الأزارقة.
قال: واستخفى من سلم من أهل البصرة في آبار الدور، فكانوا يظهرون ليلا، فيطلبون
الكلاب فيذبحونها ويأكلونها، والفار والسنانير. فأفنوها حتى لم يقدروا على
شئ منها، فصاروا إذا مات الواحد منهم أكلوه، فكان يراعى بعضهم موت بعض،
ومن قدر على صاحبه قتله وأكله، وعدموا مع ذلك الماء، وذكر عن امرأة منهم أنها
حضرت امرأة قد احتضرت، وعندها أختها وقد احتوشوها ينتظرون أن تموت فيأكلوا
لحمها، قالت المرأة: فما ماتت حسناء حتى ابتدرناها فقطعنا لحمها فأكلناه، ولقد حضرت
أختها ونحن على شريعة عيسى بن حرب وهي تبكي ومعها رأس الميت، فقال لها قائل:
ويحك! مالك تبكين! فقالت: اجتمع هؤلاء على أختي فما تركوها تموت حسنا حتى
قطعوها، وظلموني فلم يعطوني من لحمها شيئا إلا الرأس، وإذا هي تبكي شاكية من ظلمهم
لها في أختها.
قال: وكان مثل هذا وأكثر منه وأضعافه، وبلغ من أمر عسكره أنه ينادى فيه على
المرأة من ولد الحسن والحسين والعباس وغيرهم من أشراف قريش، فكانت الجارية تباع
منهم بدرهمين وبثلاثة دراهم، وينادى عليها بنسبها: هذه ابنة فلان بن فلان، وأخذ كل
زنجي منهم العشرين والثلاثين يطؤهن الزنج ويخدمن النساء الزنجيات كما تخدم الوصائف،
ولقد استغاثت إلى صاحب الزنج امرأة من ولد الحسن بن علي عليه السلام، وكانت عند
بعض الزنج وسألته، أن يعتقها مما هي فيه، أو ينقلها من عنده إلى غيره، فقال لها:
هو مولاك، وهو أولى بك.
* * *
قال أبو جعفر: وأشخص السلطان لحرب صاحب الزنج محمدا المعروف بالمولد، في جيش
150

كثيف، فجاء حتى نزل الأبلة، وكتب صاحب الزنج إلى يحيى بن محمد البحراني يأمره
بالمصير إليه، فصار إليه بزنوجه، وأقام على محاربته عشرة أيام، ثم فتر المولد عن الحرب، وكتب على
ابن محمد إلى يحيى، يأمره، أن يبيته، فبيته فهزمه، ودخل الزنج عسكره فغنموا ما فيه، وكتب
يحيى إلى صاحب الزنج يخبره،
فأمره باتباعه، فاتبعه إلى الحوانيت، ثم انصرف عنه فمر بالجامدة، وأوقع بأهلها وانتهب كل ما كان في تلك القرى، وسفك ما قدر على سفكه
من الدماء، ثم عاد إلى نهر معقل.
قال أبو جعفر: واتصلت الاخبار بسامراء وبغداد وبالقواد والموالي وأهل الحضرة
بما جرى على أهل البصرة فقامت عليهم القيامة، وعلم المعتمد أنه لا يرتق هذا الفتق إلا بأخيه
أبى أحمد طلحة بن المتوكل - وكان منصورا مؤيدا عارفا بالحرب وقيادة الجيوش، وهو الذي
أخذ بغداد للمعتز، وكسر جيوش المستعين، وخلعه من الخلافة، ولم يكن لبني العباس في
هذا الباب مثله ومثل ابنه أبى العباس - فعقد له المعتمد على ديار مضر وقنسرين والعواصم،
وجلس له مستهل شهر ربيع الاخر من سنة سبع وخمسين، فخلع عليه وعلى مفلح، وشخصا
نحو البصرة لحرب علي بن محمد وإصلاح ما أفسده من الأعمال، وركب المعتمد ركوبا ظاهرا
يشيع أخاه أبا أحمد إلى القرية المعروفة ببركوارا، وعاد.
* * *
قال أبو جعفر: وأما صاحب الزنج فإنه بعد هزيمة محمد المولد أنفذ علي بن أبان المهلبي
إلى حرب منصور بن جعفر وإلى الأهواز، فكانت بينهما حروب كثيرة في أيام متفرقة حتى
كان آخرها اليوم الذي انهزم فيه أصحاب منصور، وتفرقوا عنه، وأدركت منصورا طائفة
من الزنج، فلم يزل يكر عليهم حتى انقصف رمحه، ونفدت سهامه، ولم يبق معه سلاح،
151

وانتهى إلى نهر يعرف بنهر ابن مروان، فصاح بحصان كان تحته ليعبر، فوثب فقصر (1)
فانغمس في الماء.
وقيل: إن الحصان لم يقصر في الوثبة، ولكن رجلا من الزنج سبقه إلى النهر، فألقى
نفسه، فيه لعلمه أنه لا محيص لمنصور عن النهر، فلما وثب الفرس تلقاه الأسود، فنكص
فغاص الفرس ومنصور، ثم أطلع منصور رأسه، فنزل إليه غلام من السودان من عرفاء
مصلح، يقال له ابزون، فاحتز رأسه، وأخذ سلبه، فولى يارجوخ التركي صاحب حرب
خوزستان، ما كان مع منصور من العمل أصغجون التركي. وقال أبو جعفر: وأما أبو أحمد فإنه شخص عن سامراء في جيش لم يسمع السامعون
بمثله، كثرة وعدة قال: وقد عاينت أنا ذلك الجيش، وأنا يومئذ ببغداد بباب الطاق،
فسمعت جماعة من مشايخ أهل بغداد يقولون: قد رأينا جيوشا كثيرة للخلفاء، فما رأينا
مثل هذا الجيش أحسن عدة وأكمل عتادا وسلاحا وأكثر عددا وجمعا، واتبع ذلك
الجيش من متسوقة أهل بغداد خلق كثير.
* * *
قال أبو جعفر: فحدثني محمد بن الحسن بن سهل، أن يحيى بن محمد البحراني كان
مقيما بنهر معقل قبل موافاة أبى أحمد فاستأذن صاحب الزنج في المصير إلى نهر العباس
فكره ذلك، وخاف أن يوافيه جيش من قبل السلطان، وأصحابه متفرقون، فألح عليه
يحيى حتى أذن له، فخرج واتبعه أكثر أهل عسكر صاحب الزنج، وكان علي بن أبان

(1) الطبري: " وقصرت رجلاه فانغمس؟ في الماء ".
152

مقيما بجبى في جمع كثير من الزنج والبصرة قد صارت مغنما لأهل عسكر صاحب الزنج،
يغادونها ويراوحونها لنقل ما نالته أيديهم منها إلى منازلهم، فليس بمعسكر علي بن (1) محمد
يومئذ من أصحابه إلا القليل، فهو على ذلك من حاله، حتى وافى أبو أحمد في الجيش ومعه
مفلح، فورد جيش عظيم لم يرد على الزنج مثله، فلما وصل إلى نهر معقل، انصرف من
كان هناك من الزنج فالتحقوا بصاحبهم مرعوبين، فراعه ذلك، ودعا برئيسين منهما، فسألهما عن السبب الذي له تركا موضعهما، فأخبراه بما عاينا من عظم أمر الجيش الوارد
وكثرة عدد أهله وإحكام عدتهم، وأن الذي عايناه من ذلك لم يكن في قوتهما الوقوف له
في العدة التي كانا فيها، فسألهما: هل علما من يقود هذا الجيش؟ فقالا: قد اجتهدنا في علم
ذلك، فلم نجد من يصدقنا عنه.
فوجه صاحب الزنج طلائعه في سمريات ليعرف الخبر، فرجعت طلائعه إليه بتعظيم
أمر الجيش وتفخيمه، ولم يقف أحد منهم على من يقوده، فزاد ذاك في جزعه وارتياعه، فأمر بالارسال إلى علي بن أبان يعلمه خبر الجيش الوارد، ويأمره بالمصير إليه فيمن معه
ووافى جيش أبى أحمد، فأناخ بإزاء صاحب الزنج، فلما كان اليوم الذي كانت فيه الواقعة
خرج علي بن محمد يطوف في عسكره ماشيا، ويتأمل الحال فيمن هو من حزبه ومن
هو [مقيم] (2) بإزائه على حزبه، وقد كانت السماء مطرت ذلك اليوم مطرا خفيفا، والأرض
ثرية (3) تزل عنها الاقدام، فطوف ساعة من أول النهار ورجع، فدعا بدواة وقرطاس
ليكتب كتابا إلى علي بن أبان، ليعلمه ما قد أظله من الجيش ويأمره بتقديم من قدر
على تقديمه من الرجال: فإنه لفي ذلك إذ أتاه أبو دلف القائد أحد قواد الزنج فقال له: إن

(1) الطبري: " الخبيث ".
(2) من الطبري.
(3) في الأصول: " تربة " وما أثبته من الطبري.
153

القوم قد غشوك ورهقوك، وانهزم الزنج من بين أيديهم، وليس، في وجوههم من يردهم،
فانظر لنفسك، فإنهم قد انتهوا إليك (1) فصاح به وانتهره وقال: اغرب (2) عنى فإنك
كاذب فيما حكيت، إنما ذلك جزع داخل (3) داخل قلبك لكثرة من رأيت من الجمع، فانخلع
قلبك، فلست تدرى ما تقول!
فخرج أبو دلف من بين يديه وأقبل يكتب، وقال لجعفر بن إبراهيم السجان ناد في
الزنج، وحركهم للخروج إلى موضع الحرب، فقال له: إنهم قد خرجوا، وقد ظفروا
بسميريتين من سفن أصحاب السلطان، فأمره بالرجوع لتحريك الرجالة، وكان من القضاء
والقدر أن أصيب مفلح - وهو القائد الجليل، المرشح لقيادة الجيش بعد أبي أحمد - بسهم
غرب (4) لا يدرى من رماه، فمات لوقته، ووقعت الهزيمة على أصحاب أبي أحمد، وقوى
الزنج على حربهم، فقتلوا منهم جمعا كثيرا، ووافى علي بن محمد زنجه بالرؤوس قابضين
عليها بأسنانهم حتى ألقوها بين يديه، فكثرت الرؤوس يومئذ حتى ملأت الفضاء
وجعل الزنج يقتسمون لحوم القتلى ويتهادونها بينهم، وأتى بأسير من الجيش فسأله
عن رأس العسكر، فذكر أبا أحمد ومفلحا، فارتاع لذكر أبى أحمد، وكان إذا راعه أمر
كذب به، وقال: ليس في الجيش إلا مفلح، لأني لست أسمع الذكر إلا له، ولو كان
في الجيش من ذكر هذا الأسير لكان صوته أبعد، ولما كان مفلح إلا تابعا له،
ومضافا إليه (5).
قال أبو جعفر: وقد كان قبل أن يصيب السهم مفلحا، انهزم الزنج لما خرج عليهم

(1) الطبري: " إلى الحبل الرابع ".
(2) في الأصول: " أعزب "، وما أثبته من الطبري.
(3) الطبري: " دخلك ".
(4) يقال: أصابه سهم غرب، بالإضافة أو الوصف، أي لا يدرى راميه.
(5) الطبري: " إلى صحبته ".
154

جيش أبى أحمد، وجزعوا جزعا شديدا، ولجأوا إلى النهر المعروف بنهر أبى الخصيب،
ولا جسر يومئذ عليه، فغرق منهم خلق كثير، ولم يلبث صاحب الزنج إلا يسيرا حتى
وافاه علي بن أبان في أصحابه، فوافاه وقد استغنى عنه بهزيمة الجيش السلطاني، وتحيز أبو أحمد بالجيش إلى الأبلة، ليجمع ما فرقت الهزيمة منه، ويجدد الاستعداد للحرب، ثم صار إلى نهر أبى الأسد فأقام به.
* * *
قال أبو جعفر: فحدثني محمد بن الحسن، قال: فكان صاحب الزنج لا يدرى كيف
قتل مفلح، فلما لم ير أحدا ينتحل رميه ادعى أنه كان الرامي له، قال فسمعته يقول:
سقط بين يدي سهم من السماء، فأتاني به واح خادمي فدفعه إلى، فرميت به فأصاب
مفلحا فقتله، قال محمد: وكذب في ذلك، لأني كنت حاضرا معه ذلك المشهد، ما زال
عن فرسه حتى أتاه خبر الهزيمة (1).
* * *
قال أبو جعفر: ثم إن الله تعالى أصاب صاحب الزنج بمصيبة تعادل فرحه وسروره
بقتل مفلح عقيب قتل مفلح، وذلك أن قائده الجليل يحيى بن محمد البحراني أسر وقتل،
وصورة ذلك أن صاحب الزنج كان قد كتب إلى يحيى بن محمد، يعلمه ورود هذا الجيش
عليه، ويأمره بالقدوم والتحرر في منصرفه من أن يلقاه أحد منهم، وقد كان يحيى
غنم سفنا فيها متاع وأموال، لتجار الأهواز جليلة، وحامى عنها أصحاب أصغجون التركي
فلم يغن، وهزمهم يحيى، ومضى الزنج بالسفن المذكورة يمدونها متوجهين نحو معسكر
صاحب الزنج على سمت البطيحة المعروفة بسبخة السحناة وهي طريقة متعسقة وعرة،

(1) بعدها في الطبري: " وأتى بالرؤوس وانقضت الحرب ".
155

فيها مشاق متعبة، وإنما سلكها يحيى وأصحابه، وتركوا الطريق الواضح، للتحاسد الذي
كان بين يحيى بن محمد وعلي بن أبان، فإن أصحاب يحيى أشاروا عليه ألا يسلك الطريق
التي يمر فيها على أصحاب علي بن أبان، فأصغى إلى مشورتهم، فشرعوا له الطريق
المؤدى إلى البطيحة المذكورة فسلكها، وهذه البطيحة ينتهى السائر فيها إلى نهر
أبى الأسد، وقد كان أبو أحمد انحاز إليه، لان أهل القرى والسواد كاتبوه يعرفونه
خبر يحيى بن محمد البحراني، وشدة بأسه، وكثرة جمعه، وأنه ربما خرج من البطيحة إلى
نهر أبى الأسد، فعسكر به، ومنع أبا أحمد الميرة، وحال بينه وبين من يأتيه من الاعراب
وغيرهم، فسبقه أبو أحمد إلى نهر أبى الأسد، وسار يحيى حتى إذا قرب من نهر
أبى الأسد، وافته طلائعه، فأخبرته بالجيش، وعظمت أمره، وخوفته منه، فرجع من
الطريق الذي كان سلكه بمشقة شديده نالته، ونالت أصحابه، وأصابهم مرض لترددهم
في تلك البطيحة وجعل يحيى على مقدمته سليمان بن جامع، وسار حتى وقف على قنطرة
فورج نهر العباس، في موضع ضيق تشتد فيه جرية الماء، وهو مشرف ينظر أصحابه
الزنج: كيف يجرون تلك السفن التي فيها الغنائم، فمنها ما يغرق وما يسلم.
* * *
قال أبو جعفر: فحدثني محمد بن سمعان قال: كنت في تلك الحال واقفا مع يحيى على
القنطرة وقد أقبل على متعجبا من شدة جرية الماء، وشدة ما يلقى أصحابه من تلقيه
بالسفن، فقال: أرأيت لو هجم علينا عدو في هذه الحال من كان يكون أسوأ حالا منا!
فوالله ما انقضى كلامه حتى وافى كاشهم التركي في جيش قد أنفذه معه أبو أحمد عند
رجوعه من الأبله إلى نهر أبى الأسد، يتلقى به يحيى، فوقعت الصيحة، واضطربت
الزنج، فنهضت متشوفا للنظر، فإذا الاعلام الحمر قد أقبلت في الجانب الغربي من نهر
العباس ويحيى به، فلما رآها الزنج ألقوا أنفسهم جملة في الماء، فعبروا إلى الجانب الشرقي،
156

وخلا الموضع الذي فيه يحيى فلم يبق معه إلا بضعة عشر رجلا منهم، فنهض عند ذلك
فأخذ درقته وسيفه، واحتزم بمنديل، ثم تلقى القوم (1) في النفر الذين تخلفوا معه
فرشقهم أصحاب كاشهم التركي بالسهام، حتى كثر فيهم الجراح، وجرح يحيى بأسهم
ثلاثة في عضده اليمنى وساقه اليسرى، فلما رآه أصحابه جريحا، تفرقوا عنه ولم يعرف
فيقصد له، فرجع حتى دخل بعض تلك السفن، وعبر به إلى الجانب الشرقي من النهر،
وذلك وقت الضحى، وأثقلته الجراحات التي أصابته، فلما رأت الزنج شدة ما نزل به،
اشتد جزعهم وضعفت قلوبهم، فتركوا القتال، وكانت همتهم النجاة بأنفسهم، وحاز
أصحاب السلطان تلك الغنائم التي كانت في السفن في الجانب الغربي من النهر، وانفض
الزنج بالجانب الشرقي عن يحيى، فجعلوا يتسللون بقية نهارهم بعد قتل ذريع فيهم،
وأسر كثير، فلما أمسوا وأسدف الليل، طاروا على وجوههم. فلما رأى يحيى تفرق
أصحابه ركب سميرية كانت هناك، وأقعد معه فيها متطببا، يقال له عباد (2)، وطمع في
الخلاص إلى عسكر صاحب الزنج، فسار حتى قرب من فوهة النهر، فأبصر سميريات
وشذايات لأصحاب السلطان في فوهة النهر، فخاف أن تعترض سميريته، وجزع من
المرور بها، فعبر به الملاح إلى الجانب الغربي من النهر، فألقاه وطبيبه على الأرض في زرع
هناك، فخرج يمشى وهو مثقل حتى ألقى نفسه في بعض تلك المواضع، فأقام هناك ليلته
تلك، فلما أصبح نزفه الدم، ونهض عباد الطبيب (3) فجعل يمشى متشوفا أن يرى
إنسانا، فرأى بعض أصحاب السلطان، فأشار لهم إلى موضع يحيى، فجاءوا، حتى وقفوا عليه فأخذوه، وانتهى خبره إلى [الخبيث] (4) صاحب الزنج فجزع عليه جزعا شديدا،
وعظم عليه توجعه.

(1) الطبري: " القوم الذين أتوه ".
(2) الطبري: " ويعرف بأبي جيش ".
(3) بعد في الطبري: " المتطبب ".
(4) من الطبري.
157

ثم حمل يحيى إلى أبى أحمد فحمله أبو أحمد إلى المعتمد، فأدخل إلى سامراء راكب
جمل، والناس مجتمعون ينظرونه، ثم أمر المعتمد ببناء دكة عالية بحضرة مجرى الحلية،
فبنيت، ورفع للناس عليها حتى أبصره الخلائق كافة، ثم ضرب (1 بين يدي المعتمد وقد
جلس له مائتي سوط بثمارها 1)، ثم قطعت يداه ورجلاه من خلاف، [ثم خبط
بالسيوف] ثم ذبح وأحرق.
* * *
قال أبو جعفر: فحدثني محمد بن الحسن، قال: لما قتل يحيى البحراني، فانتهى خبره
إلى صاحب الزنج، قال لأصحابه لما عظم على قتله، واشتد اهتمامي به، خوطبت فقيل لي:
قتله خير لك! إنه كان شرها. ثم أقبل على جماعة أنا فيهم، فقال: من شرهه أنا غنمنا
غنيمة من بعض ما كنا نغنمه (2)، وكان فيها عقدان، فوقعا في يد يحيى، فأخفى عنى
أعظمهما خطرا، وعرض على أخسهما، ثم استوهبه فوهبته له، فرفع إلى العقد الذي
أخفاه حتى رأيته فدعوته فقلت: أحضر لي العقد الذي أخفيته، فأتاني بالعقد الذي
وهبته له، وجحد أن يكون أخذ غيره، فرفع إلى العقد ثانية، فجعلت أصفه له وأنا أراه
وهو لا يراه، فبهت وذهب، فأتاني، ثم استوهبنيه فوهبته له، وأمرته بالاستغفار.
قال أبو جعفر: وذكر محمد بن الحسن، أن محمد بن سمعان حدثه أن صاحب الزنج،
قال في بعض أيامه: لقد عرضت على النبوة فأبيتها. فقيل له: ولم ذاك؟ قال: إن لها
أعباء خفت ألا أطيق حملها.

(1 - 1) الطبري: " ثم رفع للناس حتى أبصروه، فضرب بالسياط، وذكر أنه دخل سامرا يوم
الأربعاء لتسع خلون من رجب على جمل، وجلس المعتمد من غير ذلك اليوم، وذلك يوم الخميس، فضرب
بين يديه مائة سوط بثمارها ".
(2) الطبري: " نصيبه ".
158

قال أبو جعفر: فأما الأمير أبو أحمد، فإنه لما صار إلى نهر أبى الأسد وأقام به، كثرت
العلل فيمن معه من جنده وغيرهم، وفشا فيهم الموت، فلم يزل مقيما هنالك حتى أبل من
نجا منهم من علته، ثم انصرف، راجعا إلى باذاورد، فعسكر به، وأمر بتجديد الآلات
وإصلاح الشذوات والسميريات وإعطاء الجند أرزاقهم وشحن السفن بقواده ومواليه
وغلمانه، ونهض نحو عسكر الناجم، وأمر جماعة من قواده بقصد مواضع سماها لهم من
نهر أبى الخصيب وغيره، وأمر الباقين بملازمته والمحاربة معه، في الموضع الذي يكون فيه،
وهم الأقلون، وعرف الزنج تفرق أصحاب أبي أحمد عنه، فكثروا في جهته، واستعرت
الحرب، بينه وبينهم، وكثرت القتلى والجراح بين الفريقين، وأحرق أصحاب أبي أحمد
قصورا ومنازل كان الزنج ابتنوها، واستنقذوا من نساء أهل البصرة جمعا كثيرا. ثم
صرف الزنج سورتهم وشدة حملتهم إلى الموضع الذي به أبو أحمد، فجاءه منهم جمع
لا يقاوم، بمثل العدة اليسيرة التي كان فيها، فرأى أن الحزم في محاجزتهم، فأمر أصحابه
بالرجوع إلى سفنهم على تؤدة وتمهل، ففعلوا وبقيت طائفة من جنده ولجوا تلك
الأدغال والمضايق، فخرج عليهم كمين للزنج فأوقعوا بهم فحاموا عن أنفسهم، وقتلوا عددا
كثيرا من الزنج إلى أن قتلوا بأجمعهم، وحملت رؤوسهم إلى الناجم، فزاد ذلك في قوته
وعتوه وعجبه بنفسه، وانصرف أبو أحمد بالجيش إلى الباذاورد، وأقام يعبى أصحابه للرجوع
إلى الزنج، فوقعت نار في طرف من أطراف عسكره، وذلك في أيام عصوف الرياح،
فاحترق العسكر، ورحل أبو أحمد منصرفا وذلك في شعبان من هذه السنة
إلى واسط (1).
فأقام بها إلى ربيع الأول، ثم انصرف عنها إلى سامراء، وذلك أن المعتمد كاتبه واستقدمه

(1) بعدها في الطبري: " فلما صار إلى واسط تفرق عنه عامة من كان معه من أصحابه ".
159

لحرب يعقوب بن الليث الصفار أمير خراسان، فاستخلف على حرب الناجم محمد المولد،
وأما الناجم فإنه لم يعلم خبر الحريق الذي وقع في عسكر أبى أحمد، حتى ورد عليه رجلان
من أهل عبادان، فأخبراه، فأظهر أن ذلك من صنع الله تعالى له ونصره على أعدائه،
وأنه دعا الله على أبى أحمد وجيشه، فنزلت نار من السماء فأحرقتهم.
وعاد إلى العبث، واشتد طغيانه وعتوه، وأنهض علي بن أبان المهلبي، وضم إليه
أكثر الجيش، وجعل على مقدمته سليمان بن جامع، وأضاف إليه الجيش الذي كان مع
يحيى بن محمد البحراني وسليمان بن موسى الشعراني، وأمرهم بأن يقصدوا الأهواز وبها
حينئذ صفجور (1) التركي، ومعه نيزك القائد، فالتقى العسكران بصحراء تعرف بدشت
ميسان (2)، واقتتلوا، فظهرت (3) الزنج، وقتل نيزك في كثير من أصحابه، وغرق أصغجون
التركي، وأسر كثير من قواد السلطان، منهم الحسن بن هرثمة المعروف بالشاري (4)،
والحسن بن جعفر. وكتب علي بن أبان بالخبر إلى الناجم، وحمل إليه أعلاما ورؤوسا كثيرة
وأسرى، ودخل علي بن أبان الأهواز، وأقام بها بزنوجه يعيث وينهب القرى والسواد،
إلى أن ندب المعتمد على الله موسى بن بغا لحربه، فشخص عن سامرا، في ذي القعدة من
هذه السنة، وشيعه المعتمد بنفسه إلى خلف الحائطين. وخلع عليه هنالك فقدم أمامه
عبد الرحمن بن مفلح إلى الأهواز وإسحاق بن كنداخ إلى البصرة، وإبراهيم بن سيما
إلى الباذاورد.
قال أبو جعفر: فلما ورد عبد الرحمن بن مفلح على الأهواز أناخ بقنطرة أريق (5)
عشرة أيام، ثم مضى إلى علي بن أبان المهلبي فواقعه فهزمه علي بن أبان، فانصرف فاستعد

(1) في الطبري: " أصغجون ".
(2) الطبري: " رستادان ".
(3) الطبري: " فكانت الدبرة يومئذ على أصغجون ".
(4) الطبري: " الشار ".
(5) الطبري: " أربك ".
160

ثم عاد لمحاربته، فأوقع به وقعة عظيمة، وقتل من الزنج قتلا ذريعا وأسر أسرى كثيرة،
وانهزم علي بن أبان ومن معه من الزنج حتى أتوا الموضع المعروف ببيان، فأراد الناجم ردهم
فلم يرجعوا، للذعر الذي خالط قلوبهم، فلما رأى ذلك أذن لهم في دخول عسكره، فدخلوا
جميعا، فأقاموا معه بالمدينة التي كان بناها، ووافى عبد الرحمن بن مفلح حصن مهدي
ليعسكر به، فوجه إليه الناجم علي بن أبان فواقعه فلم يقدر عليه، ومضى علي بن أبان إلى قريب من الباذاورد، وهناك إبراهيم بن سيما، فواقعه إبراهيم، فهزم علي بن أبان، فعاوده
فهزمه إبراهيم، فمضى في الليل وسلك الأدغال والآجام، حتى وافى نهر يحيى، فانتهى
خبره إلى عبد الرحمن بن مفلح، فوجه إليه طاشتمر التركي في جمع من الموالي، فلم يصل
إلى علي بن أبان، ومن معه، لوعورة الموضع الذي كانوا فيه، وامتناعه بالقصب والحلافي (1)،
فأضرمه عليهم نارا، فخرجوا منه هاربين، وأسر منهم أسرى، وانصرف إلى عبد الرحمن
ابن مفلح بالأسرى والظفر، ومضى علي بن أبان، فأقام بأصحابه في الموضع المسمى بنسوخا،
وانتهى الخبر بذلك إلى عبد الرحمن بن مفلح، فصار إلى العمود، فأقام به، وصار علي بن
أبان إلى نهر السدرة، وكتب إلى الناجم يستمده ويسأله التوجيه إليه بالشذا، فوجه إليه
ثلاث عشرة شذاة، فيها جمع كثير من أصحابه، فسار علي بن أبان ومن معه في الشذا،
ووافى عبد الرحمن بمن معه، فلم يكن بينهما قتال، وتواقف الجيشان يومهما ذلك.
فلما كان الليل انتخب علي بن أبان من أصحابه جماعة يثق بجلدهم وصبرهم، ومضى
ومعه (2) سليمان بن موسى المعروف بالشعراني، وترك سائر عسكره مكانه ليخفى أمره،
فصار من وراء عبد الرحمن، ثم بيته وعسكره (3)، فنال منه ومن أصحابه نيلا ما، وانحاز

(1) الحلافي: مكان ينبت الحلفاء.
(2) الطبري: " فيهم ".
(3) الطبري: " في عسكره ".
161

عبد الرحمن عنه وترك أربع شذوات من شذواته، فغنمها علي بن أبان، وانصرف ومضى
عبد الرحمن لوجهه، حتى وافى دولاب (1)، فأقام بها، وأعد رجالا من رجاله، وولى عليهم
طاشتمر التركي، وأنفذهم إلى علي بن أبان، فوافوه وهو في الموضع المعروف بباب آزر،
فأوقعوا به وقعة انهزم منها إلى نهر السدرة، وكتب طاشتمر إلى عبد الرحمن بانهزامه عنه،
فأقبل عبد الرحمن بجيشه حتى وافى العمود، فأقام به واستعد أصحابه للحرب، وهيأ
شذواته، وولى عليها طاشتمر، وسار إلى فوهة نهر السدرة، فواقع علي بن أبان وقعة عظيمة،
فانهزم منها علي بن أبان، وأخذ منه عشر شذوات، ورجع علي بن أبان إلى الناجم مفلولا
مهزوما، وسار عبد الرحمن من فوره، فعسكر ببيان، فكان عبد الرحمن بن مفلح
وإبراهيم بن سيما، يتناوبان المصير إلى عسكر الناجم، فيوقعان به، ويخيفان من فيه
وإسحاق بن كنداجيق (2) يومئذ بالبصرة، وقد قطع الميرة عن عسكر الناجم، فكان
الناجم يجمع أصحابه في اليوم الذي يخاف فيه موافاة عبد الرحمن بن مفلح وإبراهيم
ابن سيما، حتى ينقضي الحرب، ثم يصرف فريقا منهم إلى ناحية البصرة، فيواقع بهم إسحاق
ابن كنداجيق، فأقاموا على هذه الحال بضعة عشر شهرا إلى أن صرف موسى بن بغا عن
حرب الزنج (3).
قال أبو جعفر: وسبب ذلك أن المعتمد رد أمر فارس والأهواز والبصرة وغيرها من

(1) الطبري: " الدولاب ".
(2) الطبري: " كنداج ".
(3) في الطبري: " إلى أن صرف موسى بن بغا عن حرب الخبيث، ووليها مسرور البلخي، وانتهى.
الخبر بذلك إلى الخبيث ".
162

النواحي والأقطار إلى أخيه أبى أحمد بعد فراغه من حرب يعقوب بن الليث الصفار وهزيمته
له، فاستخلف أبو أحمد على حرب صاحب الزنج مسرورا البلخي، وصرف موسى بن بغا
عن ذلك، واتفق أن ابن واصل حارب عبد الرحمن بن مفلح، فأسره وقتله، وقتل طاشتمر
التركي أيضا، وذلك بناحية رامهرمز، فاستخلف مسرور البلخي على الحرب أبا الساج
وولى الأهواز، فكانت بينه وبين علي بن أبان المهلبي وقعة بناحية دولاب، قتل فيها
عبد الرحمن صهر أبى الساج، وانحاز أبو الساج إلى عسكر مكرم، ودخل الزنج الأهواز،
فقتلوا أهلها، وسبوا وأحرقوا [دورها] (1).
* * *
قال أبو جعفر: ثم وجه صاحب الزنج جيوشه بعد هزيمة أبى الساج إلى ناحية البطيحة
والحوانيت ودشت ميسان، قال: وذلك لان واسطا خلت من أكثر الجند في وقعة أبى
أحمد ويعقوب بن الليث التي كانت عند دير العاقول، فطمع الزنج فيها، فتوجه إليها سليمان
ابن جامع في عسكر من الزنج، وأردفه الناجم بجيش آخر مع أحمد بن مهدي في سميريات،
فيها رماة من أصحابه، أنفذه إلى نهر المرأة وأنفذ عسكرا آخر فيه سليمان بن موسى
فأمره أن يعسكر بالنهر المعروف باليهودي، فكانت بين هؤلاء وبين من تخلف بهذه
الأعمال من عساكر السلطان حروب شديدة، وكانت سجالا لهم وعليهم، حتى ملكوا
البطيحة والحوانيت، وشارفوا واسطا، وبها يومئذ محمد المولد من قبل السلطان، فكانت
بينه وبين سليمان بن جامع حروب كثيرة يطول شرحها وتعداده. وأمده الناجم بالخليل بن
أبان، أخي علي بن أبان المهلبي في ألف وخمسمائة فارس، ومعه أبو عبد الله الزنجي المعروف
بالمذوب، أحد قوادهم المشهورين، فقوى سليمان بهم، وأوقع بمحمد المولد، فهزمه ودخل
واسطا في ذي الحجة سنة أربع وستين ومائتين بزنوجه وقواده، فقتل منها خلقا كثيرا،
ونهبها وأحرق دورها وأسواقها، وأخرب كثيرا من منازل أهلها، وثبت للمحاماة عنها قائد

(1) من تاريخ الطبري.
163

كان بها من جانب محمد بن المولد يقال له أذكنجور البخاري: فحامى يومه ذلك إلى العصر،
ثم قتل، وكان الذي يقود الخيل يومئذ في عسكر سليمان بن جامع، الخليل بن أبان وعبد الله
المعروف بالمذوب، وكان أحمد بن مهدي الجبائي في السميريات، وكان مهريار (1) الزنجي في
الشذوات، وكان سليمان بن موسى الشعراني وأخوه في ميمنته وميسرته، وكان سليمان بن
جامع، وهو الأمير على الجماعة في قواده السودان ورجالته منهم، وكان الجميع يدا واحدة،
فلما قضوا وطرهم من نهب واسط وقتل أهلها، خرجوا بأجمعهم عنها، فمضوا إلى جنبلاء،
وأقاموا هناك يعيثون ويخربون.
وفي أوائل سنة خمس وستين، دخلوا إلى النعمانية، وجرجرايا وجبل، فنهبوا وأخربوا
وقتلوا وأحرقوا، وهرب منهم أهل السواد فدخلوا إلى بغداد.
* * *
قال أبو جعفر: فأما علي بن أبان المهلبي فإنه استولى على معظم أعمال الأهواز، وعاث
هناك وأخرب وأحرق، وكانت بينه وبين عمال السلطان وقواده مثل أحمد بن ليثويه،
ومحمد بن عبد الله الكردي، وتكين البخاري، ومطر بن جامع، وأغرتمش التركي وغيرهم،
وبينه وبين عمال يعقوب بن الليث الصفار، مثل خضر بن العنبر وغيره حروب عظيمة،
ووقعات كثيرة، وكانت سجالا، تارة له وتارة عليه، وهو في أكثرها المستظهر عليهم،
وكثرت أموال الزنج والغنائم التي حووها من البلاد والنواحي، وعظم أمرهم، وأهم الناس
شأنهم، وعظم على المعتمد وأخيه أبى أحمد خطبهم، واقتسموا الدنيا، فكان علي بن محمد
الناجم صاحب الزنج وإمامهم مقيما بنهر أبى الخصيب، قد بنى مدينة عظيمة سماها
المختارة (2)، وحصنها بالخنادق، واجتمع إليه فيها من الناس ما لا ينتهى العد والحصر إليه،
رغبة ورهبة، وصارت مدينة تضاهي سامراء وبغداد، وتزيد عليهما وأمراؤه وقواده

(1) الطبري: " الزنجي بن مهريان ".
164

بالبصرة وأعمالها يجبون الخراج على عادة السلطان لما كانت البصرة في يده، وكان علي بن أبان
المهلبي وهو أكبر أمرائه وقواده قد استولى على الأهواز وأعمالها، ودوخ بلادها كرامهرمز وتستر وغيرهما، ودان له الناس وجبا الخراج، وملك أموالا لا تحصى.
وكان سليمان بن جامع وسليمان بن موسى الشعراني، ومعهما أحمد بن مهدي الجبائي
في الأعمال الواسطية، قد ملكوها وبنوا بها المدن الحصينة وفازوا بأموالها وارتفاعها،
وجبوا خراجها، ورتبوا عمالهم وقوادهم فيها، إلى أن دخلت سنة سبع وستين ومائتين، وقد
عظم الخطب وجل، وخيف على ملك بنى العباس أن يذهب وينقرض، فلم يجد أبو أحمد
الموفق - وهو طلحة بن المتوكل على الله - بدا من التوجه بنفسه ومباشرته هذا الامر الجليل
برأيه وتدبيره، وحضوره معارك الحرب فندب أمامه ابنه أبا العباس، وركب أبو أحمد
إلى بستان الهادي ببغداد، وعرض أصحاب أبي العباس، وذلك في شهر ربيع الاخر من هذه
السنة، فكانوا عشرة آلاف، فرسانا ورجالة في أحسن زي وأجمل هيئة، وأكمل عدة
ومعهم الشذوات والسميريات والمعابر برسم الرجالة (1) كل ذلك قد أحكمت صنعته. فركب أبو العباس من بستان الهادي، وركب أبو أحمد مشيعا له حتى نزل القرية المعروفة بالفرك
ثم عاد وأقام أبو العباس بالفرك أياما، حتى تكامل عدده وتلاحق به أصحابه.
ثم رحل إلى المدائن، فأقام بها أياما ثم رحل إلى دير العاقول، فورد عليه كتاب نصير
المعروف بأبي حمزة وهو من جلة أصحابه، وكان صاحب الشذا والسميريات، وقد كان
قدمه على مقدمته بدجلة يعلمه فيه أن سليمان بن جامع قد وافى لما علم بشخوص أبى العباس،
والجبائي يقدمه في خيلهما ورجالهما وسفنهما، حتى نزلا الجزيرة التي بحضرة بردودا، فوق

(1) الطبري: " للرجالة ".
165

واسط بأربعة فراسخ، وأن سليمان بن موسى الشعراني قد وافى نهر أبان بعسكره، عسكر
البر وعسكر الماء، فرحل أبو العباس لما قرأ هذا الكتاب حتى وافى جرجرايا، ثم منها إلى
فم الصلح، ثم ركب الظهر، وسار حتى وافى الصلح، ووجه طلائعه ليتعرف الخبر، فأتاه
منهم من أخبره بموافاة القوم، وأن أولهم قريبا من الصلح، وآخرهم ببستان موسى بن
بغا، أسفل واسط، فلما عرف ذلك عدل عن سنن الطريق، ولقى أصحابه أوائل القوم،
فتطاردوا لهم عن وصية أوصاهم أبو العباس بها، حتى طمع الزنج فيهم، واغتروا وأمعنوا في اتباعهم، وجعلوا يصيحون بهم: اطلبوا أميرا للحرب، فإن أميركم مشغول
بالصيد!
فلما قربوا من أبى العباس بالصلح، خرج إليهم فيمن معه من الخيل والرجل، وأمر
فصيح بأبي حمزة: يا نصير إلى أين تتأخر عن هؤلاء الكلاب! ارجع إليهم، فرجع نصير
بشذواته وسميرياته، وفيها الرجال، وركب أبو العباس في سميرية ومعه محمد بن شعيب،
وحفت أصحابه بالزنج من جميع جهاتهم، فانهزموا ومنح الله أبا العباس وأصحابه أكتافهم،
يقتلونهم ويطردونهم، إلى أن وافوا قرية عبد الله، وهي على ستة فراسخ، من الموضع الذي
لقوهم فيه، وأخذوا منهم خمس شذوات وعشر سميريات، واستأمن منهم قوم، وأسر منهم
أسرى، وغرق من سفنهم كثير، فكان هذا اليوم أول الفتح على أبى العباس.
* * *
قال أبو جعفر فلما انقضى هذا اليوم، أشار على أبى العباس قواده وأولياؤه أن يجعل معسكره بالموضع الذي كان انتهى إليه، إشفاقا عليه من مقاربة القوم، فأبى إلا نزول واسط
بنفسه، ولما انهزم سليمان بن جامع ومن معه، وضرب الله وجوههم، انهزم سليمان بن
166

موسى الشعراني عن نهر أبان، حتى وافى سوق الخميس، ولحق سليمان بن جامع بنهر
الأمير، وقد كان القوم حين لقوا أبا العباس، أجالوا الرأي بينهم فقالوا: هذا فتى حدث
لم تطل ممارسته الحرب وتدربه بها، والرأي أن نرميه بحدنا كله، ونجتهد في أول لقية
نلقاه في إزالته، فلعل ذلك أن يروعه، فيكون سببا لانصرافه عنا، ففعلوا ذلك وحشدوا
واجتهدوا، فأوقع الله تعالى بهم بأسه ونقمته، ولم يتم لهم ما قدروه، وركب أبو العباس من
غد يوم الوقعة، حتى دخل واسطا في أحسن زي، وكان ذلك يوم جمعة، فأقام حتى صلى
بها صلاة الجمعة، واستأمن إليه خلق كثير من أتباع الزنج وأصحابهم، ثم انحدر إلى العمر،
وهو على فرسخ واحد من واسط، فاتخذه معسكرا، وقد كان أبو حمزة نصير وغيره أشاروا
عليه أن يجعل معسكره فوق واسط، حذرا عليه من الزنج فامتنع، وقال: لست نازلا
إلا العمر، وأمر أبا حمزة أن ينزل فوهة بردودا فوق واسط، وأعرض أبو العباس عن
مشاورة أصحابه واستماع شئ من آرائهم واستبد برأي نفسه، فنزل العمر وأخذ في بناء
الشذوات والسميريات، وجعل يراوح الزنج القتال ويغاديهم، وقد رتب خاصة غلمانه
ومواليه في سميريات، فجعل في كل سميرية أميرا منهم.
ثم إن سليمان استعد وحشد وفرق أصحابه، فجعلهم في ثلاثة أوجه، فرقه أتت من
نهر أبان، وفرقة من بر تمرتا، وفرقة من بردودا، فلقيهم أبو العباس، فلم يلبثوا أن
انهزموا، فلحقت طائفة منهم بسوق الخميس، وطائفة بمازروان وطائفة ببر تمرتا، وسلك
آخرون نهر الماذيان، واعتصم قوم منهم ببردودا، وتبعهم أصحاب أبي العباس، وجعل
أبو العباس قصده القوم الذين سلكوا نهر الماذيان، فلم يرجع عنهم حتى وافى بهم برمساور،
ثم انصرف، فجعل يقف على القرى والمسالك ويسأل عنها ويتعرفها، ومعه الأدلاء
وأرباب الخبرة، حتى عرف جميع تلك الأرض ومنافذها، وما ينتهى إليه من
167

