الكتاب: شرح نهج البلاغة
المؤلف: ابن أبي الحديد
الجزء: ١٦
الوفاة: ٦٥٦
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ القسم العام
تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم
الطبعة:
سنة الطبع: ١٩٦٢ م
المطبعة:
الناشر: دار إحياء الكتب العربية - عيسى البابي الحلبي وشركاه
ردمك:
ملاحظات: مؤسسة مطبوعاتي إسماعيليان

شرح نهج البلاغة
لابن أبي الحديد
بتحقيق
محمد أبو الفضل إبراهيم
الجزء السادس عشر
دار إحياء الكتب العربية
عيسى البابي الحلبي وشركاه
1

الطبعة الثانية
(1967 م - 1387 ه‍)
جميع الحقوق محفوظة
منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
قم - إيران 1404 ه‍ ق
2

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد العدل
(29)
الأصل:
ومن كتاب له عليه السلام إلى أهل البصرة:
وقد كان من انتشار حبلكم وشقاقكم ما لم تغبوا عنه، فعفوت عن
مجرمكم، ورفعت السيف عن مدبركم، وقبلت من مقبلكم، فإن خطت بكم
الأمور المردية، وسفه الآراء الجائرة، إلى منابذتي وخلافي، فهأنذا قد قربت
جيادي، ورحلت ركابي.
ولئن ألجأتموني إلى المسير إليكم لأوقعن بكم وقعة لا يكون يوم الجمل
إليها إلا كلعقة لاعق، مع أني عارف لذي الطاعة منكم فضله، و لذي النصيحة
حقه، غير متجاوز متهما إلى بري، ولا ناكثا إلى وفي.
الشرح:
ما لم تغبوا عنه، أي لم تسهوا عنه ولم تغفلوا، يقال غبيت عن الشئ أغبى غباوة، إذا
لم يفطن، وغبي الشئ علي كذلك إذا لم تعرفه، وفلان غبي على " فعيل "، أي قليل
الفطنة، وقد تغابى، أي تغافل، يقول لهم: قد كان من خروجكم يوم الجمل عن الطاعة،
3

ونشركم حبل الجماعة، وشقاقكم لي ما لستم أغبياء عنه، فغفرت ورفعت السيف
وقبلت التوبة والإنابة.
والمدبر هاهنا: الهارب، والمقبل: الذي لم يفر، لكن جاءنا فاعتذر وتنصل.
ثم قال: فإن خطت بكم الأمور، خطا فلان خطوة يخطو، وهو مقدار ما بين
القدمين، فهذا لازم، فإن عديته، قلت: أخطيت بفلان، وخطوت به، وهاهنا
قد عداه بالباء.
والمردية: المهلكة، والجائرة: العادلة عن الصواب. والمنابذة، مفاعلة، من نبذت
إليه عهده أي ألقيته وعدلت عن السلم إلى الحرب، أو من نبذت زيدا، أي اطرحته
ولم أحفل به.
قوله: " قربت جيادي "، أي أمرت بتقريب خيلي إلي لأركب وأسير إليكم.
ورحلت ركابي، الركاب الإبل، ورحلتها: شددت على ظهورها الرحل، قال:
رحلت سمية غدوة أجمالها * غضبى عليك فما تقول بدالها (1)
كلعقة لاعق، مثل يضرب للشئ الحقير التافه، ويروى بضم اللام، وهي ما تأخذه
الملعقة.
ثم عاد فقال مازجا الخشونة باللين: مع أني عارف فضل ذي الطاعة منكم، وحق
ذي النصيحة، ولو عاقبت لما عاقبت البرئ بالسقيم، ولا أخذت الوفي بالناكث.
خطب زياد بالبصرة الخطبة الغراء المشهورة، وقال فيها: والله لآخذن البرئ بالسقيم،
والبر باللئيم، والوالد بالولد، والجار بالجار، أو تستقيم إلي قناتكم. فقام أبو بلال مرداس

(1) الأعشى، ديوانه 22.
4

ابن أدية يهمس، وهو حينئذ شيخ كبير، فقال: أيها الأمير، أنبأنا الله بخلاف ما قلت،
وحكم بغير ما حكمت، قال سبحانه: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) (1)، فقال زياد:
يا أبا بلال، إني لم أجهل ما علمت، ولكنا لا نخلص إلى الحق منكم حتى نخوض إليه
الباطل خوضا.
وفي رواية الرياشي: " لآخذن الولي بالولي، والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والصحيح
بالسقيم، حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول: انج سعد فقد هلك سعيد، أو تستقيم لي
قناتكم ".

(1) سورة الأنعام 164
5

(30)
الأصل:
من كتاب له عليه السلام إلى معاوية:
فاتق الله فيما لديك، وانظر في حقه عليك، وارجع إلى معرفة ما لا تعذر
بجهالته، فإن للطاعة أعلاما واضحة، وسبلا نيرة، ومحجة نهجة، وغاية مطلبة،
يردها الأكياس، ويخالفها الأنكاس، من نكب عنها جار عن الحق، وخبط
في التيه، وغير الله نعمته، وأحل به نقمته.
فنفسك نفسك! فقد بين الله لك سبيلك، وحيث تناهت بك أمورك،
فقد أجريت إلى غاية خسر، ومحلة كفر، فإن نفسك قد أولجتك شرا،
وأقحمتك غيا، وأوردتك المهالك، وأوعرت عليك المسالك.
الشرح:
قوله: " وغاية مطلبة "، أي مساعفة لطالبها بما يطلبه، تقول: طلب فلان منى كذا
فأطلبته: أي أسعفت به. قال الراوندي: مطلبة بمعنى متطلبة، يقال: طلبت كذا وتطلبته،
وهذا ليس بشئ، ويخرج الكلام عن أن يكون له معنى.
والأكياس: العقلاء، والأنكاس: جمع نكس، وهو الدنئ من الرجال،
ونكب عنها: عدل.
قوله: " وحيث تناهت بك أمورك "، الأولى ألا يكون هذا معطوفا ولا متصلا
6

بقوله، فقد بين الله لك سبيلك، بل يكون كقولهم لمن يأمرونه بالوقوف: حيث أنت،
أي قف حيث أنت، فلا يذكرون الفعل، ومثله قولهم: مكانك، أي قف مكانك.
قوله: " فقد أجريت "، يقال: فلان قد أجرى بكلامه إلى كذا، أي الغاية التي
يقصدها هي كذا، مأخوذ من إجراء الخيل، للمسابقة، وكذلك قد أجرى بفعله إلى كذا،
أي انتهى به إلى كذا. ويروى: " قد أوحلتك شرا " أو أورطتك في الوحل، والغي
ضد الرشاد.
وأقحمتك غيا: جعلتك مقتحما له.
وأوعرت عليك المسالك: جعلتها وعرة.
وأول هذا الكتاب:
أما بعد، فقد بلغني كتابك تذكر مشاغبتي، وتستقبح موازرتي، وتزعمني متحيرا
وعن الحق مقصرا، فسبحان الله، كيف تستجيز الغيبة
وتستحسن العضيهة! إني لم
أشاغب إلا في أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، ولم أتجبر (1) إلا على باغ مارق، أو ملحد
منافق، ولم آخذ في ذلك إلا بقول الله سبحانه: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر
يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم) (2)،
وأما التقصير في حق الله تعالى فمعاذ الله! وإنما المقصر في حق الله جل ثناؤه من عطل الحقوق
المؤكدة، وركن إلى الأهواء المبتدعة، وأخلد إلى الضلالة المحيرة، ومن العجب أن تصف
يا معاوية الاحسان، وتخالف البرهان، وتنكث الوثائق التي هي لله عز وجل
طلبة، وعلى عباده حجة، مع نبذ الاسلام، وتضييع الاحكام، وطمس الاعلام،

(1) أ، ب " ولم أضجر " وما أثبته عن " د ".
(2) سورة المجادلة 22.
7

والجري في الهوى، والتهوس (1) في الردى، فاتق الله فيما لديك، وانظر في حقه عليك...
الفصل المذكور في الكتاب.
وفي الخطبة زيادات يسيرة لم يذكرها الرضي رحمه الله منها:
وإن للناس جماعة يد الله عليها، وغضب الله على من خالفها، فنفسك نفسك قبل
حلول رمسك، فإنك إلى الله راجع، وإلى حشره مهطع (2) وسيبهظك كربه، ويحل بك
غمه، في يوم لا يغنى النادم ندمه، ولا يقبل من المعتذر عذره، (يوم لا يغنى مولى
عن مولى شيئا ولا هم ينصرون) (3)

(1) التهوس في الردى: الوقوع فيه.
(2) المهطع: الذي ينظر في ذل وخشوع.
(3) سورة الدخان 41.
8

الأصل:
ومن وصيته عليه السلام للحسن عليه السلام كتبها إليه بحاضرين عند
انصرافه من صفين:
من الوالد الفان، المقر للزمان، المدبر العمر، المستسلم للدهر، الذام
للدنيا، الساكن مساكن الموتى، الظاعن عنها غدا.
إلى المولود المؤمل ما لا يدرك، السالك سبيل من قد هلك، غرض
الأسقام، ورهينة الأيام، ورمية المصائب، وعبد الدنيا، وتاجر الغرور، وغريم
المنايا، وأسير الموت، وحليف الهموم، وقرين الأحزان، ونصب الآفات،
وصريع الشهوات، وخليفة الأموات.
الشرح:
[ترجمة الحسن بن علي وذكر بعض أخباره]
قال الزبير بن بكار في كتاب " أنساب قريش ": ولد الحسن بن علي عليه السلام
للنصف من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة، وسماه رسول الله صلى الله عليه وآله
حسنا، وتوفي لليال خلون من شهر ربيع الأول سنة خمسين.
قال: والمروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله سمى حسنا وحسينا رضي الله عنهما
يوم سابعهما، واشتق اسم حسين من اسم حسن.
9

قال: وروى جعفر بن محمد عليه السلام أن فاطمة عليها السلام حلقت حسنا وحسينا
يوم سابعهما ووزنت شعرهما فتصدقت بوزنه فضه.
قال الزبير: وروت زينب بنت أبي رافع، قالت: أتت فاطمة عليها السلام بابنيها
إلى رسول الله صلى الله عليه وآله في شكوه (1) الذي توفي فيه، فقالت: يا رسول الله،
هذان ابناك، فورثهما شيئا، فقال: أما حسن فإن له هيبتي وسؤددي، وأما حسين
فإن له جرأتي وجودي.
وروى محمد بن حبيب في أماليه أن الحسن عليه السلام حج خمس عشرة حجة ماشيا
تقاد الجنائب معه، وخرج من ماله مرتين، وقاسم الله عز وجل ثلاث مرات ماله،
حتى أنه كان يعطي نعلا ويمسك نعلا، ويعطي خفا، ويمسك خفا.
وروى أبو جعفر محمد بن حبيب أيضا أن الحسن عليه السلام أعطى شاعرا، فقال له
رجل من جلسائه: سبحان الله! أ تعطي شاعرا يعصي الرحمن، ويقول البهتان! فقال:
يا عبد الله، إن خير ما بذلت من مالك ما وقيت به عرضك، وإن من ابتغاء الخير
اتقاء الشر.
وروى أبو جعفر، قال: قال ابن عباس رحمه الله: أول ذل دخل على العرب موت
الحسن عليه السلام.
وروى أبو الحسن المدائني، قال: سقي الحسن عليه السلام السم أربع مرات، فقال:
لقد سقيته مرارا فما شق علي مثل مشقته هذه المرة. فقال له الحسين عليه السلام: أخبرني
من سقاك؟ قال: لتقتله؟ قال: نعم، قال: ما أنا بمخبرك، إن يكن صاحبي الذي أظن
فالله أشد نقمة، وإلا فما أحب أن يقتل بي برئ.

(1) الشكو: المرض.
10

وروى أبو الحسن، قال: قال معاوية لابن عباس، ولقيه بمكة: يا عجبا من وفاة
الحسن! شرب علة بماء رومة (1) فقضى نحبه، فوجم ابن عباس، فقال معاوية:
لا يحزنك الله ولا يسوءك، فقال: لا يسوءني ما أبقاك الله! فأمر له بمائة ألف درهم.
وروى أبو الحسن قال: أول من نعى الحسن عليه السلام بالبصرة عبد الله بن سلمة،
نعاه لزياد، فخرج الحكم بن أبي العاص الثقفي، فنعاه، فبكى الناس - وأبو بكرة
يومئذ مريض، فسمع الضجة، فقال: ما هذا؟ فقالت امرأته ميسة بنت سخام الثقفية:
مات الحسن بن علي، فالحمد لله الذي أراح الناس منه! فقال: اسكتي ويحك فقد أراحه الله
من شر كثير، وفقد الناس بموته خيرا كثيرا، يرحم الله حسنا!
قال أبو الحسن المدائني: وكانت وفاته في سنة تسع وأربعين، وكان مرضه أربعين
يوما، وكانت سنه سبعا وأربعين سنة، دس إليه معاوية سما على يد جعدة بنت الأشعث
ابن قيس زوجة الحسن، وقال لها: إن قتلتيه (2) بالسم فلك مائة ألف، وأزوجك يزيد
ابني. فلما مات وفى لها بالمال، ولم يزوجها من يزيد. قال: أخشى أن تصنع بابني كما صنعت
بابن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى أبو جعفر محمد بن حبيب عن المسيب بن نجبة، قال: سمعت أمير المؤمنين
عليه السلام، يقول: أنا أحدثكم عني وعن أهل بيتي، أما عبد الله ابن أخي فصاحب
لهو وسماح، وأما الحسن فصاحب جفنة وخوان، فتى من فتيان قريش، ولو قد
التقت حلقتا البطان (3) لم يغن عنكم شيئا في الحرب، وأما أنا وحسين فنحن منكم و
أنتم منا.

(1) د: " بماء برومة ".
(2) د: " قتلته ".
(3) مثل يضرب للامر إذا اشتد وجاوز الحد.
11

قال أبو جعفر: وروى ابن عباس، قال: دخل الحسن بن علي عليه السلام على معاوية
بعد عام الجماعة وهو جالس في مجلس ضيق، فجلس عند رجليه، فتحدث معاوية بما شاء
أن يتحدث، ثم قال: عجبا لعائشة! تزعم أنى في غير ما أنا أهله. وأن الذي أصبحت
فيه ليس لي بحق، ما لها ولهذا! يغفر الله لها، إنما كان ينازعني في هذا الامر أبو هذا
الجالس، وقد استأثر الله به، فقال الحسن: أ وعجب ذلك يا معاوية! قال: أي والله،
قال: أ فلا أخبرك بما هو أعجب من هذا؟ قال: ما هو؟ قال: جلوسك في صدر
المجلس وأنا عند رجليك، فضحك معاوية، وقال: يا بن أخي، بلغني أن عليك دينا،
قال: إن لعلي دينا، قال: كم هو؟ قال: مائة ألف، فقال: قد أمرنا لك بثلاثمائة ألف،
مائة منها لدينك، ومائة تقسمها في أهل بيتك، ومائة لخاصة نفسك، فقم مكرما،
واقبض صلتك. فلما خرج الحسن عليه السلام، قال يزيد بن معاوية لأبيه: تالله
ما رأيت رجلا استقبلك بما استقبلك به، ثم أمرت له بثلاثمائة ألف! قال: يا بني،
إن الحق حقهم، فمن أتاك منهم فاحث له.
وروى أبو جعفر محمد بن حبيب، قال: قال علي عليه السلام: لقد تزوج الحسن وطلق
حتى خفت أن يثير عداوة، قال أبو جعفر: وكان الحسن إذا أراد أن يطلق امرأة جلس
إليها، فقال: أ يسرك أن أهب لك كذا وكذا؟ فتقول له ما شئت، أو نعم، فيقول:
هو لك، فإذا قام أرسل إليها بالطلاق، وبما سمى لها.
وروى أبو الحسن المدائني، قال تزوج الحسن بن علي عليه السلام هندا بنت سهيل
ابن عمرو - وكانت عند عبد الله بن عامر بن كريز، فطلقها - فكتب معاوية إلى أبي هريرة
أن يخطبها على يزيد بن معاوية، فلقيه الحسن عليه السلام، فقال: أين تريد؟ قال:
أخطب هندا بنت سهيل بن عمرو على يزيد بن معاوية، قال الحسن عليه السلام:
12

فاذكرني لها، فأتاها أبو هريرة، فأخبرها الخبر، فقالت: اختر لي، فقال: أختار لك
الحسن. فتزوجته، فقدم عبد الله بن عامر المدينة فقال للحسن، إن لي عند هند وديعة،
فدخل إليها والحسن معه، فخرجت حتى جلست بين يدي عبد الله بن عامر، فرق لها رقة
عظيمة (1)، فقال الحسن: أ لا أنزل لك عنها؟ فلا أراك تجد محللا خيرا لكما مني! قال: لا،
ثم قال لها: وديعتي، فأخرجت سفطين فيهما جوهر، ففتحهما وأخذ من أحدهما قبضة وترك
الاخر (2) عليها، وكانت قبل ابن عامر عند عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، فكانت
تقول: سيدهم جميعا الحسن، وأسخاهم ابن عامر، وأحبهم إلي عبد الرحمن بن عتاب.
وروى أبو الحسن المدائني، قال: تزوج الحسن حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي
بكر، وكان المنذر بن الزبير يهواها، فأبلغ الحسن عنها شيئا فطلقها، فخطبها المنذر، فأبت
أن تتزوجه، وقالت: شهر بي! فخطبها عاصم بن عمر بن الخطاب، فتزوجها، فأبلغه
المنذر عنها شيئا فطلقها، فخطبها المنذر، فقيل لها: تزوجيه، فقالت: لا والله ما أفعل، وقد
فعل بي ما قد فعل مرتين، لا والله لا يراني في منزله أبدا.
وروى المدائني، عن جويرية بن أسماء، قال: لما مات الحسن عليه السلام،
أخرجوا جنازته، فحمل مروان بن الحكم سريره، فقال له الحسين عليه السلام: تحمل
اليوم جنازته وكنت بالأمس تجرعه الغيظ؟ قال مروان: نعم كنت أفعل ذلك بمن يوازن
حلمه الجبال.
وروى المدائني عن يحيى بن زكريا، عن هشام بن عروة، قال: قال الحسن عند وفاته:
ادفنوني عند قبر رسول الله صلى الله عليه وآله، إلا أن تخافوا أن يكون في ذلك شر، فلما أرادوا
دفنه، قال مروان بن الحكم: لا يدفن عثمان في حش كوكب (3)، ويدفن الحسن ها هنا،

(1) د: " شديدة ".
(2) د: " الباقي ".
(3) حش كوكب، بفتح أوله وتشديد ثانيه: موضع عند بقيع الغرقد، اشتراه عثمان رضي الله عنه،
وزاده في البقيع، ولما قتل ألقي فيه.
13

فاجتمع بنو هاشم وبنو أمية، وأعان هؤلاء قوم وهؤلاء قوم، وجاءوا بالسلاح، فقال أبو
هريرة لمروان: أتمنع الحسن أن يدفن في هذا الموضع، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله
يقول: " الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة "! قال مروان: دعنا منك، لقد ضاع
حديث رسول الله صلى الله عليه وآله إذ كان لا يحفظه غيرك وغير أبي سعيد الخدري!
وإنما أسلمت أيام خيبر، قال أبو هريرة: صدقت، أسلمت أيام خيبر، ولكنني لزمت
رسول الله صلى الله عليه وآله ولم أكن أفارقه، وكنت أسأله، وعنيت بذلك حتى
علمت من أحب ومن أبغض، ومن قرب ومن أبعد، ومن أقر ومن نفى، ومن لعن
ومن دعا له، فلما رأت عائشة السلاح والرجال، وخافت أن يعظم الشر بينهم، وتسفك
الدماء، قالت: البيت بيتي، ولا آذن لأحد أن يدفن فيه، وأبى الحسين عليه السلام أن
يدفنه إلا مع جده، فقال له محمد بن الحنفية: يا أخي، إنه لو أوصى أن ندفنه لدفناه أو نموت
قبل ذلك، ولكنه قد استثنى، وقال: " إلا أن تخافوا الشر "، فأي شر يرى أشد مما
نحن فيه! فدفنوه (1) في البقيع.
قال أبو الحسن المدائني وصل نعي الحسن عليه السلام إلى البصرة في يومين وليلتين،
فقال الجارود: بن أبي سبرة (2):
إذا كان شر سار يوما وليلة * وإن كان خير أخر السير أربعا
إذا ما بريد الشر أقبل نحونا * بإحدى الدواهي الربد سار وأسرعا
وروى أبو الحسن المدائني، قال: خرج على معاوية قوم من الخوارج بعد دخوله
الكوفة وصلح الحسن عليه السلام له فأرسل معاوية إلى الحسن عليه السلام يسأله أن يخرج
فيقاتل الخوارج، فقال الحسن: سبحان الله! تركت قتالك وهو لي حلال لصلاح الأمة
وألفتهم، أفتراني أقاتل معك! فخطب معاوية أهل الكوفة، فقال: يا أهل الكوفة،

(1) د: " فدفن ".
(2) د: " هبيرة ".
14

أ تروني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج، وقد علمت أنكم تصلون وتزكون
وتحجون، ولكنني قاتلتكم لأتأمر عليكم وعلى رقابكم، وقد آتاني الله ذلك وأنتم
كارهون، ألا إن كل مال أو دم أصيب في هذه الفتنة فمطلول، وكل شرط شرطته
فتحت قدمي هاتين، ولا يصلح الناس إلا ثلاث: إخراج العطاء عند محله، وإقفال الجنود
لوقتها، وغزو العدو في داره، فإنهم إن لم تغزوهم غزوكم. ثم نزل.
قال المدائني: فقال المسيب بن نجبة للحسن عليه السلام: ما ينقضي عجبي منك!
بايعت معاوية ومعك أربعون ألفا، ولم تأخذ لنفسك وثيقة وعقدا ظاهرا، أعطاك أمرا
فيما بينك وبينه، ثم قال ما قد سمعت، والله ما أراد بها (1) غيرك، قال:
فما ترى؟ قال: أرى
أن ترجع إلى ما كنت عليه، فقد نقض ما كان بينه وبينك. فقال: يا مسيب، إني لو أردت
بما فعلت الدنيا لم يكن معاوية بأصبر عند اللقاء، ولا أثبت عند الحرب منى، ولكني أردت
صلاحكم، وكف بعضكم عن بعض، فارضوا بقدر الله وقضائه، حتى يستريح بر، أو يستراح من فاجر.
قال المدائني ودخل عبيدة بن عمرو الكندي على الحسن عليه السلام - وكان
ضرب على وجهه ضربة وهو مع قيس بن سعد بن عبادة - فقال: ما الذي أرى بوجهك؟
قال: أصابني مع قيس. فالتفت حجر بن عدي إلى الحسن، فقال: لوددت أنك كنت
مت قبل هذا اليوم، ولم يكن ما كان، إنا رجعنا راغمين بما كرهنا، ورجعوا مسرورين
بما أحبوا. فتغير وجه الحسن، وغمز الحسين عليه السلام حجرا، فسكت، فقال الحسن
عليه السلام: يا حجر ليس كل الناس يحب ما تحب ولا رأيه كرأيك، وما فعلت
إلا إبقاء عليك، والله كل يوم في شأن.

(1) عبارة د: " ما أراد بما قال غيرك ".
15

قال المدائني: ودخل عليه سفيان بن أبي ليلى النهدي، فقال له: السلام عليك يا مذل
المؤمنين! فقال الحسن: اجلس يرحمك الله، إن رسول الله صلى الله عليه وآله رفع له
ملك بني أمية، فنظر إليهم يعلون منبره واحدا فواحدا، فشق ذلك عليه فأنزل الله
تعالى في ذلك قرآنا قال له: (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة
الملعونة في القرآن) (1). وسمعت عليا أبي رحمه الله يقول: سيلي أمر هذه الأمة رجل واسع
البلعوم، كبير البطن، فسألته: من هو؟ فقال: معاوية. وقال لي: إن القرآن قد نطق
بملك بني أمية ومدتهم، قال تعالى: (ليلة القدر خير من ألف شهر) (2)، قال أبى:
هذه ملك بني أمية.
قال المدائني: فلما كان عام الصلح، أقام الحسن عليه السلام بالكوفة أياما، ثم
تجهز للشخوص إلى المدينة، فدخل عليه المسيب بن نجبة الفزاري وظبيان بن عمارة
التيمي ليودعاه، فقال الحسن: الحمد لله الغالب على أمره، لو أجمع الخلق جميعا على ألا
يكون ما هو كائن ما استطاعوا. فقال أخوه الحسين عليه السلام: لقد كنت كارها لما كان
طيب النفس على سبيل أبي حتى عزم علي أخي، فأطعته، وكأنما يجذ أنفي بالمواسي،
فقال المسيب: إنه والله ما يكبر علينا هذا الامر إلا أن تضاموا وتنتقصوا، فإما نحن، فإنهم
سيطلبون مودتنا بكل ما قدروا عليه، فقال الحسين: يا مسيب، نحن نعلم أنك تحبنا، فقال
الحسن عليه السلام: سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: " من
أحب قوما كان معهم "، فعرض له المسيب وظبيان بالرجوع، فقال: ليس [لي] (3)
إلى ذلك سبيل، فلما كان من غد خرج، فلما صار بدير هند نظر إلى الكوفة، وقال،
ولا عن قلى فارقت دار معاشري * هم المانعون حوزتي وذماري

(1) سورة الإسراء: 60.
(2) سورة القدر 3.
(3) من " د ".
16

ثم سار إلى المدينة.
قال المدائني: فقال معاوية يومئذ للوليد بن عقبة بن أبي معيط بعد شخوص الحسن
عليه السلام: يا أبا وهب، هل رمت؟ قال: نعم، وسموت.
قال المدائني: أراد معاوية قول الوليد بن عقبة يحرضه على الطلب بدم عثمان:
ألا أبلغ معاوية بن حرب * فإنك من أخي ثقة مليم (1)
قطعت الدهر كالسدم المعنى * تهدر في دمشق ولا تريم (2)
فلو كنت القتيل وكان حيا * لشمر لا ألف ولا سئوم
وإنك والكتاب إلى علي * كدابغة وقد حلم الأديم (3)
وروى المدائني، عن إبراهيم بن محمد، عن زيد بن أسلم، قال: دخل رجل على الحسن
عليه السلام بالمدينة، وفي يده صحيفة، فقال له الرجل: ما هذه؟ قال: هذا كتاب معاوية،
يتوعد فيه على أمر كذا، فقال الرجل: لقد كنت على النصف، فما فعلت؟ فقال له الحسن
عليه السلام: أجل، ولكني خشيت أن يأتي يوم القيامة سبعون ألفا أو ثمانون ألفا،
تشخب أوداجهم دما، كلهم يستعدي الله فيم هريق دمه!
قال أبو الحسن: وكان الحصين (4) بن المنذر الرقاشي يقول: والله ما وفى معاوية
للحسن بشئ مما أعطاه، قتل حجرا وأصحاب حجر (5)، وبايع لابنه يزيد، وسم الحسن.

(1) المليم: من أتى من الامر ما يلام عليه.
(2) في اللسان: " السدم: الذي يرغب عن فحلته فيحال بينه وبين ألافه ويقيد إذا هاج فيرعى حوالي
الدار، وإن صال جعل له حجام يمنعه عن فتح فمه، ومنه قول الوليد بن عقبة... واستشهد بالبيت.
(3) الحلم، بالتحريك: فساد الجلد، قال صاحب اللسان في شرح البيت: " يقول أنت تسعى في
إصلاح أمر قد تم فساده، كهذه المرأة التي تدبغ الأديم الحلم الذي وقعت فيه الحلمة فنقبته وأفسدته
فلا ينتفع به ".
(4) د: " الحضين "، (5) حجر بن عدي.
17

قال المدائني: وروى أبو الطفيل، قال: قال الحسن عليه السلام لمولى له: أ تعرف
معاوية بن خديج؟ قال: نعم، قال: إذا رأيته فأعلمني، فرآه خارجا من دار عمرو
ابن حريث، فقال: هو هذا! فدعاه، فقال له: أنت الشاتم عليا عند ابن آكله الأكباد!
أما والله لئن وردت الحوض ولم ترده لترينه مشمرا عن ساقيه حاسرا عن ذراعيه،
يذود عنه المنافقين.
قال أبو الحسن: وروى هذا الخبر أيضا قيس بن الربيع، عن بدر (1) بن الخليل،
عن مولى الحسن عليه السلام.
قال أبو الحسن: وحدثنا سليمان بن أيوب، عن الأسود (2) بن قيس العبدي،
أن الحسن عليه السلام لقي يوما حبيب بن مسلمة فقال له: يا حبيب، رب مسير لك في غير
طاعة الله! فقال: أما مسيري إلى أبيك فليس من ذلك، قال: بلى والله، ولكنك أطعت
معاوية على دنيا قليلة زائلة، فلئن قام بك في دنياك، لقد قعد بك في آخرتك، ولو كنت
إذ فعلت شرا قلت خيرا، كان ذلك كما قال عز وجل: (خلطوا عملا صالحا وآخر
سيئا) (3)، ولكنك كما قال سبحانه: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا
يكسبون) (4).
قال أبو الحسن: طلب زياد رجلا من أصحاب الحسن، ممن كان في كتاب الأمان،
فكتب إليه الحسن:
من الحسن بن علي إلى زياد، أما بعد، فقد علمت ما كنا أخذنا من الأمان لأصحابنا،
وقد ذكر لي فلان أنك تعرضت له، فأحب ألا تتعرض له، إلا بخير. والسلام.

(1) في د: " زيد ".
(2) د: " أبي الأسود ".
(3) سورة التوبة 102.
(4) سورة المطففين 14.
18

فلما أتاه الكتاب، وذلك بعد ادعاء معاوية إياه غضب حيث لم ينسبه إلى أبي سفيان،
فكتب إليه:
من زياد بن أبي سفيان إلى الحسن، أما بعد، فإنه أتاني كتابك في فاسق تؤويه
الفساق من شيعتك وشيعة أبيك، وأيم الله لأطلبنه بين جلدك ولحمك، وإن أحب الناس
إلى لحما أن آكله للحم أنت منه [والسلام] (1).
فلما قرا الحسن عليه السلام الكتاب، بعث به إلى معاوية، فلما قرأه
غضب وكتب:
من معاوية بن أبي سفيان إلى زياد. أما بعد، فإن لك رأيين: رأيا من أبي سفيان
ورأيا من سمية، فأما رأيك من أبي سفيان فحلم وحزم، وأما رأيك من سمية فما يكون
من مثلها. إن الحسن بن علي كتب إلي بأنك عرضت لصاحبه، فلا تعرض له،
فإني لم أجعل [لك] (1) عليه سبيلا، وإن الحسن ليس ممن يرمى به الرجوان (2)، والعجب
من كتابك إليه لا تنسبه إلى أبيه أو إلى أمه، فالآن حين اخترت له، والسلام.
قلت: جرى في مجلس بعض الأكابر وأنا حاضر القول في أن عليا عليه السلام
شرف بفاطمة عليها السلام فقال إنسان كان حاضر المجلس: بل فاطمة عليها السلام
شرفت به وخاض الحاضرون في ذلك بعد إنكارهم تلك اللفظة، وسألني صاحب
المجلس أن أذكر ما عندي في المعنى وأن أوضح: أيما أفضل علي أم فاطمة؟ فقلت:
أما أيهما أفضل، فإن أريد بالأفضل الأجمع للمناقب التي تتفاضل بها الناس، نحو العلم
والشجاعة ونحو ذلك، فعلي أفضل، وإن أريد بالأفضل الا رفع منزلة عند الله، فالذي

(1) عن " د ".
(2) الرجوان: تثنية رجا، والرجا مقصور: ناحية كل شئ. ويقال: رمى به الرجوان: إذا استهان
به، فكأنه رمى به هنالك، أراد أنه طرح في المهالك.
19

استقر عليه رأى المتأخرين من أصحابنا أن عليا أرفع المسلمين كافة عند الله تعالى بعد رسول الله
صلى الله عليه وآله من الذكور والإناث، وفاطمة امرأة من المسلمين، وإن كانت
سيدة نساء العالمين، ويدل على ذلك أنه قد ثبت أنه أحب الخلق إلى الله تعالى بحديث
الطائر، وفاطمة من الخلق، وأحب الخلق إليه سبحانه أعظمهم ثوابا يوم القيامة، على
ما فسره المحققون من أهل الكلام، وإن أريد بالأفضل الأشرف نسبا، ففاطمة أفضل
لان أباها سيد ولد آدم من الأولين والآخرين، فليس في آباء علي عليه السلام مثله
ولا مقارنه، وإن أريد بالأفضل من كان رسول الله صلى الله عليه وآله أشد عليه حنوا
وأمس به رحما، ففاطمة أفضل، لأنها ابنته، وكان شديد الحب لها والحنو عليها جدا،
وهي أقرب إليه نسبا من ابن العم، لا شبهه في ذلك.
فاما القول في أن عليا شرف بها أو شرفت به، فإن عليا عليه السلام كانت أسباب
شرفه وتميزه على الناس متنوعة، فمنها ما هو متعلق بفاطمة عليها السلام، ومنها ما هو متعلق
بأبيها صلوات الله عليه، ومنها ما هو مستقل بنفسه.
فأما الذي هو مستقل بنفسه، فنحو شجاعته وعفته وحلمه وقناعته وسجاحة أخلاقه
وسماحة نفسه. وأما الذي هو متعلق برسول الله صلى الله عليه وآله فنحو علمه ودينه وزهده
وعبادته، وسبقه إلى الاسلام وإخباره بالغيوب.
وأما الذي يتعلق بفاطمة عليها السلام فنكاحه لها، حتى صار بينه وبين رسول الله
صلى الله عليه وآله الصهر المضاف إلى النسب والسبب، وحتى إن ذريته منها صارت
ذرية لرسول الله صلى الله عليه وآله، وأجزاء من ذاته عليه السلام، وذلك لان الولد
أنما يكون من مني الرجل ودم المرأة، وهما جزآن من ذاتي الأب والام، ثم هكذا
أبدا في ولد الولد ومن بعده من البطون دائما. فهذا هو القول في شرف علي عليه السلام
بفاطمة.
20

فأما شرفها به فإنها وإن كانت ابنة سيد العالمين، إلا أن كونها زوجة علي أفادها
نوعا من شرف آخر زائدا على ذلك الشرف الأول، أ لا ترى أن أباها لو زوجها
أبا هريرة أو أنس بن مالك لم يكن حالها في العظمة والجلالة كحالها الان، وكذلك
لو كان بنوها وذريتها من أبي هريرة وأنس بن مالك لم يكن حالهم في أنفسهم
كحالهم الان.
قال أبو الحسن المدائني: وكان الحسن كثير التزوج تزوج خولة بنت منظور بن زبان
الفزارية، وأمها مليكة بنت خارجة بن سنان، فولدت له الحسن بن الحسن. وتزوج أم
إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله، فولدت له ابنا سماه طلحة، وتزوج أم بشر بنت أبي
مسعود الأنصاري - واسم أبى مسعود عقبة بن عمر - فولدت له زيد بن الحسن، وتزوج
جعدة بنت الأشعث بن قيس، وهي التي سقته السم، وتزوج هند ابنة [سهيل بن عمرو،
وحفصة ابنة عبد] (1) الرحمن بن أبي بكر، وتزوج امرأة من كلب، وتزوج امرأة من بنات
عمرو بن أهتم المنقري، وامرأة من ثقيف، فولدت له عمرا، وتزوج امرأة من بنات علقمة
ابن زرارة، وامرأة من بني شيبان من آل همام بن مرة، فقيل له: إنها ترى رأى الخوارج،
فطلقها، وقال: إني أكره أن أضم إلى نحري جمرة من جمر جهنم.
وقال المدائني: وخطب إلى رجل فزوجه، وقال له: إني مزوجك، وأعلم أنك ملق
طلق غلق (2)، ولكنك خير الناس نسبا، وأرفعهم جدا وأبا.
قلت: أما قوله ملق طلق، فقد صدق، وأما قوله غلق فلا، فإن الغلق الكثير الضجر،
وكان الحسن عليه السلام أوسع الناس صدرا وأسجحهم خلقا.

(1) من " د ".
(2) الملق: الفقير.
21

قال المدائني: أحصيت زوجات الحسن بن علي فكن سبعين امرأة.
قال المدائني: ولما توفى علي عليه السلام خرج عبد الله بن العباس بن عبد المطلب
إلى الناس، فقال: إن أمير المؤمنين عليه السلام توفى، وقد ترك خلفا، فإن أحببتم خرج
وإليكم، وإن كرهتم فلا أحد على أحد، فبكى الناس، وقالوا: بل يخرج إلينا فخرج
الحسن عليه السلام، فخطبهم، فقال: أيها الناس، اتقوا الله، فأنا أمراؤكم وأولياؤكم، وإنا
أهل البيت الذين قال الله تعالى فينا: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت
ويطهركم تطهيرا) (1)، فبايعه الناس.
وكان خرج إليهم وعليه ثياب سود، ثم وجه عبد الله بن عباس ومعه قيس بن سعد
ابن عبادة، مقدمة له في اثنى عشر ألفا إلى الشام، وخرج وهو يريد المدائن، فطعن بساباط
وانتهب متاعه، ودخل المدائن، وبلغ ذلك معاوية، فأشاعه، وجعل أصحاب الحسن الذين
وجههم مع عبد الله يتسللون إلى معاوية، الوجوه وأهل البيوتات. فكتب عبد الله بن
العباس بذلك إلى الحسن عليه السلام فخطب الناس ووبخهم، وقال: خالفتم أبى حتى
حكم وهو كاره، ثم دعاكم إلى قتال أهل الشام بعد التحكيم، فأبيتم حتى صار إلى كرامة
الله، ثم بايعتموني على أن تسالموا من سالمني، وتحاربوا من حاربني، وقد أتاني أن أهل
الشرف منكم قد أتوا معاوية، وبايعوه، فحسبي منكم، لا تغروني من ديني ونفسي.
وأرسل عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب - وأمه هند بنت أبي
سفيان بن حرب - إلى معاوية يسأله المسالمة، واشترط عليه العمل بكتاب الله وسنة نبيه،
وألا يبايع لأحد من بعده، وأن يكون الامر شورى، وأن يكون الناس أجمعون آمنين.

(1) سورة الأحزاب 33.
22

وكتب بذلك كتابا، فأبى الحسين عليه السلام، وامتنع، فكلمه الحسن حتى رضي،
وقدم معاوية إلى الكوفة.
قال أبو الحسن: وحدثنا أبو بكر بن الأسود، قال: كتب ابن العباس
إلى الحسن:
أما بعد، فإن المسلمين ولوك أمرهم بعد علي عليه السلام، فشمر للحرب، وجاهد
عدوك، وقارب أصحابك، واشتر (2) من الظنين (3) دينه بما لا يثلم (4) لك دينا (5)،
ووال أهل (6) البيوتات والشرف، تستصلح به عشائرهم، حتى يكون الناس جماعة،
فإن بعض ما يكره الناس - ما لم يتعد الحق، وكانت عواقبه تؤدى إلى ظهور العدل،
وعز الدين - خير من كثير مما يحبه الناس إذا كانت عواقبه تدعو إلى ظهور الجور
وذل المؤمنين، وعز الفاجرين. واقتد بما جاء عن أئمة العدل، فقد جاء عنهم أنه لا يصلح
الكذب إلا في حرب أو إصلاح بين الناس، فإن الحرب خدعة، ولك في ذلك سعة
إذا كنت محاربا، ما لم تبطل حقا.
واعلم أن عليا أباك إنما رغب الناس عنه إلى معاوية أنه أساء بينهم في الفئ،
وسوى بينهم في العطاء، فثقل عليهم، واعلم أنك تحارب من حارب الله ورسوله في ابتداء
الاسلام، حتى ظهر أمر الله، فلما وحد الرب، ومحق الشرك، وعز الدين، أظهروا
الايمان وقرأوا القرآن، مستهزئين بآياته، وقاموا إلى الصلاة وهم كسالى، وأدوا الفرائض

(1) في د: " أمورهم ".
(2) د: " واستر ".
(3) الظنين: " المتهم ".
(4) يثلم: يعيب.
(5) العقد 1: 30، وعيون الأخبار 1: 14 " يفك ".
(6) العقد وعيون الأخبار: " وول ".
23

وهم لها كارهون، فلما رأوا أنه لا يعز في الدين إلا الأتقياء الأبرار، توسموا بسيما الصالحين،
ليظن المسلمون بهم خيرا، فما زالوا بذلك حتى شركوهم في أماناتهم، وقالوا: حسابهم
على الله، فإن كانوا صادقين فإخواننا في الدين، وإن كانوا كاذبين كانوا بما اقترفوا
هم الأخسرين، وقد منيت بأولئك وبأبنائهم وأشباههم، والله ما زادهم طول العمر إلا غيا،
ولا زادهم ذلك لأهل الدين إلا مقتا، فجاهدهم ولا ترض دنية، ولا تقبل خسفا (1)،
فإن عليا لم يجب إلى الحكومة حتى غلب على أمره فأجاب، وإنهم يعلمون أنه أولى بالامر
أن حكموا بالعدل، فلما حكموا بالهوى، رجع إلى ما كان عليه حتى أتى عليه أجله،
ولا تخرجن من حق أنت أولى به، حتى يحول الموت دون ذلك. والسلام.
قال المدائني: وكتب الحسن عليه السلام إلى معاوية:
من عبد الله الحسن أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان. أما بعد فإن الله بعث
محمدا صلى الله عليه وآله رحمة للعالمين، فأظهر به الحق، وقمع به الشرك، وأعز به العرب
عامة، وشرف به قريشا خاصة، فقال: (وإنه لذكر لك ولقومك) (2)، فلما توفاه
الله تنازعت العرب في الامر بعده، فقالت قريش: نحن عشيرته وأولياؤه، فلا تنازعونا
سلطانه، فعرفت العرب لقريش ذلك، وجاحدتنا قريش ما عرفت لها العرب، فهيهات!
ما أنصفتنا قريش وقد كانوا ذوي فضيلة في الدين، وسابقة في الاسلام، ولا غرو (3)
إلا منازعته إيانا الامر بغير حق في الدنيا معروف، ولا أثر في الاسلام محمود، فالله
الموعد، نسأل الله ألا يؤتينا في هذه الدنيا شيئا ينقصنا عنده في الآخرة. إن
عليا لما توفاه الله ولاني المسلمون الامر بعده، فاتق الله يا معاوية، وانظر لامة محمد

(1) خسفا، أي ذلا.
(2) سورة الزخرف 44.
(3) لا غرو، أي لا عجب.
24

صلى الله عليه وآله، ما تحقن به دماءها وتصلح به أمرها. والسلام.
وبعث بالكتاب مع الحارث بن سويد التيمي، تيم الرباب، وجندب الأزدي،
فقدما على معاوية فدعواه إلى بيعة الحسن عليه السلام فلم يجبهما، وكتب جوابه:
أما بعد، فقد فهمت ما ذكرت به رسول الله، وهو أحق الأولين والآخرين بالفضل
كله، وذكرت تنازع المسلمين الامر بعده، فصرحت بتهمة أبي بكر الصديق وعمر
وأبى عبيدة الأمين، وصلحاء المهاجرين، فكرهت لك ذلك، إن الأمة لما تنازعت
الامر بينها رأت قريشا أخلقها به (1)، فرأت قريش والأنصار وذوو الفضل والدين من المسلمين
أن يولوا من قريش أعلمها بالله، وأخشاها له، وأقواها على الامر، فاختاروا أبا بكر
ولم يألوا، ولو علموا مكان رجل غير أبى بكر يقوم مقامه ويذب عن حرم الاسلام ذبه
ما عدلوا بالامر إلى أبى بكر، والحال اليوم بيني وبينك على ما كانوا عليه، فلو علمت أنك
أضبط لأمر الرعية، وأحوط على هذه الأمة، وأحسن سياسة، وأكيد للعدو، وأقوى
على جمع الفئ، لسلمت لك الامر بعد أبيك، فإن أباك سعى على عثمان حتى قتل مظلوما،
فطالب الله بدمه، ومن يطلبه الله فلن يفوته. ثم ابتز الأمة أمرها، وفرق جماعتها، فخالفه
نظراؤه من أهل السابقة والجهاد والقدم في الاسلام، وادعى أنهم نكثوا بيعته، فقاتلهم
فسفكت الدماء، واستحلت الحرم، ثم أقبل إلينا لا يدعى علينا بيعة، ولكنه يريد أن
يملكنا اغترارا، فحاربناه وحاربنا، ثم صارت الحرب إلى أن اختار رجلا واخترنا رجلا،
ليحكما بما تصلح عليه الأمة، وتعود به الجماعة والألفة، وأخذنا بذلك عليهما ميثاقا، وعليه
مثله وعلينا مثله، على الرضا بما حكما، فأمضى الحكمان عليه الحكم بما علمت، وخلعاه،
فوالله ما رضي بالحكم، ولا صبر لأمر الله، فكيف تدعوني إلى أمر إنما تطلبه بحق أبيك،
وقد خرج منه! فانظر لنفسك ولدينك. والسلام.

(1) في د " أحقها ".
25

قال: ثم قال للحارث وجندب: ارجعا فليس بيني وبينكم إلا السيف، فرجعا وأقبل
إلى العراق في ستين ألفا، واستخلف على الشام الضحاك بن قيس الفهري والحسن مقيم
بالكوفة، لم يشخص حتى بلغه أن معاوية قد عبر جسر منبج، فوجه حجر بن عدي
يأمر العمال بالاحتراس، ويذب الناس فسارعوا فعقد لقيس بن سعد بن عبادة على
اثنى عشر ألفا، فنزل دير عبد الرحمن، واستخلف على الكوفة المغيرة بن نوفل بن الحارث
ابن عبد المطلب، وأمر قيس بن سعد بالمسير، وودعه وأوصاه، فأخذ على الفرات وقرى
الفلوجة، ثم إلى مسكن. و ارتحل الحسن عليه السلام متوجها نحو المدائن، فأتى ساباط
فأقام بها أياما، فلما أراد أن يرحل إلى المدائن قام فخطب الناس، فقال: أيها الناس،
إنكم بايعتموني على أن تسالموا من سالمت وتحاربوا من حاربت، وإني والله ما أصبحت
محتملا على أحد من هذه الأمة ضغينة في شرق ولا غرب، ولما تكرهون في الجماعة والألفة
والامن، وصلاح ذات البين خير مما تحبون في الفرقة، والخوف والتباغض والعداوة،
وإن عليا أبى كان يقول: لا تكرهوا إمارة معاوية، فإنكم لو فارقتموه لرأيتم الرؤوس
تندر (1) عن كواهلها كالحنظل. ثم نزل.
فقال الناس: ما قال هذا القول إلا وهو خالع نفسه ومسلم الامر لمعاوية
فثاروا به
فقطعوا كلامه، وانتهبوا متاعه، وانتزعوا مطرفا كان عليه، وأخذوا جارية كانت معه،
واختلف الناس فصارت طائفة معه، وأكثرهم عليه، فقال: اللهم أنت المستعان، وأمر
بالرحيل، فارتحل الناس، وأتاه رجل بفرس، فركبه وأطاف به بعض أصحابه، فمنعوا
الناس عنه وساروا، فقدمه سنان بن الجراح الأسدي إلى مظلم ساباط، فأقام به، فلما دنا
منه تقدم إليه يكلمه، وطعنه في فخذه بالمعول (2) طعنة كادت تصل إلى العظم، فغشي عليه
وابتدره أصحابه، فسبق إليه عبيد الله الطائي، فصرع سنانا وأخذ ظبيان بن عمارة المعول

(1) تندر: تقطع.
(2) المعول: حديدة ينقر بها الصخر.
26

من يده، فضربه به فقطع أنفه، ثم ضربه بصخرة على رأسه فقتله، وأفاق الحسن عليه
السلام من غشيته، فعصبوا جرحه وقد نزف وضعف، فقدموا به المدائن وعليها سعد بن
مسعود، عم المختار بن أبي عبيد، وأقام بالمدائن حتى برئ من جرحه.
قال المدائني: وكان الحسن عليه السلام أكبر ولد علي، وكان سيدا سخيا حليما
خطيبا، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يحبه، سابق يوما بين الحسين وبينه فسبق
الحسن، فأجلسه على فخذه اليمنى، ثم أجلس الحسين على الفخذ اليسرى، فقيل له: يا رسول
الله أيهما أحب إليك؟ فقال: أقول كما قال إبراهيم أبونا، وقيل له: أي ابنيك أحب
إليك؟ قال: أكبرهما وهو الذي يلد ابني محمدا صلى الله عليه وسلم.
وروى المدائني عن زيد بن أرقم: قال: خرج الحسن عليه السلام وهو صغير، وعليه
بردة ورسول الله صلى الله عليه وآله يخطب، فعثر فسقط فقطع رسول الله صلى الله عليه وآله
الخطبة، ونزل مسرعا إليه، وقد حمله الناس، فتسلمه وأخذه على كتفه، وقال: إن الولد
لفتنة، لقد نزلت إليه وما أدرى! ثم صعد فأتم الخطبة.
وروى المدائني، قال: لقي عمرو بن العاص الحسن عليه السلام في الطواف، فقال له:
يا حسن، زعمت أن الدين لا يقوم إلا بك وبأبيك، فقد رأيت الله أقامه بمعاوية، فجعله
راسيا بعد ميله، وبينا بعد خفائه، أ فرضي الله بقتل عثمان، أو من الحق أن تطوف بالبيت
كما يدور الجمل بالطحين، عليك ثياب كغرقئ (1) البيض، وأنت قاتل عثمان، ولله إنه
لألم للشعث، وأسهل للوعث، أن يوردك معاوية حياض أبيك، فقال الحسن عليه السلام:
إن لأهل النار علامات يعرفون بها، إلحادا لأولياء الله، وموالاة لأعداء الله، والله إنك

(1) الغرقئ: القشرة الملتزقة ببياض البيض.
27

لتعلم أن عليا لم يرتب في الدين، ولا يشك في الله ساعة ولا طرفة عين قط، وأيم الله لتنتهين
يا بن أم عمرو أو لأنفذن حضنيك بنوافذ أشد من القعضبية (1): فإياك والتهجم علي، فإني
من قد عرفت، لست بضعيف الغمزة، ولا هش المشاشة (2)، ولا مرئ المأكلة، وإني من
قريش كواسطة القلادة، يعرف حسبي، ولا أدعى لغير أبى، وأنت من تعلم ويعلم الناس،
تحاكمت فيك رجال قريش، فغلب عليك جزاروها، ألأمهم حسبا، وأعظمهم لؤما،
فإياك عنى، فإنك رجس، ونحن أهل بيت الطهارة، أذهب الله عنا الرجس وطهرنا
تطهيرا. فأفحم عمرو وانصرف كئيبا.
وروى أبو الحسن المدائني قال: سأل معاوية الحسن بن علي بعد الصلح أن يخطب
الناس، فامتنع، فناشده أن يفعل، فوضع له كرسي، فجلس عليه، ثم قال: الحمد لله الذي
توحد في ملكه، وتفرد في ربوبيته، يؤتي الملك من يشاء، وينزعه عمن يشاء. والحمد لله
الذي أكرم بنا مؤمنكم، وأخرج من الشرك أولكم، وحقن دماء آخركم، فبلاؤنا عندكم
قديما وحديثا أحسن البلاء، إن شكرتم أو كفرتم. أيها الناس، أن رب علي كان
أعلم بعلي حين قبضه إليه، ولقد اختصه بفضل لم تعتادوا مثله، ولم تجدوا مثل سابقته،
فهيهات هيهات! طالما قلبتم له الأمور حتى أعلاه الله عليكم وهو صاحبكم، وعدوكم في بدر
وأخواتها، جرعكم رنقا، وسقاكم علقا، وأذل رقابكم، وأشرقكم بريقكم، فلستم بملومين
على بغضه. وأيم الله لا ترى أمة محمد خفضا ما كانت سادتهم وقادتهم في بني أمية، ولقد
وجه الله إليكم فتنة لن تصدروا عنها حتى تهلكوا، لطاعتكم طواغيتكم، وانضوائكم
إلى شياطينكم، فعند الله أحتسب ما مضى وما ينتظر من سوء دعتكم، وحيف
حكمكم. ثم قال: يا أهل الكوفة لقد فارقكم بالأمس سهم من مرامي الله، صائب

(1) القعضبية: الأسنة، منسوبة إلى قعضب اسم رجل كان يعمل الأسنة في الجاهلية.
(2) المشاش في الأصل: رؤوس العظام.
28

على أعداء الله، نكال على فجار قريش، لم يزل آخذا بحناجرها، جاثما على أنفاسها،
ليس بالملومة في أمر الله، ولا بالسروقة لمال الله، ولا بالفروقة في حرب أعداء الله، أعطى
الكتاب خواتمه وعزائمه، دعاه فأجابه، وقاده فاتبعه، لا تأخذه في الله لومة لائم، فصلوات
الله عليه ورحمته. ثم نزل.
فقال معاوية: أخطأ عجل أو كاد، وأصاب مثبت أو كاد ماذا أردت من
خطبة الحسن!
فأما أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني، فإنه قال: كان في لسان أبى محمد الحسن
عليه السلام ثقل كالفأفأة، حدثني بذلك محمد بن الحسين الأشناني، قال: حدثني محمد بن
إسماعيل الأحمسي، عن مفضل بن صالح، عن جابر. قال: كان في لسان الحسن عليه
السلام رتة (1)، فكان سلمان الفارسي رحمه الله يقول: أتته من قبل عمه موسى بن
عمران عليه السلام (2).
قال أبو الفرج: ومات شهيدا مسموما، دس معاوية إليه وإلى سعد بن أبي وقاص
حين أراد أن يعهد إلى يزيد ابنه بالامر بعده سما، فماتا منه في أيام متقاربة، وكان الذي
تولى ذلك من الحسن عليه السلام زوجته جعدة بنت الأشعث بن قيس بمال بذله لها معاوية.
ويقال: إن اسمها سكينة، ويقال عائشة ويقال: شعثاء (3)، والصحيح أن اسمها جعدة.
قال أبو الفرج: فروى عمرو بن ثابت، قال: كنت أختلف إلى أبي إسحاق

(1) أ، ب: " رثة "، تصحيف، والصواب ما أثبته من د ومقاتل الطالبيين، والرتة: عجلة
الكلام مع قلة المبالاة.
(2) مقاتل الطالبيين 50.
(3) ب: " شيثا ".
29

السبيعي [سنة] (1)، أسأله عن الخطبة التي خطب بها الحسن بن علي عليه السلام
عقيب وفاة، أبيه ولا (2) يحدثني بها، فدخلت إليه في يوم شات وهو في الشمس، وعليه
برنسه، فكأنه غول، فقال لي: من أنت؟ فأخبرته، فبكى، وقال: كيف أبوك، وكيف
أهلك؟ قلت: صالحون، قال: في أي شئ تتردد منذ سنة؟ قلت: في خطبة الحسن بن علي
بعد وفاة أبيه (3).
حدثني هبيرة بن مريم (4)، قال: خطب الحسن عليه السلام بعد وفاة أمير المؤمنين
عليه السلام، فقال: قد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون، ولا يدركه الآخرون
[بعمل] (5). لقد كان يجاهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله فيسبقه بنفسه، ولقد كان
يوجهه برايته، فيكنفه جبرائيل عن يمينه، وميكائيل عن يساره، فلا يرجع حتى يفتح الله
عليه، ولقد توفى في الليلة التي عرج فيها بعيسى بن مريم، والتي توفى فيها يوشع بن
نون، وما خلف صفراء ولا بيضاء إلا سبعمائة درهم من عطائه، أراد أن يبتاع بها
خادما لأهله.
ثم خنقته العبرة فبكى وبكى الناس معه، ثم قال: أيها الناس، من عرفني فقد عرفني،
ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن محمد رسول الله صلى الله عليه وآله، أنا ابن البشير، أنا ابن
النذير، أنا ابن الداعي إلى الله بإذنه و السراج المنير، أنا من أهل البيت الذين أذهب الله
عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، والذين افترض الله مودتهم في كتابه، إذ يقول: (ومن
يقترف حسنة نزد له فيها حسنا) (6)، فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت.
قال أبو الفرج: فلما انتهى إلى هذا الموضع من الخطبة قام عبد الله بن العباس بين

(1) من د ومقاتل الطالبيين.
(2) د: " فلا ".
(3) مقاتل الطالبيين 51.
(4) كذا في مقاتل الطالبيين.
(5) من مقاتل الطالبيين.
(6) سورة الشورى 23.
30

يديه، فدعا الناس إلى بيعته، فاستجابوا وقالوا: ما أحبه إلينا وأحقه بالخلافة! فبايعوه،
ثم نزل من المنبر (1).
قال أبو الفرج: ودس معاوية رجلا من حمير إلى الكوفة، ورجلا من بنى القين
إلى البصرة يكتبان إليه بالاخبار، فدل على الحميري (2) وعلى القيني، فأخذا وقتلا (3).
وكتب الحسن عليه السلام إلى معاوية:
أما بعد، فإنك دسست إلى الرجال، كأنك تحب اللقاء، لا أشك في ذلك فتوقعه
إن شاء الله. وبلغني أنك شمت بما لم يشمت به ذو الحجى، وإنما مثلك في ذلك كما قال
الأول:
فإنا ومن قد مات منا لكالذي * يروح فيمسي في المبيت ليغتدي (4)
فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى * تجهز لأخرى مثلها فكان قد
فأجابه معاوية:
أما بعد، فقد وصل كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، ولقد علمت بما حدث
فلم أفرح ولم أحزن، ولم أشمت ولم آس، وإن عليا أباك لكما قال أعشى بني قيس
ابن ثعلبة:
فأنت الجواد وأنت الذي * إذا ما القلوب ملأن الصدورا (5)
جدير بطعنة يوم اللقا * ء يضرب منها النساء النحورا
وما مزيد من خليج البحار * يعلو الآكام ويعلو الجسورا
بأجود منه بما عنده * فيعطي الألوف ويعطي البدورا. (6)

(1) مقاتل الطالبيين 52.
(2) مقاتل الطالبيين: " فدل على الحميري عند لحام ".
(3) مقاتل الطالبيين 52.
(4) في مقاتل الطالبيين، البيت الثاني قبل الأول.
(5) ديوانه 72.
(6) مقاتل الطالبيين 53.
31

قال أبو الفرج: وكتب عبد الله بن العباس من البصرة إلى معاوية:
أما بعد، فإنك ودسك أخا بني القين إلى البصرة، تلتمس من غفلات قريش بمثل
ما ظفرت به من يمانيتك، لكما قال أمية بن أبي الأسكر (1):
لعمرك إني والخزاعي طارقا * كنعجة عاد حتفها تتحفر
أثارت عليها شفرة بكراعها * فظلت بها من آخر الليل تنحر
شمت بقوم من صديقك أهلكوا * أصابهم يوم من الدهر أصفر (2)
فأجابه معاوية:
أما بعد، فإن الحسن بن علي، قد كتب إلي بنحو مما كتبت به، وأنبأني بما لم يحقق
سوء ظن (3) ورأي في، وإنك لم تصب مثلي ومثلكم، وإنما مثلنا كما قال طارق الخزاعي
يجيب أمية عن هذا الشعر:
فوالله ما أدري وإني لصادق * إلى أي من يظنني أتعذر
أعنف إن كانت زبينة أهلكت * ونال بني لحيان شر فأنفر (4)

(1) كذا في الأغاني ومقاتل الطالبيين وهو الصواب، وفي ب: " أمية بن أبي الصلت ".
(2) في الأغاني: " أعسر ".
(3) مقاتل الطالبيين: " بما لم يحقق سوء ظن ورأي في ".
(4) أنفروا: شردوا، وفي الأغاني: " ونفروا "، والخبر في الأغاني 18: 161، 162، ومقاتل الطالبيين
53، 54، وفي الأغاني عن أبي عمرو الشيباني: " أصيب قوم من بني جندع بن ليث بن بكر بن هوازن
رهط أمية بن الأسكر، يقال لهم: بنو زبينة، أصابهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم المريسيع في
عزوة بني المصطلق، وكانوا جيرانه يومئذ، ومعهم ناس من بني لحيان بن هذيل، ومع بني جندع رجل من
خزاعة يقال له طارق، فاتهمه بنو ليث بهم، وأنه دل عليهم، وكانت خزاعة مسلمها ومشركها يميلون إلى
النبي صلى الله عليه وسلم على قريش، فقال أمية بن الأسكر لطارق الخزاعي:
* لعمرك إني والخزاعي طارقا *
وأورد أبيات أمية ورد طارق، ثم قال: " وهذه الأبيات الابتداء والانتهاء تمثل بابتدائها ابن عباس
في رسالة إلى معاوية، وتمثل بجوابها معاوية في رسالة أجابه بها ".
32

قال أبو الفرج: وكان أول شئ أحدثه الحسن عليه السلام أنه زاد المقاتلة مائة مائة،
وقد كان علي عليه السلام فعل ذلك يوم الجمل، وفعله الحسن حال الاستخلاف، فتبعه الخلفاء
من بعده في ذلك (1).
قال وكتب الحسن عليه السلام إلى معاوية مع حرب بن عبد الله الأزدي (2).
من الحسن (3) بن علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان، سلام عليك، فإني أحمد
إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإن الله جل جلاله بعث محمدا رحمة للعالمين، ومنة
للمؤمنين، وكافة للناس أجمعين، (لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين) (4)،
فبلغ رسالات الله، وقام بأمر الله حتى توفاه الله غير مقصر ولا وان، وبعد أن أظهر
الله به الحق، ومحق به الشرك، وخص به قريشا خاصة فقال له: (وانه لذكر لك
ولقومك) (5). فلما توفى تنازعت سلطانه العرب، فقالت قريش: نحن قبيلته وأسرته
وأولياؤه، ولا يحل لكم أن تنازعونا سلطان محمد وحقه، فرأت العرب أن القول ما قالت
قريش، وأن الحجة في ذلك لهم على من نازعهم أمر محمد، فأنعمت (6) لهم، وسلمت إليهم.
ثم حاججنا نحن قريشا بمثل ما حاججت به العرب، فلم تنصفنا قريش إنصاف العرب لها،
إنهم أخذوا هذا الامر دون العرب بالانتصاف والاحتجاج، فلما صرنا أهل بيت محمد
وأولياءه إلى محاجتهم، وطلب النصف (7) منهم باعدونا واستولوا بالاجماع على ظلمنا
ومراغمتنا (8) والعنت (9) منهم لنا، فالموعد الله، وهو الولي النصير.

(1) مقاتل الطالبيين 55.
(2) مقاتل الطالبيين: " مع جندب بن عبد الله الأزدي ".
(3) مقاتل الطالبيين: " بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسن... ".
(4) سورة يس 7.
(5) سورة الزخرف 44.
(6) أنعمت لهم، أي قالت لهم: " نعم ".
(7) النصف: الانصاف.
(8) راغمهم: نابذهم وعاداهم.
(9) العنت: المشقة وفي د " والعبث ".
33

ولقد كنا تعجبنا لتوثب المتوثبين علينا في حقنا وسلطان نبينا، وإن كانوا ذوي فضيلة
وسابقة في الاسلام، وأمسكنا عن منازعتهم مخافة على الدين أن يجد المنافقون والأحزاب (1)
في ذلك مغمزا يثلمونه به، أو يكون لهم بذلك سبب إلى ما أرادوا من إفساده، فاليوم
فليتعجب المتعجب من توثبك يا معاوية على أمر لست من أهله، لا بفضل في الدين
معروف، ولا أثر في الاسلام محمود، وأنت ابن حزب من الأحزاب، وابن أعدى قريش
لرسول الله صلى الله عليه وآله ولكتابه، والله حسيبك، فسترد فتعلم لمن عقبى الدار،
وبالله لتلقين عن قليل ربك، ثم ليجزينك بما قدمت يداك، وما الله بظلام للعبيد.
إن عليا لما مضى لسبيله - رحمة الله عليه يوم قبض ويوم من الله عليه بالاسلام، ويوم
يبعث حيا - ولاني المسلمون الامر بعده، فأسأل الله ألا يؤتينا في الدنيا الزائلة شيئا ينقصنا
به في الآخرة مما عنده من كرامة، وإنما حملني على الكتاب إليك الاعذار فيما بيني وبين
الله عز وجل في أمرك، ولك في ذلك إن فعلته الحظ الجسيم، والصلاح للمسلمين، فدع
التمادي في الباطل، وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي، فإنك تعلم أني أحق بهذا
الامر منك عند الله وعند كل أواب حفيظ، ومن له قلب منيب. واتق الله ودع البغي،
واحقن دماء المسلمين، فوالله ما لك خير في أن تلقى الله من دمائهم بأكثر مما أنت لاقيه به،
وادخل في السلم والطاعة، ولا تنازع الامر أهله ومن هو أحق به منك، ليطفئ الله
النائرة (2) بذلك، ويجمع الكلمة، ويصلح ذات البين، وإن أنت أبيت إلا التمادي
في غيك سرت (3) إليك بالمسلمين فحاكمتك، حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.
فكتب معاوية إليه (4):

(1) الأحزاب: هم الذين تحزبوا وتظاهروا على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش
وغطفان وبني مرة وبني أشجع وبني سليم وبني أسد في غزوة الخندق.
(2) النائرة: العداوة والشحناء.
(3) مقاتل الطالبيين: " نهدت ".
(4) في مقاتل الطالبيين " بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله... ".
34

من عبد الله معاوية أمير المؤمنين إلى الحسن بن علي، سلام الله عليك، فإني أحمد إليك
الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فقد بلغني كتابك، وفهمت ما ذكرت به محمدا رسول الله
من الفضل، وهو أحق الأولين والآخرين بالفضل كله قديمه وحديثه، وصغيره وكبيره،
وقد والله بلغ وأدى، ونصح وهدى، حتى أنقذ الله به من الهلكة، وأنار به من العمى،
وهدى به من الجهالة والضلالة، فجزاه الله أفضل ما جزى نبيا عن أمته، وصلوات الله
عليه يوم ولد، ويوم بعث، ويوم قبض، ويوم يبعث حيا!
وذكرت وفاة النبي صلى الله عليه وآله وتنازع المسلمين الامر بعده، وتغلبهم على
أبيك، فصرحت بتهمة أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وأبى عبيدة الأمين وحواري (1)
رسول الله صلى الله عليه وآله، وصلحاء المهاجرين والأنصار، فكرهت ذلك لك، انك
امرؤ عندنا وعند الناس غير الظنين (2) ولا المسئ، ولا اللئيم، وأنا أحب لك القول
السديد، والذكر الجميل.
إن هذه الأمة لما اختلفت بعد نبيها لم تجهل فضلكم ولا سابقتكم، ولا قرابتكم من
نبيكم، ولا مكانكم في الاسلام وأهله، فرأت الأمة أن تخرج من هذا الامر لقريش
لمكانها من نبيها، ورأي صلحاء الناس من قريش والأنصار وغيرهم من سائر الناس
وعوامهم أن يولوا هذا الامر من قريش أقدمها إسلاما، وأعلمها بالله، وأحبها له، وأقواها
على أمر الله، فاختاروا أبا بكر، وكان ذلك رأي ذوي الدين والفضل، والناظرين للأمة،
فأوقع ذلك في صدوركم لهم التهمة، ولم يكونوا متهمين، ولا فيما أتوا بالمخطئين، ولو رأى
المسلمون أن فيكم من يغني غناءه، ويقوم مقامه، ويذب عن حريم الاسلام ذبه

(1) هو الزبير بن العوام.
(2) ب: " ظنين ".
35

ما عدلوا بالامر إلى غيره رغبه عنه، ولكنهم علموا في ذلك بما رأوه صلاحا للاسلام وأهله،
والله يجزيهم عن الاسلام وأهله خيرا.
وقد فهمت الذي دعوتني إليه من الصلح، والحال فيما بيني وبينك اليوم مثل الحال
التي كنتم عليها أنتم وأبو بكر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله، فلو علمت أنك أضبط
مني للرعية، وأحوط على هذه الأمة، وأحسن سياسة، وأقوى على جمع الأموال،
وأكيد للعدو، لأجبتك إلى ما دعوتني إليه، ورأيتك لذلك أهلا، ولكن قد علمت
أنى أطول منك ولاية، وأقدم منك بهذه الأمة تجربة، وأكبر منك سنا، فأنت أحق أن
تجيبني إلى هذه المنزلة التي سألتني، فادخل في طاعتي ولك الامر من بعدي، ولك ما في
بيت مال العراق من مال بالغا ما يبلغ، تحمله إلى حيث أحببت، ولك خراج أي كور
العراق شئت، معونة لك على نفقتك يجيبها أمينك ويحملها إليك في كل سنة، ولك
ألا نستولي عليك بالإساءة، ولا نقضي دونك الأمور، ولا نعصي في أمر أردت به طاعة
الله. أعاننا الله وإياك على طاعته إنه سميع مجيب الدعاء. والسلام.
قال جندب: فلما أتيت الحسن بكتاب معاوية، قلت له: إن الرجل سائر إليك،
فابدأه بالمسير حتى تقاتله في أرضه وبلاده وعمله، فأما أن تقدر أنه ينقاد (1) لك،
فلا والله حتى يرى منا أعظم من يوم صفين. فقال: أفعل، ثم قعد عن مشورتي
و تناسى قولي (2).
قالوا: وكتب معاوية إلى الحسن:

(1) د ومقاتل الطالبيين: " تيمنا لك ".
(2) مقاتل الطالبيين 55 - 59.
36

أما بعد (1)، فإن الله يفعل في عباده ما يشاء، لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب،
فاحذر أن تكون منيتك على أيدي رعاع من الناس، وأيس (2) من أن تجد فينا (3)
غميزة (4)، وإن أنت أعرضت عما أنت فيه وبايعتني وفيت لك بما وعدت، وأجريت لك
ما شرطت، وأكون في ذلك كما قال أعشى بني قيس بن ثعلبة:
وإن أحد أسدى إليك أمانة * فأوف بها تدعى إذا مت وافيا
ولا تحسد المولى إذا كان ذا غنى * ولا تجفه إن كان في المال فانيا
ثم الخلافة لك من بعدي، فأنت أولى الناس بها. والسلام.
فأجابه الحسن:
أما بعد، فقد وصل إلي كتابك، تذكر فيه ما ذكرت، فتركت جوابك خشية
البغي [منى] (6) عليك، وبالله أعوذ من ذلك، فاتبع الحق تعلم أنى من أهله، وعلي إثم
أن أقول فأكذب. والسلام.
فلما وصل كتاب الحسن إلى معاوية قرأه، ثم كتب إلى عماله على النواحي بنسخة
واحدة:
من (7 عبد الله معاوية أمير المؤمنين إلى فلان بن فلان 7) ومن قبله من المسلمين. سلام
عليكم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد، فالحمد لله الذي كفاكم مؤنة عدوكم
وقتل خليفتكم، إن الله بلطفه، وحسن صنعه، أتاح لعلي بن أبي طالب رجلا من عباده،

(1) مقاتل الطالبيين: " بسم الله الرحمن الرحيم... أما بعد ".
(2) ب، أيس، وأثبت ما في أ، د ومقاتل الطالبيين.
(3) أ، د ومقاتل الطالبيين.
(4) الغميزة: المطعن.
(5) في مقاتل الطالبيين: بسم الله الرحمن الرحيم... أما بعد... ".
(6) من د.
(7 - 7) مقاتل الطالبيين: " بسم الله الرحمن الرحيم من معاوية أمير المؤمنين إلى فلان بن فلان ".
37

فاغتاله فقتله، فترك أصحابه متفرقين مختلفين، وقد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون
الأمان لأنفسهم وعشائرهم، فأقبلوا إلي حين يأتيكم كتابي هذا بجهدكم وجندكم وحسن
عدتكم، فقد أصبتم بحمد الله الثأر، وبلغتم الامل، وأهلك الله أهل البغي والعدوان،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (1).
قال فاجتمعت العساكر إلى معاوية، فسار بها قاصدا إلى العراق. وبلغ الحسن
خبره ومسيره نحوه، وأنه قد بلغ جسر منبج، فتحرك عند ذلك، وبعث حجر بن عدي
فأمر العمال والناس بالتهيؤ للمسير، ونادى المنادي: الصلاة جامعة! فأقبل الناس يثوبون
ويجتمعون. وقال الحسن: إذا رضيت جماعة الناس فأعلمني، وجاءه سعيد بن قيس
الهمداني، فقال له: أخرج، فخرج الحسن عليه السلام، وصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه
ثم قال: أما بعد، فإن الله كتب الجهاد على خلقه، وسماه كرها (2)، ثم قال لأهل الجهاد
من المؤمنين: اصبروا إن الله مع الصابرين، فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون إلا بالصبر
على ما تكرهون.
بلغني أن معاوية بلغه إنا كنا أزمعنا على المسير إليه، فتحرك لذلك، اخرجوا رحمكم
الله إلى معسكركم بالنخيلة حتى ننظر وتنظروا، ونرى وتروا.
قال: وإنه في كلامه ليتخوف خذلان الناس له، قال: فسكتوا فما تكلم منهم أحد،
ولا أجابه بحرف.
فلما رأى ذلك عدي بن حاتم قام فقال: أنا ابن حاتم! سبحان الله! ما أقبح هذا
المقام! أ لا تجيبون إمامكم وابن بنت نبيكم! أين خطباء مضر [أين المسلمون؟ أين

(1) مقاتل الطالبيين 59، 60.
(2) هو من قوله تعالى: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم).
38

الخواضون من أهل المصر] (1) الذين ألسنتهم كالمخاريق (2) في الدعة، فإذا جد الجد
فرواغون كالثعالب، أ ما تخافون مقت الله ولا عيبها وعارها.
ثم استقبل الحسن بوجهه، فقال: أصاب الله بك المراشد، وجنبك المكاره،
ووفقك لما يحمد ورده وصدره (3). قد سمعنا مقالتك، وانتهينا إلى أمرك،
وسمعنا لك وأطعناك فيما قلت وما رأيت، وهذا وجهي إلى معسكري، فمن أحب أن يوافيني
فليواف.
ثم مضى لوجهه، فخرج من المسجد ودابته بالباب، فركبها ومضى إلى النخيلة، وأمر
غلامه أن يلحقه بما يصلحه. وكان عدي بن حاتم أول الناس عسكر (4).
وقام قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري ومعقل بن قيس الرياحي وزياد بن صعصعة (5)
التيمي، فأنبوا الناس ولاموهم وحرضوهم، وكلموا الحسن عليه السلام بمثل كلام عدى
ابن حاتم في الإجابة والقبول، فقال لهم الحسن عليه السلام: صدقتم رحمكم الله!
ما زلت أعرفكم بصدق النية والوفاء والقبول والمودة الصحيحة، فجزاكم الله خيرا
ثم نزل.
وخرج الناس فعسكروا، ونشطوا للخروج، وخرج الحسن إلى العسكر، واستخلف
على الكوفة المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وأمره باستحثاث الناس
وإشخاصهم إليه، فجعل يستحثهم ويستخرجهم حتى يلتئم العسكر.
وسار (6) الحسن عليه السلام في عسكر عظيم وعدة حسنة، حتى نزل دير عبد الرحمن،

(1) من مقاتل الطالبيين.
(2) المخاريق: جمع مخراق، وهو المنديل أو نحوه يلوي فيضرب به.
(3) كذا في مقاتل الطالبيين، د.
(4) أ: " عسكرا ".
(5) في أ، د " حفصة ".
(6) مقاتل الطالبيين: " ثم إن الحسن... ".
39

فأقام به ثلاثا حتى اجتمع الناس، ثم دعا عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب، فقال له:
يا بن عم، إني باعث إليك اثنى عشر ألفا من فرسان العرب وقراء المصر، الرجل منهم يزيد (1)
الكتيبة، فسر بهم، وألن لهم جانبك، وابسط لهم وجهك، وافرش لهم جناحك،
وأدنهم من مجلسك، فإنهم بقية ثقات أمير المؤمنين، وسر بهم على شط الفرات حتى تقطع بهم
الفرات، ثم تصير إلى مسكن، ثم امض حتى تستقبل بهم معاوية، فإن أنت لقيته فاحبسه حتى
آتيك، فإني على أثرك وشيكا، وليكن خبرك عندي كل يوم، وشاور هذين يعنى - قيس
ابن سعد وسعيد بن قيس - وإذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يقاتلك، فإن فعل فقاتله،
وإن أصبت فقيس بن سعد على الناس، وإن أصيب قيس بن سعد فسعيد بن قيس
على الناس (2).
فسار عبيد الله حتى انتهى إلى شينور (3)، حتى خرج إلى شاهي (4)، ثم لزم
الفرات والفلوجة (5)، حتى أتى مسكن (6)، وأخذ الحسن على حمام عمر حتى أتى
دير كعب، ثم بكر فنزل ساباط دون القنطرة، فلما أصبح نادى في الناس: الصلاة جامعة!
فاجتمعوا، فصعد المنبر فخطبهم فقال: الحمد لله كلما حمده حامد، وأشهد أن لا إله إلا الله
كلما شهد له شاهد، وأشهد أن محمدا رسول الله، أرسله بالحق، وائتمنه على الوحي، صلى
الله عليه وآله. أما بعد، فوالله إني لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد الله ومنه وأنا
أنصح خلقه لخلقه، وما أصبحت محتملا على مسلم ضغينة، ولا مريد له بسوء ولا غائلة.
ألا وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة، ألا وإني ناظر لكم خيرا

(1) أ: " يزن ".
(2) بعدها في مقاتل الطالبيين: " ثم أمره بما أراد ".
(3) شينور صقع بالعراق، وفي ب " سينور " تحريف.
(4) شاهي: موضع قرب القادسية.
(5) ياقوت: " فلاليج السواد: قراها، واحدها الفلوجة، والفلوجة الكبرى، والفلوجة الصغرى:
قريتان كبيرتان من سواد بغداد والكوفة قرب عين التمر ".
(6) مسكن: موضع على نهر دجيل.
40

من نظركم لأنفسكم، فلا تخالفوا أمري، ولا تردوا علي رأيي غفر الله لي ولكم، وأرشدني
وإياكم لما فيه محبته (1) ورضاه، إن شاء الله! ثم نزل.
قال فنظر الناس بعضهم إلى بعض، وقالوا: ما ترونه يريد بما قال؟ قالوا: نظنه
يريد أن يصالح معاوية، ويكل الامر إليه، كفر والله الرجل! ثم شدوا على فسطاطه.
فانتهبوه حتى أخذوا مصلاه من تحته، ثم شد عليه عبد الرحمن بن عبد الله بن جعال
الأزدي، فنزع مطرفه عن عاتقه، فبقي جالسا متقلدا سيفا بغير رداء، فدعا بفرسه فركبه،
وأحدق به طوائف من خاصته وشيعته، ومنعوا منه من أراده، ولاموه وضعفوه لما تكلم به،
فقال: ادعوا إلي ربيعة وهمدان، فدعوا له، فأطافوا به، ودفعوا الناس عنه، ومعهم
شوب (2) من غيرهم، فلما مر في مظلم ساباط (3)، قام إليه رجل من بنى أسد، ثم من
بنى نصر بن قعين يقال له جراح بن سنان، وبيده معول فأخذ بلجام فرسه (4)، وقال:
الله أكبر! يا حسن (5 أشرك أبوك، ثم أشركت أنت 5). وطعنه بالمعول، فوقعت في فخذه،
فشقته حتى بلغت أربيته (6)، وسقط الحسن عليه السلام إلى الأرض بعد أن ضرب الذي
طعنه بسيف كان بيده، واعتنقه، فخرا جميعا إلى الأرض، فوثب عبد الله بن الأخطل (7)
الطائي، ونزع المعول من يد جراح بن سنان، فخضخضه (8) به، وأكب ظبيان بن عمارة
عليه، فقطع أنفه، ثم أخذا له الآجر فشدخا رأسه، ووجهه حتى قتلوه.

(1) مقاتل الطالبيين: " لما فيه المحبة والرضا ".
(2) الشوب: الأخلاط من الناس.
(3) مظلم ساباط: مضاف إلى ساباط التي قرب المدائن: موضع هناك، قال ياقوت: " ولا أدري
لم سمي بذلك ".
(4) مقاتل الطالبيين: " فرسه ".
(5 - 5) مقاتل الطالبيين: " يا حسن، أشركت كما أشرك أبوك من قبل ".
(6) الأربية: أصل الفخذ.
(7) مقاتل الطالبيين: " الخطل ".
(8) أ: " فحصحصه ".
41

وحمل الحسن عليه السلام على سرير إلى المدائن، وبها سعيد (1) بن مسعود الثقفي واليا
عليها من قبله، وقد كان علي عليه السلام ولاه المدائن فأقره الحسن عليه السلام عليها، فأقام
عنده يعالج نفسه. فأما معاوية فإنه وافى حتى نزل قرية يقال لها الحلوبية (2) بمسكن، وأقبل
عبيد الله بن عباس حتى نزل بإزائه، فلما كان من غد وجه معاوية بخيله إليه فخرج إليهم
عبيد الله فيمن معه فضربهم حتى ردهم إلى معسكرهم، فلما كان الليل أرسل معاوية إلى
عبيد الله بن عباس أن الحسن قد راسلني في الصلح، وهو مسلم الامر إلى، فإن دخلت في
طاعتي الان كنت متبوعا، وإلا دخلت وأنت تابع، ولك إن أجبتني الان أن أعطيك
ألف ألف درهم، أعجل لك في هذا الوقت نصفها، وإذا دخلت الكوفة النصف الآخر،
فانسل عبيد الله إليه ليلا، فدخل عسكر معاوية، فوفى له بما وعده، وأصبح الناس
ينتظرون عبيد الله أن يخرج فيصلى بهم، فلم يخرج حتى أصبحوا، فطلبوه فلم يجدوه،
فصلى بهم قيس بن سعد بن عبادة، ثم خطبهم فثبتهم (3)، وذكر عبيد الله فنال منه، ثم
أمرهم بالصبر والنهوض إلى العدو، فأجابوه بالطاعة وقالوا له: انهض بنا إلى عدونا على اسم
الله، فنزل فنهض بهم.
وخرج إليه بسر بن أرطاة فصاح إلى أهل العراق: ويحكم! هذا أميركم عندنا قد بايع
وإمامكم الحسن قد صالح، فعلام تقتلون أنفسكم!

(1) مقاتل الطالبيين: " سعد ".
(2) ب: " الحيوضة ".
(3) في مقاتل الطالبيين: " أيها الناس، لا يهولنكم ولا يعظمن عليكم ما صنع هذا الرجل الوله
الورع " أي الجبان ". إن هذا وأباه وأخاه لم يأتوا بيوم خير قط، إن أباه عم رسول الله صلى الله عليه
وسلم خرج يقاتل ببدر، فأسره أبو الميسر كعب بن عمرو الأنصاري، فأتى به رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فأخذ فداءه فقسمه بين المسلمين، وإن أخاه ولاه علي أمير المؤمنين على البصرة، فسرق مال الله
ومال المسلمين، فاشترى به الجواري، وزعم أن ذلك له حلال، وأن هذا ولاه علي اليمن. فهرب من بسر
ابن أرطاة، وترك ولده حتى قتلوا، وصنع الآن هذا الذي صنع. قال: فتنادى الناس: الحمد لله الذي
أخرجه من بيننا، فانهض بنا إلى عدونا، فنهض بهم ".
42

فقال لهم قيس بن سعد: اختاروا إحدى اثنتين، إما القتال مع غير إمام، وإما أن
تبايعوا بيعة ضلال، فقالوا: بل نقاتل بلا إمام، فخرجوا فضربوا أهل الشام حتى ردوهم
إلى مصافهم.
فكتب معاوية إلى قيس بن سعد يدعوه ويمنيه، فكتب إليه قيس: لا و الله لا تلقاني
أبدا إلا بيني وبينك الرمح. فكتب إليه معاوية حينئذ لما يئس منه:
أما بعد. فإنك يهودي ابن يهودي، تشقي نفسك وتقتلها فيما ليس لك، فإن ظهر
أحب الفريقين إليك نبذك وغدرك، وإن ظهر أبغضهم إليك نكل بك وقتلك، وقد كان
أبوك أوتر غير قوسه، ورمى غير غرضه، فأكثر الحز وأخطأ المفصل، فخذله قومه،
وأدركه يومه، فمات بحوران طريدا غريبا. والسلام.
فكتب إليه قيس بن سعد:
أما بعد، فإنما أنت وثن ابن وثن، دخلت في الاسلام كرها، وأقمت فيه فرقا،
وخرجت منه طوعا، ولم يجعل الله لك فيه نصيبا، لم يقدم إسلامك، ولم يحدث نفاقك،
ولم تزل حربا لله ولرسوله، وحزبا من أحزاب المشركين، وعدوا لله ولنبيه وللمؤمنين
من عباده - وذكرت أبي، فلعمري ما أوتر إلا قوسه، ولا رمى إلا غرضه، فشغب عليه
من لا يشق غباره، ولا يبلغ كعبه، وزعمت أنى يهودي ابن يهودي، وقد علمت
وعلم الناس أنى وأبى أعداء الدين الذي خرجت منه، وأنصار الدين الذي دخلت فيه،
وصرت إليه. والسلام.
فلما قرأ معاوية كتابه غاظه، وأراد إجابته، فقال له عمرو: مهلا، فإنك إن كاتبته
أجابك بأشد من هذا، وإن تركته دخل فيما دخل فيه الناس. فأمسك عنه.
قال: وبعث معاوية عبد الله بن عامر وعبد الرحمن بن سمرة إلى الحسن للصلح، فدعواه
43

إليه، فزهداه في الامر، وأعطياه ما شرط له معاوية، وألا يتبع أحد بما مضى،
ولا ينال أحد من شيعة علي بمكروه، ولا يذكر علي إلا بخير، وأشياء شرطها الحسن.
فأجاب إلى ذلك، وانصرف قيس بن سعد فيمن معه إلى الكوفة، وانصرف الحسن
أيضا إليها، وأقبل معاوية قاصدا نحو الكوفة، واجتمع إلى الحسن عليه السلام وجوه
الشيعة وأكابر أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام يلومونه، ويبكون إليه جزعا
مما فعله (1).
قال أبو الفرج: فحدثني محمد بن أحمد بن عبيد، قال: حدثنا الفضل بن الحسن
البصري قال: حدثنا ابن عمرو، قال: حدثنا مكي بن إبراهيم، قال: حدثنا السرى
بن إسماعيل، عن الشعبي، عن سفيان بن أبي ليلى. قال أبو الفرج: وحدثني
به أيضا
محمد بن الحسين الأشنانداني، وعلي بن العباس المقانعي (2)، عن عباد بن يعقوب، عن
عمرو بن ثابت، عن الحسن بن الحكم، عن عدي بن ثابت، عن سفيان بن أبي ليلى،
قال: أتيت الحسن بن علي حين بايع معاوية، فوجدته بفناء داره، وعنده رهط، فقلت:
السلام عليك يا مذل المؤمنين، قال: وعليك السلام يا سفيان، ونزلت فعقلت راحلتي،
ثم أتيته فجلست إليه، فقال: كيف قلت يا سفيان؟ قلت: السلام عليك يا مذل
المؤمنين! فقال: لم جرى هذا منك إلينا؟ قلت: أنت والله بأبي وأمي أذللت رقابنا
حيث أعطيت هذا الطاغية البيعة، وسلمت الامر إلى اللعين ابن آكلة الأكباد، ومعك
مائة ألف كلهم يموت دونك، فقد جمع الله عليك أمر الناس. فقال: يا سفيان، إنا أهل
بيت إذا علمنا الحق تمسكنا به، وإني سمعت عليا يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله
يقول: " لا تذهب الليالي والأيام حتى يجتمع أمر هذه الأمة على رجل واسع السرم (3)

(1) مقاتل الطالبيين 64 - 67.
(2) ب: " المفاقعي " تحريف.
(3) في ب " السر ".
44

ضخم البلعوم، يأكل ولا يشبع، لا ينظر الله إليه، ولا يموت حتى لا يكون له في السماء
عاذر، ولا في الأرض ناصر "، وأنه لمعاوية، وإني عرفت أن الله بالغ أمره.
ثم أذن المؤذن، فقمنا على حالب نحلب ناقته، فتناول الاناء، فشرب قائما، ثم
سقاني، وخرجنا نمشي إلى المسجد، فقال لي: ما جاء بك يا سفيان؟ قلت حبكم
والذي بعث محمدا بالهدى ودين الحق! قال: فأبشر يا سفيان، فإني سمعت عليا يقول:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: يرد علي الحوض أهل بيتي ومن أحبهم
من أمتي كهاتين - يعنى السبابتين، أو كهاتين يعنى السبابة والوسطى - إحداهما تفضل
على الأخرى، أبشر يا سفيان، فإن الدنيا تسع البر والفاجر، حتى يبعث الله إمام الحق
من آل محمد صلى الله عليه وآله (1).
قلت: قوله: " ولا في الأرض ناصر "، أي ناصر ديني، أي لا يمكن أحدا أن ينتصر
له بتأويل ديني يتكلف به عذرا لأفعاله القبيحة.
فإن قلت: قوله: " وإنه لمعاوية " من الحديث المرفوع، أو من كلام علي عليه السلام، أو من كلام الحسن عليه السلام؟ قلت: الظاهر أنه من كلام الحسن عليه السلام، فإنه
قد غلب على ظنه أن معاوية صاحب هذه الصفات، وإن كان القسمان الأولان
غير ممتنعين.
فإن قلت: فمن هو إمام الحق من آل محمد؟ قلت: أما الامامية فتزعم أنه صاحبهم
الذي يعتقدون أنه الان حي في الأرض، وأما أصحابنا فيزعمون أنه فاطمي يخلقه الله
في آخر الزمان.

(1) مقاتل الطالبيين 67 - 68.
45

قال أبو الفرج: وسار معاوية حتى نزل النخيلة، وجمع الناس بها فخطبهم قبل أن
يدخل الكوفة خطبة طويلة لم ينقلها أحد من الرواة تامة، وجاءت منقطعة في الحديث،
وسنذكر ما انتهى إلينا منها (1).
فأما الشعبي فإنه روى أنه قال في الخطبة: ما اختلف (2) أمر أمة بعد نبيها إلا
وظهر أهل باطلها على أهل حقها، ثم انتبه فندم فقال: إلا هذه الأمة فإنها وإنها...
وأما أبو إسحاق السبيعي فقال: إن معاوية قال في خطبته بالنخيلة: ألا إن كل شئ
أعطيته الحسن بن علي تحت قدمي هاتين لا أفي به.
قال أبو إسحاق: وكان والله غدارا.
وروى الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن سويد، قال: صلى بنا معاوية
بالنخيلة الجمعة، ثم خطبنا فقال: والله إني ما قاتلتكم لتصلوا، ولا لتصوموا، ولا لتحجوا
ولا لتزكوا، إنكم لتفعلون ذلك، وإنما قاتلتكم لأتأمر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك
وأنتم كارهون.
قال: وكان عبد الرحمن بن شريك إذا حدث بذلك، يقول: هذا والله
هو التهتك.
قال أبو الفرج: وحدثني أبو عبيد محمد بن أحمد، قال: حدثني الفضل بن الحسن
البصري، قال: حدثني يحيى بن معين قال: حدثني أبو حفص اللبان (3)، عن عبد الرحمن
بن شريك، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن حبيب بن أبي ثابت، قال: خطب معاوية
بالكوفة حين دخلها، والحسن والحسين عليهما السلام جالسان تحت المنبر، فذكر عليا عليه

(1) مقاتل الطالبيين: " من ذلك ".
(2) مقاتل الطالبيين: " ما اختلفت أمة ".
(3) في د " الأبار ".
46

السلام فنال منه، ثم نال من الحسن، فقام الحسين عليه السلام ليرد عليه، فأخذه الحسن
بيده فأجلسه، ثم قام فقال: أيها الذاكر عليا، أنا الحسن، وأبي علي، وأنت معاوية
وأبوك صخر، وأمي فاطمة وأمك هند، وجدي رسول الله وجدك عتبة بن ربيعة،
وجدتي خديجة وجدتك قتيلة، فلعن الله أخملنا ذكرا، وألأمنا حسبا، وشرنا قديما وحديثا،
وأقدمنا كفرا ونفاقا! فقال طوائف من أهل المسجد: آمين.
قال الفضل: قال يحيى بن معين: وأنا أقول: آمين.
قال أبو الفرج: قال أبو عبيد: قال الفضل: وأنا أقول، " آمين "، ويقول علي بن
الحسين الأصفهاني (1): آمين.
قلت: ويقول عبد الحميد بن أبي الحديد مصنف هذا الكتاب: آمين.
قال أبو الفرج: ودخل معاوية الكوفة بعد فراغه من خطبته بالنخيلة وبين يديه خالد
ابن عرفطة، ومعه حبيب بن حماد يحمل رايته، فلما صار بالكوفة دخل المسجد من باب
الفيل، واجتمع الناس إليه.
قال أبو الفرج: فحدثني أبو عبيد الصيرفي وأحمد بن عبيد الله بن عمار، عن
محمد بن علي بن خلف، عن محمد بن عمرو الرازي، عن مالك بن سعيد، عن محمد بن عبد الله
الليثي، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، قال: بينما علي بن أبي طالب عليه السلام على
منبر الكوفة، إذ دخل رجل فقال: يا أمير المؤمنين، مات خالد بن عرفطة، فقال:
لا والله [ما] (2) مات ولا يموت حتى يدخل من باب المسجد، وأشار إلى باب الفيل،
ومعه راية ضلالة يحملها حبيب بن حماد.
قال: فوثب رجل فقال: يا أمير المؤمنين، أنا حبيب بن حماد، وأنا لك شيعة، فقال:

(1) مقاتل الطالبيين 70.
(2) تكملة من " د ".
47

فإنه كما أقول: فوالله لقد قدم خالد بن عرفطة على مقدمة معاوية يحمل رايته حبيب
ابن حماد (1).
قال أبو الفرج: وقال مالك بن سعيد، وحدثني الأعمش بهذا الحديث، قال:
حدثني صاحب هذه الدار - وأشار إلى دار السائب أبى عطاء - أنه سمع عليا عليه السلام
يقول هذا (2).
قال أبو الفرج: فلما تم الصلح بين الحسن ومعاوية أرسل إلى قيس بن سعد يدعوه إلى
البيعة، فجاءه - وكان رجلا طوالا يركب الفرس المشرف ورجلاه تخطان في الأرض، وما
في وجهه طاقة شعر، وكان يسمى خصي الأنصار. فلما أرادوا إدخاله إليه قال: إني حلفت
ألا ألقاه إلا وبيني وبينه الرمح أو السيف، فأمر معاوية برمح وسيف فوضعا بينه وبينه
ليبر يمينه (3).
قال أبو الفرج: وقد روي أن الحسن لما صالح معاوية اعتزل قيس بن سعد في
أربعة آلاف فارس فأبى (4) أن يبايع، فلما بايع الحسن أدخل قيس ليبايع، فأقبل على
الحسن، فقال: أ في حل أنا من بيعتك؟ فقال: نعم، فألقى له كرسي، وجلس معاوية
على سرير والحسن معه، فقال له معاوية: أ تبايع يا قيس؟ قال: نعم، ووضع يده على
فخذه، ولم يمدها إلى معاوية، فجاء معاوية من سريره (5)، وأكب على قيس حتى مسح
يده على يده وما رفع إليه قيس يده.

(1) مقاتل الطالبيين: " حبيب بن عمار ".
(2) مقاتل الطالبيين 70، 71، وهناك: " يقول هذه المقالة ".
(3) ابن أبي الحديد 71، 72.
(4) د: " وأبي ".
(5) في " د ": " فجثا معاوية على سريره "، وكذا في مقاتل الطالبيين.
(6) مقاتل الطالبيين 72.
48

قال أبو الفرج: ثم أن معاوية أمر الحسن أن يخطب، فظن أنه سيحصر، فقام
فخطب، فقال في خطبته (1): إنما الخليفة من سار بكتاب الله وسنة نبيه، وليس الخليفة
من سار بالجور، ذاك رجل ملك ملكا تمتع به قليلا، ثم تنخمه، تنقطع لذته، وتبقى
تبعته (وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين) (2). قال: وانصرف الحسن
إلى المدينة فأقام بها، وأراد معاوية البيعة لابنه يزيد، فلم يكن عليه شئ أثقل من أمر
الحسن بن علي وسعد بن أبي وقاص، فدس إليهما سما فماتا منه.
قال أبو الفرج: فحدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار، عن عيسى بن مهران، عن
عبيد بن الصباح الخراز، عن جرير، عن مغيرة، قال: أرسل معاوية إلى بنت الأشعث
ابن قيس - وهي تحت الحسن - فقال لها: إني مزوجك يزيد ابني على أن تسمي الحسن (3)،
وبعث إليها بمائة ألف درهم، ففعلت، وسمت الحسن، فسوغها المال ولم يزوجها منه،
فخلف عليها رجل من آل طلحة، فأولدها، فكان إذا وقع بينهم وبين بطون قريش كلام
عيروهم، وقالوا: يا بني مسمة الأزواج (4).
قال: حدثني أحمد، قال: حدثني يحيى بن بكير، عن شعبه، عن أبي بكر بن
حفص، قال: توفى الحسن بن علي وسعد بن أبي وقاص في أيام متقاربة،
وذلك بعد ما مضى من ولاية إمارة معاوية عشر سنين، وكانوا يروون أنه سقاهما
السم (5).
قال أبو الفرج: وحدثني أحمد بن عون، عن عمران بن إسحاق، قال: كنت مع
الحسن والحسين عليهما السلام في الدار، فدخل الحسن المخرج، ثم خرج، فقال: لقد
سقيت السم مرارا، ما سقيت مثل هذه المرة، لقد لفظت قطعة من كبدي فجعلت

(1) ب: " الخطبة "، وأثبت ما في أ، د.
(2) سورة الأنبياء 111.
(3) مقاتل الطالبيين " ابن علي ".
(4) مقاتل الطالبيين 73.
(5) مقاتل الطالبيين 73: " سقاهما سما ".
49

أقلبها بعود معي. فقال الحسين: ومن سقاك؟ قال: وما تريد منه؟ أ تريد أن تقتله!
إن يكن هو هو، فالله أشد نقمة منك، وإن لم يكن هو فما أحب أن يؤخذ
بي برئ (1).
قال أبو الفرج: دفن الحسن عليه السلام في قبر فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه
وآله في البقيع، وقد كان أوصى أن يدفن مع النبي صلى الله عليه وآله، فمنع مروان بن
الحكم من ذلك، وركبت بنو أمية في السلاح، وجعل مروان يقول:
* يا رب هيجا هي خير من دعة (2) *
يدفن عثمان في البقيع، ويدفن الحسن في بيت النبي صلى الله عليه وسلم!
والله لا يكون ذلك أبدا وأنا أحمل السيف، وكادت الفتنة تقع، وأبى الحسين
عليه السلام أن يدفنه إلا مع النبي صلى الله عليه وآله، فقال له عبد الله بن جعفر:
عزمت عليك يا أبا عبد الله بحقي ألا تكلم بكلمة! فمضوا به إلى البقيع، وانصرف
مروان (3).
قال أبو الفرج: وقد روى الزبير بن بكار أن الحسن عليه السلام أرسل إلى عائشة
أن تأذن له أن يدفن مع النبي صلى الله عليه وآله، فقالت: نعم، فلما سمعت بنو أمية
بذلك استلأموا في السلاح، وتنادوا هم وبنو هاشم في القتال، فبلغ ذلك الحسن، فأرسل
إلى بني هاشم: أما إذا كان هذا فلا حاجة لي فيه، ادفنوني إلى جنب أمي فدفن، إلى جنب
فاطمة عليها السلام (4).
قال أبو الفرج: فأما يحيى بن الحسن صاحب كتاب " النسب " فإنه روى أن عائشة

(1) مقاتل الطالبيين 74.
(2) مطلع أرجوزة للبيد، الأغاني 16: 22 - ساسي.
(3) مقاتل الطالبيين 74.
(4) مقاتل الطالبيين 75.
50

ركبت ذلك اليوم بغلا واستنفرت بنو أمية مروان بن الحكم ومن كان هناك منهم
ومن حشمهم وهو قول القائل:
* فيوما على بغل ويوما على جمل (1) *
قلت: وليس في رواية يحيى بن الحسن ما يؤخذ على عائشة لأنه لم يرو أنها استنفرت
الناس لما ركبت البغل، وإنما المستنفرون هم بنو أمية، ويجوز أن تكون عائشة ركبت
لتسكين الفتنة، لا سيما وقد روي عنها أنه لما طلب منها الدفن قالت: نعم، فهذه الحال
والقصة منقبة من مناقب عائشة.
قال أبو الفرج: وقال جويرية بن أسماء: لما مات الحسن وأخرجوا جنازته جاء مروان
حتى دخل تحته فحمل سريره، فقال له الحسين عليه السلام: تحمل اليوم سريره وبالأمس
كنت تجرعه الغيظ! قال مروان: كنت أفعل ذلك بمن يوازن حلمه الجبال.
قال: وقدم الحسين عليه السلام للصلاة عليه سعيد بن العاص، وهو يومئذ أمير المدينة،
وقال: تقدم فلو لا أنها سنة لما قدمتك (3).
قال: قيل لأبي إسحاق السبيعي: متى ذل الناس؟ فقال: حين مات الحسن،
وادعي زياد، وقتل حجر بن عدي (3).
قال: اختلف الناس في سن الحسن عليه السلام وقت وفاته، فقيل: ابن ثمان وأربعين
- وهو المروي عن جعفر بن محمد عليه السلام في رواية هشام بن سالم - وقيل: ابن ست
وأربعين، وهو المروي أيضا عن جعفر بن محمد عليه السلام في رواية أبي بصير.

(1) مقاتل الطالبيين 74.
(2) د: " يوازي "، وهو وجه أيضا.
(3) مقاتل الطالبيين 76.
51

قال: وفي الحسن عليه السلام يقول سليمان بن قتة يرثيه، وكان محبا له:
يا كذب الله من نعى حسنا * ليس لتكذيب نعيه ثمن (1)
كنت خليلي وكنت خالصتي * لكل حي من أهله سكن
أجول في الدار لا أراك وفي * الدار أناس جوارهم غبن
بدلتهم منك ليت أنهم * أضحوا وبيني وبينهم عدن
ثم نرجع إلى تفسير ألفاظ الفصل.
أما قوله: " كتبها إليه بحاضرين "، فالذي كنا نقرؤه قديما، " كتبها إليه بالحاضرين "
على صيغة التثنية، يعنى حاضر حلب وحاضر قنسرين، وهي الأرباض والضواحي المحيطة
بهذه البلاد، ثم قرأناه بعد ذلك على جماعة من الشيوخ بغير لام، ولم يفسروه، ومنهم
من يذكره بصيغة الجمع لا بصيغة التثنية، ومنهم من يقول بخناصرين، يظنونه تثنية
خناصرة أو جمعها، وقد طلبت هذه الكلمة في الكتب المصنفة، سيما في البلاد
[والأرضين (2)] فلم أجدها، ولعلي أظفر بها فيما بعد فألحقها في هذا الموضع.
قوله: " من الوالد الفان "، حذف الياء ها هنا للازدواج بين " الفان " و " الزمان "،
ولأنه وقف، وفي الوقف على المنقوص يجوز مع اللام حذف الياء وإثباتها، والاثبات هو
الوجه، ومع عدم اللام يجوز الأمران وإسقاط الياء هو الوجه.
قوله: " المقر للزمان "، أي المقر له بالغلبة، كأنه جعل نفسه فيما مضى خصما للزمان
بالقهر.
قوله: " المدبر العمر "، لأنه كان قد جاوز الستين، ولم يبق بعد مجاوزة الستين
إلا إدبار العمر، لأنها نصف العمر الطبيعي الذي قل أن يبلغه أحد، فعلى تقدير أنه

(1) مقاتل الطالبيين 77، الإمامة والسياسة 1: 144.
(2) من أ.
52

يبلغه، فكل ما بعد الستين أقل مما مضى فلا جرم يكون العمر قد أدبر.
قوله: " المستسلم للدهر "، هذا آكد من قوله: " المقر للزمان " لأنه قد يقر الانسان
لخصمه ولا يستسلم.
قوله: " الذام للدنيا " هذا وصف لم يستحدثه عند الكبر، بل لم يزل عليه، ولكن
يجوز أن يزيد ذمه لها، لان الشيخ تنقص قواه التي يستعين بها على الدنيا والدين جميعا،
ولا يزال يتأفف من الدنيا.
قوله: " الساكن مساكن الموتى "، إشعار بأنه سيموت، وهذا من قوله تعالى: (وسكنتم
في مساكن الذين ظلموا أنفسهم) (1).
قوله: " الظاعن عنها غدا "، لا يريد الغد بعينه، بل يريد قرب الرحيل والظعن.
وهذا الكلام من أمير المؤمنين عليه السلام كلام من قد أيقن بالفراق، ولا ريب
في ظهور الاستكانة والخضوع عليه، ويدل أيضا على كرب وضيق عطن، لكونه
لم يبلغ أربه من حرب أهل الشام، وانعكس ما قدره بتخاذل أصحابه عنه، ونفوذ حكم
عمرو بن العاص فيه لحمق أبى موسى وغباوته وانحرافه أيضا.
قوله: " إلى المولود "، هذه اللفظة بإزاء " الوالد ".
قوله: " المؤمل ما لا يدرك "، لو قال قائل: إنه كنى بذلك عن أنه لا ينال الخلافة بعد
موتى وإن كان مؤملا لها لم يبعد، ويكون ذلك إخبارا عن غيب، ولكن الأظهر أنه لم
يرد ذلك، وإنما أراد جنس البشر لا خصوص الحسن، وكذلك سائر الأوصاف التي تلي
هذه اللفظة لا تخص الحسن عليه السلام بعينه، بل هي وإن كانت له في الظاهر بل هي للناس
كلهم في الحقيقة، أ لا ترى إلى قوله بعدها: " السالك سبيل من قد هلك "، فإن كل
واحد من الناس يؤمل أمورا لا يدركها، وكل واحد من الناس سالك سبيل من هلك قبله

(1) سورة إبراهيم: 45.
53

قوله عليه السلام: " غرض الأسقام " لان الانسان كالهدف لآفات الدنيا وأعراضها.
قوله عليه السلام: " ورهينة الأيام " الرهينة هاهنا: المهزول يقال: إنه لرهن وإنه
لرهينة إذا كان مهزولا بالياء قال الراجز:
أما ترى جسمي خلاء قد رهن * هزلا وما مجد الرجال في السمن (1)
ويجوز أن يريد بالرهينة واحدة الرهائن، يقال للأسير أو للزمن أو للعاجز عند الرحيل:
انه لرهينة، وذلك لان الرهائن محتبسة عند مرتهنها.
قوله: " ورمية المصائب "، الرمية ما يرمى.
قوله: " وعبد الدنيا، وتاجر الغرور، وغريم المنايا "، لان الانسان طوع شهواته، فهو
عبد الدنيا، وحركاته فيها مبنية على غرور لا أصل له، فهو تاجر الغرور لا محالة، ولما كانت
المنايا تطالبه بالرحيل عن هذه الدار كانت غريما له يقتضيه ما لا بد له من أدائه.
قوله: " وأسير الموت، وحليف الهموم، وقرين الأحزان، ونصب الآفات، وسريع
الشهوات "، لما كان الانسان مع الموت، كما قال طرفة:
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى * لكالطول المرخى وثنياه باليد (2)
كان أسيرا له لا محالة، ولما كان لا بد لكل إنسان من الهم كان حليف الهموم،
وكذلك لا يخلو ولا ينفك من الحزن، فكان قرينا له، ولما كان معرضا للآفات كان نصبا
لها، ولما كان إنما يهلك بشهواته كان صريعا لها.
قوله: " وخليفة الأموات " قد أخذه من قال: إن امرأ ليس بينه وبين آدم إلا أب
ميت، لمعرق في الموت.
واعلم أنه عد من صفات نفسه سبعا، وعد من صفات ولده أربع عشرة صفة، فجعل

(1) الصحاح 2128 من غير نسبة.
(2) من المعلقة بشرح التبريزي 86. الطول: الحبل، وثنياه: ما ثني منه.
(3) أ: " صريعها ".
54

بإزاء كل واحدة مما له اثنتين، فليلمح ذلك.
[بعض ما قيل من الشعر في الدهر وفعله بالانسان]
ومن جيد مانعي به شاعر نفسه، ووصف ما نقص الدهر من قواه، قول عوف بن محلم
الشيباني في عبد الله بن طاهر أمير خراسان:
يا بن الذي دان له المشرقان * وألبس الامن به المغربان (1)
أن الثمانين وبلغتها * قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
وبدلتني بالشطاط انحنا * وكنت كالصعدة تحت السنان (2)
وقاربت مني خطا لم تكن * مقاربات وثنت من عنان
وعوضتني من زماع الفتى * وهمه هم الجبان الهدان (3)
وأنشأت بيني وبين الورى * عنانة من غير نسج العنان (4)
ولم تدع في لمستمتع * إلا لساني وكفاني لسان (5)
أدعو به الله وأثني به * على الأمير المصعبي الهجان (6)

(1) أمالي القالي 1: 50، وروايته:
* طرا وقد دان له المغربان *
(2) الشطاط: حسن القوام والاعتدال. والصعدة: القناة المستوية تنبت كذلك لا تحتاج إلى تثقيف.
(3) الزماع: المضاء في الامر والعزم عليه. والهدان: الأحمق الجافي.
(4) العنان هنا: السحاب: يشير بهذا إلى ضعف بصره. وأنه لا يرى الورى إلا من وراء سحابة.
(5) الأمالي: " وبحسبي لسان ".
(6) الهجان. الكريم، وبعده في الأمالي:
فقرباني بأبي أنتما * من وطني قبل اصفرار البنان
وقبل منعاي إلى نسوة * أوطانها حران والرقتان
55

ومن الشعر القديم الجيد في هذا المعنى قول سالم بن عونة الضبي:
لا يبعدن عصر الشباب ولا * لذاته ونباته النضر
والمشرفات من الخدور كإيماض * الغمام يجوز بالقطر
وطراد خيل مثلها التقتا * لحفيظة ومقاعد الخمر
لولا أولئك ما حلفت متى * عوليت في خرج إلى قبري
هربت زبيبة أن رأت ثرمي (1) * وأن انحنى لتقادم ظهري
من بعد ما عهدت فأدلفني * يوم يمر وليلة تسري
حتى كأني خاتل قنصا (2) * والمرء بعد تمامه يجري
لا تهزئي منى زبيب فما * في ذاك من عجب ولا سخر
أو لم ترى لقمان أهلكه * ما اقتات من سنة ومن شهر
وبقاء نسر كلما انقرضت * أيامه عادت إلى نسر
ما طال من أمد على لبد * رجعت محارته إلى قصر
ولقد حلبت الدهر أشطره * وعلمت ما آتي من الامر
أنا أستفصح قوله: " ما اقتات من سنة ومن شهر " جعل الزمان كالقوت له، ومن
اقتات الشئ فقد أكله، والاكل سبب المرض، والمرض سبب الهلاك.

(1) الثرم: انكسار السن.
(2) المخاتلة: مشي الصياد قليلا قليلا في خفية لئلا يسمع حسه.
(3) في اللسان: " تزعم العرب أن لقمان هو الذي بعثته عاد في وفدها إلى الحرم يستسقي لها، فلما
أهلكوا خير لقمان بين بقاء سبع بقرات سمر، من أطب عفر، في جبل وعر، لا يمسها القطر أو بقاء
سبعة أنسر كلما هلك نسر خلف بعده نسر، فاختار النسور، فكان آخر نسوره يسمى لبدا، وقد ذكرته
الشعراء، قال النابغة:
أضحت خلاء وأضحى أهلها احتملوا * أخنى عليها الذي أخنى على لبد
56

الأصل:
أما بعد، فإن فيما تبينت من إدبار الدنيا عني، وجموح الدهر علي، وإقبال
الآخرة إلي، ما يزعني عن ذكر من سواي، والاهتمام بما ورائي، غير أني
حيث تفرد بي دون هموم الناس هم نفسي - فصدقني رأيي، وصرفني عن
هواي، وصرح لي محض أمري، فأفضى بي إلى جد لا يكون فيه لعب،
وصدق لا يشوبه كذب - وجدتك بعضي، بل وجدتك كلي، حتى كأن
شيئا لو أصابك أصابني، وكأن الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك
ما يعنيني من أمر نفسي، فكتبت إليك كتابي هذا مستظهرا به إن أنا بقيت لك
أو فنيت.
الشرح:
يزعني: يكفني ويصدني، وزعت فلانا، ولا بد للناس من وزعة.
وسوى، لفظة تقصر إذا كسرت سينها، وتمد إذا فتحتها، وهي هاهنا بمعنى غير،
ومن قبلها بمعنى شئ منكر، كقوله:
رب من أنضجت غيظا قلبه (1) *
والتقدير: غير ذكر إنسان سواي، ويجوز أن تكون " من " موصولة، وقد حذف
أحد جزأي الصلة، والتقدير عن ذكر الذي هو غيري، كما قالوا في: (لننزعن من كل
شيعة أيهم أشد)، أي هو أشد. يقول عليه السلام: إن فيما قد بان لي من تنكر الوقت
وإدبار الدنيا، وإقبال الآخرة شاغلا لي عن الاهتمام بأحد غيري، والاهتمام والفكر
في أمر الولد وغيره ممن أخلفه ورائي.