البطائح والآجام وغيرها، وعاد إلى معسكره بالعمر، فأقام به أياما مريحا نفسه
وأصحابه.
نم أتاه مخبر فأخبره أن الزنج قد اجتمعوا واستعدوا لكبس عسكره، وأنهم على
إتيانه من ثلاثة أوجه، وأنهم قالوا: إن أبا العباس غلام يغرر بنفسه وأجمع رأيهم على
تكمين الكمناء، والمصير إليه من الجهات الثلاث، فحذر أبو العباس من ذلك
واستعد له، وأقبلوا إليه وقد كمنوا زهاء عشرة آلاف في برتمرتا، ونحوا من العدة في برهثا (1)
وتقدم منها عشرون سميرية إلى عسكر أبى العباس على أن يخرج إليهم فيهربوا بعد
مناوشة يسيرة فيجيزوا أبا العباس وأصحابه إلى أن يجاوزوا الكمناء، ثم يخرج الكمين
عليهم من ورائهم.
فمنع أبو العباس أصحابه من اتباعهم لما واقعوهم، وأظهروا الكسرة والعود، فعلموا أن
كيدهم لم ينفذ فيه، وخرج حينئذ سليمان والجبائي في الشذا والسميريات العظيمة، وقد كان
أبو العباس أحسن تعبئة أصحابه فامر أبا حمزة نصيرا أن يخرج إليهم في الشذا والسميريات
المرتبة، فخرج إليهم، ونزل أبو العباس في شذاة من شذوات قد كان سماها الغزال،
وأختار لها جدافين، وأخذ معه محمد بن شعيب الاشتيام، واختار من خاصة أصحابه وغلمانه
جماعة، دفع إليهم الرماح، وأمر الخيالة بالمسير بإزائه على شاطئ النهر، وقال لهم: لا تدعوا
المسير ما أمكنكم، إلى أن تقطعكم الأنهار. ونشبت الحرب بين الفريقين، فكانت
معركة القتال من حد قرية الرمل إلى الرصافة، حتى أذن الله في هزيمة الزنج، فانهزموا،
وحاز أصحاب أبي العباس منهم أربع عشر شذاه، وأفلت سليمان والجبائي في ذلك اليوم
بعد أن أشفيا على الهلاك راجلين، وأخذت دوابهما، ومضى جيش الزنج بأجمعه،
لا ينثني أحد منهم حتى وافوا طهيثا، وأسلموا ما كان معهم من أثاث وآلة، ورجع

(1) الطبري: " قس هثا ".
168

أبو العباس، فأقام بمعسكره بالعمر، وأصلح ما كان أخذ منهم من الشذا والسفن (1)،
ورتب الرجال فيها وأقام الزنج بعد ذلك عشرين يوما لا يظهر منهم أحد.
قال أبو جعفر: ثم أن الجبائي صار بعد ذلك يجئ في الطلائع كل ثلاثة أيام
وينصرف، وحفر في طريق عسكر أبى العباس آبارا، وصير فيها سفافيد حديد، وغشاها
بالبواري، وأخفى مواضعها، وجعلها على سنن مسير الخيل ليتهور فيها المجتازون بها، وجعل بواقي طرف العسكر متعرضا به، لتخرج الخيل طالبة له، فجاء يوما وطلبته الخيل كما
كانت تطلبه، فقطر (2) فرس رجل من قواد الفراغنة في بعض تلك الآبار فوقف أصحاب أبي
العباس بما ناله من ذلك على ما كان دبره الجبائي، فحذروا ذلك، وتنكبوا سلوك
تلك الطريق.
قال أبو جعفر: وألح الزنج في مغاداة العسكر في كل يوم بالحرب، وعسكروا
بنهر الأمير في جمع كثير، وكتب سليمان إلى الناجم يسأله إمداده بسميريات،
لكل واحدة منهن أربعون مجدافا، فوافاه من ذلك في مقدار عشرين يوما أربعون سميرية
فيها الرجال والسيوف والتراس والرماح، فكانت لأبي العباس معهم وقعات عظيمة،
وفي أكثرها الظفر لأصحابه والخذلان على الزنج، ولج أبو العباس في دخول الأنهار
والمضايق، حتى انتهى إلى مدينة سليمان بن موسى الشعراني بنهر الخميس التي بناها وسماها المنيعة وخاطر أبو العباس بنفسه مرارا، وسلم بعد أن شارف العطب، واستأمن إليه جماعة من قواد الزنج فأمنهم، وخلع عليهم وضمهم إلى عسكره، وقتل من قواد

(1) الطبري: " والسميريات ".
(2) قطر: ذهب وأسرع.
169

الزنج جماعة وتمادت الأيام بينه وبينهم، واتصل بأبي أحمد الموفق أن سليمان بن موسى
الشعراني والجبائي ومن بالاعمال الواسطية من قواد صاحب الزنج، كاتبوا صاحبهم،
وسألوه إمدادهم بعلي بن أبان المهلبي وهو المقيم حينئذ بأعمال الأهواز، والمستولي عليها،
وكان علي بن أبان قائد القواد وأمير الامراء فيهم، فكتب الناجم إلى علي بن أبان
يأمره بالمصير بجميع من معه إلى ناحية سليمان بن جامع، ليجتمعا على حرب
أبى العباس.
فصح عزم أبى أحمد على الشخوص إلى واسط وحضور الحرب بنفسه فخرج عن
بغداد في صفر من هذه السنة، وعسكر بالفرك وأقام بها أياما، حتى تلاحق به عسكره،
ومن أراد المسير معه، وقد أعد آلة الماء (1) ورحل من الفرك إلى المدائن، ثم إلى
دير العاقول، ثم إلى جرجرايا، ثم قنى، ثم جبل، ثم الصلح، حتى نزل على فرسخ
من واسط.
وتلقاه ابنه أبو العباس في جريدة خيل فيها وجوه قواده، فسأله أبوه عن خبرهم،
فوصف له بلاءهم ونصحهم، فخلع أبو أحمد على أبى العباس، ثم على القواد الذين كانوا معه، وانصرف أبو العباس إلى معسكره بالعمر فبات به، فلما كان صبيحة الغد،
رجل أبو أحمد منحدرا في الماء، وتلقاه ابنه أبو العباس في آلات الماء بجميع العسكر في
هيئة الحرب، على الوضع الذي كانوا يحاربون الزنج عليه فاستحسن أبو أحمد هيئتهم،
وسر بذلك، وسار أبو أحمد حتى نزل بإزاء القرية المعروفة بقرية عبد الله، ووضع العطاء،
فأعطى الجيش كله أرزاقهم، وقدم ابنه أبا العباس أمامه في السفن، وسار وراءه. فتلقاه

(1) الطبري: " وقد أعد له قبل ذلك الشذا والسميريات والمعابر ".
170

أبو العباس برؤوس وأسرى من أصحاب الشعراني، كان، لقيهم، فأمر أبو أحمد
بالأسرى فضربت أعناقهم، ورحل يريد المدينة التي بناها الشعراني، وسماها المنيعة
بسوق الخميس.
وإنما بدأ أبو أحمد بحرب الشعراني قبل حرب سليمان بن جامع، لان الشعراني كان
وراءه، فخاف إن بدأ بابن جامع، أن يأتيه الشعراني من ورائه، فيشغله عمن هو أمامه،
فلما قرب من المدينة، خرج إليه الزنج، فحاربوه حربا ضعيفة، وانهزموا، فعلا أصحاب أبي
العباس السور، ووضعوا السيف فيمن لقيهم وتفرق الزنج، ودخل أبو العباس
المدينة، فقتلوا وأسروا، وحووا ما كان فيها، وأفلت الشعراني هاربا ومعه خواصه،
فاتبعهم أصحاب أبي العباس، حتى وافوا بهم البطائح، فغرق منهم خلق كثير، ولجأ
الباقون إلى الآجام، وانصرف الناس، وقد استنقذ من المسلمات اللواتي كن بأيدي الزنج
في هذه المدينة خاصة خمسة آلاف امرأة، سوى من ظفر به من الزنجيات (1).
فأمر أبو أحمد بحمل النساء اللواتي سباهن الزنج إلى واسط، وأن يدفعن إلى
أوليائهن، وبات أبو أحمد بحيال المدينة، ثم باكرها، وأذن للناس في نهب ما فيها من
أمتعة الزنج، فدخلت ونهب كل ما كان بها، وأمر بهدم سورها، وطم (2) خندقها
وإحراق ما كان بقي منها، وظفر في تلك القرى التي كانت في يد الشعراني بما لا يحصى
من الأرز والحنطة والشعير، وقد كان الشعراني استولى على ذلك كله، وقتل أصحابه، فأمر أبو أحمد ببيعه وصرف ثمنه في أعطيات مواليه وغلمانه وجنده.

(1) الطبري: " من الزنجيات اللواتي كن في سوق الخميس ".
(2) طم الخندق والنهر: ردمه.
171

وأما الشعراني فإنه التحق هو وأخوه بالمذار، وكتب إلى الناجم يعرفه ذلك وأنه
معتصم بالمذار.
* * *
قال أبو جعفر: فحدثني محمد بن الحسن بن سهل، قال: حدثني محمد بن هشام الكرنبائي
المعروف بأبي واثلة، قال: كنت بين يدي الناجم ذلك اليوم وهو يتحدث، إذ ورد عليه
كتاب سليمان بخبر الواقعة وما نزل به، وانهزامه إلى المذار، فما كان إلا أن فض
الكتاب، ووقعت عينه على ذكر الهزيمة، حتى انحل وكاء بطنه، فنهض لحاجته ثم عاد.
فلما استوى به مجلسه، أخذ الكتاب وتأمله، فوقعت عينه على الموضع الذي أنهضه أولا،
فنهض لحاجته حتى فعل ذلك مرارا، فلم أشك في عظم المصيبة، وكرهت أن أسأله، فلما
طال الامر تجاسرت، فقلت: أليس هذا كتاب سليمان بن موسى قال: بلى، ورد بقاصمة
الظهر، ذكر أن الذين أناخوا عليه أوقعوا به وقعة لم تبق منه ولم تذر، فكتب كتابه هذا
وهو بالمذار، ولم يسلم بشئ غير نفسه، قال فأكبرت ذلك، والله يعلم ما أخفى من السرور
الذي وصل إلى قلبي. قال: وصبر علي بن محمد على مكروه ما وصل إليه، وجعل يظهر
الجلد، وكتب إلى سليمان بن جامع يحذره مثل الذي نزل بالشعراني، ويأمره بالتيقظ في
أمره وحفظ ما قبله.
قال أبو جعفر: ثم لم يكن لأبي أحمد بعد ذلك هم إلا في طلب سليمان بن جامع، فأتته
طلائعه، فأخبرته أنه بالحوانيت، فقدم أمامه ابنه أبا العباس في عشرة آلاف، فانتهى إلى
الحوانيت، فلم يجد سليمان بن جامع بها، وألفى هناك من قواد السودان المشتهرين
بالبأس والنجدة القائدين، المعروف أحدهما بشبل، والاخر بأبي الندى (1)، وهما من قدماء

(1) الطبري: " أبو النداء ".
172

أصحاب الناجم الذين كان قودهم في بدء مخرجه، وكان سليمان قد خلف هذين القائدين
بالحوانيت، لحفظ غلات كثيرة كانوا قد أخذوها، فحاربهما أبو العباس، فقتل من
رجالهما وجرح بالسهام خلقا كثيرا - وكانوا أجلد رجال سليمان بن جامع ونخبتهم الذين
يعتمد عليهم - ودامت الحرب بين أبى العباس وبينهم ذلك اليوم إلى أن حجز الليل بين
الفريقين. ورمى أبو العباس في ذلك اليوم كر كيا طائرا، فوقع بين الزنج والسهم فيه،
فقالوا: هذا سهم أبى العباس، وأصابهم منه ذعر، واستأمن في هذا اليوم بعضهم إلى أبى
العباس، فسأله عن الموضع الذي فيه سليمان بن جامع، فأخبره أنه مقيم بمدينته التي بناها بطهيثا،
فانصرف أبو العباس حينئذ إلى أبيه بحقيقة مقام سليمان، وأن معه هنالك جميع أصحابه إلا شبلا
وأبا الندى، فإنهما بالحوانيت لحفظ الغلات التي حووها. فأمر حينئذ أبو أحمد أصحابه
بالتوجه إلى طهيثا، ووضع العطاء فأعطى عسكره، وشخص مصاعدا إلى بردودا، ليخرج
منها إلى طهيثا، إذ كان لا سبيل له إليها إلا بذلك، فظن عسكره أنه هارب، وكادوا
ينفضون لولا أنهم عرفوا؟ حقيقة الحال، فانتهى إلى القرية بالخوذية، وعقد جسرا
على النهر المعروف بمهروذ وعبر عليه الخيل، وسار إلى أن صار بينه وبين مدينة سليمان
التي سماها المنصورة بطهيثا ميلان، فأقام هناك بعسكره، ومطرت السماء مطرا جودا،
واشتد البرد أيام مقامه هنالك، فشغل بالمطر والبرد عن الحرب فلم يحارب، فلما فتر ركب في
نفر من قواده ومواليه لارتياد موضع لمجال الخيل، فانتهى إلى قريب من سور تلك المدينة،
فتلقاه منهم خلق كثير وخرج عليه كمناء من مواضع شتى، ونشبت الحرب واشتدت،
فترجل جماعة من الفرسان، ودافعوا حتى خرجوا عن المضايق التي كانوا أو غلوها، وأسر
من غلمان أبى أحمد غلام يقال له وصيف العلمدار وعدة من قواد زيرك، وقتل في هذا
اليوم أحمد بن مهدي الجبائي أحد القواد العظماء من الزنج، رماه أبو العباس بسهم فأصاب
أحد منخريه حتى خالط دماغه، فخر صريعا، وحمل من المعركة وهو حي، فسأل أن يحمل
173

إلى الناجم فحمل من هناك إلى نهر أبى الخصيب إلى مدينة الناجم التي سماها المختارة، فوضع
بين يديه، وهو على ما به، فعظمت المصيبة عليه به إذ كان من أعظم أصحابه غناء، وأشدهم
تصبرا لإطاعته، فمكث الجبائي يعالج هنالك أياما ثم هلك، فاشتد جزع الناجم عليه،
وصار إليه فولى غسله وتكفينه والصلاة عليه، والوقوف على قبره إلى أن دفن، ثم
أقبل على أصحابه فوعظهم، وذكر موت الجبائي. وكانت وفاته في ليلة ذات
رعود وبروق.
فقال فيما ذكر عنه: موت الجبائي. وكانت وفاته في ليلة ذات
رعود وبروق.
فقال فيما ذكر عنه. لقد سمعت وقت قبض روحه زجل الملائكة بالدعاء له والترحم
عليه. وانصرف من دفنه منكسرا عليه الكآبة.
* * *
قال أبو جعفر: فلما أنصرف أبو أحمد ذلك اليوم من الوقعة، غاداهم بكرة الغد،
وعبأ أصحابه كتائب فرسانا ورجالة، وأمر بالشذا والسميريات أن يسار بها معه في النهر الذي
يشق مدينة طهيثا، وهو النهر المعروف بنهر المنذر، وسار نحو الزنج، حتى انتهى إلى سور
المدينة قريب قواد غلمانه في المواضع التي يخاف خروج الزنج عليه منها، وقدم الرجالة أمام
الفرسان، ونزل فصلى أربع ركعات، وابتهل إلى الله تعالى في النصر والدعاء للمسلمين، ثم
دعا بسلاحه فلبسه، وأمرا ابنه أبا العباس أن يتقدم إلى السور ويحض الغلمان على الحرب
ففعل، وقد كان سليمان بن جامع أعد أمام سور المدينة التي سماها المنصورة خندقا، فلما انتهى الغلمان إليه تهيبوا عبوره، وأحجموا عنه، فحرضهم قوادهم، وترجلوا معهم
فاقتحموه متجاسرين عليه، فعبروه وانتهوا إلى الزنج وهم مشرفون من سور مدينتهم، فوضعوا السلاح فيهم، وعبرت شرذمة من الفرسان الخندق خوضا، فلما رأى الزنج خبر
هؤلاء الذين لقوهم وجرأتهم عليهم، ولوا منهزمين، واتبعهم أصحاب أبي أحمد ودخلوا
174

المدينة من جوانبها، وكان الزنج قد حصنوها بخمسة خنادق، وجعلوا أمام كل خندق
منها سورا يمتنعون به، فجعلوا يقفون عند كل سور وخندق انتهوا إليه، وأصحاب أبي أحمد
يكشفونهم في كل موقف وقفوه، ودخلت الشذا والسميريات مدينتهم مشحونة بالغلمان
المقاتلة من النهر الذي يشقها بعد انهزامهم، فأغرقت كل ما مرت به لهم من شذاة أو سميرية
واتبعوا من تجافى النهر منهم، يقتلون ويأسرون، حتى أجلوهم عن المدينة وعما يتصل بها،
وكان ذلك زهاء فرسخ، فحوى أبو أحمد ذلك كله، وأفلت سليمان بن جامع في نفر من
أصحابه، واستحر القتل فيهم والأسر، واستنقذ من نساء أهل واسط وصبيانهم وما اتصل
بذلك من القرى ونواحي الكوفة زهاء عشرة آلاف، فأمر أبو أحمد بحياطتهم والانفاق
عليهم، وحملوا إلى واسط فدفعوا إلى أهليهم، واحتوى أبو أحمد على كل ما كان في تلك
المدينة من الذخائر والأموال والأطعمة والمواشي، فكان شيئا جليل القدر، فأمر ببيع
الغلات وغيرها من العروض، وصرفه في أعطيات عسكره ومواليه، وأسر من نساء سليمان
وأولاده عدة واستنقذ يومئذ وصيف العلمدار ومن كان أسره الزنج معه، فأخرجوا من
الحبس وقد كان الزنج أعجلهم الامر عن قتله وقتلهم، وأقام أبو أحمد بطهيثا سبعة عشر
يوما، وأمر بهدم سور المدينة، وطم خنادقها، ففعل ذلك، وأمر بتتبع من لجأ منهم إلى
الآجام، وجعل لكل من أتاه برجل منهم جعلا، فسارع الناس إلى طلبهم، فكان إذا
أتى بالواحد منهم خلع عليه وأحسن إليه، وضمه إلى قواد غلمانه لما دبر من استمالتهم،
وصرفهم عن طاعة صاحبهم، وندب نصيرا صاحب الماء في شذا وسميريات لطلب
سليمان بن جامع والهاربين معه من الزنج وغيرهم، وأمره بالجد في اتباعهم، حتى يجاوز
البطائح وحتى يلح دجلة المعروفة بالعوراء، وتقدم إليه في فتح السكور (1) التي كان سليمان
أحدثها ليقطع بها الشذا عن دجلة فيما بينه وبين النهر المعروف بأبي الخصيب، وتقدم إلى

(1) السكور: جمع سكر، بالكسر، وهو ما سد به النهر.
175

زيرك في المقام بطهيثا في جمع كثير من العسكر، ليتراجع إليها الذين كان سليمان أجلاهم عنها من
أهلها، فلما أحكم ما أراد إحكامه، تراجع بعسكره مزمعا على التوجه إلى الأهواز ليصلحها،
وقد كان قدم أمامه ابنه أبا العباس، وقد تقدم ذكر علي بن أبان المهلبي، وكونه استولى
على معظم كور الأهواز، ودوخ جيوش السلطان هناك، وأوقع بهم، وغلب على معظم
تلك النواحي والأعمال.
فلما تراجع أبو أحمد وافى بردودا، فأقام بها أياما، وأمر بإعداد ما يحتاج إليه للمسير على
الظهر إلى الأهواز، وقدم أمامه من يصلح الطرق والمنازل، ويعد فيها الميرة للجيوش التي
معه، ووافاه قبل أن يرحل عن واسط زيرك منصرفا عن طهيثا، بعد أن تراجع إلى النواحي
التي كان بها الزنج أهلها، وخلفهم آمنين، فأمره أبو أحمد بالاستعداد والانحدار في الشذا
والسميريات في نخبة عسكره وأنجادهم، فيصير بهم إلى دجلة العوراء، فتجتمع يده ويد نصير
صاحب الماء على نقض دجلة، واتباع المنهزمين من الزنج والإيقاع بكل من لقوا
من أصحاب سليمان إلى أن ينتهى بهم المسير إلى مدينة الناجم بنهر أبى الخصيب، فإن رأوا
موضع حرب حاربوه في مدينته، وكتبوا بما يكون منهم إلى أبى أحمد، ليرد عليهم من
أمره ما يعملون بحسبه.
واستخلف أبو أحمد على من خلفه من عسكره بواسط ابنه هارون، وأزمع على
الشخوص في خف من رجاله وأصحابه، ففعل ذلك، بعد أن تقدم إلى ابنه هارون في أن
يحذر الجيش الذي خلفه معه في السفن إلى مستقره بدجلة، إذا وافاه كتابه بذلك. وارتحل
شاخصا من واسط إلي الأهواز وكورها، فنزل باذبين إلى الطيب، إلي قرقوب إلى وادي
السوس، وقد كان عقد له عليه جسر فأقام به من أول النهار إلى وقت الظهر، حتى عبر
عسكره أجمع، ثم سار حتى وافى السوس فنزلها، وقد كان أمر مسرورا البلخي وهو عامله
على الأهواز بالقدوم، عليه فوافاهم في جيشه وقواده من غد اليوم الذي نزل فيه السوس،
176

فخلع عليه وعليهم، وأقام بالسوس ثلاثا، وكان ممن أسر من الزنج بطهيثا أحمد بن موسى
ابن سعيد البصري المعروف بالقلوص، وكان قائدا جليلا عندهم، وأحد عدد الناجم، ومن
قدماء أصحابه، أسر بعد أن أثخن جراحات كانت فيها منيته، فأمر أبو أحمد باحتزاز رأسه
ونصبه على جسر واسط.
* * *
قال أبو جعفر: واتصل بالناجم خبر هذه الوقعة بطهيثا، وعلم ما نيل من أصحابه، فانتقض
عليه تدبيره وضلت حيلته، فحمله الهلع إلى أن كتب إلى علي بن أبان المهلبي، وهو يومئذ
مقيم بالأهواز في زهاء ثلاثين ألفا، يأمره بترك كل ما كان قبله من الميرة والأثاث، والاقبال
إليه بجميع جيوشه، فوصل الكتاب إلى المهلبي، وقد أتاه الخبر بإقدام أبى أحمد إلى الأهواز
وكورها، فهو لذلك طائر العقل. فقرأ الكتاب، وهو يحفزه فيه حفزا بالمصير إليه، فترك
جميع ما كان قبله، واستخلف عليه محمد بن يحيى بن سعيد الكرنبائي. فلما شخص المهلبي
عنه لم يثبت ولم يقم، لما عنده من الوجل وترادف الاخبار بوصول أبى أحمد إليه، فأخلى
ما استخلف عليه، وتبع المهلبي - وبالأهواز يومئذ ونواحيها من أصناف الحبوب والتمر
والمواشي شئ عظيم - فخرجوا عن ذلك كله، وكتب الناجم أيضا إلى بهبوذ بن عبد الوهاب
القائد وإليه يومئذ الأعمال التي بين الأهواز وفارس، يأمره بالقدوم عليه بعسكره، فترك
بهبوذ ما كان قبله من الطعام والتمر والمواشي، فكان ذلك شيئا عظيما، فحوى جمع ذلك
أبو أحمد، فكان قوة له على الناجم، وضعفا للناجم.
ولما رحل المهلبي عن الأهواز بث أصحابه في القرى التي بينه وبين مدينة الناجم،
فانتهبوها وأجلوا عنها أهلها، وكانوا في سلمهم، وتخلف خلق كثير ممن كان مع المهلبي من
الفرسان والرجالة عن اللحاق به، وأقاموا بنواحي الأهواز، وكتبوا يسألون أبا أحمد الأمان
177

لما انتهى عنه إليهم من عفوه عمن ظفر به من أصحاب الناجم. وكان الذي دعا الناجم إلى
أمر المهلبي وبهبوذ بسرعة المصير إليه، خوفه موافاة أبى أحمد بجيوشه إليه، على الحالة التي
الزنج عليها من الوجل وشدة الرعب، مع انقطاع المهلبي، وبهبوذ فيمن كان معهما عنه.
ولم يكن الامر كما قدر فإن أبا أحمد إنما كان قاصدا إلى الأهواز، فلو أقام المهلبي بالأهواز
وبهبوذ بمكانه في جيوشهما، لكان أقرب إلى دفاع جيش أبى أحمد عن الأهواز، وأحفظ
للأموال والغلات التي تركت بعد أن كانت اليد قابضة عليها.
* * *
قال أبو جعفر: وأقام أبو أحمد حتى أحرز الأموال التي كان المهلبي وبهبوذ وخلفاؤهما
تركوها، وفتحت السكور التي كان الناجم أحدثها في دجلة، وأصلحت له طرقه ومسالكه،
ورحل أبو أحمد عن السوس إلى جندي سابور، فأقام بها ثلاثا، وقد كانت الأعلاف
ضاقت على أهل العسكر، فوجه في طلبها وحملها، ورحل عن جندي سابور إلى تستر، فأقام
بها لجباية الأموال من كور الأهواز، وأنفذ إلى كل كورة قائدا ليروج بذلك حمل المال،
ووجه أحمد بن أبي الأصبغ إلى محمد بن عبد الله الكردي صاحب رامهرمز وما يليها من
القلاع والأعمال، وقد كان مالا المهلبي، وحمل إلى الناجم أموالا كثيرة وأمره بإيناسه
وإعلامه ما عليه رأيه في العفو عنه، والتغمد لزلته، وأن يتقدم إليه في حمل الأموال والمسير
إلى سوق الأهواز، بجميع من معه من الموالي والغلمان والجند، ليعرضهم ويأمر بإعطائهم
الأرزاق وينهضهم معه لحرب الناجم، ففعل وأحضرهم، وعرضوا رجلا رجلا، وأعطوا
ثم رحل إلى عسكر مكرم، فجعله منزله أياما، ثم رحل منه فوافى الأهواز وهو يرى
أنه قد تقدمه إليها من الميرة ما يحمل عساكره، فلم يكن كذلك، وغلظ الامر في ذلك
اليوم، واضطرب الناس اضطرابا شديدا، فأقام ثلاثة أيام ينتظر ورود الميرة، فلم ترد
فساءت أحوال الناس وكاد ذلك يفرق جماعتهم، فبحث عن السبب المؤخر لورودها
178

فوجد الزنج قد كانوا قطعوا قنطرة قديمة أعجمية، كانت بين سوق الأهواز ورمهرمز،
يقال لها قنطرة أربق، فامتنع التجار ومن كان يحمل الميرة من الورود، لقطع تلك القنطرة
فركب أبو أحمد إليها، وهي على فرسخين من سوق الأهواز، فجمع من كان في العسكر
من السودان، وأخذهم بنقل الصخر والحجارة لإصلاح هذه القنطرة، وبذل لهم من أموال
الرعية، فلم يرم حتى أصلحت في يومه ذلك، وردت إلى ما كانت عليه، فسلكها الناس،
ووافت القوافل بالميرة، فحيى أهل العسكر، وحسنت أحوالهم، وأمر بجمع السفن لعقد الجسر على دجيل الأهواز، فجمعت من جميع الكور، وأقام بالأهواز أياما حتى أصلح
أصحابه أمورهم، وما احتاجوا إليه من آلاتهم، وحسنت أحوال دوابهم، وذهب عنها
ما كان بها من الضر بتأخر الأعلاف، ووافت كتب القوم الذين تخلفوا عن المهلبي،
وأقاموا بعده بسوق الأهواز يسألون أبا أحمد الأمان، فأمنهم، فأتاه منهم نحو ألف رجل فأحسن إليهم، وضمهم إلى قواد غلمانه، وأجرى لهم الأرزاق، وعقد الجسر على دجيل الأهواز، ورحل بعد أن قدم جيوشه أمامه، وعبر دجيلا، فأقام بالموضع المعروف بقصر
المأمون ثلاثا، وقد كان قدم ابنه أبا العباس إلى نهر المبارك، من فرات البصرة، وكتب إلى
ابنه هارون بالانحدار إليه ليجتمع العساكر هناك، ورحل أبو أحمد عن قصر المأمون إلى
قورج العباس، ووافاه أحمد بن أبي الأصبغ هنالك بهدايا محمد بن عبد الله الكردي صاحب
رامهرمز من دواب ومال (1) ثم رحل عن القورج فنزل الجعفرية، ولم يكن بها ماء
وقد كان أنفذ إليها وهو بعد في القورج من حفر آبارها، فأقام بها يوما وليلة، وألفى بها
ميرا مجموعة فاتسع الجند بها، وتزودوا منها ثم رحل إلى المنزل المعروف بالبشير، فألفى
فيه غديرا من ماء المطر، فأقام به يوما وليلة، ورحل إلى المبارك وكان منزلا بعيد المسافة

(1) الطبري: " وضوار وغير ذلك ".
179

فتلقاه ابناه أبو العباس وهارون في طريقه، وسلما عليه، وسارا بسيره، حتى ورد بهم المبارك
وذلك يوم السبت للنصف من رجب سنة: سبع وستين.
قال أبو جعفر: فأما نصير ولزيرك، فقد كانا اجتمعا بدجلة العوراء، وانحدرا حتى وافيا
الأبلة بسفنهما وشذاهما، فاستأمن إليهما رجل من أصحاب الناجم، فأعلمهما أنه قد أنفذ
عددا كثيرا من السميريات والزواريق مشحونة بالزنج، يرأسهم قائد من قواده يقال له
محمد بن إبراهيم، ويكنى أبا عيسى.
قال أبو جعفر ومحمد بن إبراهيم هذا، رجل من أهل البصرة، جاء به إلى الناجم
صاحب شرطته المعروف بيسار واستصلحه لكتابته فكان يكتب له حتى مات (1)
وقد كانت ارتفعت حال أحمد بن مهدي الجبائي عند الناجم، وولاه أكثر أعماله، فضم
محمد بن إبراهيم هذا إليه، فكان كاتبه، فلما قتل الجبائي في وقعة سليمان الشعراني طمع
محمد بن إبراهيم هذا في مرتبته، وأن يحله الناجم محله، فنبذ القلم، والدواة ولبس آلة الحرب،
وتجرد للقتال، فأنهضه الناجم في هذا الجيش، وأمره بالاعتراض في دجلة لمدافعة من
يردها من الجيوش، فكان (2) يدخله أحيانا، وأحيانا يأتي بالجمع الذي معه إلى النهر
المعروف بنهر يزيد، وكان معه في ذلك الجيش من قواد الزنج شبل بن سالم وعمرو المعروف
بغلام بوذي (3) وأخلاط من السودان وغيرهم، فاستأمن رجل منهم كان في ذلك الجيش
إلى لزيرك ونصير، وأخبرهما خبره، وأعلمهما أنه على القصد لسواد عسكر نصير، وكان نصير
يومئذ معسكرا بنهر المرأة، وإنهم على أن يسلكوا الأنهار المعترضة على نهر معقل، وبثق

(1) الطبري: " فكان يكتب ليسار على ما يلي حتى مات ".
(2) الطبري: " فكان في دجلة أحيانا ".
(3) كذا في الطبري.
180

شيرين حتى يوافوا الشرطة ويخرجوا من وراء العسكر فيكبوا على من فيه، فرجع نصير
عند وصول هذا الخبر إليه من الأبلة، مبارزا إلى عسكره وسار لزيرك قاصدا بثق شيرين،
معارضا لمحمد بن إبراهيم، فلقيه في الطريق، فوهب الله له العلو عليه بعد صبر من الزنج له،
ومجاهدة شديدة فانهزموا ولجأوا إلى النهر الذي فيه كمينهم وهو نهر يزيد، فدل لزيرك
عليهم، فتوغلت إليهم سميرياته، فقتل منهم طائفة وأسر طائفة، فكان محمد بن إبراهيم
فيمن أسر، وعمرو غلام بوذي، وأخذ ما كان معهم من السميريات، وهي نحو ثلاثين
سميرية، وأفلت شبل بن سالم في الذين نجوا معه، فلحق بعسكر الناجم، وخرج لزيرك
في بثق شيرين سالما ظافرا، ومعه الأسارى ورؤوس القتلى، مع ما حوى من السميريات والسفن، وانصرف من دجلة العوراء إلى واسط، وكتب إلى أبى أحمد بالفتح، وعظم
الجزع على كل من كان بدجلة وكورها من أتباع الناجم، فاستأمن إلى نصير صاحب الماء،
وهو مقيم حينئذ بنهر المرأة زهاء ألفي رجل من الزنج وأتباعهم.
فكتب إلى أبى أحمد بخبرهم، فأمره بقبولهم وإقرارهم على الأمان، وإجراء الأرزاق
عليهم، وخلطهم بأصحابه، ومناهضة العدو بهم، ثم كتب إلى نصير يأمره بالإقبال إليه إلى
نهر المبارك، فوافاه هنالك.
وقد كان أبو العباس عند منصرفه إلى نهر المبارك، أنحدر إلى عسكر الناجم في الشذا،
فأوقع بهم في مدينته بنهر أبى الخصيب، فكانت الحرب بينهما من أول النهار إلى آخر
وقت الظهر.
واستأمن إليه قائد جليل من قواد الناجم من المضمومين، كانوا إلى سليمان بن جامع،
يقال له منتاب، ومعه جماعة من أصحابه، فكان ذلك مما كسر من الناجم، وانصرف أبو
العباس بالظفر وخلع على منتاب الزنجي، ووصله وحمله. فلما لقى أباه أخبره خبره، وذكر
181

إليه خروجه إليه في الأمان، فأمر أبو أحمد له بخلع وصلة وحملان، وكان منتاب أول من
استأمن من جملة قواد الناجم.
* * *
قال أبو جعفر: ولما نزل أبو أحمد نهر المبارك (1) كان أول ما عمل به في أمر الناجم
أن كتب إليه كتابا يدعوه فيه إلى التوبة والإنابة إلى الله تعالى، مما ارتكب من سفك
الدماء، وانتهاك المحارم، وإخراب البلدان والأمصار، واستحلال الفروج والأموال،
وانتحال ما لم يجعله الله له أهلا من النبوة والإمامة، ويعلمه أن التوبة له مبسوطة، والأمان
له موجود، فإن نزع عما هو عليه من الأمور التي يسخطها الله تعالى، ودخل في جماعة
المسلمين، محا ذلك ما سلف من عظيم جرائمه، وكان له به الحظ الجزيل في دنياه وآخرته، وأنفذ ذلك إليه مع رسول، فالتمس الرسول إيصاله إليه، فامتنع الزنج من قبول الكتاب،
ومن إيصاله إلى صاحبهم، فألقى الرسول الكتاب إليهم إلقاء، فأخذوه وأتوا به صاحبهم،
فقرأه ولم يجب عنه بشئ ورجع الرسول إلى أبى أحمد، فأخبره فأقام خمسة أيام متشاغلا
بعرض السفن، وترتيب القواد والموالي والغلمان فيها، وتخير الرماة، وانتخابهم
للمسير بها.
ثم سار في اليوم السادس في أصحابه ومعه ابنه أبو العباس إلى مدينة الناجم (2) التي
سماها المختارة، من نهر أبى الخصيب فأشرف عليها، وتأملها فرأى منعتها وحصانتها بالسور
والخنادق المحيطة بها، وغور (3) الطريق المؤدى إليها، وما قد أعد من المجانيق

(1) الطبري: " ولما نزل أبو أحمد نهر المبارك يوم السبت للنصف من رجب سنة سبع وستين ومائتين "
(2) الطبري: " فلما كان يوم الخميس سار أبو أحمد في أصحابه ومعه ابنه أبو العباس إلى مدينة
الخبيث ".
(3) الطبري: " وما عور من الطرق المؤدية لها ".
182

والعرادات القسي الناوكية، وسائر الآلات على سورها، فرأى ما لم ير مثله ممن تقدم
من منازعي السلطان، ورأي من كثرة عدد مقاتلتهم واجتماعهم ما استغلظ أمره.
ولما عاين الزنج أبا أحمد وأصحابه، ارتفعت أصواتهم بما أرتجت له الأرض، فأمر أبو
أحمد عند ذلك ابنه أبا العباس بالتقدم إلى سور المدينة، ورشق من عليه بالسهام، ففعل
ودنا حتى ألصق شذواته بمسناة قصر الناجم، وانحاز الزنج بأسرهم إلى المواضع الذي دنت
منه الشذا. وتحاشدوا، وتتابعت سهامهم وحجارة منجنيقاتهم وعراداتهم ومقاليعهم،
ورمى عوامهم بالحجارة عن أيديهم، حتى ما يقع طرف ناظر على موضع إلا رأى فيه سهما أو حجرا.
وثبت أبو العباس فرأى الناجم وأشياعه من جهدهم واجتهادهم وصبرهم ما لا عهد
لهم بمثله من أحد ممن حاربهم، وحينئذ أمر أبو أحمد ابنه أبا العباس بالرجوع بمن معه إلى
مواقفهم ليروحوا عن أنفسهم، ويداووا جروحهم ففعلوا ذلك، واستأمن في هذه الحال
إلى أبى أحمد مقاتلان من مقاتلة السميريات من الزنج، فأتياه بسميرياتهما وما فيها من
الملاحين والآلات، فأمر لها بخلع ديباج ومناطق محلاة بالذهب، ووصلهما بمال، وأمر
للملاحين بخلع من الحرير الأحمر والأخضر الذي حسن موقعه منهم، وعمهم جميعا بصلاته،
وأمر بإدنائهم من الموضع الذي يراهم فيه نظراؤهم، فكان ذلك من أنجع (1) المكايد التي
كيد بها صاحب الزنج، فلما رأى الباقون ما صار إليه أصحابهم من العفو عنهم، والاحسان
إليهم رغبوا في الأمان، وتنافسوا فيه، فابتدر منهم جمع كثير مسرعين نحوه راغبين فيما
شرع لهم منه، فأمر أبو أحمد لهم بمثل ما أمر به لأصحابهم فلما رأى الناجم ركون أصحاب
السميريات إلى الأمان، ورغبتهم فيه، أمر برد من كان منهم في دجلة إلى نهر أبى

(1) الطبري: " أنجع ".
183

الخصيب، ووكل بفوهة النهر من يمنعهم الخروج، وأمر بإظهار شذاوته الخاصة وندب
لهم بهبوذ بن عبد الوهاب، وهو من أشد كماته بأسا، وأكثرهم عددا وعدة، فانتدب
بهبوذ لذلك، وخرج في جمع كثيف من الزنج فكانت بينه وبين أبى حمزة نصير صاحب
الماء، وبين أبى العباس بن أبي أحمد وقعات شديدة، في كلها يظهر عليه أصحاب السلطان،
ثم يعود فيرتاش ويحتشد فيخرج فيواقعهم حتى صدقوه الحرب، وهزموه وألجأوه إلى
فناء قصر الناجم وأصابته طعنتان، وجرح بالسهام وأوهنت أعضاءه الحجارة، وأولجوه
نهر أبى الخصيب وقد أشفى على الموت، وقتل قائد جليل معه من قواد الزنج ذو بأس
ونجدة، وتقدم في الحرب، يقال له عميرة.
واستأمن إلى أبى أحمد جماعة أخرى فوصلهم وحباهم وخلع عليهم، وركب أبو أحمد
في جميع جيشه وهو يومئذ في خمسين ألف رجل، والناجم في ثلاثمائة ألف رجل، كلهم
يقاتل ويدافع، فمن ضارب بسيف، وطاعن برمح، ورام بقوس وقاذف بمقلاع
ورام بعرادة ومنجنيق. وأضعفهم أمر الرماة بالحجارة عن أيديهم، وهم النظارة
المكثرون للسواد والمعينون بالنعير والصياح، والنساء يشركنهم في ذلك أيضا، فأقام
أبو أحمد بإزاء عسكر الناجم إلى أن أضحى، وأمر فنودي: الأمان مبسوط للناس:
أسودهم وأحمرهم، إلا لعدو الله الداعي علي بن محمد، وأمر بسهام فعلقت فيها رقاع
مكتوب فيها من الأمان، مثل الذي نودي به، ووعد الناس فيها الاحسان ورمى بها إلى
عسكر الناجم، فمالت إليه قلوب خلق كثير من أولئك، ممن لم يكن له بصيرة في اتباع
الناجم، فأتاه في ذلك اليوم جمع كثيرة من الشذا والسميريات، فوصلهم وحباهم، وقدم
عليه قائدان من قواده، وكلاهما من مواليه ببغداد أحدهما بكتمر والاخر بغرا (1) في جمع