(1) بقيته:
* تمنى لي موتا لم يطع *
والبيت لسويد بن أبي كاهل اليشكري. المفضليات 198.
57

عاد ثم عاد فقال: ألا أن همي بنفسي يقتضي اهتمامي بك، لأنك بعضي بل كلي، فإن كان
اهتمامي بنفسي يصرفني عن غيري لم تكن أنت داخلا في جملة من يصرفني همي بنفسي
عنهم لأنك لست غيري.
فإن قلت: أ فهذا الهم حدث لأمير المؤمنين عليه السلام الان، أو من قبل لم يكن عالما
بأن الدنيا مدبرة والآخرة مقبلة؟
قلت: كلا بل لم يزل عالما عارفا بذلك، ولكنه الان تأكد وقوي بطريق
علو السن وضعف القوى، وهذا أمر يحصل للانسان على سبيل الايجاب، لا بد من حصوله
لكل أحد، وإن كان عالما بالحال من قبل، ولكن ليس العيان كالخبر.
ومن مستحسن ما قيل في هذا المعنى قول أبي إسحاق الصابئ:
أقيك الردى إني تنبهت من كرى * وسهو على طول المدى اعترياني
فأثبت شخصا دانيا كان خافيا * على البعد حتى صار نصب عياني
هو الاجل المحتوم لي جد جده * وكان يريني غفلة المتواني
له نذر قد آذنتني بهجمة * له لست منها آخذا بأمان
ولا بد منه ممهلا أو معاجلا * سيأتي فلا يثنيه عني ثان
وأول هذه القصيدة وهو داخل له في هذا المعنى أيضا:
إذا ما تعدت بي وسارت محفة * لها أرجل يسعى بها رجلان
وما كنت من فرسانها غير أنها * وفت لي لما خانت القدمان
نزلت إليها عن سراة حصاني * بحكم مشيب أو فراش حصان (1)
فقد حملت مني ابن سبعين سالكا * سبيلا عليها يسلك الثقلان

(1) د: " بحلم ".
58

كما حمل المهد الصبي وقبلها * ذعرت أسود الغيل بالنزوان (1)
ولي بعدها أخرى تسمى جنازة (2) * جنيبة يوم للمنية دان
تسير على أقدام أربعة إلى * ديار البلى معدودهن ثمان
وإني على عيث الردى في جوارحي * وما كف من خطوي وبطش بناني
وإن لم يدع إلا فؤادا مروعا * به غير باق من الحدثان (3)
تلوم تحت الحجب ينفث حكمه * إلى أذن تصغي لنطق لسان (4)
لأعلم أني ميت عاق دفنه * ذماء قليل في غد هو فان
وإن فما للأرض غرثان حائما * يراصد من أكلي حضور أوان
به شرة عم الورى بفجائع * تركن فلانا ثاكلا لفلان
غدا فاغرا يشكو الطوى وهو راتع * فما تلتقي يوما له الشفتان
إذا عاضنا بالنسل ممن نعوله * تلا أولا منه بمهلك ثان
إلى ذات يوم لا ترى الأرض وارثا * سوى الله من أنس تراه وجان
قوله: " تفرد بي دون هموم الناس هم نفسي " أي دون الهموم التي قد كانت تعتريني
لأجل أحوال الناس.
فصدقني رأيي، يقال: صدقته كذا أي عن كذا، وفي المثل: " صدقني سن بكره "
لأنه لما نفر قال له: هدع (5)، وهي كلمة تسكن بها صغار الإبل إذا نفرت، والمعنى أن هذا
الهم صدقني عن الصفة التي يجب أن يكون رأيي عليها وتلك الصفة هي ألا يفكر في

(1) الغيل: الشجر الكثيف الملتف.
(2) الجنازة بالكسر: ما يحمل عليه الميت.
(3) الحدثان: غير الدهر ونوائبه.
(4) تلوم: أي انتظر.
(5) في اللسان: " هدع هدع، بكسر الهاء وفتح الدال وتسكين العين: كلمة يسكن بها صغار الإبل.
عند النفار، ولا يقال ذلك لجلتها ولا مسانها، وزعموا أن رجلا أتى السوق ببكر له يبيعه، فساومه رجل.
فقال: بكم البكر؟ فقال: إنه جمل، فقال: هو بكر، فبينما هو يماريه إذ نفر البكر، فقال صاحبه:
هدع هدع، ليسكن نفاره، فقال المشتري: صدقني سن بكره،. إنما يقال: هدع للبكر ليسكن ".
59

أمر شئ من الموجودات أصلا إلا الله تعالى ونفسه، وفوق هذه الطبقة طبقة أخرى جدا
وهي ألا تفكر في شئ قط إلا في الله وحده، وفوق هذه الطبقة طبقة أخرى تجل عن
الذكر والتفسير، ولا تصلح لأحد من المخلوقين إلا النادر الشاذ، وقد ذكرها هو فيما سبق،
وهو ألا يفكر في شئ أصلا لا في المخلوق ولا في الخالق، لأنه قد قارب أن يتحد
بالخالق، ويستغني عن الفكر فيه.
قوله: " وصرفني عن هواي " أي عن هواي وفكري في تدبير الخلافة وسياسة الرعية
والقيام بما يقوم به الأئمة.
قوله عليه السلام: " وصرح لي محض أمري " يروى بنصب " محض " ورفعه، فمن
نصب فتقديره: عن محض أمري، فلما حذف الجار نصب، ومن رفع جعله فاعلا. وصرح:
كشف أو انكشف.
قوله: " فأفضى بي إلى كذا "، ليس بمعنى أنه قد كان من قبل يمازج جده باللعب،
بل المعنى أن همومه الأولى قد كانت بحيث يمكن أن يتخللها وقت راحة أو دعابة لا يخرج
بها عن الحق، كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله يمزح ولا يقول إلا حقا، فالآن قد حدث
عنده هم لا يمكن أن يتخلله من ذلك شئ أصلا، ومدار الفرق بين الحالتين - أعني الأولى
والثانية على إمكان اللعب لا نفس اللعب وما يلزم من قوله: " أفضى لك بي هذا الهم " إلى
انتفاء إمكان اللعب أن تكون همومه الأولى قد كان يمازجها اللعب، ولكن يلزم من
ذلك أنها قد كانت يمكن ذلك فيها إمكانا محضا على أن اللعب غير منكر إذا لم يكن باطلا،
أ لا ترى إلى قول النبي صلى الله عليه وآله: " المؤمن دعب لعب "، وكذلك القول في قوله:
" وصدق لا يشوبه كذب " أي لا يمكن أن يشوبه كذب، وليس المراد بالصدق
والكذب ها هنا مفهومهما المشهورين بل هو من قولهم: صدقونا اللقاء، ومن قولهم: حمل
عليهم فما كذب! قال زهير:
60

ليث بعثر يصطاد الليوث إذا * ما كذب الليث عن أقرانه صدقا
أي أفضى بي هذا الهم إلى أن صدقتني الدنيا حربها، كأنه جعل نفسه محاربا للدنيا،
أي صدقتني الدنيا حربها ولم تكذب، أي لم تجبن ولم تخن.
أخبر عن شدة اتحاد ولده به، فقال وجدتك بعضي، قال الشاعر:
وإنما أولادنا بيننا * أكبادنا تمشي على الأرض
لو هبت الريح على بعضهم * لامتنعت عيني من الغمض
وغضب معاوية على ابنه يزيد، فهجره، فاستعطفه له الأحنف، قال له: يا أمير المؤمنين،
أولادنا ثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا، ونحن لهم سماء ظليلة، وأرض ذليلة، فإن غضبوا
فأرضهم، وإن سألوا فأعطهم، فلا تكن عليهم قفلا فيملوا حياتك، ويتمنوا موتك.
وقيل لابنة الخس (2): أي ولديك أحب إليك؟ قالت: الصغير حتى يكبر، والمريض
حتى يبرأ، والغائب حتى يقدم.
غضب الطرماح على امرأته فشفع فيها ولده منها صمصام، وهو غلام لم يبلغ عشرا،
فقال الطرماح:
أصمصام إن تشفع لأمك تلقها * لها شافع في الصدر لم يتزحزح (3)
هل الحب إلا أنها لو تعرضت * لذبحك يا صمصام قلت لها اذبحي
أحاذر يا صمصام إن مت أن يلي * تراثي وإياك امرؤ غير مصلح
إذا صك وسط القوم رأسك صكة * يقول له الناهي ملكت فأسجح
وفي الحديث المرفوع: " إن ريح الولد من ريح الجنة ".

(1) ديوانه 54: وكذب، أي لم يصدق الحملة. وعثر: قبل تبالة.
(2) ب: " الحسن " تحريف، صوابه من أ، د.
(3) ديوانه 136، وفيه: " لم يتبرج ".
61

وفي الحديث الصحيح أنه قال لحسن وحسين عليهما السلام: " إنكم لتجبنون،
وإنكم لتبخلون، وإنكم لمن ريحان الله ".
ومن ترقيص الاعراب قول أعرابية لولدها:
يا حبذا ريح الولد * ريح الخزامي في البلد
أ هكذا كل ولد * أم لم يلد قبلي أحد!
وفي الحديث المرفوع: " من كان له
صبي فليستصب له ".
وأنشد الرياشي:
من سره الدهر أن يرى الكبدا * يمشي على الأرض فلير الولدا
الأصل:
فإني أوصيك بتقوى الله - أي بني - ولزوم أمره، وعمارة قلبك بذكره،
والاعتصام بحبله، وأي سبب أوثق من سبب بينك وبين الله، إن أنت
أخذت به!
أحي قلبك بالموعظة، وأمته بالزهادة، وقوه باليقين، ونوره بالحكمة،
وذلله بذكر الموت، وقرره بالفناء، وبصره فجائع الدنيا، وحذره صولة الدهر
وفحش تقلب الليالي والأيام، وأعرض عليه أخبار الماضين، وذكره بما أصاب
من كان قبلك من الأولين.
وسر في ديارهم وآثارهم، فانظر فيما فعلوا، وعما انتقلوا، وأين حلوا ونزلوا!
فإنك تجدهم انتقلوا عن الأحبة، وحلوا دار الغربة، وكأنك عن قليل قد
صرت كأحدهم.
62

فأصلح مثواك، ولا تبع آخرتك بدنياك، ودع القول فيما لا تعرف
والخطاب فيما لم تكلف، وامسك عن طريق إذا خفت ضلالته، فإن الكف
عند حيرة الضلال خير من ركوب الأهوال.
الشرح:
قوله عليه السلام: " وأي سبب أوثق "، إشارة إلى القرآن لأنه هو المعبر عنه بقوله
تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) (1).
ثم أتى بلفظتين متقابلتين، وذلك من لطيف الصنعة، فقال: " أحي قلبك بالموعظة،
وأمته بالزهادة "، والمراد إحياء دواعيه إلى الطاعة وإماتة الشهوات عنه.
قوله عليه السلام: " واعرض عليه أخبار الماضين " معنى قد تداوله الناس،
قال الشاعر:
سل عن الماضين أن نطقت * عنهم الأجداث والترك
أي دار للبلى نزلوا * وسبيل للردى سلكوا
قوله عليه السلام: " ودع القول فيما لا تعرف " من قول رسول الله صلى الله عليه وآله
لعبد الله بن عمرو بن العاص: " يا عبد الله كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس،
مرجت عهودهم وأماناتهم وصار الناس هكذا! " - وشبك بين أصابعه -، قال عبد الله:
فقلت: مرني يا رسول الله، فقال: خذ ما تعرف، ودع ما لا تعرف، وعليك بخويصة
نفسك ".

(1) سورة آل عمران 103.
63

قوله: " والخطاب فيما لم تكلف " من قول رسول الله صلى الله عليه وآله: " من
حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه "، وقال معاوية في عبد الملك بن مروان وهو حينئذ
غلام: إن لهذا الغلام لهمة، وإنه مع ذلك تارك لثلاث آخذ بثلاث: تارك مساءة الصديق
جدا وهزلا، تارك ما لا يعنيه، تارك ما لا يعتذر منه، آخذ بأحسن الحديث إذا حدث،
وبأحسن الاستماع إذا حدث، وبأهون الامرين إذا خولف.
قوله عليه السلام: " وأمسك عن طريق إذا خفت ضلالته "، مأخوذ من قول النبي
صلى الله عليه وآله: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك "، وفي خبر آخر: " إذا رابك أمر
فدعه ".
الأصل:
وأمر بالمعروف تكن من أهله، وأنكر المنكر بيدك ولسانك، وباين
من فعله بجهدك، وجاهد في الله حق جهاده، ولا تأخذك في الله لومة لائم.
وخض الغمرات إلى الحق حيث كان، وتفقه في الدين، وعود نفسك الصبر
على المكروه، ونعم الخلق التصبر في الحق!
وألجئ نفسك في أمورك كلها إلى إلهك، فإنك تلجئها إلى كهف حريز،
ومانع عزيز.
وأخلص في المسألة لربك، فإن بيده العطاء والحرمان، وأكثر الاستخارة،
وتفهم وصيتي، ولا تذهبن عنك صفحا، فإن خير القول ما نفع، واعلم أنه
لا خير في علم لا ينفع، ولا ينتفع بعلم لا يحق تعلمه.
64

الشرح:
أمره أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهما واجبان عندنا، وأحد الأصول الخمسة
التي هي أصول الدين.
ومعنى قوله: " تكن من أهله "، لان أهل المعروف هم الأبرار الصالحون، ويجب
إنكار المنكر باللسان، فإن لم ينجع فباليد، وتفصيل ذلك وترتيبه مذكور في كتبي
الكلامية.
قوله: " وخض الغمرات إلى الحق "، لا شبهة أن الحسن عليه السلام لو تمكن
لخاضها إلا أن من فقد الأنصار لا حيلة له.
* وهل ينهض البازي بغير جناح *
والذي خاضها مع عدم الأنصار هو الحسين عليه السلام، ولهذا عظم عند الناس قدره،
فقدمه قوم كثير على الحسن عليه السلام.
فإن قلت: فما قول أصحابكم في ذلك؟
قلت: هما عندنا في الفضيلة سيان، أما الحسن فلوقوفه مع قوله تعالى: (إلا أن
تتقوا)، وأما الحسين فلإعزاز الدين.
قوله: " فنعم التصبر " قد تقدم منا كلام شاف في الصبر.
وقوله: " وأكثر الاستخارة ": ليس يعنى بها ما يفعله اليوم قوم من الناس من
سطر رقاع وجعلها في بنادق، وإنما المراد أمره إياه بأن يطلب الخيرة من الله فيما يأتي
ويذر.
قوله: " لا خير في علم لا ينفع " قول حق لأنه إذا لم ينفع كان عبثا.
65

قوله: " ولا ينتفع بعلم لا يحق تعلمه "، أي لا يجب ولا يندب إليه، وذلك لان النفع
إنما هو نفع الآخرة، فما لم يكن من العلوم مرغبا فيه إما بإيجاب أو ندب فلا انتفاع به
في الآخرة، وذلك كعلم الهندسة والأرثماطيقي ونحوهما.
الأصل:
أي بني، إني لما رأيتني قد بلغت سنا، ورأيتني أزداد وهنا، بادرت
بوصيتي إليك، وأوردت خصالا منها قبل أن يعجل بي أجلي دون أن أفضي
إليك بما في نفسي، أو أن أنقص في رأيي كما نقصت في جسمي، أو يسبقني إليك
بعض غلبات الهوى وفتن الدنيا، فتكون كالصعب النفور.
وإنما قلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقى فيها من شئ قبلته، فبادرتك
بالأدب قبل أن يقسو قلبك، ويشتغل لبك، لتستقبل بجد رأيك من الامر
ما قد كفاك أهل التجارب بغيته وتجربته، فتكون قد كفيت مئونة الطلب،
وعوفيت من علاج التجربة، فأتاك من ذلك ما قد كنا نأتيه، واستبان لك
ما ربما أظلم علينا منه.
الشرح:
هذه الوصية كتبها عليه السلام للحسن بعد أن تجاوز الستين، وروي أنه ذكر عند
رسول الله صلى الله عليه وآله ما بين الستين والسبعين، فقال: " معترك المنايا ".
قوله عليه السلام: " أو أن أنقص في رأيي "، هذا يدل على بطلان قول من قال:
إنه لا يجوز أن ينقص في رأيه، وأن الامام معصوم عن أمثال ذلك، وكذلك قوله
66

للحسن: " أو يسبقني إليك بعض غلبات الهوى وفتن الدنيا " يدل على أن الامام لا يجب
أن يعصم عن غلبات الهوى، ولا عن فتن الدنيا.
قوله: " فتكون كالصعب النفور "، أي كالبعير الصعب الذي لا يمكن راكبا، وهو
مع ذلك نفور عن الانس.
ثم ذكر أن التعلم إنما هو في الصبا، وفي المثل: " الغلام كالطين يقبل الختم
ما دام رطبا ".
وقال الشاعر:
اختم وطينك رطب ان قدرت فكم * قد أمكن الختم أقواما فما ختموا
ومثل هو عليه السلام قلب الحدث بالأرض الخالية، ما ألقي فيها من شئ قبلته،
وكان يقال: التعلم (1) في الصغر كالنقش في الحجر، والتعلم (2) في الكبر كالخط على الماء.
قوله: " فأتاك من ذلك ما كنا نأتيه " أي الذي كنا نحن نتجشم المشقة في
اكتسابه، ونتكلف طلبه يأتيك أنت الان صفوا عفوا.
الأصل:
أي بني إني وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي، فقد نظرت في أعمالهم،
وفكرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم، حتى عدت كأحدهم، بل كأني بما
انتهى إلى من أمورهم، قد عمرت مع (2) أولهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من
كدره، ونفعه من ضرره، فاستخلصت لك من كل أمر جليله، وتوخيت لك

(1) د: " العلم ".
(2) د " من "
67

جميله، وصرفت عنك مجهوله، ورأيت حيث عناني من أمرك ما يعني الوالد
الشفيق، وأجمعت عليه من أدبك أن يكون ذلك وأنت مقبل العمر ومقتبل
الدهر، ذو نية سليمة، ونفس صافية، وأن أبتدئك بتعليم كتاب الله عز وجل
وتأويله وشرائع الاسلام وأحكامه، وحلاله وحرامه، لا أجاوز ذلك بك
إلى غيره. ثم أشفقت أن يلتبس عليك ما اختلف الناس فيه من أهوائهم
وآرائهم، مثل الذي التبس عليهم، فكان إحكام ذلك على ما كرهت من
تنبيهك له أحب إلي من إسلامك إلى أمر لا آمن عليك فيه (1) الهلكة،
ورجوت أن يوفقك الله فيه لرشدك، وأن يهديك لقصدك، فعهدت إليك
وصيتي هذه.
الشرح:
هذا الفصل وما بعده يشعر بالنهي عن علم الكلام حسب ما يقتضيه ظاهر لفظه،
أ لا تراه قال له: كنت عازما على أن أعلمك القرآن وتفسيره والفقه وهو المعرفة بأحكام
الشريعة، ولا أجاوز ذلك بك إلى غيره، ثم خفت أن تدخل عليك شبهة في أصول الدين
فيلتبس عليك في عقيدتك الأصلية ما التبس على غيرك من الناس، فعدلت عن العزم
الأول إلى أن أوصيك بوصايا تتعلق بأصول الدين.
ومعنى قوله عليه السلام: " وكان (2) إحكام ذلك " إلى قوله: " لا آمن عليك
به الهلكة "، أي فكان إحكامي الأمور الأصلية عندك وتقرير الوصية التي أوصيك بها في
ذهنك فيما رجع إلى النظر في العلوم (3) الإلهية، وإن كنت كارها للخوض [معك] (4)

(1) د " فيه من ".
(2) أ: " فكان ".
(3) د " الأمور ".
(4) من أ.
68

فيه وتنبيهك عليه أحب إلي من أن أتركك سدى مهملا، تتلاعب بك الشبه، وتعتورك
الشكوك في أصول دينك، فربما أفضى ذلك بك إلى الهلكة.
فإن قلت: فلماذا كان كارها تنبيه ولده على ذلك، وأنتم تقولون أن معرفة الله واجبة
على المكلفين، وليس يليق بأمير المؤمنين أن يكره ما أوجبه الله تعالى!
قلت: لعله علم إما من طريق وصية رسول الله صلى الله عليه وآله، أو من طريق
معرفته بما يصلح أن يكون لطفا لولده، ومعرفته بما يكون مفسدة له، لكثرة التجربة له،
وطول الممارسة لأخلاقه وطباعه أن الأصلح له ألا يخوض في علم الكلام الخوض الكلي
وأن يقتنع بالمبادئ والجمل، فمصالح البشر تختلف، فرب إنسان مصلحته في أمر ذلك
الامر بعينه مفسدة لغيره، ونحن وإن أوجبنا المعرفة فلم نوجب منها إلا الأمور المجملة،
وأما التفصيلات الدقيقة الغامضة، فلا تجب إلا عند ورود الشبهة، فإذا لم تقع الشبهة في
نفس المكلف لم يجب عليه الخوض في التفصيلات.
قوله عليه السلام: " قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم " العين مفتوحة والميم مكسورة
مخففة، تقول: عمر الرجل يعمر عمرا وعمرا على غير قياس، لان قياس مصدره التحريك أي
عاش زمانا طويلا، واستعمل في القسم أحدهما فقط، وهو المفتوح.
قوله عليه السلام: " حيث عناني من أمرك " أي أهمني، قال:
* عناني من صدودك ما عنا *
قوله: " وأجمعت عليه " أي عزمت.
ومقتبل الدهر، يقال: اقتبل الغلام فهو مقتبل بالفتح وهو من الشواذ، ومثله أحصن
الرجل إذا تزوج فهو محصن، وإذا عف فمحصن أيضا، وأسهب إذا أطال الحديث فهو
مسهب، وألفج إذا افتقر فهو ملفج، وينبغي أن يكون له من قوله: " تنبيهك له " بمعنى
69

" عليه " أو تكون على أصلها، أي ما كرهت تنبيهك لأجله.
فإن قلت: إلى الان ما فسرت، لماذا كره تنبيهه على هذا الفن؟
قلت: بلى قد أشرت إليه، وهو أنه كره أن يعدل به عن تفسير القرآن وعلم الفقه إلى
الخوض في الأمور الأصولية فنبهه على أمور يجره النظر وتأمل الأدلة والشبهات إليها
دقيقه يخاف على الانسان من الخوض فيها أن تضطرب عقيدته، إلا أنه لم يجد به بدا من
تنبيهه على أصول الديانة، وإن كان كارها لتعريضه لخطر الشبهة، فنبهه على أمور جملية غير
مفصلة، وأمره أن يلزم ذلك ولا يتجاوزه إلى غيره وأن يمسك عما يشتبه عليه، وسيأتي
ذكر ذلك.
الأصل:
واعلم يا بني أن أحب ما أنت آخذ به إلي من وصيتي تقوى الله والاقتصار
على ما فرضه الله عليك، والاخذ بما مضى عليه الأولون من آبائك، والصالحون
من أهل بيتك، فإنهم لم يدعوا أن نظروا لأنفسهم كما أنت ناظر، وفكروا
كما أنت مفكر، ثم ردهم آخر ذلك إلى الاخذ بما عرفوا، والامساك عما
لم يكلفوا، فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا، فليكن
طلبك ذلك بتفهم وتعلم، لا بتورط الشبهات، وعلق الخصومات.
وابدأ قبل نظرك في ذلك بالاستعانة بإلهك، والرغبة إليه في توفيقك، وترك
كل شائبة أولجتك في شبهة، أو أسلمتك إلى ضلالة، فإن أيقنت أن قد صفا قلبك
فخشع، وتم رأيك فاجتمع، وكان همك في ذلك هما واحدا، فانظر فيما فسرت
لك، وإن أنت لم يجتمع لك ما تحب من نفسك، وفراغ نظرك وفكرك،
70

فاعلم أنك إنما تخبط العشواء، وتتورط الظلماء، وليس طالب الدين من خبط أو
خلط، والامساك عن ذلك أمثل.
الشرح
أمره أن يقتصر على القيام بالفرائض، وأن يأخذ بسنة السلف الصالح من آبائه وأهل
بيته، فإنهم لم يقتصروا على التقليد، بل نظروا لأنفسهم، وتأملوا الأدلة، ثم رجعوا آخر
الامر إلى الاخذ بما عرفوا، والامساك عما لم يكلفوا.
فإن قلت: من سلفه هؤلاء الذين أشار إليهم؟
قلت: المهاجرون الأولون من بني هاشم وبني المطلب كحمزة وجعفر والعباس وعبيدة
ابن الحارث، وكأبي طالب في قول الشيعة وكثير من أصحابنا، وكعبد المطلب في قول
الشيعة خاصة.
فإن قلت: فهل يكون أمير المؤمنين عليه السلام نفسه معدودا من جملة هؤلاء!
قلت: لا فإنه لم يكن من أهل المبادئ والجمل المقتصر بهم في تكليفهم العقليات على
أوائل الأدلة، بل كان سيد أهل النظر كافة وإمامهم.
فإن قلت: ما معنى قوله: لم يدعوا أن نظروا لأنفسهم؟
قلت: لأنهم إذا تأملوا الأدلة وفكروا فيها فقد نظروا لأنفسهم كما ينظر الانسان
لنفسه ليخلصها من مضرة عظيمة سبيلها أن تقع به إن لم ينظر في الخلاص منها، وهذا هو
الوجه في وجوب النظر في طريق معرفة الله، والخوف من إهمال النظر.
فإن قلت: ما معنى قوله: " إلى الاخذ بما عرفوا والامساك عما لم يكلفوا "؟
71

قلت: الاخذ بما عرفوا، مثل أدلة (1) حدوث الأجسام وتوحيد البارئ وعدله، والامساك
عما لم يكلفوا، مثل النظر في إثبات الجزء الذي لا يتجزأ ونفيه، ومثل الكلام في الخلا
والملا، والكلام في أن هل بين كل حركتين مستقيمتين سكون أم لا؟ وأمثال ذلك مما لا
يتوقف أصول التوحيد والعدل عليه، فإنه لا يلزم أصحاب الجمل والمبادئ أن يخوضوا في ذلك،
لأنهم لم يكلفوا الخوض فيه، وهو من وظيفة قوم آخرين.
قوله عليه السلام: " فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا "، هذا
الموضع فيه نظر، لأنا قد قلنا: إنهم لم يعلموا التفاصيل الدقيقة، فكيف يجعلهم عالمين بها؟
ويقول: " أن تعلم كما علموا " وينبغي أن يقال: أن الكاف وما عملت فيه في موضع نصب،
لأنه صفة مصدر محذوف، وتقديره فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك علما كما علموا دون أن تعلم
التفاصيل الدقيقة، وجاز انتصاب " علما " والعامل فيه " تقبل " لان القبول من جنس العلم،
لان القبول اعتقاد والعلم اعتقاد، وليس لقائل أن يقول: فإذن يكون قد فصل بين الصفة
والموصوف بأجنبي، لان الفصل بينهما قد جاء كثيرا، قال الشاعر:
جزى الله كفا ملئها من سعادة * سرت في هلاك المال والمال نائم
ويجوز أن يقال: كما علموا الان بعد موتهم، فإنهم بعد الموت يكونون عالمين بجميع ما
يشتبه علمه على الناس في الحياة الدنيا، لان المعارف ضرورية بعد الموت، والنفوس باقية على
قول كثير من المسلمين وغيرهم.
واعلم أن الذي يدعو إلى تكلف هذه التأويلات أن ظاهر الكلام كونه يأمر بتقليد
النبي صلى الله عليه وآله والاخذ بما في القرآن وترك النظر العقلي، هذا هو ظاهر الكلام،
أ لا تراه كيف يقول له: الاقتصار على ما فرضه الله عليك، والاخذ بما مضى عليه أهل

(1) أ: " الأدلة " تحريف.
72

بيتك وسلفك، فإنهم لما حاولوا النظر رجعوا بآخره إلى السمعيات، وتركوا العقليات،
لأنها أفضت بهم إلى ما لا يعرفونه، ولا هو من تكليفهم.
ثم قال له: فإن كرهت التقليد المحض، وأحببت أن تسلك مسلكهم في النظر،
وإن أفضى بك الامر بأخرة إلى تركه والعود إلى المعروف من الشرعيات وما ورد به
الكتاب والسنة، فينبغي أن تنظر وأنت مجتمع الهم خال من الشبهة، وتكون طالبا
للحق غير قاصد إلى الجدل والمراء، فلما وجدنا ظاهر اللفظ يقتضي هذه المعاني، ولم يجز
عندنا أن يأمر أمير المؤمنين عليه السلام ولده (1) مع حكمته وأهلية ولده بالتقليد وترك
النظر، رجعنا إلى تأويل كلامه على وجه يخرج به عليه السلام من أن يأمر بما لا يجوز لمثله
أن يأمر به.
واعلم أنه قد أوصاه إذا هم بالشروع في النظر بمحض ما ذكره المتكلمون،
وذلك أمور:
منها أن يرغب إلى الله في توفيقه وتسديده.
ومنها أن يطلب المطلوب النظري بتفهم وتعلم، لا بجدال ومغالبة ومراء ومخاصمة.
ومنها إطراح العصبية لمذهب بعينه، والتورط في الشبهات التي يحاول بها نصرة
ذلك المذهب.
ومنها ترك الألف والعادة، ونصرة أمر يطلب به الرياسة، وهو المعني بالشوائب
التي تولج في الضلال.
ومنها أن يكون صافي القلب مجتمع الفكر غير مشغول السر بأمر من جوع

(1) ساقطة من أ.
73

[أو شبع] أو شبق أو غضب، ولا يكون ذا هموم كثيرة، وأفكار موزعة مقسمة،
بل يكون فكره وهمه هما واحدا.
قال: فإذا اجتمع لك كل ذلك فانظر، وإن لم يجتمع لك ذلك ونظرت كنت
كالناقة العشواء الخابطة لا تهتدي، وكمن يتورط في الظلماء لا يعلم أين يضع قدمه!
وليس طالب الدين من كان خابطا أو خالطا، والامساك عن ذلك أمثل وأفضل.
الأصل:
فتفهم يا بني وصيتي، واعلم أن مالك الموت هو مالك الحياة، وأن الخالق
هو المميت، وأن المفني هو المعيد، وأن المبتلي هو المعافي، وأن الدنيا لم تكن
لتستقر إلا على ما جعلها الله عليه من النعماء والابتلاء والجزاء في المعاد،
أو ما شاء مما لا تعلم، فإن أشكل عليك شئ من ذلك فاحمله على جهالتك،
فإنك أول ما خلقت به جاهلا ثم علمت، وما أكثر ما تجهل من الامر، ويتحير
فيه رأيك، ويضل فيه بصرك، ثم تبصره بعد ذلك!
الشرح:
قد تعلق بهذه اللفظة وهو قوله: " أو ما شاء مما لا تعلم "، قوم من التناسخية، وقالوا:
المعني بها الجزاء في الهياكل التي تنتقل النفوس إليها. وليس ما قالوه بظاهر ويجوز أن يريد
عليه السلام أن الله تعالى قد يجازي المذنب في الدنيا بنوع من العقوبة، كالأسقام والفقر وغيرهما،
والعقاب وإن كان [مفعولا] (2) على وجه الاستحقاق والإهانة فيجوز لمستحقه وهو الباري

(1) من " د ".
(2) من د.
74

أن يقتصر منه على الإيلام فقط، لان الجميع حقه، فله أن يستوفي البعض ويسقط البعض،
وقد روي " أو بما شاء " بالباء الزائدة، " وروى بما لا يعلم ". وأما (1) الثواب فلا يجوز أن
يجازى به المحسن في الدنيا، لأنه على صفة لا يمكن أن تجامع (2) التكليف، فيحمل لفظ
الجزاء على جزاء العقاب خاصة.
ثم أعاد عليه السلام وصيته الأولى، فقال: وإن أشكل عليك شئ من أمر القضاء
والقدر، وهو كون الكافر مخصوصا بالنعماء والمؤمن مخصوصا بضرب من الابتلاء،
وكون الجزاء قد يكون في المعاد، وقد يكون في غير المعاد، فلا تقدحن جهالتك به في
سكون قلبك إلى ما عرفتك جملته، وهو أن الله تعالى هو المحيي المميت، المفني المعيد،
المبتلي المعافي، وأن الدنيا بنيت على الابتلاء والانعام، وأنهما لمصالح وأمور يستأثر الله
تعالى بعلمها، وأنه يجازي عباده أما في الآخرة أو غير الآخرة، على حسب ما يريده ويختاره.
ثم قال له: إنما خلقت في مبدأ خلقتك جاهلا، فلا تطلبن نفسك غاية من العلم
لا وصول لها إليها، أو لها إليها وصول بعد أمور صعبة، ومتاعب شديدة، فمن خلق
جاهلا حقيق أن يكون جهله مدة عمره أكثر من علمه استصحابا للأصل.
ثم أراد أن يؤنسه بكلمة استدرك بها إيحاشه، فقال له: وعساك إذا جهلت شيئا من
ذلك أن تعلمه فيما بعد، فما أكثر ما تجهل من الأمور وتتحير فيه، ثم تبصره وتعرفه! وهذا
من الطب (3) اللطيف، والرقى الناجعة، والسحر الحلال.

(1) أ: " فأما ".
(2) ب: " يجتمع "، وما أثبته من أ.
(3) الطب: المعالجة.
75

الأصل:
فاعتصم بالذي خلقك ورزقك وسواك، فليكن له تعبدك، وإليه رغبتك، ومنه
شفقتك.
واعلم يا بنى أن أحدا لم ينبئ عن الله سبحانه كما أنبأ عليه نبينا صلى الله عليه
وسلم، فارض به رائدا، وإلى النجاة قائدا، فإني لم آلك نصيحة، وإنك لن
تبلغ في النظر لنفسك، وإن اجتهدت مبلغ نظري لك.
الشرح:
عاد إلى أمره باتباع الرسول صلى الله عليه وآله، وأن يعتمد على السمع وما وردت
به الشريعة ونطق به الكتاب، وقال له: إن أحدا لم يخبر عن الله تعالى كما أخبر عنه
نبينا صلى الله عليه وآله، وصدق عليه السلام! فإن التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب
أنبياء بني إسرائيل لم تتضمن من الأمور الإلهية ما تضمنه القرآن، وخصوصا في أمر المعاد،
فإنه في أحد الكتابين مسكوت عنه، وفي الاخر مذكور ذكرا مضطربا، والذي كشف
هذا القناع في هذا المعنى، وصرح بالامر هو القرآن. ثم ذكر له أنه أنصح له من كل
أحد وأنه ليس يبلغ وإن اجتهد في النظر لنفسه ما يبلغه هو عليه السلام له، لشدة حبه
له وإيثاره مصلحته. وقوله، " لم آلك نصحا " لم أقصر في نصحك، إلى الرجل في كذا يألو،
أي قصر فهو آل والفعل لازم، ولكنه حذف اللام فوصل الفعل إلى الضمير فنسبه،
وكان أصله: لا آلو لك نصحا، ونصحا منصوب على التمييز، وليس كما قاله الراوندي إن
انتصابه على أنه مفعول ثان، فإنه إلى مفعول واحد لا يتعدى، فكيف إلى اثنين!
76

ويقول هذه امرأة آلية أي مقصرة وجمعها أوال، وفي المثل: " إلا حظية فلا ألية "،
أصله في المرأة تصلف عند بعلها، فتوصي حيث فاتتها الحظوة ألا تألوه في التودد إليه
والتحبب إلى قلبه.
قوله: " ومنه شفقتك "، أي خوفك.
ورائد: أصله الرجل يتقدم القوم فيرتاد بهم المرعى.
الأصل:
واعلم يا بنى أنه لو كان لربك شريك لأتتك رسله، ولرأيت آثار ملكة
وسلطانه، ولعرفت أفعاله وصفاته، ولكنه إله واحد كما وصف نفسه، لا يضاده
في ملكه أحد، ولا يزول أبدا ولم يزل، أول قبل الأشياء بلا أوليه، وآخر
بعد الأشياء بلا نهاية، عظم أن تثبت ربوبيته بإحاطة قلب أو بصر.
فإذا عرفت ذلك فافعل كما ينبغي لمثلك أن يفعله في صغر خطره، وقلة
مقدرته، وكثرة عجزه، وعظيم حاجته إلى ربه، في طلب طاعته، والرهينة
من عقوبته، والخشية من عقوبته، والشفقة من سخطه، فإنه لم يأمرك
إلا بحسن، ولم ينهك إلا عن قبيح.
الشرح:
يمكن أن يستدل بهذا الكلام على نفي الثاني من وجهين:
أحدهما أنه لو كان في الوجود ثان للبارئ تعالى لما كان القول بالوحدانية حقا،
بل كان الحق هو القول بالتثنية، ومحال ألا يكون ذلك الثاني حكيما، ولو كان الحق هو
77

إثبات ثان حكيم لوجب أن يبعث رسولا يدعو المكلفين إلى التثنية، لان الأنبياء كلهم
دعوا إلى التوحيد، لكن التوحيد على هذا الفرض ضلال، فيجب على الثاني الحكيم أن يبعث
من ينبه المكلفين على ذلك الضلال ويرشدهم إلى الحق وهو إثبات الثاني، وإلا كان منسوبا
في إهمال ذلك إلى السفه واستفساد المكلفين، وذلك لا يجوز، ولكنا ما أتانا رسول يدعو
إلى إثبات ثان في الإلهية فبطل كون القول بالتوحيد ضلالا، وإذا لم يكن ضلالا كان حقا،
فنقيضه وهو القول بإثبات الثاني باطل.
الوجه الثاني: أنه لو كان في الوجود ثان للقديم تعالى لوجب أن يكون لنا طريق إلى
إثباته، إما من مجرد أفعاله، أو من صفات أفعاله، أو من صفات نفسه، أو لا من هذا ولا
من هذا، فمن التوقيف.
وهذه هي الأقسام التي ذكرها أمير المؤمنين عليه السلام، لان قوله: " أتتك رسله " هو التوقيف، وقوله: " ولرأيت آثار ملكه وسلطانه "، هي صفات أفعاله، وقوله: " ولعرفت
أفعاله وصفاته " هما القسمان الآخران.
أما إثبات الثاني من مجرد الفعل فباطل، لان الفعل إنما يدل على فاعل ولا يدل على
التعدد، وأما صفات أفعاله وهي كون أفعاله محكمة متقنة، فإن الاحكام الذي نشاهده إنما
يدل على عالم ولا يدل على التعدد، وأما صفات ذات البارئ فالعلم بها فرع على العلم بذاته،
فلو أثبتنا ذاته بها لزم الدور.
وأما التوقيف فلم يأتنا رسول ذو معجزة صحيحة يدعونا إلى الثاني، وإذا بطلت الأقسام
كلها، وقد ثبت أن ما لا طريق إلى إثباته لا يجوز إثباته بطل القول باثبات الثاني.
ثم قال: " لا يضاده في ملكه أحد " ليس يريد بالضد ما يريده المتكلمون من نفي
ذات هي معاكسة لذات البارئ تعالى في صفاتها كمضادة السواد للبياض، بل مراده نفى
الثاني لا غير، فإن نفى الضد بحث آخر لا دخول له بين هذا الكلام.
78

ثم ذكر له أن البارئ تعالى قديم سابق للأشياء، لا سبقا له حد محدود، وأول معين،
بل لا أول له مطلقا.
ثم قال: وهو مع هذا آخر الأشياء، آخرية مطلقة ليس تنتهي إلى غاية معينة.
ثم ذكر أن له ربوبية جلت عن أن تحيط بها الابصار والعقول.
وقد سبق منا خوض في هذا المعنى، وذكرنا من نظمنا في هذا النمط أشياء لطيفة
ونحن نذكر ها هنا من نظمنا أيضا في هذا المعنى، وفي فننا الذي اشتهرنا به، وهو المناجاة
والمخاطبة على طريقة أرباب الطريقة ما لم نذكره هناك، فمن ذاك قولي:
فلا والله ما وصل ابن سينا * ولا أغنى ذكاء أبى الحسين
ولا رجعا بشئ بعد بحث * وتدقيق سوى خفي حنين
لقد طوفت أطلبكم ولكن * يحول الوقت بينكم وبيني
فهل بعد انقضاء الوقت أحظى * بوصلكم غدا وتقر عيني!
منى عشنا بها زمنا وكانت * تسوفنا بصدق أو بمين
فإن أكدت فذاك ضياع ديني * وإن أجدت فذاك حلول ديني. (1)
ومنها:
أ مولاي قد أحرقت قلبي فلا تكن * غدا محرقا بالنار من كان يهواكا
أتجمع لي نارين: نار محبة * ونار عذاب أنت أرحم من ذاكا!
ومنها:
قوم موسى تاهوا سنين كما قد * جاء في النص قدرها أربعونا (2)
ولي اليوم تائها في جوى من * لا أسمي وحبه خمسونا
قل لأحبابنا إلام نروم * الوصل منكم وأنتم تمنعونا

(1) أ: " أجدب ".
(2) إشارة إلى قوله تعالى: " وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر " (الأعراف: 142).
79

كم نناجيكم فلا ترشدونا * ونناديكم فلا تسمعونا!
حسبنا علمكم بأنا * مواليكم وإن كنتم لنا كارهينا
فعسى تدرك السعادة أرباب * المعاصي فيصبحوا فائزينا!
ومنها:
والله ما آسى من الدنيا على * مال ولا ولد ولا سلطان
بل في صميم القلب منى حسرة * تبقى معي وتلف في أكفاني
إني أراك بباطني لا ظاهري * فالحسن مشغلة عن العرفان
يا من سهرت مفكرا في أمره * خمسين حولا دائم الجولان
فرجعت أحمق من نعامة بيهس * وأضل سعيا من أبى غبشان
ومنها:
وحقك إن أدخلتني النار قلت * للذين بها قد كنت ممن أحبه
وأفنيت عمري في علوم دقيقة * وما بغيتي إلا رضاه وقربه
هبوني مسيئا أوتغ الحلم جهله * وأوبقه بين البرية ذنبه (1)
أ ما يقتضى شرع التكرم عتقه * أيحسن أن ينسى هواه وحبه!
أما كان ينوى الحق فيما يقوله * ألم تنصر التوحيد والعدل كتبه!
أما رد زيغ ابن الخطيب وشكه * وإلحاده إذ جل في الدين خطبه!
أما قلتم من كان فينا مجاهدا * سيكرم مثواه ويعذب شربه!
ونهديه سبلا من هدانا جهاده * ويدخله خير المداخل كسبه
فأي اجتهاد فوق ما كان صانعا * وقد أحرقت زرق الشياطين شهبه!
وما نال قلب الجيش جيش محمد * كما نال من أهل الضلالة قلبه

(1) كذا في أ، ب، وفي د: " أرتع ".
80

فإن تصفحوا يغنم وإن تتجرموا * فتعذيبكم حلو المذاقة عذبه
وآية صدق الصب أن يعذب الأذى * إذ كان من يهوى عليه يصبه
ومنها:
إذا فكرت فيك يحار عقلي * وألحق بالمجانين الكبار
وأصحو تارة فيشوب ذهني * ويقدح خاطري كشواظ نار
فيا من تاهت العقلاء فيه * فأمسوا كلهم صرعى عقار
ويا من كاعت الأفكار عنه * فآبت بالمتاعب والخسار
ويا من ليس يعلمه نبي * ولا ملك ولا يدريه دار
ويا من ليس قداما وخلفا * ولا جهة اليمين ولا اليسار
ولا فوق السماء ولا تدلى * من الأرضين في لجج البحار
ويا من أمره من ذاك أجلى * من ابن ذكاء أو صبح النهار
سألتك باسمك المكتوم إلا * فككت النفس من رق الأسئار
وجدت لها بما تهوى فأنت * العليم بباطن اللغز الضمار
ومنها:
يا رب إنك عالم * بمحبتي لك واجتهادي
وتجردي للذب * عنك على مراغمة الأعادي
بالعدل والتوحيد اصدع * معلنا في كل نادى
وكشفت زيغ ابن الخطيب * ولبسه بين العباد
ونقضت سائر ما بناه * من الضلالة والفساد
81

وأبنت عن إغوائه * في دين أحمد ذي الرشاد
وجعلت أوجه ناصريه * محممات بالسواد
وكففت من غلوائهم * بعد التمرد والعناد
فكأنما نخل الرماد * عليهم بعد الرماد
وقصدت وجهك أبتغي * حسن المثوبة في المعاد
فأفض على العبد الفقير * إليكم نور السداد
وارزقه قبل الموت معرفة * المصائر والمبادي
وافكك أسير الحرص * بالأصفاد من أسر الصفاد
واغسل بصفو القرب من * أبوابكم كدر البعاد
وأعضه من حر الغليل * بوصلكم برد الفؤاد
وارحم عيونا فيك * هامية وقلبا فيك صاد
يا ساطح الأرض المهاد * وممسك السبع الشداد
الأصل:
يا بني، إني قد أنبأتك عن الدنيا وحالها، وزوالها وانتقالها، وأنبأتك عن
الآخرة وما أعد لأهلها، وضربت لك فيهما الأمثال، لتعتبر بها، وتحذو عليها.
إنما مثل من خبر الدنيا كمثل قوم سفر، نبا بهم منزل جديب، فأموا منزلا
خصيبا، وجنابا مريعا، فاحتملوا وعثاء الطريق، وفراق الصديق، وخشونة السفر،
وجشوبة المطعم، ليأتوا سعة دارهم، ومنزل قرارهم، فليس يجدون لشئ من
ذلك ألما، ولا يرون نفقة فيه مغرما. ولا شئ أحب إليهم مما قربهم من منزلهم
82

وأدناهم إلى محلتهم.
ومثل من اغتر بها كمثل قوم كانوا بمنزل خصيب، فنبا بهم إلى منزل جديب،
فليس شئ أكره إليهم، ولا أفظع عندهم من مفارقة ما كانوا فيه، إلى ما
يهجمون عليه، ويصيرون إليه.
الشرح:
حذا عليه يحذو، واحتذى مثاله، يحتذى، أي اقتدى به، وقوم سفر بالتسكين،
أي مسافرون.
وأموا: قصدوا. والمنزل الجديب: ضد المنزل الخصيب.
والجناب المريع بفتح الميم: ذو الكلأ والعشب، وقد مرع الوادي، بالضم.
والجناب: الفناء. ووعثاء الطريق: مشقتها.
وجشوبة المطعم: غلظه، طعام جشيب ومجشوب، ويقال إنه الذي لا أدم (1) معه.
يقول: مثل من عرف الدنيا وعمل فيها للآخرة، كمن سافر من منزل جدب إلى منزل
خصيب، فلقي في طريقه مشقة، فإنه لا يكترث بذلك في جنب ما يطلب، وبالعكس من
عمل للدنيا وأهمل أمر الآخرة، فإنه كمن يسافر إلى منزل ضنك ويهجر منزلا
رحيبا طيبا، وهذا من قول رسول الله صلى الله عليه وآله: " الدنيا سجن المؤمن
وجنة الكافر ".

(1) الأدم: ما يؤتدم به.
83

الأصل:
يا بني، اجعل نفسك ميزانا فيما بينك وبين غيرك، فاحبب لغيرك ما تحب لنفسك،
وأكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم، وأحسن كما تحب أن
يحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك، وارض من الناس بما
ترضاه لهم من نفسك، ولا تقل ما لا تعلم وإن قل ما تعلم، ولا تقل ما لا تحب أن
يقال لك.
واعلم أن الاعجاب ضد الصواب، وآفة الألباب، فاسع في كدحك، ولا تكن
خازنا لغيرك، وإذا أنت هديت لقصدك، فكن أخشع ما تكون لربك.
الشرح:
جاء في الحديث المرفوع: " لا يكمل إيمان عبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه،
ويكره لأخيه ما يكره لنفسه ". وقال بعض الأسارى لبعض الملوك: افعل معي ما تحب أن
يفعل الله معك، فأطلقه، وهذا هو معنى قوله عليه السلام: " ولا تظلم كما لا تحب
أن تظلم ".
وقوله: " وأحسن " من قول الله تعالى: (وأحسن كما أحسن الله إليك) (2).
وقوله: " واستقبح من نفسك "، سئل الأحنف عن المروءة، فقال: أن تستقبح من
نفسك ما تستقبحه من غيرك. وروي: " وارض من الناس لك " وهي أحسن.
وأما العجب وما ورد في ذمه فقد قدمنا فيه قولا مقنعا.

(1) سورة القصص 77.
84

قوله عليه السلام: " واسع في كدحك " أي أذهب ما اكتسبت بالانفاق، والكدح
ها هنا: هو المال الذي كدح في حصوله، والسعي فيه إنفاقه، وهذه كلمة فصيحة، وقد تقدم
نظائر قوله: " ولا تكن خازنا لغيرك ".
ثم أمره أن يكون أخشع ما يكون لله إذ هداه لرشده، وذلك لان هدايته إياه إلى
رشده نعمة عظيمة منه، فوجب أن يقابل بالخشوع لأنه ضرب من الشكر.
الأصل:
واعلم أن أمامك طريقا ذا مسافة بعيدة، ومشقة شديدة، وأنه لا غنى بك فيه
عن حسن الارتياد، وقدر بلاغك من الزاد، مع خفة الظهر، فلا تحملن على
ظهرك فوق طاقتك، فيكون ثقل ذلك وبالا عليك، وإذا وجدت من أهل الفاقة
من يحمل لك زادك إلى يوم القيامة، فيوافيك به غدا حيث تحتاج إليه فاغتنمه
وحمله إياه، وأكثر من تزويده وأنت قادر عليه، فلعلك تطلبه فلا تجده.
واغتنم من استقرضك في حال غناك، ليجعل قضاءه لك في يوم عسرتك.
واعلم أن أمامك عقبة كؤودا، المخف فيها أحسن حالا من المثقل، والمبطئ
عليها أقبح أمرا من المسرع، وأن مهبطها بك لا محالة، أما على جنة أو على
نار، فارتد لنفسك قبل نزولك، ووطئ المنزل قبل حلولك، فليس بعد الموت
مستعتب، ولا إلى الدنيا منصرف.
85

الشرح:
أمره في هذا الفصل بإنفاق المال والصدقة والمعروف، فقال: إن بين يديك
طريقا بعيد المسافة، شديد المشقة، ومن سلك طريقا فلا غنى له عن أن يرتاد لنفسه، ويتزود
من الزاد قدر ما يبلغه الغاية، وأن يكون خفيف الظهر في سفره ذلك، فإياك أن تحمل
من المال ما يثقلك، ويكون وبالا عليك، وإذا وجدت من الفقراء والمساكين من يحمل
ذلك الثقل عنك فيوافيك به غدا وقت الحاجة فحمله إياه، فلعلك تطلب مالك فلا
تجده. جاء في الحديث المرفوع: " خمس من أتى الله بهن أو بواحدة منهن أوجب له الجنة:
من سقى هامة صادية، أو أطعم كبدا هافية، أو كسا جلدة عارية، أو حمل قدما حافية،
أو أعتق رقبة عانية ".
قيل لحاتم الأصم: لو قرأت لنا شيئا من القرآن! قال: نعم، فاندفع فقرأ:
(ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون
الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) يكنزون (1)، فقالوا: أيها الشيخ ما هكذا أنزل! قال: صدقتم،
ولكن هكذا أنتم!
الأصل:
واعلم أن الذي بيده خزائن السماوات والأرض قد أذن لك في الدعاء،
وتكفل لك بالإجابة، وأمرك أن تسأله ليعطيك، وتسترحمه ليرحمك،
ولم يجعل بينه وبينك من يحجبك عنه، ولم يلجئك إلى من يشفع لك إليه

(1) سورة البقرة 1 - 3، والقراءة: " ومما رزقناهم ينفقون ".
86

ولم يمنعك إن أسأت من التوبة، ولم يعاجلك بالنقمة، ولم يفضحك حيث
تعرضت للفضيحة، ولم يشدد عليك في قبول الإنابة، ولم يناقشك بالجريمة،
ولم يؤيسك من الرحمة، بل جعل نزوعك عن الذنب حسنة، وحسب سيئتك
واحدة، وحسب حسنتك عشرا. وفتح لك باب المتاب، وباب الاستعتاب.
فإذا ناديته سمع نداك، وإذا ناجيته علم نجواك، فأفضيت إليه بحاجتك،
وأبثثته ذات نفسك، وشكوت إليه همومك، واستكشفته كروبك، واستعنته
على أمورك، وسألته من خزائن رحمته ما لا يقدر على إعطائه غيره، من زيادة
الأعمار، وصحة الأبدان، وسعة الأرزاق.
ثم جعل في يديك مفاتيح خزائنه، بما أذن لك فيه من مسألته، فمتى
شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمته، واستمطرت شآبيب رحمته، فلا يقنطنك
إبطاء إجابته، فإن العطية على قدر النية، وربما أخرت عنك الإجابة ليكون
ذلك أعظم لأجر السائل، وأجزل لعطاء الآمل. وربما سألت الشئ فلا تعطاه،
وأوتيت خيرا منه عاجلا أو آجلا، أو صرف عنك لما هو خير لك، فلرب أمر
قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته، فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله،
وينفى عنك وباله، فالمال لا يبقى لك، ولا تبقى له.
الشرح:
قد تقدم القول في الدعاء.
قوله: " بل جعل نزوعك عن الذنب حسنة "، هذا متفق عليه بين أصحابنا، وهو
أن تارك القبيح لأنه قبيح يستحق الثواب.
87

قوله: " حسب سيئتك واحدة وحسب حسنتك عشرا "، هذا إشارة إلى قوله
تعالى: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى
إلا مثلها) (1).
قوله: " وأبثثته ذات نفسك "، أي حاجتك.
ثم ذكر له وجوها في سبب إبطاء الإجابة:
منها أن ذلك أمر عائد إلى النية، فلعلها لم تكن خالصة.
ومنها أنه ربما أخرت ليكون أعظم لأجر السائل، لان الثواب على قد المشقة.
ومنها أنه ربما أخرت ليعطى السائل خيرا مما سأل، إما عاجلا أو آجلا؟
أو في الحالين.
ومنها أنه ربما صرف ذلك عن السائل، لان في إعطائه إياه مفسده في الدين.
قوله: " فالمال لا يبقى لك ولا تبقى له "، لفظ شريف فصيح، ومعنى صادق محقق
فيه عظة بالغد، وقال أبو الطيب:
أين الجبابرة الأكاسرة الألى * كنزوا الكنوز فما بقين ولا بقوا (2)
ويروى: " من يحجبه عنك ".
وروي: " حيث الفضيحة " أي حيث الفضيحة موجودة منك.
واعلم أن في قوله: " قد أذن لك في الدعاء، وتكفل لك بالإجابة " إشارة إلى قوله
تعالى: (ادعوني استجب لكم) (3).
وفي قوله: " وأمر أن تسأله ليعطيك " إشارة إلى قوله: (واسألوا الله من فضله) (4).

(1) سورة الأنعام 160.
(2) ديوانه 2: 334.
(3) سورة غافر 60.
(4) سورة النساء 32.
88

وفي قوله: " وتسترحمه ليرحمك " إشارة إلى قوله: (وما كان الله معذبهم وهم
يستغفرون) (1).
وفي قوله: " ولم يمنعك إن أسأت من التوبة " إشارة إلى قوله: (إلا من تاب
وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا
رحيما) (2).
الأصل:
واعلم يا بنى أنك إنما خلقت للآخرة لا للدنيا، وللفناء لا للبقاء، وللموت
لا للحياة، وإنك في منزل قلعة، ودار بلغة، وطريق إلى الآخرة، وأنك طريد
الموت الذي لا ينجو هاربه، ولا يفوته طالبه، ولا بد أنه مدركه، فكن منه
على حذر أن يدركك وأنت على حال سيئة، قد كنت تحدث نفسك منها بالتوبة،
فيحول بينك وبين ذلك، فإذا أنت قد أهلكت نفسك.
يا بنى، أكثر من ذكر الموت وذكر ما تهجم عليه، وتفضي بعد الموت إليه،
حتى يأتيك وقد أخذت منه حذرك، وشددت له أزرك، ولا يأتيك بغتة
فيبهرك.
وإياك أن تغتر بما ترى من إخلاد أهل الدنيا إليها، وتكالبهم عليها،
فقد نبأك الله عنها، ونعتت لك نفسها، وتكشفت لك عن مساويها، فإنما أهلها
كلاب عاوية، وسباع ضارية، يهر بعضها على بعض، ويأكل عزيزها ذليلها،
ويقهر كبيرها صغيرها.

(1) سورة الأنفال 33.
(2) سورة الفرقان 70.
89

نعم معقلة، وأخرى مهملة، قد أضلت عقولها، وركبت مجهولها.
سروح عاهة بواد وعث، ليس لها راع يقيمها، ولا مسيم يسيمها، سلكت
بهم الدنيا طريق العمى، وأخذت بأبصارهم عن منار الهدى، فتاهوا في حيرتها،
وغرقوا في نعمتها، واتخذوها ربا فلعبت بهم ولعبوا بها، ونسوا ما وراءها.
رويدا يسفر الظلام، كأن قد وردت الأظعان! يوشك من أسرع
أن يلحق!
الشرح:
يقول: هذا منزل قلعة، بضم القاف وسكون اللام، أي ليس بمستوطن، ويقال:
هذا مجلس قلعة، إذا كان صاحبه يحتاج إلى أن يقوم مرة بعد مرة. ويقال أيضا:
هم على قلعة أي على رحلة، والقلعة أيضا: هو المال العارية، وفى الحديث: " بئس المال
القلعة "، وكله يرجع إلى معنى واحد.
قوله: " ودار بلغة "، والبلغة: ما يتبلغ به من العيش.
قوله: " سروح عاهة "، والسروح: جمع سرح، وهو المال السارح. والعاهة:
الآفة، أعاه القوم أصابت ماشيتهم العاهة.
وواد وعث: لا يثبت الحافر والخف فيه، بل يغيب فيه، ويشق على من
يمشى فيه.
وأوعث القوم: وقعوا في الوعث.
ومسيم يسيمها: راع يرعاها.
قوله: " رويدا يسفر الظلام... " إلى آخر الفصل، ثلاثة أمثال محركة لمن عنده
90

استعداد. واستقرأني أبو الفرج محمد بن عباد رحمه الله وأنا يومئذ حدث هذه الوصية فقرأتها
عليه من حفظي، فلما وصلت إلى هذا الموضع صاح صيحة شديدة، وسقط - وكان جبارا
قاسي القلب.
[أقوال حكيمة في وصف الدنيا وفناء الخلق]
واعلم أنا قدمنا في وصف الدنيا والفناء والموت من محاسن كلام الصالحين والحكماء ما
فيه الشفاء، ونذكر الان أشياء أخر.
فمن كلام الحسن البصري: يا بن آدم إنما أنت أيام مجموعة، فإذا مضى يوم
مضى بعضك.
عن بعض الحكماء: رحم الله امرأ لا يغره ما يرى من كثرة الناس، فإنه يموت وحده،
ويقبر وحده، ويحاسب وحده.
وقال بعضهم: لا وجه لمقاساة الهموم لأجل الدنيا ولا الاعتداد بشئ من متاعها، ولا
التخلي منها، أما ترك الاهتمام لها، فمن جهة أنه لا سبيل إلى دفع الكائن من مقدورها، وأما
ترك الاعتداد بها، فإن مرجع كل أحد إلى تركها، وأما ترك التخلي عنها فإن الآخرة
لا تدرك إلا بها.
ومن كلام بعض الحكماء: أفضل اختيار الانسان ما توجه به إلى الآخرة، وأعرض به
عن الدنيا، وقد تقدمت الحجة وأذنا بالرحيل، ولنا من الدنيا على الدنيا دليل، وإنما أحدنا
في مدة بقائه صريع لمرض، أو مكتئب بهم، أو مطروق بمصيبة، أو مترقب لمخوف، لا
يأمن المرء أصناف لذته من المطعوم والمشروب أن يكون موته فيه، ولا يأمن مملوكه
91

وجاريته أن يقتلاه بحديد أو سم، وهو مع ذلك عاجز عن استدامة سلامة عقله من زوال،
وسمعه من صمم، وبصره من عمى، ولسانه من خرس، وسائر جوارحه من زمانة، ونفسه
من تلف، وماله من بوار، وحبيبه من فراق، وكل ذلك يشهد شهادة قطعية أنه فقير
إلى ربه، ذليل في قبضته، محتاج إليه. لا يزال المرء بخير ما حاسب نفسه، وعمر آخرته
بتخريب دنياه، وإذا اعترضته بحار المكاره، جعل معابرها الصبر والتأسي، ولم يغتر بتتابع
النعم، وإبطاء حلول النقم، وأدام صحبة التقى، وفطم النفس عن الهوى، فإنما حياته كبضاعة
ينفق من رأس المال منها، ولا يمكنه أن يزيد فيها، ومثل ذلك يوشك فناؤه
وسرعة زواله.
وقال أبو العتاهية في ذكر الموت:
ستباشر الترباء خدك * وسيضحك الباكون بعدك (1)
ولينزلن بك البلى * وليخلفن الموت عهدك
وليفنينك مثل ما (2) * أفنى أباك بلى وجدك (3)
لو قد رحلت عن القصور * وطيبها وسكنت لحدك (4)
لم تنتفع إلا بفعل * صالح قد كان عندك

(1) ديوانه 86، 87، والترباء: التراب، ورواية الديوان:
* لتباشر الأجداث وحدك *
(2) الديوان: " بالذي ".
(3) الديوان: " به وجدك ".
(4) الديوان:
لو قد ظعنت عن البيوت * ودوحها وسكنت لحدك
92

وترى الذين قسمت ما * لك بينهم حصصا وكدك (1)
يتلذذون بما جمعت * لهم ولا يجدون فقدك
الأصل:
واعلم يا بني أن من كانت مطيته الليل والنهار، فإنه يسار به وإن كان
واقفا، ويقطع المسافة وإن كان مقيما وادعا.
واعلم يقينا أنك لن تبلغ أملك، ولن تعدو أجلك، وأنك في سبيل من كان
قبلك.
فخفض في الطلب، وأجمل في المكتسب، فإنه رب طلب قد جر إلى حرب،
وليس كل طالب بمرزوق، ولا كل مجمل بمحروم.
وأكرم نفسك عن كل دنية وإن ساقتك إلى الرغائب، فإنك لن تعتاض
بما تبذل من نفسك عوضا. ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا. وما خير
خير لا ينال (2) إلا بشر، ويسر لا ينال إلا بعسر.
وإياك أن
توجف بك مطايا الطمع، فتوردك مناهل الهلكة. وإن استطعت
ألا يكون بينك وبين الله ذو نعمة فافعل، فإنك مدرك قسمك، وآخذ سهمك،
وإن اليسير من الله سبحانه أكرم وأعظم من الكثير من خلقه وإن كان
كل منه.