(1) الطبري: " جعفر بن بغلانجر ".
184

من أصحابهما، فكان ورودهما زيادة في قوته، ثم رحل في غد هذا اليوم بجميع جيشه،
فنزل متاخما لمدينة الناجم في موضع كان تخيره للنزول، فأوطن (1) هذا الموضع، وجعله معسكرا له وأقام به، ورتب قواده ورؤساء أصحابه مراتبهم، فجعل نصيرا صاحب الماء في
أول العسكر، وجعل زيرك التركي في موضع آخر، وعلي بن جهشار حاجبه في موضع آخر،
وراشدا مولاه في مواليه وغلمانه الأتراك والخزر والروم والديالمة والطبرية والمغاربة والزنج
والفراغنة والعجم والأكراد، محيطا هو وأصحابه بمضارب أبى أحمد وفساطيطه وسرادقاته،
وجعل صاعد بن مخلد وزيره وكاتبه في جيش آخر من الموالي والغلمان، فوق عسكر راشد،
وأنزل مسرورا البلخي القائد صاحب الأهواز في جيش آخر على جانب من جوانب
عسكره، وأنزل الفضل ومحمدا ابني موسى بن بغا في جانب آخر بجيش آخر (2) وتلاهما
القائد المعروف بموسى (3)، ولجوا في جيشه وأصحابه، وجعل بغراج التركي على ساقته في
جيش كثيف، بعدة عظيمة، وعدد جم، ورأي أبو أحمد من حال الناجم وحصانة موضعه وكثرة جمعه، ما علم معه أنه لا بد له من الصبر عليه، وطول الأيام في محاصرته،
وتفريق جموعه، وبذل الأمان لهم والاحسان إلى من أناب منهم والغلظة على من أقام
على غيه منهم، واحتاج إلى الاستكثار من الشذا وما يحارب به في الماء وشرع في بناء
مدينة مماثله لمدينة الناجم، وأمر بإنفاذ الرسل في حمل الآلات والصناع من البر والبحر، وإنفاذ المير والأزواد والأقوات وإيرادها إلى عسكره بالمدينة التي شرع فيها، وسماها الموفقية
وكتب إلى عماله بالنواحي في حمل الأموال إلى بيت ماله في هذه المدينة، وألا يحمل إلى
بيت المال بالحضرة درهم واحد، وأنفذ رسلا إلى سيراف وجنابة في بناء الشذا

(1) أوطن: أقام.
(2) الطبري: " في جيشهما على النهر المعروف بهالة ".
(3) الطبري: " مرسى دالجوبه ".
(4) الطبري: " وجنابا ".
185

والاستكثار منها لحاجته إلى أن يبثها ويفرقها في المواضع التي يقطع بها الميرة الناجم
وأصحابه، وأمر بالكتاب إلى عماله في إنفاذ كل من يصلح للإثبات والعرض في
الدواوين من الجند والمقاتلة، وأقام ينتظر ذلك شهرا أو نحوه، فوردت المير متتابعة،
يتلو بعضها، بعضا، ووردت الآلات والصناع وبنيت المدينة، وجهز التجار صنوف التجارات
في الأمتعة، وحملوها إليها، واتخذت بها الأسواق، وكثر بها التجار والمجهزون من كل
بلد، ووردت إليها مراكب من البحر، وقد كانت انقطعت لقطع الناجم وأصحابه سبلها
قبل ذلك بأكثر من عشر سنين، وبنى أبو أحمد في هذه المدينة المسجد الجامع، وصلى بالناس فيه واتخذ دور الضرب، فضرب بها الدنانير والدراهم، فجمعت هذه المدينة جميع
المرافق وسيق إليها صنوف المنافع، حتى كان ساكنوها لا يفقدون فيها شيئا مما يوجد في
الأمصار العظيمة القديمة. وحملت الأموال وأدر العطاء على الناس في أوقاته،
فاتسعوا وحسنت أحوالهم ورغب الناس جميعا في المصير إلى هذه والمقام بها.
* * *
قال أبو جعفر: وأمر الناجم بهبوذ بن عبد الوهاب، فعبر والناس غارون في سميريات إلى
طرف عسكر أبى حمزة صاحب الماء، فأوقع به وقتل جماعة من أصحابه، وأسر جماعة وأحرق
أكواخا كانت لهم، وأرسل إبراهيم بن جعفر الهمداني - وهو من جملة قواد الناجم - في أربعة
آلاف زنجي، ومحمد بن أبان المكنى أبا الحسين - أخا علي بن أبان المهلبي في ثلاثة آلاف
والقائد المعروف بالدور في ألف وخمسمائة، ليغيروا على أطراف عسكر أبى أحمد ويوقعوا بهم،
فنذر بهم (1) أبو العباس، فنهد إليهم في جمع كثيف من أصحابه، وكانت بينه وبينهم
حروب كان الاستظهار فيها كلها له واستأمن إليه جماعة منهم فخلع عليهم، وأمر أن
يوقفوا بإزاء مدينة الناجم ليعاينهم أصحابه، وأقام أبو أحمد يكايد الناجم ويبذل

(1) نذر: علم.
186

الأموال لأصحابه تارة، ويواقعهم ويحاربهم تارة ويقطع الميرة عنهم، فسرى بهبوذ
الزنجي في الا جلاد المنتخبين من رجالة ليلة من الليالي، وقد تأدى إليه خبر قيروان (1)
ورد للتجار، فيه صنوف التجارات والأمتعة والمير، فكمن في النخل، فلما ورد
القيروان، خرج إلى أهله وهم غارون، فقتل منهم وأسر وأخذ ما شاء أن يأخذ من الأموال.
وقد كان أبو أحمد علم بورود ذلك القيروان، وأنفذ قائدا من قواده لبذرقته (2) في جمع
خفيف فلم يكن لذلك القائد ببهبوذ طاقة، فانصرف عنه منهزما.
فلما انتهى إلى أبى أحمد ذلك، غلظ عليه ما نال الناس في أموالهم وتجاراتهم فأمر
بتعويضهم وأخلف عليهم مثل الذي ذهب منهم، ورتب على فوهة النهر المعروف بنهر بيان،
وهو الذي دخل القيروان فيه جيشا قويا لحراسته.
* * *
قال أبو جعفر: ثم أنفذ الناجم جيشا عليه القائد المعروف بصندل الزنجي، وكان
صندل هذا - فيما ذكر - يكشف وجوه الحرائر المسلمات ورؤوسهن ويقلبهن تقليب
الإماء، فإن امتنعت منهن امرأة لطم وجهها، ودفعها إلى بعض علوج الزنج يواقعها،
ثم يخرجها بعد ذلك إلى سوق الرقيق فيبيعها بأوكس الثمن، فيسر الله تعالى قتله في وقعة
جرت بينه وبين أبى العباس، أسر وأحضر بين يدي أبى أحمد، فشده كتافا، ورماه
بالسهام حتى هلك.
* * *
قال أبو جعفر: ثم ندب الناجم جيشا آخر وأمره أن يغير على طرف من أطراف عسكر
أبى أحمد وهم غارون، فاستأمن من ذلك الجيش زنجي مذكور يقال له مهذب. كان

(1) القيروان: القافلة.
(2) البذرقة: الحراسة والخفارة؟
187

من فرسان الزنج وشجعانهم، فأتى به إلى أبى أحمد وقت إفطاره فأعلمه أنه جاء راغبا في
الطاعة والأمان، وأن الزنج على العبور في ساعتهم تلك إلى عسكره للبيات، وأن
المندوبين لذلك أنجادهم وأبطالهم، فأمر أبو أحمد أبا العباس ابنه أن ينهض إليهم في قواد
عينهم له، فنهضوا فلما أحس ذلك الجيش بأنهم قد نذروا بهم، وعرفوا استئمان صاحبهم،
رجعوا إلى مدينتهم.
* * *
قال أبو جعفر: ثم إن الناجم ندب أجل قواده وأكبرهم قدرا عنده، وهو على
ابن أبان المهلبي وانتخب له أهل البأس والجلد، وأمره أن يبيت عسكر أبى أحمد، فعبر
في زهاء خمسة آلاف رجل، أكثرهم الزنج وفيهم نحو مائتي قائد من مذكور يهم
وعظمائهم، فعبر ليلا إلى شرقي دجلة، وعزموا على أن يفترقوا قسمين: أحدهما خلف عسكر
أبى أحمد والثاني أمامه، ويغير الذين أمامه على أصحاب أبي أحمد، فإذا ثاروا إليهم، واستعرت الحرب أكب أولئك الذين من وراء العسكر على من يليهم، وهم مشاغيل بحرب من
بإزائهم، وقدر الناجم وعلي بن أبان أن يتهيأ لهما من ذلك ما أحبا، فاستأمن منهم إلى أبى
أحمد غلام كان معهم من الملاحين ليلا، فأخبره خبرهم، وما اجتمعت عليه آراؤهم، فأمر
ابنه أبا العباس والغلمان والقواد بالحذر والاحتياط والجد، وفرقهم في الجهتين
المذكورتين.
فلما رأى الزنج أن تدبيرهم قد انتقض، وأنه قد فطن لهم ونذر بهم، كروا راجعين
في الطريق الذي أقبلوا فيه، طالبين التخلص. فسبقهم أبو العباس ولزيرك إلى فوهة النهر
ليمنعوهم من عبوره، وأرسل أبو أحمد غلامه الأسود الزنجي الذي يقال له ثابت - وكان
له قيادة على السودان الذين بعسكر الموفق - فأمره أن يعترضهم، ويقف لهم في طريقهم
188

بأصحابه، فأدركهم وهو في خمسمائة رجل فواقعهم، وشد عضده أبو العباس ولزيرك بمن
معهما، فقتل من الزنج أصحاب الناجم خلق كثير، وأسر منهم كثير وأفلت الباقون فلحقوا
بمدينتهم، وانصرف أبو العباس بالفتح وقد علق رؤوس الزنج في الشذا وصلب الأسارى
أحياء فيها، فاعترضوا بهم مدينتهم ليرهبوا بهم أصحابهم، فلما رأوهم رعبوا وانكسروا.
واتصل بأبي أحمد أن الناجم موه على أصحابه، وأوهم أن الرؤوس المرفوعة مثل مثلها لهم
أبو أحمد ليراعوا، وأن الأسارى المصلبين من المستأمنة، فأمر أبو أحمد عند ذلك بجميع
الرؤوس والمسير بها إلى إزاء قصر الناجم، والقذف بها في منجنيق منصوب في سفينة إلى
عسكره، ففعل ذلك، فلما سقطت الرؤوس في مدينتهم، عرف أولياء القتلى رؤوس أصحابهم،
فظهر بكاؤهم وصراخهم.
* * *
قال أبو جعفر: وكانت لهم وقعات كثيرة بعد هذه، في أكثرها ينهزم الزنج ويظفر
بهم، وطلب وجوههم الأمان، فكان ممن استأمن محمد بن الحارث القائد، وإليه كان حفظ
النهر المعروف بمنكى، والسور الذي يلي عسكر أبى أحمد، كان خروجه ليلا مع عدة
من أصحابه، فوصله أبو أحمد بصلات كثيرة، وخلع عليه وحمله على عدة دواب بحليتها
وآلاتها، وأسنى له الرزق.
وكان محمد هذا حاول إخراج زوجته معه، وهي إحدى بنات عمه فعجزت المرأة عن
اللحاق به، فأخذها الزنج فردوها إلى الناجم، فحبسها مدة، ثم أمر بإخراجها والنداء عليها
في السوق فبيعت.
وممن استأمن، القائد المعروف بأحمد البرذعي كان من أشجع رجالهم، وكان يكون أبدا
مع المهلبي.
189

وكان ممن استأمن مربدا (1) القائد وبرنكوبه (2) وبيلويه (3)، فخلعت عليهم الخلع
ووصلوا بالصلات الكثيرة، وحملوا على الخيول المحلاة، وأحسن إلى كل من جاء معهم
من أصحابهم.
* * *
قال أبو جعفر: فضاقت المير على الناجم وأصحابه، فندب شبلا القائد وأبا الندى،
وهما من رؤساء قواده، وقدماء أصحابه الذين يعتمد عليهم ويثق بمناصحتهم وأمرهما بالخروج
في عشرة آلاف من الزنج وغيرهم، والقصد إلى نهر الدير ونهر المرأة ونهر أبى الأسد،
والخروج من هذه الأنهار إلى البطيحة، والغارة (4) على المسلمين وأهل القرى وقطع الطرقات،
وأخذ جميع ما يقدرون عليه من الطعام والميرة وحمله إلى مدينته. وقطعه عن الوصول إلى
عسكر أبى أحمد. فندب أبو أحمد لقصدهم مولاه لزيرك في جيش كثيف، بعضه في الماء،
وبعضه على الظهر، فواقعهم في الموضع المعروف بنهر عمر، فكانت بينه وبينهم حرب
شديدة أسفرت عن انكسارهم وخذلان الله لهم فأخذ منهم أربعمائة سفينة، وأسرى كثيرين
وأقبل بها وبهم، وبالرؤوس إلى عسكر أبى أحمد.
قال أبو جعفر: وندب أبو أحمد ابنه أبا العباس لقصد مدينة الناجم؟؟، والعلو عليها، فقصدها من النهر المعروف بالغربي، وقد أعد الناجم به علي بن أبان المهلبي، فاستعرت
الحرب بين الفريقين، فأمد الناجم عليا بسليمان بن جامع في جمع كثير من قواد الزنج، واتصلت
الحرب، واستأمن كثير من قواد الزنج إلى أبى العباس، وامتدت الحرب إلى بعد العصر،
ثم انصرف أبو العباس، فاجتاز في منصرفه بمدينة الناجم، وقد انتهى إلى الموضع المعروف

(1) الطبري: " مديد ".
(2) الطبري: " وابن أنكلويه ".
(3) الطبري: " وخيلفة ".
(4) الطبري: " للغارة ".
190

بنهر الأتراك، فرأى في ذلك النهر قلة من الزنج الذين يحرسونه، فطمع فيهم، فقصد نحوهم،
وصعد جماعة من أصحابه سور المدينة، وعليه فريق من الزنج، فقتلوا من أصابوا هناك،
ونذر الناجم بهم، فأنجدهم بقواد من قواده، فأرسل أبو العباس إلى أبيه
يستمده، فوافى من عسكر أبى أحمد من خف من الغلمان، فقوى بهم عسكر
أبى العباس.
وقد كان سليمان بن جامع لما رأى أن أبا العباس قد أوغل في نهر الأتراك، صعد
في جمع كثير من الزنج، ثم استدبر أصحاب أبي العباس وهم متشاغلون بحرب من بإزائهم
على سور المدينة، فخرج عليهم من ورائهم وخفقت طبولهم، فانكشف أصحاب أبي العباس
وحملت الزنج عليهم من أمامهم، فأصيب في هذه الوقعة جماعة من غلمان أبى أحمد
وقواده، وصار في أيدي الزنج عدة أعلام ومطارد، وحامى أبو العباس عن نفسه حتى
انصرف سالما، فأطمعت هذه الوقعة الزنج وأتباعهم (1)، وشدت قلوبهم، فأجمع أبو أحمد
على العبور بجيشه أجمع، وأمر بالاستعداد والتأهب، فلما تهيأ له ذلك عبر في آخر
ذي الحجة من سنة سبع وستين، في أكثف جمع، وأكمل عدة، وفرق قواده على أقطار
مدينة الناجم، وقصد هو بنفسه ركنا من أركانها، وقد كان الناجم حصنه بابنه الذي
يقال له أنكلاي، وكنفه بعلي بن أبان وسليمان بن جامع، وإبراهيم بن جعفر الهمداني
وحفه بالمجانيق والعرادات (2) والقسي الناوكية، وأعد فيه الناشبة (3) جمع فيه أكثر
جيشه، فلما التقى الجمعان أمر أبو أحمد غلمانه الناشبة والرامحة (4) والسودان بالدنو من هذا

(1) الطبري: " وتباعهم ".
(2) العرادة بالتشديد: من آلات الحرب، أصغر من المنجنيق.
(3) الناشبة: الرماة بالنشاب، والنشاب: السهام، مأخوذة من النشوب.
(4) الرامحة: الرماة بالرمح.
191

الركن، وبينه وبينهم النهر المعروف بنهر الأتراك وهو نهر عريض غزير الماء، فلما
انتهوا إليه أحجموا عنه، فصيح بهم، وحرضوا على العبور، فعبروه سباحة، والزنج
ترميهم بالمجانيق والعرادات والمقاليع والحجارة عن الأيدي، والسهام عن قسى اليد،
وقسى الرجل، وصنوف الآلات التي يرمى عنها، فصبروا على جميع ذلك حتى جاوزوا
النهر وانتهوا إلى السور، ولم يكن لحقهم من الفعلة من كان أعده لهدمه فتولى الغلمان
تشعيث السور بما كان معهم من السلاح، ويسر الله تعالى ذلك وسهلوا لأنفسهم السبيل
إلى علوه، وحضرهم بعض السلاليم التي كانت اتخذت لذلك، فعلوا الركن ونصبوا عليه
علما عليه مكتوب " الموفق بالله "، وأكبت عليهم الزنج فحاربوا أشد حرب، وقتل
من قواد أبى أحمد القائد المعروف بثابت الأسود، رمى بسهم في بطنه فمات، وكان من
جلة القواد، وأحرق أصحاب الموفق ما على ذلك الركن من المنجنيقات والعرادات.
وقصد أبو العباس بأصحابه جهة أخرى من جهات المدينة ليدخلها من النهر المعروف
بمنكى، فعارضه علي بن أبان في جمع من الزنج فظهر أبو العباس عليه، وهزمه وقتل
قوما من أصحابه، وأفلت علي بن أبان المهلبي راجعا، وانتهى أبو العباس إلى نهر منكى
وهو يرى أن المدخل من ذلك الموضع سهل، فوصل إلى الخندق، فوجده عريضا منيعا،
فحمل أصحابه أن يعبروه فعبروه، وعبرته الرجالة سباحة ووافوا السور فثلموا منه ثلمة واتسع لهم دخولها فدخلوا فلقى أولهم سليمان بن جامع وقد أقبل للمدافعة عن تلك الناحية، فحاربوه
وكشفوه، وانتهوا إلى النهر المعروف بابن سمعان، وهو نهر سيق بالمدينة، وصارت الدار
المعروفة يدار ابن سمعان في أيديهم، فأحرقوا ما كان فيها وهدموها.
فوقفت الزنج على نهر ابن سمعان، وقوفا طويلا ودافعوا مدافعة شديدة، وشد بعض
موالي الموفق على علي بن أبان فأدبر عنه هاربا فقبض على مئزره، فحل على المئزر ونبذه إلى
الغلام، ونجا بعد أن أشرف على الهلكة، وحمل أصحاب أبي أحمد على الزنج فكشفوهم
192

عن نهر ابن سمعان حتى وافوا بهم طرف المدينة وركب الناجم بنفسه في جمع من خواصه،
فتلقاه أصحاب الموفق، فعرفوه وحملوا عليه، وكشفوا من كان معه حتى أفرد، وقرب منه
بعض الرجالة حتى ضرب وجه فرسه بترسه، وكان ذلك وقت غروب الشمس، وحجز
الليل بينهم وبينه وأظلم، وهبت ريح شمال عاصف، وقوى الجزر: فلصق أكثر سفن
الموفق بالطين، وحرض الناجم أصحابه، فثاب منهم جمع كثير، فشدوا على سفن الموفق،
فنالوا منها نيلا، وقتلوا نفرا، وصمد بهبوذ الزنجي لمسرور البلخي بنهر الغربي فأوقع به، وقتل جماعة من أصحابه، وأسر أسرى، وصار في يده دواب من دوابهم، فكسر ذلك من
نشاط أصحاب الموفق، وقد كان هرب في هذا اليوم من قواد صاحب الزنج، وتفرقوا
على وجوههم نحو نهر الأمير وعبادان وغيرهما، وكان ممن هرب ذلك اليوم منهم أخو سليمان
ابن موسى الشعراني، ومحمد وعيسى، فمضيا يؤمان البادية حتى انتهى إليهما رجوع أصحاب
الموفق، وما نيل منهم، فرجعا وهرب جماعة من العرب الذين كانوا في عسكر الناجم،
وصاروا إلى البصرة، وبعثوا يطلبون الأمان من أبى أحمد، فأمنهم ووجه إليهم
السفن، وحملهم إلى الموفقية، وخلع عليهم وأجرى لهم الأرزاق والانزال.
وكان ممن رغب في الأمان من قواد الناجم القائد المعروف بريحان بن صالح المغربي،
وكانت له رياسة وقيادة، وكان يتولى حجبة أنكلاني بن الناجم. فكتب ريحان
يطلب الأمان لنفسه ولجماعة من أصحابه، فأجيب إلى ذلك، وأنفذ إليه عدد كثير من الشذا
والسميريات والمعابر مع لزيرك القائد، صاحب مقدمة أبى العباس، فسلك نهر اليهودي
إلى آخره فألفى به ريحان القائد ومن كان معه من أصحابه، وقد كان الموعد تقدم منه
في موافاة ذلك الموضع، فسار لزيرك به وبهم إلى دار الموفق، فأمر لريحان بخلع جليلة،
193

وحمل على عدة أفراس بآلتها وحليتها، وأجيز بجائزة سنية، وخلع على أصحابه، وأجيزوا
على أقدارهم ومراتبهم، وضم ريحان إلى أبى العباس، وأمر بحمله وحمل أصحابه والمصير بهم
إلى إزاء دار الناجم، فوقفوا هنالك في الشذا، عليهم الخلع الملونة بصنوف الألوان والذهب
حتى عاينوهم مشاهدة فاستأمن في هذا اليوم من أصحاب ريحان الذين كانوا تخلفوا
عنه ومن غيرهم جماعة فألحقوا في البر والاحسان بأصحابهم (1).
ثم استأمن جعفر بن إبراهيم المعروف بالسجان في أول يوم من سنة ثمان وستين
ومائتين، وكان أحد ثقات الناجم، ففعل به من الخلع والاحسان ما فعل بريحان، وحمل
في سميرية حتى وقف بإزاء قصر الناجم، حتى يراه أصحابه وكلمهم وأخبرهم أنهم في غرور
من صاحبهم، وأعلمهم ما وقف عليه من كذبه وفجوره، فاستأمن في هذا اليوم
خلق كثير من قواد الزنج وغيرهم، وتتابع الناس في طلب الأمان، وأقام
أبو أحمد يجم أصحابه، ويداوي جراحهم، ولا يحارب ولا يعبر إلى الزنج إلى شهر
ربيع الاخر.
ثم عبر جيشه في هذا الشهر المذكور مرتبا على ما استصلحه من تفريقه في جهات
مختلفة، وأمرهم بهدم سور المدينة، وتقدم إليهم أن يقتصروا على الهدم، ولا يدخلوا
المدينة، ووكل بكل ناحية من النواحي التي وجه إليها قواده سفنا فيها الرماة، وأمرهم
أن يحموا بالسهام من يهدم السور من الفعلة، فثلمت في هذا اليوم من السور ثلم كثيرة،
واقتحم أصحاب أبي أحمد المدينة من جميع تلك الثلم وهزموا من كان عليها من الزنج،
وأوغلوا في طلبهم، واختلف بهم طرق المدينة، وتفرقت بهم السكك والفجاج

(1) في الطبري بعدها: " وكان خروج ريحان بعد الوقعة التي كانت يوم الأربعاء في يوم الأحد لليلة
بقيت من ذي الحجة سنة سبع وستين ومائتين ".
194

وانتهوا إلى أبعد من المواضع التي كانوا وصلوا إليها في المرة التي قبلها، فتراجعت إليهم الزنج،
وخرج عليهم كمناؤهم من نواح يهتدون إليها، ولا يعرفها جيش أبى أحمد فتحير جيش
أبى أحمد، فقتل منهم خلق كثير، وأصاب الزنج منهم أسلحه وأسلابا، وأقام ثلاثون ديلميا
من أصحاب أبي أحمد يدافعون عن الناس ويحمونهم، حتى خلص إلى السفن من
خلص، وقتلت الديالمة عن آخرها، وعظم على الناس ما أصابهم في هذا اليوم، وانصرف
أبو أحمد إلى مدينته الموفقية فجمع قواده، وعذلهم على ما كان منهم من مخالفة أمره،
والافساد عليه في رأيه وتدبيره، وتوعدهم بأغلظ العقوبة إن عادوا لمثل ذلك، وأمر بإحصاء
المقتولين من أصحابه، فأتى بأسمائهم، فأقر ما كان جاريا لهم على أولادهم وأهاليهم،
فحسن موقع ذلك، وزاد في صحة نيات أصحابه، لما رأوا من حياطته خلف من أصيب
في طاعته.
قال أبو جعفر: وشرع أبو أحمد في قطع الميرة عن مدينة الناجم من جميع الجهات،
وقد كان يجلب إليهم من السمك الشئ العظيم من مواضع كثيرة، فمنع ذلك عنهم، وقتل
القوم الذين كانوا يجلبونه، وأخذت عليهم الطرق، وانسد عليهم كل مسلك كان لهم،
وأضر بهم الحصار، وأضعف أبدانهم وطالت المدة فكان الأسير منهم يؤسر،
والمستأمن يستأمن، فيسأل عن عهده بالخبز (1)، فيقول: مذ سنة أو سنتين، واحتاج من كان
منهم مقيما في؟ مدينة الناجم إلى الحيلة لقوته، فتفرقوا في الأنهار النائية عن عسكرهم طلبا
للقوت، وكثرت الأسارى منهم في عسكر أبى أحمد، لأنه كان يلتقطهم بأصحابه يوما
فيوما، فأمر باعتراضهم (2) لما رأى كثرتهم، فمن كان منهم ذا قوة وجلد ونهوض بالسلاح
من عليه وأحسن إليه، وخلطه بغلمانه السودان، وعرفهم مالهم عنده من البر والاحسان
ومن كان منهم ضعيفا لا حراك به، أو شيخا فانيا لا يطيق حمل السلاح، أو مجروحا
جراحة قد أزمنته، أمر بأن يكسى ثوبين، ويوصل بدارهم، ويزود ويحمل إلى عسكر

(1) في الأصول: " بالخير "، والصواب ما أثبته من الطبري.
(2) د: " بعرضهم ".
195

الناجم، فيلقى هناك بعد أن يوصى (1) بوصف ما عاين من إحسان أبى أحمد إلى كل من
يصير إليه، وأن ذلك رأيه في جميع من يأتيه مستأمنا، أو يأسره، فتهيأ له بذلك ما أراد
من استمالة الزنج، حتى استشعروا الميل إلى ناحيته، والدخول في سلمه وطاعته.
* * *
قال أبو جعفر: ثم كانت الوقعة التي قتل فيها بهبوذ (2) الزنجي القائد وجرح أبو العباس،
وذلك أن بهبوذ كان أكثر أصحاب الناجم غارات، وأشدهم تعرضا لقطع السبل، وأخذ
الأموال، وكان قد جمع من ذلك لنفسه مالا جليلا، وكان كثير الخروج في السميريات
الخفاف فيخترق بها الأنهار المؤدية إلى دجلة، فإذا صادف سفينة لأصحاب أبى أحمد
أخذها واستولى على أهلها، وأدخلها النهر الذي خرج منه، فإن تبعه تابع حتى توغل في
طلبه، خرج عليه من ذلك النهر قوم من أصحابه، قد أعدهم لذلك، فأقطعوه وأوقعوا به.
فوقع التحرز حينئذ منه، والاستعداد لغاراته، فركب شذاة، وشبهها بشذوات أبى أحمد،
ونصب عليها علما مثل أعلامه، وسار بها ومعه كثير من الزنج، فأوقع بكثير من أصحاب أبي
أحمد، وقتل وأسر. فندب له أبو أحمد ابنه أبا العباس في جمع كثيف، فكانت بينهما
وقعة شديدة، ورمى فيها أبو العباس بسهم فأصابه، وأصابت بهبوذ طعنة في بطنه من
يد غلام من بعض سميريات أبى العباس، فهوى إلى الماء، فابتدره أصحابه فحملوه ورجعوا به
إلى عسكر الناجم، فلم يصلوا به إلا وهو ميت، فعظمت الفجيعة به على الناجم وأوليائه، واشتد
عليه جزعهم، وخفى موته على أبى أحمد حتى استأمن إليه رجل من الملاحين، فأخبره
بذلك فسر، وأمر بإحضار الغلام الذي طعنه، فوصله وكساه وطوقه، وزاد في رزقه.
وأمر لجميع من كان في تلك السميرية بصلات وخلع، وعولج أبو العباس من جرحه
مدة حتى برأ، وأقام أبو أحمد في مدينته الموفقية ممسكا عن حرب الزنج، محاصرا لهم

(1) الطبري: " يؤمر ".
(2) الطبري: " بهبوذ بن عبد الوهاب ".
196

بسد الأنهار وسكرها، واعترض من يخرج منهم لجلب الميرة، ومنتظرا برء ولده، حتى
كمل بعد شهور كثيرة وانقضت سنة ثمان وستين.
ونقل إسحاق بن كنداجيق عن البصرة وأعمالها، فولى الموصل والجزيرة وديار
ربيعة وديار مضر.
ودخلت سنة تسع وستين وأبو أحمد مقيم على الحصار، فلما أمن على أبى العباس،
وركب على عادته عاود النهوض إلى حرب الناجم.
* * *
قال أبو جعفر: وقد كان بهبوذ لما هلك طمع الناجم في أمواله لكثرتها ووفورها،
وصح عنده أنه ترك مائتي ألف دينار عينا، ومن الجواهر وغيرها بمثل ذلك فطلب المال
المذكور بكل حيلة وحبس أولياء بهبوذ وقرابته وأصحابه، وضربهم بالسياط، وأثار دورا
من دوره، وهدم أبنية من أبنيته، طمعا في أن يجد في شئ منها دفينا، فلم يجد من ذلك شيئا،
فكان فعله هذا أحد ما أفسد قلوب أصحابه عليه، ودعاهم إلى الهرب منه، والزهد في صحبته،
فاستأمن منهم إلى أبى أحمد خلق كثير، فوصلهم وخلع عليهم ورأي أن يعبر دجلة من
الجانب الشرقي إلى الجانب الغربي، فيجعل لنفسه هناك معسكرا، ويبنى به مدينة أخرى،
ويضيق خناق الناجم، ويتمكن من مغاداته ومراوحته بالحرب، فقد كانت الريح العاصف
تحول بينه وبين عبور دجلة في كثير من الأيام بالجيش، فأمر بقطع النخل المقارب لمدينة
الناجم لذلك، وإصلاح موضع يتخذه معسكرا، وأن يحف بالخنادق، ويحصر بالسور
ليأمن بيات الزنج، وجعل على قواده نوائب لذلك، ومعهم الفعلة والرجال، فقابل الناجم
ذلك، بأن جعل علي بن أبان المهلبي وسليمان بن جامع وإبراهيم بن جعفر الهمداني نوبا
للحرب والمدافعة عن ذلك، وكان أنكلاني بن الناجم ربما حضر في نوبة أيضا، وضم
197

إليه سليمان بن موسى بن الشعراني، وقد كان صار إليه من المذار بعد الوقعة التي انهزم فيها، وعلم الناجم أن أبا أحمد إذا جاوره صعب أمره، وقرب على من يريد اللحاق به من
الزنج المسافة مع ما يدخل قلوب أصحابه بمجاورته من الرعب والرهبة، وفي ذلك انتقاض
تدبيره، وفساد جميع أموره، فكانت الحرب بين قواد أبى أحمد وقواد الناجم متصلة،
على إصلاح هذا الموضع، ومدافعة الزنج عنه.
واتفق أن عصفت الرياح يوما وجماعة من قواد أبى أحمد بالجانب الغربي للعمل الذي
يريدونه، فانتهز الناجم الفرصة في امتناع العبور بدجلة لعصف الريح فرماهم بجميع
جيشه، وكاثرهم برجله، فلم تجد الشذوات التي مع قواد أبى أحمد سبيلا إلى الوقوف بحيث
كانت واقفة به، لحمل الرياح إياها على الحجارة، وخوف (1) أصحابها عليها من التكسر،
ولم يجدوا سبيلا إلى العبور في دجلة لشدة الريح واضطراب الأمواج، فأوقعت الزنج بهم،
فقتلوهم عن آخرهم، وأفلت منهم نفر، فعبروا إلى الموفقية، فاشتد جزع أبى أحمد وأصحابه
لما نالهم.
ولما تهيأ للزنج عليهم، وعظم بذلك اهتمامهم. وتعقب أبو أحمد الرأي، فرأى أن نزوله ومقامه بالجانب الغربي، مجاور مدينة الناجم خطأ، وأنه لا يؤمن منه حيلة وانتهاز
فرصة فيوقع بالعسكر بياتا أو يجد مساغا إلى (2) ما يكون له قوة، لكثرة الأدغال في ذلك
الموضع، وصعوبة المسالك، وإن الزنج على التوغل في تلك المواضع الوعرة الموحشة أقدر وهو عليهم أسهل من أصحابه، فانصرف عن رأيه في نزول الجانب الغربي وصرف همه وقصده

(1) الطبري: " وما خاف ".
(2) الطبري: " إلى شئ مما يكون ".
198

إلى هدم سور مدينة الناجم، وتوسعة الطريق والمسالك لأصحابه في دخولها، فندب القواد
لذلك، وندب الناجم قواده للمدافعة عنها، وطال الأمد، وتمادت الأيام.
فلما رأى أبو أحمد تحاشد الزنج وتعاونهم على المنع من هدم السور، أزمع على مباشرة
ذلك بنفسه، وحضوره إياه، ليستدعي بذلك جد أصحابه واجتهادهم، ويزيد في عنايتهم
وهممهم، فحضر بنفسه، واتصلت الحرب، وغلظت على الفريقين، وكثر القتل والجراح
في الحزبين، وأقام أبو أحمد أياما كثيرة يغاديهم الحرب ويراوحهم، فكانوا لا يفترون
يوما من الأيام وصعب على أصحاب أبي أحمد ما كانوا يرومونه، واشتدت حماية الزنج
عن مدينتهم، وباشر الناجم الحرب بنفسه، ومعه نخبة أصحابه وأبطالهم، والمؤمنون أنفسهم
على الصبر معه فحاموا جهدهم حتى، لقد كانوا يقفون الموقف فيصيب أحدا منهم السهم
أو الطعنة أو الضربة فيسقط فيجذبه الذي إلى جانبه، فينحيه ويقف موقفه إشفاقا من أن
يخلو موقف رجل منهم، فيدخل الخلل عليهم.
واتفق في بعض الأيام شدة ضباب ستر بعض الناس عن بعض، فما يكاد الرجل يبصر
صاحبه، وظهر أصحاب أبي أحمد، ولاحت تباشير الفتح، ودخل الجند إلى المدينة
وولجوها، وملكوا مواضع منها، وإنهم لعلى ذلك، حتى وصل سهم من سهام الزنج
إلى أبى أحمد، رماه به رومي كان مع الناجم، يقال له قرطاس، فأصابه في صدره وذلك لخمس
بقين من جمادى الأولى سنة تسع وستين ومائتين. فستر أبو أحمد وخواصه ما ناله من ذلك عن
الناس، وانصرف إلى الموفقية آخر نهار يومه هذا، فعولج في ليلته تلك وشدت الجراحة،
وغدا على الحرب على ما ناله من ألمها ليشد بذلك قلوب أصحابه من أن يدخلها وهن
أو ضعف، فزاد في قوة علته، بما حمل على نفسه من الحركة، فغلظت وعظم أمرها، حتى
خيف عليه العطب، واحتاج إلى علاج نفسه بأعظم ما يعالج به الجراح، واضطرب لذلك
199

العسكر والجند والرعية، وخافوا قوة الزنج عليهم، حتى خرج عن الموفقية جماعة من التجار
كانوا مقيمين بها لما وصل إلى قلوبهم من الرهبة.
* * *
قال أبو جعفر: وحدثت على أبى أحمد في حال صعوبة علته، حادثة في سلطانه وأمور
متعلقة بما بينه وبين أخيه المعتمد، فأشار عليه مشيرون من أصحابه وثقاته بالرحلة عن معسكره
إلى بغداد، وأن يخلف من يقوم مقامه، فأبى ذلك وحاذر أن يكون فيه تلافى ما قد فرق
من شمل صاحب الزنج، فأقام على صعوبة علته، وغلظ الامر الحادث في سلطانه وصبر إلى
أن عوفي فظهر لقواده وخاصته، وقد كان أطال الاحتجاب عنهم، فقويت برؤيته
منتهم، وأقام متماثلا مودعا نفسه إلى شعبان من هذه السنة، فلما أبل وقوى على الركوب
والنهوض، نهض وعاود ما كان مواظبا عليه من الحرب، وجعل الناجم لما صح عنده الخبر
بما أصاب أبا أحمد يعد أصحابه العدات، ويمنيهم الأماني، واشتدت شوكتهم، وقويت
آمالهم، فلما اتصل به ظهور أبى أحمد جعل يحلف للزنج على منبره، أن ذلك باطل
لا أصل له، وأن الذي رأوه في الشذا مثال موه وشبه عليهم.
* * *
قلت: الحادث الذي حدث على أبى أحمد من جهة سلطانه، أن أخاه المعتمد، وهو
الخليفة يومئذ، فارق دار ملكه، ومستقر خلافته مغاضبا له متجنيا عليه، زاعما أنه مستبد
بأموال المملكة وجبايتها، مضطهدا له مستأثرا عليه، فكاتب ابن طولون صاحب مصر،
وسأله أن يأذن له في اللحاق به فأجابه ابن طولون إلى ذلك، فخرج من سامراء في جماعة
من قواده ومواليه، قاصدا مصر. وكان أبو أحمد هو الخليفة في المعنى، وإنما المعتمد صورة
200

خالية من معاني الخلافة، لا أمر له ولا نهى، ولا حل ولا عقد، وأبو أحمد هو الذي
يرتب الوزراء والكتاب، ويقود القواد، ويقطع الاقطاع، ولا يراجع المعتمد في شئ
من الأمور أصلا، فاتصل به خبر المعتمد في شخوصه عن سامراء، وقصده ابن طولون،
فكاتب إسحاق بن كنداحيق وهو يومئذ على الموصل والجزيرة، فأمره أن يعترض المعتمد،
ويقبض عليه وعلى القواد والموالي الذين معه ويعيدهم إلى سامراء، وكتب لإسحاق بإقطاعه
ضياع أولئك القواد والموالي بأجمعهم، فاعترضهم إسحاق، وقد قربوا من الرقة، فأخذهم
وقبض عليهم، وقيدهم بالقيود الثقيلة ودخل على المعتمد فعنفه، وهجنه وعذله في شخوصه
عن دار ملكه وملك آبائه، ومفارقة أخيه على الحال التي هو بها، وحرب من يحاول قتله،
وقتل أهل بيته وزوال ملكهم.
ثم حملهم في قيودهم حتى وافى بهم سامراء، فأقر المعتمد على خلافته، ومنعه عن
الخروج، وأرسل أبو أحمد ابنه هارون، وكاتبه صاعد بن مخلد من الموفقية إلى سامراء فخلعا
على ابن كنداحيق، خلعا جليلة، وقلد بسيفين من ذهب، ولقب ذا السيفين، وهو أول
من قلد بسيفين، ثم خلع عليه بعد ذلك بيوم قباء ديباج أسود، ووشاحين مرصعين
بالجوهر الثمين، وتوج بتاج من ذهب مرصع بنفيس الجوهر، وقلد سيفا من ذهب مرصع
بالجواهر العظيمة، وشيعه إلى منزله هارون وصاعد، وقعدا على طعامه، كل ذلك مكافأة له
عن صنيعه في أمر المعتمد. فليعجب المتعجب من همة الموفق أبى أحمد، وقوة نفسه، وشدة
شكيمته! أن يكون بإزاء ذلك العدو، ويقتل من أصحابه كل وقت من يقتل، ثم يصاب
ولده بسهم، ويصاب هو بسهم آخر في صدره يشارف منه على الموت، ويحدث من أخيه
وهو الخليفة ما يحدث، ولا تنكسر نفسه ولا يهي عزمه، ولا تضعف قوته. وبحق
201