(1) الديوان:
وكأن جمعك قد غدا * ما بينهم حصصا وكدك
(3) د: " لا يوجد ".
93

الشرح:
مثل الكلمة الأولى قول بعض الحكماء - وقد نسب أيضا إلى أمير المؤمنين عليه السلام:
أهل الدنيا كركب يسار بهم وهم نيام.
قوله: " فخفضن في الطلب " من قول رسول الله صلى الله عليه وآله: " إن روح
القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فأجملوا في الطلب ".
وقال الشاعر:
ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله * عوضا ولو نال الغنى بسؤال
وإذا النوال إلى السؤال قرنته (1) * رجح السؤال وخف كل نوال
وقال آخر:
رددت رونق وجهي عن صحيفته * رد الصقال بهاء الصارم الخذم (2)
وما أبالي وخير القول أصدقه * حقنت لي ماء وجهي أم حقنت دمي
وقال آخر:
وإني لاختار الزهيد على الغنى * وأجزأ بالمال القراح عن المحض
وأدرع الإملاق صبرا وقد أرى * مكان الغنى كي لا أهين له عرضي
وقال أبو محمد اليزيدي في المأمون:
أبقى لنا الله الامام وزاده * شرفا إلى الشرف الذي أعطاه
والله أكرمنا بأنا معشر * عتقاء من نعم العباد سواه.
وقال آخر:
كيف النهوض بما أوليت من حسن * أم كيف أشكر ما طوقت من نعم!

(1) د: " وزنته ".
(2) الخذم: القاطع.
94

ملكتني ماء وجه كاد يسكبه * ذل السؤال ولم تفجع به هممي
وقال آخر:
لا تحرصن على الحطام فإنما * يأتيك رزقك حين يؤذن فيه
سبق القضاء بقدره وزمانه * وبأنه يأتيك أو يأتيه
وكان يقال: ما استغنى أحد بالله إلا افتقر الناس إليه.
وقال رجل في مجلس فيه قوم من أهل العلم: لا أدري ما يحمل من يوقن بالقدر على
الحرص على طلب الرزق! فقال له: أحد الحاضرين يحمله القدر، فسكت.
أقول: لو كنت حاضرا لقلت: لو حمله القدر لما نهاه العقلاء عن الحرص، ولما مدحوه
على العفة والقناعة فإن عاد وقال: وأولئك ألجأهم القدر إلى المدح والذم والامر والنهى،
فقد جعل نفسه وغيره من الناس، بل من جميع الحيوانات بمنزلة الجمادات التي يحركها
غيرها ومن بلغ إلى هذا الحد لا يكلم.
وقال الشاعر:
أراك تزيدك الأيام حرصا * على الدنيا كأنك لا تموت
فهل لك غاية إن صرت يوما * إليها قلت حسبي قد رضيت!
أبو العتاهية:
أي عيش يكون أطيب من عيش * كفاف قوت بقدر البلاغ (1)
قمرتني الأيام عقلي ومالي * وشبابي وصحتي وفراغي (2)
وأوصى بعض الأدباء ابنه فكتب إليه

(1) ديوانه 164، والأغاني 4: 40 والبلاغ: الكفاية.
(2) الديوان والأغاني: " غبنتني الأيام ".
95

كن حسن الظن برب خلقك * بني واحمده على ما رزقك
واعلم بأن الحرص يطفي رونقك * فجانب الحرص وحسن خلقك
وأصدق وصادق أبدا من صدقك * دار معاديك ومق من ومقك
واجعل لأعدائك حزما ملقك * وجنبن حشو الكلام منطقك
هذى وصاة والد قد عشقك * وصاة من يقلقه ما أقلقك
* أرشدك الله لها ووفقك *
أبو العتاهية:
أجل الغنى مما يؤمل أسرع * وأراك تجمع دائما لا تشبع (1)
قل لي لمن أصبحت تجمع دائبا (2) * أ لبعل عرسك لا أبا لك تجمع!
وأوصى زياد ابنه عبيد الله عند موته، فقال: لا تدنسن عرضك، ولا تبذلن وجهك،
ولا تخلقن جدتك بالطلب إلى من إن ردك كان رده عليك عيبا، وإن قضى حاجتك
جعلها عليك منا، واحتمل الفقر بالتنزه عما في أيدي الناس (2)، والزم القناعة بما قسم لك،
فإن سوء عمل الفقير يضع الشريف، ويخمل الذكر، ويوجب الحرمان.
الأصل:
وتلافيك ما فرط من صمتك أيسر من إدراكك ما فات من منطقك،
وحفظ ما في الوعاء بشد الوكاء، وحفظ ما في يديك أحب إلي من طلب ما في يدي
غيرك، ومرارة اليأس خير من الطلب إلى الناس، والحرفة مع العفة، خير من
الغنى مع الفجور، والمرء أحفظ لسره، ورب ساع فيما يضره!

(1) ديوانه 144.
(2) الديوان: " تجمع ما ".
(2) د: " عما في يدي غيرك ".
96

من أكثر أهجر، ومن تفكر أبصر.
قارن أهل الخير تكن منهم، وباين أهل الشر تبن عنهم.
بئس الطعام الحرام! وظلم الضعيف أفحش الظلم!
إذا كان الرفق خرقا، كان الخرق رفقا.
ربما كان الدواء داء، والداء دواء. وربما نصح غير الناصح،
وغش المستنصح.
وإياك والاتكال على المنى فإنها بضائع النوكى. والعقل حفظ التجارب،
وخير ما جربت ما وعظك. بادر الفرصة قبل أن تكون غصة. ليس كل طالب
يصيب، ولا كل غائب يؤوب، ومن الفساد إضاعة الزاد، ومفسدة المعاد. ولكل
أمر عاقبة، سوف يأتيك ما قدر لك. التاجر مخاطر، ورب يسير أنمى من كثير!
الشرح:
هذا الكلام قد اشتمل على أمثال كثيرة حكمية.
أولها قوله: " تلافيك ما فرط من صمتك أيسر من إدراكك ما فات من منطقك "،
وهذا مثل قولهم: أنت قادر على أن تجعل صمتك كلاما، ولست بقادر على أن تجعل كلامك
صمتا، وهذا حق، لان الكلام يسمع وينقل فلا يستطاع إعادته صمتا، و الصمت عدم
الكلام، فالقادر على الكلام قادر على أن يبدله بالكلام، وليس الصمت بمنقول
ولا مسموع فيتعذر استدراكه.
97

وثانيها قوله: " حفظ ما في يديك أحب إلي من طلب ما في أيدي غيرك "، هذا
مثل قولهم في المثل: البخل خير من سؤال البخيل، وليس مراد أمير المؤمنين عليه السلام
وصايته بالإمساك والبخل، بل نهيه عن التفريط والتبذير، قال الله تعالى: (ولا تبسطها
كل البسط فتقعد ملوما محسورا) (1)، وأحمق الناس من أضاع ماله اتكالا على مال
الناس، وظنا أنه يقدر على الاستخلاف، قال الشاعر:
إذا حدثتك النفس أنك قادر * على ما حوت أيدي الرجال فكذب
وثالثها قوله: " مرارة اليأس خير من الطلب إلى الناس "، من هذا أخذ الشاعر
قوله:
إن كان طعم اليأس مرا فإنه * ألذ وأحلى من سؤال الأراذل
وقال البحتري:
اليأس إحدى الراحتين ولن ترى * تعبا كظن الخائب المغرور (2)
ورابعها قوله: " الحرفة مع العفة خير من الغنى مع الفجور "، والحرفة بالكسر مثل
الحرف بالضم، وهو نقصان الحظ وعدم المال. ومنه قوله " رجل محارف "، بفتح الراء،
يقول: لان يكون المرء هكذا وهو عفيف الفرج واليد، خير من الغنى مع الفجور،
وذلك لان ألم الحرفة مع العفة ومشقتها إنما هي في أيام قليلة وهي أيام العمر، ولذة الغنى
إذا كان مع الفجور، ففي مثل تلك الأيام يكون، ولكن يستعقب عذابا طويلا، فالحال
الأولى خير لا محالة. وأيضا ففي الدنيا خير أيضا للذكر الجميل فيها، والذكر القبيح في
الثانية، وللمحافظة على المروءة في الأولى وسقوط المروءة في الثانية.

(1) سورة الإسراء 29.
(2) ديوانه.
98

وخامسها قوله: " المرء أحفظ لسره " أي الأولى ألا تبوح بسرك إلى أحد، فأنت
أحفظ له من غيرك، فإن أذعته فانتشر فلا تلم إلا نفسك، لأنك كنت عاجزا عن حفظ
سر نفسك، فغيرك عن حفظ سرك وهو أجنبي أعجز، قال الشاعر:
إذا ضاق صدر المرء عن حفظ سره * فصدر الذي يستودع السر أضيق
وسادسها: " قوله رب ساع فيما يضره "، قال عبد الحميد الكاتب في كتابه إلى أبى
مسلم: لو أراد الله بالنملة صلاحا لما أنبت لها جناحا.
وسابعها قوله: " من أكثر أهجر "، يقال: أهجر الرجل، إذا أفحش في المنطق السوء
والخنا، قال الشماخ:
كماجدة الأعراق قال ابن ضرة * عليها كلاما جار فيه وأهجرا (1)
وهذا مثل قولهم: من كثر كلامه كثر سقطه. وقالوا أيضا قلما سلم مكثار، أو
أمن من عثار.
وثامنها قوله: " من تفكر أبصر "، قالت الحكماء: الفكر تحديق العقل نحو
المعقول، كما أن النظر البصري تحديق البصر نحو المحسوس، وكما أن من حدق نحو المبصر
وحدقته صحيحة والموانع مرتفعة لا بد أن يبصره، كذلك من نظر بعين عقلة، وأفكر
فكرا صحيحا، لا بد أن يدرك الامر الذي فكر فيه ويناله.
وتاسعها قوله: " قارن أهل الخير تكن معهم، وباين أهل الشر تبن عنهم "، كان
يقال: حاجبك وجهك، وكاتبك لسانك، وجليسك كلك. وقال الشاعر:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه * فكل قرين بالمقارن مقتد

(1) ديوانه 28، وروايته: " ممجدة الأعراق ". وابن ضرتها: ابن زوجها.
99

وعاشرها قوله: " بئس الطعام الحرام "، هذا من قوله تعالى: (إن الذين يأكلون
أموال اليتامى ظلما أنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) (1).
وحادي عشرها قوله: " ظلم الضعيف أفحش الظلم ". رأى معاوية ابنه يزيد يضرب
غلاما، فقال: يا بنى، كيف لا يسع حلمك من تضربه فلا يمتنع منك! وأمر المأمون
بإشخاص الخطابي القاص (2) من البصرة، فلما مثل بين يديه، قال له: يا سليمان، أنت
القائل العراق عين الدنيا، والبصرة عن العراق، والمربد عين البصرة، ومسجدي
عين المربد، وأنا عين مسجدي، وأنت أعور، فإن عين الدنيا عوراء! قال: يا أمير المؤمنين،
لم أقل ذاك، ولا أظن أمير المؤمنين أحضرني لذلك، قال: بلغني أنك أصبحت فوجدت
على سارية من سواري مسجدك:
رحم الله عليا * إنه كان تقيا
فأمرت بمحوه، قال: يا أمير المؤمنين، كان " ولقد كان نبيا " فأمرت بإزالته، فقال:
كذبت كانت القاف أصح من عينك الصحيحة، ثم قال: والله لولا أن أقيم لك عند العامة
سوقا لأحسنت تأديبك، قال: يا أمير المؤمنين، قد ترى ما أنا عليه من الضعف والزمانة
والهرم وقلة البصر، فإن عاقبتني مظلوما فاذكر قول ابن عمك علي عليه السلام:
" ظلم الضعيف أفحش الظلم "، وإن عاقبتني بحق، فاذكر أيضا قوله: " لكل شئ رأس،
والحلم رأس السؤدد ". فنهض المأمون من مجلسه وأمر برده إلى البصرة، ولم يصله بشئ،
ولم يحضر أحد قط مجلس المأمون إلا وصله عدا الخطابي، وليس هذا هو المحدث الحافظ
المشهور، ذاك أبو سليمان أحمد بن محمد بن أحمد البستي، كان في أيام المطيع والطائع،
وهذا قاص بالبصرة كان يقال له: أبو زكريا سليمان بن محمد البصري.
وثاني عشرها قوله: " إذا كان الرفق خرقا، كان الخرق رفقا "، يقول إذا كان استعمال

(1) سورة النساء 10.
(2) كذا في أ، وفي ب: " القاضي ".
100

الرفق مفسدة وزيادة في الشر فلا تستعمله، فإنه حينئذ ليس برفق بل هو خرق، ولكن
استعمل الخرق، فإنه يكون رفقا والحالة هذه، لان الشر لا يلقى ألا بشر مثله، قال عمرو
ابن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا * فنجهل فوق جهل الجاهلينا (1).
وفي المثل: إن الحديد بالحديد يفلح.
وقال زهير:
ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه * يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم (2).
وقال أبو الطيب:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا * مضر كوضع السيف في موضع الندى (3).
وثالث عشرها قوله: " وربما كان الدواء داء، والداء دواء "، هذا مثل قول
أبى الطيب:
* ربما صحت الأجسام بالعلل (4) *
ومثله قول أبى نواس:
* وداوني بالتي كانت هي الداء (5) *
ومثل قول الشاعر:
تداويت من ليلى بليلى فلم يكن * دواء ولكن كان سقما مخالفا
ورابع عشرها قوله: " ربما نصح غير الناصح، وغش المستنصح ". كان المغيرة بن
شعبة يبغض عليا عليه السلام منذ أيام رسول الله صلى الله عليه وآله، وتأكدت

(1) من المعلقة - بشرح التبريزي 238.
(2) ديوانه 30.
(3) ديوانه 1: 288.
(4) ديوانه 3: 86، وصدره:
* لعل عتبك محمود عواقبه *
(5) ديوانه 234، وصدره:
* دع عنك لومي فإن اللوم إغراء *
101

بغضته إلى أيام أبى بكر وعثمان وعمر، وأشار عليه يوم بويع بالخلافة أن يقر معاوية على
الشام مدة يسيرة، فإذا خطب له بالشام وتوطأت دعوته دعاه إليه كما كان عمر وعثمان يدعوانه
إليهما، وصرفه فلم يقبل، وكان ذلك نصيحة من عدو كاشح.
واستشار الحسين عليه السلام عبد الله بن الزبير وهما بمكة في الخروج عنها، وقصد
العراق ظانا أنه ينصحه فغشه، وقال له: لا تقم بمكة، فليس بها من يبايعك، ولكن
دونك العراق، فإنهم متى رأوك لم يعدلوا بك أحدا، فخرج إلى العراق، حتى كان
من أمره ما كان.
وخامس عشرها قوله: " إياك والاتكال على المنى، فإنها بضائع النوكى "، جمع أنوك
وهو الأحمق، من هذا أخذ أبو تمام قوله:
من كان مرعى عزمه وهمومه * روض الأماني لم يزل مهزولا (1).
ومن كلامهم: ثلاثة تخلق العقل، وهو أوضح دليل على الضعف: طول التمني،
وسرعة الجواب، والاستغراب (3) في الضحك. وكان يقال: التمني والحلم سيان. وقال آخر:
شرف الفتى ترك المنى.
وسادس عشرها قوله: " العقل حفظ التجارب " من هذا أخذ المتكلمون قولهم:
العقل نوعان: غريزي، ومكتسب، فالغريزي العلوم البديهية، والمكتسب ما أفادته التجربة
وحفظته النفس.
وسابع عشرها قوله: " خير ما جربت ما وعظك "، مثل هذا قول أفلاطون: إذا لم تعظك التجربة فلم تجرب، بل أنت ساذج كما كنت.
وثامن عشرها قوله: " بادر الفرصة قبل أن تكون غصة "، حضر عبيد الله بن زياد
عند هانئ بن عروة عائدا، وقد كمن له مسلم بن عقيل، وأمره أن يقتله إذا جلس

(1) ديوانه.
(2) الاستغراب في الضحك: المبالغة فيه.
102

واستقر، فلما جلس جعل مسلم يؤامر نفسه ويريدها على الوثوب به فلم تطعه، وهانئ ينشد كأنه يترنم بالشعر:
* ما الانتظار بسلمي لا تحييها *
ويكرر ذلك، فأوجس عبيد الله خيفة ونهض، فعاد إلى قصر الامارة، وفات مسلما
منه ما كان يؤمله بإضاعة الفرصة، حتى صار أمره إلى ما صار.
وتاسع عشرها قوله: " ليس كل طالب يصيب، ولا كل غائب يثوب "، الأولى
كقول القائل:
ما كل وقت ينال المرء ما طلبا * ولا يسوغه المقدار ما وهبا
والثانية كقول عبيد:
وكل ذي غيبة يؤوب * وغائب الموت لا يؤوب (1).
العشرون قوله: " من الفساد، إضاعة الزاد، ومفسدة المعاد "، ولا ريب أن من كان
في سفر وأضاع زاده، وأفسد الحال التي يعود إليها فإنه أحمق، وهذا مثل ضربه للانسان في
حالتي دنياه وآخرته.
الحادي والعشرون قوله: " ولكل أمر عاقبة "، هذا مثل المثل المشهور " لكل سائله قرار ".
الثاني والعشرون قوله: " سوف يأتيك ما قدر لك "، هذا من قول رسول الله صلى
الله عليه وآله: " وإن يقدر لأحدكم رزق في قبة جبل أو حضيض بقاع (2) يأته ".
الثالث والعشرون قوله: " التاجر مخاطر " هذا حق، لأنه يتعجل بإخراج الثمن ولا
يعلم: هل يعود أم لا! وهذا الكلام ليس على ظاهره بل له باطن، وهو أن من مزج
الأعمال الصالحة بالاعمال السيئة، مثل قوله: (خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا) (3)

(1) ديوانه 13.
(2) ب " بغاء " تصحف، صوابه من أ.
(3) سورة التوبة 102.
103

فإنه مخاطر لأنه لا يأمن أن يكون بعض تلك السيئات تحبط أعماله الصالحة، كما لا يأمن أن
يكون بعض أعماله الصالحة يكفر تلك السيئات، والمراد أنه لا يجوز للمكلف أن يفعل إلا
الطاعة أو المباح.
الرابع والعشرون قوله: " رب يسير أنمى من كثير "، قد جاء في الأثر: قد يجعل الله
من القليل الكثير، ويجعل من الكثير البركة. وقال الفرزدق:
فإن تميما قبل أن يلد الحصا * أقام زمانا وهو في الناس واحد
وقال أبو عثمان الجاحظ: رأينا بالبصرة أخوين، كان أبوهما يحب أحدهما ويبغض الاخر،
فأعطى محبوبه يوم موته كل ماله - وكان أكثر من مائتي ألف درهم - ولم يعط الاخر
شيئا، وكان يتجر في الزيت: ويكتسب منه ما يصرفه في نفقة عياله، ثم رأينا أولاد
الأخ الموسر بعد موت الأخوين من عائلة ولد الأخ المعسر يتصدقون عليهم من
فواضل أرزاقهم.
الأصل:
لا خير في معين مهين، ولا في صديق ظنين.
ساهل الدهر ما ذل لك قعوده، ولا تخاطر بشئ رجاء أكثر منه، وإياك أن
تجمح بك مطية اللجاج.
احمل نفسك من أخيك عند صرمه على الصلة، وعند صدوده على اللطف والمقاربة،
وعند جموده على البذل، وعند تباعده على الدنو، وعند شدته على اللين، وعند
جرمه على العذر، حتى كأنك له عبد، وكأنه ذو نعمة عليك.
104

وإياك أن تضع ذلك في غير موضعه، أو أن تفعله بغير أهله.
لا تتخذن عدو صديقك صديقا فتعادي صديقك، وامحض أخاك النصيحة،
حسنة كانت أو قبيحة، وتجرع الغيظ فإني لم أر جرعة أحلى منها عاقبة،
ولا ألذ مغبة. ولن لمن غالظك فإنه يوشك أن يلين لك، وخذ على عدوك
بالفضل فإنه أحد الظفرين، وإن أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقية
يرجع إليها إن بدا له ذلك يوما ما. ومن ظن بك خيرا فصدق ظنه، ولا تضيعن
حق أخيك اتكالا على ما بينك وبينه، فإنه ليس لك بأخ من أضعت حقه.
ولا يكن أهلك أشقى الخلق بك. ولا ترغبن فيمن زهد عنك، ولا يكونن
أخوك أقوى على قطيعتك منك على صلته، ولا تكونن على الإساءة أقوى منك
على الاحسان، ولا يكبرن عليك ظلم من ظلمك، فإنه يسعى في مضرته ونفعك،
وليس جزاء من سرك أن تسوءه.
الشرح:
هذا الفصل قد اشتمل على كثير من الأمثال الحكمية.
فأولها قوله: " لا خير في معين مهين، ولا في صديق ظنين "، مثل الكلمة الأولى
قولهم:
إذا تكفيت بغير كاف * وجدته للهم غير شاف
ومن الكلمة الثانية أخذ الشاعر قوله:
فإن من الاخوان من شحط النوى * به وهو راع للوصال أمين
ومنهم صديق العين أما لقاؤه * فحلو وأما غيبه فظنين
105

وثانيها قوله: " ساهل الدهر ما ذل لك قعوده "، هذا استعارة، والقعود البكر
حين يمكن ظهره من الركوب إلى أن يثنى، ومثل هذا المعنى قولهم في المثل: من ناطح
الدهر أصبح أجم.
ومثله:
* ودر مع الدهر كيفما دارا *
ومثله:
ومن قامر الأيام عن ثمراتها * فأحر بها أن تنجلي ولها القمر (1)
ومثله:
إذا الدهر أعطاك العنان فسر به * رويدا ولا تعنف فيصبح شامسا
وثالثها قوله: " لا تخاطر بشئ رجاء أكثر منه "، هذا مثل قولهم: من طلب
الفضل، حرم الأصل.
ورابعها قوله: " إياك وأن تجمح بك مطية اللجاج "، هذا استعارة، وفي المثل:
ألج من خنفساء، وألج من زنبور. وكان يقال: اللجاج من القحة، والقحة من قلة الحياء،
وقلة الحياء من قلة المروءة، وفي المثل: لج صاحبك فحج.
وخامسها قوله: " احمل نفسك من أخيك "، إلى قوله: " أو تفعله بغير أهله "
اللطف، بفتح اللام والطاء، الاسم من ألطفه بكذا أي بره به، وجاءتنا لطفة من فلان
أي هدية، والملاطفة المبارة. وروي " عن اللطف " وهو الرفق للامر، والمعنى أنه أوصاه
إذا قطعه أخوه أن يصله، وإذا جفاه أن يبره، وإذا بخل عليه أن يجود عليه، إلى آخر
الوصاة.
ثم قال له: لا تفعل ذلك مع غير أهله، قال الشاعر:

(1) القمر: الغلبة في القمار.
106

وإن الذي بيني وبين بنى أبى * وبين بنى أمي لمختلف جدا (1)
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم * وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
وإن زجروا طيرا بنحس تمر بي * زجرت لهم طيرا تمر بهم سعدا
ولا أحمل الحقد القديم عليهم * وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
وقال الشاعر:
إني وإن كان ابن عمي كاشحا * لمقاذف من خلفه وورائه (2)
ومفيده نصري وإن كان امرأ * متزحزحا في أرضه وسمائه
وأكون والي سره وأصونه * حتى يحق علي وقت أدائه
وإذا الحوادث أجحفت بسوامه * قرنت صحيحتنا إلى جربائه
وإذا دعا باسمي ليركب مركبا * صعبا قعدت له على سيسائه (3)
وإذا أجن فليقة في خدره * لم أطلع مما وراء خبائه (4)
وإذا ارتدى ثوبا جميلا لم أقل * يا ليت أن علي فضل ردائه!
وسادسها قوله: " لا تتخذن عدو صديقك صديقا فتعادي صديقك "، قد قال الناس
في هذا المعنى فأكثروا، قال بعضهم:
إذا صافي صديقك من تعادي * فقد عاداك وانقطع الكلام
وقال آخر:
صديق صديقي داخل في صداقتي * وخصم صديقي ليس لي بصديق
وقال آخر:
تود عدوي ثم تزعم أنني * صديقك إن الرأي عنك لعازب

(1) للمقنع الكندي، ديوان الحماسة - بشرح المرزوقي 3: 1179.
(2) لعروبة المدني، الأغاني 20 - 168، وطبقات الزبيدي 57.
(3) السيساء في الأصل: منتظم فقار الظهر.
(4) الفليقة: القليل من الشعر. والخدر: الستر.
107

وسابعها قوله: " وامحض أخاك النصيحة، حسنة كانت أو قبيحة "، ليس يعنى عليه
السلام بقبيحة ها هنا القبيح الذي يستحق به الذم والعقاب، وإنما يريد نافعة له في العاجل
كانت أو ضارة له في الاجل، فعبر عن النفع والضرر بالحسن والقبيح، كقوله تعالى:
(وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون) (1).
وقد فسره قوم فقالوا: أراد: كانت نافعة لك أو ضارة لك، ويحتمل تفسير آخر وهو
وصيته إياه أن يمحض أخاه النصيحة سواء كانت مما لا يستحيا من ذكرها وشياعها،
أو كانت مما يستحيا من ذكرها واستفاضتها بين الناس، كمن ينصح صديقه في أهله ويشير
عليه بفراقهم لفجور اطلع عليه منهم، فإن الناس يسمون مثل هذا إذا شاع قبيحا.
وثامنها قوله: " تجرع الغيظ فإني لم أر جرعة أحلى منها عاقبة ولا ألذ مغبة "
هذا مثل قولهم: الحلم مرارة ساعة، وحلاوة الدهر كله. وكان يقال: التذلل للناس
مصايد الشرف.
قال المبرد في " الكامل ": أوصى علي بن الحسين ابنه محمد بن علي عليهم السلام،
فقال: يا بنى، عليك بتجرع الغيظ من الرجال، فإن أباك لا يسره بنصيبه من تجرع
الغيظ من الرجال حمر النعم، والحلم أعز ناصرا وأكثر عددا (2).
وتاسعها قوله: " لن لمن غالظك، فإنه يوشك أن يلين لك "، هذا مثل المثل
المشهور: " إذا عز أخوك فهن "، والأصل في هذا قوله تعالى: (ادفع بالتي هي أحسن
فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) (3).
وعاشرها قوله: " خذ على عدوك بالفضل فإنه أحد الظفرين " هذا معنى مليح، ومنه
قول ابن هانئ في المعز (4):

(1) سورة الروم 36.
(2) الكامل.
(3) سورة فصلت 34.
(4) ب: " المعتز "، تصحف، صوابه في أ.
108

ضراب هام الروم منتقما وفي * أعناقهم من جوده أعباء
لولا انبعاث السيف وهو مسلط * في قتلهم قتلتهم النعماء
وكنت كاتبا بديوان الخلافة، والوزير حينئذ نصير الدين أبو الأزهر أحمد بن الناقد
رحمه الله، فوصل إلى حضرة الديوان في سنة اثنتين وثلاثين وستمائة محمد بن محمد أمير
البحرين على البر، ثم وصل بعده الهرمزي صاحب هرمز في دجلة بالمراكب البحرية -
وهرمز هذه فرضة في البحر نحو عمان - وامتلأت بغداد من عرب محمد بن محمد وأصحاب
الهرمزي - وكانت تلك الأيام أياما غراء زاهرة لما أفاض المستنصر على الناس من عطاياه،
والوفود تزدحم من أقطار الأرض على أبواب ديوانه - فكتبت يوم دخول الهرمزي إلى
الوزير أبياتا سنحت على البديهة، وأنا متشاغل بما كنت فيه من مهام الخدمة، وكان رحمه
الله لا يزال يذكرها وينشدها ويستحسنها (1):
يا أحمد بن محمد أنت الذي * علقت يداه بأنفس الأعلاق
ما أملت بغداد قبلك أن ترى * أبدا ملوك البحر في الأسواق
ولهوا عليها غيرة وتنافسوا * شغفا بها كتنافس العشاق
وغدت صلاتك في رقاب سراتهم * ونداك كالأطواق في الأعناق
بسديد رأيك أصلحت جمحاتهم * وتألفوا من بعد طول شقاق
لله همة ماجد لم تعتلق * بسحيل آراء ولا أحذاق (2)
جلب السلاهب من أراك وبعدها * جلب المراكب من جزيرة واق
هذا العداء هو العداء فعد عن * قول ابن حجر في لأي وعناق
وأظنه والظن علم أنه * سيجيئنا بممالك الآفاق
إما أسير صنيعة في جيده * بالجود غل أو أسير وثاق

(1) ديوانه 5 (المطبعة الأميرية) 1274.
(2) السحيل والأحذاق: الحبال الضعيفة.
109

لا زال في ظل الخليفة ما له * فان وسؤدده المعظم باق
وحادي عشرها قوله: " إن أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقية يرجع
إليها إن بدا ذلك له يوما "، هذا مثل قولهم: " أحبب حبيبك هونا ما، عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وابغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما "، وما كان
يقال: إذا هويت فلا تكن غاليا، وإذا تركت فلا تكن قاليا.
وثاني عشرها قوله: " من ظن بك خيرا فصدق ظنه " كثير من أرباب الهمم يفعلون
هذا، يقال لمن قد شدا طرفا من العلم: هذا عالم، هذا فاضل، فيدعوه ما ظن فيه من
ذلك إلى تحقيقه، فيواظب على الاشتغال بالعلم حتى يصير عالما فاضلا حقيقة، وكذلك يقول
الناس: هذا كثير العبادة، هذا كثير الزهد، لمن قد شرع في شئ من ذلك فتحمله أقوال
الناس على الالتزام بالزهد والعبادة.
وثالث عشرها قوله: " ولا تضيعن حق أخيك اتكالا على ما بينك وبينه، فإنه
ليس لك بأخ من أضعت حقه "، من هذا النحو قول الشاعر:
إذا خنتم بالغيب عهدي فما لكم * تدلون إدلال المقيم على العهد
صلوا وافعلوا فعل المدل بوصله * وإلا فصدوا وافعلوا فعل ذي الصد
وكان يقال: إضاعة الحقوق، داعية العقوق.
ورابع عشرها قوله: " لا ترغبن فيمن زهد فيك " الرغبة في الزاهد هي الداء
العياء، قال العباس بن الأحنف:
ما زلت أزهد في مودة راغب * حتى ابتليت برغبة في زاهد
هذا هو الداء الذي ضاقت به * حيل الطبيب وطال يأس العائد
110

وقد قال الشعراء المتقدمون والمتأخرون فأكثروا نحو قولهم:
وفى الناس إن رثت حبالك واصل * وفى الأرض عن دار القلى متحول (1).
وقول تأبط شرا (2)
إني إذا خلة ضنت بنائلها * وأمسكت بضعيف الحبل أحذاقي (3)
نجوت منها نجائي من بجيلة إذ * ألقيت ليله خبت الرهط أرواقي (4)
وخامس عشرها قوله: لا يكونن أخوك أقوى على قطيعتك منك على صلته، ولا
تكونن على الإساءة أقوى منك على الاحسان ". هذا أمر له بأن يصل من قطعه، وأن
يحسن إلى من أساء إليه.
ظفر المأمون عبد الله بن هارون الرشيد بكتب قد كتبها محمد بن إسماعيل بن جعفر
الصادق عليه السلام إلى أهل الكرخ وغيرهم من أعمال أصفهان يدعوهم فيها إلى نفسه،
فأحضرها بين يديه، ودفعها إليه، وقال له: أتعرف هذه؟ فأطرق خجلا، فقال له: أنت آمن، وقد وهبت هذا الذنب لعلى وفاطمة عليهما السلام، فقم إلى منزلك، وتخير
ما شئت من الذنوب، فإنا نتخير لك مثل ذلك من العفو.
وسادس عشرها قوله: " لا يكبرن عليك ظلم من ظلمك، فإنه يسعى في مضرته ونفعك
وليس جزاء من سرك أن تسوءه "، جاء في الخبر المرفوع أنه صلى الله عليه وآله سمع عائشة
تدعو على من سرق عقدا لها فقال لها: " لا تمسحي عنه بدعائك، أي لا تخففي عذابه ".
وقوله عليه السلام وليس جزاء من سرك أن تسوءه "، يقول لا تنتقم ممن ظلمك فإنه
قد نفعك في الآخرة بظلمه لك، وليس جزاء من ينفع إنسانا أن يسئ إليه. وهذا مقام جليل

(1) لمعن بن أوس، ديوانه 59.
(2) المفضليات 8.
(3) الخلة: الصداقة، وتقال للصديق، وتطلق على المذكر والمؤنث والمثنى والجمع، وأنت الضمائر من
أجل اللفظ، والأحذاق: القطع من الحبال.
(4) الخبت: اللين من الأرض. الرهط: موضع. ألقيت أرواقي: استفرغت جهدي وعدوت عدوا شديدا.
111

لا يقدر عليه إلا الافراد من الأولياء الأبرار. وقبض بعض الجبابرة على قوم صالحين،
فحبسهم وقيدهم، فلما طال عليهم الامر زفر بعضهم زفرة شديدة، ودعا على ذلك الجبار،
فقال له بعض أولاده - وكان أفضل أهل زمانه في العبادة. وكان مستجاب الدعوة:
لا تدع عليه فتخفف من عذابه، قالوا: يا فلان، ألا ترى ما بنا وبك! لا يأنف ربك لنا!
قال: إن لفلان مهبطا في النار لم يكن ليبلغه إلا بما ترون، وان لكم لمصعدا في الجنة
لم تكونوا لتبلغوه إلا بما ترون. قالوا: فقد نال منا العذاب والحديد، فادع الله لنا
أن يخلصنا وينقذنا مما نحن فيه، قال: إني لأظن أنى لو فعلت لفعل، ولكن والله
لا أفعل حتى أموت هكذا، فألقى الله فأقول له: أي رب سل فلانا لم فعل بي هذا؟
ومن الناس من يجعل قوله عليه السلام: " وليس جزاء من سرك أن تسوءه "، كلمة مفردة
مستقلة بنفسها، ليست من تمام الكلام الأول، والصحيح ما ذكرناه.
وسابع عشرها - ومن حقه أن يقدم ذكره قوله: " ولا يكن أهلك أشقى الخلق بك "،
هذا كما يقال في المثل: من شؤم الساحرة أنها أول ما تبدأ بأهلها، والمراد من هذه الكلمة
النهى عن قطيعة الرحم وإقصاء الأهل وحرمانهم، وفى الخبر المرفوع: " صلوا أرحامكم
ولو بالسلام "،
الأصل:
واعلم يا بنى أن الرزق رزقان: رزق تطلبه، ورزق يطلبك، فإن أنت
لم تأته أتاك.
ما أقبح الخضوع عند الحاجة، والجفاء عند الغنى!
إنما لك من دنياك، ما أصلحت به مثواك، وإن كنت جازعا على ما تفلت
من يديك، فاجزع على كل ما لم يصل إليك.
112

استدل على ما لم يكن بما قد كان فان، الأمور أشباه، ولا تكونن ممن
لا تنفعه العظة إذا بالغت في إيلامه، فان العاقل يتعظ بالآداب والبهائم
لا تتعظ إلا بالضرب.
أطرح عنك واردات الهموم بعزائم الصبر وحسن اليقين.
من ترك القصد جار. والصاحب مناسب، والصديق من صدق غيبه والهوى
شريك العمى، ورب بعيد أقرب من قريب، وقريب أبعد من بعيد، والغريب
من لم يكن له حبيب.
* * *
من تعدى الحق ضاق مذهبه، ومن اقتصر على قدره كان أبقى له،
وأوثق سبب أخذت به سبب بينك وبين الله سبحانه. ومن لم يبالك
فهو عدوك.
قد يكون اليأس إدراكا، إذا كان الطمع هلاكا.
ليس كل عورة تظهر، ولا كل فرصة تصاب، وربما أخطأ البصير قصده،
وأصاب الأعمى رشده.
أخر الشر فإنك إذا شئت تعجلته، وقطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل.
من أمن الزمان خانه، ومن أعظمه أهانه.
ليس كل من رمى أصاب.
إذا تغير السلطان، تغير الزمان.
سل عن الرفيق قبل الطريق، وعن الجار قبل الدار.
* * *
113

الشرح:
في بعض الروايات: " أطرح عنك واردات الهموم بحسن الصبر وكرم العزاء "، قد
مضى لنا كلام شاف في الرزق.
وروى أبو حيان قال: رفع الواقدي إلى المأمون رقعة يذكر فيها غلبة الدين عليه،
وكثرة العيال، وقلة الصبر، فوقع المأمون عليها: أنت رجل فيك خلتان، السخاء والحياء
فأما السخاء فهو الذي أطلق ما في يديك، وأما الحياء فهو بلغ بك إلى ما ذكرت،
وقد أمرنا لك بمائة ألف درهم، فإن كنا أصبنا إرادتك فازدد في بسط يدك، وإن كنا لم
نصب إرادتك فبجنايتك على نفسك، وأنت كنت حدثتني وأنت على قضاء الرشيد عن محمد
ابن إسحاق، عن الزهري، عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال
للزبير: " يا زبير، إن مفاتيح الرزق بإزاء العرش، ينزل الله تعالى للعباد أرزاقهم على قدر
نفقاتهم، فمن كثر كثر له، ومن قلل قلل له ".
قال الواقدي: وكنت أنسيت هذا الحديث، وكانت مذاكرته إياي به أحب
من صلته.
* * *
واعلم أن هذا الفصل يشتمل على نكت كثيرة حكمية:
منها قوله " الرزق رزقان: رزق تطلبه، ورزق يطلبك " وهذا حق، لان ذلك إنما يكون
على حسب ما يعلمه الله تعالى من مصلحة المكلف، فتارة يأتيه الرزق بغير اكتساب
ولا تكلف حركة، ولا تجشم سعى، وتارة يكون الامر بالعكس.
دخل عماد الدولة أبو الحسن بن بويه شيراز بعد أن هزم ابن ياقوت عنها، وهو فقير
114

لا مال له، فساخت إحدى قوائم فرسه في الصحراء في الأرض، فنزل عنها وابتدرها غلمانه
فخلصوها، فظهر لهم في ذلك الموضع نقب وسيع، فأمرهم بحفره، فوجدوا (1) فيه أموالا
عظيمة وذخائر لابن ياقوت، ثم استلقى يوما آخر على ظهره في داره بشيراز التي كان ابن
ياقوت يسكنها فرأى حية في السقف، فأمر غلمانه بالصعود إليها وقتلها، فهربت منهم، ودخلت في خشب الكنيسة فأمر أن يقلع الخشب وتستخرج وتقتل، فلما قلعوا الخشب
وجدوا فيه أكثر من خمسين ألف دينار ذخيرة لابن ياقوت.
واحتاج أن يفصل ويخيط ثيابا له ولأهله فقيل: هاهنا خياط حاذق كان يخيط لابن
ياقوت، وهو رجل منسوب إلى الدين والخير، إلا أنه أصم لا يسمع شيئا أصلا، فأمر
بإحضاره، فأحضر وعنده رعب وهلع، فلما أدخله إليه كلمه، وقال: أريد أن تخيط لنا كذا
وكذا قطعة من الثياب، فارتعد الخياط واضطرب كلامه، وقال: والله يا مولانا ما له عندي
إلا أربعة صناديق ليس غيرها، فلا تسمع قول الأعداء في. فتعجب عماد الدولة وأمر بإحضار
الصناديق، فوجدها كلها ذهبا وحليا وجواهر مملوءة وديعة لابن ياقوت.
أ اما الرزق الذي يطلبه الانسان ويسعى إليه فهو كثير جدا لا يحصى.
ومنها قوله: " ما أقبح الخضوع عند الحاجة، والجفاء عند الغنى "! هذا من قول الله
تعالى: " حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبه وفرحوا بها جاءتها
ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله
مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين * فلما أنجاهم
إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق) (2).
ومن الشعر الحكمي في هذا الباب قول الشاعر:
خلقان لا أرضاهما لفتى: * تيه الغني ومذلة الفقر

(1) ا: " فوجد ".
(2) سورة يونس 22، 23.
115

فإذا غنيت فلا تكن بطرا * وإذا افتقرت فته على الدهر.
ومنها قوله: " إنما لك من دنياك، ما أصلحت به مثواك "، هذا من كلام رسول الله
صلى الله عليه وآله: " يا بن آدم ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست
فأبليت، أو تصدقت فأبقيت ".
وقال أبو العتاهية:
ليس للمتعب المكادح من دنياه * إلا الرغيف والطمران (1).
ومنها قوله: " وإن كنت جازعا على ما تفلت من يديك، فاجزع على كل ما لم يصل
إليك "، يقول: لا ينبغي أن تجزع على ما ذهب من مالك، كما لا ينبغي أن تجزع
على ما فاتك من المنافع والمكاسب، فإنه لا فرق بينهما، إلا أن هذا حصل، ذاك
لم يحصل بعد، وهذا فرق غير مؤثر، لان الذي تظن أنه حاصل لك غير حاصل في الحقيقة،
وإنما الحاصل على الحقيقة ما أكلته ولبسته، وأما القنيات والمدخرات فلعلها ليست لك،
كما قال الشاعر: وذي إبل يسقى ويحسبها له أخي تعب في رعيها ودؤوب
غدت وغدا رب سواه يسوقها وبدل أحجارا وجال قليب.
ومنها قوله: (استدل على ما لم يكن بما كان، فإن للأمور أشباها) يقال: إذا شئت
أن تنظر للدنيا بعدك فانظرها بعد غيرك.
وقال أبو الطيب في سيف الدولة: ذكى تظنيه، طليعة عينه يرى قلبه في يومه ما يرى غدا (2)
ومنها قوله: (ولا تكونن ممن لا تنفعه العظة...) إلى قوله: (إلا بالضرب)
هو قول الشاعر:

(1) الطمران: تثنية طمر، وهو الثوب الخالق البالي.
(2) ديوان 1: 282، والتظني: التظنين، والطليعة: الذي يطلع القوم على العدو
116

العبد يقرع بالعصا والحر تكفيه الملامة (1)
وكان يقال: اللئيم كالعبد، والعبد كالبهيمة عتبها ضربها.
ومنها قوله: (اطرح عنك واردات الهموم بحسن الصبر وكرم العزاء) (2) هذا كلام
شريف فصيح عظيم النفع والفائدة، وقد أخذ عبد الله بن الزبير بعض هذه الألفاظ فقال في
خطبته لما ورد عليه الخبر بقتل مصعب أخيه: (لقد جاءنا من العراق خبر أحزننا وسرنا،
جاءنا خبر قتل مصعب، فأما سرورنا فلان ذلك كان له شهادة، وكان لنا إن شاء الله خيرة،
وأما الحزن فلوعة يجدها الحميم عند فراق حميمه، ثم يرعوي بعدها ذو الرأي إلى حسن
الصبر وكرم العزاء)
ومنها قوله: (من ترك القصد جار) القصد الطريق المعتدل، يعنى أن خير الأمور
أوسطها فإن الفضائل تحيط بها الرذائل فمن تعدى هذه يسيرا وقع في هذه.
ومنها قوله: (الصاحب مناسب)، كان يقال، الصديق نسيب الروح، والأخ نسيب
البدن، قال أبو الطيب: ما الخل إلا من أود بقلبه وأرى بطرف لا يرى بسوائه (3)
ومنها قوله: (الصديق من صدق غيبه):، من هاهنا أخذ أبو نواس قوله
في المنهوكة (4):
هل لك والهل خبر * فيمن إذا غبت حضر
أو ما لك اليوم أثر * فإن رأى خيرا شكر
* أو كان تقصير عذر *
ومنها قوله: (الهوى شريك العمى) هذا مثل قولهم: (حبك الشئ يعمى ويصم) قال
الشاعر:

(1) لابن مفزع، الشعر والشعراء 315.
(2) بلفظ الرواية الثانية.
(3) ديوان 1: 4.
(4) المنهوك من الرجز والمنسرح: ما ذهب ثلثاه وبقى ثلثه، كقوله في الرجز: * يا ليتني فيها جذع * وقوله في المنسرح: * ويل أم سعد سعدا *.
117

وعين الرضا عن كل عيب كليلة * كما أن عين السخط تبدى المساويا (1)
ومنها قوله: (رب بعيد أقرب من قريب، وقريب، أبعد من بعيد) هذا معنى مطروق
قال الشاعر:
لعمرك ما يضر البعد يوما * إذا دنت من القلوب.
وقال الأحوص:
إني لأمنحك الصدود وإنني * قسما إليك مع الصدود لأميل (2)
وقال البحتري:
ونازحة والدار منها قريبة * وما قرب ثاو في التراب مغيب!
ومنها قوله (والغريب من لم يكن له حبيب) يريد بالحبيب هاهنا المحب لا المحبوب
قال الشاعر:
أسرة المرء والداه وفيما * بين جنبيهما الحياة تطيب
وإذا وليا عن المرء يوما * فهو في الناس أجنبي غريب.
ومنها قوله (من تعدى الحق ضاق بمذهبه) يريد بمذهبه هاهنا طريقته، وهذه
استعارة، ومعناه أن طريق الحق لا مشقة فيها لسالكها، وطرق الباطل فيها المشاق والمضار،
وكان سالكها سالك طريقة ضيقة يتعثر فيها، ويتخبط في سلوكها
ومنها قوله (من اقتصر على قدره كان أبقى له). هذا مثل قوله: (رحم الله امرأ
عرف قدره، ولم يتعد طوره) وقال: من جهل قدره قتل نفسه. وقال أبو الطيب:
ومن جهلت نفسه قدره * رأى غيره منه ما لا يرى

(1) لعبد الله بن معاوية، الأغاني 12: 214: (2) الأغاني
118

ومنها قوله (أوثق سبب أخذت به، سبب بينك وبين الله سبحانه، هذا من قول الله تعالى: (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن من بالله فقد أستمسك بالعروة
الوثقى لا انفصام لها) (1)
ومنها قوله: (فمن لم يبالك فهو عدوك)، أي لم يكترث بك وهذه الوصاة خاصه
بالحسن عليه السلام وأمثاله من الولاة أرباب الرعايا، وليست عامه للسوقة من أفناء
الناس، وذلك لان الوالي إذا أنس من بعض رعيته أنه لا يباليه ولا يكترث به، فقد
أبدى صفحته، ومن أبدى لك صفحته فهو عدوك، وأما غير الوالي من أفناء الناس،
فليس أحدهم إذا لم يبال الاخر بعدو له.
ومنها قوله (قد يكون اليأس إدراكا إذا كان الطمع هلاك)، هذا مثل
قول القائل
من عاش لاقى ما يسوء * من الأمور وما يسر
ولرب حتف فوقه * ذهب وياقوت ودر
والمعنى: ربما كان بلوغ الامل في الدنيا والفوز بالمطلوب منها سببا للهلاك فيها، إذا
كان كذلك، كان الحرمان خيرا من الظفر.
ومنها قوله (ليس كل عورة تظهر، ولا كل فرصه تصاب) يقول: قد تكون
عورة العدو مستترة عنك فلا تظهر، وقد تظهر لك ولا يمكنك إصابتها.
وقال بعض الحكماء: الفرصة نوعان: فرصة من عدوك، وفرصة في غير عدوك،
فالفرصة من عدوك ما إذا بلغتها نفعتك، وان فاتتك ضرتك وفي غير عدوك ما إذا
أخطأك نفعه لم يصل إليك ضره.

(1) سورة البقرة 256
119

ومنها قوله (فربما أخطأ البصير قصده، وأصاب الأعمى رشده) من هذا النحو
قولهم في المثل: (مع الخواطئ سهم صائب)، وقولهم: (رمية من غير رام) وقالوا في مثل
اللفظة الأولى (الجواد يكبو، والحسام قد ينبو) وقالوا قد (يهفو الحليم، ويجهل العليم).
ومنها قوله: (أخر الشر فإنك إذا شئت تعجلته) مثل هذا: قولهم في الأمثال
الطفيلية: (كل إذا وجدت، فإنك على الجوع قادر) ومن الأمثال الحكمية:
(ابدأ بالحسنة قبل السيئة، فلست بمستطيع للحسنة في كل وقت وأنت على الإساءة
متى شئت قادر).
ومنها قوله (قطيعه الجاهل تعدل صله العاقل)، هذا حق، لان الجاهل إذا قطعك
انتفعت ببعده عنك كما تنتفع بمواصلة الصديق العاقل لك، وهذا كما يقول المتكلمون:
عدم المضرة كوجود المنفعة، ويكاد أن يبتنى على هذا قولهم: كما أن فعل المفسدة قبيح
من البارئ فالاخلال باللطف منه أيضا يجب أن يكون قبيحا.
ومنها قوله (من أمن الزمان خانه، ومن أعظمه أهانه) مثل الكلمة الأولى
قول الشاعر:
ومن يأمن الدنيا يكن مثل قابض * على الماء خانته فروج الأنامل.
وقالوا: أحذر الدنيا ما استقامت لك. ومن الأمثال الحكمية: (من أمن الزمان
ضيع ثغرا مخوفا). ومثل الكلمة الثانية قولهم: (الدنيا كالأمة اللئيمة المعشوقة، كلما
ازددت لها عشقا وعليها تهالكا ازدادت إذلالا، وعليك شطاطا).
وقال أبو الطيب:
وهي معشوقة على الغدر لا * تحفظ عهدا ولا تتمم وصلا
120

شيم الغانيات فيها فلا أدري * لذا أنث اسمها الناس أم لا (1)!
ومنها قوله: (ليس كل من رمى أصاب) هذا معنى مشهور، قال أبو الطيب:
ليس كل من طلب المعالي نافذا * فيها، ولا كل الرجال فحولا
ومنها قوله: (إذا تغير السلطان، تغير الزمان). في كتب الفرس ان أنوشروان
جمع عمال السواد وبيده دره يقلبها، فقال: أي شئ أضر بارتفاع السواد وادعى
إلى محقه؟ أيكم قال ما في نفسي جعلت هذه الدرة في فيه؟ فقال بعضهم: انقطاع
الشرب وقال بعضهم احتباس المطر، وقال بعضهم: استياء الجنوب وعدم الشمال،
فقال لوزيره: قل أنت فإني أظن عقلك يعادل عقول الرعية لكلها أو يزيد عليها،
قال: تغير رأى السلطان في رعيته، وإضمار الحيف لهم، والجور عليهم،
فقال: لله أبوك! بهذا العقل أهلك آبائي وأجدادي لما أهلوك له. ودفع إليه الدرة
فجعلها في فيه.
ومنها قوله: (سل عن الرقيق، قبل الطريق، وعن الجار، قبل الدار) وقد روى
هذا الكلام مرفوعا، وفى المثل: (جار السوء كلب هارش، وأفعى ناهش).
وفي المثل: الرفيق إما رحيق
* * *
الأصل: إياك أن تذكر من الكلام ما يكون مضحكا وإن حكيت ذلك عن غيرك

(1) ديوان 3: 130.
121

وإياك ومشاورة النساء فإن رأيهن إلى أفن، وعزمهن إلى وهن، واكفف
عليهن من أبصارهن بحجابك إياهن، فإن شدة الحجاب أبقى عليهن، وليس
خروجهن بأشد من إدخالك من لا يوثق به عليهن، وإن استطعت الا يعرفن غيرك فافعل.
ولا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها، فإن المرأة ريحانة وليست
بقهرمانة. ولا تعد بكرامتها نفسها، ولا تطمعها في أن تشفع لغيرها.
وإياك والتغاير في غير موضع غيرة، فإن ذلك يدعو الصحيحة إلى السقم
والبريئة إلى الريب. واجعل لكل إنسان من خدمك عملا تأخذه به، فإنه أحرى ألا يتواكلوا
في خدمتك. وأكرم عشيرتك، فإنهم جناحك الذي به تطير، وأصلك الذي إليه تصير،
ويدك التي بها تصول استودع الله دينك ودنياك، واسأله خير القضاء لك في العاجلة الأجلة،
والدنيا والآخرة. والسلام.
* * *
الشرح: نهاه أن يذكر من الكلام ما كان مضحكا، لان ذلك من شغل أرباب الهزل
والبطالة، وقل أن يخلو ذلك من غيبة أو سخرية. ثم قال: وإن حكيت ذلك عن غيرك
فإنه كما يستهجن الابتداء بذلك يستهجن حكايته عن الغير، وذلك كلام فصيح،
ألا ترى أنه لا يجوز الابتداء بكلمة الكفر، ويكره أيضا حكايتها، وقال عمر لما نهاه
122

رسول الله صلى الله عليه وآله أن يحلف بالله: فما حلفت به ذاكرا، ولا آثرا، ولا حاكيا.
وكان يقال: من مازح استخف به، ومن كثر ضحكه قلت هيبته.
فأما مشاورة النساء فإنه من فعل عجزة الرجال، قال الفضل بن الربيع أيام الحرب بين
الأمين والمأمون في كلام يذكر فيه الأمين ويصفه بالعجز: ينام نوم الظربان، وينتبه
انتباهة الذئب، همه بطنه ولذته فرجه، لا يفكر في زوال نعمة، ولا يروى في إمضاء
رأى ولا مكيدة، قد شمر له عبد الله عن ساقه، وفوق له أشد سهامه، يرميه على بعد الدار بالحتف النافذ، والموت القاصد، قد عبى له المنايا على متون الخيل وناط له
البلايا بأسنة الرماح، وشفار السيوف، فكأنه هو قال هذا الشعر ووصف به نفسه وأخاه:
يقارع أتراك ابن خاقان ليله * إلى أن يرى الاصباح لا يتلعثم
فيصبح من طول الطراد وجسمه * نحيل وأضحى في النعيم أصمم
وهمي كأس من عقار وقينة * وهمته درع ورمح ومخذم
فشتان ما بيني وبين ابن خالد * أمية في الرزق الذي الله يقسم.
ونحن معه نجري إلى غاية إن قصرنا عنها ذممنا، وإن اجتهدنا في بلوغها انقطعنا،
وإنما نحن شعب من أصل، إن قوى قوينا، إن ضعف ضعفنا، إن هذا الرجل قد ألقى
بيده إلقاء الأمة الوكعاء، يشاور النساء، ويعتزم على الرؤيا، قد أمكن أهل الخسارة واللهو
من سمعه، فهم يمنونه الظفر، ويعدونه عقب الأيام، والهلاك أسرع إليه من السيل
إلى قيعان الرمل.
* * *
قوله عليه السلام: (فإن رأيهن إلى أفن) الأفن بالسكون: النقص والمتأفن:
123

المتنقص، يقال: فلان يتأفن فلانا، أي يتنقصه ويعيبه. ومن رواه (إلى أفن بالتحريك
فهو ضعف الرأي، أفن الرجل يأفن أفنا أي ضعف رأيه، وفى المثل (إن الرقين
تغطي أفن الأفين) (1) والوهن: الضعف.
قوله: (واكفف عليهن من أبصارهن) من هاهنا زائدة، وهو مذهب أبي الحسن
الأخفش في زيادة من في الموجب، ويجوز أن يحمل على مذهب سيبويه، فيعني به: فاكفف
عليهن بعض أبصارهن.
ثم ذكر فائدة الحجاب، ونهاه أن يدخل عليهن من لا يوثق به، وقال: إن
خروجهن أهون من ذلك، وذلك لان من تلك صفته يتمكن من الخلوة مالا يتمكن منه
من يراهن في الطرقات.
ثم قال: (إن استطعت ألا يعرفن غيرك فافعل). كان لبعضهم بنت حسناء، فحج
بها، وكان يعصب عينيها، ويكشف للناس وجهها، فقيل له في ذلك، فقال: إنما الحذر
من رؤيتها الناس، لا من رؤية الناس لها.
قال: (ولا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها)، أي لا تدخلها معك في تدبير ولا مشورة، ولا تتعدين حال نفسها وما يصلح شأنها.
فان المرأة ريحانه، وليست بقهرمانة، أي إنما تصلح للمتعة واللذة، وليست وكيلا
في مال ولا وزيرا في رأي.
ثم أكد الوصية الأولى، فقال: لا تعد بكرامتها نفسها، هذا هو قوله: (ولا تملكها
من أمرها ما جاوز نفسها).
ثم نهاه ان يطمعها في الشفاعات.

(1) اللسان (أفن، رقن) والراقين: الدرهم، سمى بذلك للترقين الذي فيه، يعنون الخط
124

وروى الزبير بن بكار، قال: كانت الخيزران كثيرا ما تكلم موسى ابنها - لما
استخلف - في الحوائج: وكان يجيبها إلى كل ما تسأل، حتى مضت أربعة أشهر من خلافته
وتتالى الناس عليها، وطمعوا فيها، فكانت المواكب تغدو إلى بابها، وكلمته يوما في أمر
فلم يجد إلى إجابتها سبيلا، واحتج عليها بحجة فقالت: لا بد من إجابتي، فقال: لا أفعل، قالت: إني قد ضمنت هذه الحاجة لعبد الله بن مالك، فغضب موسى وقال: ويلي على ابن
الفاعلة! قد علمت أنه صاحبها، والله لا قضيتها لك ولا له! قالت: والله لا أسألك حاجة أبدا قال إذن والله لا أبالي، فقامت مغضبة، فقال: مكانك تستوعبي كلامي، وأنا والله
برئ من قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله، لئن بلغني أنه وقف أحد من
قوادي وخاصتي وخدمي وكتابي على بابك لأضربن عنقه، ولأقبضن ماله، فمن
شاء فليلزم ذلك، ما هذه المواكب التي تغدو إلى بابك كل يوم! أما لك مغزل
يشغلك، أو مصحف يذكرك، أو بيت يصونك! إياك ثم إياك أن تفتحي
فاك في حاجة لملي أو ذمي. فانصرفت وما تعقل ما تطأ عليه، ولم تنطق عنده بحلوة ولا مرة بعدها حتى هلك.
* * *
وأخذ هذه اللفظة منه وهي قوله: (إن المرأة ريحانة، وليست بقهرمانة) الحجاج فقالها
للوليد بن عبد الملك، روى ابن قتيبة في كتاب (عيون الأخبار) قال: دخل الحجاج على الوليد بن عبد الملك وعليه درع وعمامة سوداء وفرس عربية، وكنانة، وذلك في أول قدمة قدمها
عليه من العراق، فبعثت أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان وهي تحت الوليد إليه، من هذا
الأعرابي المستلئم في السلاح
عندك وأنت في غلالة! فأرسل إليها: هذا الحجاج، فأعادت
إليه الرسول: (فقال: تقول لك والله لان يخلو بك ملك الموت في اليوم أحيانا أحب
125

إلى من أن يخلو بك الحجاج: فأخبره الوليد بذلك وهو يمازحه، فقال يا أمير المؤمنين، دع
عنك مفاكهة النساء بزخرف القول، فإنما المرأة ريحانه، وليست بقهرمانة، فلا تطلعها على
سرك ومكايدة عدوك. فلما دخل الوليد عليها أخبرها وهو يمازحها بمقاله الحجاج، فقالت:
يا أمير المؤمنين، حاجتي أن تأمره غدا أن يأتيني مسلما، ففعل ذلك، فأتاها الحجاج فحجبته،
فلم يزل قائما، ثم أذنت له فقالت: يا حجاج، أنت الممتن على أمير المؤمنين بقتلك ابن
الزبير وابن الأشعث! أما والله لولا أن الله علم أنك شر خلقه ما ابتلاك برمي الكعبة الحرام
ولا بقتل أبن ذات النطاقين أول مولود في دار هجرة الاسلام! وأما نهيك أمير المؤمنين
عن مفاكهة النساء وبلوغ لذاته وأوطاره، فإن كن ينفرجن عن مثلك فما أحقه بالأخذ منك!
إن كن ينفرجن عن مثله فهو غير قابل لقولك، أما والله لقد نقص نساء أمير المؤمنين الطيب من غدائرهن فبعنه في أعطيه أهل الشام حين كنت في أضيق من قرن، قد أظلتك
رماحهم، وأثخنك كفاحهم، وحين كان أمير المؤمنين أحب إليهم من أبنائهم وآبائهم
فأنجاك الله من عدو أمير المؤمنين بحبهم إياه قاتل الله القائل حين ينظر إليك، سنان
غزالة بين كتفيك:
أسد على وفي الحروب نعامة * ربداء تنفر من صفير الصافر (1)
هلا برزت إلى غزالة في الوغى * بل كان قلبك في جناحي طائر.
قم فاخرج فقام فخرج (2) *

(1) ذكر صاحب الأغاني أن غزالة الحرورية لما دخلت على الحجاج هي وشبيب بالكوفة تحصن منها
أغلق عليه قصره، فكتب إليه عمران بن حطان - وقد كان الحجاج لج في طلبه:
أسد على وفى الحروب نعامة * ربداء تجفل من صفير صافر
هلا برزت إلى غزالة في الوغى * بل كان قلبك في جناحي طائر
صدعت غزالة قلبه بفوارس * تركت مدابره كأمس الدابر
(2) عيون الأخبار 1: 170، 171
126

(بعض ما قيل في الغيرة من الشعر) فأما قوله عليه السلام (إياك والتغاير في غير موضع غيره) فقد قيل هذا المعنى،
قال بعض المحدثين
يا أيها الغائر مه لا تغر * إلا لما تدركه بالبصر
ما أنت في ذلك إلا كمن * بيته الدب لرمي الحجر.
وكان مسكين الدارمي أحد من يستهجن الغيرة، ويستقبح وقوعها في غير محلها
فمن شعره في هذا المعنى:
ما أحسن الغيرة في حينها * وأقبح الغيرة في غير حين! (1)
من لم يزل متهما عرسه * مناصبا. فيها لرجم الظنون (2)
يوشك أن يغريها بالذي * يخاف، أو ينصبها للعيون
حسبك من تحصينها ضمها * منك إلى خيم كريم ودين
لا تظهرن يوما على عوره * فيتبع المقرون حبل القرين (3)
وقال أيضا:
ألا أيها الغائر المستشيط * علام تغار إذ لم تغر! (4)
فما خير عرس إذا خفتها * وما خير بيت إذا لم يزر!
تغار من الناس ان ينظروا * وهل يفتن الصالحات النظر!
فإني سأخلي لها بيتها * فتحفظ لي نفسها أو تذر

(1) أمالي المرتضى 1: 467.
(2) الأمالي: (لرجم الظنون).
(3) أي إياك أن تطلع المرأة منك على زنا وريبة، فإنها أيضا تزني،
أو تفعل كما فعلت.
(4) أمالي المرتضى 1: 475 476.
127

إذا الله لم يعطه ودها * فلن يعطى الود سوط ممر
ومن ذا يراعى له عرسه * إذا ضمه والركاب السقر (1)
وقال أيضا:
ولست امرأ لا أبرح الدهر قاعدا * إلى جنب عرسي لا أفارقها شبرا (2)
ولا مقسما لا أبرح الدهر بيتها * لأجعله قبل الممات لها قبرا
ولا حاملا ظني ولا قول قائل * على غيره حتى أحيط به خبرا
وهبني امرأ راعيت ما دمت شاهدا * فكيف إذا ما سرت من بيتها شهرا!!
إذا هي لم تحصن لما في فنائها * فليس بمنجيها بنائي لها قصرا.
فأما قوله: (واجعل لكل إنسان من خدمك عملا تأخذه به) فقد قالت الحكماء هذا
المعنى، قال أبرويز في وصيته لولده شيرويه: وانظر إلى كتابك، فمن كان منهم
ذا ضياع قد أحسن عمارتها فوله الخراج، ومن كان منهم ذا عبيد قد أحسن سياستهم
وتثقيفهم فوله الجند، ومن كان منهم ذا سراري وضرائر قد أحسن القيام عليهن فوله
النفقات والقهرمة، وهكذا فاصنع في خدم دارك ولا تجعل أمرك فوضى بين خدمك
فيفسد عليك ملكك.
وأما قوله: (فأكرم عشيرتك فإنهم جناحك) فقد تقدم منا كلام في وجوب
الاعتضاد بالعشائر
* * *
(اعتزاز الفرزدق بقومه) روى أبو عبيدة قال: كان الفرزدق لا ينشد بين يدي الخلفاء والامراء إلا قاعدا،

(1) الأمالي: (المطي) (2) أمالي المرتضى 1: 467، وروايته: (وإني امرؤ).
128

فدخل على سليمان بن عبد الملك يوما، فأنشده شعرا فخر فيه بآبائه، وقال من جملته:
تالله ما حملت من ناقة رجلا * مثلي إذا الريح لفتني على الكور (1)
فقال سليمان: هذا المدح لي أم لك! قال: لي ولك يا أمير المؤمنين، فغضب سليمان
وقال: قم فأتمم، ولا تنشد بعده إلا قائما فقال، الفرزدق: لا والله أو يسقط إلى الأرض
أكثري شعرا. فقال سليمان: ويلي على الأحمق ابن الفاعلة! لا يكنى، وارتفع صوته،
فسمع الضوضاء بالباب فقال سليمان: ما هذا؟ قيل بنو تميم على الباب، قالوا: لا ينشد
الفرزدق قائما وأيدينا في مقابض سيوفنا، قال فلينشد قاعدا
* * *
(وفود الوليد بن جابر على معاوية) وروى أبو عبيد الله محمد بن بموسى بن عمران المرزباني، قال: كان الوليد بن جابر بن ظالم
الطائي ممن وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم، ثم صحب عليا عليه السلام، وشهد معه صفين، وكان من رجاله المشهورين، ثم وفد على معاوية في الاستقامة (2) وكان
معاوية لا يثبته (3)، معرفة، بعينه، فدخل عليه في جملة الناس، فلما انتهى إليه استنسبه، فانتسب له، فقال: أنت صاحب ليله الهرير؟ قال نعم: قال والله ما تخلو مسامعي من رجزك
تلك الليلة، وقد علا صوتك أصوات الناس، وأنت تقول:
شدوا فداء لكم أمي وأب * فإنما الامر غدا لمن غلب
هذا ابن عم المصطفى والمنتجب * تنمه للعلياء سادات العرب
ليس ليس بموصوم إذا نص النسب * أول من صلى وصام واقترب.
قال: نعم، أنا قائلها. قال: فلماذا قلتها؟ قال لأنا كنا مع رجل لا نعلم خصلة

(1) من قصيدة في ديوانه 1: 262 - 267، وذكر فيه أنه مدح بها يزيد بن عبد الملك.
(2) كذا في الأصول.
(3) كذا في ا وهو الصواب، وفى ب: (لا ينسبه).
129

توجب الخلافة، ولا فضيلة تصير إلى التقدمة، إلا وهي مجموعه له، كان أول الناس سلما
وأكثرهم علما، وأرجحهم حلما، فأت الجياد فلا يشق غباره، يستولي على الأمد فلا يخاف عثاره، وأوضح منهج الهدى فلا يبيد مناره، وسلك القصد فلا تدرس آثاره، فلما
ابتلانا الله تعالى بافتقاده، وحول الامر إلى من يشاء من عباده، دخلنا في جمله المسلمين فلم
ننزع يدا عن طاعة، ولم نصدع صفاه جماعه، على أن لك منا ما ظهر، وقلوبنا بيد الله وهو
أملك بها منك، فاقبل صفونا، وأعرض عن كدرنا، ولا تثر كوامن الأحقاد، فإن
النار تقدح بالزناد. قال معاوية: وإنك لتهددني يا أخا طي بأوباش العراق أهل النفاق،
ومعدن الشقاق! فقال: يا معاوية هم الذين أشرقوك بالريق وحبسوك في المضيق، وذادوك عن سنن الطريق، حتى لذت منهم بالمصاحف، ودعوت إليها من صدق بها وكذبت، وآمن بمنزلها وكفرت، وعرف من تأويلها ما أنكرت. فغضب معاوية وأدار
طرفه فيمن حوله فإذا جلهم من مضر ونفر قليل من اليمن، فقال أيها الشقي الخائن، أنى
لأخال أن هذا آخر كلام تفوه به - وكان عفير (1) بن سيف بن ذي يزن بباب معاوية
حينئذ - فعرف موقف الطائي ومراد معاوية، فخافه عليه، فهجم عليهم الدار، وأقبل على اليمانية، فقال، شاهت الوجوه ذلا وقلا، وجدعا وفلا، كشم الله هذه الانف كشما (2)
مرعبا. ثم التفت إلى معاوية، فقال: إني والله يا معاوية ما أقول قولي هذا حبا لأهل العراق، ولا جنوحا إليهم، ولكن الحفيظة تذهب الغضب لقد رأيتك بالأمس
خاطبت أخا ربيعة يعنى - صعصعة بن صوحان وهو أعظم جرما عندك من هذا، وأنكأ (3)
لقلبك، وأقدح في صفاتك، وأجد في عداوتك، وأشد انتصارا في حربك، ثم أثبته
وسرحته، وأنت الان مجمع على قتل هذا - زعمت - استصغارا لجماعتنا! فإنا لا نمر ولا نحلي
ولعمري لو وكلتك أبناء قحطان إلى قومك لكان جدك العاثر، وذكرك الداثر

(1) ا: (عفيرة).
(2) ب: (كثم) تحريف صوابه من ا، وكشم الانف: استأصله قطعا
(3) كذا في ا. وفى ب: (وإذكاء).
130

وحدك المفلول، وعرشك المثلول، فأربع على ظلعك (1)، واطونا على بلالتنا (2)،
ليسهل لك حزننا، ويتطامن لك شاردنا، فإنا لا نرأم بوقع الضيم، ولا نتلمظ
جرع الخسف، ولا نغمز بغماز الفتن، ولا نذر على الغضب. فقال معاوية: الغضب
شيطان، فأربع نفسك أيها الانسان، فإنا لم نأت إلى صاحبك مكروها، ولم نرتكب
منه مغضبا، ولم ننتهك منه محرما، فدونكه فإنه لم يضق عنه حلمنا ويسع غيره، فأخذ
عفير بيد الوليد، وخرج به إلى منزله وقال له: والله لتؤوبن بأكثر مما آب به معدى
من معاوية. وجمع من بدمشق من اليمانية، وفرض على كل رجل دينارين في عطائه،
فبلغت أربعين ألفا فتعجلها من بيت المال، ودفعها إلى الوليد، ورده إلى العراق

(1) أربع على ظلعك، أي توقف.
(2) اطونا على بلاتنا، أي احتملنا على ما فينا من إساءة.
131

الأصل: ومن كتاب له عليه السلام إلى معاوية: وأرديت جيلا من الناس كثيرا، خدعتهم بغيك، وألقيتهم في موج، بحرك
تغشاهم الظلمات، وتتلاطم بهم الشبهات، فجاروا عن وجهتهم، ونكصوا على
أعقابهم، وتولوا على أدبارهم، وعولوا على أحسابهم، إلا من فاء من أهل
البصائر، فإنهم فارقوك بعد معرفتك، وهربوا إلى الله من موازرتك،
إذ حملتهم على الصعب، وعدلت بهم عن القصد.
فاتق الله يا معاوية في نفسك، وجاذب الشيطان قيادك. فإن الدنيا منقطعة
عنك والآخرة قريبة منك، والسلام.
* * *
الشرح: أرديتهم: أهلكتهم وجيلا من الناس، أي صنفا من الناس. والغي: الضلال
وجاروا: عدلوا عن القصد. ووجهتهم: بكسر الواو، يقال: هذا وجه الرأي،
أي هو الرأي بنفسه، والاسم الوجه بالكسر ويجوز بالضم،
قوله: (وعولوا على أحسابهم)، أي لم يعتمدوا على الدين، وأنما أردتهم الحمية
ونخوة الجاهلية، فأخلدوا إليها وتركوا الدين، والإشارة إلى بنى أمية وخلفائهم الذين اتهموه
عليه السلام بدم عثمان، فحاموا عن الحسب، ولم يأخذوا بموجب الشرع في تلك الواقعة
132

ثم استثنى قوما فاءوا، أي رجعوا عن نصره معاوية، وقد ذكرنا في اخبار صفين من
فارق معاوية ورجع إلى أمير المؤمنين عليه السلام، أو فارقه واعتزل الطائفتين.
قوله: (حملتهم على الصعب) أي على الامر الشاق، والأصل في ذلك البعير المستصعب
يركبه الانسان فيغرر بنفسه.
* * *
(ذكر بعض ما دار بين على ومعاوية من الكتب) وأول هذا الكتاب: من عبد الله على أمير المؤمنين عليه السلام إلى معاوية بن أبي سفيان، اما بعد، فإن
الدنيا دار تجاره، وربحها أو خسرها الآخرة، فالسعيد من كانت بضاعته فيها الأعمال
الصالحة، ومن رأى الدنيا بعينها، وقدرها بقدرها! وإني لأعظك مع علمي بسابق العلم
فيك مما لا مرد له دون نفاذه، ولكن الله تعالى أخذ على العلماء إن يؤدوا الأمانة، وأن
ينصحوا الغوي والرشيد، فاتق الله، ولا تكن ممن لا يرجو
لله وقارا، ومن حقت عليه كلمة
العذاب، فإن الله بالمرصاد. وإن دنياك ستدبر عنك، وستعود حسرة عليك، فاقلع
عما أنت عليه من الغي والضلال، على كبر سنك، وفناء عمرك، فإن حالك اليوم كحال
الثوب المهيل الذي لا يصلح من جانب إلا فسد من آخر، وقد أرديت جيلا من الناس
كثيرا خدعتهم بغيك... إلى آخر الكتاب.
قال أبو الحسن علي بن محمد المدائني: فكتب إليه معاوية،
من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب، أما بعد، فقد وقفت على كتابك،
وقد أبيت على الفتن الا تماديا، وإني لعالم أن الذي يدعوك إلى ذلك مصرعك الذي
133

لا بد لك منه، وإن كنت موائلا، فازدد غيا إلى غيك، فطالما خف عقلك، ومنيت
نفسك ما ليس لك، والتويت على من هو خير منك، ثم كانت العاقبة لغيرك، واحتملت
الوزر بما أحاط بك من خطيئتك والسلام.
فكتب علي عليه السلام إليه:
أما بعد، فإن ما أتيت به من ضلالك ليس ببعيد الشبه مما أتى به أهلك وقومك
الذين حملهم الكفر وتمنى الأباطيل على حسد محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى صرعوا
مصارعهم حيث علمت، لم يمنعوا حريما، ولم يدفعوا عظيما وأنا صاحبهم في تلك
المواطن، الصالي بحربهم، والفأل لحدهم، والقاتل لرؤوسهم رؤوس الضلالة
والمتبع إن شاء الله خلفهم بسلفهم، فبئس الخلف خلف أتبع سلفا محله ومحطه
النار. والسلام.
قال فكتب إليه معاوية: أما بعد، فقد طال في الغي ما استمررت أدراجك كما، طالما تمادى عن الحرب
نكوصك وإبطاؤك، فتوعد وعيد الأسد، وتروغ روغان الثعلب، فحتام تحيد عن لقاء
مباشرة الليوث الضارية، والأفاعي القاتلة، ولا تستبعدنها، فكل ما هو آت قريب
إن شاء الله والسلام.
قال: فكتب إليه علي عليه السلام:
أما بعد فما، أعجب ما يأتيني منك. وما أعلمني بما أنت إليه صائر! وليس إبطائي عنك
إلا ترقبا لما أنت له مكذب، وأنا به! مصدق وكأني بك غدا وأنت تضج من الحرب
ضجيج الجمال من الأثقال، وستدعوني أنت وأصحابك إلى كتاب تعظمونه بألسنتكم
وتجحدونه بقلوبكم والسلام.
قال: فكتب إليه معاوية:
134

أما بعد، فدعني من أساطيرك، واكفف عنى من أحاديثك، وأقصر عن تقولك على
رسول الله صلى الله عليه وسلم وافترائك من الكذب ما لم يقل، وغرور من معك والخداع
لهم، فقد استغويتهم، ويوشك أمرك أن ينكشف لهم فيعتزلوك، ويعلموا أن ما جئت به
باطل مضمحل. والسلام.
قال، فكتب إليه علي عليه السلام:
أما بعد، فطالما دعوت أنت وأولياؤك أولياء الشيطان الرجيم الحق (1) أساطير الأولين،
ونبذتموه وراء ظهوركم وجهدتم بإطفاء نور الله بأيديكم وأفواهكم، والله متم نوره ولو كره
الكافرون. ولعمري ليتمن النور على كرهك، ولينفذن العلم بصغارك، ولتجازين
بعملك، فعث في دنياك المنقطعة عنك ما طاب لك، فكأنك بباطلك وقد انقضى، بعملك
وقد هوى، ثم تصير إلى لظى، لم يظلمك الله شيئا، وما ربك بظلام للعبيد!
قال: فكتب إليه معاوية: أما بعد، فما أعظم الرين على قلبك، والغطاء على بصرك! الشره من شيمتك، والحسد من
خليقتك، فشمر للحرب، واصبر للضرب، فوالله ليرجعن الامر إلى ما علمت، والعاقبة للمتقين.
هيهات هيهات! أخطأك ما تمنى، وهوى قلبك مع من هوى، فأربع على ظلعك، وقس شبرك
بفترك، لتعلم أين حالك من حال من يزن الجبال حلمه، ويفصل بين أهل الشك علمه. والسلام.
قال: فكتب إليه علي عليه السلام:
أما بعد، فإن مساويك مع علم الله تعالى فيك حالت بينك وبين أن يصلح لك أمرك، وأن
يرعوي قلبك، يا بن الصخر اللعين! زعمت أن يزن الجبال حلمك، ويفصل بين أهل الشك
علمك، وأنت الجلف المنافق، الأغلف القلب، القليل العقل الجبان الرذل، فإن كنت صادقا فيما
تسطر، ويعينك عليه أخو بنى سهم، فدع الناس جانبا، وتيسر لما دعوتني إليه من الحرب، والصبر على

(1) كذا في ا، وفى ب: (للحق).
135

الضرب، واعف الفريقين من القتال، ليعلم أينا المرين على، قلبه، المغطى على بصره، فأنا
أبو الحسن، قاتل جدك وأخيك وخالك، وما أنت منهم ببعيد والسلام!
* * *
قلت: وأعجب أطرب ما جاء به الدهر - وإن كانت عجائبه وبدائعه جمة - أن يفضي
أمر علي عليه السلام إلى أن يصير معاوية ندا له ونظيرا مماثلا، يتعارضان الكتاب، والجواب
ويتساويا فيما يواجه به أحدهما صاحبه، ولا يقول له علي عليه السلام كلمة إلا قال مثلها،
وأخشن مسا منها، فليت محمدا صلى الله عليه وآله كان شاهد ذلك: ليرى عيانا لا خبرا أن
الدعوة التي قام بها، وقاسى أعظم المشاق في تحملها، وكابد الأهوال في الذب عنها، وضرب
بالسيوف عليها لتأييد دولتها، وشيد أركانها، وملأ الآفاق بها، خلصت صفوا عفوا
لأعدائه الذين كذبوه، لما دعا إليها، وأخرجوه عن أوطانه لما حض عليها، وأدموا وجهه،
وقتلوا عمه وأهله، فكأنه كان يسعى لهم ويدأب لراحتهم، كما قال أبو سفيان في أيام
عثمان، وقد مر بقبر حمزه، وضربه برجله، وقال، يا أبا عمارة! إن الامر الذي اجتلدنا
عليه بالسيف أمسى في يد غلماننا اليوم يتلعبون به! ثم آل الامر إلى أن يفاخر معاوية عليا،
كما يتفاخر الأكفاء والنظراء.
إذا عير الطائي بالبخل مادر * وقرع قسا بالفهاهة بأقل
وقال السها للشمس: أنت خفية * وقال الدجى: يا صبح لونك حائل
وفاخرت الأرض السماء سفاهة * وكاثرت الشهب الحصا والجنادل
فيا موت زر إن الحياة ذميمة * ويا نفس جدي إن دهرك هازل!
ثم أقول ثانيا لأمير المؤمنين عليه السلام: ليت شعري، لما ذا فتح باب الكتاب

(1) لأبي العلاء، سقط الزند 533.
136

والجواب بينه وبين معاوية! وإذا كانت الضرورة قد قادت إلى ذلك
فهلا اقتصر في الكتاب
إليه على الموعظة من غير تعرض للمفاخرة والمنافرة! وإذا كان لا بد منهما فهلا اكتفى بهما
من غير تعرض لأمر آخر يوجب المقابلة والمعارضة بمثله، وبأشد منه: (ولا تسبوا الذين
يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم) (1) وهلا دفع هذا الرجل العظيم الجليل
نفسه عن سباب هذا السفيه الأحمق، هذا مع أنه القائل: من واجه الناس بما يكرهون
قالوا فيه ما لا يعلمون! أي افتروا عليه وقالوا فيه الباطل.
أيها الشاتمي لتحسب مثلي * أنما أنت في الضلال تهيم (2)
لا تسبنني فلست بسبي * إن سبى من الرجال الكريم (3).
وهكذا جرى في القنوت واللعن، قنت بالكوفة على معاوية، ولعنه في الصلاة
وخطبة الجمعة، وأضاف إليه عمرو بن العاص وأبا موسى وأبا الأعور السلمي وحبيب بن
، مسلمة فبلغ ذلك معاوية بالشام، فقنت عليه، ولعنه بالصلاة وخطبه الجمعة، وأضاف
إليه الحسن والحسين وابن عباس والأشتر النخعي، ولعله عليه السلام قد كان يظهر له
من المصلحة حينئذ ما يغيب عنا الان، ولله أمر هو بالغه!

(1) سورة الأنعام 108.
(2) لعبد الرحمان بن حسان بن ثابت يهجو مسكينا الدارمي.
(3) السب: بالكسر: الذي يسابك.
137

(33) الأصل: ومن كتاب له عليه السلام إلى قثم بن العباس وهو عامله على مكة:
أما بعد، فإن عيني بالمغرب كتب إلى يعلمني أنه وجه إلى الموسم أناس
من أهل الشام، العمى القلوب، الصم الاسماع، الكمه الابصار، الذين يلبسون
الحق بالباطل، ويطيعون المخلوق في معصية الخالق، ويحتلبون الدنيا درها
بالدين، ويشترون عاجلها بأجل الأبرار المتقين، ولن يفوز بالخير إلا عامله، ولا يجزى جزاء الشر إلا فاعله.
فأقم على ما في يديك قيام الحازم الطبيب، والناصح اللبيب، التابع
لسلطانه، المطيع لإمامه.
وإياك وما يعتذر منه، لا تكن عند النعماء بطرا، ولا عند البأساء فشلا.
والسلام
* * *
الشرح:
كان معاوية قد بعث إلى مكة دعاة في السر يدعون إلى طاعته، ويثبطون العرب عن
نصره أمير المؤمنين ويوقعون في أنفسهم أنه إما قاتل لعثمان أو خاذل، وأن الخلافة
138

لا تصلح فيمن قتل أو خذل، وينشرون عندهم محاسن معاوية بزعمهم وأخلاقه وسيرته،
فكتب أمير المؤمنين عليه السلام هذا الكتاب إلى عامله بمكة، ينبهه على ذلك ليعتمد
فيه بما تقتضيه السياسة، ولم يصرح في هذا الكتاب بماذا يأمره أن يفعل
إذا ظفر بهم.
قوله: (عيني بالمغرب) أي أصحاب أخباره عند معاوية وسمى الشام مغربا لأنه من
الأقاليم المغربية.
والموسم: الأيام التي يقام فيها الحج.
وقوله: (يحتلبون الدنيا درها بالدين) دلالة على ما قلنا: إنهم كانوا دعاة يظهرون
سمت الدين، وناموس العبادة، وفيه إبطال قول من ظن أن المراد بذلك السرايا التي كان
معاوية يبعثها، فتغير على أعمال علي عليه السلام. ودرها منصوب بالبدل (من الدنيا)
وروى: (الذين يلتمسون الحق بالباطل) أي يطلبونه، أي يتبعون معاوية وهو على الباطل
التماسا وطلبا للحق، ولا يعلمون أنهم قد ضلوا.
قوله: (وإياك وما يعتذر منه) من الكلمات الشريفة الجليلة الموقع، وقد رويت
مرفوعة، وكان يقال: ما شئ أشد على الانسان من حمل المروءة، والمروءة ألا يعمل
الانسان في غيبة صاحبه ما يعتذر منه عند حضوره.
قوله: (ولا تكن عند النعماء بطرا، ولا عند البأساء فشلا) معنى مستعمل،
قال الشاعر:
فلست بمفراح إذا الدهر سرني * ولا جازع من صرفه المتقلب
ولا أتمنى الشر والشر تاركي * ولكن متى أحمل على الشر أركب
* * *
139

(قثم بن عباس وبعض أخباره فأما قثم بن العباس، فأمه أم أخوته، وروى عبد البر في كتاب، الاستيعاب،
عن عبد الله بن جعفر، قال: كنت أنا وعبيد الله وقثم ابنا العباس نلعب، فمر بنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم راكبا، فقال: (ارفعوا إلى هذا الفتى) يعنى قثم - فرفع إليه! فأردفه
خلفه، ثم جعلني بين يديه، ودعا لنا، فاستشهد قثم بسمرقند.
قال أبن عبد البر وروى عبد الله بن عباس قال، كان قثم آخر الناس عهدا
برسول الله صلى الله عليه وسلم أي آخر من خرج من قبره ممن نزل فيه. قال: وكان المغيرة
ابن شعبة يدعى ذلك لنفسه، فأنكر علي بن أبي طالب عليه السلام ذلك، وقال: بل آخر
من خرج من القبر قثم بن العباس.
قال ابن عبد البر: وكان قثم واليا لعلى عليه السلام على مكة: عزل علي عليه السلام
خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومي - وكان واليها لعثمان - وولاها أبا قتادة
الأنصاري، ثم عزله عنها وولى مكانه قثم بن العباس، فلم يزل واليه عليها حتى قتل علي عليه
السلام. قال هذا قول خليفة (2)، وقال الزبير بن بكار: استعمل علي عليه السلام قثم
ابن العباس على المدينة.
قال ابن عبد البر: واستشهد قثم بسمرقند كان خرج إليها مع سعيد بن عثمان بن عفان
زمن معاوية فقتل هناك (1)
قال: وكان قثم يشبه رسول الله صلى الله عليه وآله، وفيه يقول داود بن مسلم (3):

(1) الاستيعاب 551 - 552.
(2) هو خليفة بن خياط المعروف بشباب. وانظر طبقات الحفاظ 2: 21.
(3) في الاستيعاب: (سليم).
140

عتقت من حل ومن رحلة * يا ناق إن أدنيتني من قثم
إنك إن أدنيت منه غدا * حالفني اليسر ومات العدم
في كفه بحر وفي وجهه * بدر وفي العرنين منه شمم
أصم عن قيل الخنا سمعه * وما على الخير به من صمم
لم يدر ما (لا) وب‍ (لا) قد درى * فعافها واعتاض منها نعم
141

(الأصل): ومن كتاب له عليه السلام:
إلى محمد بن أبي بكر لما بلغه توجده من عزله بالأشتر عن مصر، ثم توفى الأشتر
في توجهه إلى هناك قبل وصوله إليها:
أما بعد، فقد بلغني موجدتك من تسريح الأشتر إلى عملك. وإني لم أفعل
ذلك استبطاء لك في الجهد، ولا ازديادا لك في الجد، ولو نزعت ما تحت يدك
من سلطانك، لوليتك ما هو أيسر عليك مؤونة وأجب إليك ولاية،
إن الرجل الذي كنت وليته أمر مصر كان رجلا لنا ناصحا، وعلى عدونا
شديدا ناقما، فرحمه الله! فلقد استكمل أيامه، ولاقى حمامه، ونحن عنه راضون،
أولاه الله رضوانه، ضاعف الثواب له!
فأصحر لعدوك، وأمض على بصيرتك، وشمر لحرب من حاربك، وادع
السبيل ربك، وأكثر الاستعانة بالله يكفك ما أهمك، ويعنك على ما ينزل
بك، إن شاء الله
* * *
الشرح: (محمد بن أبي بكر وبعض أخباره) أم محمد رحمه الله أسماء بنت عميس الخثعمية: وهي أخت ميمونة زوج النبي صلى الله
142

عليه وآله
، أخت لبابة أم الفضل وعبد الله زوج العباس بن عبد المطلب، وكانت من
المهاجرات إلى أرض الحبشة، وهي إذ ذاك تحت جعفر بن أبي طالب عليه السلام، فولدت له
هناك محمد بن جعفر وعبد الله وعونا، ثم هاجرت معه إلى المدينة، فلما قتل جعفر يوم مؤتة
تزوجها أبو بكر، فولدت له محمد بن أبي بكر هذا، ثم مات عنها فتزوجها علي عليه السلام
وولدت له يحيى بن علي، لا خلاف في ذلك.
وقال ابن عبد البر في الاستيعاب،،: ذكر ابن الكلبي أن عون بن علي اسم أمه
أسماء بنت عميس، ولم يقل ذلك أحد غيره.
وقد روى أن أسماء كانت تحت حمزه بن عبد المطلب، فولدت له بنتا تسمى أمه الله
- وقيل أمامه - ومحمد بن أبي بكر ممن ولد في عصر رسول الله صلى الله عليه وآله.
قال ابن عبد البر في كتاب،، الاستيعاب،،: ولد عام حجه الوداع في عقب ذي القعدة
بذي الحليفة، حين توجه رسول الله صلى الله عليه وآله إلى الحج، فسمته عائشة محمدا،
كنته أبا القاسم بعد ذلك لما ولد له ولد سماه القاسم، ولم تكن الصحابة ترى بذلك بأسا،
ثم كان في حجر علي عليه السلام، وقتل بمصر، وكان علي عليه السلام يثنى عليه ويقرظه
ويفضله، وكان لمحمد رحمه الله عبادة واجتهاد، وكان ممن حضر عثمان ودخل عليه، فقال له، لو رآك أبوك لم يسره هذا المقام منك، فخرج وتركه، ودخل عليه بعده من قتله. ويقال
إنه أشار إلى من كان معه فقتلوه (1).
* * *
قوله: (وبلغني موجدتك)، أي غضبك، وجدت على فلان موجدة، ووجدانا لغة،
قليلة، وأنشدوا:
كلانا رد صاحبه بغيظ * على حنق ووجدان شديد (2)

(1) الاستيعاب 242.
(2) لصخر الغي، اللسان، الصحاح (وجد).
143

فأما في الحزن فلا يقال إلا وجدت أنا بالفتح لا غير.
والجهد: الطاقة، أي لم أستبطئك في بذل طاقتك ووسعك، ومن رواها الجهد بالفتح
فهو من قولهم: اجهد جهدك في كذا أي أبلغ الغاية، ولا يقال هذا الحرف هاهنا
الا مفتوحا.
ثم طيب عليه السلام نفسه بأن قال له: لو تم الامر الذي شرعت فيه من ولاية الأشتر
مصر لعوضتك بما هو أخف عليك مؤنة وثقلا، وأقل نصبا من ولاية مصر، لأنه كان
في مصر بإزاء معاوية من الشام وهو مدفوع إلى حربه.
ثم أكد عليه السلام ترغيبه بقوله: (وأعجب إليك ولاية).
فإن قلت: ما الذي بيده مما هو أخف على محمد مئونة وأعجب إليه من ولاية مصر؟
قلت: ملك الاسلام كله كان بيد علي عليه السلام الا الشام، فيجوز أن يكون قد كان
في عزمه أن يوليه اليمن أو خراسان أو أرمينية أو فارس.
ثم أخذ في الثناء علي الأشتر وكان علي عليه السلام شديد الاعتضاد به، كما كان هو
شديد التحقق بولايته وطاعته.
وناقما، من نقمت على فلان كذا، إذا أنكرته عليه وكرهته منه.
ثم دعا له بالرضوان، ولست أشك بأن الأشتر بهذه الدعوة يغفر الله له ويكفر ذنوبه،
ويدخله الجنة، ولا فرق عندي بينها وبين دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله، يا طوبى
لمن حصل له من علي عليه السلام بعض هذا!
قوله: (وأصحر لعدوك) أي أبرز له ولا تستتر عنه بالمدينة التي أنت فيها، أصحر
الأسد من خيسه، إذا خرج إلى الصحراء.
وشمر فلان للحرب، إذا أخذ لها أهبتها.
144

(35) الأصل: ومن كتاب له عليه السلام إلى عبد الله بن العباس بعد مقتل محمد بن أبي بكر: أما بعد، فأن مصر قد افتتحت، ومحمد بن أبي بكر رحمه الله قد استشهد،
فعند الله نحتسبه ولدا ناصحا، وعاملا كادحا وسيفا قاطعا، وركنا دافعا
وقد كنت حثثت الناس على لحاقه. وأمرتهم بغياثه قبل الوقعة، ودعوتهم
سرا وجهرا، وعودا وبدءا، فمنهم الآتي كارها، ومنهم المعتل كاذبا، ومنهم
القاعد خاذلا.
أسال الله تعالى أن يجعل لي منهم فرجا عاجلا، فوالله لولا طمعي عند لقائي
عدوى في الشهادة وتوطيني نفسي على المنية، لأحببت ألا أبقى مع هؤلاء
يوما واحدا، ولا التقى بهم أبدا.
* * *
الشرح: انظر إلى الفصاحة كيف تعطى هذا الرجل قيادها وتملكه زمامها، واعجب لهذه
الألفاظ المنصوبة، يتلو بعضها بعضا كيف تواتيه وتطاوعه، سلسه سهله، تتدفق من غير تعسف
ولا تكلف، حتى انتهى إلى آخر الفصل فقال: (يوما واحدا، ولا التقى بهم أبدا)،
وأنت وغيرك من الفصحاء إذا شرعوا في كتاب أو خطبة، جاءت القرائن والفواصل
145

تارة مرفوعة، وتارة مجرورة، وتارة منصوبة، فإن أرادوا قسرها بإعراب واحد ظهر منها
في التكلف أثر بين، وعلامة واضحة، وهذا الصنف من البيان أحد أنواع الاعجاز في
القرآن، ذكره عبد القاهر، قال: انظر إلى سورة النساء وبعدها سورة المائدة، الأولى
منصوبة الفواصل، والثانية ليس فيها منصوب أصلا، ولو مزجت إحدى السورتين بالأخرى لم تمتزجا، وظهر أثر التركيب والتأليف بينهما.
ثم إن فواصل كل واحد منهما تنساق سياقه بمقتضى البيان الطبيعي لا الصناعة التكلفية.
ثم انظر إلى الصفات والموصوفات في هذا الفصل، كيف قال: (ولدا ناصحا)، (وعاملا كادحا)، (وسيفا قاطعا)، (وركنا دافعا، لو قال: (ولدا كادحا) و (عاملا ناصحا)،
وكذلك ما بعده لما كان صوابا. ولا في الموقع واقعا، فسبحان من منح هذا الرجل هذه
المزايا النفيسة والخصائص الشريفة! أن يكون غلام من أبناء عرب مكة، ينشأ بين أهله، لم
يخالط الحكماء، وخرج أعرف بالحكمة ودقائق العلوم الإلهية من أفلاطون
وأرسطو! ولم يعاشر أرباب الحكم الخلقية والآداب النفسانية، لان قريش لم يكن أحد
منهم مشهورا بمثل ذلك، وخرج أعرف بهذا الباب من سقراط! ولم يرب بين الشجعان، لان أهل مكة كانوا ذوي تجاره، ولم يكونوا ذوي حرب، وخرج أشجع من كل
بشر مشى على الأرض، قيل لخلف الأحمر: أيما أشجع عنبسة وبسطام أم علي بن أبي
طالب؟ فقال: إنما يذكر عنبسة وبسطام مع البشر والناس، لا مع من يرتفع عن هذه
الطبقة، فقيل له: فعلى كل حال. قال: والله لو صاح في وجوههما لماتا قبل أن يحمل
عليهما. وخرج أفصح من سحبان وقس، ولم تكن قريش بأفصح العرب، كان غيرها
أفصح منها، قالوا: أفصح العرب جرهم وإن لم تكن لهم نباهة. وخرج أزهد الناس
في الدنيا، وأعفهم، مع أن قريشا ذوو حرص ومحبة للدنيا، ولا غرو فيمن كان
146

محمد صلى الله عليه وآله مربيه ومخرجه، والعناية الإلهية تمده وترفده أن يكون منه
ما كان!
* * *
يقال: احتسب ولده، إذا مات كبيرا، وافترط ولده، إذا مات صغيرا.
قوله: (فمنهم الآتي...)، قسم جنده أقساما، فمنهم من أجابه وخرج كارها للخروج،
كما قال تعالى: (كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون) (1)، ومنهم من قعد واعتل
بعلة كاذبة، كما قال تعالى: (يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون
إلا فرارا) (2)، ومنهم من تأخر وصرح بالقعود والخذلان، كما قال تعالى: (فرح
المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم
في سبيل الله) (3). والمعنى أن
حاله كانت مناسبة لحال النبي صلى الله عليه وآله،
ومن تذكر أحوالهما وسيرتهما، وما جرى لهما إلى أن قبضا، علم تحقيق ذلك.
ثم أقسم أنه لولا طمعه في الشهادة لما أقام مع أهل العراق ولا صحبهم.
فإن قلت: فهلا خرج إلى معاوية وحده من غير جيش إن كان يريد الشهادة؟
قلت: ذلك لا يجوز، لأنه إلقاء النفس إلى التهلكة، وللشهادة شروط متى فقدت،
فلا يجوز أن تحمل إحدى الحالتين على الأخرى.

(1) سورة الأنفال 6.
(2) سورة الأحزاب 13.
(3) سورة التوبة 81.
147

(36) الأصل: ومن كتاب له عليه السلام إلى أخيه عقيل بن أبي طالب في ذكر جيش
أنفذه إلى بعض الأعداء، وهو جواب كتاب كتبه إليه عقيل:
فسرحت إليه جيشا كثيفا من المسلمين، فلما بلغه ذلك شمر هاربا،
ونكص نادما، فلحقوه ببعض الطريق وقد طفلت الشمس للإياب، فاقتتلوا شيئا
كلا ولا، فما كان إلا كموقف ساعة حتى نجا جريضا، بعد ما أخذ منه بالمخنق،
ولم يبق معه غير الرمق، فلأيا بلأى ما نجا.
فدع عنك قريشا وتركاضهم في الضلال، وتجوالهم في الشقاق، وجماحهم
في التيه، فإنهم قد أجمعوا على حربي كإجماعهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وآله
قبلي، فجزت قريشا عنى الجوازي، فقد قطعوا رحمي، سلبوني
سلطان ابن أمي.
وأما ما سألت عنه من رأيي في القتال، فإن رأيي قتال المحلين حتى ألقى الله،
لا يزيدني كثرة الناس حولي عزه، ولا تفرقهم عنى وحشة، ولا تحسبن أبن أبيك
- ولو أسلمة الناس - متضرعا متخشعا، ولا مقرا للضيم واهنا، ولا سلس الزمام
للقائد، ولا وطئ الظهر للراكب المقتعد، ولكنه كما قال أخو بنى سليم، فإن تسأليني كيف أنت فإنني صبور على ريب الزمان صليب
يعز على أن ترى بي كآبة فيشمت عاد أو يساء حبيب
* * *
148

الشرح:
قد تقدم ذكر هذا الكتاب في اقتصاصنا ذكر حال بسر بن أرطاة وغارته على اليمن في أول الكتاب.
ويقال: طفلت الشمس - بالتشديد - إذا مالت للغروب، وطفل الليل، مشددا أيضا،
إذا أقبل ظلامه، والطفل، بالتحريك: بعد العصر حين تطفل الشمس للغروب، ويقال:
أتيته طفلي، أي في ذلك الوقت.
وقوله عليه السلام: (للإياب) أي للرجوع، أي ما كانت عليه في الليلة التي قبلها،
يعنى غيبوبتها تحت الأرض. وهذا الخطاب إنما هو على قدر أفهام العرب، كانوا يعتقدون
أن الشمس منزلها ومقرها تحت الأرض، وأنها تخرج كل يوم فتسير على العالم، ثم تعود
إلى منزلها، فتأوي إليه كما يأوى الناس ليلا إلى منازلهم.
وقال الراوندي: (عند الإياب) عند الزوال: وهذا غير صحيح، لان ذلك الوقت
لا يسمى طفلا، ليقال: إن الشمس قد طفلت فيه.
قوله عليه السلام: (فاقتتلوا شيئا كلا ولا) أي شيئا قليلا، وموضع (كلا ولا)
نصب لأنه صفه (شيئا) وهي كلمة تقال لما يستقصر وقته جدا، والمعروف عند أهل اللغة:
(كلا وذا)، قال ابن هانئ المغربي:
وأسرع في العين من لحظة * وأقصر في السمع من لا، وذا.
وفي شعر الكميت (كلا وكذا تغميضه) (1).
وقد رويت في،، نهج البلاغة،، كذلك، إلا أن في أكثر النسخ: (كلا ولا)،
ومن الناس من يرويها: (كلا ولات)، وهي حرف أجرى مجرى (ليس)، وتجئ

(1) البيت بتمامه:
كلا وكذا تغميضة ثم هجتم * لدى حين أن كانوا إلى النوم أفقرا
149

(حين) إلا أن تحذف في شعر، ومن الرواة من يرويها (كلا ولأي)، ولأي فعل،
معناه أبطا.
قوله عليه السلام: (نجا جريضا)، أي قد غص بالريق من شدة الجهد والكرب، يقال: جرض بريقه يجرض بالكسر، مثال كسر يكسر، ورجل جريض مثل قدر يقدر فهو قدير،
ويجوز أن يريد بقوله: (فنجا جريضا) أي ذا جريض، والجريض: الغصة نفسها، وفى
المثل: (حال الجريض دون القريض) قال الشاعر:
كأن الفتى لم يغن في الناس ليلة * إذا اختلف اللحيان عند الجريض. (1)
قال الأصمعي: ويقال: هو يجرض بنفسه، أي يكاد يموت، ومنه قول
امرئ القيس:
وأفلتهن علباء جريضا * ولو أدركنه صفر الوطاب (2).
وأجرضه الله بريقه: أغصه.
قوله عليه السلام: (بعد ما أخذ منه بالمخنق)، هو موضع الخنق من الحيوان، وكذلك
الخناق، بالضم، يقال أخذ بخناقه، فأما الخناق بالكسر، فالحبل تخنق به الشاه.
والرمق: بقيه الروح.
قوله عليه السلام: (فلأيا بلأى ما نجا)، أي بعد بطء وشده، وما زائدة أو مصدرية،
وانتصب (لأيا) على المصدر القائم مقام الحال، أي نجا مبطئا، والعامل في المصدر محذوف
أي أبطا بطئا، والفائدة في تكرير اللفظة المبالغة في وصف البطء الذي نجا موصوفه به، أي
لأيا مقرونا بلأى

(1) لامرئ القيس، ديوانه 77.
(2) ديوانه 138.
150

وقال الراوندي: هذه القصة وهذا الهارب جريضا وبعد لأي ما نجا، هو معاوية، قال: وقد قيل: إن معاوية بعث أمويا فهرب على هذه الحال والأول أصح، وهذا عجيب
مضحك وددت له ألا يكون شرح هذا الكتاب!
قوله: (فدع عنك قريشا) إلى قوله: (على حرب رسول الله صلى الله عليه وآله)،
هذا الكلام حق، فإن قريشا اجتمعت على حربه منذ يوم بويع بغضا له وحسدا وحقدا
عليه، فأصفقوا كلهم يدا واحدة على شقاقه وحربه، كما كانت حالهم في ابتداء الاسلام مع
رسول الله صلى الله عليه وآله، لم تخرم حاله من حاله أبدا إلا أن ذاك عصمه الله من القتل،
فمات موتا طبيعيا، هذا اغتاله إنسان فقتله.
قوله: (فجزت قريشا عنى الجوازي، فقد قطعوا رحمي، وسلبوني سلطان ابن أمي)،
هذه كلمة تجرى مجرى المثل، تقول لمن يسئ إليك وتدعو عليه: جزتك عنى الجوازي!
يقال جزاه الله بما صنع، وجازاه الله بما صنع! ومصدر الأول جزاء، والثاني مجازاة، وأصل
الكلمة أن الجوازي جمع جازيه كالجواري جمع جارية، فكأنه يقول: جزت قريشا عنى بما
صنعت لي كل خصلة من نكبة أو شدة أو مصيبة أو جائحة، أي جعل الله هذه الدواهي
كلها جزاء قريش بما صنعت بي، وسلطان ابن أمي، يعنى به الخلافة، وابن أمه هو رسول الله
صلى الله عليه وآله، لأنهما ابنا فاطمة بنت عمرو بن عمران بن عائذ بن مخزوم، أم عبد الله وأبى طالب، ولم يقل سلطان ابن أبي، لان غير أبى طالب من الأعمام يشركه في النسب
إلى عبد المطلب.
قال الراوندي: الجوازي: جمع جازية، وهي النفس التي تجزى، أي جزاهم وفعل بهم
ما يستحقون عساكر لأجلي وفي نيابتي، وكافأهم سرية تنهض إليهم، وهذا إشارة إلى بنى
أمية يهلكون من بعده. وهذا تفسير غريب طريف.
151

وقال أيضا قوله: (سلطان أبن أمي) يعنى نفسه، أي سلطانه، لأنه ابن أم
نفسه، قال: وهذا من أحسن الكلام. ولا شبهة أنه على تفسير الراوندي لو قال: وسلبوني
سلطان ابن أخت خالتي، أو ابن أخت عمتي، لكان أحسن، وأحسن وهذا الرجل قد
كان يجب أن يحجر عليه، ولا يمكن من تفسير هذا الكتاب، ويؤخذ عليه أيمان البيعة
ألا يتعرض له
قوله: (فإن رأيي قتال المحلين)، أي الخارجين من الميثاق والبيعة، يعنى البغاة ومخالفي
الامام، ويقال: لكل من خرج من إسلام أو حارب في الحرم أو في الأشهر الحرم:
محل، وعلى هذا فسر قول زهير:
* وكم بالقنان من محل ومحرم * (1)
أي من لا ذمة له ومن له ذمة وكذلك قول خالد بن يزيد بن معاوية في زوجته رملة
بنت الزبير بن العوام:
ألا من لقلب معنى غزل * يحب المحلة أخت المحل.
أي ناقضة العهد أخت المحارب في الحرم، أو أخت ناقض بيعة بنى أمية.
وروى (متخضعا متضرعا) بالضاد.
ومقرا للضيم وبالضيم، أي هو راض به، صابر عليه. وواهنا، أي ضعيفا.
السلس: السهل: ومقتعد البعير راكبه.
والشعر ينسب إلى العباس بن مرداس السلمي، ولم أجده في ديوانه، ومعناه ظاهر،
وفى الأمثال الحكمية: لا تشكون حالك إلى مخلوق مثلك، فإنه أن كان صديقا أحزنته، وإن كان عدوا أشمته، ولا خير في واحد من الامرين.

(1) ديوانه 11 وصدره: * جعلنا القنان عن يمين وحزنه *
152

(37) الأصل: ومن كتاب له عليه السلام إلى معاوية: فسبحان الله! ما أشد لزومك للأهواء المبتدعة، والحيرة المتبعة، مع
تضييع الحقائق، واطراح الوثائق، التي هي لله تعالى طلبة، وعلى عباده
حجة
فأما إكثارك الحجاج على عثمان وقتلته، فإنك إنما نصرت عثمان حيث
كان النصر لك، وخذلته حيث كان النصر له. والسلام
* * *
الشرح: أول هذا الكتاب قوله: أما بعد فإن الدنيا حلوة خضرة ذات زينة وبهجة، لم يصب إليها أحد إلا وشغلته
بزينتها عما هو أنفع له منها. وبالآخرة أمرنا، وعليها حثثنا، فدع يا معاوية ما يفنى، واعمل لما يبقى، واحذر الموت الذي إليه مصيرك، والحساب الذي إليه عاقبتك
. واعلم أن الله تعالى إذا أراد بعبد خيرا حال بينه وبين ما يكره، ووفقه لطاعته، وإذا
أراد الله بعبد سوءا أغراه بالدنيا. وأنساه الآخرة، وبسط له أمله، وعاقه عما فيه صلاحه،
وقد وصلني كتابك فوجدتك ترمى غير غرضك، وتنشد غير ضالتك، وتخبط في عماية.
153

وتتيه في ضلالة وتعتصم بغير حجه، وتلوذ بأضعف شبهة
فأما سؤالك المتاركة والاقرار لك على الشام، فلو كنت فاعلا ذلك اليوم لفعلته أمس
وأما قولك: إن عمر ولاكه فقد عزل من كان ولاه صاحبه، وعزل عثمان من كان عمر
ولاه ولم ينصب للناس إمام إلا ليرى من صلاح آلامه إماما قد كان ظهر لمن قبله، أو أخفى
عنهم عيبه، والامر يحدث بعده الامر، ولكل وال رأى واجتهاد. فسبحان الله! ما أشد
لزومك للأهواء المبتدعة والحيرة المتبعة... إلى آخر الفصل.
وأما قوله عليه السلام: (إنما نصرت عثمان حيث كان النصر لك...) إلى آخره،
فقد روى البلاذري قال: لما أرسل عثمان إلى معاوية يستمده، بعث يزيد بن أسد القسري
جد خالد بن عبد الله بن يزيد أمير العراق وقال له: إذا أتيت ذا خشب فأقم بها،
ولا تتجاوزها. ولا تقل: الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، فإنني أنا الشاهد،
وأنت الغائب.
قال: فأقام بذي خشب حتى قتل عثمان. فاستقدمه حينئذ معاوية، فعاد إلى الشام
بالجيش الذي كان أرسل معه، وإنما صنع ذلك معاوية ليقتل عثمان فيدعو
إلى نفسه.
* * *
وكتب معاوية إلى ابن عباس عند صلح الحسن عليه السلام له كتابا يدعوه فيه إلى
بيعته، ويقول له فيه:
ولعمري لو قتلتك بعثمان رجوت أن يكون ذلك لله رضا، وأن يكون رأيا صوابا،
فإنك من الساعين عليه، والخاذلين له والسافكين دمه، وما جرى بيني وبينك صلح
فيمنعك منى، ولا بيدك أمان.
فكتب إليه أبن عباس جوابا طويلا يقول فيه: وأما قولك إني من الساعين على
عثمان، والخاذلين له، والسافكين دمه، وما جرى بيني وبينك صلح فيمنعك منى
154

فأقسم بالله لأنت المتربص بقتله، والمحب لهلاكه، والحابس الناس قبلك عنه على بصيرة
من أمره، ولقد أتاك كتابه وصريخه يستغيث بك ويستصرخ، فما حفلت به، حتى
بعثت إليه معذرا بأجرة، أنت تعلم أنهم لن يتركوه حتى يقتل، فقتل كما كنت أردت،
ثم علمت عند ذلك أن الناس لن يعدلوا بيننا وبينك، فطفقت تنعى عثمان وتلزمنا دمه،
وتقول: قتل مظلوما، فإن يك قتل مظلوما فأنت أظلم الظالمين، ثم لم تزل مصوبا ومصعدا
وجاثما ورابضا، تستغوي الجهال، وتنازعنا حقنا بالسفهاء، حتى أدركت ما طلبت
(وإن أدرى لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين) (1).