ما سمى المنصور الثاني! ولولا قيامه في حرب الزنج، لا نقرض ملك أهل بيته، ولكن الله
تعالى ثبته لما يريده من بقاء هذه الدولة.
* * *
قال أبو جعفر: ثم جد الموفق في تخريب السور، وإحراق المدينة، وجد الناجم في
إعداد المقاتلة والمحاطة عن سوره ومدينته، فكانت بين الفريقين حروب عظيمة تجل عن
الوصف، ورمى الناجم سفن الموفق المقاربة لسور مدينته بالرصاص المذاب، والمجانيق
والعرادات، وأمر أبو أحمد بإعداد ظلة (1) من خشب [للشذا (2)] وإلباسها جلود الجواميس،
وتغطية ذلك بالخيوش المطلية بصنوف العقاقير والأدوية التي تمنع النار من الاحراق، ففعل
ذلك، وحورب صاحب الزنج من تحتها، فلم تعمل ناره ورصاصه المذاب فيها شيئا، واستأمن
إلى أبى أحمد محمد بن سمعان، كاتب الناجم ووزيره في شعبان من هذه السنة، فهد باستئمانه
أركان الناجم، وأضعف قوته، وانتدب أبو العباس لقصد دار محمد بن يحيى الكرنبائي،
وكانت بإزاء دار الناجم، وشرع في الحيلة في إحراقها، وأحرق الموفق كثيرا من
الرواشين (3) المظلة على سور المدينة وشعثها، وعلا غلمان أبى أحمد على دار الناجم وولجوها
وانتهبوها، وأضرموا النار فيها، وفعل أبو العباس بدار الكرنبائي مثل ذلك، وجرح
أنكلاني بن الناجم في بطنه جراحة شديدة، أشفى منها على التلف، واتفق مع هذا
الظفر العظيم أن غرق أبو حمزة نصير صاحب جيش الماء عند ازدحام الشذوات وإكباب
الزنج على الحرب، فصعب ذلك على أبى أحمد، وقوى بغرقه أمر الزنج، وانصرف أبو أحمد

(1) الطبري " ظلال "، وهما اسم جمع، وأحدهما ظلة، بالضم.
(2) من الطبري.
(3) الرواشين: جمع روشن، وهو الكوة.
202

آخر نهار هذا اليوم، وعرضت له علة أقام فيها بقية شعبان وشهر رمضان، وأياما من شوال ممسكا عن حرب الزنج، إلى أن استبل من علته.
قال أبو جعفر: فلما أحرقت دار الناجم ودور أصحابه وشارف أن يؤخذ وعرضت لأبي أحمد هذه العلة، فأمسك فيها عن الحرب، انتقل الناجم من مدينته التي بناها بغربي
نهر أبى الخصيب إلى شرقيه إلى منزل وعر لا يخلص إليه أحد لاشتباك القصب والأدغال
والأحطاب فيه، وعليه خنادق من أنهار قاطعة معترضة فقطن هناك في خواصه، ومن
تخلف معه من جلة أصحابه وثقاته، ومن بقي في نصرته من الزنج، وهم حدود عشرين ألف
مقاتل، وانقطعت الميرة عنهم، وبان للناس ضعف أمرهم، فتأخر الجلب الذي كان يصل
إليهم، فبلغ الرطل من خبز البر عندهم عشرة دراهم، فأكلوا الشعير، ثم أكلوا أصناف
الحبوب، ثم لم يزل الامر كذلك إلى أن كانوا يتتبعون الناس، فإذا خلا أحد منهم بصبي
أو امرأة أو رجل ذبحوه وأكلوه، ثم صار قوى الزنج يعدو على ضعيفهم، فإذا خلا به ذبحه وأكل لحمه، ثم ذبحوا أولادهم، فأكلوا لحومهم، وكان الناجم لا يعاقب أحدا ممن فعل شيئا من ذلك إلا بالحبس، وإذا تطاول حبسه أطلقه.
ولما أبل الموفق من علته، وعلم انتقال الناجم إلى شرقي نهر أبى الخصيب واعتصامه به،
أعمل فكره في تخريب الجانب الشرقي عليه، كما فعل بالجانب الغربي، ليتمكن من قتله
أو أسره، فكانت له آثار عظيمة من قطع الأدغال والدحال (1) وسد الأنهار، وطم
الخنادق، وتوسيع المسالك وإحراق الأسوار المبنية، وإدخال الشذا وفيها المقاتلة إلى حريم
الناجم، وفي كل ذلك يدافع الزنج عن أنفسهم بحرب شديدة، وقتال عظيم تذهب فيها
النفوس، وتراق فيها الدماء، وكان الظفر في ذلك كله لأبي أحمد وأمر الزنج يزداد ضعفا

(1) الدحان: جمع دحل، وهو النقب الضيق الأعلى الواسع الأسفل، يمكن أن يمشى فيه.
203

وطالت الأيام على ذلك إلى أن استأمن سليمان بن موسى الشعراني، وهو من عظمائهم،
وقد تقدم ذكره، فوجه يطلب الأمان من أبى أحمد، فمنعه ذلك لما كان سلف منه من العيث وسفك الدماء بنواحي واسط.
ثم اتصل بأبي احمد أن جماعة من رؤساء الزنج قد استوحشوا لمنعه الشعراني من
الأمان، فأجاب إلى إعطائه الأمان استصلاحا بذلك غيره من رؤساء الزنج، وأمر بتوجيه
الشذا إلى موضع وقع الميعاد عليه، فخرج سليمان الشعراني وأخوه، وجماعة من قواده، فنزلوا، الشذا فصاروا إلى أبى العباس، فحملهم إلى أبى أحمد، فخلع على سليمان ومن معه، وحمله
على عدة أفراس بسروجها وآلتها، وأنزل له ولأصحابه أنزالا سنية، ووصله بمال جليل،
ووصل أصحابه وضمه وضمهم إلى أبى العباس، وأمر بإظهاره وإظهارهم في الشذا لأصحاب
الناجم، ليزدادوا ثقة بأمانته، فلم تبرح الشذا ذلك اليوم من موضعها، حتى استأمن جمع
كثير من قواد الزنج، فوصلوا وألحقوا بإخوانهم في الحباء والبر والخلع، والجوائز: فلما
استأمن الشعراني اختل ما كان الناجم قد ضبطه به من مؤخر عسكره، وقد كان جعله على
مؤخر نهر أبى الخصيب، فوهى أمره وضعف، وقلد ما كان سليمان يتولاه القائد المعروف
بشبل بن سالم، وهو من قوادهم المشهورين، فلم يمس أبو أحمد حتى وافاه رسول شبل
ابن سالم يطلب الأمان، ويسأل أن يوقف له شذوات عند دار ابن سمعان، ليكون قصده
في الليل إليها، ومعه من يثق به من أصحابه، فأجيب إلى سؤاله، ووافى آخر الليل ومعه
عياله وولده، وجماعة من قواده، فصاروا إلى أبى أحمد فوصله بصلة جليلة، وخلع عليه
خلعا كثيرة وحمله على عدة أفراس بسروجها وآلتها، ووصل أصحابه، وخلع عليهم،
وأحسن إليهم، وأرسله في الشذوات، فوقفوا بحيث يراهم الناجم وأصحابه نهارا، فعظم ذلك
عليه وعلى أوليائه، وأخلص شبل في مناصحة أبى أحمد، فسأل أن يضم إليه عسكرا يبيت
به عسكر الناجم، ويسلك إليه من مسالك يعرفها هو ولا يعرفها أصحاب أبي أحمد، ففعل
204

وكبس عسكر الناجم سحرا، فأوقع بهم وهم غارون، فقتل منهم مقتلة عظيمة واسر جمعا
من قواد الزنج وانصرف بهم إلى الموفق وذعر الزنج من شبل وما فعله، فامتنعوا من
النوم وخافوا خوفا شديدا، فكانوا يتحارسون بعد ذلك في كل ليلة، ولا تزال النفرة
تقع في عسكرهم، لما استشعروا من الخوف، ووصل إلى قلوبهم من الوحشة حتى لقد كان
ضجيجهم وتحارسهم يسمع بالموفقية.
وصح عزم الموفق على العبور لمحاربة الناجم في الجانب الشرقي من نهر أبى الخصيب، فجلس مجلسا عاما، وأمر بإحضار قواد المستأمنة ووجوه فرسانهم ورجالتهم من الزنج والبيضان
فأدخلوا إليه فخطبهم وعرفهم ما كانوا عليه من الضلالة والجهل، وانتهاك المحارم، وما كان
صاحبهم زينة لهم من معاصي الله سبحانه، وأن ذلك قد كان أحل له دماءهم وأنه قد غفر
الزلة وعفا عن العقوبة، وبذل الأمان، وعاد على من لجأ إليه بالفضل والاحسان. فأجزل
الصلات، وأسنى الأرزاق، وألحقهم بالأولياء وأهل الطاعة، وأن ما كان منه من ذلك
يوجب عليهم حقه وطاعته، وأنهم لن يأتوا بشئ يتعرضون به لطاعة ربهم، والاستدعاء
لرضا سلطانهم أولى بهم من الجد في مجاهدة الناجم وأصحابه، وأنهم من الخبرة بمسالك عسكر
الناجم ومضايق طرق مدينته، والمعاقل التي أعدها للحرب على ما ليس عليه غيرهم، فهم
أحرى أن يمحضوه نصحهم، ويجهدوا على الولوج إلى الناجم، والتوغل إليه في حصونه،
حتى يمكنهم الله منه ومن أشياعه، فإذا فعلوا ذلك فلهم الاحسان والمزيد، ومن قصر منهم
استدعى من سلطانه إسقاط حاله، وتصغير منزلته ووضع مرتبته.
فارتفعت أصواتهم جميعا بالدعاء للموفق والاقرار بإحسانه، وبما هم عليه من صحة
الضمائر من السمع والطاعة والجد في مجاهدة عدوه، وبذل دمائهم ومهجهم في كل
ما يقربهم منه، وأن ما دعاهم إليه قد قوى مننهم، ودلهم على ثقته بهم، وإحلاله إياهم
205

محل أوليائه، وسألوه أن يفردهم ناحية، ولا يخلطهم بعسكره، ليظهر من حسن جهادهم بين
يديه، وخلوص نياتهم في الحرب، ونكايتهم في العدو وما يعرف به طاعتهم، وإقلاعهم عما
كانوا عليه من جهلهم.
فأجابهم إلى ذلك، وعرفهم حسن ما ظهر له من طاعتهم فخرجوا من عنده مبتهجين بما
أجيبوا به من حسن القول وجميل الوعد.
* * *
قال أبو جعفر: ثم استعد أبو أحمد ورتب جيشه، ودخل إلى عسكر الناجم بشرقي نهر
أبى الخصيب في خمسين ألف مقاتل، من البر والبحر، فرسانا ورجالة، يكبرون ويهللون
ويقرأون القرآن، ولهم ضجيج وأصوات هائلة. فرأى الناجم منهم ما هاله، وتلقاهم بنفسه
وجيشه، وذلك في ذي القعدة سنة تسع وستين ومائتين.
واشتبكت الحرب، وكثر القتل والجراح، وحامى الزنج عن صاحبهم وأنفسهم أشد
محاماة، واستماتوا، وصبر أصحاب أبي أحمد، وصدقوا القتال، فمن الله عليهم بالنصر، وانهزم
الزنج، وقتل منهم خلق عظيم، وأسر منهم أسرى كثيرة، فضرب أبو أحمد أعناق
الأسارى في المعركة، وقصد بنفسه دار الناجم، فوافاها وقد لجأ الناجم إليها، ومعه أنجاد
أصحابه للمدافعة عنه.
فلما لم يغنوا شيئا أسلموها، وتفرقوا عنها، ودخلها غلمان الموفق، وبها بقايا ما كان
سلم له من مال وأثاث، فأخذوه وانتهبوه، وأخذوا حرمه وولده الذكور والإناث، وتخلص
الناجم بنفسه، ومضى هاربا نحو دار علي بن أبان المهلبي، لا يلوي على أهل ولا ولد
ولا مال، وأحرقت داره، وحمل أولاده ونساؤه إلى الموفقية في التوكيل، وقصد أصاب أبى
أحمد دار المهلبي، وقد لجأ إليها الناجم وأكثر الزنج، وتشاغل أصحاب أبي أحمد بنهب
206

الأموال من دور الزنج، فاغتنم الناجم تشاغلهم بالنهب، فأمر قواده بانتهاز الفرصة،
والإكباب عليهم، فخرجوا عليهم من عدة مواضع، وخرج عليهم كمناء أيضا قد كانوا
كمنوهم لهم، فكشفوهم واتبعوهم حتى وافوا بهم نهر أبى الخصيب، فقتلوا من فرسانهم
ورجالتهم جماعة، وارتجعوا بعض ما كانوا أخذوه من المال والمتاع.
ثم تراجع الناس، ودامت الحرب إلى وقت العصر، فرأى أبو أحمد عند ذلك أن
يصرف أصحابه، فأمرهم بالرجوع فرجعوا على هدوء وسكون، كي لا تكون هزيمة، حتى
دخلوا سفنهم، وأحجم الزنج عن اتباعهم، وعاد أبو أحمد بالجيش إلى مراكزهم.
قال أبو جعفر: ووافى إلى أبى أحمد في هذا الشهر كاتبه صاعد بن مخلد من سامراء في
عشرة آلاف، ووافى إليه لؤلؤ صاحب ابن طولون - وكان إليه أمر الرقة وديار مضر - في
عشرة آلاف من نخبة الفرسان وأنجادهم، فأمر أبو أحمد لؤلؤا أن يخرج في عسكره فيحارب
الزنج، فخرج بهم ومعه من أصحاب أبي أحمد من يدله على الطرق والمضايق، فكانت بين
لؤلؤ وبين الزنج حرب شديدة في ذي الحجة من هذه السنة، استظهر فيها لؤلؤ عليهم، وبأن
من نجدته وشجاعته وإقدام أصحابه، وصبرهم على ألم الجراح وثبات قلوبهم ما سر أبا أحمد
وملأ قلبه.
* * *
قال أبو جعفر: فلما دخلت سنة سبعين ومائتين، تتابعت الامداد إلى أبى أحمد من
سائر الجهات، فوصل إليه أحمد بن دينار في جمع عظيم من المطوعة، من كور الأهواز
ونواحيها، وقدم بعده من أهل البحرين جمع كثير من المطوعة زهاء ألفي رجل، يقودهم
رجل من عبد القيس، وورد بعد ذلك زهاء ألف رجل من فارس، ورئيسهم شيخ من
المطوعة يكنى أبا سلمة، وكان أبو أحمد يجلس لكل من يرد ويخلع عليه ويقيم لأصحابه
الانزال الكثيرة، ويصلهم بالصلات، فعظم جيشه جدا، وامتلأت بهم الأرض، وصح
207

عزمه على لقاء الناجم بجميع عسكره، فرتب جيوشه، وقسمهم على القواد، وأمر كل
واحد من القواد أن يقصد جهة من جهات معسكر الناجم عينها له، وركب بنفسه،
وركب جيشه، وتوغلوا في مسالك شرقي نهر أبى الخصيب، ولقيهم الزنج، وقد حشدوا
واستقبلوا فكانت بينهم وقعة شديدة، منحهم الله تعالى فيها أكتاف الزنج، فولوا
منهزمين، فاتبعهم أصحاب أبي أحمد يقتلون ويأسرون، فقتل منهم كثير، وغرق
كثير، وحوى أصحاب أبي أحمد معسكر الناجم ومدينته، وظفروا بعيال علي بن أبان
المهلبي وداره وأمواله، فاحتووا عليها، وعبر أهله أو ولادة إلى الموفقية مع كلابهم، ومضى
الناجم ومعه المهلبي وابنه أنكلاني، وسليمان بن جامع، والهمداني وجماعة من أكابر
القواد، عامدين إلى موضع كان الناجم قد أعده لنفسه ملجأ إذا غلب على مدينته وداره في
النهر المعروف بالسفياني، فتقدم أبو أحمد ومعه لؤلؤ قاصدين هذا النهر، لان أبا أحمد
دل عليه فأوغل في الدخول، وفقده أصحابه، فظنوا أنه رجع، فرجعوا كلهم وعبروا دجلة
في الشذا ظانين أنه عبر راجعا، وانتهى أبو أحمد ومعه لؤلؤ، قاصدين هذا النهر، فاقتحمه
لؤلؤ بفرسه، وعبر أصحاب لؤلؤ خلفه.
ووقف أبو أحمد في جماعة من أصحابه عند النهر، ومضى الناجم هاربا، ولؤلؤ
يتبعه في أصحابه، حتى انتهى إلى النهر المعروف بالقريري، فوصل إليه لؤلؤ وأصحابه،
فأوقعوا به وبمن معه فكشفوهم فولوا هاربين حتى عبروا النهر المذكور، ولؤلؤ وأصحابه
يطردونهم من ورائهم، حتى ألجئوهم إلى نهر آخر، فعبروه واعتصموا بدحال وراءه،
فولجوها، وأشرف لؤلؤ وأصحابه عليها فأرسل إليه الموفق ينهاه عن اقتحامها، ويشكر
سعيه، ويأمره بالانصراف، فانفرد لؤلؤ هذا اليوم وأصحابه بهذا الفعل، دون أصحاب
الموفق، فانصرف لؤلؤ محمود الفعل، فحمله الموفق معه في شذاته وجدد له من البر
والكرامة ورفع المنزلة لما كان منه في أمر الناجم، حسبما كان مستحقا له، ولهذا نادى
208

أهل بغداد لما أدخل إليهم رأس الناجم بين يدي أبى العباس: ما شئتم قولوا، كان
الفتح للؤلؤ.
* * *
قال أبو جعفر فجمع الموفق في غد هذا اليوم قواده وهو حنق عليهم لانصرافهم
عنه، وإفرادهم إياه، وكان لؤلؤ وأصحابه تولوا طلب الناجم دونهم، فعنقهم وعذلهم
ووبخهم على ما كان منهم، وعجزهم وأغلظ لهم، فاعتذروا إليه بما توهموه من
انصرافه، وأنهم لم يعلموا أنه قد لجج وأوغل في طلب الناجم، وأنهم لو علموا
ذلك لأسرعوا نحوه.
ثم تحالفوا بين يديه، وتعاقدوا ألا يبرحوا في غد موضعهم إذا توجهوا نحو الزنج،
حتى يظفرهم الله تعالى به، فإن أعياهم ذلك أقاموا حيث انتهى بهم النهار في أي موضع كان
حتى يحكم الله بينهم وبينه. وسألوا الموفق أن يرد السفن إلى الموفقية، بحيث لا يطمع طامع
من العسكر في الالتجاء إليها والعبور فيها.
فقبل أبو أحمد عذرهم، وجزاهم الخير عن تنصلهم، ووعدهم بالاحسان، وأمرهم بالتأهب للعبور، ثم عبر بهم على ترتيب ونظام قد أحكمه وقرره، وذلك في يوم السبت
لليلتين خلتا من صفر من سنة سبعين ومائتين، وقد كان الناجم عاد من تلك الأنهار إلى
معسكره بعد انصراف الجيش عنه فأقام به، وأمل أن تتطاول به وبهم الأيام (1)، وتندفع عنه
المناجزة فلقيه في هذا اليوم سرعان (2) العسكر، وهم مغيظون محنقون من التقريع والتوبيخ
اللاحقين بهم بالأمس، فأوقعوا به وبأصحابه وقعة شديدة، أزالوهم عن مواقفهم، فتفرقوا
لا يلوي بعضهم على بعض، واتبعهم الجيش يقتلون ويأسرون من لحقوا منهم، وانقطع

(1) الطبري: " تتطاول بهم الأيام ".
(2) سرعان الناس: أوائلهم. وفى الطبري: " فوجد الموفق المتسرعين من فرسان غلمانه ورجالتهم ".
209

الناجم في جماعة من كماته من قواد الزنج: منهم المهلبي، وفارقه ابنه أنكلاني وسليمان
ابن جامع، فكانا في أول الأمر مجتمعين، ثم افترقا في الهزيمة، فصادف سليمان بن جامع
قوم من قواد الموفق، فحاربوه وهو في جمع كثيف من الزنج، فقتل جماعة من كماته،
وظفر به فأسر، وحمل إلى الموفق بغير عهد ولا عقد، فاستبشر الناس بأسر سليمان،
وكثر التكبير والضجيج، وأيقنوا بالفتح إذ كان أكثر أصحابه غناء، وأسر بعده إبراهيم
ابن جعفر الهمداني وكان من عظماء قواده وأكابر أمراء جيوشه، وأسر نادر الأسود
المعروف بالحفار، وهو من قدماء قواد الناجم، فأمر الموفق بتقييدهم بالحديد، وتصييرهم في
شذاة لأبي العباس، ومعهم الرجال بالسلاح، وجد الموفق في طلب الناجم، وأمعن في نهر أبى
الخصيب، حتى انتهى إلى آخره.
فبينا هو كذلك، أتاه البشير بقتل الناجم فلم يصدق، فوافاه بشير آخر، ومعه كف
زعم أنها كفه، فقوى الخبر عنده بعض القوة، فلم يلبث أن أتاه غلام من غلمان لؤلؤ يركض
ومعه رأس الناجم، فوضعه بين يديه، فعرضه الموفق على من كان حاضرا تلك الحال معه من
قواد المستأمنة، فعرفوه، وشهدوا أنه رأس صاحبه، فخر ساجدا (1)، وسجد ابنه أبو العباس،
وسجد القواد كلهم شكرا لله تعالى، ورفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير، وأمر برفع الرأس
على قناة، ونصبه بين يديه، فرآه الناس، وارتفعت الأصوات والضجيج.
قال أبو جعفر: وقد قيل: إنه لما أحيط بالناجم لم يبق معه من رؤساء أصحابه
إلا المهلبي، فلما علما أنهما مقتولان افترقا، فوقف الناجم حتى وصل إليه هذا الغلام ومعه
جماعة من غلمان لؤلؤ، فمانع عن نفسه بسيفه حتى عجز عن الممانعة، فأحاطوا به وضربوه
بسيوفهم، حتى سقط، ونزل هذا الغلام فاحتز رأسه، وأما المهلبي فإنه قصد النهر المعروف

(1) بعدها في الطبري: " على ما أولاه وأبلاه ".
210

بنهر الأمير، فقذف بنفسه يروم النجاة، وقبل ذلك كان ابن الناجم وهو المعروف بأنكلاني
فارق أباه، ومضى يؤم النهر المعروف بالديناري، متحصنا فيه بالأدغال والآجام، فلم يظفر
بهما ذلك اليوم، ودل الموفق عليهما بعد ذلك.
وقيل له إن معهما جمعا من الزنج وجماعة من جلة قوادهم، فأرسل غلمانه في طلبهما،
وأمرهم بالتضييق عليهما، فلما أحاطت الغلمان بهم أيقنوا أن لا ملجأ لهم، وأعطوا بأيديهم
فظفر بهم الغلمان، وحملوهم إلى الموفق، فقتل منهم جماعة وأمر بالاستيثاق من المهلبي
وأنكلاني بالحديد والرجال الموكلين بهما.
* * *
قال أبو جعفر: وانصرف في هذا اليوم وهو يوم السبت، لليلتين خلتا من صفر أبو أحمد
من نهر أبى الخصيب ورأس الناجم منصوب بين يديه، على قناة في شذاة يخترق به في
النهر، والناس من جانبي النهر ينظرون إليه، حتى وافى دجلة،، فخرج إليها، والرأس بين
يديه، وسليمان بن جامع والهمداني مصلوبان أحياء في شذاتين عن جانبيه، حتى وافى قصره
بالموفقية. هذه رواية أبى جعفر وأكثر الناس عليهما.
* * *
وذكر المسعودي في كتاب " مروج الذهب " (1) أن الناجم أرتث، وحمل إلى أبى أحمد
وهو حي، فسلمه إلى ابنه أبى العباس، وأمر بتعذيبه، فجعله كردناجا (2) على النار وجلده
ينتفخ، ويتفرقع حتى هلك.
والرواية الأولى هي الصحيحة، والذي جعل كردناجا هو قرطاس، الذي رمى أبا أحمد

(1) مروج الذهب 4: 195.
(2) الكردناج، معناه الكباب، أو ما يشبهه (وانظر ديمزون).
211

بالسهم ذكر ذلك التنوخي في " نشوار المحاضرة " قال: كان الزنج يصيحون، لما رمى
أبو أحمد بالسهم، وتأخر لعلاج جراحته عن الحرب: ملحوه ملحوه، أي قد مات وأنتم
تكتمون موته فاجعلوه كاللحم المكسود.
قال: وكان قرطاس الرامي لأبي أحمد يصيح بأبي العباس في الحرب إذا أخذتني
فاجعلني كردناجا، يهزأ به.
قال: فلما ظفر به أدخل في دبره سيخا من حديد، فأخرجه من فيه، وجعله على
النار كردناجا.
* * *
قال أبو جعفر: ثم تتابع مجئ الزنج إلى أبى أحمد في الأمان، فحضر منهم في ثلاثة
أيام نحو سبعة آلاف زنجي لما عرفوا قتل صاحبهم، ورأي أبو أحمد بذل الأمان لهم، كي
لا يبقى منهم بقية يخاف معرتها في الاسلام وأهله، وانقطعت منهم قطعة نحو ألف زنجي
مالت نحو البر، فمات أكثرها عطشا، وظفر الاعراب بمن سلم منهم، فاسترقوهم، وأقام
الموفق بالموفقية، بعد قتل الناجم مدة، ليزداد الناس بمقامه أنسا وأمانا، ويتراجع أهل
البلاد إليها، فقد كان الناجم أجلاهم عنها، وقدم ابنه أبو العباس إلى بغداد، ومعه رأس الناجم،
فدخلها يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة بقين من جمادى الأولى
من هذه السنة، ورأس الناجم
بين يديه على قناة، والناس مجتمعون يشاهدونه.
* * *
وقد روى غير أبى جعفر، وذكره الآبي (1) في مجموعه المسمى " نثر الدرر " عن العلاء بن
صاعد بن مخلد، قال: لما حمل رأس صاحب الزنج ودخل به المعتضد إلى بغداد دخل في جيش

(1) هو الوزير زين الكفأة أبو سعد منصور بن الحسين الآبي، وزير مجد الدولة رستم بن فخر الدولة
ابن بويه. وكتابه نثر الدرر في المحاضرات، منه نسخ خطية، وأجزاء متفرقة في دار الكتب المصرية.
212

لم ير مثله، واشتق أسواق بغداد والرأس بين يديه، فلما صرنا بباب الطاق، صاح قوم
من درب من تلك الدروب: رحم الله معاوية وزاد! حتى علت أصوات العامة بذلك فتغير وجه المعتضد، وقال: ألا تسمع يا أبا عيسى! ما أعجب هذا! وما الذي اقتضى ذكر معاوية في هذا الوقت! والله لقد بلغ أبى إلى الموت وما أفلت أنا إلا بعد مشارفته، ولقينا كل
جهد وبلاء، حتى أنجينا هؤلاء الكلاب من عدوهم، وحصنا حرمهم وأولادهم فتركوا أن يترحموا على العباس وعبد الله ابنه ومن ولد من الخلفاء، وتركوا الترحم على علي بن أبي
طالب، وحمزة، وجعفر، والحسن والحسين، والله لا برحت أو أؤثر في تأديب هؤلاء أثرا
لا يعاودون بعد هذا الفعل مثله! ثم أمر بجمع النفاطين ليحرق الناحية فقلت له: أيها
الأمير، أطال الله بقاءك! إن هذا اليوم من أشرف أيام الاسلام، فلا تفسده بجهل عامة
لا خلاق لهم. ولم أزل أداريه وأرفق به حتى سار.
فأما الذي يرويه الناس من أن صاحب الزنج ملك سواد بغداد، ونزل بالمدائن، وأن
الموفق أرسل إليه من بغداد عسكرا، وأصحبهم دنان النبيذ، وأمرهم أن ينهزموا من بين يدي الزنج عند اللقاء، ويتركوا خيامهم وأثقالهم لينتهبها الزنج، وأنهم فعلوا ذلك،
فظفر الزنج فيما ظفروا به من أمتعتهم بتلك الدنان، وكانت كثيرة جدا، فشربوا تلك الليلة
وسكروا، وباتوا على غرة، فكبسهم الموفق وبيتهم ليلا وهم سكارى، فأصاب منهم
ما أراد، فباطل موضوع لا أصل له، والذي بيتهم وهم سكارى فنال منهم نيلا تكين البخاري، وكان على الأهواز بيت أصحاب علي بن أبان في سنة خمس وستين ومائتين،
وقد أتاه الخبر بأنهم تلك الليلة قد عمل النبيذ فيهم، والصحيح أنه لم يتجاوز نهبهم
ودخولهم البلاد النعمانية. هكذا رواه الناس كلهم.
* * *
قال أبو جعفر: فأما علي بن أبان وأنكلاني بن الناجم ومن أسر معهما، فإنهم
213

حملوا إلى بغداد في الحديد والقد، فجعلوا بيد محمد بن عبد الله بن طاهر، ومعهم غلام للموفق
يقال له فتح السعيدي، فكانوا كذلك إلى شوال من سنة اثنتين وسبعين ومائتين،
فكانت للزنج حركة بواسط، وصاحوا: أنكلاني، يا منصور! وكان الموفق يومئذ بواسط،
فكتب إلى محمد بن عبد الله، والى فتح السعيدي يأمرهما بتوجيه رؤوس الزنج الذين في
الأسر إليه، فدخل فتح السعيدي إليهم، فجعل يخرج الأول فالأول فيذبحه على البالوعة
كما تذبح الشاة، وكانوا خمسة: أنكلاني بن الناجم، وعلي بن أبان المهلبي، وسليمان بن
جامع، وإبراهيم بن جعفر الهمذاني، ونادر الأسود، وقلع رأس البالوعة وطرحت فيها
أبدانهم، وسد رأسها، ووجه برؤوسهم إلى الموفق فنصبها بواسط، وانقطعت حركة
الزنج، ويئس منهم.
ثم كتب الموفق إلى محمد بن عبد الله بن طاهر في جثث هؤلاء الخمسة، فأمر بصلبهم
بحضرة الجسر، فأخرجوا من البالوعة، وقد انتفخوا وتغيرت روائحهم، وتقشرت جلودهم،
فصلب اثنان منهم على جانب الجسر الشرقي وثلاثة على الجانب الغربي، وذاك لسبع بقين
من شوال من هذه السنة وركب محمد بن عبد الله بن طاهر، وهو أمير بغداد يومئذ بنفسه
حتى صلبوا بحضرته،
وقد قال الشعراء في وقائع الزنج فأكثروا كالبحتري وابن الرومي وغيرهما، فمن أراد ذلك فليأخذه من مظانه.
* * *
214

الأصل:
منها في وصف الأتراك:
منها في وصف الأتراك:
كأني أراهم قوما كأن وجوههم المجان المطرقة، يلبسون السرق والديباج،
ويعتقبون الخيل العتاق، ويكون هناك استحرار قتل حتى يمشى المجروح على المقتول، ويكون المفلت أقل من المأسور.
فقال له بعض أصحابه: لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب! فضحك عليه
السلام. وقال للرجل - وكان؟؟ كلبيا:
يا أخا كلب، ليس هو بعلم غيب، وإنما هو تعلم من ذي علم، وإنما علم
الغيب علم الساعة وما عدده الله سبحانه بقوله: (إن الله عنده علم الساعة وينزل
العيث ويعلم ما في الأرحام، وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا وما تدرى نفس
بأي أرض تموت...) الآية، فيعلم الله سبحانه ما في الأرحام، من ذكر أو أنثى،
وقبيح أو جميل، وسخي أو بخيل، وشقي أو سعيد، ومن يكون النار حطبا
أو في الجنان للنبيين مرافقا، فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلا الله، وما سوى
ذلك فعلم علمه الله نبيه صلى الله عليه فعلمنيه، ودعا لي بأن يعيه صدري،
وتضطم عليه جوانحي
* * *
215

الشرح:
المجان: جمع مجن بكسر الميم، وهو الترس، وإنما سمى مجنا، لأنه يستتر به، والجنة:
السترة والجمع جنن، يقال استجن بجنة، أي استتر بسترة.
والمطرقة، بسكون الطاء: التي قد أطرق بعضها إلى بعض، أي ضمت طبقاتها،
فجعل بعضها يتلو بعضا، يقال: جاءت الإبل مطاريق، أي يتلو بعضها بعضا. والنعل
المطرقة المخصوفة، وأطرقت بالجلد والعصب، أي ألبست، وترس مطرق، وطراق
النعل: ما أطرقت وخرزت به. وريش طراق، إذا كان بعضه فوق بعض، وطارق الرجل
بين الثوبين، إذا لبس أحدهما على الاخر، وكل هذا يرجع إلى مفهوم واحد وهو
مظاهرة الشئ بعضه بعضا. ويروى: " المجان المطرقة "، بتشديد الراء، أي كالترسة
المتخذة من حديد مطرق بالمطرقة.
والسرق: شقق الحرير، وقيل: لا تسمى سرقا إلا إذا كانت بيضا،
الواحدة سرقة.
ويعتقبون الخيل، أي يجنبونها لينتقلوا من غيرها إليها. واستحرار القتل: شدته،
استحر وحر بمعنى، قال ابن الزبعرى:
حيث ألقت بقباء بركها * واستحر القتل في عبد الأشل (1)
والمفلت: الهارب.
يقول عليه السلام: إن الأمور المستقبلة على قسمين:
أحدهما ما تفرد الله تعالى بعلمه، لم يطلع عليه أحدا من خلقه، وهي الأمور الخمسة
المعدودة في الآية المذكورة: (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في
الأرحام وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا وما تدرى نفس بأي أرض تموت).

(1) طبقات الشعراء لابن سلام 199.
216

والقسم الثاني ما يعلمه بعض البشر بإعلام الله تعالى إياه، وهو ما عدا هذه الخمسة،
والاخبار بملحمة الأتراك من جملة ذلك.
وتضطم عليه جوانحي تفتعل، من الضم، وهو الجمع أي يجتمع عليه جوانح
صدري، ويروى: " جوارحي "، وقد روى أن إنسانا قال لموسى بن جعفر عليه السلام:
إني رأيت الليلة في منامي أنى سألتك: كم بقي من عمري؟ فرفعت يدك اليمنى، وفتحت
أصابعها في وجهي مشيرا إلى، فلم أعلم خمس سنين، أم خمسة أشهر، أم خمسة أيام! فقال:
ولا واحدة منهن، بل ذاك إشارة إلى الغيوب الخمسة التي استأثر الله تعالى بها في قوله: (إن الله عنده علم الساعة...) الآية.
فإن قلت: لم ضحك عليه السلام لما قال له الرجل: " لقد أوتيت علم الغيب "؟
وهل هذا إلا زهو في النفس، وعجب بالحال!
قلت: قد روى أن رسول الله صلى الله عليه وآله ضحك في مناسب هذه الحال
لما استسقى فسقى وأشرف درور المطر، فقام إليه الناس فسألوه أن يسأل الله تعالى أن
يحبسه عنهم، فدعا، وأشار بيده إلى السحاب، فانجاب حول المدينة كالإكليل، وهو عليه
السلام يخطب على المنبر، فضحك حتى بدت نواجذه، وقال: أشهد أنى رسول الله، وسر
هذا الامر أن النبي أو الولي إذا تحدث عنده نعمة الله سبحانه، أو عرف الناس وجاهته
عند الله، فلا بد أن يسر بذلك وقد يحدث الضحك من السرور، وليس ذلك بمذموم
إذا خلا من التيه والعجب، وكان محض السرور والابتهاج، وقد قال تعالى في صفة أوليائه:
(فرحين بما آتاهم الله من فضله) (1).
فإن قلت فإن من جملة الخمسة: (وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا)، وقد أعلم

(1) سورة آل عمران 170.
217

الله تعالى نبيه بأمور يكسبها في غده، نحو قوله: " ستفتح مكة "، وأعلم نبيه وصيه عليه السلام بما يكسبه في غده، نحو قوله له: ستقاتل بعدي الناكثين... "، الخبر.
قلت المراد بالآية أنه لا تدرى نفس جميع ما تكسبه في مستقبل زمانها، وذلك
لا ينفى جواز أن يعلم الانسان بعض ما يكسبه في مستقبل زمانه.
[فصل في ذكر جنكزخان وفتنة التتر]
واعلم أن هذا الغيب الذي أخبر عليه السلام عنه قد رأيناه نحن عيانا، ووقع في زماننا،
وكان الناس ينتظرونه من أول الاسلام، حتى ساقه القضاء والقدر إلى عصرنا، وهم التتار الذين خرجوا من أقاصي المشرق حتى وردت خيلهم العراق والشام، وفعلوا بملوك الخطا
وقفجاق، وببلاد ما وراء النهر، وبخراسان وما والاها من بلاد العجم، ما لم تحتو التواريخ
منذ خلق الله تعالى آدم إلى عصرنا هذا على مثله، فإن بابك الخرمي لم تكن نكايته
وأن طالت مدته نحو عشرين سنة إلا في إقليم واحد وهو أذربيجان، وهؤلاء دوخوا
المشرق كله، وتعدت نكايتهم إلى بلاد إرمينية وإلى الشام، ووردت خيلهم إلى العراق،
وبخت نصر الذي قتل اليهود إنما أخرب بيت المقدس، وقتل من كان بالشام من بني إسرائيل
، وأي نسبة بين من كان بالبيت المقدس من بني إسرائيل إلى البلاد والأمصار
التي أخربها هؤلاء وإلى الناس الذين قتلوهم من المسلمين وغيرهم (1)
* * *

(1) ذكر ابن الأثير هذه الحادثة في تاريخه (حوادث سنة 617 وما بعدها)، وقال في أولها: " لقد
بقيت عدة سنين معرضا عن ذكر هذه الحادثة استعظاما لها، كارها لذكرها، فأنا أقدم إليه رجلا
وأؤخر أخرى فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعى الاسلام والمسلمين! ومن ذا الذي يهون عليه ذكر
ذلك! فياليت أمي لم تلدني، وياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا! إلا أنى حثني جماعة من الأصدقاء
على تسطيرها، وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعا ".
218

ونحن نذكر طرفا من أخبارهم وابتداء ظهورهم على سبيل الاختصار، فنقول:
إنا على كثرة اشتغالنا بالتواريخ وبالكتب المتضمنة أصناف الأمم، لم نجد ذكر هذه
الأمة أصلا، ولكنا وجدنا ذكر أصناف الترك من، القفجاق، واليمك، والبرلو،
والتفريه، واليتبه، والروس، والخطا، والقرغز، والتركمان، ولم يمر بنا في كتاب ذكر
هذه الأمة سوى كتاب واحد، وهو كتاب " مروج الذهب " للمسعودي فإنه
ذكرهم هكذا بهذا اللفظ " التتر "، والناس اليوم يقولون: " التتار " بألف، وهذه الأمة
كانت في أقاصي بلاد المشرق في جبال " طمغاج " من حدود الصين، وبينهم وبين
بلاد الاسلام التي ما وراء النهر ما يزيد على مسير ستة أشهر، وقد كان خوارزم شاه،
وهو محمد بن تكش استولى على بلاد ما وراء النهر، وقتل ملوكها من الخطا الذين كانوا
ببخارى وسمرقند وبلاد تركستان، نحو كاشغر، وبلاساغون وأفناهم، وكانوا حجابا بينه وبين هذه الأمة، وشحن هذه البلاد بقواده وجنوده، وكان في ذلك غالطا، لان
ملوك الخطا كانوا وقاية له ومجنا من هؤلاء، فلما أفناهم، صار هو المتولي لحرب هؤلاء
أو سلمهم، فأساء قواده وأمراؤه الذين بتركستان السيرة معهم، وسدوا طرق التجارة
عنهم، فانتدبت منهم طائفة نحو عشرين ألفا مجتمعة، كل بيت منها له رئيس مفرد، فهم متساندون، وخرجوا إلى بلاد تركستان، فأوقعوا بقواد خوارزم شاه وعماله هناك،
وملكوا البلاد، وتراجع من بقي من عسكر خوارزم شاه، وسلم من سيف التتار إلى
خوارزم شاه، فأغضي على ذلك، ورأي أن سعة ملكه تمنعه عن مباشرة حربهم بنفسه وأن غيره من قواده لا يقوم مقامه في ذلك وترك بلاد تركستان لهم، واستقر الامر على أن تركستان لهم، وما عداها من بلاد ما وراء النهر كسمرقند وبخارى وغيرهما
لخوارزم شاه، فمكثوا كذلك نحو أربع سنين.
219

ثم إن المعروف بجنكزخان - والناس يلفظونه بالراء وذكر لي جماعة من أهل
المعرفة بأحوال التتر أنه " جنكز " بالزاي المعجمة - عن له رأى في النهوض إلى بلاد
تركستان، وذلك أن جنكزخان هذا هو رئيس التتار الأقصين في المشرق، وابن
رئيسهم، وما زال سلفه رؤساء تلك الجهة، وكان شجاعا عاقلا موفقا منصورا في
الحرب، وإنما عن له هذا الرأي، لأنه رأى أن طائفة من التتار - لا ملك لهم -
وإنما يقوم بكل فرقة منهم مدبر لها من أنفسها - قد نهضت فملكت بلاد تركستان
على جلالتها غار من ذلك، وأراد الرياسة العامة لنفسه، وأحب الملك، وطمع في
البلاد، فنهض بمن معه من أقاصي الصين، حتى صار إلى حدود أعمال تركستان،
فحاربه التتار الذين هناك، ومنعوه عن تطرق البلاد، فلم يكن لهم به طاقة، وهزمهم
وقتل كثيرا منهم، وملك بلاد تركستان بأجمعها، وصار كالمجاور لبلاد خوارزم شاه،
وإن كان بينهما مسافة بعيدة، وصار بينه وبين خوارزم شاه سلم ومهادنة، إلا أنها
هدنة على دخن.
فمكثت الحال على ذلك يسيرا، ثم فسدت بما كان يصل إلى خوارزم شاه على
ألسنة التجار من الاخبار، وأن جنكزخان على عزم النهوض إلى سمرقند وما يليها،
وأنه في التأهب والاستعداد، فلو داراه لكان أولى له، لكنه شرع فسد طرق التجار
القاصدين إليهم، فتعذرت عليهم الكسوات، ومنع عنهم الميرة والأقوات التي تجلب
وتحمل من أعمال ما وراء النهر إلى تركستان، فلو اقتنع بذلك لكان قريبا، لكنه
أنهى إليه نائبه بالمدينة المعروفة بأوتران، وهي آخر ولايته بما وراء النهر، أن جنكزخان
قد سير جماعة من تجار التتار، ومعهم شئ عظيم من الفضة إلى سمرقند، ليشتروا له
ولأهله وبنى عمه كسوة وثيابا وغير ذلك.
220

فبعث إليه خوارزم شاه يأمره بقتل أولئك التجار، وأخذ ما معهم من الفضة
وإنفاذها إليه، فقتلهم وسير إليه الفضة. وكان ذلك شيئا كثيرا جدا، ففرقه خوارزم شاه
على تجار سمرقند وبخارى، وأخذ ثمنه منهم لنفسه. ثم علم أنه قد أخطأ، فأرسل إلى
نائبه بأوتران، يأمره أن ينفذ جواسيس من عنده إليهم، ليخبروه بعدتهم، فمضت
الجواسيس، وسلكت مفاوز وجبالا كثيرة، وعادوا إليه بعد مدة، فأخبروه بكثرة عددهم،
وأنهم لا يبلغهم الإحصاء ولا يدركهم، وأنهم من أصبر الناس على القتال: لا يعرفون
الفرار، ويعملون ما يحتاجون إليه من السلاح بأيديهم، وأن خيلهم لا تحتاج إلى الشعير،
بل تأكل نبات الأرض وعروق المراعى، وأن عندهم من الخيل والبقر مالا يحصى، وأنهم
يأكلون الميتة والكلاب والخنازير وهم أصبر خلق الله على الجوع والعطش والشقاء،
وثيابهم من أخشن الثياب مسا، ومنهم من يلبس جلود الكلاب والدواب الميتة،
وأنهم أشبه شئ بالوحش والسباع.
فأنهى ذلك كله إلى خوارزم شاه، فندم على قتل أصحابهم، وعلى خرق الحجاب
بينه وبينهم، وأخذ أموالهم، وغلب عليه الفكر والوجل، فأحضر الشهاب الخيوفي،
وهو فقيه فاضل كبير المحل عنده، لا يخالف ما يشير به، فقال له: قد حدث أمر عظيم
لابد من الفكر فيه، وإجالة الرأي فيما نفعل وذلك أنه قد تحرك إلينا خصم من
الترك في عدد لا يحصى، فقال له: عساكرك كثيرة، وتكاتب الأطراف، وتجمع
الجنود، ويكون من ذلك نفير عام، فإنه يجب على المسلمين كافة مساعدتك بالأموال
والرجال، ثم تذهب بجميع العساكر إلى جانب سيحون، وهو نهر كبير يفصل بين بلاد
الترك وبين بلاد خوارزم شاه، فتكون هناك، فإذا جاء العدو وقد سار مسافة بعيدة،
لقيناه ونحن جامون مستريحون، وقد مسه وعساكره النصب واللغوب.
221

فجمع خوارزم شاه أمراءه، ومن عنده من أرباب المشورة، فاستشارهم فقالوا: لا بل
الرأي أن نتركهم ليعبروا سيحون إلينا، ويسلكوا هذه الجبال والمضايق،، فإنهم جاهلون
بطرقها، ونحن عارفون بها، فنظهر عليهم، ونهلكهم عن آخرهم.
فكانوا على ذلك حتى وصل رسول من جنكزخان ومعه جماعة، يتهدد
خوارزم شاه، ويقول: تقتل أصحابي وتجاري، وتأخذ مالي منهم! استعد للحرب،
فإني واصل إليك بجمع لا قبل لك به.
* * *
فلما أدى هذه الرسالة إلى خوارزم شاه أمر بقتل الرسول فقتل، وحلق لحى الجماعة
الذين كانوا معه، وأعادهم إلى صاحبهم جنكزخان ليخبروه بما فعل بالرسول، ويقولوا له:
إن خوارزم شاه يقول لك: إني سائر إليك، فلا حاجة لك أن تسير إلى، فلو كنت في
آخر الدنيا لطلبتك حتى أقتلك، وأفعل بك وبأصحابك ما فعلت برسلك.
وتجهز خوارزم شاه، وسار بعد نفوذ الرسول، مبادرا لسبق خبره، ويكبس (1)
التتار على غرة، فقطع مسيرة أربعة أشهر في شهر واحد، ووصل إلى بيوتهم
وخركاواتهم (2)، فلم ير فيها إلا النساء والصبيان والأثقال، فأوقع بهم، وغنم الجميع،
وسبى النساء والذرية.
وكان سبب غيبوبة التتار عن بيوتهم أنهم ساروا إلى محاربة ملك من ملوك الترك،
يقال له " كشلوخان "، فقاتلوه فهزموه، وغنموا أمواله، وعادوا، فلقيهم الخبر في طريقهم
بما فعل خوارزم شاه بمخلفيهم، فأغذوا السير فأدركوه، وهو على الخروج من بيوتهم.