(1). سورة الأنبياء 111.
155

(38) الأصل: ومن كتاب له عليه السلام إلى أهل مصر لما ولى عليهم الأشتر:
من عبد الله على أمير المؤمنين، إلى القوم الذين غضبوا لله حين عصى
في أرضه، وذهب بحقه، فضرب الجور سرادقه على البر والفاجر،
والمقيم والظاعن، فلا معروف يستراح إليه، ولا منكر يتناهى عنه.
أما بعد، فقد بعثت إليكم عبدا من عباد الله، لا ينام أيام الخوف، ولا ينكل عن الأعداء ساعات الروع، أشد على الفجار من حريق النار، وهو
مالك بن الحارث أخو مذحج، فاسمعوا له، وأطيعوا أمره فيما طابق الحق
فإنه سيف من سيوف الله
لا كليل الظبة، ولا نابي الضريبة فإن أمركم
أن تنفروا فانفروا، وإن أمركم أن تقيموا فأقيموا، فإنه لا يقدم ولا يحجم،
ولا يؤخر ولا يقدم الا عن أمري، وقد آثرتكم به على نفسي لنصيحته لكم،
وشدة شكيمته على عدوكم.
* * *
الشرح: هذا الفصل يشكل على تأويله، لان أهل مصر هم الذين قتلوا عثمان، وإذا شهد
أمير المؤمنين عليه السلام أنهم غضبوا لله حين عصى في الأرض، فهذه شهادة قاطعة
على عثمان بالعصيان، وإتيان المنكر، ويمكن أن يقال وأن كان متعسفا: إن الله تعالى
156

عصى في الأرض لا من عثمان، بل من ولاته وأمرائه وأهله، وذهب بينهم بحق الله
وضرب الجور سرادقه بولايتهم، وأمرهم على البر والفاجر، والمقيم والظاعن، فشاع المنكر،
وفقد المعروف. يبقى (1) أن يقال: هب أن الامر كما تأولت فهؤلاء الذين غضبوا لله إلى
ماذا آل أمرهم؟ أليس الامر آل (2) إلى أنهم قطعوا المسافة من مصر إلى المدينة فقتلوا عثمان! فلا تعدو حالهم أمرين، إلا أن يكونوا أطاعوا الله بقتله فيكون عثمان عاصيا مستحقا للقتل
أو يكونوا أسخطوا الله تعالى بقتله فعثمان إذا على حق، وهم الفساق العصاة فكيف
يجوز أن يبجلهم أو يخاطبهم خطاب الصالحين! يمكن أن يجاب عن ذلك بأنهم غضبوا
لله، وجاءوا من مصر وأنكروا على عثمان تأميره الامراء الفساق، وحصروه في
داره طلبا أن يدفع إليهم مروان ليحبسوه، أو يؤدبوه على ما كتبه في أمرهم فلما حصر
طمع فيه مبغضوه وأعداؤه من أهل المدينة وغيرها، وصار معظم الناس إلبا عليه، وقل
عدد المصريين بالنسبة إلى ما اجتمع من الناس على حصره ومطالبته بخلع نفسه، وتسليم
مروان وغيره من بنى أمية إليهم، وعزل عماله، والاستبدال بهم، ولم يكونوا حينئذ
يطلبون نفسه، ولكن قوما منهم ومن غيرهم تسوروا داره، فرماهم بعض عبيده بالسهام
فجرح بعضهم، فقادت الضرورة إلى النزول والإحاطة به، وتسرع إليه واحد منهم
فقتله. ثم إن ذلك القاتل فقتل. في الوقت، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم، وشرحناه، فلا يلزم
من فسق ذلك القاتل وعصيانه أن يفسق الباقون، لأنهم ما أنكروا إلا المنكر، وأما
القتل فلم يقع منهم، لا راموه ولا أرادوه، فجاز أن يقال: إنهم غضبوا لله، وأن يثنى
عليهم ويمدحهم
ثم وصف الأشتر بما وصفه به، ومثل قوله: (لا ينام أيام الخوف) قولهم:
(لا ينام ليلة يخاف، ولا يشبع ليلة يضاف) وقال:

(1) كذا في ا، وفى ب: (ينبغي).
(2) ساقطة من ب.
157

فأتت به حوش الفؤاد مبطنا * سهدا إذا ما نام ليل الهوجل. (1)
ثم أمرهم أن يطيعوه فيما يأمرهم به مما يطابق الحق، وهذا من شدة دينه وصلابته
عليه السلام، لم يسامح نفسه في حق أحب الخلق إليه أن يهمل هذا القيد، قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) وقال أبو حنيفة، قال لي الربيع في دهليز المنصور: إن أمير المؤمنين يأمرني بالشئ
بعد الشئ من أمور ملكه، فأنفذه وأنا خائف على ديني، فما تقول في ذلك؟ قال -
ولم يقل لي ذلك إلا في ملا الناس، فقلت له: أفيأمر أمير المؤمنين بغير الحق؟ قال: لا قلت فلا بأس عليك أن تفعل بالحق، قال أبو حنيفة: فأراد أن
يصطادني فاصطدته.
والذي صدع بالحق في هذا المقام الحسن البصري، قال له عمر بن هبيرة أمير العراق
في خلافة يزيد بن عبد الملك في ملا من الناس، منهم الشعبي وابن سيرين: يا أبا سعيد
أن أمير المؤمنين يأمرني بالشئ أعلم أن في تنفيذه الهلكة في الدين، فما تقول في ذلك؟
قال الحسن: ماذا أقول أن الله مانعك من يزيد، ولن يمنعك يزيد من الله، يا عمر
خف الله، واذكر يوما يأتيك تتمخض ليلته عن القيامة، إنه سينزل عليك ملك من
السماء فيحطك عن سريرك إلى قصرك، ويضطرك من قصرك إلى لزوم فراشك، ثم
ينقلك عن فراشك إلى قبرك، ثم لا يغنى عنك إلا عملك، فقام عمر بن هبيرة باكيا
يصطك لسانه.
قوله: (فإنه سيف من سيوف الله)، هذا لقب خالد بن الوليد، وأختلف فيمن

(1) لأبي كبير الهذلي، ديوان الحماسة -، بشرح التبريزي - 86. الهوجل: الثقيل الكسلان.
158

لقبه به، فقيل: لقبه به رسول الله صلى الله عليه وآله، والصحيح أنه لقبه به أبو بكر، لقتاله
أهل الردة وقتله مسيلمة.
والظبة، بالتخفيف: حد السيف. والنابي من السيوف: الذي لا يقطع، وأصله
نبا أي ارتفع، فلما لم يقطع كان مرتفعا، فسمى نابيا، وفى الكلام حذف تقديره
ولا ناب ضارب الضريبة، وضارب الضريب هو حد السيف، فأما الضريبة نفسها فهو الشئ
المضروب بالسيف، وإنما دخلته الهاء وإن كان بمعنى (مفعول) لأنه صار في عداد الأسماء،
كالنطيحة والأكيلة.
ثم أمرهم بأن يطيعوه في جميع ما يأمرهم به من الاقدام والإحجام وقال: إنه لا يقدم
ولا يؤخر إلا عن أمري، وهذا إن كان قاله مع أنه قد سنح له أن يعمل برأيه في أمور الحرب
من غير مراجعته فهو عظيم جدا، لأنه يكون قد أقامه مقام. نفسه. وجاز أن يقول: إنه لا
يفعل شيئا إلا عن أمري. وأن كان لا يراجعه في الجزئيات على عاده العرب في مثل ذلك،
لأنهم يقولون فيمن يثقون به نحو ذلك، وقد ذهب كثير من الأصوليين إلى أن الله تعالى
قال لمحمد صلى الله عليه وآله: احكم بما شئت في الشريعة، فإنك لا تحكم إلا بالحق، وأنه كان
يحكم من غير مراجعته لجبرائيل، وإن الله تعالى قد قال في حقه: (وما ينطق عن الهوى *
إن هو الا وحى يوحى) (1)، وإن كان عليه السلام قال هذا القول عن الأشتر، لأنه قد قرر
معه بينه وبينه ألا يعمل شيئا قليلا ولا كثيرا إلا بعد مراجعته فيجوز، ولكن هذا
بعيد، لان المسافة طويلة بين العراق ومصر، وكانت الأمور هناك تقف وتفسد.
ثم ذكر أنه آثرهم به على نفسه، وهكذا قال عمر لما أنفذ عبد الله بن مسعود إلى الكوفة
في كتابه إليهم: قد آثرتكم به على نفسي، وذلك أن عمر كان يستفتيه في الاحكام، وعلي عليه
السلام كان يصول على الأعداء بالأشتر، ويقوى أنفس جيوشه بمقامه بينهم، فلما بعثه
إلى مصر كان مؤثرا لأهل مصر به على نفسه.

(1) سورة النجم 3، 4
159

(39)
الأصل: من كتاب له عليه السلام إلى عمرو بن العاص:
فإنك قد جعلت دينك تبعا لدنيا امرئ ظاهر غيه، مهتوك ستره، يشين
الكريم بمجلسه، ويسفه الحليم بخلطته، فاتبعت أثره، وطلبت اتباع
الكلب للضرغام يلوذ بمخالبه، وينتظر ما يلقى إليه من فضل فريسته.
فأذهبت دنياك وآخرتك، ولو بالحق أخذت أدركت ما طلبت
فإن يمكن الله منك ومن ابن أبي سفيان أجزكما بما قدمتما، وإن تعجزا
وتبقيا فما أمامكما شر لكما. والسلام * * *
الشرح: كل ما قاله فيهما هو الحق الصريح بعينه، لم يحمله بغضه لهما، وغيظه منهما، إلى أن
بالغ في ذمهما به، كما يبالغ الفصحاء عند سوره الغضب، وتدفق الألفاظ على الألسنة
ولا ريب عند أحد من العقلاء ذوي الانصاف أن عمرا جعل دينه تبعا لدنيا معاوية،
وأنه ما بايعه وتابعه إلا على جعالة جعلها له، وضمان تكفل له بإيصاله، وهي ولاية مصر
مؤجلة، وقطعة وافرة من المال معجلة ولولديه وغلمانه ما ملا أعينهم.
فأما قوله عليه السلام في معاوية (ظاهر غيه)، فلا ريب في ظهور ضلاله وبغيه،
وكل باغ غاو.
160

أما مهتوك ستره، فإنه كان كثير الهزل والخلاعة، صاحب جلساء وسمار ومعاوية
لم يتوقر، ولم يلزم قانون الرياسة إلا منذ خرج على أمير المؤمنين، واحتاج إلى الناموس
والسكينة وإلا فقد كان في أيام عثمان شديد التهتك، موسوما بكل قبيح، وكان في
أيام عمر يستر نفسه قليلا خوفا منه، إلا أنه كان يلبس الحرير والديباج، ويشرب في آنية
الذهب والفضة، ويركب البغلات ذوات السروج المحلاة بها، وعليها جلال الديباج
والوشي، وكان حينئذ شابا، وعنده نزق الصبا، وأثر الشبيبة وسكر السلطان والإمرة،
ونقل الناس عنه في كتب السيرة أنه كان يشرب الخمر في أيام عثمان في الشام، وأما بعد
وفاة أمير المؤمنين واستقرار الامر له فقد اختلف فيه، فقيل: أنه شرب الخمر في ستر،
وقيل: إنه لم يشربه ولا خلاف في أنه سمع الغناء وطرب عليه، وأعطى ووصل عليه أيضا.
وروى أبو الفرج الأصفهاني قال: قال عمرو بن العاص لمعاوية في قدمة قدمها إلى
المدينة أيام خلافته: قم بنا إلى هذا الذي قد هدم شرفه، وهتك ستره، عبد الله
بن جعفر، نقف على بابه، فنسمع غناء جواريه، فقاما ليلا ومعهما وردان غلام عمرو،
ووقفا بباب عبد الله بن جعفر، فاستمعا الغناء وأحس عبد الله بوقوفهما، ففتح الباب،
وعزم على معاوية أن يدخل، فدخل، فجلس على سرير عبد الله، فدعا عبد الله له وقدم إليه
يسيرا من طعام، فأكل، فلما أنس قال: يا أمير المؤمنين، ألا تأذن لجواريك أن يتممن
أصواتهن، فإنك قطعتها عليهن؟ قال: فليقلن، فرفعن أصواتهن، وجعل معاوية يتحرك
قليلا قليلا حتى ضرب برجله السرير ضربا شديدا، فقال عمرو: قم أيها الرجل فإن
الرجل الذي جئت لتلحاه أو لتعجب من أمرء أحسن حالا منك. فقال: مهلا. فإن
الكريم طروب.
* * *
161

أما قوله: (يشين الكريم بمجلسه، ويسفه الحليم بخلطته): فالامر كذلك، فإنه
لم يكن في مجلسه إلا شتم بني هاشم وقذفهم، والتعرض بذكر الاسلام، والطعن عليه،
وإن أظهر الانتماء إليه. وأما طلب عمرو فضله واتباعه أثره اتباع الكلب للأسد
فظاهر، ولم يقل: الثعلب، غضا من قدر عمرو، وتشبيها له بما هو أبلغ في الإهانة
والاستخفاف.
ثم قال: (ولو بالحق أخذت أدركت ما طلبت)، أي لو قعدت عن نصره ولم تشخص
إليه ممالئا به على الحق لوصل إليك من بيت المال قدر كفايتك.
ولقائل أن يقول: إن عمرا ما كان يطلب قدر الكفاية وعلي عليه السلام ما كان
يعطيه إلا حقه فقط، ولا يعطيه بلدا ولا طرفا من الأطراف، والذي كان يطلب ملك
مصر، لأنه فتحها أيام عمر ووليها برهة، وكانت حسرة في قلبه، وحزازة في صدره،
فباع آخرته بها، فالأولى أن يقال: معناه لو أخذت بالحق أدركت ما طلبت
من الآخرة.
فإن قلت: إن عمرا لم يكن علي عليه السلام يعتقد أنه من أهل الآخرة فكيف يقول
له هذا الكلام؟
قلت: لا خلل ولا زلل في كلامه عليه السلام، لأنه لو أخذ بالحق لكان معتقدا
كون علي عليه السلام على الحق باعتقاده صحه نبوة رسول الله صلى الله عليه وآله، وصحة
التوحيد، فيصير تقدير الكلام: لو بايعتني معتقدا للزوم بيعتي لك لكنت في ضمن ذلك
طالبا الثواب، فكنت تدركه في الآخرة.
ثم قال مهددا لهما، ومتوعدا إياهما: (إن يمكن الله منك ومن ابن أبي سفيان)،
وأقول لو ظفر بهما لما كان في غالب ظني يقتلهما، إنه كان حليما كريما، ولكن كان
يحبسهما ليحسم بحبسهما مادة فسادهما.
162

ثم قال: (وإن تعجزا وتبقيا)، أي وإن لم أستطع أخذكما أو أمت قبل ذلك وبقيتما
بعدي فما أمامكما شر لكما من عقوبة الدنيا، لان عذاب الدنيا منقطع، وعذاب الآخرة
غير منقطع.
* * *
وذكر نصر بن مزاحم في كتاب،، صفين،، هذا الكتاب بزيادة لم يذكرها
الرضى. قال نصر: وكتب علي عليه السلام إلى عمرو بن العاص:
من عبد الله على أمير المؤمنين إلى الأبتر ابن الأبتر عمرو بن العاص بن وائل، شانئ
محمد وآل محمد في الجاهلية والاسلام، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإنك تركت
مروءتك لامرئ فاسق مهتوك ستره، يشين الكريم بمجلسه، ويسفه الحليم بخلطته،
فصار قلبك لقلبه تبعا، كما قيل: (وافق شن طبقه) فسلبك دينك وأمانتك ودنياك
وآخرتك، وكان علم الله بالغا فيك، فصرت كالذئب يتبع الضرغام إذا ما الليل دجى، أو
أتى الصبح يلتمس فاضل سؤره، وحوايا فريسته، ولكن لا نجاه من لقدر، ولو بالحق
أخذت لأدركت ما رجوت، وقد رشد من كان الحق قائده، فإن يمكن الله منك ومن
ابن آكله الأكباد، ألحقتكما بمن قتله الله من ظلمة قريش على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
، وإن تعجزا وتبقيا بعد، فالله حسبكما، وكفى بانتقامه انتقاما، وبعقابه
عقابا! والسلام.
163

(40)
الأصل:
ومن كتاب عليه السلام له إلى بعض عماله:
أما بعد، فقد بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت ربك وعصيت
إمامك، وأخزيت أمانتك. بلغني أنك جردت الأرض فأخذت ما تحت قدميك،
وأكلت ما تحت يديك، فارفع إلى حسابك، واعلم أن حساب الله أعظم من
حساب الناس، والسلام.
* * *
الشرح: أخزيت أمانتك: أذللتها وأهنتها، وجردت الأرض: قشرتها، والمعنى أنه نسبه
إلى الخيانة في المال، وإلى إخراب الضياع، وفى حكمة أبرويز أنه قال لخازن بيت:
المال إني لا أحتملك على خيانة درهم، ولا أحمدك على حفظ عشره آلاف ألف درهم، لأنك إنما
تحقن بذلك دمك، وتعمر به أمانتك، وإنك إن خنت قليلا خنت كثيرا فاحترس من
خصلتين: من النقصان فيما تأخذ، ومن الزيادة فيما تعطى، واعلم أنى لم أجعلك على ذخائر
الملك، وعمارة المملكة والعدة على العدو، إلا وأنت أمين عندي من الموضع
الذي هي فيه، ومن خواتمها التي هي عليها، فحقق ظني في اختياري إياك أحقن ظنك
في رجائك لي، ولا تتعوض بخير شرا، ولا برفعه ضعة، ولا بسلامة ندامة، ولا
بأمانة خيانة.
164

وفى الحديث المرفوع: (من ولى لنا عملا فليتزوج، وليتخذ مسكنا ومركبا وخادما،
فمن اتخذ سوى ذلك جاء يوم القيامة عادلا غالا سارقا) وقال عمر في وصيته لابن مسعود: إياك والهدية، وليست بحرام، ولكني أخاف
عليك الدالة.
وأهدى رجل لعمر فخذ جزور فقبله، ثم ارتفع إليه بعد أيام مع خصم له، فجعل
في أثناء الكلام يقول: يا أمير المؤمنين، أفصل القضاء بيني وبينه كما يفصل فخذ الجزور.
فقضى عمر عليه، ثم قام فخطب الناس، وحرم الهدايا على الولاة والقضاة.
وأهدى إنسان إلى المغيرة سراجا من شبه، وأهدى آخر إليه بغلا، ثم اتفقت لهما
خصومة في أمر فترافعا إليه، فجعل صاحب السراج يقول: إن أمري أضوء من السراج،
فلما أكثر قال المغيرة ويحك، إن البغل يرمح السراج فيكسره.
ومر عمر ببناء يبنى بآجر وجص لبعض عماله فقال: أبت الدراهم إلا أن تخرج
أعناقها. وروى هذا الكلام عن علي عليه السلام، وكان عمر يقول: على كل عامل أمينان: الماء والطين.
ولما قدم أبو هريرة من البحرين قال له عمر: يا عدو الله وعدو كتابه، أسرقت
مال الله تعالى؟ قال أبو هريرة: لست بعدو الله ولا عدو كتابه، ولكني عدو من
عاداهما، ولم أسرق مال الله. فضربه بجريدة على رأسه، ثم ثناه بالدرة، وأغرمه عشرة
آلاف درهم، ثم أحضره، فقال: يا أبا هريرة، من أين لك عشره آلاف درهم؟ قال:
خيلي تناسلت، وعطائي تلاحق وسهامي تتابعت، قال عمر: كلا والله. ثم تركه أياما،
ثم قال له: ألا تعمل؟ قال: لا، قال: قد عمل من هو خير منك يا أبا هريرة، قال:
من هو؟ قال: يوسف الصديق، فقال أبو هريرة أن يوسف عمل لمن لم يضرب رأسه
165

وظهره، ولا شتم عرضه، ولا نزع ماله، لا والله لا أعمل لك ابدا.
وكان زياد إذا ولى رجلا قال له: خذ عهدك، وسر إلى عملك واعلم أنك محاسب
رأس سنتك، وأنك ستصير إلى أربع خصال، فاختر لنفسك: إنا إن وجدناك أمينا
ضعيفا استبدلنا بك لضعفك، وسلمتك من معرتنا أمانتك، وإن وجدناك خائنا قويا
استعنا بقوتك، وأحسنا أدبك على خيانتك، وأوجعنا ظهرك وأثقلنا غرمك: وإن
جمعت علينا الجرمين، جمعنا عليك المضرتين، وإن وجدناك أمينا قويا زدنا رزقك،
ورفعنا ذكرك، وكثرنا مالك، وأوطأنا الرجال عقبك.
ووصف أعرابي عاملا خائنا فقال: الناس يأكلون أماناتهم لقما، وهو يحسوها
حسوا.
قال أنس بن أبي إياس الدؤلي (1) لحارثة بن بدر الغداني - وقد ولى سرق - ويقال
إنها لأبي الأسود (2)
أحار بن بدر قد وليت ولاية * فكن جرذا فيها تخون وتسرق
ولا تحقرن يا حار شيئا أصبته * فحظك من ملك العراقين سرق (3)
وباه تميما بالغنى إن للغنى * لسانا به المرء الهيوبة ينطق (4)
فإن جميع الناس إما مكذب * يقول بما تهوى وإما مصدق
يقولون أقوالا ولا يتبعونها * وإن قيل: هاتوا حققوا لم يحققوا.
فيقال: إنها بلغت حارثة بن بدر فقال: أصاب الله به الرشاد، فلم يعد بإشارته
ما في نفسي!

(1) من الكامل: (أنس بن أبي أنيس).
(2) ممن نسبها إلى الأسود ياقوت في معجم البلدان 5: 73.
(3) سرق: إحدى كور الأهواز
(4) الهيوبة: الجبان
166

(1 4)
الأصل:
ومن كتاب له عليه السلام إلى بعض عماله:
أما بعد، فإني كنت أشركتك في أمانتي، وجعلتك شعاري وبطانتي،
ولم يكن في أهلي رجل أوثق منك في نفسي لمواساتي وموازرتي، وأداء الأمانة
إلى، فلما رأيت الزمان على أبن عمك قد كلب، والعدو قد حرب، وأمانة الناس
قد خزيت، وهذه الأمة قد فتكت وشغرت، قلبت لابن عمك ظهر المجن،
ففارقته مع المفارقين، وخذلته مع الخاذلين، وخنته مع الخائنين،
فلا ابن عمك آسيت، ولا الأمانة أديت.
وكأنك لم تكن الله تريد بجهادك، وكأنك لم تكن على بينة من ربك وكأنك أنما كنت تكيد هذه الأمة عن دنياهم، وتنوي غرتهم عن فيئهم،
فلما أمكنتك الشدة في خيانة الأمة أسرعت الكرة، وعاجلت الوثبة
واختطفت ما قدرت عليه من أموالهم المصونة لأراملهم وأيتامهم، اختطاف
الذئب الأزل دامية المعزى الكسيرة فحملته إلى الحجاز رحيب الصدر
بحمله، غير متأثم من أخذه، كأنك - لا أبا لغيرك - حدرت إلى أهلك تراثك
من أبيك وأمك.
فسبحان الله! أما تؤمن بالمعاد! أو وما تخاف نقاش الحساب! أيها المعدود
كان عندنا من أولى الألباب، كيف تسيغ شرابا وطعاما، وأنت تعلم أنك تأكل
حراما، وتشرب حراما، وتبتاع الإماء، وتنكح النساء من أموال اليتامى والمساكين
167

والمؤمنين والمجاهدين، الذين أفاء الله عليهم هذه الأموال، وأحرز بهم
هذه البلاد! فاتق الله واردد إلى هؤلاء القوم أموالهم، فإنك إن لم تفعل ثم أمكنني الله
منك، لأعذرن إلى الله فيك، ولأضربنك بسيفي الذي ما ضربت به أحدا
إلا دخل النار. ووالله لو أن الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت، ما كانت لهما عندي
هوادة، ولا ظفرا منى بإرادة حتى آخذ الحق منهما، وأزيح الباطل عن
مظلمتهما.
وأقسم بالله رب العالمين، ما يسرني أن ما أخذته من أموالهم حلال لي،
أتركه ميراثا لمن بعدي، فضح رويدا، فكأنك قد بلغت المدى، دفنت تحت
الثرى وعرضت عليك أعمالك بالمحل الذي ينادى الظالم فيه بالحسرة ويتمنى المضيع فيه الرجعة، ولات حين مناص!
* * *
الشرح: أشركتك في أمانتي:
جعلتك شريكا فيما قمت فيه من الامر، وائتمنني الله عليه
من سياسة الأمة، وسمى الخلافة أمانة كما سمى الله تعالى التكليف أمانة في قوله:
(إنا عرضنا الأمانة) (1) فأما قوله: وأداء الأمانة إلى فأمر آخر، ومراده بالأمانة الثانية
ما يتعارفه الناس من قولهم: فلان ذو أمانة، أي لا يخون فيما أسند إليه.
وكلب الزمان: اشتد، وكذلك: كلب البرد.

(1) سورة الأحزاب 72.
168

وحرب العدو: استأسد و. خزيت أمانة الناس: ذلت وهانت.
وشغرت الأمة خلت من الخير، وشغر البلد: خلا من الناس.
وقلبت له ظهر المجن: إذا كنت معه فصرت عليه، وأصل ذلك أن الجيش إذا لقوا
العدو كانت ظهور مجانهم إلى وجه العدو، وبطون مجانهم إلى وجه عسكرهم، فإذا
فارقوا رئيسهم وصاروا مع العدو كان وضع مجانهم بدلا من الوضع الذي كان من قبل،
وذلك أن ظهور الترسة لا يمكن أن تكون إلا في وجوه الأعداء، لأنها مرمى سهامهم.
وأمكنتك الشدة، أي الحملة.
قوله: (أسرعت الكرة)، لا يجوز أن يقال: الكرة إلا بعد فرة فكأنه
لما كان مقلعا في ابتداء الحال عن التعرض لأموالهم، كان كالفار عنها، فلذلك قال:
أسرعت الكره.
والذئب الأزل: الخفيف الوركين، وذلك أشد لعدوه، وأسرع لوثبته، وإن اتفق
أن تكون شاة من المعزى كثيرة ودامية أيضا كان الذئب على اختطافها أقدر.
ونقاش الحساب: مناقشته.
قوله: (فضح رويدا). كلمة تقال لمن يؤمر بالتؤدة والأناة والسكون، وأصلها
الرجل يطعم إبله ضحى، ويسيرها مسرعا ليسير، فلا يشبعها، فيقال له: ضح رويدا.
* * *
(اختلاف الرأي فيمن كتب له هذا الكتاب)
وقد اختلف الناس في المكتوب إليه هذا الكتاب، فقال الأكثرون: إنه عبد الله بن العباس رحمه الله،
ورووا في ذلك روايات، واستدلوا عليه بألفاظ من ألفاظ الكتاب
169

كقوله: (أشركتك في أمانتي، وجعلتك بطانتي وشعاري، وأنه لم يكن في أهلي رجل
أوثق منك)، وقوله: (على ابن عمك قد كلب)، ثم قال ثانيا: (قلبت لابن عمك ظهر
المجن) ثم قال ثالثا: (ولابن عمك آسيت)، وقوله: (لا أبا لغيرك)، وهذه كلمة
لا تقال إلا لمثله، فأما غيره من أفناء الناس، فإن عليا عليه السلام كان يقول: لا أبا لك.
وقوله: (أيها المعدود كان عندنا من أولى الألباب). وقوله: (لو أن الحسن والحسين
ع)، وهذا يدل على أن المكتوب إليه هذا الكتاب قريب من أن يجرى
مجراهما عنده.
وقد روى أرباب هذا القول أن عبد الله بن عباس كتب إلى علي عليه السلام جوابا
من هذا الكتاب، قالوا: وكان جوابه:
أما بعد، فقد أتاني كتابك تعظم على ما أصبت من بيت مال البصرة ولعمري إن حقي
في بيت المال أكثر مما أخذت، والسلام:
قالوا: فكتب إليه علي عليه السلام: أما بعد، فإن من العجب ان تزين لك نفسك أن لك في بيت مال المسلمين من
الحق أكثر مما لرجل واحد من المسلمين، فقد أفلحت إن كان تمنيك الباطل، وادعاؤك
ما لا يكون ينجيك من المأثم، ويحل لك المحرم، إنك لأنت المهتدي السعيد إذا! وقد
بلغني أنك أتخذت مكة وطنا، وضربت بها عطنا. تشترى بها مولدات مكة والمدينة
والطائف، تختارهن على عينك، وتعطى فيهن مال غيرك، فارجع هداك الله إلى رشدك
وتب إلى الله، ربك واخرج إلى المسلمين من أموالهم، فعما قليل تفارق من ألفت وتترك
ما جمعت، وتغيب في صدع من الأرض غير موسد ولا ممهد، قد فارقت الأحباب،
وسكنت التراب، وواجهت الحساب، غنيا عما خلفت، فقيرا إلى ما قدمت، والسلام.
170

قالوا: فكتب إليه أبن عباس: أما بعد، فإنك قد أكثرت على، ووالله لان ألقى الله قد احتويت على كنوز الأرض
كلها، وذهبها وعقيانها ولجينها، أحب إلى من أن ألقاه بدم امرئ
مسلم والسلام.
* * *
وقال آخرون وهم الأقلون: هذا لم يكن، ولا فارق عبد الله بن عباس عليا عليه السلام
ولا باينه ولا خالفه، ولم يزل أميرا على البصرة إلى أن قتل علي عليه
السلام.
قالوا: ويدل على ذلك ما رواه أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني من كتابه
الذي كتبه إلى معاوية من البصرة لما قتل علي عليه السلام، وقد ذكرناه من قبل، قالوا:
وكيف يكون ذلك ولم يخدعه معاوية ويجره إلى جهته، فقد علمتم كيف اختدع كثيرا من
عمال أمير المؤمنين عليه السلام واستمالهم إليه بالأموال، فمالوا وتركوا أمير المؤمنين عليه السلام، فما باله وقد علم النبوة التي حدثت بينهما، لم يستمل أبن عباس، ولا اجتذبه إلى
نفسه، وكل من قرأ السير وعرف التواريخ يعرف مشاقة أبن عباس لمعاوية بعد وفاة على
ع، وما كان يلقاه به من قوارع الكلام، وشديد الخصام، وما كان
يثنى به على أمير المؤمنين عليه السلام، ويذكر خصائصه وفضائله، ويصدع به من مناقبه
ومآثره، فلو كان بينهما غبار أو كدر لما كان الامر كذلك، بل كانت الحال تكون بالضد لما
اشتهر من أمرهما.
وهذا عندي هو الأمثل والأصوب.
وقد قال الراوندي: المكتوب إليه هذا الكتاب هو عبيد الله بن العباس لا عبد الله،
171

وليس ذلك بصحيح، فإن عبيد الله كان عامل علي عليه السلام على اليمن، وقد ذكرت قصته
مع بسر بن أرطاة فيما تقدم، ولم ينقل عنه أنه أخذ مالا، ولا فارق طاعة.
وقد أشكل على أمر هذا الكتاب، فإن أنا كذبت النقل وقلت: هذا كلام
موضوع على أمير المؤمنين عليه السلام، خالفت الرواة، فأنهم قد أطبقوا على رواية هذا
الكلام عنه، وقد ذكر في أكثر كتب السير. وإن صرفته إلى عبد الله بن عباس
صدني عنه ما أعلمه من ملازمته لطاعة أمير المؤمنين عليه السلام في حياته وبعد وفاته.
وإن صرفته إلى غيره لم أعلم إلى من أصرفه من أهل أمير المؤمنين عليه السلام،
والكلام يشعر بأن الرجل المخاطب من أهله وبنى عمه، فأنا في هذا الموضع من المتوقفين!
172

(42) الأصل:
ومن كتاب له عليه السلام إلى عمر بن أبي سلمة المخزومي، وكان عامله على
البحرين، فعزله واستعمل النعمان بن عجلان الزرقي مكانه:
أما بعد، فأنى قد وليت النعمان بن عجلان الزرقي على البحرين، ونزعت يدك بلا ذم لك، ولا تثريب عليك، فلقد أحسنت الولاية، وأديت الأمانة
فأقبل غير ظنين ولا ملوم ولا متهم ولا مأثوم، فقد أردت المسير إلى ظلمه
أهل الشام، وأحببت أن تشهد معي، فإنك ممن أستظهر به على جهاد العدو
وإقامة عمود الدين، إن شاء الله.
* * *
الشرح
(عمر بن أبي سلمة ونسبه وبعض أخباره) أما عمر بن أبي سلمة فهو ربيب رسول الله صلى الله عليه وآله، وأبوه أبو سلمة بن
عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة، يكنى أبا حفص ولد في السنة
الثانية من الهجرة بأرض الحبشة، وقيل: إنه كان يوم قبض رسول الله صلى الله عليه وآله
ابن تسع سنين، وتوفى في المدينة في خلافة عبد الملك سنه ثلاث وثمانين، وقد حفظ
عن رسول الله صلى الله عليه وآله الحديث، وروى عنه سعيد بن المسيب وغيره، ذكر
173

ذلك كله ابن عبد البر في كتاب، الاستيعاب،
* * *
(النعمان بن عجلان ونسبه وبعض أخباره) وأما النعمان بن عجلان الزرقي فمن الأنصار، ثم من بنى زريق، وهو الذي خلف على
خولة زوجة حمزة بن عبد المطلب رحمه الله بعد قتله، قال (ابن) عبد البر في كتاب
،، الاستيعاب،،: كان النعمان هذا لسان الأنصار وشاعرهم، ويقال إنه كان رجلا
أحمر قصيرا تزدريه، العين، إلا أنه كان سيدا، وهو القائل يوم السقيفة:
وقلتم حرام نصب سعد ونصبكم * عتيق بن عثمان حلال أبا بكر
وأهل أبو بكر لها خير قائم * وإن عليا كان أخلق بالامر
وإن هوانا في علي وإنه * لأهل لها من حيث يدرى ولا يدري
قوله: (ولا تثريب عليك)، فالتثريب الاستقصاء في اللوم، ويقال: ثربت عليه
وعربت عليه، إذا قبحت عليه فعله.
والظنين: المتهم، والظنة التهمة والجمع الظنن، يقول: قد أظن زيد عمرا، والألف
ألف وصل، والظاء مشددة، والنون مشددة أيضا، وجاء بالطاء المهملة أيضا، أي اتهمه.
وفى حديث أبن سيرين: لم يكن علي عليه السلام يظن في قتل عثمان، الحرفان مشددان وهو
يفتعل من (يظنن) وأدغم قال، الشاعر:
وما كل من يظنني أنا معتب * وما كل ما يروى على أقول (1)

(1) الصحاح 2161 من غير نسبة.
174

(43) الأصل: ومن كتاب له عليه السلام إلى مصقلة بن هبيرة الشيباني وكان عامله
على أردشير خره:
بلغني عنك أمر أن كنت فعلته فقد أسخطت إلهك، وعصيت أمامك،
إنك تقسم - فئ المسلمين - الذي حازته رماحهم وخيولهم، وأريقت - عليه دماؤهم -
فيمن اعتامك من أعراب قومك. فوالذي فلق الحبة، وبرأ النسمة لئن كان
ذلك حقا. لتجدن لك على هوانا، ولتخفن عندي ميزانا، فلا تستهن بحق ربك
ولا تصلح دنياك بمحق دينك فتكون من الأخسرين أعمالا.
ألا وأن حق من قبلك وقبلنا من المسلمين في قسمه هذا الفئ سواء،
يردون عندي عليه، ويصدرون عنه.
* * *
الشرح: قد تقدم ذكر نسب مصقلة بن هبيرة وأردشير خرة: كورة من كور فارس.
واعتامك، اختارك من بين الناس، أصله من العيمة بالكسر، وهي خيار المال
اعتام المصدق إذا أخذ العيمة، وقد روى (فيمن اعتماك) (1) بالقلب، والصحيح

(1) ب: (اعتامك)، والصواب ما أثبته من ا.
175

المشهور الأول، وروى: (ولتجدن بك عندي هوانا) بالباء، ومعناها اللام،
ولتجدن بسبب فعلك هوانك عندي، والباء ترد للسببية: كقوله تعالى: (فبظلم
من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم) (1)
والمحق الاهلاك.
والمعنى أنه نهى مصقلة عن أن يقسم الفئ على أعراب قومه الذين اتخذوه سيدا
ورئيسا، ويحرم المسلمين الذين حازوه بأنفسهم وسلاحهم، وهذا هو الامر الذي كان
ينكره على عثمان
وهو إيثار أهله وأقاربه بمال الفئ وقد سبق شرح مثل ذلك
مستوفى.

(1) سورة النساء 160.
176

(44) الأصل: ومن كتاب له عليه السلام إلى زياد بن أبيه، وقد بلغه أن معاوية كتب إليه
يريد خديعته باستلحاقه:
وقد عرفت أن معاوية كتب إليك يستزل لبك، ويستفل غربك، فاحذره
فإنما هو الشيطان يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله،
ليقتحم غفلته، ويستلب غرته.
وقد كان من أبي سفيان في زمن عمر بن الخطاب فلتة من حديث النفس، ونزغة من نزغات الشيطان، لا يثبت بها نسب، ولا يستحق بها إرث،
والمتعلق بها كالواغل المدفع، والنوط المذبذب.
فلما قرأ زياد الكتاب قال: شهد بها ورب الكعبة، ولم تزل في نفسه
حتى ادعاه معاوية.
* * *
قال الرضى رحمه الله:
تعالى قوله عليه السلام: (الواغل)، هو الذي يهجم على الشرب ليشرب معهم وليس
منهم، فلا يزال مدفعا محاجزا. والنوط المذبذب: هو ما يناط برحل الراكب من
قعب أو قدح، أو ما أشبه ذلك، فهو أبدا يتقلقل إذا حث ظهره، واستعجل سيره.
* * *
177

الشرح: يستزل لبك، يطلب زلله وخطأه، أي يحاول أن تزل. واللب: العقل. ويستفل
غربك: يحاول أن يفل حدك، أي عزمك، وهذا من باب المجاز. ثم أمره أن يحذره،
وقال: إنه - يعنى معاوية - كالشيطان يأتي المرء من كذا ومن كذا، وهو مأخوذ
من قول الله تعالى: (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن
شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين) (1)، قالوا في تفسيره: من بين أيديهم:
يطمعهم في العفو ويغريهم بالعصيان (2)، ومن خلفهم: يذكرهم مخلفيهم، ويحسن
لهم جمع المال وتركه لهم، وعن أيمانهم: يحبب إليهم الرياسة والثناء، وعن شمائلهم: يحبب
إليهم اللهو واللذات.
وقال شقيق البلخي: ما من صباح الا قعد لي الشيطان على أربعة مراصد: من بين
يدي، ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، أما من بين يدي فيقول: لا تخف فإن
الله غفور رحيم، فأقرأ: (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى) (3)،
وأما من خلفي فيخوفني الضيعة على مخلفي، فأقرأ: (وما من دابة في الأرض إلا
على الله رزقها) (4)، وأما من قبل يميني فيأتيني من جهة الثناء، فأقرأ: (والعاقبة
للمتقين) (5)، وأما من قبل شمالي فيأتيني من قبل الشهوات، فأقرأ: (وحيل بينهم
وبين ما يشتهون) (6). فإن قلت: لم لم يقل: (ومن فوقهم ومن تحتهم)؟

(1) سورة الأعراف 17.
(2) كذا في ا، وفى ب (العصيان).
(3) سورة طه 82.
(4) سورة هود 6.
(5) سورة القصص 83.
(6) سورة سبأ 54.
178

قلت: لان جهة (فوق) جهة نزول الرحمة، ومستقر الملائكة، ومكان العرش،
والأنوار الشريفة، ولا سبيل له إليها، وأما من جهة (تحت) فلان الاتيان منها
يوحش، وينفر عنه، لأنها الجهة المعروفة بالشياطين، فعدل عنها إلى ما هو أدعى إلى قبول
وساوسه وأضاليله.
وقد فسر قوم المعنى الأول فقالوا: (من بين أيديهم)، من جهة الدنيا، و (من خلفهم). من جهة الآخرة، و (عن أيمانهم)، الحسنات، و (عن شمائلهم)، أي يحثهم على طلب الدنيا، ويؤيسهم من الآخرة، ويثبطهم عن الحسنات، ويغريهم
بالسيئات.
قوله: (ليقتحم غفلته) أي ليلج ويهجم عليه وهو غافل، جعل اقتحامه إياه
اقتحاما للغرة نفسها لما كانت غالبه عليه.
يستلب غرته، ليس المعنى باستلابه الغرة أن يرفعها ويأخذها لأنه لو كان كذلك
لصار ذلك الغافل المغتر فاقدا للغفلة والغرة وكان لبيبا فطنا، فلا يبقى له سبيل عليه وإنما المعنى بقوله: (ويستلب غرته) ما يعنيه الناس بقولهم: أخذ فلان غفلتي وفعل كذا.
ومعنى أخذها هنا أخذ ما يستدل به على غفلتي.
وفلتة: أمر وقع من غير تثبت ولا رويه.
ونزغة: كلمة فاسدة، من نزغات الشيطان، أي من حركاته القبيحة التي يستفسد بها
مكلفين، ولا يثبت بها نسب، ولا يستحق بها إرث لان المقر بالزنا لا يلحقه النسب،
ولا يرثه المولود، لقوله صلى الله عليه وآله: (الولد للفراش، وللعاهر الحجر).
* * *
(نسب زياد بن أبيه وذكر بعض أخباره وكتبه وخطبه) فأما زياد فهو زياد بن عبيد، ومن الناس من يقول: عبيد بن فلان، وينسبه إلى
179

ثقيف، والأكثرون يقولون: إن عبيدا كان عبدا، وإنه بقي إلى أيام زياد، فابتاعه
وأعتقه، وسنذكر ما ورد في ذلك ونسبة زياد لغير أبيه لخمول أبيه، والدعوة التي استلحق
بها، فقيل تارة زياد بن سميه وهي أمه، وكانت أمة للحارث بن كلدة بن عمرو بن علاج
الثقفي، طبيب العرب، وكانت تحت عبيد.
وقيل تارة زياد بن أبيه، وقيل تارة، زياد بن أمه، ولما استلحق قال له أكثر الناس: زياد بن أبي سفيان، لان الناس مع الملوك الذين هم مظنة الرهبة والرغبة، وليس اتباع
الدين بالنسبة إلى اتباع الملوك إلا كالقطرة في البحر المحيط
فأما ما كان يدعى به قبل
الاستلحاق فزياد بن عبيد، ولا يشك في ذلك أحد.
وروى أبو عمر بن عبد البر في كتاب،، الاستيعاب،، عن هشام بن محمد بن السائب
الكلبي عن أبيه، عن أبي صالح، عن أبن عباس، أن عمر بعث زيادا في إصلاح فساد
واقع باليمن، فلما رجع من وجهه خطب عند عمر خطبة لم يسمع مثلها - وأبو سفيان حاضر
وعلي عليه السلام وعمرو بن العاص - فقال عمرو بن العاص: لله أبو هذا الغلام! لو كان
قرشيا لساق العرب بعصاه، فقال أبو سفيان: إنه لقرشي، وإني لأعرف الذي وضعه
في رحم أمه، فقال علي عليه السلام: ومن هو؟ قال أنا فقال: مهلا يا أبا سفيان، فقال
أبو سفيان:
أما والله لولا خوف شخص * يراني يا علي من الأعادي
لأظهر أمره صخر بن حرب * ولم يخف المقالة في زياد
وقد طالت مجاملتي ثقيفا * وتركي فيهم ثمر الفؤاد
عنى بقوله: (لولا خوف شخص): عمر بن الخطاب (1).

(1) الاستيعاب 1. 2 وما بعدها.
180

وروى أحمد بن يحيى البلاذري قال: تكلم زياد - وهو غلام حدث - بحضرة عمر
كلاما أعجب الحاضرين، فقال عمرو بن العاص: لله أبوه! لو كان قرشيا لساق العرب
بعصاه، فقال أبو سفيان: أما والله إنه لقرشي، ولو عرفته لعرفت أنه خير من أهلك، فقال: ومن أبوه؟ قال: أنا والله وضعته في رحم أمه، فقال: فهلا تستلحقه؟ قال: أخاف
هذا العير الجالس أن يخرق على إهابي.
وروى محمد بن عمر الواقدي قال: قال أبو سفيان وهو جالس عند عمر وعلى هناك
وقد تكلم زياد فأحسن: أبت المناقب إلا أن تظهر في شمائل زياد، فقال علي عليه السلام
من أي بنى عبد مناف هو؟ قال: ابني، قال: كيف؟ قال أتيت أمه في الجاهلية
سفاحا! فقال علي عليه السلام: مه يا أبا سفيان فإن عمر إلى المساءة سريع: قال: فعرف
زياد ما دار بينهما. فكانت في نفسه.
وروى علي بن محمد المدائني قال: لما كان زمن على ولى زيادا فارس
أو بعض أعمال فارس، فضبطها ضبطا صالحا، وجبى خراجها وحماها، وعرف ذلك
معاوية، فكتب إليه: أما بعد، فإنه غرتك قلاع تأوى إليها ليلا، كما تأوي الطير إلى
وكرها، وأيم الله لولا انتظاري بك ما الله أعلم به لكان لك منى ما قاله العبد الصالح:
(فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذله وهم صاغرون) (1).
وكتب في أسفل الكتاب شعرا من جملته:
تنسى أباك وقد شالت نعامته * إذ يخطب الناس والوالي لهم عمر.
فلما ورد الكتاب على زياد قام فخطب الناس، وقال: العجب من ابن آكلة
الأكباد، ورأس النفاق! يهددني وبيني وبينه ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله
وزوج سيدة نساء العالمين وأبو السبطين، وصاحب الولاية والمنزلة والإخاء في مائة الف

(1) الاستيعاب 1. 2 وما بعدها.
181

من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان! أما والله لو تخطى هؤلاء أجمعين إلى
لوجدني أحمر مخشا (1) ضرابا بالسيف، ثم كتب إلى علي عليه السلام، وبعث بكتاب
معاوية في كتابه.
فكتب إليه علي عليه السلام، وبعث بكتابه: أما بعد فإني قد وليتك ما وليتك وأن أراك لذلك أهلا، وإنه قد كانت من أبي سفيان
فلتة في أيام عمر من أماني التيه وكذب النفس، لم تستوجب بها ميراثا، ولم
تستحق بها نسبا، وإن معاوية كالشيطان الرجيم يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه وعن
يمينه وعن شماله، فاحذره، ثم احذره، ثم احذره، والسلام.
وروى أبو جعفر محمد بن حبيب قال: كان علي عليه السلام قد ولى زيادا قطعة من
أعمال فارس واصطنعه لنفسه، فلما قتل علي عليه السلام بقي زياد في عمله، وخاف
معاوية جانبه، وعلم صعوبة ناحيته، وأشفق من ممالاته الحسن بن علي عليه السلام.
فكتب إليه:
من أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان إلى زياد بن عبيد، أما بعد، فإنك عبد قد
كفرت النعمة، واستدعيت النقمة، ولقد كان الشكر أولى بك من الكفر وإن
الشجرة لتضرب بعرقها، وتتفرع من أصلها، إنك - لا أم لك بل لا أب لك - قد هلكت
وأهلكت، وظننت أنك تخرج من قبضتي، ولا ينالك سلطاني، هيهات! ما كل
ذي لب يصيب رأيه، ولا كل ذي رأى ينصح في مشورته. أمس عبد واليوم أمير!
خطة ما ارتقاها مثلك يا بن سمية، وإذا أتاك كتابي هذا فخذ الناس بالطاعة والبيعة،
وأسرع الإجابة فإنك أن تفعل فدمك حقنت، ونفسك تداركت، وإلا اختطفتك

(1) المخش الماضي الجرئ، وفى ب: (مخا)، والصواب ما أثبته من أ.
182

بأضعف ريش (1) ونلتك بأهون سعى. وأقسم قسما مبرورا إلا أوتى بك إلا في زمارة (2)،
تمشى حافيا من أرض فارس إلى الشام حتى أقيمك في السوق، وأبيعك عبدا، وأردك إلى
حيث كنت فيه وخرجت منه. والسلام.
فلما ورد الكتاب على زياد غضب غضبا شديدا، وجمع الناس وصعد المنبر. فحمد الله
ثم قال: ابن آكله الأكباد وقاتلة أسد الله، ومظهر الخلاف ومسر النفاق، ورئيس
الأحزاب، ومن أنفق ماله في إطفاء نور الله كتب إلى يرعد ويبرق عن سحابه جفل
لا ماء فيها، وعما قليل تصيرها الرياح قزعا، والذي يدلني على ضعفه تهدده قبل القدرة،
أفمن إشفاق على تنذر وتعذر! كلا، ولكن ذهب إلى غير مذهب، وقعقع لمن ربى (3)
بين صواعق تهامة، كيف أرهبه وبيني وبينه أبن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وأبن أبن
عمه في مائة ألف من المهاجرين والأنصار، والله لو أذن لي فيه، أو ندبني إليه، لأريته
الكواكب نهارا، ولأسعطته ماء الخردل. دونه الكلام اليوم، والجمع غدا، والمشورة
بعد ذلك إن شاء الله. ثم نزل.
وكتب إلى معاوية: أما بعد، فقد وصل إلى كتابك يا معاوية وفهمت ما فيه، فوجدتك
كالغريق يغطيه الموج فيتشبث بالطحلب، ويتعلق بأرجل الضفادع، طمعا في الحياة.
إنما يكفر النعم، ويستدعى النقم من حاد الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا.
فأما سبك لي فلو لا حلم ينهاني عنك، وخوفي أن أدعى سفيها، لأثرت لك مخازي لا
يغسلها الماء. وأما تعييرك لي بسمية فإن كنت أبن سمية فأنت أبن جماعة، وأما زعمك
أنك تختطفني بأضعف ريش، وتتناولني بأهون سعى، فهل رأيت بازيا يفزعه صغير

(1) بأضعف ريش، يريد بأضعف قوة، وكانوا يلزقون على السهم ليقووه ويستردوه. (2) أي في جماعة زمارة تزمر حولك لتشهيرك والتشنيع عليك.
(3) كذا في ا، وفى ب: (رئي).
183

القنابر، أم هل سمعت بذئب أكله خروف! فامض الان لطيتك، وأجتهد جهدك
فلست أنزل إلا بحيث تكره، ولا أجتهد إلا فيما يسوءك، وستعلم أينا الخاضع لصاحبه،
الطالع إليه. والسلام.
فلما ورد كتاب زياد على معاوية غمه وأحزنه، وبعث إلى المغيرة بن شعبة، فخلا به
وقال: يا مغيرة إني أريد مشاورتك في أمر أهمنى، فانصحني فيه، وأشر على برأي
المجتهد، وكن لي أكن لك، فقد خصصتك بسري، وآثرتك على ولدى. قال المغيرة: فما
ذاك؟ والله لتجدني في طاعتك ة مضى من الماء إلى الحدور، ومن ذي الرونق في كف البطل
الشجاع. قال: يا مغيرة إن زيادا قد أقام بفارس يكش لنا كشيش الأفاعي، وهو رجل
ثاقب الرأي، ماضي العزيمة، جوال الفكر، مصيب إذا رمى، وقد خفت منه الان ما كنت
آمنه إذ كان صاحبه حيا، وأخشى ممالاته حسنا، فكيف السبيل إليه وما الحيلة في
إصلاح راية؟ قال المغيرة: أنا له إن لم أمت، إن زيادا رجل يحب الشرف والذكر وصعود
المنابر، فلو لاطفته المسألة، وألنت له الكتاب، لكان لك أميل وبك أوثق
فأكتب
إليه وأنا الرسول.
فكتب معاوية إليه: من أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان إلى زياد بن أبي سفيان، أما بعد فأن المرء
ربما طرحه الهوى في مطارح العطب، وأنك للمرء المضروب به المثل، قاطع الرحم، وواصل
العدو. وحملك سوء ظنك بي، وبغضك لي، على أن عققت قرابتي، وقطعت رحمي
وبتت (1) نسبي وحرمتي، حتى كأنك لست أخي، وليس صخر بن حرب أباك وأبى
وشتان ما بيني وبينك، أطلب بدم ابن أبي العاص (2) وأنت تقاتلني! ولكن أدركك
عرق الرخاوة من قبل النساء، فكنت:

(1) بتت: قطعت.
(2) أي عثمان، وهو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية.
184

كتاركة بيضها بالعراء * وملحفة بيض أخرى جناحا.
قد رأيت أن أعطف عليك، ولا أؤاخذك بسوء سعيك، وأن أصل رحمك،
وأبتغي الثواب في أمرك، فاعلم أبا المغيرة، أنك لو خضت البحر في طاعة القوم فتضرب
بالسيف حتى انقطع متنه لما ازددت منهم إلا بعدا، فإن بنى عبد شمس أبغض إلى بني هاشم
من الشفرة إلى الثور الصريع وقد أوثق للذبح، فارجع - رحمك الله - إلى أصلك، واتصل
بقومك، ولا تكن كالموصول بريش (1) غيره، فقد أصبحت ضال النسب. ولعمري
ما فعل بك ذلك إلا اللجاج، فدعه عنك، فقد أصبحت على بينة من أمرك، ووضوح
من حجتك، فإن أحببت جانبي، ووثقت بي، فإمرة بإمرة، وإن كرهت جانبي، ولم تثق بقولي
ففعل جميل لا على ولا لي. والسلام.
فرحل المغيرة بالكتاب حتى قدم فارس، فلما رآه زياد قربه وأدناه ولطف به
فدفع إليه الكتاب، فجعل يتأمله ويضحك، فلما فرغ من قراءته وضعه تحت قدمه ثم
قال: حسبك يا مغيرة! فإني أطلع على ما في ضميرك، وقد قدمت من سفرة بعيدة، فقم
وأرح ركابك. قال: أجل فدع عنك اللجاج يرحمك الله، وأرجع إلى قومك،
وصل أخاك، وأنظر لنفسك، ولا تقطع رحمك! قال زياد، إني رجل صاحب أناة ولى
في أمري روية، فلا تعجل على، ولا تبدأني بشئ حتى أبدأك. ثم جمع الناس بعد
يومين أو ثلاثة، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إيها الناس: ادفعوا البلاء
ما اندفع عنكم، وارغبوا إلى الله في دوام العافية لكم، فقد نظرت في أمور الناس منذ
قتل عثمان، وفكرت فيهم فوجدتهم كالأضاحي، في كل عيد يذبحون، ولقد أفنى
هذان اليومان - يوم الجمل وصفين - ما ينيف على مائه ألف، كلهم يزعم أنه طالب حق، وتابع أمام، وعلى بصيرة من أمره، فإن كان الامر هكذا فالقاتل والمقتول في الجنة، كلا

(1) ب: (كالموصول يطير بريش غيره).
185

ليس كذلك، ولكن أشكل الامر، والتبس على القوم، وإني لخائف أن يرجع الامر
كما بدا، فكيف لامرئ بسلامة دينه! وقد نظرت في أمر الناس فوجدت أحد العاقبتين
العافية وسأعمل في أموركم ما تحمدون عاقبته ومغبته، فقد حمدت طاعتكم إن شاء الله
ثم نزل.
وكتب جواب الكتاب: أما بعد، فقد وصل كتابك يا معاوية مع المغيرة بن شعبة وفهمت ما فيه، فالحمد لله
الذي عرفك الحق، وردك إلى الصلة ولست ممن يجهل معروفا، ولا يغفل حسبا، ولو
أردت أن أجيبك بما أوجبته الحجة، واحتمله الجواب، لطال الكتاب، وكثر الخطاب
ولكنك إن كنت كتبت كتابك هذا عن عقد صحيح، ونية حسنة، وأردت بذلك
برا، فستزرع في قلبي مودة وقبولا، وإن كنت إنما أردت مكيدة ومكرا وفساد نية
فإن النفس تأبى ما فيه العطب، ولقد قمت يوم قرأت كتابك مقاما يعبأ به الخطيب المدرة،
فتركت من حضر، لا أهل ورد ولا صدر، كالمتحيرين بمهمه ضل بهم الدليل، وأنا على
أمثال ذلك قدير، وكتب في أسفل الكتاب:
إذا معشري لم ينصفوني وجدتني * أدافع عنى الضيم ما دمت باقيا
وكم معشر أعيت قناتي عليهم * فلاموا وألفوني لدى العزم ماضيا
وهم به ضاقت صدور فرجته * وكنت بطبي للرجال مداويا
أدافع بالحلم الجهول مكيدة * وأخفى له تحت العضاه الدواهيا
فإن تدن منى أدن منك وإن تبن * تجدني إذا لم تدن منى نائيا.
فأعطاه معاوية جميع ما سأله، وكتب إليه بخط يده ما وثق به، فدخل إليه الشام،
فقربه وأدناه، وأقره على ولايته، ثم استعمله على العراق.
* * *
186

وروى علي بن محمد المدائني قال: لما أراد معاوية استلحاق زياد وقد قدم عليه
الشام جمع الناس وصعد المنبر، وأصعد زيادا معه فأجلسه بين يديه على المرقاة التي تحت
مرقاته، وحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إني قد عرفت نسبنا أهل البيت في
زياد، فمن كان عنده شهادة فليقم بها. فقام ناس فشهدوا أنه أبن أبي سفيان، وأنهم
سمعوا ما أقر به قبل موته، فقام أبو مريم السلولي - وكان خمارا في الجاهلية - فقال: أشهد
يا أمير المؤمنين أن أبا سفيان قدم علينا بالطائف، فأتاني فاشتريت له لحما وخمرا وطعاما،
فلما أكل قال: يا أبا مريم، أصب لي بغيا، فخرجت فأتيت بسمية، فقلت لها: أن
أبا سفيان ممن قد عرفت شرفه وجوده، وقد أمرني أن أصيب له بغيا، فهل لك؟ فقالت:
نعم، يجئ الان عبيد بغنمه - وكان راعيا - فإذا تعشى، ووضع رأسه أتيته. فرجعت
إلى أبي سفيان فأعلمته، فلم نلبث أن جاءت تجر ذيلها، فدخلت معه، فلم تزل عنده
حتى أصبحت، فقلت له لما انصرفت: كيف رأيت صاحبتك؟ قال: خير صاحبة، لولا
ذفر في إبطيها.
فقال زياد من فوق المنبر: يا أبا مريم، لا تشتم أمهات الرجال، فتشتم أمك.
فلما انقضى كلام معاوية ومناشدته قام زياد، وأنصت الناس، فحمد الله وأثنى عليه
ثم قال: أيها الناس أن معاوية والشهود قد قالوا ما سمعتم، ولست أدرى حق هذا من
باطله! وهو والشهود أعلم بما قالوا، وأنما عبيد أب مبرور، ووال مشكور ثم نزل.
* * *
وروى شيخنا أبو عثمان أن زيادا مر وهو والى البصرة بأبي العريان العدوي -
وكان شيخا مكفوفا، ذا لسن وعارضة شديده - فقال أبو العريان: ما هذه الجلبة؟ قالوا:
زياد بن أبي سفيان، قال: والله ما ترك أبو سفيان ألا يزيد ومعاوية وعتبة وعنبسة
وحنظلة ومحمدا، فمن أين جاء زياد؟ فبلغ الكلام زيادا، وقال له قائل: لو سددت
187

عنك فم هذا الكلب! فأرسل إليه بمائتي دينار، فقال له رسول زياد: إن أبن عمك
زيادا الأمير قد أرسل إليك مائتي دينار لتنفقها، فقال: وصلته رحم! أي والله أبن عمى
حقا. ثم مر به زياد من الغد في موكبه، فوقف عليه فسلم وبكى أبو العريان، فقيل له:
ما يبكيك؟ قال عرفت صوت أبي سفيان في صوت زياد. فبلغ ذلك معاوية فكتب إلى
أبى العريان:
ما ألبثتك الدنانير التي بعثت * أن لونتك أبا العريان ألوانا
أمسى إليك زياد في أرومته * نكرا فأصبح ما أنكرت عرفانا ل
له در زياد لو تعجلها * كانت له دون ما يخشاه قربانا!
فلما قرئ كتاب معاوية على أبى العريان قال: أكتب جوابه يا غلام:
أحدث لنا صلة تحيا النفوس بها * قد كدت يا بن أبي سفيان تنسانا
أما زياد فقد صحت مناسبه * عندي فلا أبتغي في الحق بهتانا
من يسد خيرا يصبه حين يفعله * أو يسد شرا يصبه حيثما كانا.
وروى أبو عثمان أيضا، قال: كتب زياد إلى معاوية ليستأذنه في الحج، فكتب
إليه أنى قد أذنت لك واستعملتك على الموسم، وأجزتك بألف ألف درهم. فبينا هو
يتجهز إذ بلغ ذلك أبا بكرة أخاه - وكان مصارما له منذ لجلج في الشهادة على المغيرة بن
شعبة أيام عمر لا يكلمه قد لزمته أيمان عظيمة ألا يكلمه أبدا - فأقبل أبو بكرة يدخل
القصر يريد زيادا، فبصر به الحاجب، فأسرع إلى زياد قائلا، أيها الأمير، هذا أخوك
أبو بكرة قد دخل القصر قال: ويحك، أنت رأيته! قال ها هو ذا قد طلع، وفى حجر
زياد بنى يلاعبه، وجاء أبو بكرة حتى وقف عليه، فقال للغلام: كيف أنت يا غلام؟
أن أباك ركب في الاسلام عظيما! زنى أمه، وانتفى من أبيه، ولا والله ما علمت سمية رأت
188

أبا سفيان قط، ثم أبوك يريد أن يركب ما هو أعظم من ذلك، يوافي الموسم غدا، ويوافي
أم حبيبة بنت أبي سفيان، وهي من أمهات المؤمنين، فإن جاء يستأذن (1) عليها فأذنت له،
فأعظم بها فرية على رسول الله صلى الله عليه وآله ومصيبة! وأن هي منعته فأعظم بها على
أبيك فضيحة! ثم انصرف، فقال: جزاك الله يا أخي عن النصيحة خيرا، ساخطا كنت
أو راضيا. ثم كتب إلى معاوية: إني قد اعتللت عن الموسم فليوجه إليه أمير المؤمنين من
أحب فوجه عتبة بن أبي سفيان.
* * *
فأما أبو عمر بن عبد البر في كتاب،، الاستيعاب،، فإنه قال: لما ادعى معاوية زيادا في
سنة أربع وأربعين وألحقه به أخا زوج أبنته من ابنه محمد بن زياد ليؤكد بذلك صحة
الاستلحاق، وكان أبو بكرة أخا زياد لامه، أمهما جميعا سمية، فحلف ألا يكلم زيادا أبدا
وقال: هذا زنى أمه، وانتفى من أبيه، ولا والله ما علمت سمية رأت أبا سفيان قبل (2)،
ويله ما يصنع بأم حبيبة! أيريد أن يراها؟ فإن حجبته فضحته، وأن رآها فيا لها مصيبة!
يهتك من رسول الله صلى الله عليه وآله حرمة عظيمة!
وحج زياد مع معاوية، ودخل المدينة فأراد الدخول على أم حبيبه ثم ذكر قول أبى
بكرة، فانصرف عن ذلك. وقيل: إن أم حبيبة حجبته ولم تأذن له في الدخول عليها،
وقيل، إنه حج ولم يرد (3) المدينة من أجل قول أبى بكرة، وأنه قال: جزى الله أبا بكرة
خيرا فما يدع النصيحة في حال.
وروى أبو عمر بن عبد البر في هذا الكتاب قال: دخل بنو أمية وفيهم عبد الرحمن
بن الحكم على معاوية أيام ما استلحق زيادا، فقال له عبد الرحمن: يا معاوية لو لم تجد
إلا الزنج لاستكثرت بهم علينا قلة وذلة يعنى - على بنى أبى العاص. فاقبل معاوية

(1) ب: (أن يستأذن).
(2) أ والاستيعاب: (قط).
(3) أ: (يزر).
189

على مروان وقال: أخرج عنا هذا الخليع فقال مروان: أي والله أنه لخليع ما يطاق
: فقال معاوية والله لولا حلمي وتجاوزي لعلمت أنه يطاق، أم يبلغني شعره في وفى زياد! ثم
قال مروان: أسمعنيه، فأنشد:
ألا أبلغ معاوية بن حرب * لقد ضاقت بما يأتي اليدان
أتغضب أن يقال أبوك عف * وترضى أن يقال أبوك زان!
فأشهد أن رحمك من زياد * كرحم الفيل من ولد الأتان
وأشهد أنها حملت زيادا * وصخر من سمية غير دان (1).
ثم قال (2): والله لا أرضى عنه حتى يأتي زيادا فيترضاه ويعتذر إليه، فجاء عبد الرحمن إلى
زياد معتذرا يستأذن عليه، فلم يأذن له فأقبلت قريش إلى زياد تكلمه في أمر عبد الرحمن،
فلما دخل سلم، فتشاوس له زياد بعينه - وكان يكسر عينه - فقال له زياد: أنت القائل
ما قلت؟ قال عبد الرحمن: ما الذي قلت؟ قال: قلت ما لا يقال قال، أصلح الله الأمير!
إنه لا ذنب لمن أعتب، وإنما الصفح عمن أذنب فاسمع منى ما أقول، قال:
هات، فأنشده:
إليك أبا المغيرة تبت مما * جرى بالشام من خطل اللسان (3)
وأغضبت الخليفة فيك حتى * دعاه فرط غيظ أن هجاني
وقلت لمن لحاني في اعتذاري (4) * إليك أذهب فشأنك غير شاني

(1) بعدها في الاستيعاب: (وهذه الأبيات تروى لزي يزيد بن
ربيعه بن مفزع الحميري الشاعر، ومن رواها له جعل أولها:
ألا أبلغ معاوية بن حرب * مغلغلة من الرجال اليماني
وذكر الأبيات كما ذكرناها سواء
(2) في الاستيعاب: (وروينا أن معاوية قال حين أنشده مروان شعر أخيه عبد الرحمان: والله لا أرضى...
(3) الاستيعاب: (من جور اللسان).
(4) الاستيعاب: (لمن يلمني).
190

عرفت الحق بعد ضلال رأيي * وبعد الغي من زيغ الجنان
زياد من أبي سفيان غصن * تهادى ناضرا بين الجنان
أراك أخا وعما وأبن عم * فما أدرى بعيب ما تراني
وإن زيادة في آل حرب * أحب إلى من وسطى بناني
ألا أبلغ معاوية بن حرب * فقد ظفرت بما تأتى اليدان
فقال زياد: أراك أحمق صرفا شاعرا ضيع اللسان، يسوغ لك ريقك ساخطا ومسخوطا،
ولكنا قد سمعنا شعرك، وقبلنا عذرك، فهات حاجتك؟ (1 قال: تكتب إلى أمير المؤمنين
بالرضا عنى، قال: نعم، ثم دعا كاتبه فكتب له بالرضا عنه 1)، فأخذ كتابه ومضى
حتى دخل على معاوية، فلما قراءة قال: لحا الله زيادا لم يتنبه لقوله:
* وإن زيادة في آل حرب *.
ثم رضى عن عبد الرحمن ورده إلى حالته.
وأما اشعار يزيد بن مفرغ الحميري وهجاؤه عبيد الله وعبادا، ابني زياد بالدعوة
فكثيرة مشهورة، نحو قوله:
أعباد ما للؤم عنك تحول (2) * ولا لك أم من قريش ولا أب
وقل لعبيد الله ما لك والد * بحق ولا يدرى امرؤ كيف تنسب.
ونحو قوله:
شهدت بأن أمك لم تباشر * أبا سفيان واضعة القناع

(1 - 1) الاستيعاب: (قال: كتاب إلى أمير المؤمنين بالرضا عنه، قال: نعم، ثم دعا كاتبه فقال:
اكتب بسم الله الرحمان الرحيم. لعبد الله معاوية أمير المؤمنين من زياد بن أبي سفيان، فإني أحمد إليك الله
الذي لا إله إلا هو، أما بعد... وذكر الخبر).
(2) ا: (محول).
191

ولكن كان أمر فيه لبس * على حذر شديد وارتياع
إذا أودى معاوية بن حرب * فبشر شعب قعبك بانصداع.
ونحو قوله:
إن زيادا ونافعا وأبا بكرة * عندي من أعجب العجب
هم رجال ثلاثة خلقوا * في رحم أنثى وكلهم لأب
ذا قرشي كما تقول وذا * مولى وهذا بزعمه عربي (1).
كان عبيد الله بن زياد يقول: بما شجيت بشئ أشد على من قول ابن مفرغ:
فكر ففي ذاك إن فكرت معتبر * هل نلت مكرمة إلا بتأمير!
عاشت سمية ما عاشت وما علمت * أن ابنها من قريش في الجماهير.
ويقال: إن الأبيات النونية المنسوبة إلى عبد الرحمن بن أم الحكم ليزيد بن مفرغ
وأن أولها:
ألا أبلغ معاوية بن حرب * مغلغلة من الرجل اليماني.
ونحو قوله، وقد باع برد غلامه لما حبسه عباد بن زياد بسجستان:
يا برد ما مسنا دهر أضر بنا * من قبل هذا ولا بعنا له ولدا
لامتني النفس في برد فقلت لها * لا تهلكي إثر برد هكذا كمدا
لولا الدعي ولولا ما تعرض بي * من الحوادث ما فارقته أبدا.
ونحو قوله:
أبلغ لديك بنى قحطان مألكة * عضت بأير أبيها سادة اليمن
أضحى دعي زياد فقع قرقرة * يا للعجائب يلهو بابن ذي يزن!

(1) كذا في ا والاستيعاب، وفى ب: (وهذا أبن عمه).
192

وروى ابن الكلبي أن عبادا استلحقه زياد كما استلحق معاوية زيادا، كلاهما لدعوة.
قال: لما أذن لزياد في الحج تجهز، فبينا هو يتجهز وأصحاب القرب يعرضون عليه قربهم،
إذ تقدم عباد - وكان خرازا - فصار يعرض عليه ويحاوره ويجيبه، فقال زياد: ويحك،
من أنت؟ قال: أنا ابنك، قال: ويحك، وأي بنى؟ قال: قد وقعت على أمي فلانة،
وكانت من بنى كذا، فولدتني، وكنت في بنى قيس بن ثعلبة وأنا مملوك لهم، فقال:
صدقت والله، إني لأعرف ما تقول. فبعث فأشتراه، وادعاه وألحقه، وكان يتعهد بنى قيس
بن ثعلبه بسببه ويصلهم وعظم أمر عباد حتى ولاه معاوية سجستان بعد موت زياد،
وولى أخاه عبيد الله البصرة، فتزوج عباد الستيرة (1) ابنه أنيف بن زياد الكلبي، فقال
الشاعر يخاطب أنيفا - وكان سيد كلب في زمانه:
أبلغ لديك أباتر كان مألكة (2) * أنائما كنت أم بالسمع من صمم!
أنكحت عبد بنى قيس مهذبة * آباؤها من عليم معدن الكرم
أكنت تجهل عبادا ومحتده * لا در درك أم أنكحت من عدم
أبعد آل أبي سفيان تجعله * صهرا وبعد بنى مروان والحكم!
أعظم عليك بذا عارا ومنقصة * ما دمت حيا وبعد الموت في الرحم.
* * *
وقال الحسن البصري: ثلاث كن في معاوية لو لم تكن فيه إلا واحدة منهن
لكانت موبقة: انتزاؤه على هذه الأمة بالسفهاء حتى ابتزها أمرها، واستلحاقه زيادا
مراغمة لقول رسول الله: (الولد للفراش، وللعاهر الحجر)، وقتله حجر بن عدي، فيا ويله
من حجر وأصحاب حجر!

(1) كذا في ب: (الشترة).
(2) ب: (بركان).
193

وروى الشرقي بن القطامي، قال: كان سعيد بن سرح مولى حبيب بن عبد شمس شيعة
لعلي بن أبي طالب عليه السلام: فلما قدم زياد الكوفة طلبه وأخافه، فأتى الحسن بن علي
ع مستجيرا به، فوثب زياد على أخيه وولده وامرأته فحبسهم وأخذ ماله،
ونقض داره. فكتب الحسن بن علي عليه السلام إلى زياد: أما بعد فإنك عمدت إلى رجل من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، فهدمت داره، وأخذت ماله، وحبست أهله وعياله، فإن أتاك كتابي هذا فابن له داره، وأردد
عليه عياله وماله، وشفعني فيه، فقد أجرته. والسلام.
فكتب إليه زياد:
من زياد بن أبي سفيان إلى الحسن بن فاطمة: أما بعد: فقد أتاني كتابك تبدأ
فيه بنفسك قبلي، وأنت طالب حاجة وأنا سلطان وأنت سوقه، وتأمرني فيه بأمر المطاع
المسلط على رعيته. كتبت إلى في فاسق آويته. إقامة منك على سوء الرأي ورضا منك
بذلك، وأيم الله لا تسبقني به ولو كان بين جلدك، ولحمك وإن نلت بعضك غير رفيق بك
ولا مرع عليك فإن، أحب لحم على أن آكله للحم الذي أنت منه، فسلمه بجريرته إلى
من هو أولى به منك، فإن عفوت عنه لم أكن شفعتك فيه، وإن قتلته لم أقتله إلا لحبه
أباك الفاسق. والسلام.
فلما ورد الكتاب على الحسن عليه السلام قراه وتبسم، وكتب بذلك إلى معاوية،
وجعل كتاب زياد عطفه، وبعث به إلى الشام، وكتب جواب كتابه كلمتين لا ثالثه لهما:
من الحسن بن فاطمة إلى زياد بن سمية، أما بعد، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله
قال:. (الولد للفراش، وللعاهر الحجر)، والسلام.
فلما قرأ معاوية كتاب زياد إلى الحسن ضاقت به الشام، وكتب إلى زياد:
أما بعد، فإن الحسن بن علي بعث إلى بكتابك إليه جوابا عن كتاب كتبه
194

إليك في أبن سرح، فأكثرت العجب منك، وعلمت أن لك رأيين أحدهما من أبي سفيان، والآخر من سمية، فأما الذي من أبي سفيان فحلم وحزم وأما الذي من سمية، فما يكون
من رأى مثلها! من ذلك كتابك إلى الحسن تشتم أباه، وتعرض له بالفسق، ولعمري إنك
الأولى بالفسق من أبيه. فأما أن الحسن بدأ بنفسه ارتفاعا عليك، فإن ذلك لا يضعك لو
عقلت، وأما تسلطه عليك بالامر فحق لمثل الحسن أن يتسلط، وأما تركك تشفيعه فيما
شفع فيه إليك، فحظ دفعته عن نفسك إلى من هو أولى به منك. فإذا ورد عليك كتابي فخل
ما في يديك لسعيد بن أبي سرح وابن له داره، واردد عليه ماله، ولا تعرض له،
فقد كتبت إلى الحسن أن يخيره، إن شاء أقام عنده، وأن شاء رجع
إلى بلده، ولا سلطان لك عليه لأبيد ولا لسان. وأما كتابك إلى الحسن
باسمه واسم أمه، ولا تنسبه إلى أبيه، فإن الحسن ويحك! من يرمى به
الرجوان (1) وإلى أي أم وكلته لا أم لك! أما علمت أنها فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذاك أفخر له لو كنت تعلمه (2) وتعقله! وكتب في أسفل الكتاب
شعرا من جملته:
أما حسن فابن الذي كان قبله * إذا سار سار الموت حيث يسير
وهل يلد الرئبال إلا نظيره * وذا حسن شبه له ونظير
ولكنه لو يوزن الحلم والحجا * بأمر لقالوا يذبل وثبير.

(1) الرجا: ناحية كل شئ، وخص بعضهم به ناحية البئر من أعلاها إلى أسفلها وحافتيها، ويقال:
رمى به الجوان: استهين به، فكأنه رمى به هناك، أراد أنه طرح في
المهالك، قال:
لقد هزئت منى بنجران أن رأت * مقامي في الكبلين أم أبان
كأن لم ترى قبلي أميرا مكبلا * ولا رجلا يرمى به الرجوان
أي لا يستطيع أن يستمسك.
(2) ساقطه من ب.
195

وروى الزبير بن بكار في، الموفقيات، أن عبد الملك أجرى خيلا، فسبقه عباد بن
زياد، فأنشد عبد الملك:
سبق عباد وصلت لحيته * وكان خرازا تجود قربته.
فشكى عباد قول عبد الملك إلى خالد بن يزيد بن معاوية، فقال له: أما والله لأنصفنك
منه بحيث يكره. فزوجه أخته، فكتب الحجاج إلى عبد الملك، يا أمير المؤمنين، إن
مناكح آل أبي سفيان قد ضاعت. فأخبر عبد الملك خالدا بما كتب به الحجاج، فقال خالد:
يا أمير المؤمنين، ما أعلم امرأة منا ضاعت ونزلت إلا عاتكة بنت يزيد بن معاوية، فإنها
عندك، ولم يعن الحجاج غيرك. قال عبد الملك: بل عنى الدعي ابن الدعي عبادا، قال
خالد: يا أمير المؤمنين، ما أنصفتني، أدعى رجلا ثم لا أزوجه! إنما كنت ملوما لو زوجت
دعيك، فأما دعيي فلم لا أزوجه!
* * *
فأما أول ما ارتفع به زياد فهو استخلاف ابن عباس له على البصرة في خلافه على
ع، وبلغت عليا عنه هنات، فكتب إليه يلومه ويؤنبه، فمنها الكتاب الذي
ذكر الرضى رحمه الله بعضه، وقد شرحنا فيما تقدم ما ذكر الرضى منه، وكان علي عليه السلام أخرج إليه
سعدا مولاه يحثه على حمل مال البصرة إلى الكوفة، وكان بين سعد
وزياد ملاحاة ومنازعة، وعاد سعد وشكاه إلى علي ع وعابه فكتب علي عليه السلام إليه: أما بعد فإن سعدا ذكر أنك شتمته ظلما، وهددته وجبهته تجبر تكبرا، فما دعاك
إلى التكبر وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (الكبر رداء الله، فمن نازع الله رداءه
قصمه)، وقد أخبرني أنك تكثر من الألوان المختلفة في الطعام في اليوم الواحد،
196

وتدهن كل يوم، فما عليك لو صمت أياما، وتصدقت ببعض ما عندك محتسبا، وأكلت
طعامك مرارا قفارا، فإن ذلك شعار الصالحين! أفتطمع وأنت متمرغ في النعيم،
تستأثر به على الجار والمسكين والضعيف والفقير والأرملة واليتيم، أن يحسب لك أجر
المتصدقين! وأخبرني أنك تتكلم بكلام الأبرار، وتعمل عمل الخاطئين، فإن كنت تفعل
ذلك فنفسك ظلمت، وعملك أحبطت، فتب إلى ربك يصلح لك عملك، واقتصد في أمرك
وقدم إلى ربك الفضل ليوم حاجتك، وأدهن غبا، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله
يقول: (ادهنوا غبا ولا تدهنوا رفها) (1).
فكتب إليه زياد: أما بعد يا أمير المؤمنين، فإن سعدا قدم على فأساء القول والعمل،
فانتهرته وزجرته، وكان أهلا لأكثر من ذلك. وأما ما ذكرت من الاسراف
واتخاذ الألوان من الطعام والنعم، فإن كان صادقا فأثابه الله ثواب الصالحين، وأن
كان كاذبا فوقاه الله أشد عقوبة الكاذبين. وأما قوله: (إني أصف العدل وأخالفه
إلى غيره)، فإني إذن من الأخسرين. فخذ يا أمير المؤمنين بمقال قلته في مقام قمته، الدعوى بلا بينه، كالسهم بلا نصل، فإن أتاك بشاهدي، عدل، وإلا تبين لك
كذبه وظلمه.
* * *
ومن كلام زياد: تأخير جزاء المحسن لؤم، وتعجيل عقوبة المسئ طيش.
وكتب إليه معاوية: أما بعد، فاعزل حريث بن جابر عن العمل، فإني لا أذكر
مقاماته بصفين إلا كانت حزازة في صدري، فكتب إليه زياد أما بعد، فخفض عليك يا أمير المؤمنين، فإن حريثا قد سبق شرفا لا يرفعه معه عمل،
ولا يضعه معه عزل.

(1) الرفه والإرفاه: كثرة التدهن والتنعم.
197

وقال لابنه عبيد الله: عليك بالحجاب، وإنما اجترأت الرعاة على السباع بكثرة
نظرها إليها.
ومن كلامه: أحسنوا إلى أهل الخراج، فإنكم لا تزالون سمانا ما سمنوا.
قدم رجل خصما له إلى زياد في حق له عليه وقال: أيها الأمير، إن هذا يدل
بخاصة ذكر أنها له منك. قال زياد: صدق، وسأخبرك بما ينفعه عندي من خاصته
ومودته، إن يكن له الحق عليك آخذك به أخذا عنيفا، وأن يكن الحق لك قضيت عليه،
ثم قضيت عنه.
وقال ليس العاقل من يحتال للامر إذا وقع فيه، لكن العاقل من يحتال للامر
الا يقع فيه.
وقال في خطبة له: ألا رب مسرور بقدومنا لا نسره، وخائف ضرنا لا نضره!
كان مكتوبا في الحيطان الأربعة في قصر زياد كتابه بالجص، أربعة أسطر، أولها:
الشدة في غير عنف، واللين في غير ضعف. والثاني: المحسن مجازى بإحسانه، والمسئ
يكافأ بإساءته. والثالث: العطيات والأرزاق في إبانها وأوقاتها. والرابع: لا احتجاب
عن صاحب ثغر، ولا عن طارق ليل.
وقال يوما على المنبر: إن الرجل ليتكلم بالكلمة يشفى بها غيظه لا يقطع بها ذنب
عنز فتضره، لو بلغتنا عنه لسفكنا دمه
وقال: ما قرأت كتاب رجل قط إلا عرفت عقله منه.
وقال في خطبة: استوصوا بثلاثة منكم خيرا: الشريف، والعالم، والشيخ، فوالله
لا يأتيني وضيع بشريف يستخف به إلا انتقمت منه، أو شاب بشيخ يستخف به
الا أوجعته ضربا، ولا جاهل بعالم يستخف به إلا نكلت به.
198

وقيل لزياد: ما الحظ؟ قال: أن يطول عمرك، وترى في عدوك ما يسرك.
قيل: كان زياد يقول: هما طريقان للعامة الطاعة والسيف.
وكان المغيرة يقول: لا والله حتى يحملوا على سبعين طريقا غير السيف.
وقال الحسن البصري لرجل: ألا تحدثني بخطبتي زياد والحجاج حين دخلا العراق!
قال: بلى، أما زياد فلما قدم البصرة حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن معاوية غير
مخوف على قومه، ولم يكن ليلحق بنسبه من ليس منه، وقد شهدت الشهود بما قد بلغكم،
والحق أحق أن يتبع، والله حيث وضع البينات كان أعلم، قد رحلت عنكم وأنا
أعرف صديقي من عدوى، ثم قدمت عليكم وقد صار العدو صديقا مناصحا، والصديق
عدوا مكاشحا، فليشتمل كل امرئ على ما في صدره، ولا يكونن لسانه شفره تجرى
على أوداجه، وليعلم أحدكم إذا خلا بنفسه أنى قد حملت سيفي بيدي، فإن شهره
لم أغمده، وأن أغمده لم أشهره. ثم نزل. وأما الحجاج فإنه قال: من أعياه داؤه،
فعلى دواؤه، ومن استبطأ أجله، فعلى أن أعجله، ألا إن الحزم والعزم استلبا منى
سوطي، وجعلا سوطي سيفي، فنجاده في عنقي، وقائمه بيدي، وذبابه قلادة
لمن اغتر بي.
فقال الحسن: البؤس لهما، ما أغرهما بربهما! اللهم اجعلنا ممن يعتبر بهما.
وقال بعضهم: ما رأيت زيادا كاسرا إحدى عينيه، واضعا إحدى رجليه على الأخرى
يخاطب رجلا إلا رحمت المخاطب.
ومن كلامه: نعم الشئ الامارة، لولا قعقعة لجام البريد، وتسنم ذروة المنبر.
قال لحاجبه: يا عجلان، إني قد وليتك هذا الباب وعزلتك عن أربعة: المنادى إذا
جاء يؤذن بالصلاة، فإنها كانت كتابا موقوتا، ورسول صاحب الثغر، فإنه إن أبطا
199

ساعة فسد تدبير سنه، وطارق الليل فشر ما جاء به، والطباخ إذا فرغ من الطعام، فإنه
متى أعيد عليه التسخين فسد.
وكان حارثة بن بدر الغداني قد غلب على زياد، وكان حارثة مشتهرا بالشراب،
فقيل لزياد في ذلك، فقال: كيف باطراح رجل هو يسايرني منذ قدمت العراق فلا يصل
ركابه ركابي، ولا تقدمني قط فنظرت إلى قفاه، ولا تأخر عنى فلويت عنقي إليه،
ولا أخذ على الشمس في شتاء قط، ولا الروح في صيف قط، ولا سألته عن علم. إلا ظننته
لا يحسن غيره.
ومن كلامه: كفى بالبخل عارا أن أسمه لم يقع في حمد قط، وكفى بالجود فخرا أن أسمه
لم يقع في ذم قط.
وقال: ملاك السلطان الشدة على المريب، واللين للمحسن، وصدق الحديث
والوفاء بالعهد.
وقال: ما أتيت مجلسا قط إلا تركت منه ما لو أخذته لكان لي، وترك ما لي أحب إلى
من أخذ ما ليس لي.
وقال: ما قرأت مثل كتب الربيع بن زياد الحارثي، ما كتب إلى كتابا قط إلا في اجترار
منفعة، أو دفع مضرة، لا شاورته يوما قط في أمر مبهم إلا وسبق إلى الرأي.
وقال: يعجبني من الرجل إذا أتى مجلسا أن يعلم أين مكانه منه، فلا يتعداه إلى غيره،
وإذا سيم خطة خسف أن يقول (لا) بملء فيه.
* * *
فأما خطبة زياد المعروفة بالبتراء - وإنما سميت بذلك لأنه لم يحمد الله، فيها ولا صلى على
رسوله - فقد ذكرها علي بن محمد المدائني قال: قدم زياد البصرة أميرا عليها أيام معاوية
والفسق فيها فاش جدا، وأموال الناس منتهبة، والسياسة ضعيفة فصعد المنبر فقال:
200

أما بعد، فإن الجاهلية الجهلاء (1)، والضلالة العمياء، والغي الموفد لأهله على النار، ما فيه
سفهاؤكم، ويشتمل عليه حلماؤكم، من الأمور العظام، ينبت فيها الصغير، ولا يتحاشى منها
الكبير، كأنكم لم تقرأوا كتاب الله، ولم تستمعوا ما أعد من الثواب الكثير لأهل
طاعته، والعذاب الأليم لأهل معصيته، في الزمن السرمد الذي لا يزول.
أتكونون كمن طرفت عينه (2) الدنيا، وسدت مسامعه الشهوات، وأختار الفانية على
الباقية! لا تذكرون (3) أنكم أحدثتم في الاسلام الحدث الذي لم تسبقوا به، من
ترككم الضعيف يقهر ويؤخذ ماله (4)، والضعيفة المسلوبة في النهار المبصر، هذا والعدد
غير قليل!
ألم يكن منكم نهاة تمنع الغواة عن دلج الليل (5) وغارة النهار! قربتم القرابة،
وباعدتم الذين يعتذرون بغير العذر، ويعطون (6) على المختلس، كل امرئ منكم
يذب عن سيفه، صنيع (7) من لا يخاف عاقبه، ولا يرجو معادا. ما أنتم بالحلماء، وقد
اتبعتم السفهاء، فلم يزل بهم ما ترون من قيامكم دونهم حتى انتهكوا حرمه (8) الاسلام،
ثم أطرقوا وراءكم كنوسا في مكانس الريب. حرم على الطعام والشراب حتى أسويها بالأرض هدما وإحراقا! إني رأيت آخر هذا الامر لا يصلح إلا بما صلح به أوله! لين
في غير ضعف، وشده في غير عنف. وأنا أقسم بالله لآخذن الولي بالولي، والظاعن
بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والصحيح منكم في نفسه بالسقيم، حتى يلقى الرجل أخاه

(1) الجاهلية الجهلاء، وصف على المبالغة، كما يقال: ليلة
ليلاء، ويوم أيوم، وهمج هاج.
(2) طرفت عينه الدنيا، أي صرفته عن الحق.
(3) ا: (أتذكرون).
(4) بعدها في البيان: (وهذه المواخير المنصوبة).
(5) الدلج: السير من أول الليل، وقد أدلجوا، فإن ساروا من
اخره فأدلجوا، بالتشديد.
(6) ا والبيان: (ويغضون على المختلس).
(7) ا والطبري: (صنع).
(8) البيان: (حرم الاسلام).
201

فيقول: انج سعد فقد هلك سعيد (1)، أو تستقيم لي قناتكم.
إن كذبة المنبر تلفى (2) مشهورة، فإذا تعلقتم على بكذبة فقد حلت لكم معصيتي!
من نقب عليه منكم فأتا ضامن لما ذهب منه. فإياكم ودلج الليل، فإني لا أوتى بمدلج
إلا سفكت دمه. وقد أجلتكم بقدر ما يأتي الخبر الكوفة، ويرجع إليكم.
إياكم ودعوى الجاهلية، فإني لا أجد أحدا دعا بها ألا قطعت لسانه، وقد أحدثتم
أحداثا، وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة، فمن غرق بيوت قوم غرقناه، ومن حرق
على قوم حرقناه، ومن نقب على أحد بيتا نقبنا على قلبه، ومن نبش قبرا دفناه
فيه حيا.
كفوا عنى أيديكم وألسنتكم، أكف عنكم يدي ولساني. ولا يظهرن من أحدكم
خلاف ما عليه عامتكم فأضرب عنقه. وقد كانت بيني وبين أقوام إحن فقد جعلت ذلك
وراء أذني، وتحت قدمي، فمن كان منكم محسنا فليزدد إحسانا، ومن كان مسيئا فلينزع
عن إساءته، إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السلال (3) من بغضي لم أكشف عنه قناعا، ولم أهتك له سترا حتى يبدي لي صفحته، فإذا فعل لم أناظره. فاستأنفوا أموركم
وأعينوا على أنفسكم، فرب مبتئس بقدومنا سيسر، ومسرور بقدومنا سيبأس.
أيها الناس، إنا أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذادة نسوسكم بسلطان الله الذي
أعطاناه، ونذود عنكم بفئ الله الذي خولناه، فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا،
ولكم علينا العدل والانصاف فيما ولينا فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم لنا، واعلموا
أنى مهما قصرت عنه فلن أقصر عن ثلاث: لست محتجبا عن طالب حاجه منكم،

(1) سعد وسعيد، هما ابنا ضبة بن أد، خرجا في طلب
إبل لأبيهما، فوجدها سعد فردها، وقتل سعيد، فكان ضبة إذا رأى سوادا
تحت الليل قال: سعد أم سعيد!
(2) ا: (تبقى)، وفي البيان: (بلقاء مشهورة).
(3) البيان: (السل).
202

ولا حابسا عطاء، ولا مجمرا (1) بعثا، فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم فإنهم ساستكم المؤدبون،
وكهفكم الذي إليه تأوون، ومتى يصلحوا تصلحوا، فلا تشربوا قلوبكم بغضهم، فيشتد لذلك
غيظكم، ويطول لذلك حزنكم، ولا تدركوا حاجتكم، مع أنه لو استجيب لأحد منكم
لكان شرا لكم. أسال الله أن يعين كلا على كل. وإذا رأيتموني أنفذ فيكم الامر
فأنفذوه على أذلاله (2). وأيم الله إن لي فيكم لصرعى كثيرة، فليحذر كل امرئ منكم
أن يكون من صرعاي.
فقام عبد الله بن الأهتم فقال: أشهد أيها الأمير، لقد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب.
فقال: كذبت، ذاك نبي الله داود.
فقام الأحنف فقال: إنما الثناء بعد البلاء، والحمد بعد العطاء، وأنا لا نثني حتى نبتلى،
ولا نحمد حتى نعطى.
فقال زياد: صدقت فقام أبو بلال مرداس بن أدية يهمس ويقول: أنبأنا الله بغير ما
قلت، (فقال): (وإبراهيم الذي وفى * ألا تزر وازرة وزر أخرى) (4)، فسمعها زياد
فقال: يا أبا بلال، إنا لا نبلغ ما نريد بأصحابك حتى نخوض إليهم الباطل خوضا (5).
* * *
وروى الشعبي: قال: قدم زياد الكوفة لما جمعت له مع البصرة، فدنوت من المنبر
لأسمع كلامه، فلم أر أحدا يتكلم فيحسن إلا تمنيت أن يسكت مخافة أن يسئ، إلا زيادا
فإنه كان لا يزداد إكثارا إلا ازداد إحسانا، فكنت تمنى إلا يسكت.

(1) تجمير الجند: أن يحسبهم في أرض العدو ويحسبهم عن العود إلى أهلهم.
(2) على أذلاله، على طرقه ووجوهه، واحده ذل، وهو ما ذلل ومهد من الطريق.
(3) من البيان.
(4) بعدها في البيان: (وأنت تزعم أنك تأخذ البرئ بالسقيم، والمطيع بالعاصي والمقبل بالمدبر).
(5) الخطبة رواها الجاحظ في البيان والتبيين 2: 61، وهي أيضا في عيون الأخبار 2: 241، ونوادر القالي 1: 185، والطبري (حوادث 45)
203

وروى الشعبي أيضا، قال: لما خطب زياد خطبته البتراء بالبصرة ونزل سمع تلك الليلة
أصوات الناس يتحارسون، فقال: ما هذا؟ قالوا: إن البلد مفتونة، وإن المرأة من أهل
المصر لتأخذها الفتيان الفساق فيقال لها: نادى ثلاث أصوات، فأن أجابك أحد وإلا فلا
لوم علينا فيما نصنع. فغضب فقال: ففيم أنا، وفيم قدمت! فلما أصبح أمر فنودي في الناس،
فاجتمعوا فقال: أيها الناس، إني قد نبئت بما أنتم فيه وسمعت ذروا (1) منه، وقد أنذرتكم
وأجلتكم شهرا مسير الرجل إلى الشام، ومسيره إلى خراسان، ومسيره إلى الحجاز، فمن
وجدناه بعد شهر خارجا من منزله بعد العشاء الآخرة فدمه هدر. فانصرف الناس يقولون: هذا القول كقول من تقدمه من الامراء، فلما كمل الشهر دعا صاحب شرطته عبد الله
بن حصين اليربوعي - وكانت رجال الشرطة معه أربعة آلاف - فقال له: هئ خيلك ورجلك،
فإذا صليت العشاء الآخرة، وقرأ القارئ مقدار سبع من القرآن، ورفع الطن القصب
من القصر، فسر ولا تلقين أحدا، عبيد الله بن زياد فمن دونه، إلا جئتني برأسه، وإن راجعتني
في أحد ضربت عنقك.
قال: فصبح على باب القصر تلك الليلة سبعمائة رأس، ثم خرج الليلة الثانية فجاء بخمسين
رأسا، ثم خرج الليلة الثالثة فجاء برأس واحد، ثم لم يجئ بعدها بشئ، وكان الناس
إذا صلوا العشاء الآخرة أحضروا إلى منازلهم شدا حثيثا، وقد يترك بعضهم نعاله.
كتبت عائشة إلى زياد كتابا، فلم تدر ما تكتب عنوانه! إن كتبت زياد بن
عبيد أو ابن أبيه أغضبته، وأن كتبت زياد بن أبي سفيان أثمت فكتبت: من أم
المؤمنين إلى ابنها زياد. فلما قرأه ضحك. وقال: لقد لقيت أم المؤمنين من
هذا العنوان نصبا!

(1) ذروا: أي طرفا.
204

(45) الأصل: ومن كتاب له عليه السلام إلى عثمان بن حنيف الأنصاري - كان عامله على البصرة وقد بلغه أنه دعى إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها - قوله:
أما بعد يا بن حنيف، فقد بلغني أن رجلا من فتية أهل البصرة دعاك إلى
مأدبة فأسرعت إليها، تستطاب لك الألوان، وتنقل إليك الجفان. وما ظننت أنك
تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو، وغنيهم مدعو. فانظر إلى ما تقضمه من هذا
المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجهه فنل منه.
ألا وإن لكل مأموم إماما يقتدى به، ويستضئ بنور علمه، ألا وأن
إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمرية، ومن طعمه بقرصيه. ألا وإنكم لا تقدرون
على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفة وسداد، فوالله (1) ما كنزت
من دنياكم تبرا، ولا ادخرت من غنائمها وفرا، ولا أعددت لبالي ثوبي طمرا،
ولا حزت من أرضها شبرا، ولا أخذت منه إلا كقوت أتان دبرة، ولهي في عيني
أوهى من عفصة مقرة.
* * *
الشرح:
(عثمان بن حنيف ونسبه)
هو عثمان بن حنيف - بضم الحاء - بن واهب بن العكم بن ثعلبة بن الحارث الأنصاري

(1) ب: (اللهم).
205

ثم الأوسي أخو سهل بن حنيف، يكنى أبا عمرو - وقيل: أبا عبد الله - عمل لعمر ثم لعلى
ع، وولاه عمر مساحة الأرض وجبايتها بالعراق، وضرب الخراج والجزية على
أهلها وولاه علي عليه السلام على البصرة، فأخرجه طلحة والزبير منها حين قدماها،
وسكن عثمان الكوفة بعد وفاة علي عليه السلام، ومات بها في زمن معاوية.
* * *
قوله: (من فتية البصرة)، أي من فتيانها، أي من شبابها أو من أسخيائها،
يقال للسخي: هذا فتى، والجمع فتية وفتيان وفتو، ويروى: (أن رجلا من قطان
البصرة)، أي سكانها.
والمأدبة، بضم الدال: الطعام يدعى إليه القوم، وقد جاءت بفتح الدال أيضا، يقال، أدب فلان القوم يأدبهم بالكسر، أي دعاهم إلى طعامه، والأدب: الداعي إليه
قال طرفة:
نحن في المشتاة ندعو الجفلى * لا ترى الأدب فينا ينتقر (1).
ويقال أيضا: أدبهم إلى طعامه يؤدبهم إيدابا، ويروى: (وكثرت عليك الجفان
فكرعت وأكلت أكل ذئب نهم، أو ضبع قرم).
وروى: (وما حسبتك تأكل طعام قوم).
ثم ذم أهل البصرة فقال: (عائلهم مجفو، وغنيهم مدعو)، والعائل: الفقير،
وهذا كقول الشاعر:
فإن ملق فأنت لنا عدو * فإن تثر فأنت لنا صديق.

(1) ديوانه 79 المشتاة: زمن الشتاء. والجفلى: أن يعم المرء بدعوته إلى الطعام ولا يخص أحدا دون الاخر. والانتقار: أن يدعو النقري، وهي أن يخص بدعوته ولا يعمها.
206

ثم أمره بأن يترك ما فيه شبهة إلى ما لا شبهة فيه، وسمى ذلك قضما ومقضما وإن كان
مما لا يقضم لاحتقاره له، وازدرائه إياه، وأنه عنده ليس مما يستحق أن يسمى بأسماء
المرغوب فيه، المتنافس عليه، وذلك لان القضم يطلق على معنيين: أحدهما على أكل
الشئ اليابس، والثاني على ما يؤكل ببعض الفم، وكلاهما يدلان على أن ذلك المقضم
المرغوب عنه، لا فيه.
ثم ذكر ع حال نفسه فقال: (إن إمامكم قد قنع من الدنيا بطمريه)،
والطمر الثوب الخلق البالي، وإنما جعلهما اثنين لأنهما إزار ورداء لا بد منهما،
أي للجسد والرأس.
قال: (ومن طعمه بقرصيه))، أي قرصان يفطر عليهما لا ثالث لهما. وروى:
(قد اكتفى من الدنيا بطمريه، وسد فورة جوعه بقرصيه، لا يطعم الفلذة في حوليه
إلا في يوم أضحيه).
ثم قال: إنكم لن تقدروا على ما أقدر عليه، ولكني أسألكم أن تعينوني بالورع
والاجتهاد.
ثم أقسم أنه ما كنز ذهبا، ولا أدخر مالا، ولا أعد ثوبا باليا سملا لبالي ثوبيه،
فضلا عن أن يعد ثوبا قشيبا كما يفعله الناس في إعداد ثوب جديد ليلبسوه عوض الأسمال
التي ينزعونها، ولا حاز من أرضها شبرا، والضمير في (أرضها) يرجع إلى (دنياكم)،
ولا أخذ منها إلا كقوت أتان دبرة، وهي التي عقر ظهرها فقل أكلها.
ثم قال: (ولهي في عيني أهون من عفصة مقرة)، أي مرة، مقر الشئ بالكسر
أي صار مرا، وأمقره بالهمز أيضا قال لبيد:
ممقر مر على أعدائه * وعلى الأدنين حلو كالعسل (1)

(1) ديوانه 197.
207

الأصل: بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء، فشحت عليها نفوس قوم،
وسخت عنها نفوس آخرين، ونعم الحكم الله. وما أصنع بفدك وغير فدك،
والنفس مظانها في غد جدث تنقطع في ظلمته آثارها وتغيب أخبارها، وحفرة
لو زيد في فسحتها، وأوسعت يدا حافرها، لأضغطها الحجر والمدر، وسد فرجها
التراب المتراكم، وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر،
وتثبت على جوانب المزلق.
* * *
الشرح: الجدث: القبر، وأضغطها الحجر: جعلها ضاغطة والهمزة للتعدية، ويروى:
(وضغطها).
وقوله: (مظانها في غد جدث)، المظان: جمع مظنة، وهو موضع الشئ ومألفه
الذي يكون فيه، قال:
فإن يك عامر قد قال جهلا * فان مظنة الجهل الشباب (1)
يقول: لا مال لي، ولا اقتنيت فيما مضى مالا، وإنما كانت في أيدينا فدك فشحت
عليها نفوس قوم، أي بخلت وسخت عنها نفوس آخرين، أي سامحت وأغضت.
وليس يعنى هاهنا بالسخاء إلا هذا، لا السخاء الحقيقي، لأنه عليه السلام وأهله
لم يسمحوا بفدك إلا غصبا وقسرا، وقد قال هذه الألفاظ في موضع آخر فيما تقدم، وهو يعنى الخلافة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله.

(1) للنابغة الذبياني، ديوانه 14.
208

ثم قال: (ونعم الحكم الله)، الحكم: الحاكم، وهذا الكلام كلام شاك متظلم
ثم ذكر مال الانسان وأنه لا ينبغي أن يكترث بالقينات والأموال، فإنه يصير عن قريب
إلى دار البلى ومنازل الموتى.
ثم ذكر أن الحفرة ضيقة وأنه لو وسعها الحافر لألجأها الحجر المتداعي والمدر
المتهافت، إلى أن تضغط الميت وتزحمه. وهذا كلام محمول على ظاهره لأنه خطاب للعامة،
وإلا فأي فرق بين سعة الحفرة وضيقها على الميت! اللهم إلا أن يقول قائل: إن الميت يحس في قبره، فإذا قيل ذلك فالجاعل له حساسا بعد عدم الحس هو الذي يوسع الحفرة، وإن كان الحافر قد جعلها ضيقة، فإذن هذا الكلام جيد لخطاب العرب خاصة،
ومن يحمل الأمور على ظواهرها.
ثم قال: (وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى)، يقول: تقللي واقتصاري من المطعم
والملبس على الجشب والخشن رياضه لنفسي، لان ذلك إنما أعمله خوفا من الله أن أنغمس
في الدنيا، فالرياضة بذلك هي رياضة في الحقيقة بالتقوى، لا بنفس التقلل والتقشف،
لتأتي نفسي آمنة يوم الفزع الأكبر، وتثبت في مداحض الزلق.
* * *
(ذكر ما ورد من السير والاخبار في أمر فدك) واعلم أنا نتكلم في شرح هذه الكلمات بثلاثة فصول: الفصل الأول فيما ورد في الحديث والسير من أمر فدك، والفصل الثاني في هل النبي
صلى الله عليه وآله يورث أم لا؟، والفصل الثالث في أن فدك، هل صح كونها نحلة
من رسول الله صلى الله عليه وآله لفاطمة أم لا؟
209

الفصل الأول: فيما ورد من الاخبار والسير المنقولة من أفواه أهل الحديث وكتبهم، لا من كتب الشيعة ورجالهم، لأنا مشترطون على أنفسنا ألا نحفل بذلك، وجميع ما نورده
في هذا الفصل من كتاب أبى بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في السقيفة وفدك
وما وقع من الاختلاف والاضطراب عقب وفاة النبي صلى الله عليه وآله، وأبو بكر
الجوهري هذا عالم محدث كثير الأدب، ثقة ورع، أثنى عليه المحدثون ورووا عنه
مصنفاته.
قال أبو بكر: حدثني أبو زيد عمر بن شبة قال: حدثنا حيان بن بشر، قال: حدثنا
يحيى بن آدم، قال: أخبرنا ابن أبي زائدة، عن محمد بن إسحاق عن الزهري قال: بقيت بقية من أهل خيبر تحصنوا. فسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله أن يحقن دماءهم
ويسيرهم، ففعل، فسمع ذلك أهل فدك (1) فنزلوا (2) على مثل ذلك، وكانت للنبي صلى الله عليه وآله
خاصة، لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب.
قال أبو بكر: وروى محمد بن إسحاق أيضا، أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما فرغ
من خيبر قذف الله الرعب في قلوب أهل فدك، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله
فصالحوه على النصف من فدك، فقدمت عليه رسلهم بخيبر أو بالطريق، أو بعد ما أقام
بالمدينة، فقبل ذلك منهم، وكانت فدك لرسول الله صلى الله عليه وآله خالصة له لأنه
لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب.
قال: وقد روى أنه صالحهم عليها كلها، الله إعلم أي الامرين كان.
قال: وكان مالك بن أنس يحدث عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم أنه صالحهم
على النصف فلم يزل الامر كذلك حتى أخرجهم عمر بن الخطاب وأجلاهم بعد أن عوضهم
عن النصف الذي كان لهم عوضا من إبل وغيرها.

(1) فدك: قرية بالحجاز، بينها وبين المدينة يومان.
(2) في ا (وكانوا).
210

وقال غير مالك بن أنس: لما أجلاهم عمر بعث إليهم من يقوم الأموال، بعث
أبا الهيثم بن التيهان، وفروة بن عمرو، وحباب بن صخر وزيد بن ثابت فقوموا
أرض فدك ونخلها، فأخذها عمر، ودفع إليهم قيمة النصف الذي لهم وكان مبلغ ذلك
خمسين ألف درهم، أعطاهم إياها من مال أتاه من العراق، وأجلاهم إلى الشام.
قال أبو بكر: فحدثني محمد بن زكريا قال: حدثني جعفر بن محمد بن عمارة الكندي
قال: حدثني أبي، عن الحسين بن صالح بن حي، قال، حدثني رجلان من بني هاشم،
عن زينب بنت علي بن أبي طالب عليه السلام. قال: وقال جعفر بن محمد بن علي بن
الحسين عن أبيه. قال أبو بكر: وحدثني عثمان بن عمران العجيفي، عن نائل بن نجيح بن
عمير بن شمر، عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام. قال أبو بكر:
وحدثني أحمد بن محمد بن يزيد، عن عبد الله بن محمد بن سليمان، عن أبيه، عن عبد الله
ابن حسن بن الحسن. قالوا جميعا: لما بلغ فاطمة عليه السلام إجماع أبى بكر على منعها
فدك، لاثت خمارها، وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها، تطأ في ذيولها، ما تخرم
مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وآله، حتى دخلت على أبى بكر وقد حشد الناس من
المهاجرين والأنصار، فضرب بينها وبينهم ريطة بيضاء - وقال بعضهم: قبطية،
وقالوا: قبطية بالكسر والضم - ثم أنت أنه أجهش لها القوم بالبكاء، ثم أمهلت طويلا
حتى سكنوا من فورتهم، ثم قالت: أبتدئ بحمد من هو أولى بالحمد والطول والمجد،
الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم. ذكر خطبة طويلة جيدة قالت في آخرها:
(فاتقوا الله حق تقاته، وأطيعوه فيما أمركم به، فإنما يخشى الله من عباده العلماء،
واحمدوا الله الذي لعظمته ونوره يبتغى من في السماوات والأرض إليه الوسيلة، ونحن
وسيلته في خلقه، ونحن خاصته، ومحل قدسه، ونحن حجته في غيبه، ونحن ورثة
211

أنبيائه، ثم قالت: أنا فاطمة ابنة محمد، أقول عودا على بدء، وما أقول ذلك سرفا
ولا شططا، فاسمعوا بأسماع واعية، وقلوب راعية، ثم قالت: (لقد جاءكم رسول
من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) (1)
فإن تعزوه تجدوه أبى دون آبائكم، وأخا أبن عمى دون رجالكم، ثم ذكرت كلاما طويلا
سنذكره فيما بعد في الفصل الثاني تقول، في آخره: ثم أنتم الان تزعمون أن
لا إرث لي، (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) (2)
إيها معاشر المسلمين، ابتز إرث أبى! أبى الله أن ترث يا بن أبي قحافة أباك ولا أرث
أبى، لقد جئت شيئا فريا! فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك، فنعم
الحكم الله، والزعيم محمد، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون، ولكل نبأ
مستقر وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم! ثم التفتت إلى
قبر أبيها فتمثلت بقول هند بنت أثاثة:
قد كان بعدك أنباء وهينمة * لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب (3)
أبدت رجال لنا نجوى صدورهم * لما قضيت وحالت دونك الكتب
تجهمتنا رجال واستخف بنا * إذا غبت عنا فنحن اليوم نغتصب
قال: ولم ير الناس أكثر باك ولا باكية منهم يومئذ. ثم عدلت إلى مسجد الأنصار
فقالت: يا معشر البقية، وأعضاد الملة، وحضنة الاسلام، ما هذه الفترة عن نصرتي،
والونية عن معونتي، والغمزة في حقي، والسنة عن ظلامتي! أما كان رسول الله صلى الله عليه وآله
يقول: (المرء يحفظ في ولده)! سرعان ما أحدثتم، وعجلان ما أتيتم. ألان مات
رسول الله صلى الله عليه وآله أمتم دينه! ها إن موته لعمري خطب جليل استوسع وهنه،

(1) سورة التوبة 128، 129.
(2) سورة المائدة 50.
(3) الهينمة: الصوت الخفي، وانظر اللسان.
212

واستبهم فتقه، وفقد راتقه، وأظلمت الأرض له، وخشعت الجبال، وأكدت الآمال
أضيع بعده الحريم، وهتكت الحرمة، وأذيلت المصونة، وتلك نازلة أعلن بها كتاب
الله قبل موته، وأنبأكم بها قبل وفاته، فقال: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله
الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر
الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين) (1) إيها بنى قيلة! اهتضم تراث أبى، وأنتم بمرأى
ومسمع، تبلغكم الدعوة، ويشملكم الصوت، وفيكم العدة والعدد، ولكم الدار والجنن
وأنتم نخبة الله التي انتخب، وخيرته التي اختار! باديتم العرب، وبادهتم الأمور، وكافحتم
البهم حتى دارت بكم رحى الاسلام، ودر حلبه، وخبت نيران الحرب، وسكنت فورة
الشرك، وهدأت دعوة الهرج، واستوثق نظام الدين، أفتأخرتم بعد الاقدام، ونكصتم
بعد الشدة وجبنتم بعد الشجاعة، عن قوم نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في
دينكم! فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون. ألا وقد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض، وركنتم إلى الدعة، فجحدتم الذي وعيتم، وسغتم الذي سوغتم، وإن
تكفروا وأنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغنى حميد، الا وقد قلت لكم ما قلت على
معرفة منى بالخذلة التي خامرتكم، وخور القناة، وضعف اليقين، فدونكموها فاحتووها
مدبرة الظهر، ناقبة الخف، باقية العار، موسومة الشعار، موصولة بنار الله الموقدة، التي
تطلع على الأفئدة، فبعين الله ما تعملون (وسيعلم الذي ظلموا أي منقلب ينقلبون).
قال: وحدثني محمد بن زكريا قال: حدثنا محمد بن الضحاك قال: حدثنا هشام بن
محمد، عن عوانة بن الحكم قال: لما كلمت فاطمة عليه السلام أبا بكر بما كلمته به حمد
أبو بكر الله وأثنى عليه وصلى على رسوله ثم قال: يا خيرة النساء، وابنة خير الاباء، والله
ما عدوت رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وما عملت إلا بأمره، وإن الرائد

(1) سورة أل عمران 144.
213

لا يكذب أهله، وقد قلت فأبلغت، وأغلظت فأهجرت، فغفر الله لنا ولك. أما بعد،
فقد دفعت آله رسول الله ودابته وحذاءه إلى علي عليه السلام وأما ما سوى ذلك فإني
سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: (إنا معاشر الأنبياء لا نورث ذهبا ولا فضة
ولا أرضا ولا عقارا ولا دارا، ولكنا نورث الايمان والحكمة والعلم والسنة)، فقد عملت
بما أمرني ونصحت له، وما توفيقي الا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
قال أبو بكر: وروى هشام بن محمد، عن أبيه قال: قالت فاطمة لأبي بكر: إن أم
أيمن تشهد لي أن رسول الله صلى الله عليه وآله أعطاني فدك، فقال لها: يا ابنه رسول الله
والله، ما خلق الله خلقا أحب إلى من رسول الله صلى الله عليه وآله أبيك، ولوددت
أن السماء وقعت على الأرض يوم مات أبوك، والله لان تفتقر عائشة أحب إلى من أن
تفتقري، أتراني أعطى الأحمر والأبيض حقه وأظلمك حقك، وأنت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم!
إن هذا المال لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم وإنما كان مالا من
أموال المسلمين يحمل النبي به الرجال، وينفقه في سبيل الله، فلما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وليته كما كان يليه. قالت: والله لا كلمتك أبدا! قال: والله لا هجرتك أبدا، قالت: والله لأدعون الله عليك، قال: والله لأدعون الله لك، فلما حضرتها الوفاة أوصت
ألا يصلى عليها، فدفنت ليلا، وصلى عليها عباس بن عبد المطلب، وكان بين وفاتها ووفاة
أبيها اثنتان وسبعون ليلة.
قال أبو بكر: وحدثني محمد بن زكريا، قال: حدثنا جعفر بن محمد بن عمارة بالاسناد
الأول قال: فلما سمع أبو بكر خطبتها شق عليه مقالتها فصعد المنبر وقال: أيها الناس،
ما هذه الرعة إلى كل قالة! أين كانت هذه الأماني في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
214

ألا من سمع فليقل، ومن شهد فليتكلم، إنما هو ثعالة شهيده ذنبه، مرب لكل فتنة، هو
الذي يقول: كروها جذعة بعد ما هرمت، يستعينون بالضعفة ويستنصرون بالنساء، كأم
طحال أحب أهلها إليها البغي. ألا أنى لو أشاء أن أقول لقلت ولو قلت لبحت، إني ساكت
ما تركت. ثم التفت إلى الأنصار فقال: قد بلغني يا معشر الأنصار مقالة سفهائكم، وأحق من
لزم عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنتم فقد جاءكم فآويتم ونصرتم ألا إني لست
باسطا يدا ولا لسانا على من لم يستحق ذلك منا.
ثم نزل، فانصرفت فاطمة عليه السلام إلى منزلها.
* * *
قلت: قرأت هذا الكلام على النقيب أبى يحيى جعفر بن يحيى بن أبي زيد البصري وقلت
له: من يعرض؟ فقال: بل يصرح. قلت: لو صرح لم أسألك. فضحك وقال: بعلي بن أبي
طالب عليه السلام، قلت: هذا الكلام كله لعلى يقوله! قال، نعم، إنه الملك يا بنى،
قلت: فما مقالة الأنصار؟ قال: هتفوا بذكر على فخاف من اضطراب الامر عليهم، فنهاهم.
فسألته عن غريبه، فقال: أما الرعة بالتخفيف، أي الاستماع والإصغاء، والقالة: القول، وثعالة: اسم الثعلب علم غير مصروف، ومثل ذؤاله للذئب، وشهيده ذنبه، أي لا شاهد
له على ما يدعى إلا بعضه وجزء منه، وأصله مثل، قالوا: إن الثعلب أراد أن يغري الأسد
بالذئب، فقال: إنه قد أكل الشاة التي كنت قد أعددتها لنفسك، وكنت حاضرا، قال: فمن
يشهد لك بذلك؟ فرفع ذنبه وعليه دم، وكان الأسد قد افتقد الشاة. فقبل شهادته وقتل
الذئب، ومرب: ملازم، أرب بالمكان. وكروها جذعة: أعيدوها إلى الحال الأولى،
يعنى الفتنة والهرج. وأم طحال: امرأة بغى في الجاهلية، ويضرب بها المثل فيقال:
أزنى من أم طحال.
215