(1) يقال: كبس القوم دار فلان، إذا هجموا عليها فجأة واحتاطوها.
(2) الخركاة: الخيمة الكبيرة، المدورة الشكل (أنظر ديميزون).
222

بعد فراغه من الغنيمة فواقعوه وتصافوا للحرب ثلاثة أيام بلياليها، لا يفترون نهارا ولا ليلا،
فقتل من الفريقين ما لا يعد، ولم ينهزم منهم أحد.
أما المسلمون فصبروا حمية للدين، وعلموا أنهم إن انهزموا لم يبق للاسلام باقية، ثم
إنهم لا ينجون، بل يؤخذون ويؤسرون لبعدهم عن بلاد يمتنعون بها، وأما التتار فصبروا
لاستنقاذ أموالهم وأهلهم، واشتد الخطب بين الطائفتين، حتى إن أحدهم كان ينزل عن
فرسه، ويقاتل قرنه راجلا، مضاربة بالسكاكين، وجرى الدم على الأرض، حتى
كانت الخيل تزلق فيه لكثرته، ولم يحضر جنكزخان بنفسه هذه الوقعة، وإنما كان فيها
قاآن ولده، فأحصى من قتل من المسلمين فكانوا عشرين ألفا، ولم يحص عدة من قتل من التتار.
فلما جاءت الليلة الرابعة افترقوا فنزل بعضهم مقابل بعض، فلما أظلم الليل، أوقد
التتار نيرانهم، وتركوها بحالها، وساروا راجعين إلى جنكزخان ملكهم، و أما المسلمون
فرجعوا ومعهم محمد خوارزم شاه، فلم يزالوا سائرين حتى وافوا بخارى، وعلم خوارزم شاه
انه لا طاقة له بجنكزخان لان طائفة من عسكره لم يلقوا خوارزم شاه بجميع عساكره
بهم، فكيف إذا حشدوا وجاءوا على (1) بكرة أبيهم، وملكهم جنكزخان بينهم.
فاستعد للحصار، وأرسل إلى سمرقند يأمر قواده المقيمين بها بالاستعداد للحصار،
وجمع الذخائر للامتناع والمقام من وراء الأسوار، وجعل في بخارى عشرين ألف
فارس، يحمونها وفي سمرقند خمسين ألفا، وتقدم إليهم بحفظ البلاد حتى يعبر هو
إلى خوارزم وخراسان، فيجمع العساكر، ويستنجد بالمسلمين والغزاة المطوعة
ويعود إليهم.

(1) في الأصول " عن " وصواب المثل ما ذكرته. وانظر مجمع الأمثال 1: 176.
223

ثم رحل إلى خراسان، فعبر جيحون، وكانت هذه الوقعة في سنه ست عشرة وستمائة
فنزل بالقرب من بلخ، فعسكر هناك، واستنفر الناس.
وأما التتار فإنهم رحلوا بعد أن استعدوا يطلبون بلاد ما وراء النهر فوصلوا إلى
بخارى بعد خمسة أشهر من رحيل خوارزم شاه عنها وحصروها، فقاتلوا العسكر المرابط
بها ثلاثة أيام قتالا متتابعا، فلم يكن للعسكر الخوارزمي بهم قوة، ففتحوا أبواب المدينة
ليلا، وخرجوا بأجمعهم عائدين إلى خراسان فأصبح أهل بخارى وليس عندهم من
العسكر أحد أصلا، فضعفت نفوسهم، فأرسلوا قاضى بخارى (1) ليطلب الأمان للرعية
فأعطاه التتار الأمان، وقد كان بقي في قلعة بخارى خاصة طائفة من عسكر خوارزم شاه
معتصمون بها. فلما رأى أهل بخارى بذلهم للأمان فتحوا أبواب المدينة، وذلك في رابع ذي الحجة
من سنة ست عشرة وستمائة فدخل التتار (2) بخارى، ولم يتعرضوا لأحد من الرعية
بل قالوا لهم: كل ما لخوارزم شاه عندكم من وديعة أو ذخيرة أخرجوه إلينا وساعدونا
على قتال من بالقلعة ولا بأس عليكم. وأظهروا فيهم العدل وحسن السيرة ودخل
جنكزخان بنفسه إلى البلد، وأحاط بالقلعة، ونادى مناديه في البلدان: لا يتخلف أحد،
ومن تخلف قتل. فحضر الناس بأسرهم، فأمرهم بطم الخندق فطموه بالأخشاب والأحطاب والتراب، ثم زحفوا نحو القلعة وكان عدة من بها من الجند الخوارزمية
أربعمائة إنسان، فبذلوا جهدهم، ومنعوا القلعة عشرة أيام إلى أن وصل النقابون إلى
سور القلعة، فنقبوه ودخلوا القلعة، فقتلوا كل من بها من الجند وغيرهم.

(1) في ابن الأثير: " وهو بدر الدين قاضيحان ".
(2) ابن الأثير: " فدخل الكفار ".
224

فلما فرغوا منها أمر جنكزخان أن يكتب له وجوه البلد ورؤساؤهم ففعل ذلك،
فلما عرضوا عليه أمر بإحضارهم، فأحضروا، فقال لهم: أريد منكم الفضة النقرة (1) التي
باعها إياكم خوارزم شاه، فإنها لي ومن أصحابي أخذت فكان كل من عنده شئ منها
يحضره، فلما فرغ من ذلك أمرهم بالخروج عن البلد بأنفسهم خاصة، فخرجوا مجردين عن
أموالهم، ليس مع كل واحد منهم إلا ثيابه التي على جسده فامر بقتلهم، فقتلوا عن
آخرهم، وأمر حينئذ بنهب البلد فنهب كل ما فيه، وسبيت النساء والأطفال، وعذبوا الناس
بأنواع العذاب في طلب المال، ثم رحلوا عنه نحو سمرقند، وقد تحققوا عجز خوارزم شاه عنهم،
واستصحبوا معهم من سلم من أهل بخارى أسارى مشاة على أقبح صورة، وكل من
أعيا وعجز عن المشي قتلوه.
فلما قاربوا سمرقند، قدموا الخيالة، وتركوا الرجالة والأسارى والأثقال وراءهم، حتى
يلتحقوا بهم شيئا فشيئا، ليرعبوا قلوب أهل البلد، فلما رأى أهل سمرقند سوادهم،
استعظموهم، فلما كان اليوم الثاني وصل الأسارى والرجالة والأثقال، ومع كل عشرة من
الأسارى علم، فظن أهل البلد أن الجميع عسكر مقاتلة، فأحاطوا بسمرقند، وفيها خمسون
ألفا من الخوارزمية، وما لا يحصى كثرة من عوام البلد، فأحجم العسكر الخوارزمي عن
الخروج إليهم، وخرجت العامة بالسلاح، فأطمعهم التتار في أنفسهم، وقهقروا عنهم
وقد كمنوا لهم كمناء، فلما جاوزوا الكمين خرج عليهم من ورائهم وشد عليهم من
ورائهم جمهور التتار فقتلوهم عن آخرهم.
فلما رأى من تخلف بالبلد ذلك ضعفت قلوبهم، وخيلت للجند الخوارزمي أنفسهم

(1) النقرة: القطعة المذابة من الفضة أو الذهب.
225

أنهم أن استأمنوا إلى التتار أبقوا عليهم للمشاركة في جنسية التركية، فخرجوا بأموالهم
وأهليهم إليهم مستأمنين، فأخذوا سلاحهم وخيلهم، ثم وضعوا السيف فيهم، فقتلوهم
كلهم، ثم نادوا في البلد: برئت الذمة ممن لم يخرج، ومن خرج فهو آمن. فخرج الناس
إليهم بأجمعهم، فاختلطوا عليهم، ووضعوا فيهم السيف، وعذبوا الأغنياء منهم،
واستصفوا أموالهم، ودخلوا سمرقند، فأخربوها، ونقضوا دورها، وكانت هذه الوقعة في المحرم
سنة سبع عشرة وستمائة.
* * *
وكان خوارزم شاه مقيما بمنزله الأول، كلما اجتمع له جيش سيره إلى سمرقند فيرجع
ولا يقدم على الوصول إليها، فلما قضوا وطرا من سمرقند، سير جنكزخان عشرين ألف
فارس، وقال لهم: اطلبوا خوارزم شاه أين كان، ولو تعلق بالسماء، حتى
تدركوه وتأخذوه!
وهذه الطائفة تسميها التتار المغربة لأنها سارت نحو غرب خراسان، وهم الذين أو غلوا
في البلاد ومقدمهم جرماغون، نسيب جنكزخان.
وحكى أن جنكزخان كان قد أمر على هذا الجيش ابن عم له شديد الاختصاص به،
يقال له متكلي نويرة وأمره بالجد وسرعة المسير، فلما ودعه، عطف متكلي نويرة هذا
فدخل إلى خركاة فيها امرأة له كان يهواها ليودعها، فاتصل ذلك بجنكزخان، فصرفه
في تلك الساعة عن إمارة الجيش، وقال: من يثنى عزمه امرأة، لا يصلح لقيادة الجيوش،
ورتب مكانه جرماغون، فساروا وقصدوا من جيحون موضعا يسمى " بنج آب " أي خمس
مياه، وهو يمنع العبور، فلم يجدوا به سفنا، فعملوا من الخشب مثل الأحواض الكبار،
ولبسوه جلود البقر، ووضعوا فيه أسلحتهم، وأقحموا خيولهم الماء، وأمسكوا بأذنابها
226

وتلك الأحواض مشدودة إليها، فكان الفرس يجذب الرجل، والرجل يجذب الحوض،
فعبروا كلهم ذلك الماء دفعة واحدة، فلم يشعر خوارزم شاه بهم إلا وهم معه على أرض
واحدة، وكان جيشه قد ملئ رعبا منهم، فلم يقدروا على الثبات، فتفرقوا أيدي سبأ،
وطلب كل فريق منهم جهة، ورحل خوارزم شاه في نفر من خواصه، لا يلوي على شئ،
وقصد نيسابور، فلما دخلها اجتمع عليه بعض عسكره فلم يستقر، حتى وصل جرماغون إليه،
وكان لا يتعرض في مسيره بنهب ولا قتل، بل يطوى المنازل طيا، يطلب خوارزم شاه
ولا يمهله ليجمع عسكرا، فلما عرف قرب التتار منه، هرب من نيسابور إلى
مازندران، فدخلها ورحل جرماغون خلفه، ولم يعرج على نيسابور، بل قصد مازندران (1)، فخرج
خوارزم شاه عنها، فكان كلما رحل عن منزل نزله التتار، حتى وصل إلى بحر طبرستان،
فنزل هو وأصحابه في سفن، ووصل التتار، فلما عرفوا نزوله البحر، رجعوا
وأيسوا منه.
وهؤلاء الذين ملكوا عراق العجم وأذربيجان فأقاموا بناحية تبريز إلى
يومنا هذا.
* * *
ثم اختلف في أمر خوارزم شاه، فقوم يحكون أنه أقام بقلعة له في بحر طبرستان منيعة،
فتوفى بها، وقوم يحكون أنه غرق في البحر، وقوم يحكون أنه غرق ونجا عريانا، فصعد إلى
قرية من قرى طبرستان، فعرفه أهلها فجاءوا وقبلوا الأرض بين يديه، وأعلموا عاملهم به،
فجاء إليه وخدمه، فقال له خوارزم شاه: أحملني في مركب إلى الهند، فحمله إلى شمس
الدين أنليمش ملك الهند، وهو نسيبه من جهة زوجته والدة منكبوني بن خوارزم شاه
الملك جلال الدين، فإنها هندية من أهل بيت الملك، فيقال إنه وصل إلى أنليمش، وقد تغير

(1) مازندران: اسم ولاية بطبرستان.
227

عقله مما اعتراه من خوف التتار، أو لأمر سلطه الله تعالى عليه فكان يهذي بالتتار بكرة
وعشية، وكل وقت وكل ساعة ويقول هو ذا هم قد خرجوا من هذا الباب، قد
هجموا من هذه الدرجة، ويرعد ويحول لونه، ويختل كلامه وحركاته.
وحكى لي فقيه خراساني وصل إلى بغداد يعرف بالبرهان، قال كان أخي معه،
وكان ممن يثق خوارزم شاه به، ويختصه، قال لهج خوارزم شاه لما تغير عقله بكلمة كان
يقولها: " قراتتر كلدى " يكررها، وتفسيرها: " التتر السود قد جاؤوا "، وفي التتر صنف
سود يشبهون الزنج، لهم سيوف عريضة جدا على غير صورة هذه السيوف، يأكلون لحوم
الناس فكان خوارزم شاه قد أهتر وأغرى بذكرهم.
وحدثني البرهان، قال: رقى به شمس الدين أنليمش إلى قلعة من قلاع الهند، حصينة
عالية شاهقة لا يعلوها الغيم أبدا، وإنما تمطر السحب من تحتها. وقال له: هذه القلعة لك
وذخائرها أموالك، فكن فيها وادعا آمنا إلى أن يستقيم طالعك، فالملوك ما زالوا هكذا، يدبر طالعهم ثم يقبل فقال له: لا أقدر على الثبات فيها، والمقام بها، لان التتر سوف
يطلبونني، ويقدمون إلى هاهنا، ولو شاءوا لوضعوا سروج خيلهم واحدا على واحد تحت
القلعة، فبلغت إلى ذروتها، وصعدوا عليها، فأخذوني قبضا باليد، فعلم أنليمش أن عقله قد
تغير، وأن الله تعالى قد بدل ما به من نعمة فقال: فما الذي تريد؟ قال: أريد أن تحملني
في البحر المعروف ببحر المعبر إلى كرمان، فحمله في نفر يسير من مماليكه إلى كرمان، ثم
خرج منها إلى أطراف بلاد فارس، فمات هناك في قرية من قرى فارس، وأخفى موته،
لئلا يقصده التتر، وتطلب جثته (1).

(1) في ابن الأثير 9: 334 فصل واف عن خوارزم شاه وسيرته.
228

وجملة الامر أن حاله مشتبهة ملتبسة لم يتحقق على يقين وبقى الناس بعد هلاكه نحو سبع سنين ينتظرونه.
ويذهب كثير منهم إلى أنه حي مستتر، إلى أن ثبت عند الناس كافة أنه هلك.
* * *
فأما، جرماغون فإنه لما يئس من الظفر بخوارزم شاه، عاد من ساحل البحر إلى
مازندران، فملكها في أسرع وقت، مع حصانتها وصعوبة الدخول إليها وامتناع قلاعها،
فإنها لم تزل ممتنعه على قديم الوقت، حتى إن المسلمين لما ملكوا بلاد الأكاسرة من العراق
إلى أقصى خراسان، بقيت أعمال مازندران بحالها تؤدى الخراج، ولا يقدر المسلمون على
دخولها إلى أيام سليمان بن عبد الملك.
ولما ملكت التتار مازندران، قتلوا فيها ونهبوا وسلبوا، ثم سلكوا نحو الري فصادفوا
في الطريق والدة خوارزم شاه ونساءه، ومعهن أموال بيت خوارزم شاه وذخائرهم، التي
ما لا يسمع بمثلها من الأعلاق النفيسة، وهن قاصدات نحو الري، ليعتصمن ببعض القلاع
المنيعة، فاستولى التتار عليهن وعلى ما معهن بأسره، وسيروه كله إلى جنكزخان بسمرقند
وصمدوا صمد الري، وقد كان أتصل بهم أن محمدا خوارزم شاه قصدها كما يتسامع الناس
بالأراجيف الصحيحة والباطلة، فوصلوها على حين غفلة من أهلها، فلم يشعر بهم عسكر
الري إلا وقد ملكوها ونهبوها، وسبوا الحرم، واسترقوا الغلمان، وفعلوا كل قبيح
منكر فيها، ولم يقيموا بها، ومضوا مسرعين في طلب خوارزم شاه، فنهبوا في طريقهم
ما مروا به من المدن والقرى، وأحرقوا وخربوا، وقتلوا الذكران والإناث، ولم يبقوا على
شئ، وقصدوا نحو همذان، فخرج إليهم رئيسها، ومعه أموال جليلة قد جمعها من أهل همذان، عينا وعروضا وخيلا، وطلب منهم الأمان لأهل البلد، فأمنوهم، ولم يعرضوا لهم
229

وساروا إلى زنجان، واستباحوها، وإلى قزوين فاعتصم أهلها منهم بقصبه مدينتهم،
فدخلوها بالسيف عنوة، وقاتلهم أهلها قتالا شديدا بالسكاكين، وهم معتادون بقتال
السكين من حروبهم مع الإسماعيلية، فقتل من الفريقين مالا يحصى. ويقال. إن القتلى
بلغت أربعين ألفا من أهل قزوين خاصة.
ثم هجم على التتار البرد الشديد، والثلج المتراكم، فساروا إلى أذربيجان، فنهبوا
القرى، وقتلوا من وقف بين أيديهم، وأخربوا وأحرقوا، حتى وصلوا إلى تبريز، وبها
صاحب أذربيجان أزبك بن البهلوان بن أيلدكر، فلم يخرج إليهم، ولا حدث نفسه بقتالهم،
لاشتغاله بما كان عليه من اللهو وإدمان الشرب ليلا ونهارا. فأرسل إليهم، وصالح لهم على
مال وثياب ودواب، وحمل الجميع إليهم، فساروا من عنده يطلبون ساحل البحر، لأنه مشتى
صالح لهم والمراعى به كثيرة، فوصلوا إلى موقان، وهي المنزل الذي نزلته الخرمية في أيام
المعتصم، وقد ذكره الطائيان في أشعارهما في غير موضع، والناس اليوم يقولون بالغين المعجمة
عوض القاف، وقد كانوا تطرقوا في طريقهم بعض أعمال الكرج، فخرج إليهم منهم
عشرة آلاف مقاتل، فحاربوهم وهزموهم، وقتلوا أكثرهم.
فلما استقروا بموقان، راسلت الكرج أزبك بن البهلوان في الاتفاق على حربهم،
وراسلوا موسى بن أيوب المعروف بالأشرف، وكان صاحب خلاط وأرمينية بمثل ذلك،
وظنوا أنهم يصبرون إلى أيام الربيع وانحسار الثلوج، فلم يصبروا وصاروا من موقان في صميم
الشتاء نحو بلاد الكرج، فخرجت إليهم الكرج، واقتتلوا قتالا شديدا، فلم يثبتوا للتتار،
وانهزموا أقبح هزيمة وقتل منهم من لا يحصى، فكانت هذه الوقعة في ذي الحجة من
سنة سبع عشرة وستمائة.
* * *
230

ثم توجهوا إلى المراغة في أول سنة ثماني عشرة فملكوها في صفر، وكانت لامرأة
من بقايا ملوك المراغة تدبرها هي ووزراؤها فنصبوا عليها المجانيق، وقدموا أسارى المسلمين بين أيديهم وهذه عادتهم يتترسون بهم في الحروب، فيصيبهم حدها، ويسلمون هم
من مضرتها، فملكوها عنوة، ووضعوا السيف في أهلها ونهبوا ما يصلح لهم، وأحرقوا
ما لا يصلح لهم، وخذل الناس عنهم، حتى كان الواحد منهم يقتل بيده مائة إنسان،
والسيوف في أيديهم لا يقدر أحد منهم أن يحرك يده بسيفه نحو ذلك التتري، خذلان
صب على الناس، وأمر سمائي اقتضاه.
ثم عادوا إلى همذان، فطالبوا أهلها بمثل المال الذي بذلوه لهم في الدفعة الأولى، فلم يكن في الناس فضل لذلك، لأنه كان عظيما جدا، فقام إلى رئيس همذان جماعة من أهلها،
وأسمعوه كلاما غليظا فقالوا: أفقرتنا أولا، وتريد أن تستصفينا دفعة ثانية! ثم لابد للتتار
أن يقتلونا فدعنا نجاهدهم بالسيف، ونموت كراما. ثم وثبوا على شحنة كان للتتار بهمذان
فقتلوه، واعتصموا بالبلد فحصرهم التتار فيه، فقلت عليهم الميرة، وعدمت الأقوات. وأضر
ذلك بأهل همذان، ولم ينل التتار مضرة من عدم القوت، لأنهم لا يأكلون إلا اللحم،
والخيل معهم كثيرة ومعهم غنم عظيمه يسوقونها حيث شاءوا وخيلهم لا تأكل الشعير،
ولا تأكل إلا نبات الأرض، تحفر بحوافرها الأرض عن العروق، فتأكلها.
فاضطر رئيس همذان وأهلها إلى الخروج إليهم فخرجوا، والتحمت الحرب بينهم أياما
وفقد رئيس همذان، هرب في سرب قد كان أعده إلى موضع اعتصم به ظاهر البلد، ولم
يعلم حقيقة حاله، فتحير أهل همذان بعد فقده ودخلوا لمدينة، واجتمعت كلمتهم على القتال في
قصبه البلد إلى أن يموتوا. وكان التتار قد عزموا على الرحيل عنهم، لكثرة من قتل منهم
فلما لم يروا أحدا يخرج إليهم من البلد، طمعوا واستدلوا على ضعف أهله فقصدوهم وقاتلوهم
231

وذلك في شهر رجب من سنة ثمان عشرة وستمائة، ودخلوا المدينة بالسيف، وقاتلهم الناس
في الدروب، وبطل السلاح للازدحام، واقتتلوا بالسكاكين، فقتل من الفريقين
ما لا يحصى، وظهر التتار على المسلمين فأفنوهم قتلا، ولم يسلم منهم إلا من كان له نفق في
الأرض يستخفى فيه. ثم ألقوا النار في البلد فأحرقوها، ورحلوا إلى مدينة أردبيل وأعمال
أذربيجان فملكوا أردبيل، وقتلوا فيها، فأكثروا.
ثم ساروا إلى تبريز، وكان بها شمس الدين عثمان الطغرائي، قد جمع كلمة
أهلها بعد
مفارقة صاحب أذربيجان أزبك بن البهلوان للبلاد خوفا من التتار ومقامه بنقجوان
فقوى الطغرائي نفوس الناس على الامتناع، وحذرهم عاقبة التخاذل، وحصن البلد. فلما
وصل التتار، ورأوا اجتماع كلمة المسلمين وحصانة البلد، طلبوا منهم مالا وثيابا، فاستقر
الامر بينهم على شئ معلوم، فسيروه إليهم، فلما أخذوه رحلوا إلى بيلقان، فقاتلهم أهلها.
فملكها التتار في شهر رمضان من هذه السنة، ووضعوا فيهم السيف حتى أفنوهم أجمعين.
ثم ساروا إلى مدينة كنجة، وهي أم بلاد أران، وأهلها ذوو شجاعة وبأس وجلد،
لمقاومتهم الكرج، وتدربهم بالحرب، فلم يقدر التتار عليهم، وأرسلوا إليهم يطلبون مالا
وثيابا، فأرسلوه إليهم، فساروا عنهم، فقصدوا الكرج، وقد أعدوا لهم فلما صافوهم
هرب الكرج، وأخذهم السيف فلم يسلم إلا الشريد، ونهبت بلادهم وأخربت ولم
يوغل التتار في بلاد الكرج، لكثرة مضايقها ودربنداتها (1)، فقصدوا دربند شروان
فحصروا مدينة شماخي، وصعدوا سورها في السلاليم، وملكوا البلد بعد حرب شديد،
وقتلوا فيه فأكثروا (2)

(1) الدربند: الباب وانظر معجم البلدان.
(2) ابن الأثير 9: 340.
232

فلما فرغوا، أرادوا عبور الدربند، فلم يقدموا عليه، فأرسلوا إلى شروان شاه ملك
الدربند، فطالبوه بإنفاذ رسول يسعى بينه وبينهم في الصلح، فأرسل إليهم عشرة من ثقاته
فلما وصلوا إليهم جمعوهم، ثم قتلوا واحدا منهم بحضور الباقين وقالوا للتسعة: إن أنتم
عرفتمونا طريقا نعبر فيه فلكم الأمان، وإلا قتلناكم كما قتلنا صاحبكم فقالوا. لهم:
لا طريق في هذا الدربند، ولكن نعرفكم موضعا هو أسهل المواضع لعبور الخيل.
وساروا بين أيديهم إليه، فعبروا الدربند، وتركوه وراء ظهورهم، وساروا في تلك
البلاد، وهي مملوءة من طرائق مختلفه منهم اللان واللكر وأصناف من الترك، فنهبوها
وقتلوا الكثير من ساكنيها، ورحلوا إلى اللان، وهم أمم كثيرة وقد وصلهم خبرهم،
وجمعوا وحذروا، وانضاف إليهم جموع من قفجاق، فقاتلوهم فلم يظفر أحد العسكرين بالآخر، فأرسل التتار
إلى قفجاق: أنتم إخواننا، وجنسنا واحد، واللان ليسوا من جنسكم
لتنصروهم ولا دينهم دينكم، ونحن نعاهدكم ألا نعرض لكم، ونحمل إليكم من المال
والثياب ما يستقر بيننا وبينكم، على أن تنصرفوا إلى بلادكم.
فاستقر الامر بينهم على مال وثياب حملها التتار إليهم، وفارقت قفجاق اللان،
فأوقع التتار باللان، فقتلوهم ونهبوا أموالهم، وسبوا نساءهم. فلما فرغوا منهم ساروا إلى
بلاد قفجاق وهم آمنون متفرقون، لما استقر بينهم وبين التتار من الصلح، فلم يشعروا بهم
إلا وقد طرقوهم، ودخلوا بلادهم، فأوقعوا بهم الأول فالأول، وأخذوا منهم أضعاف
ما حملوا إليهم، وسمع ما كان بعيد الدار من قفجاق بما جرى.
ففروا عن غير قتال فأبعدوا، فبعضهم بالغياض وبعضهم بالجبال، وبعضهم لحقوا
ببلاد الروس. وأقام التتار في بلاد قفجاق، وهي أرض كثيرة المراعى في الشتاء، وفيها
أيضا أماكن باردة في الصيف، كثيرة المراعى، وهي غياض على ساحل البحر.
* * *
233

ثم سارت طائفة منهم إلى بلاد الروس، وهي بلاد كثيرة عظيمه، وأهلها نصارى،
وذلك في سنة عشرين وستمائة فاجتمع الروس وقفجاق عن منعهم عن البلاد، فلما قاربهم التتار، وعرفوا اجتماعهم، رجعوا القهقرى إيهاما للروس، أن ذلك عن خوف وحذر، فجدوا في اتباعهم، ولم يزل التتار راجعين، وأولئك يقفون آثارهم اثنى عشر يوما.
ثم رجعت التتار على الروس وقفجاق، فأثخنوا فيهم قتلا وأسرا، ولم يسلم منهم إلا
القليل، ومن سلم نزل في المراكب، وخرج في البحر إلى الساحل الشامي، وغرق
بعض المراكب.
وهذه الوقائع كلها تولاها التتر المغربة، الذين قائدهم جرماغون، فأما ملكهم الأكبر
جنكزخان، فإنه كان في هذه المدة بسمرقند ما وراء النهر، فقسم أصحابه أقساما،
فبعث قسما منهم إلى فرغانة وأعمالها، فملكوها، وبعث قسما آخر إلى ترمذ وما يليها
فملكوها، وبعث قسما آخر إلى بلخ وما يليها من أعمال خراسان.
فأما بلخ فإنهم أمنوا أهلها، ولم يتعرضوا لها بنهب ولا قتل وجعلوا فيها شحنة (1)
وكذلك فاريات وكثير من المدن، إلا أنهم أخذوا أهلها، يقاتلون بهم من يمتنع عليهم،
حتى وصلوا إلى الطالقان، وهي عدة بلاد، وفيها قلعة حصينة، وبها رجال إنجاد، فأقاموا
على حصارها شهورا فلم يفتحوها، فأرسلوا إلى جنكزخان يعرفونه عجزهم عنها فسار
بنفسه، وعبر جيحون، ومعه من الخلائق مالا يحصى، فنزل على هذه القلعة، وبنى حولها
شبه قلعة أخرى من طين وتراب وخشب وحطب ونصب عليها المنجنيقات، ورمى القلعة بها، فلما رأى أهلها ذلك فتحوها، وخرجوا وحملوا حملة واحدة، فقتل منهم من
قتل، وسلم من سلم، وخرج السالمون فسلكوا تلك الجبال والشعاب، ناجين بأنفسهم،
ودخل التتار القلعة فنهبوا الأموال والأمتعة، وسبوا النساء والأطفال.

(1) الشحنة في البلد: من فيه من الكفاية لضبطها من جهة السلطان.
234

ثم سير جنكزخان جيشا عظيما مع أحد أولاده إلى مدينة مرو، وبها مائتا الف
من المسلمين، فكانت بين التتار وبينهم حروب عظيمة شديدة، صبر فيها المسلمون
ثم انهزموا، ودخلوا البلد، وأغلقوا أبوابه فحاصره التتار حصارا طويلا، ثم أمنوا متقدم
البلد فلما خرج إليهم في الأمان، خلع عليه ابن جنكزخان وأكرمه، وعاهده ألا
يتعرض لأحد من أهل مرو، ففتح الناس الأبواب، فلما تمكنوا منهم استعرضوهم
بالسيف عن آخرهم فلم يبقوا منهم باقية، بعد أن استصفوا أرباب الأموال عقيب عذاب
شديد عذبوهم به.
ثم ساروا إلى نيسابور، ففعلوا به ما فعلوا بمرو من القتل والاستئصال، ثم عمدوا إلى
طوس، فنهبوها وقتلوا أهلها، وأخرجوا المشهد الذي به علي بن موسى الرضا عليه السلام
والرشيد هارون بن المهدى، وساروا إلى هراة فحصروها، ثم أمنوا أهلها، فلما فتحوها
قتلوا بعضهم وجعلوا على الباقين شحنة فلما بعدوا وثب أهل هراة على الشحنة فقتلوه
فعاد عليهم عسكر من التتار، فاستعرضوهم بالسيف، فقتلوهم عن آخرهم.
ثم عادوا إلى طالقان، وبها ملكهم الأكبر جنكزخان، فسير طائفة منهم إلى
خوارزم، وجعل فيها مقدم أصحابه وكبراءهم، لان خوارزم حينئذ كانت مدينة الملك،
وبها عسكر كثير من الخوارزمية، وعوام البلد معروفون بالبأس والشجاعة، فساروا
ووصلوا إليها، فالتقى الفئتان، واقتتلوا أشد قتال سمع به، ودخل المسلمون البلد، وحصرتهم
التتار خمسة أشهر، وأرسل التتار إلى جنكزخان يطلبون المدد، فأمدهم بجيش من
جيوشه، فلما وصل قويت منتهم به، وزحفوا إلى البلد زحفا متتابعا، فملكوا طرفا منه،
وولجوا المدينة، فقاتلهم المسلمون داخل البلد، فلم يكن لهم به طاقة فملكوه وقتلوا كل
من فيه، فلما فرغوا منه وقضوا وطرهم من القتل والنهب فتحوا السكر (1) الذي يمنع

(1) السكر، بالكسر: ما سد به النهر.
235

ماء جيحون عن خوارزم، فدخل الماء البلد، فغرق كله، وانهدمت الأبنية، فبقي بحرا،
ولم يسلم من أهل خوارزم أحد البتة، فإن غيره من البلاد كان يسلم نفر يسير من أهلها وأما خوارزم فمن وقف للسيف قتل، ومن استخفى غرقة الماء أو أهلكه الهدم،
فأصبحت خوارزم يبابا.
* * *
فلما فرغ التتر من هذه البلاد، سيروا جيشا إلى غزنة، وبها حينئذ جلال الدين
منكبري بن محمد خوارزم شاه مالكها، وقد اجتمع إليه من سلم من عسكر أبيه وغيرهم،
فكانوا نحو ستين ألفا، وكان الجيش الذي سار إليهم التتار اثنى عشر ألفا، فالتقوا
في حدود غزنة، واقتتلوا قتالا شديدا ثلاثة أيام، ثم أنزل الله النصر على المسلمين، فانهزم التتر، وقتلهم المسلمون كيف شاءوا، وتحيز الناجون منهم إلى الطالقان، وبها جنكزخان،
وأرسل جلال الدين إليه رسولا يطلب منه أن يعين موضعا للحرب، فاتفقوا على أن يكون
الحرب بكابل، فأرسل جنكزخان إليها جيشا، وسار جلال الدين إليها بنفسه، وتصافوا
هناك، فكان الظفر للمسلمين، وهرب التتار فالتجأوا إلى الطالقان، وجنكزخان مقيم
بها أيضا، وغنم المسلمون منهم غنائم عظيمة، فجرت بينهم فتنة عظيمة في الغنائم، وذلك
لان أميرا من أمرائهم اسمه بغراق، كان قد أبلى في حرب التتر هذه جرت بينه وبين
أمير يعرف بملك خان، نسيب خوارزم شاه، مقاولة أفضت إلى أن قتل أخ لبغراق،
فغضب وفارق جلال الدين في ثلاثين ألفا، فتبعه جلال الدين واسترضاه واستعطفه، فلم
يرجع، فضعف جانب جلال الدين بذلك، فبينا هو كذلك وصله الخبر أن جنكزخان
قد سار إليه من الطالقان بنفسه وجيوشه، فعجز عن مقاومته، وعلم أنه لا طاقة له به، فسار
نحو بلاد الهند وعبر نهر السند، وترك غزنة شاغرة كالفريسة للأسد، فوصل إليها
236

جنكزخان فملكها، وقتل أهلها وسبى نساءها، وأخرب القصور، وتركها
كأمس الغابر.
ثم كانت لهم بعد ملك غزنة واستباحتها وقائع كثيرة مع ملوك الروم بنى قلج أرسلان،
لم يوغلوا فيها في البلاد، وإنما كانوا يتطرقونها وينهبون ما تاخمهم منها، وأذعن لهم ملوك
فارس، وكرمان، والتيز، ومكران بالطاعة وحملوا إليهم الإتاوة، ولم يبق في البلاد الناطقة
باللسان الأعجمي بلد إلا حكم فيه سيفهم أو كتابهم، فأكثر البلاد قتلوا أهلها، وسبق السيف فيهم العذل والباقي أدى الإتاوة إليهم رغما، وأعطى الطاعة صاغرا، ورجع
جنكزخان إلى ما وراء النهر وتوفى هناك.
وقام بعده ابنه قاآن مقامه، وثبت جرماغون في مكانه بآذربيجان ولم يبق لهم إلا أصبهان فإنهم نزلوا عليها مرارا في سنة سبع وعشرين وستمائة، وحاربهم أهلها، وقتل
من الفريقين مقتلة عظيمة، ولم يبلغوا منها غرضا، حتى اختلف أهل أصبهان في سنه ثلاث
وثلاثين وستمائة وهم طائفتان: حنفية وشافعية، وبينهم حروب متصلة وعصبية ظاهرة فخرج
قوم من أصحاب الشافعي إلى من يجاورهم ويتاخمهم من ممالك التتار، فقالوا لهم: اقصدوا
البلد حتى نسلمه إليكم، فنقل ذلك إلى قاآن بن جنكزخان بعد وفاة أبيه، والملك يومئذ
منوط بتدبيره، فأرسل جيوشا من المدينة المستجدة التي بنوها، وسموها قرا حرم فعبرت
جيحون مغربة، وانضم إليها قوم ممن أرسله جرماغون على هيئة المدد لهم فنزلوا على
أصفهان في سنة ثلاث وثلاثين المذكورة، وحصروها فاختلف سيفا الشافعية والحنفية في
المدينة، حتى قتل كثير منهم، وفتحت أبواب المدينة، فتحها الشافعية على عهد بينهم وبين
التتار أن يقتلوا الحنفية ويعفوا عن الشافعية، فلما دخلوا البلد بدءوا بالشافعية، فقتلوهم
قتلا ذريعا، ولم يقفوا مع العهد الذي عهدوه لهم، ثم قتلوا الحنفية، ثم قتلوا سائر الناس.
237

وسبوا النساء، وشقوا بطون الحبالى، ونهبوا الأموال، وصادروا الأغنياء، ثم أضرموا النار،
فأحرقوا أصبهان، حتى صارت تلولا من الرماد.
فلما لم يبق لهم بلد من بلاد العجم إلا وقد دوخوه، صمدوا نحو إربل في سنة أربع
وثلاثين وستمائة، وقد كانوا طرقوها مرارا وتحيفوا بعض نواحيها فلم يوغلوا فيها، والأمير
المرتب بها يومئذ باتكين الرومي، فنزل عليها في ذي القعدة من هذه السنة منهم نحو
ثلاثين ألف فارس، أرسلهم جرماغون، وعليهم مقدم كبير من رؤسائهم يعرف بجكتاي،
فغاداها القتال ورواحها، وبها عسكر جم من عساكر الاسلام، فقتل من الفريقين خلق
كثير، واستظهر التتار، ودخلوا المدينة وهرب الناس إلى القلعة، فاعتصموا بها، وحصرهم
التتار، وطال الحصار حتى هلك الناس في القلعة عطشا، وطلب باتكين منهم أن يصالحوه
عن المسلمين بمال يؤديه إليهم، فأظهروا الإجابة، فلما أرسل إليهم ما تقرر بينهم وبينه،
أخذوا المال وغدروا به، وحملوا على القلعة بعد ذلك حملات عظيمة، وزحفوا إليها زحفا
متتابعا، وعلقوا عليها المنجنيقات الكثيرة، وسير المستنصر بالله الخليفة جيوشه مع مملوكه
وخادم حضرته، وأخص مماليكه به شرف الدين إقبال الشرامي، فساروا إلى تكريت،
فلما عرف التتر شخوصهم رحلوا عن إربل، بعد أن قتلوا منها مالا يحصى، وأخربوها
وتركوها كجوف حمار، وعادوا إلى تبريز، وبها مقام جرماغون، وقد جعلها
دار ملكه.
فلما رحلوا عن إربل، عاد العسكر البغدادي إلى بغداد، وكانت للتتار بعد ذلك
نهضات وسرايا كثيرة إلى بلاد الشام، قتلوا ونهبوا وسبوا فيها حتى انتهت خيولهم إلى
حلب، فأوقعوا بها، وصانعهم عنها أهلها وسلطانها، ثم عمدوا إلى بلاد كي خسرو
صاحب الروم، وذلك بعد أن هلك جرماغون وقام عوضه المعروف ببابا يسيجو، وكان
238

قد جمع لهم ملك الروم قضه وقضيضه، وجيشه ولفيفه واستكثر من الأكراد العتمرية،
ومن عساكر الشام وجند حلب، فيقال: إنه جمع مائة ألف فارس وراجل، فلقيه التتار
في عشرين ألفا، فجرت بينه وبينهم حروب شديدة قتلوا فيها مقدمته، وكانت المقدمة
كلها أو أكثرها من رجال حلب، وهم أنجاد أبطال فقتلوا عن آخرهم، وانكسر العسكر
الرومي وهرب صاحب الروم حتى انتهى إلى قلعه له على البحر تعرف بأنطاكية،
فاعتصم بها وتمزقت جموعه، وقتل منهم عدد لا يحصى، ودخلت التتار إلى المدينة المعروفة
بقيسارية ففعلوا فيها أفاعيل منكرة من القتل والنهب والتحريق، وكذلك بالمدينة
المعروفة بسيواس وغيرها من كبار المدن الرومية، وبخع لهم صاحب الروم بالطاعة، وأرسل
إليهم يسألهم قبول المال والمصانعة، فضربوا عليه ضريبة يؤديها إليهم كل سنة، ورجعوا
عن بلاده.
وأقاموا على جملة السكون والموادعة للبلاد الاسلامية كلها، إلى أن دخلت سنة ثلاث
وأربعين وستمائة. فاتفق أن بعض أمراء بغداد وهو سليمان بن برجم، وهو مقدم الطائفة
المعروفة بالإيواء، وهي من التركمان، قتل شحنة من شحنهم في بعض قلاع الجبل يعرف
بخليل بن بدر، فأثار قتله أن سار من تبريز عشرة آلاف غلام منهم، يطوون المنازل،
ويسبقون خبرهم، ومقدمهم المعروف بجكتاي الصغير، فلم يشعر الناس ببغداد إلا وهم على
البلد، وذلك في شهر ربيع الاخر من هذه السنة في فصل الخريف، وقد كان الخليفة المستعصم
بالله، أخرج عسكره إلى ظاهر سور بغداد على سبيل الاحتياط، وكان التتر قد بلغهم ذلك
إلا أن جواسيسهم غرتهم، وأوقعت في أذهانهم أنه ليس خارج السور إلا خيام مضروبة
وفساطيط مضروبة، لا رجال تحتها، وأنكم متى أشرفتم عليهم ملكتم سوادهم وثقلهم
ويكون قصارى أمر قوم قليلين تحتها أن ينهزموا إلى البلد، ويعتصموا بجدرانه، فأقبلت
239

التتر على هذا الظن، وسارت على هذا الوهم فلما قربوا من بغداد، وشارفوا الوصول إلى
المعسكر، أخرج المستعصم بالله الخليفة مملوكه وقائد جيوشه شرف الدين إقبالا الشرابي إلى
ظاهر السور، وكان خروجه في ذلك اليوم من لطف الله تعالى بالمسلمين، فإن التتار لو وصلوا
وهو بعد لم يخرج، لاضطرب العسكر، لأنهم كانوا يكونون بغير قائد ولا زعيم، بل كل
واحد منهم أمير نفسه، وآراؤهم مختلفة لا يجمعهم رأى واحد، ولا يحكم عليها حاكم
واحد، فكانوا في مظنة الاختلاف والتفرق، والاضطراب والتشتت، فكان خروج
شرف الدين إقبال الشرابي في اليوم السادس عشر من هذا الشهر المذكور، ووصلت التتر
إلى سور البلد في اليوم السابع عشر، فوقفوا بإزاء عساكر بغداد صفا واحدا، وترتب
العسكر البغدادي ترتيبا منتظما، ورأي التتر من كثرتهم وجودة سلاحهم وعددهم وخيولهم،
ما لم يكونوا يظنونه ولا يحسبونه، وانكشف ذلك الوهم الذي أوهمهم جواسيسهم عن
الفساد والبطلان.
وكان مدبر أمر الدولة والوزارة في هذا الوقت هو الوزير مؤيد الدين محمد بن أحمد بن
العلقمي، ولم يحضر الحرب، بل كان ملازما ديوان الخلافة بالحضرة، لكنه كان يمد
العسكر الاسلامي من آرائه وتدبيراته بما ينتهون إليه ويقفون عنده، فحملت التتار على
عسكر بغداد حملات متتابعة، ظنوا أن واحدة منها تهزمهم، لأنهم قد اعتادوا أنه لا يقف
عسكر من العساكر بين أيديهم، وأن الرعب والخوف منهم يكفي ويغني عن مباشرتهم
الحرب بأنفسهم، فثبت لهم عسكر بغداد أحسن ثبوت، ورشقوهم بالسهام، ورشقت التتار
أيضا بسهامها، وأنزل الله سكينته على عسكر بغداد، وأنزل بعد السكينة نصره، فما زال
العسكر البغدادي تظهر عليه أمارات القوة، وتظهر على التتار أمارات الضعف
والخذلان، إلى أن حجز الليل بين الفريقين، ولم يصطدم الفيلقان، وإنما
240

كانت مناوشات وحملات خفيفة لا تقتضي الاتصال والممازجة ورشق بالنشاب شديد.
فلما أظلم الليل، أوقد التتار نيرانا عظيمة، وأوهموا أنهم مقيمون عندها، وارتحلوا في
الليل راجعين إلى جهة بلادهم، فأصبح العسكر البغدادي، فلم ير منهم عينا ولا أثرا،
وما زالوا يطوون المنازل، ويقطعون القرى عائدين حتى دخلوا الدربند،
ولحقوا ببلادهم.
* * *
وكان ما جرى من دلائل النبوة لان الرسول صلى الله عليه وآله وعد هذه الملة
بالظهور والبقاء إلى يوم القيامة، ولو حدث على بغداد منهم حادثة، كما جرى على غيرها من البلاد، لانقرضت ملة الاسلام، ولم يبق لها باقية.
وإلى أن بلغنا من هذا الشرح إلى هذا الموضع، لم يذعر العراق منهم ذاعر بعد تلك
النوبة التي قدمنا ذكرها.
* * *
قلت: وقد لاح لي من فحوى كلام أمير المؤمنين عليه السلام أنه لا بأس على بغداد
والعراق منهم، وأن الله تعالى يكفي هذه المملكة شرهم، ويرد عنها كيدهم، وذلك من
قوله عليه السلام ويكون هناك استحرار قتل " فأتى بالكاف، وهي إذا وقعت عقيب
الإشارة أفادت البعد، تقول للقريب: هنا، وللبعيد هناك، وهذا منصوص عليه في العربية،
ولو كان لهم استحرار قتل في العراق لما قال: " هناك "، بل كان يقول: " هنا ". لأنه عليه
السلام خطب بهذه الخطبة في البصرة، ومعلوم أن البصرة وبغداد شئ واحد وبلد واحد،
لأنهما جميعا من إقليم العراق، وملكهما ملك واحد، فيلمح هذا الموضع، فإنه لطيف.
* * *
241

وكتبت إلى مؤيد الدين الوزير عقيب هذه الوقعة التي نصر فيها الاسلام - ورجع
التتر مخذولين ناكصين على أعقابهم أبياتا أنسب إليه الفتح، وأشير إلى أنه هو الذي
قام بذلك وإن لم يكن حاضرا له بنفسه، وأعتذر إليه عن الإغباب بمديحه، فقد كانت
الشواغل والقواطع تصد عن الانتصاب لذلك - شعرا:
أبقى لنا الله الوزير وحاطه * بكتائب من نصره ومقانب (1)
وامتد وارف ظله لنزيله * وصفت متون غديره للشارب
يا كالئ الاسلام إذ نزلت به * فرغاء تشهق بالنجيع السالب (2)
في خطة بهماء ديمومية * لا يهدى فيها السليك للاحب (3)
لا يمتطي سلساتها مرهوبة الإبساس جلس لا تدر لعاصب
فرجت غمرتها بقلب ثابت * في حملة ذعري ورأي ثاقب
ما غبت ذاك اليوم عن تدبيرها * كم حاضر يعصى بسيف الغائب!
عمر الذي فتح العراق وإنما * سعد حسام في يمين الضارب (4)
أثنى عليك ثناء غير موارب * وأجيد فيك المدح غير مراقب
وأنا الذي يهواك حبا صادقا * متقادما، ولرب حب كاذب
حبا ملأت به شعاب جوانحي * يفعا، وها أنا ذو عذار شائب

(1) المقانب: جمع مقنب: الجماعة من الخيل ما بين الثلاثين إلى الأربعين.
(2) الفرغاء: الطعنة الواسعة.
(3) البهماء: التي لا يهتدى فيها، والديمومية: منسوب إلى الديوم وهو الفلاة أيضا. والسليك أحد
لصوص العرب وفتاكهم.
(4) هو عمر بن الخطاب، فتحت العراق في عهده، وسعد بن أبي وقاص قائد المسلمين يوم القادسية.
242

إن القريض وإن أغب متيم * بكم، ورب مجانب كمواظب
ولقد يخالصك القصي وربما * يمنى بود مماذق متقارب
سدت مسالكه هموم جعجعت * بالفكر حتى لا يبض لحالب
ومن العناء مغلب في حظه * يبغي مغالبة القضاء الغالب
وهي طويلة، وإنما ذكرنا منها ما اقتضته الحال
243

(129)
الأصل:
عباد الله، إنكم وما تأملون من هذه الدنيا أثوياء مؤجلون، ومدينون
مقتضون، أجل منقوص، وعمل محفوظ فرب دائب مضيع، ورب كادح خاسر،
وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلا إدبارا، والشر فيه إلا إقبالا، والشيطان
في هلاك الناس إلا طمعا، فهذا أوان قويت عدته، وعمت مكيدته،
وأمكنت فريسته.
أضرب بطرفك حيث شئت من الناس، فهل تبصر إلا فقيرا يكابد فقرا،
أو غنيا بدل نعمة الله كفرا، أو بخيلا اتخذ البخل بحق الله وفرا، أو متمردا كأن
بأذنه عن سمع المواعظ وقرا!
أين أخياركم وصلحاؤكم، وأحراركم وسمحاؤكم، وأين المتورعون في
مكاسبهم، والمتنزهون في مذاهبهم! أليس قد ظعنوا جميعا عن هذه الدنيا الدنية،
والعاجلة المنغصة!
وهل خلفتم إلا في حثالة لا تلتقي بذمهم الشفتان، استصغارا لقدرهم، وذهابا
عن ذكرهم! فإنا لله وإنا إليه راجعون!
ظهر الفساد فلا منكر مغير، ولا زاجر مزدجر. أفبهذا تريدون أن تجاوروا
الله في دار قدسه، وتكونوا أعز أوليائه عنده! هيهات لا يخدع الله عن جنته،
ولا تنال مرضاته إلا بطاعته.
244

لعن الله الامرين بالمعروف التاركين له، والناهين عن المنكر العاملين به!
* * *
الشرح:
أثوياء: جمع ثوى، وهو الضيف. كقوي وأقوياء. ومؤجلون: مؤخرون إلى أجل،
أي وقت معلوم.
ومدينون مقرضون، دنت الرجل أقرضته، فهو مدين ومديون، ودنت أيضا، إذا
استقرضت، وصار على دين، فأنا دائن، وأنشد:
ندين ويقضى الله عنا، وقد نرى * مصارع قوم لا يدينون ضيعا (1).
ومقتضون جمع مقتضى، أي مطالب بأداء الدين، كمرتضون جمع مرتضى،
ومصطفون جمع مصطفى.
وقوله: " أجل منقوص "، أي عمر، وقد جاء عنهم: أطال الله أجلك، أي عمرك
وبقائك. والدائب: المجتهد ذو الجد والتعب والكادح الساعي.
ومثل قوله: " فرب دائب مضيع، ورب كادح خاسر "، قول الشاعر:
إذا لم يكن عون من الله للفتى * فأكثر ما يجنى عليه اجتهاده
ومثله:
إذا لم يكن عون من الله للفتى * أتته الرزايا من وجوه الفوائد.
وهو كثير: والأصل فيه قوله تعالى: (وجوه يومئذ خاشعة * عاملة ناصبة * تصلى نارا حامية) (2) ويروى: " فرب دائب مضيع " بغير تشديد.

(1) اللسان 17: 36، ونسبه للعجير السلولي.
(2) سورة الغاشية 2 - 4.
245

وقوله: " وأمكنت فريسته "، أي وأمكنته، فحذف المفعول.
وقوله: " فاضرب بطرفك " لفظة فصيحة، وقد أخذها الشاعر فقال:
فاضرب بطرفك حيث شئت فلن ترى * إلا بخيلا.............
والوفر: المال الكثير، أي بخل ولم يؤد حق الله سبحانه، فكثر ماله.
والوقر، بفتح الواو: الثقل في الاذن. وروى " المنغصة "، بفتح الغين.
والحثالة: الساقط الردئ من كل شئ.
وقوله: لا تلتقي بذمهم الشفتان، أي يأنف الانسان أن يذمهم: لأنه لابد في
الذم من إطباق أحد الشفتين على الأخرى، وكذلك في كل الكلام.
وذهابا عن ذكرهم، أي ترفعا، يقال: فلان يذهب بنفسه عن كذا، أي يرفعها.
ولا زاجر مزدجر، أي ليس في الناس من يزجر عن القبيح وينزجر هو عنه.
ودار القدس: هي الجنة ولا يخدع الله عنها، لأنه لا تخفى عليه خافية، ولا يجوز
عليه النفاق والتمويه. ثم لعن الامر بالمعروف ولا يفعله، والناهي عن المنكر ويرتكبه،
وهذا من قوله تعالى: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم).
ولست أرى في هذه الخطبة ذكرا للموازين والمكاييل، التي أشار إليها الرضى رحمه
الله، اللهم إلا أن يكون قوله عليه السلام: " وأين المتورعون في مكاسبهم "، أو قوله:
" ظهر الفساد "، ودلالتهما على الموازين والمكاييل بعيدة.
* * *
[نبذ من أقوال الحكماء والصالحين]
وأعلم أن هذه الخطبة قد اشتملت على كلام فصيح، وموعظة بالغة من ذكر الدنيا
246

وذكر أهلها، ونحن نذكر كلمات وردت عن الحكماء والصالحين تناسبها، على عادتنا في
إيراد الأشباه والنظائر.
قال بعض الصالحين: ما أدرى كيف أعجب من الدنيا! أمن حسن منظرها وقبح
مخبرها، أم من ذم الناس لها، وتناحرهم عليها!
قيل لبعضهم: كيف أصبحت؟ قال: آسفا على أمسى، كارها ليومي، متهما لغدي.
قيل لأعرابي: كيف ترى الدهر؟ قال: خدوعا خلوبا، وثوبا غلوبا.
قيل لصوفي: لم تركت الدنيا؟ قال: لأني منعت صفوها، وامتنعت من كدرها.
وقيل لآخر: لم تركت الدنيا؟ قال: لأني عدمت الوسيلة إليها إلا بعشقها، وأعشق
ما أكون لها أغدر ما تكون بي. وأنشد لبشر الحافي:
قرير العين لا ولد يموت * ولا حذر يبادر ما يفوت
رخي البال ليس له عيال * خلى من حربت ومن دهيت
قضى وطر الصبا وأفاد علما * فعاتبه التفرد والسكوت
وأكبر همه مما عليه * تذابح من ترى خلق وقوت.
قال أبو حيان: سمعت ابن القصاب الصوفي، يقول: اسمع واسكت، وانظر واعجب،
قال ابن المعتز:
مل سقامي عوده * وخان دمعي مسعده
وضاع من ليلى غده * طوبى لعين تجده
قلت من الدهر يده * يفنى ويبقى أبده
والموت ضار أسده * وقاتل من يلده.
247

ومن الشعر القديم المختلف في قائله:
قصر الجديد إلى بلى * والوصل في الدنيا انقطاعه
أي اجتماع لم يعد * بتفرق منها اجتماعه
أم أي شعب ذي التئام لم يبدده انصداعه
أم أي منتفع بشئ * ثم تم له انتفاعه
يا بؤس للدهر الذي * ما زال مختلفا طباعه
قد قيل في مثل خلا: * " يكفيك من شر سماعه "
قيل لصوفي: كيف ترى الدنيا؟ قال: وما الدنيا؟ لا أعرف لها وجودا، قيل له:
فأين قلبك: قال عند ربى، قيل: فأين ربك؟ قال: وأين ليس هو!
قال ابن عائشة كان يقال: مجالسة أهل الديانة تجلو عن القلوب صدأ الذنوب،
ومجالسة ذوي المروءات تدل على مكارم الأخلاق، ومجالسة العلماء تزكى النفوس.
ومن كلام بعض الحكماء الفصحاء: كن لنفسك نصيحا، واستقبل توبة نصوحا،
وأزهد في دار سمها ناقع، وطائرها واقع، وارغب في دار طالبها منجح، وصاحبها مفلح،
ومتى حققت وآثرت الصدق، بان لك أنهما لا يجتمعان، وأنهما كالضدين لا يصطلحان
فجرد همك في تحصيل الباقية، فإن الأخرى أنت فان عنها وهي فانية عنك: وقد عرفت
آثارها في أصحابها ورفقائها، وصنعها بطلابها وعشقائها معرفة عيان، فأي حجة تبقى لك،
وأي حجة لا تثبت عليك!
ومن كلام هذا الحكيم: فإنا قد أصبحنا في دار رابحها خاسر، ونائلها قاصر، وعزيزها ذليل، وصحيحها عليل، والداخل إليها مخرج، والمطمئن فيها مزعج، والذائق
من شرابها سكران، والواثق بسرابها ظمآن، ظاهرها غرور، وباطنها شرور، وطالبها
248

مكدود وعاشقها مجهود، وتاركها محمود. العاقل من قلاها وسلا عنها. والظريف من عافها
وأنف منها، والسعيد من غمض بصره عن زهرتها، وصرفه عن نضرتها، وليس لها فضيلة
إلا دلالتها على نفسها، وإشارتها إلى نقصها، ولعمري إنها لفضيلة لو صادفت قلبا عقولا
لا لسانا قؤولا، وعملا مقبولا لا لفظا منقولا. فإلى الله الشكوى من هوى مطاع، وعمر
مضاع، فبيده الداء والدواء، والمرض والشفاء.
قال أبو حرة: أتينا بكر بن عبد الله المري نعوده فدخلنا عليه وقد قام لحاجته فجلسنا، ننتظره، فأقبل إلينا يتهادى بين رجلين، فلما نظر إلينا سلم علينا، ثم قال: رحم الله
عبدا أعطى قوة فعمل بها في طاعة الله، أو قصر به ضعف فكف عن محارم الله.
وقال بكر بن عبد الله مثل الرجل في الدنيا مثل رجل له ثلاثة خلان، قال له
أحدهم: أنا خازنك خذ منى ما شئت، فاعمل به ما شئت، وقال الآخر: أنا معك أحملك
وأضعك، فإذا مت تركتك، وقال الآخر: أنا أصحبك أبدا، حياتك وموتك، فأما الأول
فماله، وأما الثاني فعشيرته، وأما الثالث فعمله.
قيل للزهري: من الزاهد في الدنيا؟ قال من لم يمنع الحلال شكره، ومن لم يمنع
الحرام صبره.
وقال سفيان الثوري: ما عبد الله بمثل العقل، ولا يكون الرجل عاقلا حتى تكون
فيه عشر خصال: يكون الكبر منه مأمونا، والخير منه مأمولا، يقتدى بمن قبله، ويكون
إماما لمن بعده، وحتى يكون الذل في طاعة الله أحب إليه من العز في معصية الله، وحتى يكون
الفقر في الحلال، أحب إليه من الغنى في، الحرام، وحتى يكون عيشه القوت، وحتى يستقل الكثير من عمله، ويستكثر القليل من عمل غيره، وحتى لا يتبرم بطلب الحوائج
249

قبله، والعاشرة وما العاشرة! بها شاد مجده، وعلا ذكره، أن يخرج من بيته فلا يستقبله
أحد من الناس ألا رأى أنه دونه.
قال يونس بن حبيب كان عندنا بالبصرة جندي عابد، فأحب الغزو، فلما خرج
شيعته، فقلت: أوصني، فقال: أوصيك بتقوى الله، وأوصيك بالقرآن، فإنه نور الليل
المظلم،
وهدى النهار المشرق، فاعمل به على ما كان من جهد وفاقة، فإن عرض بلاء
فقدم مالك دون نفسك، فإن تجاوز البلاء فقدم مالك ونفسك دون دينك. واعلم أن
المحروب من حرب دينه، والمسلوب من سلب يقينه. إنه لا غنى مع النار، ولا فقر مع الجنة،
وإن جهنم لا يفك أسيرها، ولا يستغنى فقيرها.
ابن المبارك، كان فيما مضى جبار يقتل الناس على أكل لحوم الخنازير، فلم يزل الامر
يترقى حتى بلغ إلى عابد مشهور، فأراده على أكلها، وهدده بالقتل، فشق ذلك على الناس.
فقال له صاحب شرطته: إني ذابح لك غدا جديا، فإذا دعاك هذا الجبار لتأكل، فكل
فإنما هو جدي فلما دعاه ليأكل أبى أن يأكل، فقال: أخرجوه واضربوا عنقه. فقال
له الشرطي: ما منعك أن تأكل من لحم جدي؟ قال: إني رجل منظور إلى، وإني
كرهت أن يتأسى بي الناس في معاصي الله. فقدمه فقتله.
سفيان الثوري، كان رجل يبكى كثيرا، فقال. له أهله: لو قتلت قتيلا ثم أتيت وليه
فرآك تبكي هذا البكاء لعفا عنك، فقال: قد قتلت نفسي، فلعل وليها يعفو عنى.
وكان أيوب السختياني كثير البكاء، وكان يغالط الناس عن بكائه، يبكى مره فيأخذ
أنفه، ويقول الزكمة ربما عرضت لي، ويبكي مرة، فإذا استبان من حوله بكاءه،
قال: إن الشيخ إذا كبر مج. (1)

(1) الماج: من يسيل لعابه كبرا وهرما.
250

ومن كلام أبى حيان التوحيدي في ' البصائر ': ما أقول في عالم الساكن فيه وجل
والصاحي بين أهله ثمل، والمقيم على ذنوبه خجل، والراحل عنه مع تماديه عجل. وإن
دارا هذه من آفاتها وصروفها، لمحقوقة بهجرانها وتركها، والصدوف منها خاصة ولا سبيل
لساكنها إلى دار القرار إلا بالزهد فيها، والرضا بالطفيف منها، كبلغة الثاوي
وزاد المنطلق.
251

(130)
الأصل:
ومن كلام له عليه السلام لأبي ذر رحمه الله لما أخرج إلى الربذة:
يا أبا ذر، أنك غضبت لله فارج من غضبت له. إن القوم خافوك على دنياهم
وخفتهم على دينك، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه، واهرب منهم بما خفتهم عليه، فما أحوجهم إلى ما منعتهم وما أغناك عما منعوك!
وستعلم من الرابح غدا، والأكثر حسدا. ولو أن السماوات والأرضين كانتا على
عبد رتقا: ثم اتقى الله، لجعل الله له منهما مخرجا
لا يؤنسنك إلا الحق، ولا يوحشنك إلا الباطل، فلو قبلت دنياهم لأحبوك،
ولو قرضت منها لأمنوك.
* * *
الشرح:
[أخبار أبي ذر الغفاري حين خروجه إلى الربذة]
واقعة أبي ذر رحمه الله وإخراجه إلى الربذة، أحد الاحداث التي نقمت على
عثمان: وقد روى هذا الكلام أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب
" السقيفة " عن عبد الرزاق، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال:
لما أخرج أبو ذر إلى الربذة، أمر عثمان، فنودي في الناس ألا يكلم أحد أبا ذر
ولا يشيعه. وأمر مروان بن الحكم أن يخرج به. فخرج به، وتحاماه الناس إلا على
252

ابن أبي طالب عليه السلام وعقيلا أخاه وحسنا وحسينا عليهما السلام، وعمارا،
فإنهم خرجوا معه يشيعونه فجعل الحسن عليه السلام يكلم أبا ذر، فقال له مروان:
إيها يا حسن! ألا تعلم أن أمير المؤمنين قد نهى عن كلام هذا الرجل! فإن كنت لا تعلم فاعلم ذلك، فحمل علي عليه السلام على مروان فضرب بالسوط بين أذني راحلته، وقال:
تنح لحاك الله إلى النار!
فرجع مروان مغضبا إلى عثمان: فأخبره الخبر، فتلظى على علي عليه السلام، ووقف
أبو ذر فودعه القوم، ومعه ذكوان مولى أم هانئ بنت أبي طالب.
قال ذكوان: فحفظت كلام القوم - وكان حافظا - فقال علي عليه السلام: يا أبا ذر،
إنك غضبت لله! إن القوم خافوك على دنياهم، وخفتهم على دينك. فامتحنوك بالقلى،
ونفوك إلى الفلا، والله لو كانت السماوات والأرض على عبد رتقا، ثم اتقى الله لجعل له
منها مخرجا. يا أبا ذر لا يؤنسنك إلا الحق، ولا يوحشنك إلا الباطل. ثم قال لأصحابه:
ودعوا عمكم وقال لعقيل ودع أخاك.
فتكلم عقيل، فقال ما عسى أن نقول يا أبا ذر وأنت تعلم أنا نحبك، وأنت تحبنا!
فاتق الله، فإن التقوى نجاة، واصبر فإن الصبر كرم، وأعلم أن استثقالك الصبر من الجزع،
واستبطاءك العافية من اليأس، فدع اليأس والجزع.
ثم تكلم الحسن فقال: يا عماه، لولا أنه لا ينبغي للمودع أن يسكت، وللمشيع
أن ينصرف، لقصر الكلام وإن طال الأسف، وقد أتى القوم إليك ما ترى فضع عنك
الدنيا بتذكر فراغها، وشدة ما اشتد منها برجاء ما بعدها، واصبر حتى تلقى نبيك صلى
الله عليه وآله وهو عنك راض.
ثم تكلم الحسين عليه السلام فقال: يا عماه، إن الله تعالى قادر أن يغير ما قد ترى،
253

والله كل يوم هو في شأن وقد منعك القوم دنياهم ومنعتهم دينك، فما أغناك عما
منعوك، وأحوجهم إلى ما منعتهم! فأسال الله الصبر والنصر، واستعذبه من الجشع والجزع،
فإن الصبر من الدين والكرم وإن الجشع لا يقدم رزقا، وجزع لا يؤخر أجلا.
ثم تكلم عمار رحمه الله مغضبا، فقال: لا آنس الله من أوحشك، ولا آمن من
أخافك، أما والله لو أردت دنياهم لأمنوك، ولو رضيت أعمالهم لأحبوك، وما منع الناس
أن يقولوا بقولك إلا الرضا بالدنيا، والجزع من الموت، مالوا إلى ما سلطان جماعتهم عليه،
والملك لمن غلب، فوهبوا لهم دينهم، ومنحهم القوم دنياهم، فحسروا الدنيا والآخرة،
ألا ذلك هو الخسران المبين!
فبكى أبو ذر رحمه الله، وكان شيخا كبيرا، وقال: رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة!
إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول الله صلى الله عليه وآله، ما لي بالمدنية سكن ولا شجن
غيركم، إني ثقلت على عثمان بالحجاز، كما ثقلت على معاوية بالشام، وكره أن أجاور أخاه وابن خاله بالمصرين، فأفسد الناس عليهما، فسيرني إلى بلد ليس لي به ناصر ولا دافع
إلا الله، والله ما أريد إلا الله صاحبا، وما أخشى مع الله وحشة.
ورجع القوم إلى المدينة، فجاء علي عليه السلام إلى عثمان، فقال له: ما حملك على رد
رسولي، وتصغير أمري! فقال علي عليه السلام: أما رسولك، فأراد أن يرد وجهي
فرددته، وأما أمرك فلم أصغره.
قال: أما بلغك نهيي عن كلام أبي ذر! قال: أو كلما أمرت بأمر معصية أطعناك
فيه! قال عثمان: أقد مروان من نفسك، قال: مم ذا؟ قال: من شتمه وجذب راحلته،
قال أما راحلته فراحلتي بها، وأما شتمه إياي، فوالله لا يشتمني شتمة إلا شتمتك
مثلها، لا أكذب عليك.
254

فغضب عثمان، وقال: لم لا يشتمك! كأنك خير منه! قال على: أي والله ومنك!
ثم قام فخرج.
فأرسل عثمان إلى وجوه المهاجرين والأنصار وإلى بنى أمية، يشكو إليهم عليا
عليه السلام، فقال القوم: أنت الوالي عليه، وإصلاحه أجمل. قال: وددت ذاك، فاتوا
عليا عليه السلام، فقالوا: لو اعتذرت إلى مروان وأتيته! فقال: كلا، أما مروان فلا آتيه
ولا أعتذر منه، ولكن إن أحب عثمان أتيته.
فرجعوا لي عثمان، فأخبروه، فأرسل عثمان إليه، فأتاه ومعه بنو هاشم، فتكلم علي عليه
السلام، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما ما وجدت على فيه من كلام أبي ذر
ووداعه، فوالله ما أردت مساءتك ولا الخلاف عليك، ولكن أردت به قضاء حقه.
وأما مروان فإنه اعترض، يريد ردى عن قضاء حق الله عز وجل، فرددته رد مثلي
مثله، وأما ما كان منى إليك، فإنك أغضبتني، فأخرج الغضب منى ما لم أرده.
فتكلم عثمان، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما ما كان منك إلى فقد وهبته لك،
وأما ما كان منك إلى مروان، فقد عفا الله عنك، وأما ما حلفت عليه فأنت البر الصادق،
فأدن يدك، فأخذ يده فضمها إلى صدره.
فلما نهض قالت قريش وبنو أمية لمروان: أأنت رجل! جبهك على، وضرب
راحلتك، وقد تفانت وائل في ضرع ناقة، وذبيان وعبس في لطمة فرس، والأوس
والخزرج في نسعة! أفتحمل لعلى عليه السلام ما أتاه إليك!
فقال مروان: والله لو أردت ذلك لما قدرت عليه.
* * *
وأعلم أن الذي عليه أكثر أرباب السيرة وعلماء الاخبار والنقل، أن عثمان نفى
255

أبا ذر أولا إلى الشام، ثم استقدمه إلى المدينة لما شكا منه معاوية، ثم نفاه من المدينة إلى
الربذة لما عمل بالمدينة نظير ما كان يعمل بالشام.
أصل هذه الواقعة، أن عثمان لما أعطى مروان بن الحكم وغيره بيوت الأموال،
واختص زيد بن ثابت بشئ منها، جعل أبو ذر يقول بين الناس وفي الطرقات
والشوارع: بشر الكافرين بعذاب أليم، ويرفع بذلك صوته ويتلو قوله تعالى: (والذين
يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم)،
فرفع ذلك إلى عثمان مرارا وهو ساكت.
ثم إنه أرسل إليه مولى من مواليه: أن انته عما بلغني عنك، فقال أبو ذر: أو ينهاني
عثمان عن قراءة كتاب الله تعالى، وعيب من ترك أمر الله تعالى فوالله لان أرضى الله بسخط عثمان أحب إلى وخير لي من أن أسخط الله برضا عثمان.
فأغضب عثمان ذلك وأحفظه، فتصابر وتماسك، إلى أن قال عثمان يوما، والناس
حوله: أيجوز للامام أن يأخذ من المال شيئا قرضا، فإذا أيسر قضى؟ فقال كعب الأحبار:
لا بأس بذلك فقال أبو ذر: يا بن اليهوديين، أتعلمنا ديننا!
فقال عثمان: قد كثر أذاك لي وتولعك بأصحابي، الحق بالشام. فأخرجه إليها.
فكان أبو ذر ينكر على معاوية أشياء يفعلها، فبعث إليه معاوية يوما ثلاثمائة دينار،
فقال أبو ذر لرسوله: إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا أقبلها، وإن كانت صلة فلا حاجة لي فيها، وردها عليه.
ثم بنى معاوية الخضراء بدمشق، فقال أبو ذر: يا معاوية، إن كانت هذه من مال الله
فهي الخيانة، وإن كانت من مالك فهي الاسراف. وكان أبو ذر يقول بالشام والله
لقد حدثت أعمال ما أعرفها، والله ما هي في كتاب الله ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم،
256

والله إني لأرى حقا يطفأ وباطلا يحيا، وصادقا مكذبا، وأثره بغير تقى، وصالحا
مستأثرا عليه.
قال حبيب بن مسلمة الفهري لمعاوية: إن أبا ذر لمفسد عليكم الشام، فتدارك أهله
إن كان لك فيه حاجة.
* * *
وروى شيخنا أبو عثمان الجاحظ في كتاب " السفيانية " عن جلام بن جندل الغفاري،
قال: كنت غلاما لمعاوية على قنسرين والعواصم، في خلافة عثمان، فجئت إليه يوما أسأله عن حال عملي، إذ سمعت صارخا على باب داره يقول: أتتكم القطار بحمل النار
اللهم العن الامرين بالمعروف، التاركين له. اللهم العن الناهين عن المنكر المرتكبين له. فازبأر
معاوية وتغير لونه وقال: يا جلام أتعرف الصارخ؟ فقلت: اللهم لا. قال: من عذيري من
جندب بن جنادة! يأتينا كل يوم فيصرخ على باب قصرنا بما سمعت! ثم قال: أدخلوه
على، فجئ بأبي ذر بين قوم يقودونه، حتى وقف بين يديه، فقال له معاوية: يا عدو الله
وعدو رسوله! تأتينا في كل يوم فتصنع ما تصنع! أما إني لو كنت قاتل رجل من أصحاب
محمد من غير إذن أمير المؤمنين عثمان لقتلتك، ولكني أستأذن فيك.
قال جلام: وكنت أحب أن أرى أبا ذر، لأنه رجل من قومي، فالتفت إليه فإذا
رجل أسمر ضرب (1) من الرجال، خفيف العارضين، في ظهره جنأ (2)، فأقبل على معاوية
وقال: ما أنا بعدو لله ولا لرسوله، بل أنت وأبوك عدوان لله ولرسوله، أظهرتما الاسلام
وأبطنتما الكفر، ولقد لعنك رسول الله صلى الله عليه، ودعا عليك مرات ألا تشبع.
سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله، يقول: " إذا ولى الأمة الأعين الواسع البلعوم،
الذي يأكل ولا يشبع، فلتأخذ الأمة حذرها منه ". فقال معاوية: ما أنا ذاك

(1) الضرب: الخفيف اللحم.
(2) يقال جنئ، جنأ إذا أشرف كاهله على ظهره حدبا.
257

قال أبو ذر: بل أنت ذلك الرجل، أخبرني بذلك رسول الله صلى الله عليه، وسمعته
يقول وقد مررت به " اللهم العنه ولا تشبعه إلا بالتراب "، وسمعته صلى الله عليه
يقول: " است معاوية في النار ". فضحك معاوية وأمر بحبسه وكتب إلى عثمان فيه.
فكتب عثمان إلى معاوية: أن احمل جندبا إلى علي أغلظ مركب وأوعره. فوجه به
مع من سار به الليل والنهار، وحمله على شارف (1) ليس عليها إلا قتب، حتى قدم به المدينة،
وقد سقط لحم فخذيه من الجهد.
فلما قدم بعث إليه عثمان: الحق بأي أرض شئت قال بمكة؟ قال: لا، قال:
بيت المقدس؟ قال: لا، قال: بأحد المصرين؟ قال: لا، ولكني مسيرك إلى ربذة،
فسيرة إليها فلم يزل بها حتى مات.
وفى رواية الواقدي، أن أبا ذر لما دخل على عثمان، قال له:
لا أنعم الله بقين عينا * نعم ولا لقاه يوما زينا
* تحية السخط إذا التقينا *
فقال أبو ذر: ما عرفت اسمي " قينا " قط. وفى رواية أخرى: لا أنعم الله بك عينا
يا جنيدب! فقال أبو ذر: أنا جندب، وسماني رسول الله صلى الله عليه " عبد الله "،
فاخترت اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي سماني به على اسمي. فقال له عثمان: أنت الذي
تزعم أنا نقول: يد الله مغلولة، وإن الله فقير ونحن أغنياء! فقال أبو ذر: لو كنتم لا تقولون
هذا لأنفقتم مال الله على عباده، ولكني أشهد أنى سمعت رسول الله صلى الله عليه، يقول:
" إذا بلغ بنو أبى العاص ثلاثين رجلا، جعلوا مال الله دولا، وعباده خولا، ودينه دخلا ".
فقال عثمان لمن حضر: أسمعتموها من رسول الله؟ قالوا: لا، قال عثمان: ويلك يا أبا ذر!
أتكذب على رسول الله! فقال أبو ذر لمن حضر: أما تدرون أنى صدقت! قالوا لا والله

(1) الشارف: الناقة المسنة.
258

ما ندري، فقال عثمان: ادعوا لي عليا، فلما جاء قال عثمان لأبي ذر: أقصص عليه حديثك
في بنى أبى العاص، فأعاده، فقال عثمان لعلى عليه السلام: أسمعت هذا من رسول الله صلى
الله عليه! قال: لا، وقد صدق أبو ذر. فقال كيف عرفت صدقه؟ قال: لأني
سمعت رسول الله صلى الله عليه يقول: " ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء من
ذي لهجة أصدق من أبي ذر ".
فقال من حضر: أما هذا فسمعناه كلنا من رسول الله
فقال أبو ذر: أحدثكم أنى سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فتتهمونني!
ما كنت أظن أنى أعيش حتى أسمع هذا من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم!
وروى الواقدي في خبر آخر بإسناده عن صهبان مولى، الأسلميين، قال: رأيت
أبا ذر يوم دخل به على عثمان، فقال له: أنت الذي فعلت وفعلت! فقال أبو ذر:
نصحتك فاستغششتني، ونصحت صاحبك فاستغشني! قال عثمان: كذبت، ولكنك
تريد الفتنة وتحبها، قد أنغلت (1) الشام علينا، فقال له أبو ذر: اتبع سنة صاحبيك لا يكن
لأحد عليك كلام. فقال عثمان: مالك وذلك لا أم لك! قال أبو ذر: والله ما وجدت لي
عذرا إلا الامر بالمعروف والنهى عن المنكر. فغضب عثمان، وقال: أشيروا على في هذا
الشيخ الكذاب، أما أن أضربه، أو أحبسه، أو أقتله. فإنه قد فرق جماعة المسلمين،
أو أنفيه من أرض الاسلام. فتكلم علي عليه السلام - وكان حاضرا - فقال: أشير عليك
بما قال مؤمن آل فرعون: (فإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم
بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدى من هو مسرف كذاب (2))، فأجابه عثمان بجواب
غليظ، وأجابه علي عليه السلام بمثله، ولم نذكر الجوابين تذمما منهما.
قال الواقدي: ثم إن عثمان حظر على الناس أن يقاعدوا أبا ذر، أو ويكلموه. فمكث

(1) النغل: الافساد بين القوم.
(2) سورة غافر 28
259

كذلك أياما، ثم أتى به فوقف بين يديه، فقال أبو ذر: ويحك يا عثمان! أما رأيت
رسول الله صلى الله عليه، ورأيت أبا بكر وعمر! هل هديك كهديهم! أما إنك
لتبطش بي بطش جبار. فقال عثمان: أخرج عنا من بلادنا، فقال أبو ذر، ما أبغض إلى
جوارك!
فإلى أين أخرج؟
قال: حيث شئت قال: أخرج إلى الشام أرض الجهاد؟
قال: إنما جلبتك من الشام لما قد أفسدتها، أفأردك إليها! قال: أفأخرج إلى العراق؟
قال: لا، إنك إن تخرج إليها تقدم على قوم أولى شبه وطعن على الأئمة والولاة، قال:
أفأخرج إلى مصر؟ قال لا، قال: فإلى أين أخرج؟ قال: إلى البادية قال أبو ذر:
أصير بعد الهجرة أعرابيا! قال: نعم، قال أبو ذر: فأخرج إلى بادية نجد؟ قال عثمان: بل
إلى الشرق الأبعد، أقصى فأقصى، أمض على وجهك هذا فلا تعدون الربذة.
فخرج إليها.
* * *
وروى الواقدي أيضا عن مالك بن أبي الرجال، عن موسى بن ميسرة، أن أبا الأسود
الدؤلي، قال: كنت أحب لقاء أبي ذر لأسأله عن سبب خروجه إلى الربذة، فجئته
فقلت له: ألا تخبرني، أخرجت من المدينة طائعا، أم أخرجت كرها؟ فقال: كنت في
ثغر من ثغور المسلمين أغنى عنهم، فأخرجت إلى المدينة، فقلت: دار هجرتي وأصحابي،
فأخرجت من المدينة إلى ما ترى. ثم قال: بينا أنا ذات ليلة نائم في المسجد على عهد
رسول الله صلى الله عليه، إذ مر بي عليه السلام فضربني برجله: وقال: لا أراك
نائما في المسجد، فقلت: بأبي أنت وأمي! غلبتني عيني، فنمت فيه. قال: فكيف
تصنع إذا أخرجوك منه؟ قلت: إذا ألحق بالشام، فإنها أرض مقدسة، وأرض الجهاد.
قال: فكيف تصنع إذا أخرجت منها؟ قلت: أرجع إلى المسجد، قال: فكيف تصنع
260

إذا أخرجوك منه؟ قلت: آخذ سيفي فأضربهم به. فقال: ألا أدلك على خير من ذلك؟
انسق معهم حيث ساقوك، وتسمع وتطيع. فسمعت وأطعت وأنا أسمع وأطيع، والله
ليلقين الله عثمان وهو آثم في جنبي.
* * *
واعلم أن أصحابنا رحمهم الله قد رووا أخبارا كثيرة معناها أنه أخرج إلى
الربذة باختياره.
وحكى قاضى القضاة رحمه الله في " المغني " عن شيخنا أبى على رحمه الله، أن الناس
اختلفوا في أمر أبي ذر، وأن الرواية وردت بأنه قيل له: أعثمان أنزلك الربذة؟ فقال:
لا بل أنا اخترت لنفسي ذلك.
وروى أبو علي أيضا أن معاوية كتب يشكوه وهو بالشام، فكتب إليه عثمان: أن صر إلى المدينة. فلما صار
إليها، قال له: ما أخرجك إلى الشام؟ قال: إني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: " إذا بلغت عمارة المدينة موضع كذا فأخرج منها "،
فلذلك خرجت. فقال: أي البلاد أحب إليك بعد الشام؟ قال الربذة، فقال: صر إليها.
وروى الشيخ أبو علي أيضا عن زيد بن وهب، قال: قلت لأبي ذر وهو بالربذة:
ما أنزلك هذا المنزل؟ قال: أخبرك أنى كنت بالشام، فذكرت قوله تعالى: (والذين
يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها) (1). فقال لي معاوية: هذه نزلت في أهل الكتاب،
فقلت: فيهم وفينا. فكتب معاوية إلى عثمان في ذلك، فكتب إلى: أن أقدم، فقدمت
عليه، فانثال الناس إلى كأنهم لم يعرفوني، فشكوت ذلك إلى عثمان، فخيرني وقال:
انزل حيث شئت، فنزلت الربذة.
ونحن نقول: هذه الأخبار وإن كانت قد رويت، لكنها ليست في الاشتهار

(1) سورة التوبة 34.
261

والكثرة كتلك الاخبار، والوجه أن يقال في الاعتذار عن عثمان وحسن الظن بفعله: إنه
خاف الفتنة واختلاف كلمة المسلمين، فغلب على ظنه أن إخراج أبي ذر إلى الربذة أحسم
للشغب، وأقطع لأطماع من يشرئب إلى شق العصا، فأخرجه مراعاة للمصلحة، ومثل
ذلك يجوز للامام. هكذا يقول أصحابنا المعتزلة، وهو الأليق بمكارم الأخلاق، فقد
قال الشاعر:
إذا ما أتت من صاحب لك زلة * فكن أنت محتالا لزلته عذرا
وإنما يتأول أصابنا لمن يحتمل حاله التأويل كعثمان، فأما من لم يحتمل حاله التأويل،
وإن كانت له صحبة سالفا كمعاوية وأضرابه، فإنهم لا يتأولون لهم إذا كانت أفعالهم وأحوالهم
لا وجه لتأويلها، ولا تقبل العلاج والاصلاح.
262

(131)
الأصل:
ومن كلام له عليه السلام:
أيتها النفوس المختلفة، والقلوب المتشتتة، الشاهدة أبدانهم، والغائبة عنهم
عقولهم، أظأركم على الحق وأنتم تنفرون عنه نفور المعزى من وعوعة الأسد!
هيهات أن أطلع بكم سرار العدل، أو أقيم اعوجاج الحق.
اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا التماس
شئ من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الاصلاح في بلادك،
فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطلة من حدودك.
اللهم إني أول من أناب، وسمع وأجاب، لم يسبقني إلا رسول الله صلى الله
عليه وسلم بالصلاة، وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء
والمغانم والاحكام وإمامة المسلمين البخيل، فتكون في أموالهم نهمته.
ولا الجاهل فيضلهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول فيتخذ
قوما دون، قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق، ويقف بها دون المقاطع،
ولا المعطل للسنة، فيهلك الأمة.
* * *
الشرح:
أظأركم: أعطفكم، ظأرت الناقة ظأرا، وهي ناقة مظؤورة إذا عطفتها على ولد غيرها،
263

وفى المثل: " الطعن يظأر " أي يعطف على الصلح (1)، وظأرت الناقة أيضا إذا عطفت
على البو، يتعدى ولا يتعدى، فهي ظؤور.
والوعوعة: الصوت، والوعواع مثله.
وقوله: " هيهات أن أطلع بكم سرار العدل "، يفسره الناس بمعنى هيهات أن أطلعكم
مضيئين ومنورين لسرار العدل. والسرار: آخر ليلة في الشهر، وتكون مظلمة ويمكن
عندي أن يفسر على وجه آخر، وهو أن يكون السرار هاهنا بمعنى السرور، وهي خطوط
مضيئة في الجبهة، وقد نص أهل اللغة على أنه يجوز سرر وسرار، وقالوا: ويجمع سرار
على أسرة، مثل حمار وأحمرة، قال عنترة:
بزجاجة صفراء ذات أسرة * قرنت بأزهر في الشمال مفدم (2)
يصف الكأس، ويقول: إن فيها خطوطا بيضا، وهي زجاج أصفر. ويقولون:
برقت أسرة وجهه وأسارير وجهه، فيكون معنى كلامه عليه السلام: هيهات أن تلمع
بكم لوامع العدل، وتنجلي أوضاحه، ويبرق وجهه. ويمكن فيه أيضا وجه آخر وهو أن
ينصب " سرار " هاهنا على الظرفية، ويكون التقدير: هيهات أن أطلع بكم الحق زمان
استسرار العدل واستخفائه، فيكون قد حذف المفعول، وحذفه كثير.
ثم ذكر أن الحروب التي كانت منه لم تكن طلبا للملك، ولا منافسة على الدنيا،
ولكن لتقام حدود الله على وجهها، ويجرى أمر الشريعة والرعية على ما كان يجرى
عليه أيام النبوة.
ثم ذكر أنه سبق المسلمين كلهم إلى التوحيد والمعرفة، ولم يسبقه بالصلاة أحد
إلا رسول الله صلى الله عليه وآله، وهكذا روى جمهور المحدثين، وقد تقدم
ذكر ذلك.

(1) في اللسان: " الطعن يظأر، أي يعطف على الصلح، تقول: إذا خافك أن تطعنه فتقتله: عطفه
ذلك عليك، فجاد. بماله للخوف ".
(2) من المعلقة - بشرح التبريزي 191. وذات أسرة، ذات طرائق وخطوط.
264

فإن قلت: أي: وجه لادخال هذا الكلام في غضون مقصده في هذه الخطبة، فإنها
مبنية على ذم أصحابه، وتقرير قاعدة الإمامة، وأنه لا يجوز أن يليها الفاسق، وأنه
لابد للامام من صفات مخصوصة، عددها عليه السلام، وكل هذا لا تعلق لسبقه
إلى الاسلام!
قلت: بل الكلام متعلق بعضه ببعض من وجهين: أحدهما أنه لما قال: اللهم
إنك تعلم أنى ما سللت السيف طلبا للملك، أراد أن يؤكد هذا القول في نفوس السامعين،
فقال: أنا أول من أسلم، ولم يكن الاسلام حينئذ معروفا أصلا ومن يكون إسلامه هكذا
لا يكون قد قصد بإسلامه إلا وجه الله تعالى والقربة إليه، فمن تكون هذه حاله في مبدأ
أمره، كيف يخطر ببال عاقل أنه يطلب الدنيا وحطامها، ويجرد عليها السيف في آخر
عمره، ووقت انقضاء مده عمره!
والوجه الثاني أنه إذا كان أول السابقين، وجب أن يكون أقرب المقربين، لأنه
تعالى قال: (والسابقون السابقون أولئك المقربون) (1)، ألا ترى أنه إذا قال الملك:
" العالمون العاملون هم المختصون بنا "، وجب أن يكون أعلمهم أشدهم به اختصاصا، وإذا
كان عليه السلام أقرب المقربين، وجب أن تنتفى عنه الموانع الستة، التي جعل كل
واحد منها صادا عن الإمامة، وقاطعا عن استحقاقها، وهي البخل والجهل والجفاء، أي
الغلظة والعصبية في دولته، أي تقديم قوم على قوم، والارتشاء في الحكم والتعطيل للسنة،
وإذا انتفت عنه هذه الموانع الستة تعين أن يكون هو الامام لان شروط الإمامة موجودة
فيه بالاتفاق، فإذا كانت موانعها عنه منتفية ولم يحصل لغيره اجتماع الشروط، وارتفاع
الموانع، وجب أن يكون هو الامام، لأنه لا يجوز خلو العصر من إمام سواء كانت هذه
القضية عقلية أو سمعية.

(1) سورة الواقعة 10.
265

فإن قلت: أفتراه عنى بهذا قوما بأعيانهم؟
قلت: الامامية تزعم أنه رمز في الجفاء والعصبية لقوم دون قوم إلى عمر، ورمز بالجهل
إلى من كان قبله، ورمز بتعطيل السنة إلى عثمان ومعاوية، وأما نحن فنقول: إنه عليه
السلام لم يعن ذلك، وإنما قال قولا كليا غير مخصوص، وهذا هو اللائق بشرفه عليه
السلام، وقول الامامية دعوى لا دليل عليها، ولا يعدم كل أحد أن يستنبط من
كل كلام ما يوافق غرضه، وإن غمض، ولا يجوز أن تبنى العقائد على مثل هذه
الاستنباطات الدقيقة.
والنهمة: الهمة الشديدة بالامر، قد نهم بكذا بالضم، فهو منهوم أي مولع به
حريص عليه، يقول: إذا كان الامام بخيلا كان حرصه وجشعه على أموال رعيته،
ومن رواها " نهمته "، بالتحريك فهي إفراط الشهوة في الطعام، والماضي نهم، بالكسر.
قوله عليه السلام: " فيقطعهم بجفائه " أي يقطعهم عن حاجاتهم لغلظته عليهم،
لان الوالي إذا كان غليظا جافيا أتعب الرعية وقطعهم عن مراجعته في حاجاتهم خوفا
من بادرته، ومعرته.
قوله، " ولا الحائف للدول "، أي الظالم لها والجائر عليها. والدول جمع دولة بالضم
وهي اسم المال المتداول به، يقال: هذا الفئ دولة بينهم، أي يتداولونه، والمعنى أنه يجب
أن يكون الامام يقسم بالسوية، ولا يخص قوما دون قوم على وجه العصبية لقبيلة دون قبيلة، أو لانسان من المسلمين دون غيره، فيتخذ بذلك بطانة.
قوله: " فيقف بها دون المقاطع "، المقاطع: جمع مقطع، وهو ما ينتهى الحق إليه،
أي لا تصل الحقوق إلى أربابها لأجل ما اخذ من الرشوة عليها.
266

فإن قلت: فما باله قال في المانع السادس: " فيهلك الأمة " وكل واحد من الموانع قبله
يفضي إلى هلاك الأمة!؟
قلت: كل واحد من الموانع الخمسة يفضي إلى هلاك بعض الأمة، وأما من يعطل
السنة أصلا، فإنه لا محالة مهلك للأمة كلها، لأنه إذا عطل السنة مطلقا، عادت الجاهلية
الجهلاء كما كانت.
وقد روى: " ولا الخائف الدول " بالخاء المعجمة. ونصب " الدول " أي من
يخاف دول الأيام وتقلبات الدهر فيتخذ قوما دون قوم ظهريا، وهذا معنى لا بأس به.
267

(132)
الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام:
نحمده على ما أخذ وأعطى، وعلى ما أبلى وابتلى، الباطن لكل خفية والحاضر
لكل سريرة العالم بما تكن الصدور، وما تخون العيون. ونشهد أن لا إله
غيره، وأن محمدا صلى الله عليه نجيبه وبعيثه، شهادة يوافق فيها السر الاعلان،
والقلب اللسان.
* * *
الشرح:
على ما أبلى، أي ما أعطى، يقال قد أبلاه الله بلاء حسنا، أي أعطاه، قال زهير:
جزى الله بالاحسان ما فعلا بكم * وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو (1)
وأما قوله: " وابتلى " فالابتلاء إنزال مضرة بالانسان على سبيل الاختبار، كالمرض
والفقر والمصيبة وقد يكون الابتلاء بمعنى الاختبار في الخير: إلا أنه أكثر ما يستعمل
في الشر.
والباطن: العالم يقال بطنت الامر، أي خبرته. وتكن الصدور: تستر، وما تخون
العيون: ما تسترق من اللحظات والرمزات على غير الوجه الشرعي.
والنجيب: المنتجب. والبعيث: المبعوث.
* * *

(1) ديوانه 109، وروايته: " رأى الله بالاحسان ".
268

الأصل:
منها:
فإنه والله الجد لا اللعب، والحق لا الكذب، وما هو إلا الموت أسمع داعيه،
وأعجل حاديه.
فلا يغرنك سواد الناس من نفسك، وقد رأيت من كان قبلك ممن جمع المال
وحذر الإقلال، وأمن العواقب، طول أمل واستبعاد أجل، كيف نزل به الموت
فأزعجه عن وطنه، وأخذه من مأمنه، محمولا على أعواد المنايا، يتعاطى به الرجال
الرجال، حملا على المناكب، وإمساكا بالأنامل.
أما رأيتم الذين يأملون بعيدا، ويبنون مشيدا، ويجمعون كثيرا! كيف
أصبحت بيوتهم قبورا، وما جمعوا بورا، وصارت أموالهم للوارثين، وأزواجهم
لقوم آخرين، لا في حسنة يزيدون، ولا من سيئة يستعتبون.
فمن أشعر التقوى قلبه، برز مهله وفاز عمله، فاهتبلوا هبلها، واعملوا للجنة
عملها، فإن الدنيا لم تخلق لكم دار مقام، بل خلقت لكم مجازا، لتزودوا منها
الأعمال إلى دار القرار.
فكونوا منها على أوفاز، وقربوا الظهور للزيال.
* * *
الشرح:
قوله عليه السلام: " فإنه والله الجد "، الضمير للامر والشأن الذي خاض معهم في ذكره
ووعظهم بنزوله. ثم أوضحه بعد إجماله، فقال: إنه الموت الذي دعا فأسمع،
وحدا فأعجل.
269

وسواد الناس: عامتهم.
ومن هاهنا، إما بمعنى الباء، أي لا يغرنك الناس بنفسك وصحتك وشبابك، فتستبعد
الموت اغترارا بذلك، فتكون متعلقة بالظاهر، وإما أن تكون متعلقة بمحذوف، تقديره:
متمكنا من نفسك وراكنا إليها.
والإقلال: الفقر. وطول الامل منصوب على أنه مفعول له.
فإن قلت: المفعول له ينبغي أن يكون الفعل علة في المصدر وهاهنا ليس الامن علة طول
الامل، بل طول الامل علة الامن؟ قلت: كما يجوز أن يكون طول الامل علة الامن: يجوز أن يكون الامن علة طول
الامل، ألا ترى أن الانسان قد يأمن المصائب فيطول أمله في البقاء ووجوه المكاسب، لأجل
ما عنده من الامن. ويجوز أن ينصب " طول الامل " على البدل من المفعول المنصوب
ب‍ " رأيت ". وهو " من "، ويكون التقدير: قد رأيت طول أمل من كان. وهذا بدل
الاشتمال، وقد حذف منه الضمير العائد كما حذف من قوله تعالى: (قتل أصحاب
الأخدود النار).
وأعواد المنايا: النعش. ويتعاطى به الرجال الرجال: يتداولونه، تارة على
أكتاف هؤلاء وتارة على أكتاف هؤلاء، وقد فسر ذلك بقوله: " حملا على المناكب،
وإمساكا بالأنامل ".
والمشيد المبنى بالشيد، وهو الجص.
والبور: الفاسد الهالك، وقوم بور، أي هلكى، قال سبحانه: (وكنتم قوما
بورا) (1)، وهو جمع، واحده بائر كحائل وحول.

(1) سورة الفتح - 11.
270

ويستعتبون هاهنا يفسر بتفسيرين، على اختلاف الروايتين: فمن رواه بالضم على فعل
ما لم يسم فاعله، فمعناه لا يعاتبون على فعل سيئة صدرت منهم أيام حياتهم، أي لا يعاتبهم
الناس أو لا يستطيعون وهم موتى أن يسيئوا إلى أحد إساءة يعاتبون عليها، ومن رواه
" يستعتبون " بفتح حرف المضارعة، فهو من استعتب فلان، أي طلب أن يعتب، أي يرضى
تقول: استعتبته فأعتبني، أي استرضيته فأرضاني.
وأشعر فلان التقوى قلبه: جعله كالشعار له، أي يلازمه ملازمة شعار الجسد.
وبرز مهله، ويروى بالرفع وبالنصب، فمن رواه بالرفع جعله فاعل " برز "، أي من فاق
شوطه، برز الرجل على أقرانه أي فاقهم، والمهل شوط الفرس، ومن رواه بالنصب جعل
" برز " بمعنى أبرز، أي أظهر وأبان، فنصب حينئذ على المفعولية.
واهتبلت غرة زيد، أي اغتنمتها، والهبال: الصياد الذي يهتبل الصيد أن يغره
وذئب هبل أي محتال، و " هبلها " منصوب على المصدر كأنه من هبل مثل غضب غضبا،
أي اغتنموا.
وانتهزوا الفرصة، الانتهاز الذي يصلح لهذه الحال، أي ليكن هذا الاهتبال بجد
وهمة عظيمة، فإن هذه الحال حال عظيمة لا يليق بها إلا الاجتهاد العظيم.
وكذا قوله: " واعملوا للجنة عملها "، أي العمل الذي يصلح أن يكون
ثمرته الجنة. ودار مقام، أي دار إقامة. والمجاز الطريق يجاز عليه إلى المقصد.
والأوفاز: جمع وفز بسكون الفاء، وهو العجلة، والظهور الركاب جمع ظهر،
وبنو فلان مظهرون: أي لهم ظهور ينقلون عليها الأثقال، كما يقال منجبون، إذا كانوا أصحاب
نجائب. والزيال: المفارقة زايله مزايلة، وزيالا، أي فارقه.
271

(133)
الأصل:
ومن كلام له عليه السلام:
وانقادت له الدنيا والآخرة بأزمتها، وقذفت إليه السماوات والأرضون
مقاليدها، وسجدت له بالغدو والآصال الأشجار الناضرة، وقدحت له من قضبانها
النيران المضيئة، وآتت أكلها بكلماته الثمار اليانعة.
* * *
الشرح:
الضمير في " له " يرجع إلى الله تعالى، وقد كان تقدم ذكر سبحانه في أول الخطبة،
وإن لم يذكره الرضى رحمه الله، ومعنى انقياد الدنيا والآخرة له نفوذ حكمه فيهما، وشياع
قدرته وعمومها.
وأزمتها: لفظة مستعارة من انقياد الإبل بأزمتها مع قائدها. والمقاليد المفاتيح.
ومعنى سجود الأشجار الناضرة له تصرفها حسب إرادته، وكونها مسخرة له محكوما
عليها بنفوذ قدرته فيها: فجعل عليه السلام ذلك خضوعا منها لمشيئته، واستعار لها ما هو أدل
على خضوع الانسان من جمع أفعاله، وهو السجود ومنه قوله تعالى: (ألم تر أن الله
يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر
والدواب وكثير من الناس) (1).

(1) سورة الحج 18.
272

قوله: وقدحت له من قضبانها " بالضم: جمع قضيب، وهو الغصن، والمعنى أنه بقدرته أخرج من الشجر الأخضر نارا، والنار ضد هذا الجسم المخصوص، وهذا هو قوله تعالى:
(الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون) (1) بعينه.
وآتت أكلها: أعطت ما يؤكل منها، وهو أيضا من الألفاظ القرآنية (2).
واليانعة: الناضجة. وبكلماته، أي بقدرته ومشيئته، وهذه اللفظة من الألفاظ المنقولة على
أحد الأقسام الأربعة المذكورة في كتبنا في أصول الفقه، وهو استعمال لفظة متعارفة في
اللغة العربية في معنى لم يستعملها أهل اللغة فيه، كنقل لفظه " الصلاة " الذي هو في أصل
اللغة للدعاء إلى هيئات وأوضاع مخصوصة، ولم تستعمل العرب تلك اللفظة فيها. ولا يصح
قول من قال: المراد بذلك قوله: " كن "، لأنه تعالى لا يجوز أن يخاطب المعدوم وقوله
تعالى: (إنما أمرنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) (3) من باب
التوسع والاستعارة المملوء منهما القرآن، والمراد سرعة المؤاتاة، وعجلة الايجاد، وأنه إذا أراد من أفعاله أمرا كان.
* * *
الأصل
منها:
وكتاب الله بين أظهركم ناطق لا يعيا لسانه، وبيت لا تهدم أركانه، وعز
لا تهزم أعوانه.

(1) سورة يس 80.
(2) وهو قوله تعالى في سورة البقرة 265: (كمثل جنة بربوة أصابها وابل فلت
أكلها ضعفين).
(3) سورة النحل 40.
273

الشرح:
يقال هو نازل بين أظهرهم وبين ظهريهم، وبين ظهرانيهم، بفتح النون، أي
نازل بينهم.
فإن قلت لماذا قالت العرب " بين أظهرهم "، ولم تقل: " بين صدورهم "؟
قلت: أرادت بذلك الاشعار بشدة المحاماة عنه، والمراماة من دونه لان النزيل إذا
حامى القوم عنه استقبلوا شبا الأسنة، وأطراف السيوف عنه بصدورهم، وكان هو محروسا
مصونا عن مباشرة ذلك وراء ظهورهم.
ولا يعيا لسانه: لا يكل، عييت بالمنطق، فأنا عيي، على " فعيل "، ويجوز، عي
الرجل في منطقه، بالتشديد، فهو " عي " على " فعل ".
* * *
الأصل:
منها:
أرسله على حين فترة من الرسل، وتنازع من الألسن، فقفي به الرسل، وختم به
الوحي، فجاهد في الله المدبرين عنه، والعادلين به.
* * *
الشرح:
الضمير في " أرسله "، راجع إلى النبي صلى الله عليه وآله، وهو مذكور في كلام
لم يحكه جامع الكتاب.
والفترة زمان انقطاع الوحي، والتنازع من الألسن، أن قوما في الجاهلية كانوا يعبدون
274

الصنم، وقوما يعبدون الشمس وقوما يعبدون الشيطان، وقوما يعبدون المسيح، فكل
طائفة تجادل مخالفيها بألسنتها لتقودها إلى معتقدها.
وقفى به الرسل، أتبعها به، قال سبحانه: (ثم قفينا على آثارهم برسلنا) (1)، ومنه الكلام المقفى وسميت قوافي الشعر، لان بعضها يتبع بعضا.
والعادلين به: الجاعلين له عديلا، أي مثلا، وهو من الألفاظ القرآنية أيضا، قال الله
تعالى: (بربهم يعدلون) (2)
* * *
الأصل:
منها:
وإنما الدنيا منتهى بصر الأعمى، لا يبصر مما وراءها شيئا، والبصير ينفذها
بصرة، ويعلم أن الدار وراءها، فالبصير منها شاخص، والأعمى إليها شاخص،
والبصير منها متزود، والأعمى لها متزود.
* * *
الشرح:
شبه الدنيا وما بعدها بما يتصوره الأعمى، من الظلمة التي يتخيلها، وكأنها محسوسة له،
وليست بمحسوسة على الحقيقة، وإنما هي عدم الضوء، كمن يطلع في جب ضيق، فيتخيل
ظلاما، فإنه لم ير شيئا، ولكن لما عدم الضوء فلم ينفذ البصر تخيل أنه يرى الظلمة، فإما
من يرى المبصرات في الضياء، فإن بصره ينفذ فيشاهد المحسوسات يقينا، وهذه حال

(1) المائدة 46.
(2) سورة الأنعام 1.
275

الدنيا والآخرة، أهل الدنيا منتهى بصرهم دنياهم، ويظنون أنهم يبصرون شيئا وليسوا
بمبصرين على الحقيقة، ولا حواسهم نافذة في شئ وأهل الآخرة قد نفذت أبصارهم، فرأوا الآخرة، ولم يقف إحساسهم على الدنيا خاصة، فأولئك هم أصحاب الابصار على الحقيقة،
وهذا معنى شريف من معاني أصحاب الطريقة والحقيقة، وإليه الإشارة بقوله سبحانه:
(أم لهم أعين يبصرون بها) (1) فأما قوله: " فالبصير منها شاخص، والأعمى إليها
شاخص "، فمن مستحسن التجنيس، وهذا هو الذي يسميه أرباب الصناعة الجناس التام،
فالشاخص الأول الراحل، والشاخص الثاني، من شخص بصره، بالفتح، إذا فتح عينه
نحو الشئ مقابلا له، وجعل لا يطرف.
[فصل في الجناس وأنواعه]
واعلم أن الجناس على سبعة أضرب (2):
أولها: الجناس التام كهذا اللفظ، وحده أن تتساوى حروف ألفاظ الكلمتين في
تركيبها وفى وزنها، قالوا: ولم يرد في القرآن العزيز منه إلا موضع واحد، وهو قوله:
(ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة) (3).
وعندي أن هذا ليس بتجنيس أصلا، وقد ذكرته في كتابي المسمى " بالفلك الدائر
على المثل السائر " وقلت: إن الساعة في الموضعين بمعنى واحد، والتجنيس أن يتفق
اللفظ ويختلف المعنى، ولا يكون أحدهما حقيقة والاخر مجازا، بل يكونان حقيقتين، وإن

(1) سورة الأعراف 195.
(2) هذا التقسيم، مع معظم الشواهد أورده ابن الأثير في المثل السائر 1: 246 وما بعدها.
(3) سورة الروم 55.
276

زمان القيامة وإن طال، لكنه عند الله في حكم الساعة الواحدة، لان قدرته لا يعجزها
أمر، ولا يطول عندها زمان، فيكون إطلاق لفظ " الساعة " على أحد الموضعين حقيقة
وعلى الاخر مجازا، وذلك يخرج الكلام عن حد التجنيس، كما لو قلت: ركبت حمارا،
ولقيت حمارا، وأردت بالثاني البليد.
وأيضا فلم لا يجوز أن يكون أراد بقوله: (ويوم تقوم الساعة) الأولى خاصة من زمان
البعث، فيكون لفظ " الساعة " مستعملا في الموضعين حقيقة بمعنى واحد، فيخرج عن
التجنيس، وعن مشابهة التجنيس بالكلية.
قالوا: وورد في السنة من التجنيس التام خبر واحد، وهو قوله صلى الله عليه وآله
لقوم من الصحابة، كانوا يتنازعون جرير بن عبد الله البجلي في زمام ناقته: " خلوا بين
جرير والجرير "، فالجرير الثاني الحبل.
وجاء من ذلك في الشعر لأبي تمام قوله:
فأصبحت غرر الاسلام مشرقة * بالنصر تضحك عن أيامك الغرر (1)
فالغرر الأولى مستعارة من غرة الوجه، والغرر الثانية من غرة الشئ، وهي أكرمه.
وكذلك قوله:
من القوم جعد أبيض الوجه والندى * وليس بنان يجتدي منه بالجعد (2)
فالجعد الأول السيد، والثاني ضد السبط وهو من صفات البخيل.
وكذلك قوله:
بكل فتى ضرب يعرض للقنا * محيا محلى حليه الطعن والضرب (3)

(1) المثل السائر 1: 247، وليس في ديوانه.
(2) ديوانه 2: 121.
(3) ديوانه 1: 199.
277

فالضرب الأول الرجل الخفيف، والثاني مصدر " ضرب ".
وكذلك قوله:
عداك حر الثغور المستضامة عن * برد الثغور وعن سلسالها الحصب (1)
فأحدهما جمع " ثغر " وهو ما يتاخم العدو من بلاد الحرب، والثاني للأسنان.
ومن هذه القصيدة
كم أحرزت قضب الهندي مصلته * تهتز من قضب تهتز في كثب
بيض إذا انتضيت من حجبها رجعت * أحق بالبيض أبدانا من الحجب (2).
وقد أكثر الناس في استحسان هذا التجنيس وأطنبوا، وعندي أنه ليس بتجنيس
أصلا، لان تسمية السيوف " قضبا " وتسمية الأغصان " قضبا " كله بمعنى واحد، وهو
القطع، فلا تجنيس إذا. وكذلك البيض للسيوف، والبيض للنساء، كله بمعنى البياض،
فبطل معنى التجنيس، وأظنني ذكرت هذا أيضا في كتاب " الفلك الدائر " (3).
قالوا: ومن هذا القسم قوله أيضا:
إذا الخيل جابت قسطل الخيل صدعوا * صدور العوالي في صدور الكتائب (4)
وهذا عندي أيضا ليس بتجنيس، لان الصدور في الموضعين بمعنى واحد، وهو جزء
الشئ المتقدم البارز عن سائره، فأما قوله أيضا:
عامي وعام العيس بين وديقة * مسجورة، وتنوفة صيخود (5)

(1) ديوانه 1: 68، 77، 78. والحصب: الذي فيه صغار الحصى.
(2) أبدانا، من صفات نساء الروم، ورواية الديوان: " أحق بالبيض أترابا ".
(3) الفلك الدائر 91.
(4) ديوانه 1: 215، وقال في شرحه: يقول: إذا شقت الخيل غبار الحرب، فإنهم يطعنون
الابطال بالرماح حتى يكسروها في صدورهم.
(5) ديوانه 2: 393، والدبقة: شدة الحر. ومسجورة: مملوءة بالسراب. والتنوفة: القفر من
الأرض. وصيخود: صلبة.
278

حتى أغادر كل يوم بالفلا * للطير عيدا من بنات العيد (1)
فإنه من التجنيس التام، لا شبهة في ذلك لاختلاف المعنى، فالعيد الأول هو اليوم
المعروف من الأعياد، والعيد الثاني فحل من فحول الإبل.
ونحو هذا قول أبى نواس:
عباس عباس إذا احتدم الوغى * والفضل فضل والربيع ربيع (2)
وقول البحتري:
إذا العين راحت وهي عين على الهوى * فليس بسر ما تسر الأضالع (3)
فالعين الثانية الجاسوس، والأولى العين المبصرة. وللغزي المتأخر قصيدة أكثر من
التجنيس التام فيها، أولها:
لو زارنا طيف ذات الخال أحيانا * ونحن في حفر الأجداث أحيانا
وقال في أثنائها:
تقول أنت امرؤ جاف مغالطة * فقلت لا هومت أجفان أجفانا
وقال في مديحها:
لم يبق غيرك إنسان يلاذ به * فلا برحت لعين الدهر إنسانا
وقد ذكر الغانمي في كتابه من صناعة الشعر بابا سماه رد الاعجاز على الصدور، ذكر
أنه خارج عن باب التجنيس، قال مثل قول الشاعر:
ونشري بجميل الصنع * ذكرا طيب النشر
ونفري بسيوف الهند * من أسرف في النفر

(1) العيد هنا: ما يعتاد.
(2) ديوانه 1: 96 والمثل السائر 1: 251.
(3) ديوانه 20: 76.
279

وبحري في شرى الحمد * على شاكلة البحر
وهذا من التجنيس، وليس بخارج عنه ولكنه تجنيس مخصوص، وهو الاتيان به
في طرفي البيت.
وعد ابن الأثير الموصلي في كتابه من التجنيس قول الشاعر في الشيب:
يا بياضا أذرى دموعي حتى * عاد منها سواد عيني بياضا
وكذلك قول البحتري:
وأغر في الزمن البهيم محجل * قد رحت منه على أغر محجل (1)
وهذا عندي ليس بتجنيس، لاتفاق المعنى. والعجب منه أنه بعد إيراده هذا أنكر
على من قال: إن قول أبى تمام:
أظن الدمع في خدي سيبقى * رسوما من بكائي في الرسوم (2)
من التجنيس، وقال: أي تجنيس هاهنا والمعنى متفق! ولو أمعن النظر لرأى هذا
مثل البيتين السابقين.
قالوا: فأما الأجناس الستة الباقية، فإنها خارجة عن التجنيس التام، ومشبهة به.
فمنها أن تكون الحروف متساوية في تركيبها، مختلفة في وزنها، فمن ذلك قول
النبي صلى الله عليه وآله: " اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي "، وقول بعضهم: لن
تنالوا غرر المعالي إلا بركوب الغرر، واهتبال الغرر "، وقول البحتري:
وفر الحائن المغرور يرجو * أمانا، أي ساعة ما أمان (3)

(1) المثل السائر 1: 352، وذكر بعده:
كالهيكل المبنى إلا أنه * في الحسن جاء كصورة في هيكل
ولم أجدها في ديوانه.
(2) ديوانه 3: 160.
(3) ديوانه 2: 279 والحائن: الذي قرب حينه.
280

يهاب الالتفات وقد تصدى للحظة طرفه طرف السنان
وقال آخر:
قد ذبت بين حشاشة وذماء * ما بين حر هوى وحر هواء
ومنها: أن تكون الألفاظ متساوية في الوزن مختلفة في التركيب بحرف واحد،
لا غير فإن زاد على ذلك خرج من باب التجنيس، وذلك نحو قوله تعالى: (وجوه
يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة) (1) وكذلك قوله سبحانه: (وهم ينهون عنه
وينأون عنه) (2) وقوله تعالى: (ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير
الحق وبما كنتم تمرحون) (3) ونحو هذا ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله من
قوله: " الخيل معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة "، وقال بعضهم: " لا تنال المكارم
إلا بالمكاره.
وقال أبو تمام:
يمدون من أيد عواص عواصم * تصول بأسياف قواض قواضب (4)
وقال البحتري:
من كل ساجي الطرف أغيد أجيد * ومهفهف الكشحين أحوى أحور (5)
وقال أيضا:
شواجر أرماح تقطع بينهم * شواجن أرحام ملوم قطوعها.

(1) سورة القيامة 22، 23.
(2) سورة الأنعام 26.
(3) سورة غافر 75.
(4) ديوانه 1: 213.
(5) ديوانه 2: 319.
(6) ديوانه 1: 212.
281

وهذا البيت حسن الصنعة لأنه قد جمع بين التجنيس الناقص وبين المقلوب، وهو
أرماح، وأرحام.
ومنها أن تكون الألفاظ مختلفه في الوزن والتركيب بحرف واحد، كقوله تعالى:
(والتفت الساق بالساق، إلى ربك يومئذ المساق) (1)، وكقوله تعالى: (وهم يحسبون
أنهم يحسنون صنعا) (2)، وكقول النبي صلى الله عليه وآله: " المسلم من سلم الناس من
لسانه ويده ". وقول بعضهم: الصديق لا يحاسب، والعدو لا يحتسب له، هكذا ذكر
ابن الأثير هذه الأمثلة.
قال: ومن هذا القسم قول أبى تمام:
أيام تدمى عينه تلك الدمى * حسنا وتقمر لبه الأقمار (3)
بيض فهن إذا رمقن سوافرا * صور وهن إذا رمقن صوار (4)
وكذلك قوله أيضا:
بدر أطاعت فيك بادرة النوى * ولعا وشمس أولعت بشماس (5)
قوله أيضا:
جهلوا فلم يستكثروا من طاعة * معروفة بعمارة الأعمار (6)
وقوله أيضا:
إن الرماح إذا غرسن بمشهد * فجنى العوالي في ذراه معال (7)

(1) سورة القيامة 29، 30.
(2) سورة الكهف 104.
(3) ديوانه 2: 166، وروايته: " فيها وتقمر ". ويقمرن لبه: يذهبن به.
(4) وهن إذا رمقن صوار، أي تشبه عيون بقر الوحش إذا نظرت.
(5) ديوانه 2: 244.
(6) ديوانه 2: 208، والمثل السائر 1: 258، وذكر قبله:
كادوا النبوة والهدى فتقطعت * أعناقهم في ذلك المضمار
(7) ديوانه 3: 143.
282

وقوله أيضا:
إذا أحسن الأقوام أن يتطاولوا * بلا نعمة أحسنت أن تتطولا (1)
وقوله أيضا:
شد ما استنزلتك عن دمعك الأظعان حتى استهل صوب العزالي (2)
أي ربع يكذب الدهر عنه * وهو ملقى على طريق الليالي!
بين حال جنت عليه وحول * فهو نضو الأوحال والأحوال
أي حسن في الذاهبين تولى * وجمال على ظهور الجمال
ودلال مخيم في ذرى الخيم وحجل مقصر في الحجال.
فالبيت الثالث والخامس هما المقصودان بالتمثيل.
ومن ذلك قول علي بن جبلة:
وكم لك من يوم رفعت عماده * بذات جفون أو بذات جفان (3)
وكقول البحتري:
نسيم الروض في ريح شمال * وصوب المزن في راح شمول (4)
وكقوله أيضا:
جدير بأن تنشق عن ضوء وجهه * ضبابة نقع تحتها الموت ناقع (5)

(1) ديوانه 3: 100.
(2) لم أجدها في ديوانه.
(3) المثل السائر 1: 259، وروايته: " رفعت عماده ".
(4) ديوانه 2: 160، وقبله:
وذكرنيك والذكرى عناء * مشابه فيك بينة الشكول
(5) ديوانه 2: 77.
283

واعلم أن هذه الأمثلة لهذا القسم، ذكرها ابن الأثير في كتابه، وهو عندي
مستدرك، لأنه حد هذا القسم بما يختلف تركيبه، يعنى حروفه الأصلية، ويختلف أيضا
وزنه ويكون اختلاف تركيبه بحرف واحد. هكذا قال في تحديده لهذا القسم، وليس بقمر
والأقمار مختلفين بحرف واحد، وكذلك عمارة والأعمار، وكذلك العوالي والمعالي.
وأما قوله تعالى: (وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) فخارج عن هذا بالكلية، لان
جميع أمثلة هذا القسم يختلف فيه الكلمات بالحروف الزائدة، وهذه الآية اختلاف كلمتيها
بحروف أصلية، فليست من التجنيس الذي نحن بصدده، بل هي من باب تجنيس التصحيف
كقول البحتري:
ولم يكن المعتز بالله إذ سرى * ليعجز والمعتز بالله طالبه (1)
ثم قال ابن الأثير في هذا القسم أيضا: ومن ذلك قول محمد بن وهيب الحميري:
قسمت صروف الدهر بأسا ونائلا * فمالك موتور وسيفك واتر.
وهذا أيضا عندي مستدرك، لان اللفظتين كلاهما من الوتر، ويرجعان إلى أصل
واحد، إلا أن أحد اللفظين مفعول والاخر فاعل، وليس أحد يقول: إن شاعرا لو قال في
شعره ضارب ومضروب، لكان قد جانس.
* * *
ومنها القسم المكنى بالمعكوس، وهو على ضربين: عكس لفظ وعكس حرف فالأول
كقولهم: " عادات السادات، سادات العادات "، وكقولهم: شيم الأحرار أحرار الشيم.
ومن ذلك قول الأضبط بن قريع:
قد يجمع المال غير آكله * ويأكل المال غير من جمعه

(1) ديوانه 1: 118.
284

ويقطع الثوب غير لابسه * ويلبس الثوب غير من قطعه
ومثله قول المتنبي:
فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله * ولا مال في الدنيا لمن قل مجده (1)
ومثله قول الرضى رحمه الله من أبيات يذم فيها الزمان:
أسف بمن يطير إلى المعالي * وطار بمن يسف إلى الدنايا (2)
ومثله قول آخر:
إن الليالي للأنام مناهل * تطوى وتنشر بينها الأعمار (3)
فقصارهن مع الهموم طويلة وطوالهن مع السرور قصار
ولبعض شعراء الأندلس يذكر غلامه (4)
غيرتنا يد الزمان * فقد شبت والتحى
فاستحال الضحى دجى * واستحال الدجى ضحى
ويسمى هذا الضرب التبديل، وقد مثله قدامه بن جعفر الكاتب بقولهم: " اشكر
لمن أنعم عليك، وأنعم على من شكرك ".
ومثله قول النبي صلى الله عليه وآله: " جار الدار أحق بدار الجار ". قالوا: ومنه قوله
تعالى: (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي) (5) ولا أراه منه، بل هو من
باب الموازنة. ومثلوه أيضا بقول أمير المؤمنين عليه السلام: أما بعد فان الانسان يسره درك ما لم يكن ليفوته، ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه. وبقول أبى تمام لأبي العميثل

(1) ديوانه 2: 23.
(2) ديوانه...
(3) ابن الأثير من غير نسبة.
(4) نسبه ابن الأثير إلى ابن الزقاق الأندلسي.
(5) سورة الروم 19.
285

وأبى سعيد الضرير، فإنهما قالا لما امتدح عبد الله بن طاهر بقصيدة، وفى افتتاحها
تكلف وتعجرف: لم لا تقول ما يفهم؟ فقال لهما: لم لا تفهمان ما يقال!
والضرب الثاني من هذا القسم عكس الحروف، وهو كقول بعضهم وقد أهدى
لصديق له كرسيا:
أهديت شيئا يقل لولا * أحدوثة الفال والتبرك
" كرسي " تفاءلت فيه لما * رأيت مقلوبه " يسرك "
وكقول الاخر:
كيف السرور بإقبال وآخره * إذا تأملته مقلوب إقبال
أي لا بقاء (1).
وكقول الاخر:
جاذبتها والريح تجذب عقربا * من فوق خد مثل قلب العقرب
وطفقت ألثم ثغرها فتمنعت * وتحجبت عنى بقلب العقرب
يريد " برقعا " (2).
ومنها النوع المسمى المجنب، وهو أن يجمع بين كلمتين إحداهما كالجنيبة التابعة للأخرى،
مثل قول بعضهم:
أبا الفياض لا تحسب بأني * لفقري من حلى الاشعار عاري (3)
فلي طبع كسلسال معين * زلال من ذري الأحجار جاري
وهذا في التحقيق هو الباب المسمى لزوم مالا يلزم، وليس من باب التجنيس.
ومنها المقلوب، وهو ما يتساوى وزنه وتركيبه إلا أن حروفه تتقدم وتتأخر، مثل
قول أبى تمام:

(1) وهو مقلوب " إقبال ".
(2) وهو مقلوب لفظ " العقرب ".
(3) في المثل السائر: " أبا العباس ".
286

بيض الصفائح لا سود الصحائف في * متونهن جلاء الشك والريب (1)
وقد ورد مثل ذلك في المنثور نحو ما روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه يقال
يوم القيامة لصاحب القرآن: اقرأ وارق ".
وقد تكلمت في كتابي المسمى " بالعبقري الحسان " على أقسام الصناعة البديعة نثرا
ونظما، وبينت أن كثيرا منها يتداخل، ويقوم البعض من ذلك مقام بعض فليلمح
من هناك.
* * *
الأصل:
منها:
واعلموا أنه ليس من شئ إلا ويكاد صاحبه يشبع منه ويمله إلا الحياة فإنه
لا يجد في الموت راحه وإنما ذلك بمنزلة الحكمة التي هي حياة للقلب الميت
وبصر للعين العمياء، وسمع للاذن الصماء، ورى للظمآن، وفيها الغنى كله
والسلامة.
كتاب الله تبصرون به، وتنطقون به، وتسمعون به، وينطق بعضه ببعض،
ويشهد بعضه على بعض، ولا يختلف في الله ولا يخالف بصاحبه عن الله.
قد اصطلحتم على الغل فيما بينكم، ونبت المرعى على دمنكم، وتصافيتم
على حب الآمال وتعاديتم في كسب الأموال. لقد استهام بكم الخبيث وتاه بكم
الغرور، والله المستعان على نفسي وأنفسكم
* * *

(1) ديوانه 1: 46.
287

الشرح:
هذا الفصل ليس بمنتظم من أوله إلى آخره، بل هو فصول متفرقة التقطها الرضى من
خطبة طويلة على عادته، في التقاط ما يستفصحه من كلامه عليه السلام، وإن كان كل
كلامه فصيحا، ولكن كل واحد له هوى ومحبة لشئ مخصوص، وضروب الناس عشاق ضروبا.
أما قوله كل شئ مملول إلا الحياة "، فهو معنى قد طرقه الناس قديما وحديثا، قال
أبو الطيب:
ولذيذ الحياة أنفس في النفس وأشهى من أن يمل وأحلى (1)
وإذا الشيخ قال أف فما مل حياة ولكن الضعف ملا
وقال أيضا:
أرى كلنا يبغي الحياة لنفسه * حريصا عليها مستهاما بها صبا (2)
فحب الجبان النفس أورده البقا * وحب الشجاع النفس أورده الحربا
وقال أبو العلاء:
فما رغبت في الموت كدر مسيرها * إلى الورد خمسا ثم تشر بن من أجن (3)
يصادفن صقرا كل يوم وليلة * ويلقين شرا من مخالبه الحجن (4)
ولا قلقات الليل باتت كأنها * من الأين والإدلاج بعض القنا اللدن

(1) ديوانه 3: 129، 130.
(2) ديوانه 1: 65.
(3) سقط الزند 2: 919، 920 الكدر من القطا: الغبر الألوان. والخمس ورود الماء كل خمسة
أيام. والآجن: الماء المتغبر.
(4) الحجن: المنعطفة.
(5) عنى بالقلقات حمر الوحش، لقلتها في السير إلى الماء.
288

ضربن مليعا بالسنابك أربعا * إلى الماء لا يقدرن منه على معن (1)
وخوف الردى آوى إلى الكهف أهله * وكلف نوحا وابنه عمل السفن
وما استعذبته روح موسى وآدم * وقد وعدا من بعده جنتي عدن
ولى من قصيدة، أخاطب رجلين فرا في حرب:
عذرتكما إن الحمام لمبغض * وإن بقاء النفس للنفس محبوب
ويكره طعم الموت والموت طالب * فكيف يلذ الموت والموت مطلوب!
وقال أبو الطيب أيضا:
طيب هذا النسيم أوقر في الأنفس أن الحمام مر لمذاق (2)
والأسى قبل فرقة الروح عجز والأسى لا يكون بعد الفراق
البحتري:
ما أطيب الأيام إلا أنها * يا صاحبي إذا مضت لم ترجع (3)
وقال آخر:
أوفى يصفق بالجناح مغلسا * ويصيح من طرب إلى الندمان
يا طيب لذة هذه الدنيا كم * لو أنها بقيت على الانسان.
وقال آخر:
أرى الناس يهوون البقاء سفاهة * وذلك شئ ما إليه سبيل
ومن يأمن الأيام! أما بلاؤها * فجم، وأما خيرها فقليل.

(1) المليع: الأرض الخالية. والمعن: الشئ القليل.
(2) ديوانه 2: 369، 370. وروايته: " إلف هذا الهواء ".
(3) ديوانه 2: 100.
289

وقال محمد بن وهيب الحميري:
ونحن بنو الدنيا خلقنا لغيرها * وما كنت منه فهو شئ محبب
وهذا مأخوذ من قول أمير المؤمنين عليه السلام، وقد قيل له: ما أكثر حب الناس
للدنيا! فقال: هم أبناؤها أيلام الانسان على حب أمه.
وقال آخر:
يا موت ما أفجاك من نازل * تنزل بالمرء على رغمه
تستلب العذراء من خدرها * وتأخذ الواحد من أمه
أبو الطيب:
وهي معشوقة على الغدر لا تحفظ عهدا ولا تتمم وصلا (1)
كل دمع يسيل منها عليها * وبفك اليدين عنها تخلى
شيم الغانيات فيها فلا أدرى لذا أنث اسمها الناس أم لا.
فإن قلت كيف يقول: إنه لا يجد في الموت راحة؟ وأين هذا من قول رسول الله
صلى الله عليه وآله: " الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر "! ومن قوله عليه السلام: " والله
ما أرجو الراحة إلا بعد الموت "! وما ذا يعمل بالصالحين الذين آثروا فراق هذه العاجلة،
واختاروا الآخرة، وهو عليه السلام سيدهم وأميرهم!
قلت: لا منافاة، فإن الصالحين، إنما طلبوا أيضا الحياة المستمرة بعد الموت،
ورسول الله صلى الله عليه وآله إنما قال: إن الدنيا سجن المؤمن، لان الموت غير مطلوب
للمؤمن لذاته، إنما يطلبه للحياة المتعقبة له، وكذلك قوله عليه السلام: " والله ما أرجو
الراحة إلا بعد الموت "، تصريح بأن الراحة في الحياة التي تتعقب الموت وهي حياة الأبد، فلا منافاة إذا بين هذه الوجوه وبين ما فاله عليه السلام، لأنه ما نفى إلا الراحة في
الموت نفسه، لا في الحياة الحاصلة بعده.

(1) ديوانه 3: 131. 132.
290

فإن قلت: فقد تطرأ على الانسان حالة يستصعبها قيود الموت لنفسه، ولا يفكر فيما
يتعقبه من الحياة التي تشير إليها، ولا يخطر بباله؟
قلت: ذاك شاذ نادر فلا يلتفت إليه، وإنما الحكم للأعم الأغلب، وأيضا فإن ذاك
لا يلتذ بالموت، وإنما يتخلص به من الألم، وأمير المؤمنين قال: ما من شئ من
الملذات إلا وهو مملول إلا الحياة وبين الملذ، والمخلص من الألم فرق واضح فلا يكون
نقضا على كلامه.
فإن قلت: قد ذكرت ما قيل في
حب الحياة وكراهية الموت، فهل قيل في عكس
ذلك ونقيضه شئ قلت: نعم، فمن ذلك قول أبى الطيب:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا * وحسب المنايا أن يكن أمانيا (1)
تمنيتها لما تمنيت أن ترى * صديقا فأعيا، أو عدوا مداجيا
وقال آخر:
قد قلت إذ مدحوا الحياة فأسرفوا: * في الموت ألف فضيلة لا تعرف
منها أمان لقائه بلقائه * وفراق كل معاشر لا ينصف
وقيل لأعرابي وقد احتضر: إنك ميت، قال: إلى أين يذهب بي؟ قيل: إلى الله،
قال: ما أكره أن أذهب إلى من لم أر الخير إلا منه.
إبراهيم بن مهدي:
وإني وإن قدمت قبلي لعالم * بأني وإن أبطأت عنك قريب (2)
وإن صباحا نلتقي في مسائه * صباح إلى قلبي الغداة حبيب
وقال بعض السلف: ما من مؤمن إلا والموت خير له من الحياة، لأنه إن كان محسنا

(1) ديوانه 4: 281، 282.
(2) الكامل 4: 18 (طبعة نهضة مصر).
291

فالله تعالى يقول: (وما عند الله خير وأبقى للذين اتقوا) (1)، وإن كان مسيئا فالله تعالى
يقول: (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا
إثما) (2).
وقال ميمون بن مهران: بت ليلة عند عمر بن عبد العزيز، فرأيته يبكى ويكثر من
تمنى الموت، فقلت له: إنك أحييت سننا، وأمت بدعا، وفي بقائك خير للمسلمين،
فما بالك تتمنى الموت! فقال: ألا أكون كالعبد الصالح حين أقر الله له عينه، وجمع له أمره،
قال: (رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات
والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين) (3)!
وقالت الفلاسفة: لا يستكمل الانسان حد الانسانية إلا بالموت، لان الانسان هو الحي
الناطق الميت.
وقال بعضهم الصالح إذا مات استراح، والطالح إذا مات استريح منه.
وقال الشاعر:
جزى الله عنا الموت خيرا فإنه * أبر بنا من كل بر وأرأف
يعجل تخليص النفوس من الأذى * ويدني من الدار التي هي أشرف.
وقال آخر:
من كان يرجو أن يعيش فإنني * أصبحت أرجوا أن أموت لا عتقا
في الموت ألف فضيلة لو أنها * عرفت لكان سبيله أن يعشقا
وقال أبو العلاء:
جسمي ونفسي لما استجمعا صنعا * شرا إلى فجل الواحد الصمد!

(1) سورة القصص 60
(2) سورة آل عمران 178.
(3) سورة يوسف 101.
292

فالجسم يعذل فيه النفس مجتهدا * وتلك تزعم أن الظالم الجسد
إذا هما بعد طول الصحبة افترقا * فإن ذاك لاحداث الزمان يد
وقال أبو العتاهية:
المرء يأمل أن يعيش وطول عمر قد يضره (1)
تفنى بشاشته ويبقى بعد حلو العيش مره
وتخونه الأيام حتى * لا يرى شيئا يسره
كم شامت بي إن هلكت وقائل: لله دره!
وقال ابن المعتز:
ألست ترى يا صاح ما أعجب الدهرا * فذما له لكن للخالق الشكرا
لقد حبب الموت البقاء الذي أرى * فيا حسدا منى لمن يسكن القبرا
* * *
فأما قوله عليه السلام: " وإنما ذلك بمنزلة الحكمة:، إلى قوله: وفيها الغنى كله
والسلامة، ففصل آخر غير ملتئم بما قبله، وهو إشارة إلى كلام من كلام رسول الله صلى الله
عليه وآله رواه لهم، ثم حضهم على التمسك به، والانتفاع بمواعظه، وقال: إنه بمنزلة
الحكمة التي هي حياة القلوب، ونور الابصار، وسمع الاذان الصم، ورى الأكباد الحري
وفيها الغنى كله، والسلامة، والحكمة المشبه كلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بها هي المذكورة
في قوله تعالى: (ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خير كثيرا)، (2) وفى قوله: (ولقد آتينا

(1) ديوانه 120.
(2) سورة البقرة 269.
293

لقمان الحكمة) (1)، وفى قوله: (وآتيناه الحكم صبيا) (2) وهي عبارة عن المعرفة
بالله تعالى، وبما في مبدعاته من الاحكام الدالة على علمه، كتركيب الأفلاك، ووضع
العناصر مواضعها، ولطائف صنعة الانسان وغيره من الحيوان، وكيفية إنشاء النبات والمعادن،
وما في العالم من القوى المختلفة، والتأثيرات المتنوعة، الراجع ذلك كله إلى حكمة الصانع وقدرته
وعلمه، تبارك اسمه!
* * *
فأما قوله: " وكتاب الله "، إلى قوله: ولا يخالف بصاحبه عن الله "، ففصل آخر
مقطوع عما قبله، ومتصل بما لم يذكره جامع " نهج البلاغة ".
فإن قلت: ما معنى قوله: " ولا يختلف في الله، ولا يخالف بصاحبه عن الله "؟
وهل بين هاتين
الجملتين فرق؟
قلت: نعم، أما قوله: " ولا يختلف في الله "، فهو أنه لا يختلف في الدلالة على الله وصفاته،
أي لا يتناقض، أي ليس في القرآن آيات مختلفة يدل بعضها على أنه يعلم كل المعلومات مثلا،
وتدل الأخرى على أنه لا يعلم كل المعلومات، أو يدل بعضها على أنه لا يرى، وبعضها على
أنه يرى، وليس وجودنا للآيات المشتبهة بقادح في هذا القول، لان آيات الجبر والتشبيه
لا تدل،، وإنما توهم، ونحن إنما نفينا أن يكون فيه ما يدل على الشئ ونقيضه.
وأما قوله: " ولا يخالف بصاحبه عن الله "، فهو أنه لا يأخذ بالانسان المعتمد عليه
إلى غير الله، أي لا يهديه إلا إلى جناب الحق سبحانه، ولا يعرج به إلى جناب الشيطان،
يقال: خالفت بفلان عن فلان، إذا أخذت به غير نحوه، وسلكت به غير جهته.

(1) سورة لقمان 12.
(2) سورة مريم 12.
294

فأما قوله: " قد اصطلحتم على الغل " إلى آخر الفصل، فكلام مقطوع أيضا عما
قبله، والغل: الحقد.
والدمن: جمع دمنة، وهي الحقد أيضا، وقد دمنت قلوبهم بالكسر، أي ضغنت،
ونبت المرعى عليها، أي دامت وطال الزمان عليها، حتى صارت بمنزلة الأرض الجامدة
الثابتة التي تنبت النبات. ويجوز أن يريد بالدمن هاهنا جمع دمن وهو البعر المجتمع
كالمزبلة أو جمع دمنة وهي آثار الناس وما سودوا من الأرض، يقال: قد دمن الشاء
الماء، وقد دمن القوم الأرض، فشبه ما في قلوبهم من الغل والحقد والضغائن بالمزبلة
المجتمعة من البعر وغيره، من سقاطة الديار التي قد طال مكثها حتى نبت عليها المرعى، قال الشاعر:
وقد ينبت المرعى على دمن الثرى * وتبقى حزازات النفوس كما هيا (1).
قوله عليه السلام: " لقد استهام بكم الخبيث "، يعنى الشيطان، واستهام بكم: جعلكم
هائمين أي استهامكم، فعداه بحرف الجر، كما تقول في " استنفرت القوم إلى الحرب " استنفرت بهم، أي جعلتهم نافرين. ويمكن أن يكون بمعنى الطلب والاستدعاء،
كقولك: استعلمت منه حال كذا، أي استدعيت منه أن يعلمني، واستمنحت فلانا أي
طلبت واستدعيت أن يعطيني، فيكون قوله: " واستهام بكم الخبيث "، أي استدعى
منكم أن تهيموا وتقعوا في التيه والضلال والحيرة.
قوله " وتاه بكم الغرور " هو الشيطان أيضا، قال سبحانه: (وغركم بالله
الغرور) (2). وتاه بكم: جعلكم تائهين حائرين. ثم سأل الله أن يعينه على نفسه وعليهم.
ومن كلام بعض الصالحين: " اللهم انصرني على أقرب الأعداء إلى دارا، وأدناهم منى
جوارا، وهي نفسي ".

(1) البيت الزفر بن الحارث. اللسان 17! 15.
(2) سورة الحديد 14.
295

(134)
الأصل:
ومن كلام له عليه السلام وقد شاوره عمر بن الخطاب في الخروج إلى غزو
الروم:
وقد توكل الله لأهل هذا الدين بإعزاز الحوزة، وستر العورة، والذي
نصرهم - وهم قليل لا ينتصرون، ومنعهم وهم قليل لا يمتنعون - حي لا يموت.
إنك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك، فتلقهم فتنكب لا يكن للمسلمين
كهف دون أقصى بلادهم. ليس بعدك مرجع يرجعون إليه. فابعث إليهم رجلا
محربا، واحفز معه أهل البلاء والنصيحة، فإن أظهر الله فذاك ما تحب، وإن تكن
الأخرى، كنت ردءا للناس ومثابة للمسلمين.
* * *
الشرح:
توكل لهم: صار وكيلا، ويروى " وقد تكفل "، أي صار كفيلا.
والحوزة الناحية، وحوزة الملك بيضته، يقول: إنما الذي نصرهم في الابتداء على ضعفهم
هو الله تعالى، وهو حي لا يموت، فأجدر به أن ينصرهم ثانيا، كما نصرهم أولا!
وقوله: " فتنكب " مجزوم لأنه عطف على " تسر ".
وكهف، أي وكهف يلجأ إليه. ويروى " كانفة " أي جهة عاصمة، من قولك:
كنفت الإبل، جعلت لها كنيفا من الشجر تستتر به وتعتصم.
296

ورجل محرب، أي صاحب حروب.
وحفزت الرجل أحفزه: دفعته من خلفه وسقته سوقا شديدا.
وكنت ردءا أي عونا، قال سبحانه: (فأرسله معي ردءا يصدقني) (1).
ومثابة أي مرجعا، ومنه قوله تعالى: (مثابة للناس وأمنا) (2)، أشار عليه السلام
ألا يشخص بنفسه، حذرا أن يصاب، فيذهب المسلمون كلهم، لذهاب الرأس، بل يبعث أميرا من جانبه على الناس، ويقيم هو بالمدينة، فإن هزموا كان مرجعهم إليه.
فإن قلت: فما بال رسول الله صلى الله عليه وآله كان يشاهد الحروب بنفسه،
ويباشرها بشخصه؟
قلت: إن رسول الله صلى الله عليه وآله كان موعودا بالنصر، وآمنا على نفسه بالوعد
الإلهي في قوله سبحانه: " والله يعصمك من الناس) (3)، وليس عمر كذلك.
فإن قلت: فما بال أمير المؤمنين عليه السلام شهد حرب الجمل وصفين والنهروان
بنفسه، فهلا بعث أميرا محربا، وأقام بالمدينة ردءا ومثابة!
قلت: عن هذا جوابان: أحدهما أنه كان عالما من جهة النبي صلى الله عليه وآله أنه
لا يقتل في هذه الحروب، ويشهد لذلك الخبر المتفق عليه بين الناس كافة: " يقاتل بعدي
الناكثين والقاسطين والمارقين ". وثانيهما يجوز أن يكون غلب على ظنه أن غيره
لا يقوم مقامه في حرب هذه الفرق الخارجة عليه، ولم يجد أميرا محربا من أهل البلاء
والنصيحة، لأنه عليه السلام هكذا قال لعمر، واعتبر هذه القيود والشروط، فمن كان من

(1) سورة القصص 34.
(2) سورة البقرة 125.
(3) سورة المائدة 67.
297

أصحابه عليه السلام محربا لم يكن من أهل النصيحة له، ومن كان من أهل النصيحة له
لم يكن محربا، فدعته الضرورة إلى مباشرة الحرب بنفسه.
[غزوه فلسطين وفتح بيت المقدس]
واعلم أن هذه الغزاة هي غزاه فلسطين، التي فتح فيها بيت المقدس، وقد ذكرها
أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ (1)، وقال:
إن عليا عليه السلام هو كان المستخلف على المدينة لما شخص عمر إلى الشام، وإن
عليا عليه السلام قال له: لا تخرج بنفسك، إنك تريد عدوا كلبا، فقال عمر: إني أبادر
بجهاد العدو موت العباس بن عبد المطلب، إنكم لو فقدتم العباس لانتقض بكم الشر كما
ينتقض (2) الحبل. فمات العباس لست سنين خلت من إمارة عثمان وانتقض بالناس الشر.
قال أبو جعفر: وقد كان الروم عرفوا من كتبهم أن صاحب فتح مدينة إيلياء - وهي
بيت المقدس - رجل اسمه على ثلاثة أحرف، فكان من حضر من أمراء المسلمين يسألون
عن اسمه، فيعلمون أنه ليس بصاحبهم، فلما طال عليهم الامر في حرب الروم، استمدوا
عمر، وقالوا: إن لم تحضر بنفسك لم يفتح علينا، فكتب إليهم أن يلقوه برأس الجابية،
ليوم سماه لهم فلقوه وهو راكب حمارا، وكان أول من لقيه يزيد بن أبي سفيان،
ثم أبو عبيدة بن الجراح، ثم خالد بن الوليد، على الخيول وعليهم الديباج والحرير، فنزل
عمر عن حماره، وأخذ الحجارة، ورماهم بها، وقال: سرعان ما لفتم عن رأيكم. إياي

(1) تاريخ الطبري 1: 2405 (طبع أوروبا) وما بعدها.
(2) الطبري: " كما ينتقص أول الحبل ".
298

تستقبلون في هذا الزي! وإنما شبعتم منذ سنتين، سرع ما ترت بكم (1) البطنة وتالله
لو فعلتموها على رأس المائتين، لاستبدلت بكم غيركم!
فقالوا: يا أمير المؤمنين، إنما هي يلامقة، وتحتها السلاح (2)، فقال: فنعم إذا!
قال أبو جعفر: فلما علم الروم مقدم عمر نفسه،
سألوه الصلح، فصالحهم، وكتب لهم
كتابا على أن يؤدوا الجزية ثم سار إلى بيت المقدس، فقصر فرسه عن المشي، فأتى
ببرذون فركبه، فهزه وهملج تحته، فنزل عنه، وضرب وجهه بردائه، وقال: قبح الله
من علمك هذا! ردوا على فرسي، فركبه وسار حتى انتهى إلى بيت المقدس.
قال: ولم يركب برذونا قبله ولا بعده، وقال: أعوذ بالله من الخيلاء!
قال أبو جعفر: ولقيه معاوية، وعليه ثياب ديباج، وحوله جماعة من الغلمان والخول،
فدنا منه فقبل يده، فقال: ما هذا يا بن هند! وإنك لعلى هذه الحال: مترف صاحب
لبوس وتنعم، وقد بلغني أن ذوي الحاجات يقفون ببابك! فقال: يا أمير المؤمنين،
أما اللباس فإنا ببلاد عدو، ونحب أن يرى أثر نعمة الله علينا، وأما الحجاب فإنا نخاف
من البذلة جرأة الرعية. فقال: ما سألتك عن شئ إلا تركتني منه في أضيق من
الرواجب (3)، إن كنت صادقا فإنه رأى لبيب، وإن كنت كاذبا، فإنها خدعة أريب.
* * *
وقد روى الناس كلام معاوية لعمر على وجه آخر، قيل لما قدم عمر الشام قدمها،
وهو راكب حمارا قريبا من الأرض، ومعه عبد الرحمن بن عوف راكب حمار قريب
أيضا، فتلقاهما معاوية في كوكبة خشناء (4)، فثنى وركه، ونزل وسلم بالخلافة فلم يرد عليه.

(1) التار: الممتلئ البدن، وفى الطبري: " ندت ".
(2) اليلمق: القباء المحشو وفى الطبري: " وإن علينا السلاح ".
(3) الرواجب: ما بين عقد الأصابع.
(4) خشناء، أي كثيرة السلاح.
299

فقال له عبد الرحمن: أحصرت الفتى يا أمير المؤمنين، فلو كلمته! قال: إنك لصاحب
الجيش الذي أرى! قال: نعم، قال: مع شدة احتجابك، ووقوف ذوي الحاجات ببابك!
قال: أجل، قال: لم ويحك! قال: لأنا ببلاد عدو كثير فيها جواسيسهم، فإن لم نتخذ العدة
والعدد استخف بنا، وهجم على عوراتنا، وأنا بعد عاملك فإن استنقصتني نقصت، وإن
استزدتني زدت، وإن استوقفتني وقفت. فقال: إن كنت كاذبا إنه لرأى أريب، وإن
كنت صادقا إنه لتدبير لبيب، ما سألتك عن شئ قط إلا تركتني منه في أضيق من
رواجب الضرس، لا آمرك ولا أنهاك. فلما انصرف، قال عبد الرحمن: لقد أحسن الفتى
في إصدار ما أوردت عليه، فقال: لحسن إيراده وإصداره جشمناه ما جشمناه.
* * *
قال أبو جعفر: شخص عمر من المدينة إلى الشام أربع مرات، ودخلها مرة راكب
فرس، ومرة راكب بعير، ومرة راكب بغل. ومرة راكب حمار، وكان لا يعرف،
وربما استخبره الواحد: أين أمير المؤمنين؟ فيسكت، أو يقول: سل الناس، وكان يدخل
الشام وعليه سحق (1) فرو مقلوب، وإذا حضر الناس طعامه رأوا أخشن الطعام.
قال أبو جعفر: وقدم الشام في إحدى هذه المرات الأربع، فصادف الطاعون بها
فاشيا، فاستشار الناس، فكل أشار عليه بالرجوع وألا يدخلها، إلا أبا عبيدة بن الجراح،
فإنه قال: أتفر من قدر الله؟ قال: نعم، أفر من قدر الله بقدر الله إلى قدر الله، لو غيرك
قالها يا أبا عبيدة! فما لبث أن جاء عبد الرحمن بن عوف، فروى لهم عن النبي صلى الله
عليه وآله أنه قال: " إذا كنتم ببلاد الطاعون فلا تخرجوا منها، وإذا قدمتم إلى بلاد الطاعون
فلا تدخلوها "، فحمد الله على موافقة الخبر لما كان في نفسه، وما أشار به الناس، وانصرف
راجعا إلى المدينة، ومات أبو عبيدة في ذلك الطاعون، وهو الطاعون المعروف بطاعون عمواس
وكان في سنه سبع عشرة من الهجرة (2).

(1) السحق: الثوب البالي.
(2) تاريخ الطبري 1: 2401
300

(135)
الأصل:
ومنه كلام له عليه السلام وقد وقعت بينه وبين عثمان مشاجرة، فقال المغيرة
ابن الأخنس لعثمان: أنا أكفيكه، فقال أمير المؤمنين عليه السلام للمغيرة:
يا بن اللعين الأبتر، والشجرة التي لا أصل لها ولا فرع، أنت تكفيني! فوالله
ما أعز الله من أنت ناصره، ولا قام من أنت منهضه، اخرج عنا أبعد الله نواك،
ثم أبلغ جهدك، فلا أبقى الله عليك إن أبقيت!
* * *
الشرح:
هو المغيرة بن الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب بن علاج بن أبي سلمة الثقفي،
حليف بنى زهرة، وإنما قال له أمير المؤمنين عليه السلام: " يا بن اللعين "، لان الأخنس
ابن شريق كان من أكابر المنافقين، ذكره أصحاب الحديث كلهم في المؤلفة قلوبهم الذين أسلموا
يوم الفتح بألسنتهم دون قلوبهم، وأعطاه رسول الله صلى الله عليه وآله مائة من الإبل من غنائم
حنين يتألف بها قلبه، وابنه أبو الحكم بن الأخنس، قتله أمير المؤمنين عليه السلام يوم أحد
كافرا في الحرب وهو أخو المغيرة هذا. والحقد الذي في قلب المغيرة عليه من هذه الجهة.
وإنما قال له: " يا بن الأبتر "، لان من كان عقبه ضالا خبيثا، فهو كمن لا عقب له بل
من لا عقب له خير منه. ويروى: ولا أقام من أنت منهضه " بالهمزة.
ويروى " أبعد الله نوءك " من أنواء النجوم التي كانت العرب تنسب المطر إليها،
وكانوا إذا دعوا على إنسان قالوا: أبعد الله نوءك! أي خيرك
301

والجهد بالفتح: الغاية، ويقال: قد جهد فلان جهده بالفتح، لا يجوز غير ذلك، أي
انتهى إلى غايته. وقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعن ثقيفا.
وروى أنه عليه السلام قال: " لولا عروة بن مسعود للعنت ثقيفا ".
وروى الحسن البصري أن رسول الله صلى الله عليه وآله لعن ثلاث بيوت: بيتان من
مكة، وهما بنو أمية وبنو المغيرة، وبيت من الطائف وهم ثقيف.
وفى الخبر المشهور المرفوع وقد ذكر ثقيفا: " بئست القبيلة،! يخرج منها كذاب
ومبير (1) "، فكان كما قال صلى الله عليه وآله، الكذاب المختار، والمبير الحجاج.
واعلم أن هذا الكلام لم يكن بحضرة عثمان، ولكن عوانة روى عن إسماعيل
ابن أبي خالد، عن الشعبي، أن عثمان لما كثرت شكايته من علي عليه السلام، أقبل
لا يدخل إليه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله أحد إلا شكي إليه عليا، فقال له
زيد بن ثابت الأنصاري - وكان من شيعته وخاصته: أفلا أمشى إليه فأخبره بموجدتك
فيما يأتي إليك! قال: بلى، فأتاه زيد ومعه المغيرة بن الأخنس بن شريق الثقفي - وعداده
في بنى زهرة، وأمه عمة عثمان بن عفان - في جماعة، فدخلوا عليه، فحمد زيد الله وأثنى عليه،
ثم قال: أما بعد فإن الله قدم لك سلفا صالحا في الاسلام، وجعلك من الرسول بالمكان
الذي أنت به، فأنت للخير كل الخير أهل، وأمير المؤمنين عثمان ابن عمك، ووالى هذه
الأمة فله عليك حقان: حق الولاية وحق القرابة، وقد شكا إلينا أن عليا يعرض لي،
ويرد أمري على، وقد مشينا إليك نصيحة لك، وكراهية أن يقع بينك وبين ابن عمك
أمر نكرهه لكما.
قال: فحمد علي عليه السلام الله، وأثنى عليه وصلى على رسوله، ثم قال: أما بعد،
فوالله ما أحب الاعتراض، ولا الرد عليه، إلا أن يأبى حقا لله لا يسعني ان أقول فيه إلا
بالحق، ووالله لأكفن عنه ما وسعني الكف.

(1) المبير: المهلك.
302

فقال المغيرة بن الأخنس، وكان رجلا وقاحا (1)، وكان من شيعة عثمان وخلصائه: إنك
والله لتكفن عنه أو لتكفن، فإنه أقدر عليك منك عليه! وإنما أرسل هؤلاء القوم من
المسلمين إعزازا لتكون له الحجة عندهم عليك. فقال له علي عليه السلام: يا بن اللعين
الأبتر، والشجرة التي لا أصل لها ولا فرع، أنت تكفني! فوالله ما أعز الله امرأ أنت
ناصره، اخرج أبعد الله نواك، ثم اجهد جهدك، فلا أبقى الله عليك ولا على أصحابك
إن أبقيتم.
فقال له زيد: إنا والله ما جئناك لنكون عليك شهودا، ولا ليكون ممشانا إليك
حجة، ولكن مشينا فيما بينكما التماس الاجر أن يصلح الله ذات بينكما، ويجمع كلمتكما.
ثم دعا له ولعثمان، وقام فقاموا معه.
وهذا الخبر يدل على أن اللفظة " أنت تكفني "، وليست كما ذكره الرضى رحمه الله
" أنت تكفيني "، لكن الرضى طبق هذه اللفظة على ما قبلها، وهو قوله: " أنا أكفيكه "،
ولا شبهة أنها رواية أخرى.
* * *
[فصل في نسب ثقيف، وطرف من أخبارهم]
وإنما قال له: والشجرة التي لا أصل لها ولا فرع، لان ثقيفا في نسبها طعن، فقال قوم
من النسابين: إنهم من هوازن، وهو القول الذي تزعمه الثقفيون، قالوا: هو ثقيف،
واسمه قسى بن منبه بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان
ابن مضر. وعلى هذا القول جمهور الناس.
ويزعم آخرون أن ثقيفا من إياد بن نزار بن معد بن عدنان، وأن النخع أخوه لأبيه

(1) الوقاح: ذو الوقاحة.
303

وأمه، ثم افترقا، فصار أحدهما في عداد هوازن، والاخر في عداد مذحج بن مالك
ابن زيد بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
وقد روى أبو العباس المبرد في " الكامل " لأخت الأشتر مالك بن الحارث
النخعي تبكيه:
أبعد الأشتر النخعي نرجو * مكاثرة ونقطع بطن واد (1)
ونصحب مذحجا بإخاء صدق * وإن ننسب فنحن ذرا إياد
ثقيف عمنا وأبو أبينا * وإخوتنا نزار أولو السداد.
قال أبو العباس: وهجا (2) يحيى بن نوفل - وكان هجاء خبيث اللسان - العريان بن
الهيثم بن الأسود النخعي، وقد كان العريان تزوج امرأة اسمها زباد - مبنى على الكسر،
والزاي مفتوحة بعدها باء منقوطة بواحدة - وهي من ولد هانئ بن قبيصة الشيباني، وكانت
قبله تحت الوليد بن عبد الملك بن مروان، فطلقها، فأنكحها إياه أخ لها يقال له زياد،
فقال يحيى بن نوفل:
أعريان ما يدرى امرؤ سيل عنكم * أمن مذحج تدعون أم من إياد
فإن قلتم من مذحج إن مذحجا * لبيض الوجوه غير جد جعاد
وأنتم صغار الهام حدل كأنما * وجوهكم مطلية بمداد (3)
وإن قلتم الحي اليمانون أصلنا * وناصرنا في كل يوم جلاد
فأطول بإير من معد ونزوة * نزت باياد خلف دار مراد
ضللتم كما ضلت ثقيف فمالكم * ولا لهم بين القبائل هادي
لعمر بنى شيبان إذ ينكحونه * زباد لقد ما قصروا بزباد (4)

(1) الكامل 2: 66، 67 (طبعة نهضة مصر).
(2) الكامل 2: 64.
(3) حدل: جمع أحدل وهو المائل العنق، وفى الأصول: " حول " وما أثبته من الكامل.
(4) لقد ما قصروا، قال أبو العباس: ما زائدة، مثل قوله تعالى: (مما خطيئاتهم أغرقوا).
304

أبعد وليد أنكحوا عبد مذحج * كمنزية عيرا خلاف جواد (1)
وأنكحها لا في كفاء ولا غنى * زياد أضل الله سعى زياد (2)
* * *
قال أبو العباس: وكان المغيرة بن شعبة، وهو والى الكوفة صار إلى دير هند بنت
النعمان بن المنذر، وهي فيه عمياء مترهبة، فاستأذن عليها، فقيل لها: أمير هذه المدرة بالباب.
قالت: قولوا له: من ولد جبلة بن الأيهم أنت؟ قال: لا، قالت: أفمن ولد المنذر بن ماء السماء
أنت؟ قال: لا، قالت: فمن أنت؟ قال: أنا المغيرة بن شعبة الثقفي، قالت: فما حاجتك؟
قال: جئت خاطبا، قالت: لو كنت جئتني لجمال أو حال لأطلبنك، ولكن أردت
أن تتشرف بي في محافل العرب، فتقول: نكحت ابنة النعمان بن المنذر، وإلا فأي
خير في اجتماع أعور وعمياء!
فبعث إليها: كيف كان أمركم؟ قالت: سأختصر لك الجواب، أمسينا وليس في
الأرض عربي إلا وهو يرهبنا أو يرغب إلينا، وأصبحنا ليس في الأرض عربي إلا ونحن
نرهبه ونرغب إليه. قال: فما كان أبوك يقول في ثقيف؟ قالت: أذكر: وقد اختصم
إليه رجلان منهم، أحدهما ينتهى إلى إياد، والاخر إلى هوازن، فقضى للأيادي وقال:
إن ثقيفا لم تكن هوازنا * ولم تناسب عامرا أو مازنا
فقال المغيرة أما نحن فمن بكر بن هوازن فليقل أبوك ما شاء، ثم انصرف. (3)
وقال قوم آخرون:
إن ثقيفا من بقايا ثمود، من العرب القديمة التي بادت وانقرضت.
* * *

(1) خلاف جواد، أي بعد جواد.
(2) يقال: هو كفاؤك في الشرف، إذا كان عديلك.
(3) الكامل 2: 66 (طبعة نهضة مصر).
305

قال أبو العباس: وقد قال الحجاج على المنبر يزعمون أنا من بقايا ثمود، فقد كذبهم
الله بقوله: (وثمود فما أبقى) (1).
وقال مره أخرى. ولئن كنا من بقايا ثمود، لما نجا مع صالح إلا خيارهم.
وقال الحجاج يوما لأبي العسوس الطائي: أي أقدم، أنزول ثقيف الطائف، أم نزول
طيئ الجبلين؟ فقال له أبو العسوس: إن كانت ثقيف من بكر بن هوازن فنزول طيئ
الجبلين قبلها، وإن كانت من بقايا ثمود، فهي أقدم فقال الحجاج: اتقني فإني سريع
الخطفة للأحمق المتهور، فقال أبو العسوس - قال أبو العباس، وكان أعرابيا قحا إلا أنه
لطيف الطبع، وكان الحجاج يمازحه -:
يؤدبني الحجاج تأديب أهله * فلو كنت من أولاد يوسف ما عدا
وإني لأخشى ضربة ثقفية * يقد بها ممن عصاه المقلدا
على أنى مما أحاذر آمن * إذا قيل يوما قد عصى المرء واعتدى (2)
وقتل المغيرة بن الأخنس مع عثمان يوم الدار، وقد ذكرنا مقتله فيما تقدم.
تم الجزء الثامن من شرح نهج البلاغة ويليه الجزء التاسع

(1) سورة النجم 51.
(2) الكامل 2: 65.
306