قال أبو بكر: وحدثني محمد بن زكريا قال، حدثني أبن عائشة، قال: حدثني أبي،
عن عمه قال: لما كلمت فاطمة أبا بكر بكى، ثم قال: يا بنة رسول الله، والله ما ورث أبوك
دينارا ولا درهما، وإنه قال: إن الأنبياء لا يورثون، فقالت: إن فدك وهبها لي رسول الله
صلى الله عليه وآله، قال فمن يشهد بذلك؟ فجاء علي بن أبي طالب عليه السلام
فشهد، وجاءت أم أيمن فشهدت أيضا، فجاء عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن
عوف فشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقسمها، قال أبو بكر: صدقت يا ابنة
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدق على، وصدقت أم أيمن وصدق عمر، وصدق
عبد الرحمن بن عوف، وذلك أن مالك لأبيك، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ
من فدك قوتكم، ويقسم الباقي، ويحمل منه في سبيل الله، فما تصنعين بها؟ قالت: أصنع
بها كما يصنع بها أبى، قال: فلك على الله أن أصنع فيها كما يصنع فيها أبوك، قالت:
الله لتفعلن! قال: الله لأفعلن، قالت: اللهم اشهد، وكان أبو بكر يأخذ غلتها فيدفع
إليهم منها ما يكفيهم، ويقسم الباقي، وكان عمر كذلك، ثم كان عثمان كذلك: ثم كان
على كذلك، فلما ولى الامر معاوية بن أبي سفيان أقطع مروان بن الحكم ثلثها،
وأقطع عمرو بن عثمان بن عفان ثلثها، وأقطع يزيد بن معاوية ثلثها، وذلك بعد موت
الحسن بن علي عليه السلام، فلم يزالوا يتداولونها حتى خلصت كلها لمروان بن الحكم
أيام خلافته، فوهبها لعبد العزيز ابنه، فوهبها عبد العزيز لابنه عمر بن عبد
العزيز، فلما ولى عمر بن العزيز الخلافة، كانت أول ظلامة ردها دعا حسن بن الحسن
بن علي بن أبي طالب عليه السلام - وقيل: بل دعا علي بن الحسين عليه السلام -
فردها عليه، وكانت بيد أولاد فاطمة عليه السلام مده ولاية عمر بن عبد العزيز فلما
ولى يزيد بن عاتكة قبضها منهم، فصارت في أيدي بنى مروان كما كانت
يتداولونها، حتى انتقلت الخلافة عنهم، فلما ولى أبو العباس السفاح ردها على عبد الله
216

ابن الحسن بن الحسن، ثم قبضها أبو جعفر لما حدث من بنى حسن ما حدث، ثم ردها
المهدى ابنه على ولد فاطمة عليه السلام، ثم قبضها موسى بن المهدى وهارون أخوه
فلم تزل أيديهم حتى ولى المأمون، فردها على الفاطميين.
قال أبو بكر: حدثني محمد بن زكريا قال: حدثني مهدي بن سابق، قال: جلس المأمون
للمظالم، فأول رقعة وقعت في يده نظر فيها وبكى، وقال للذي على رأسه: ناد أين وكيل
فاطمة؟ فقام شيخ عليه دراعة وعمامة وخف تعزى، فتقدم فجعل يناظره في فدك
والمأمون يحتج عليه وهو يحتج على المأمون، ثم أمر أن يسجل لهم بها، فكتب السجل
وقرئ عليه، فأنفذه، فقام دعبل إلى المأمون فأنشده الأبيات التي أولها:
أصبح وجه الزمان قد ضحكا * برد مأمون هاشم فدكا (1)
فلم تزل في أيديهم حتى كان في أيام المتوكل، فأقطعها عبد الله بن عمر البازيار،
وكان فيها إحدى عشرة نخلة غرسها رسول الله صلى الله عليه وآله بيده، فكان بنو فاطمة
يأخذون ثمرها، فإذا قدم الحجاج أهدوا لهم من ذلك التمر فيصلونهم، فيصير إليهم
من ذلك مال جزيل جليل، فصرم (2) عبد الله بن عمر البازيار ذلك التمر، ووجه رجلا يقال له
بشران بن أبي أمية الثقفي إلى المدينة فصرمه، ثم عاد إلى البصرة ففلج.
قال أبو بكر: أخبرنا أبو زيد عمر بن شبة، قال: حدثنا سويد بن سعيد والحسن بن عثمان
قالا: حدثنا الوليد بن محمد، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أن فاطمة عليه السلام
أرسلت إلى أبى بكر تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وآله وهي حينئذ تطلب
ما كان لرسول الله صلى الله عليه وآله بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر:

(1) 119، معجم البلدان (فدك) (2) صرم الخل: جذه وقطعه.
217

ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا نورث ما تركناه صدقة)، إنما يأكل
آل محمد من هذا المال، وأنى والله لا أغير شيئا من صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأعملن فيها بما عمل فيها
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئا، فوجدت
من ذلك على أبى بكر وهجرته فلم تكلمه حتى توفيت، وعاشت بعد أبيها ستة أشهر،
فلما توفيت دفنها علي عليه السلام ليلا، ولم يؤذن بها أبا بكر.
قال أبو بكر: وأخبرنا أبو زيد قال: حدثنا إسحاق بن إدريس، قال: حدثنا محمد
بن أحمد، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، أن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر
يلتمسان ميراثهما من رسول الله صلى الله عليه وآله وهما حينئذ يطلبان أرضه بفدك وسهمه
بخيبر، فقال لهما أبو بكر: أنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول لا نورث،
ما تركنا صدقة)، إنما يأكل آل محمد صلى الله عليه وسلم من هذا المال، وإني والله لا أغير أمرا
رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله يصنعه إلا صنعته. قال فهجرته فاطمة فلم تكلمه
حتى ماتت.
قال أبو بكر: وأخبرنا أبو زيد قال: حدثنا عمر بن عاصم. وموسى بن إسماعيل قال:
حدثنا حماد بن سلمة، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن أم هانئ، أن فاطمة قالت
لأبي بكر: من يرثك إذا مت؟ قال: ولدى وأهلي، قالت: فما لك ترث رسول الله صلى الله عليه وآله
دوننا؟ قال: يا ابنة رسول الله، ما ورث أبوك دارا ولا مالا ولا ذهبا ولا فضة،
قالت: بلى سهم الله الذي جعله لنا، وصار فيئنا الذي بيدك، فقال لها سمعت رسول الله
صلى الله عليه وآله يقول: (إنما هي طعمة أطعمناها الله، فإذا مت كانت بين المسلمين).
قال أبو بكر: وأخبرنا أبو زيد قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا
محمد بن الفضل، عن الوليد بن جميع، عن أبي الطفيل قال: أرسلت فاطمة إلى أبى بكر
218

أنت ورثت رسول الله صلى الله عليه وآله أم أهله؟ قال: بل أهله، قالت: فما بال سهم
رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أن الله
أطعم نبيه طعمة)، ثم قبضه، وجعله للذي يقوم بعده، فوليت أنا بعده، على أن أرده على المسلمين
قالت: أنت وما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله اعلم.
قلت: في هذا الحديث عجب، لأنها قالت له: أنت ورثت رسول الله صلى الله عليه وآله أم أهله؟
قال: بل أهله، وهذا تصريح بأنه صلى الله عليه وآله موروث يرثه أهله، وهو خلاف قوله: (لا نورث). وأيضا فإنه يدل على أن أبا بكر استنبط من قول رسول الله صلى الله عليه وآله
أن الله أطعم نبيا طعمة أن يجرى رسول الله صلى الله عليه وآله عند وفاته مجرى ذلك النبي
صلى الله عليه وآله أو يكون قد فهم أنه عنى بذلك النبي المنكر لفظا نفسه، كما فهم من قوله
في خطبته، إن عبدا خيره الله بين الدنيا وما عند ربه، فاختار ما عند ربه، فقال أبو بكر: بل
نفديك بأنفسنا.
قال أبو بكر: وأخبرنا أبو زيد قال: أخبرنا القعنبي قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد،
عن محمد بن عمر، عن أبي سلمة، أن فاطمة طلبت فدك من أبى بكر، فقال: إني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن النبي لا يورث)، من كان النبي يعوله فأنا أعوله،
ومن كان النبي صلى الله عليه وسلم ينفق عليه فأنا أنفق عليه. فقالت: يا أبا بكر، أيرثك
بناتك ولا يرث رسول الله صلى الله عليه وآله بناته؟ فقال هو ذاك. قال أبو بكر: وأخبرنا
أبو زيد قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير قال: حدثنا فضيل بن مرزوق قال: حدثنا
البحتري بن حسان قال: قلت لزيد بن علي عليه السلام وأنا أريد أن أهجن أمر
أبى بكر، أن أبا بكر انتزع فدك من فاطمة عليه السلام، فقال، إن أبا بكر كان رجلا
219

رحيما، وكان يكره أن يغير شيئا فعله رسول الله صلى الله عليه وآله، فأتته فاطمة فقالت:
إن رسول الله صلى الله عليه وآله أعطاني فدك، فقال لها: هل لك على هذا بينة؟ فجاءت
بعلي عليه السلام، فشهد لها، ثم جاءت أم أيمن فقالت: ألستما تشهدان أنى من أهل الجنة!
قالا: بلى - قال أبو زيد يعنى أنها قالت لأبي بكر وعمر - قالت: فأنا أشهد أن رسول
الله صلى الله عليه وآله أعطاها فدك، فقال أبو بكر: فرجل آخر أو امرأة أخرى لتستحقي
بها القضية. ثم قال أبو زيد: وأيم الله لو رجع الامر إلى لقضيت فيها بقضاء أبى بكر.
قال أبو بكر: وأخبرنا أبو زيد قال: حدثنا محمد بن الصباح قال: حدثنا يحيى بن
المتوكل أبو عقيل، عن كثير النوال قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي عليه السلام: جعلني
الله فداك! أرأيت أبا بكر وعمر، هل ظلماكم من حقكم شيئا - أو قال: ذهبا من حقكم
بشئ؟ فقال: لا، والذي أنزل القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيرا، ما ظلمنا من حقنا
مثقال حبه من خردل، قلت: جعلت فداك أفأتولاهما؟ قال: نعم ويحك! تولهما في الدنيا
والآخرة، وما أصابك ففي عنقي، ثم قال: فعل الله بالمغيرة وبنان، فإنهما كذبا علينا
أهل البيت.
قال أبو بكر: وأخبرنا أبو زيد، قال: حدثنا عبد الله بن نافع والقعنبي، عن مالك عن
الزهري، عن عروة، عن عائشة أن أزواج النبي صلى الله عليه وآله أردن لما توفى أن يبعثن
عثمان بن عفان إلى أبى بكر يسألنه ميراثهن - أو قال ثمنهن - قالت: فقلت لهن: أليس قد
قال النبي صلى الله عليه وآله (لا نورث، ما تركنا صدقة). قال أبو بكر: وأخبرنا أبو زيد، قال حدثنا عبد الله بن نافع والقعنبي وبشر بن
عمر، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله.
قال: (لا يقسم ورثتي دينارا ولا درهما، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤونة عيالي
فهو صدقه).
220

قلت: هذا حديث غريب، لان المشهور أنه لم يرو حديث انتفاء الإرث الا
أبو بكر وحده.
وقال أبو بكر: وحدثنا أبو زيد عن الحزامي عن ابن وهب عن يونس عن ابن
شهاب، عن عبد الرحمن الأعرج أنه سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله
يقول: (والذي نفسي بيده لا يقسم ورثتي شيئا، ما تركت صدقة)، قال: وكانت هذه
الصدقة بيد علي عليه السلام، غلب عليها العباس، وكانت فيها خصومتهما، فأبى عمر أن
يقسمها بينهما حتى أعرض عنها العباس وغلب عليها عليه السلام ثم كانت بيد حسن
وحسين ابني علي عليه السلام، ثم كانت بيد علي بن الحسين عليه السلام والحسن بن الحسن،
كلاهما يتداولانها (1)، ثم بيد زيد بن علي عليه السلام.
قال أبو بكر: وأخبرنا أبو زيد قال: حدثنا عثمان بن عمر بن فارس، قال: حدثنا
يونس، عن الزهري، عن مالك بن أوس بن الحدثان، أن عمر بن الخطاب دعاه يوما
بعد ما ارتفع النهار، قال: فدخلت عليه وهو جالس على سرير رمال ليس بينه وبين الرمال
فراش، على وسادة أدم، فقال: يا مالك، إنه قد قدم من قومك أهل أبيات حضروا
المدينة، وقد أمرت لهم برضخ (2) فاقسمه بينهم، فقلت: يا أمير المؤمنين، مر بذلك غيري،
قال: أقسم أيها المرء.
قال: فبينا نحن على ذلك إذ دخل يرفأ، فقال: هل لك في عثمان وسعد وعبد الرحمن
والزبير يستأذنون عليك؟ قال: نعم، فأذن لهم قال: ثم لبث قليلا، ثم جاء فقال: هل لك
في علي والعباس يستأذنان عليك؟ قال: ائذن لهما، فلما دخلا، قال عباس: يا أمير المؤمنين،
اقض بيني وبين هذا - يعنى عليا - وهما يختصمان في الصوافي (3) التي أفاء الله على رسوله

(1) ب (يتولانها) تصحيف، صوابه من ا
(2) الرضخ هنا: المال.
(3) الصوافي: الأملاك الواسعة. والخبر في اللسان (صفا).
221

من أموال بنى النضير، قال: فاستب على والعباس عند عمر، فقال عبد الرحمن:
يا أمير المؤمنين: اقض بينهما وأرخ أحدهما من الاخر، فقال عمر: أنشدكم الله الذي
تقوم بإذنه السماوات والأرض، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال:
(لا نورث، ما تركناه صدقة)، يعنى نفسه؟ قالوا: قد قال ذلك، فأقبل على العباس وعلى
فقال: أنشدكما الله هل تعلمان ذلك؟ قالا: نعم؟ قال عمر: فإني أحدثكم عن هذا الامر،
إن الله تبارك وتعالى خص رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الفئ بشئ لم يعطه غيره
قال تعالى: (وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب
ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شئ قدير (1))، وكانت هذه
خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فما اختارها دونكم، ولا استأثر بها عليكم،
لقد أعطاكموها وثبتها فيكم حتى بقي منها هذا المال، وكان ينفق منه على أهله سنتهم،
ثم يأخذ ما بقي فيجعله فيما يجعل مال الله عز وجل، فعل ذلك في حياته ثم توفى، فقال أبو بكر:
أنا ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبضه الله وقد عمل فيها بما عمل به رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وأنتما حينئذ، والتفت إلى علي والعباس تزعمان أن أبا بكر فيها ظالم
فاجر، والله يعلم إنه فيها لصادق بار راشد، تابع للحق، ثم توفى الله أبا بكر، فقلت
أنا أولى الناس بأبي بكر وبرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبضتها سنتين - أو قال سنين
من إمارتي - أعمل فيها مثل ما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، ثم قال:
وأنتما - وأقبل على العباس وعلى - تزعمان أنى فيها ظالم فاجر، والله يعلم أنى فيها بار راشد، تابع للحق ثم جئتماني وكلمتكما واحدة، وأمركما، جميع - فجئتني - يعنى العباس - تسألني
نصيبك من أبن أخيك، وجاءني هذا - يعنى عليا - يسألني نصيب امرأته من أبيها، فقلت لكما: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا نورث، ما تركناه صدقة)، فلما بدا لي أن

(1) سورة الحشر 6.
222

أدفعها إليكما قلت: أدفعها على أن عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيها بما عمل رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وبما عملت به فيها، وإلا فلا تكلماني! فقلتما: ادفعها إلينا
بذلك، فدفعتها إليكما بذلك، أفتلتمسان منى قضاء غير ذلك! والله الذي تقوم بإذنه
السماوات والأرض لا أقضى بينكما بقضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة، فإن عجزتما
عنها فادفعاها إلى فأنا أكفيكماها!
قال أبو بكر: وحدثنا أبو زيد قال: حدثنا إسحاق بن إدريس، قال حدثنا عبد الله
بن المبارك قال: حدثني يونس، عن الزهري قال: حدثني مالك بن أوس بن الحدثان
بنحوه، قال فذكرت ذلك لعروة فقال: صدق مالك بن أوس، أنا سمعت عائشة تقول:
أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان إلى أبى بكر يسأل لهن ميراثهن من
رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه حتى كنت أردهن عن ذلك، فقلت: ألا تتقين
الله، ألم تعلمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: (لا نورث ما تركناه
صدقة) يريد بذلك نفسه، إنما يأكل آل محمد من هذا المال، فانتهى أزواج النبي صلى الله عليه وآله
إلى ما أمرتهن به.
* * *
قلت: هذا مشكل، لان الحديث الأول يتضمن أن عمر أقسم على جماعة فيهم
عثمان، فقال نشدتكم الله، ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا نورث ما تركناه صدقة) يعنى نفسه! فقالوا: نعم، ومن جملتهم عثمان، فكيف
يعلم بذلك فيكون مترسلا لأزواج النبي صلى الله عليه وآله: يسأله أن يعطيهن الميراث!
اللهم إلا أن يكون عثمان وسعد وعبد الرحمن والزبير صدقوا عمر على سبيل التقليد
لأبي بكر فيما رواه وحسن الظن، وسموا ذلك علما، لأنه قد يطلق على الظن
اسم العلم.
223

فإن قال قائل: فهلا حسن ظن عثمان برواية أبى بكر في مبدأ الامر فلم يكن رسولا
لزوجات النبي صلى الله عليه وآله في طلب الميراث؟
قيل له: يجوز أن يكون في مبدأ الامر شاكا، ثم يغلب على ظنه صدقه لأمارات
اقتضت تصديقه، وكل الناس يقع لهم مثل ذلك.
وها هنا إشكال آخر، وهو أن عمر ناشد عليا والعباس: هل تعلمان ذلك؟ فقالا:
نعم، فإذا كانا يعلمانه فكيف جاء العباس وفاطمة إلى أبى بكر يطلبان الميراث على
ما ذكره في خبر سابق على هذا الخبر، وقد أوردناه نحن! وهل يجوز أن يقال: كان العباس
يعلم ذلك ثم يطلب الإرث الذي لا يستحقه؟ وهل يجوز أن يقال: إن عليا كان يعلم ذلك
ويمكن زوجته أن تطلب ما لا تستحقه، خرجت من دارها إلى المسجد، ونازعت أبا بكر
وكلمته بما كلمته إلا بقوله وإذنه ورأيه. وأيضا فإنه إذا كان صلى الله عليه وآله لا يورث، فقد أشكل دفع آلته ودابته وحذائه إلى علي عليه السلام، لأنه غير وارث في الأصل، وأن كان أعطاه ذلك لان زوجته بعرضه أن ترث، لولا الخبر، فهو أيضا غير جائز، لان
الخبر قد منع أن يرث منه شيئا قليلا كان أو كثيرا.
فإن قال قائل: نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهبا ولا فضه ولا أرضا ولا عقارا
ودارا.
قيل: هذا الكلام يفهم من مضمونه أنهم لا يورثون شيئا أصلا لان عادة العرب
رب جارية بمثل ذلك، وليس يقصدون نفى ميراث هذه الأجناس المعدودة دون غيرها، بل
يجعلون ذلك كالتصريح بنفي أن يورثوا شيئا ما على الاطلاق.
وأيضا فإنه جاء في خبر الدابة
والآلة والحذاء أنه روى عن النبي صلى الله عليه وآله:
(لا نورث، ما تركناه صدقة) ولم يقل (لا نورث كذا ولا كذا) وذلك يقتضى
عموم انتفاء الإرث عن كل شئ.
224

وأما الخبر الثاني وهو الذي رواه هشام بن محمد الكلبي، عن أبيه، ففيه إشكال أيضا
لأنه قال: إنها طلبت فدك، وقالت أن أبى أعطانيها، وإن أم أيمن تشهد لي بذلك،
فقال لها أبو بكر في الجواب: أن هذا المال لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما كان
مالا من أموال المسلمين، يحمل (1) به الرجال، وينفقه في سبيل الله، فلقائل أن يقول له:
أيجوز للنبي صلى الله عليه وآله أن يملك أبنته أو غير أبنته من أفناء الناس ضيعة مخصوصة
أو عقارا مخصوصا من مال المسلمين، لوحي أوحى الله تعالى إليه، أو لاجتهاد رأيه على قول
من أجاز له ان يحكم بالاجتهاد، أو لا يجوز للنبي صلى الله عليه وآله ذلك؟ فإن قال:
لا يجوز، قال ما لا يوافقه العقل ولا المسلمون عليه، وإن قال: يجوز ذلك، قيل: فإن
المرأة ما اقتصرت على الدعوى، بل قالت: أم أيمن تشهد لي، فكان ينبغي أن يقول لها في
الجواب: شهادة أم أيمن وحدها غير مقبولة، ولم يتضمن هذا الخبر ذلك، بل قال لها لما
ادعت وذكرت من يشهد لها: هذا مال من مال الله. لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم
وهذا ليس بجواب صحيح.
وأما الخبر الذي رواه محمد بن زكريا عن عائشة، ففيه من الاشكال مثل ما في هذا
الخبر، لأنه إذا شهد لها على ع وأم أيمن أن رسول الله صلى الله عليه وآله وهب
لها فدك، لم يصح اجتماع صدقها وصدق عبد الرحمن وعمر، ولا ما تكلفه أبو بكر من
تأويل ذلك بمستقيم، لان كونها هبة من رسول الله صلى الله عليه وآله لها يمنع من قوله:
(كان يأخذ منها قوتكم ويقسم الباقي، ويحمل منه في سبيل الله) لان هذا ينافي
كونها هبة لها، لان معنى كونها لها انتقالها إلى ملكيتها، وأن تتصرف فيها
خاصة دون كل أحد من الناس، وما هذه صفته كيف يقسم ويحمل منه في
سبيل الله!

(1) ا: (ويحمل).
225

فإن قال قائل: هو صلى الله عليه وآله أبوها، وحكمه في مالها كحكمه في ماله وفي
بيت مال المسلمين، فلعله كان بحكم الأبوة يفعل ذلك!
قيل: فإذا كان يتصرف (1) فيها تصرف الأب في مال ولده، لا يخرجه ذلك عن
كونه مال ولده، فإذا مات الأب لم يجز لأحد أن يتصرف في مال ذلك الولد، لأنه ليس بأب
له فيتصرف في ماله تصرف الاباء في أموال أولادهم، على أن الفقهاء أو معظمهم لا يجيزون
للأب أن يتصرف في مال الابن.
وها هنا إشكال آخر، وهو قول عمر لعلى عليه السلام والعباس: وأنتما حينئذ تزعمان
أن أبا بكر فيها ظالم فاجر، ثم قال لما ذكر نفسه، وأنتما تزعمان أنى فيها ظالم فاجر، فإذا كانا
يزعمان ذلك فكيف يزعم هذا الزعم مع كونهما يعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: (لا أورث)! إن هذا لمن أعجب العجائب، ولولا أن هذا الحديث - أعني حديث خصومة
العباس وعلى عند عمر - مذكور في الصحاح المجمع عليها لما أطلت العجب من مضمونه، إذ
لو كان غير مذكور في الصحاح لكان بعض ما ذكرناه يطعن في صحته، وأنما الحديث في
الصحاح لا ريب في ذلك.
قال أبو بكر: وأخبرنا أبو زيد قال: حدثنا ابن أبي شيبة قال: حدثنا ابن علية،
عن أيوب، عن عكرمة عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: جاء العباس وعلى إلى عمر،
فقال العباس: اقض بيني وبين هذا الكذا وكذا، أي يشتمه، فقال الناس: افصل بينهما، فقال لا أفصل بينهما، قد علما أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: (لا نورث،
ما تركناه صدقه)
قلت: وهذا أيضا مشكل، لأنهما حضرا يتنازعان لا في الميراث، بل في ولاية صدقة
رسول الله صلى الله عليه وآله أيهما يتولاها ولاية لا إرثا وعلى هذا كانت الخصومة،

(1) ب: (قد يتصرف).
226

فهل يكون جواب ذلك قد علما أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: (لا نورث)!
قال أبو بكر: وأخبرنا أبو زيد قال: حدثني يحيى بن كثير أبو غسان قال: حدثنا شعبة، عن عمر بن مرة، عن أبي البختري قال: جاء العباس وعلى إلى عمر وهما يختصمان، فقال عمر
لطلحة والزبير وعبد الرحمن وسعد: أنشدكم الله أسمعتم رسول الله صلى الله عليه يقول:
(كل مال نبي فهو صدقه، إلا ما أطعمه أهله، أنا لا نورث) فقالوا: نعم، قال:
وكان رسول الله يتصدق به، ويقسم فضله، ثم توفى فوليه أبو بكر سنتين يصنع فيه ما كان
يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتما تقولان: أنه كان بذلك خاطئا، وكان بذلك
ظالما، وما كان بذلك إلا راشدا، ثم وليته بعد أبي بكر فقلت لكما: إن شئتما قبلتماه
على عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده الذي عهد فيه، فقلتما: نعم، وجئتماني الان
تختصمان، يقول هذا: أريد نصيبي من أبن أخي، ويقول هذا: أريد نصيبي من امرأتي!
والله لا أقضى بينكما إلا بذلك.
* * *
قلت: وهذا أيضا مشكل، لان أكثر الروايات أنه لم يرو هذا الخبر الا أبو بكر
وحده، ذكر ذلك أعظم المحدثين حتى أن الفقهاء في أصول الفقه أطبقوا على ذلك
في احتجاجهم في الخبر برواية الصحابي الواحد. وقال شيخنا أبو علي: لا تقبل في الرواية
إلا رواية اثنين كالشهادة، فخالفه المتكلمون والفقهاء كلهم، واحتجوا عليه (1) بقبول
الصحابة رواية أبى بكر وحده: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث)، حتى إن بعض أصحاب أبي
على تكلف لذلك جوابا، فقال: قد روى أن أبا بكر يوم حاج فاطمة عليه السلام
قال: أنشد الله امرأ سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا شيئا! فروى مالك
بن أوس بن الحدثان، أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث ينطق

(1) ساقطة من ب.
227

بأنه استشهد عمر وطلحة والزبير وعبد الرحمن وسعدا، فقالوا: سمعناه من رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فأين كانت هذه الروايات أيام أبى بكر! ما نقل أن أحدا من هؤلاء
يوم خصومة فاطمة عليه السلام وأبى بكر روى من هذا شيئا.
قال أبو بكر: وأخبرنا أبو زيد عمر بن شبة قال: حدثنا محمد بن يحيى (1)، عن
إبراهيم بن أبي يحيى، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أن أزواج النبي صلى الله عليه وآله
أرسلن عثمان إلى أبى بكر، فذكر الحديث، قال عروة: وكانت فاطمة قد سألت
ميراثها من أبى بكر مما تركه النبي صلى الله عليه وآله، فقال لها: بأبي أنت وأمي وبأبي
أبوك وأمي ونفسي، إن كنت سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا أو أمرك
بشئ لم أتبع غير ما تقولين، وأعطيتك ما تبتغين، وإلا فإني أتبع ما أمرت به.
قال أبو بكر وحدثنا أبو زيد قال: حدثنا عمرو بن مرزوق، عن شعبة، عن عمرو
أبن مرة، عن أبي البختري قال: قال لها أبو بكر لما طلبت فدك: بأبي أنت وأمي!
أنت عندي الصادقة الأمينة، إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليك في ذلك
عهدا أو وعدك به وعدا، صدقتك، وسلمت إليك فقالت: لم يعهد إلى في ذلك بشئ
ولكن الله تعالى يقول: (يوصيكم الله في أولادكم) (2)، فقال: أشهد لقد سمعت (3) رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنا معاشر الأنبياء لا نورث).
* * *
قلت: وفى هذا من الاشكال ما هو ظاهر، لأنها قد ادعت أنه عهد إليها رسول الله
صلى الله عليه وآله في ذلك أعظم العهد، وهو النحلة، فكيف سكتت عن ذكر هذا لما
سألها أبو بكر! وهذا أعجب من العجب.

(1) ب: (عيسى).
(2) سورة النساء 11.
(3) كذا في ا، وفى ب: (كان).
228

قال أبو بكر: وحدثنا أبو زيد قال: حدثنا محمد بن يحيى قال: حدثنا عبد العزيز
أبن عمران بن عبد العزيز بن عبد الله الأنصاري عن أبن شهاب، عن مالك بن أوس بن
الحدثان قال: سمعت عمر وهو يقول للعباس وعلى وعبد الرحمن بن عوف والزبير وطلحة:
أنشدكم الله هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنا لا نورث، معاشر
الأنبياء، ما تركنا صدقة) قالوا: اللهم نعم، قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم يدخل في فيئه أهله السنة من صدقاته (1) ثم يجعل ما بقي في بيت المال!
قالوا: اللهم نعم فلما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضها أبو بكر فجئت يا عباس
تطلب ميراثك من ابن أخيك وجئت يا علي تطلب ميراث زوجتك من أبيها! وزعمتما
أن أبا بكر كان فيها خائنا فاجرا، والله لقد كان امرأ مطيعا تابعا للحق ثم توفى
أبو بكر فقبضتها فجئتماني تطلبان ميراثكما أما أنت يا عباس فتطلب ميراثك من أبن
أخيك وأما على فيطلب ميراث زوجته من أبيها وزعمتما أنى فيها خائن وفاجر والله يعلم
أنى فيها مطيع تابع للحق فأصلحا أمركما وإلا والله لم ترجع إليكما فقاما وتركا
الخصومة وأمضيت صدقة.
قال أبو زيد: قال أبو غسان: فحدثنا عبد الرزاق الصنعاني عن معمر بن شهاب
عن مالك بنحوه وقال في آخره: فغلب على عباسا عليها فكانت بيد على ثم كانت
بيد الحسن ثم كانت بيد الحسين ثم علي بن الحسين ثم الحسن بن الحسن ثم
زيد بن الحسن.
* * *
قلت: وهذا الحديث يدل صريحا على أنهما جاءا يطلبان الميراث لا الولاية وهذا من
المشكلات لان أبا بكر حسم المادة أولا وقرر عند العباس وعلى وغيرهما أن النبي
صلى الله عليه وآله، لا يورث وكان عمر من المساعدين له على ذلك فكيف يعود

(1) كذا في الأصول، وفى الكلام غموض.
229

العباس وعلى بعد وفاة أبى بكر يحاولان أمرا قد كان فرغ منه ويئس من حصوله
اللهم إلا أن يكونا ظنا أن عمر ينقض قضاء أبى بكر في هذه المسألة وهذا بعيد لان
عليا والعباس (1 كانا في هذه المسألة 1) يتهمان عمر بممالاة أبى بكر على ذلك ألا تراه
يقول: نسبتماني ونسبتما أبا بكر إلى الظلم والخيانة فكيف يظنان أنه ينقض قضاء
أبى بكر ويورثهما!
* * *
وأعلم أن الناس يظنون أن نزاع فاطمة أبا بكر كان في أمرين في الميراث والنحلة وقد
وجدت في الحديث أنها نازعت في أمر ثالث ومنعها أبو بكر إياه أيضا وهو سهم
ذوي القربى.
قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري: أخبرني أبو زيد عمر بن شبة، قال:
حدثني هارون بن عمير قال: حدثنا الوليد بن مسلم قال: حدثني صدقة أبو معاوية عن
محمد بن عبد الله عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك أن فاطمة عليه السلام أتت أبا بكر فقالت: لقد علمت الذي ظلمتنا عنه أهل البيت
من الصدقات وما أفاء الله علينا من الغنائم في القرآن من سهم ذوي القربى! ثم قرأت
عليه قوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي
القربى...) (2) الآية فقال لها أبو بكر: بأبي أنت وأمي ووالد ولدك! لسمع والطاعة
لكتاب الله ولحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وحق قرابته وأنا أقرأ من كتاب الله
الذي تقرئين منه ولم يبلغ علمي منه أن هذا السهم من الخمس يسلم إليكم كاملا قالت:
أفلك هو ولأقربائك؟ قال: لا بل أنفق عليكم منه وأصرف الباقي في مصالح المسلمين
قالت: ليس هذا حكم الله تعالى قال: هذا حكم الله فإن كان رسول الله عهد إليك

(1 - 1) ساقط من ب.
(2) سورة الأنفال 41.
230

في هذا عهدا أو أوجبه لكم حقا (1) صدقتك وسلمته كله إليك وإلى أهلك قالت: أن رسول
الله صلى الله عليه وآله لم يعهد إلى في ذلك بشئ إلا أنى سمعته يقول لما أنزلت هذه
الآية: (أبشروا آل محمد فقد جاءكم الغنى)، قال أبو بكر: لم يبلغ علمي من هذه الآية
أن أسلم إليكم هذا السهم كله كاملا ولكن لكم الغنى الذي يغنيكم ويفضل عنكم
وهذا عمر بن الخطاب وأبو عبيده بن الجراح فاسأليهم عن ذلك وانظري هل يوافقك
على ما طلبت أحد منهم! فانصرفت إلى عمر فقالت له مثل ما قالت لأبي بكر فقال لها
مثل ما قاله لها أبو بكر فعجبت فاطمة عليه السلام من ذلك وتظنت أنهما كانا قد
تذاكرا ذلك واجتمعا عليه.
قال أبو بكر: وأخبرنا أبو زيد قال: حدثنا هارون بن عمير قال: حدثنا الوليد
عن أبن أبى لهيعة عن أبي الأسود عن عروة قال: أرادت فاطمة أبا بكر على فدك
وسهم ذوي القربى فأبى عليها وجعلهما في مال الله تعالى.
قال أبو بكر: وأخبرنا أبو زيد قال: حدثنا أحمد بن معاوية عن هيثم عن
جويبر عن أبي الضحاك عن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب عليه السلام أن
أبا بكر منع فاطمة وبنى هاشم سهم ذوي القربى وجعله في سبيل الله في السلاح
والكراع.
قال أبو بكر: وأخبرنا أبو زيد قال: حدثنا حيان بن هلال عن محمد بن يزيد بن
ذريع عن محمد بن إسحاق قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي عليه السلام قلت:
أرأيت عليا حين ولى العراق وما ولى من أمر الناس كيف صنع في سهم ذوي القربى؟
قال: سلك بهم طريق أبى بكر وعمر قلت: وكيف ولم وأنتم تقولون ما تقولون!
قال: أما والله ما كان أهله يصدرون إلا عن رأيه فقلت: فما منعه؟ قال: كان يكره

(1) كذا في ا. وفى ب: (أوجبه لك على).
231

أن يدعى عليه مخالفة أبى بكر وعمر
قال أبو بكر: وحدثني المؤمل بن جعفر قال: حدثني محمد بن ميمون عن داود بن
المبارك قال: أتينا عبد الله بن موسى بن عبد الله بن حسن بن الحسن ونحن راجعون من
الحج في جماعة فسألناه عن مسائل وكنت أحد من سأله فسألته عن أبي بكر وعمر فقال:
سئل جدي عبد الله بن الحسن بن الحسن عن هذه المسألة فقال: كانت أمي صديقة بنت
نبي مرسل فماتت وهي غضبى على إنسان فنحن غضاب لغضبها وإذا رضيت رضينا.
قال أبو بكر: وحدثني أبو جعفر محمد بن القاسم قال: حدثني علي بن الصباح
قال: أنشدنا أبو الحسن رواية المفضل للكميت:
أهوى عليا أمير المؤمنين ولا * أرضى بشتم أبى بكر ولا عمرا (1)
ولا أقول وإن لم يعطيا فدكا * بنت النبي ولا ميراثها: كفرا (2)
الله يعلم ماذا يحضران به * يوم القيامة من عذر إذا اعتذرا (3)
قال بن الصباح: فقال لي أبو الحسن: أتقول: أنه قد أكفرهما في هذا الشعر قلت نعم
قال كذاك هو.
قال أبو بكر: حدثنا أبو زيد عن هارون بن عمير عن الوليد بن مسلم عن
إسماعيل بن عباس عن محمد بن السائب عن أبي صالح عن مولى أم هانئ قال:
دخلت فاطمة على أبى بكر بعد ما استخلف فسألته ميراثها من أبيها فمنعها
فقالت له: لئن مت اليوم من كان يرثك؟ قال ولدى وأهلي قالت: فلم ورثت أنت
رسول الله صلى الله عليه وآله دون ولده وأهله قال: فما فعلت يا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم
! قالت: بلى إنك عمدت إلى فدك وكانت صافية لرسول الله صلى الله عليه وآله
فأخذتها وعمدت إلى ما أنزل الله من السماء فرفعته عنا فقال: يا بنت رسول الله

(1) الهاشميات 83، 84.
(2) ا، الهاشميات: (ميراثه)،
(3) الهاشميات: (ماذا يأتيان به).
232

صلى الله عليه وسلم لم أفعل حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يطعم النبي
صلى الله عليه وسلم الطعمة ما كان حيا، فإذا قبضه الله إليه رفعت فقالت: أنت ورسول
الله أعلم ما أنا بسائلتك بعد مجلسي ثم انصرفت
قال أبو بكر: وحدثنا محمد بن زكريا قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن المهلبي
عن عبد الله بن حماد بن سليمان عن أبيه عن عبد الله بن حسن بن حسن عن أمه
فاطمة بنت الحسين عليه السلام، قالت: لما اشتد بفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله
الوجع وثقلت في علتها اجتمع عندها نساء من نساء المهاجرين والأنصار
فقلن لها: كيف أصبحت يا ابنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: والله أصبحت
عائفة (1) لدنياكم قالية لرجالكم لفظتهم بعد أن عجمتهم (2) وشنئتهم (3) بعد أن
سبرتهم (4) فقبحا لفلول الحد وخور القناة وخطل الرأي وبئسما قدمت لهم أنفسهم
أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون لا جرم! قد قلدتهم ربقتها وشنت عليهم
غارتها فجدعا وعقرا وسحقا للقوم الظالمين! ويحهم! أين زحزحوها عن رواسي
الرسالة وقواعد النبوة ومهبط الروح الأمين والطيبين بأمر الدنيا والدين
ألا ذلك هو الخسران! المبين وما الذي نقموا من أبى حسن! نقموا والله نكير سيفه
وشدة وطأته ونكال وقعته وتنمره في ذات الله وتالله لو تكافوا عن زمام نبذه
إليه رسول الله صلى الله عليه وآله لاعتلقه ولسار إليهم سيرا سجحا لا تكلم حشاشته
ولا يتعتع راكبه ولأوردهم منهلا نميرا فضفاضا يطفح ضفتاه ولأصدرهم بطانا قد تحير
بهم الرأي غير متحل بطائل إلا بغمر الناهل وردعه سورة الساغب ولفتحت عليهم
بركات من السماء والأرض وسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون. ألا هلم فاستمع وما عشت

(1) عائفة لدنياكم، أي قالية لها كارهة.
(2) عجمتهم: بلوتهم وخبرتهم.
(3) شنئتهم: أبغضتهم.
(4) سبرتهم: علمت أمورهم.
233

أراك الدهر عجبه وأن تعجب فقد أعجبك الحادث إلى أي لجأ استندوا وبأي عروة
تمسكوا! لبئس المولى ولبئس العشير ولبئس للظالمين بدلا! استبدلوا والله الذنابى
بالقوادم والعجز بالكاهل فرغما لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعا (ألا أنهم هم
المفسدون ولكن لا يشعرون) ويحهم! (فمن يهدى إلى الحق أحق أن يتبع أمن
لا يهدى إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون)! أما لعمر الله لقد لقحت فنظرة ريثما
تنتج (1) ثم احتلبوها طلاع العقب دما عبيطا وذعاقا ممقرا هنالك يخسر المبطلون
ويعرف التالون غب ما أسس الأولون ثم طيبوا عن أنفسكم نفسا واطمئنوا للفتنة جأشا
وأبشروا بسيف صارم وهرج شامل واستبداد من الظالمين يدع فيئكم زهيدا
وجمعكم حصيدا فيا حسرة عليكم وأنى لكم وقد عميت عليكم أنلزمكموها وأنتم
لها كارهون! والحمد لله رب العالمين وصلاته على محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين.
* * *
قلت: هذا الكلام وأن لم يكن فيه ذكر فدك والميراث إلا أنه من تتمه ذلك
وفيه إيضاح لما كان عندها وبيان لشدة غيظها وغضبها فإنه سيأتي فيما بعد ذكر
ما يناقض به قاضي القضاة والمرتضى في أنها هل كانت غضبى أم لا ونحن لا ننصر مذهبا
بعينه وإنما نذكر ما قيل وإذا جرى بحث نظري قلنا ما يقوى في أنفسنا منه.
واعلم أنا إنما نذكر في هذا الفصل ما رواه رجال الحديث وثقاتهم وما أودعه أحمد
بن عبد العزيز الجوهري في كتابه وهو من الثقات الامناء عند أصحاب الحديث
وأما ما يرويه رجال الشيعة والأخباريون منهم في كتبهم من قولهم: إنهما أهاناها وأسمعاها
كلاما غليظا وإن أبا بكر رق لها حيث لم يكن عمر حاضرا فكتب لها بفدك كتابا فلما خرجت به وجدها عمر فمد يده إليه ليأخذه مغالبة فمنعته فدفع بيده في صدرها

(1) كذا في ا، وفى ب: (تحلب).
234

وأخذ الصحيفة فخرقها بعد أن تفل فيها فمحاها وإنها دعت عليه فقالت: بقر الله بطنك
كما بقرت صحيفتي فشئ لا يرويه أصحاب الحديث ولا ينقلونه وقدر الصحابة يجل عنه
وكان عمر أتقى لله وأعرف لحقوق الله من ذلك وقد نظمت الشيعة بعض هذه الواقعة
التي يذكرونها شعرا أوله أبيات لمهيار بن مرزويه الشاعر من قصيدته التي أولها (1):
يا ابنة القوم تراك * بالغ قتلى رضاك (2)
وقد ذيل عليها بعض الشيعة وأتمها والأبيات:
يا ابنة الطاهر كم * تقرع بالظلم عصاك
غضب الله لخطب * ليلة الطف عراك
ورعى النار غدا * قط رعى أمس حماك
مر لم يعطفه شكوى * ولا استحيا بكاك
واقتدى الناس به بعد * فأردى ولداك
يا ابنة الراقي إلى السدرة * في لوح السكاك
لهف نفسي وعلى * مثلك فلتبك البواكي
كيف لم تقطع يد مد * إليك ابن صحاك
فرحوا يوم أهانوك * بما ساء أباك
ولقد أخبرهم أن * رضاه في رضاك
دفعا النص على * إرثك لما دفعاك
وتعرضت لقدر * تافه وانتهراك

(1) ديوانه 2: 367، 368.
(2) في الأصول: (براك) والصواب ما أثبته. من الديوان.
235

وادعيت النحلة المشهود * فيها بالصكاك
فاستشاطا ثم ما إن * كذبا إن كذباك
فزوى الله عن * الرحمة زنديقا ذواك
ونفى عن بابه * الواسع شيطانا نفاك.
فانظر إلى هذه البلية التي صبت من هؤلاء على سادات المسلمين وأعلام المهاجرين!
وليس ذلك بقادح في علو شأنهم وجلالة مكانهم كما أن مبغضي الأنبياء وحسدتهم
ومصنفي الكتب في إلحاق العيب والتهجين لشرائعهم لم تزدد لأنبيائهم إلا رفعة
ولا زادت شرائعهم إلا انتشارا في الأرض وقبولا في النفس وبهجة ونورا عند
ذوي الألباب والعقول.
وقال لي علوي في الحلة (1) يعرف بعلي بن مهنأ ذكى ذو فضائل ما تظن
قصد أبى بكر وعمر بمنع فاطمة فدك؟ قلت: ما قصدا قال: أرادا ألا يظهرا لعلى
- وقد اغتصباه الخلافة - رقه ولينا وخذلانا ولا يرى عندهما خورا فأتبعا القرح
بالقرح.
وقلت لمتكلم من متكلمي الإمامية يعرف بعلي بن تقى من بلدة النيل (2):
وهل كانت فدك إلا نخلا يسيرا وعقارا ليس بذلك الخطير! فقال لي: ليس الامر كذلك
بل كانت جليلة جدا وكان فيها من النخل نحو ما بالكوفة الان من النخل وما قصد
أبو بكر وعمر بمنع فاطمة عنها إلا ألا يتقوى على بحاصلها وغلتها على المنازعة في الخلافة
ولهذا أتبعا ذلك بمنع فاطمة وعلى وسائر بني هاشم وبني المطلب حقهم في الخمس، فإن

(1) الحلة: تطلق على عدة مواضع، منها موضع بين الكوفة والبصرة، وهي حلة بنى مزيد.
(2) النيل هنا: بليدة في سواد الكوفة، قرب حلة بنى مزيد.
236

الفقير الذي لا مال له تضعف همته ويتصاغر عند نفسه ويكون مشغولا بالاحتراف
والاكتساب عن طلب الملك والرياسة فانظر إلى ما قد وقر في صدور هؤلاء وهو
داء لا دواء له وما أكثر ما تزول الأخلاق والشيم فأما العقائد الراسخة فلا سبيل
إلى زوالها!
* * *
الفصل الثاني
في النظر في أن النبي صلى الله عليه وآله هل يورث أم لا
نذكر في هذا الموضع ما حكاه المرتضى رحمه الله في (الشافي) (1) عن قاضي القضاة في هذا المعنى وما اعترضه به وإن استضعفنا شيئا من ذلك قلنا ما عندنا وإلا تركناه
على حاله.
قال المرتضى: أول ما ابتدأ به قاضي القضاة حكايته عنا استدلالنا على أنه صلى الله عليه وآله
مورث (2) بقوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) (3)
وهذا الخطاب عام يدخل فيه النبي وغيره.
ثم أجاب - يعنى قاضي القضاة - عن ذلك فقال: إن الخبر الذي احتج به أبو بكر
- يعنى قوله (نحن معاشر الأنبياء لا نورث) - لم يقتصر على روايته هو وحده حتى
استشهد عليه عمر وعثمان وطلحة والزبير وسعدا وعبد الرحمن فشهدوا به فكان لا يحل
لأبي بكر وقد صار الامر إليه أن يقسم التركة ميراثا وقد خبر رسول الله صلى الله عليه وآله
بأنها صدقة وليست بميراث وأقل ما في هذا الباب أن يكون الخبر من أخبار الآحاد

(1) الشافي ص 228 وما بعدها.
(2) ا: (موروث).
(3) سورة النساء 11.
237

فلو أن شاهدين شهدا في التركة أن فيها حقا أليس كان يجب أن يصرف ذلك عن الإرث!
فعلمه بما قال رسول الله صلى الله عليه وآله مع شهادة غيره أقوى ولسنا نجعله مدعيا
لأنه لم يدع ذلك لنفسه وإنما بين أنه ليس بميراث وأنه صدقة ولا يمتنع تخصيص
القرآن بذلك كما يخص في العبد والقاتل وغيرهما وليس ذلك بنقص في الأنبياء بل هو
إجلال لهم يرفع الله به قدرهم عن أن يورثوا المال وصار ذلك من أوكد الدواعي
ألا يتشاغلوا بجمعه لان أحد الدواعي القوية إلى ذلك تركه على الأولاد والأهلين
ولما سمعت فاطمة عليه السلام ذلك من أبى بكر كفت عن الطلب فيما ثبت من الأخبار الصحيحة
فلا يمتنع أن تكون غير عارفة بذلك فطلبت الإرث فلما روى لها ما روى كفت فأصابت أولا وأصابت ثانيا.
وليس لأحد أن يقول كيف يجوز أن يبين النبي صلى الله عليه وآله ذلك للقوم
ولا حق لهم في الإرث ويدع أن يبين ذلك لمن له حق في الإرث مع أن التكليف
يتصل به وذلك لان التكليف في ذلك يتعلق بالامام فإذا بين له جاز ألا يبين لغيره
ويصير البيان له بيانا لغيره وأن لم يسمعه من الرسول لان هذا الجنس من البيان يجب
أن يكون بحسب المصلحة.
قال: ثم حكى عن أبي على أنه قال: أتعلمون كذب أبى بكر في هذه الرواية
أم تجوزون أن يكون صادقا (1)؟ قال: وقد علم أنه لا شئ يقطع به على كذبه فلا بد
من تجويز كونه صادقا وإذا صح ذلك قيل لهم: فهل كان يحل له مخالفة الرسول؟
فإن قالوا: لو كان صدقا لظهر واشتهر قيل لهم: إن ذلك من باب العمل ولا يمتنع أن
ينفرد بروايته جماعة يسيرة بل الواحد والاثنان مثل سائر الأحكام ومثل الشهادات
فإن قالوا نعلم أنه لا يصح لقوله تعالى في كتابه: (وورث سليمان داود) (2). قيل لهم:

(1) الشافي: (أم تجوزون كذبه وصدقه).
(2) سورة النمل 16.
238

ومن أين أنه ورثه الأموال مع تجويز أن يكون ورثه العلم والحكمة؟ فإن قالوا: إطلاق
الميراث لا يكون إلا في الأموال قيل لهم: إن كتاب الله يبطل قولكم لأنه قال: (ثم
أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) (1) والكتاب ليس بمال ويقال في اللغة:
ما ورثت الأبناء عن الاباء شيئا أفضل من أدب حسن وقالوا: العلماء ورثة الأنبياء وإنما
ورثوا منهم العلم دون المال على أن في آخر الآية ما يدل على ما قلناه وهو
قوله تعالى حاكيا عنه: (وقال يا أيها الناس علمنا أمنطق الطير وأوتينا من كل شئ
أن هذا لهو الفضل المبين) (2) فنبه على أن الذي ورث هو هذا العلم وهذا الفضل وإلا لم
يكن لهذا القول تعلق بالأول. فإن قالوا: فقد قال تعالى: (فهب لي من لدنك وليا
يرثني ويرث من آل يعقوب) (3) وذلك يبطل الخبر! قيل لهم ليس في ذلك بيان المال
أيضا وفي الآية ما يدل على أن المراد النبوة والعلم لان زكريا خاف على العلم أن يندرس
وقوله: (وإني خفت الموالى من ورائي) يدل على ذلك لان الأنبياء لا تحرص
على الأموال حرصا يتعلق خوفها بها وإنما أراد خوفه على العلم أن يضيع فسأل الله
تعالى وليا يقوم بالدين مقامه. وقوله: (ويرث من آل يعقوب) يدل على أن المراد العلم
والحكمة لأنه لا يرث أموال يعقوب في الحقيقة (4) وإنما يرث ذلك غيره
قال: فأما من يقول: إن المراد: أنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة، أي
ما جعلناه صدقة في حال حياتنا لا نورثه فركيك من القول لان إجماع الصحابة
يخالفه لان أحدا لم يتأوله على هذا الوجه لأنه لا يكون في ذلك تخصيص الأنبياء ولا
مزية لهم ولأن قوله: (ما تركناه صدقة) جملة من الكلام مستقلة بنفسها كأنه

(1) سورة فاطر 32.
(2) سورة النمل 16.
(3) سورة مريم 5، 6.
(4) ب: (الحقيقة) تحريف صوابه من ا والشافي.
239

ع مع بيانه أنهم لا يورثون المال يبين أنه صدقه لأنه كان يجوز ألا يكون
ميراثا ويصرف إلى وجه آخر غير الصدقة.
قال: فأما خبر السيف والبغلة والعمامة وغير ذلك فقد قال: أبو علي: إنه لم يثبت أن
أبا بكر دفع ذلك إلى أمير المؤمنين عليه السلام على جهة الإرث كيف يجوز ذلك مع الخبر
الذي رواه وكيف يجوز لو كان وارثا أن يخصه بذلك ولا إرث له مع العم لأنه عصبة! فإن كان وصل إلى فاطمة عليه السلام فقد كان ينبغي أن يكون العباس شريكا في ذلك وأزواج
الرسول الله صلى الله عليه وآله ولوجب أن يكون ذلك ظاهرا مشهورا ليعرف أنهم أخذوا
نصيبهم من ذلك أو بدله ولا يجب إذا لم يدفع أبو بكر ذلك إليه على جهة الإرث ألا يحصل
ذلك في يده لأنه قد يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله نحله ذلك ويجوز أيضا أن
يكون أبو بكر رأى الصلاح في ذلك أن يكون بيده لما فيه من تقويه الدين وتصدق ببدله
بعد التقويم لان الامام له أن يفعل ذلك.
قال: وحكى عن أبي على في البرد والقضيب أنه لم يمتنع أن يكون جعله عدة في سبيل الله وتقوية على المشركين فتداولته الأئمة لما فيه من التقوية ورأي أن ذلك أولى من أن
يتصدق به إن ثبت (1) أنه عليه السلام لم يكن قد نحله غيره في حياته ثم عارض نفسه
بطلب أزواج النبي صلى الله عليه وآله الميراث وتنازع أمير المؤمنين ع والعباس
بعد موت فاطمة عليه السلام وأجاب عن ذلك بأن قال: يجوز أن يكونوا لم يعرفوا رواية
أبى بكر وغيره للخبر.
وقد روى أن عائشة لما عرفتهن الخبر أمسكن وقد بينا أنه لا يمتنع في مثل ذلك أن
يخفى على من يستحق الإرث ويعرفه من يتقلد الامر كما يعرف العلماء والحكام من
أحكام المواريث ما لا يعلمه أرباب الإرث وقد بينا أن رواية أبى بكر مع الجماعة

(1) الشافي: (أن يثبت).
240

أقوى من شاهدين لو شهد أن بعض تركته عليه السلام دين وهو أقوى من رواية سلمان
وابن مسعود لو رويا ذلك.
قال: ومتى تعلقوا بعموم القرآن أريناهم جواز التخصيص بهذا الخبر كما أن عموم
القرآن يقتضى كون الصدقات للفقراء وقد ثبت أن آل محمد لا تحل لهم الصدقة.
هذا آخر ما حكاه المرتضى من كلام قاضي القضاة (1).
ثم قال: نحن نبين أولا ما يدل على أنه صلى الله عليه وآله يورث المال ونرتب الكلام
في ذلك الترتيب الصحيح ثم نعطف على ما أورده ونتكلم عليه.
قال رضي الله عنه: والذي يدل على ما ذكرنا قوله تعالى مخبرا عن زكريا عليه السلام
: (وإني خفت الموالى من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك
وليا * يرثني ويرث من آل يعقوب وأجعله رب رضيا) (2) فخبر أنه خاف من بنى
عمه لان الموالى هاهنا هم بنو العم بلا شبهة وإنما خافهم أن يرثوا ماله فينفقوه في الفساد
لأنه كان يعرف ذلك من خلائقهم وطرائقهم فسأل ربه ولدا يكون أحق بميراثه منهم
والذي يدل على أن المراد بالميراث المذكور ميراث المال دون العلم والنبوة على ما يقولون
أن لفظة الميراث في اللغة والشريعة لا يفيد (3) إطلاقها إلا على ما يجوز أن ينتقل على الحقيقة من
الموروث إلى الوارث كالأموال وما في معناها ولا يستعمل في غير المال الا تجوزا واتساعا
ولهذا لا يفهم من قول القائل: لا وارث لفلان إلا فلان وفلان يرث مع فلان
بالظاهر والاطلاق إلا ميراث الأموال والاعراض دون العلوم وغيرها. وليس لنا أن
نعدل عن ظاهر الكلام وحقيقته إلى مجازه بغير دلالة. وأيضا فإنه تعالى خبر عن نبيه أنه
اشترط في وارثه أن يكون رضيا ومتى لم يحمل الميراث في الآية على المال دون العلم

(1) الشافي 228، 229.
(2) سورة مريم 5، 6.
(3) ا والشافي: (لا يعهد).
241

والنبوة لم يكن للاشتراط معنى وكان لغوا وعبثا لأنه إذا كان إنما سأل من يقوم مقامه
ويرث مكانه فقد دخل الرضا وما هو أعظم من الرضا في جملة كلامه وسؤاله، فلا مقتضى
لاشتراطه ألا ترى أنه لا يحسن أن يقول: اللهم أبعث إلينا نبيا واجعله عاقلا (ومكلفا) (1)
فإذا ثبتت هذه الجملة صح أن زكريا موروث ماله. وصح أيضا لصحتها أن نبينا صلى الله عليه وآله
ممن يورث المال لان الاجماع واقع على أن حال نبينا ع لا يخالف
حال الأنبياء المتقدمين في ميراث المال فمن مثبت للامرين وناف للامرين (2).
قلت: إن شيخنا أبا الحسين قال في كتاب،، الغرر،، صورة الخبر الوارد في هذا
الباب وهو الذي رواه أبو بكر (لا نورث)، ولم يقل: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث)،
فلا يلزم من كون زكريا يورث الطعن في الخبر. وتصفحت أنا كتب الصحاح في الحديث
فوجدت صيغة الخبر كما قاله أبو الحسين وإن كان رسول الله صلى الله عليه وآله عنى نفسه
خاصه بذلك فقد سقط احتجاج الشيعة بقصة زكريا وغيره من الأنبياء إلا أنه
يبعد عندي أن يكون أراد نفسه خاصة لأنه لم تجر عادته أن يخبر عن نفسه في
شئ بالنون.
فإن قلت: أيصح من المرتضى أن يوافق على أن صورة الخبر هكذا ثم يحتج
بقصة زكريا بأن يقول: إذا ثبت أن زكريا موروث ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وآله
يجوز أن يكون موروثا لاجماع الأمة على أن لا فرق بين الأنبياء كلهم في
هذا الحكم!
قلت: وأن ثبت له هذا الاجماع صح احتجاجه ولكن ثبوته يبعد لان من
نفى كون زكريا عليه السلام موروثا من الأمة أنما نفاه لاعتقاده أن رسول الله صلى الله عليه وآله
قال: (نحن معاشر الأنبياء) فإذا كان لم يقل هكذا لم يقل: إن زكريا عليه السلام
غير موروث.

(1) من الشافي.
(2) الشافي 229.
242

قال المرتضى: ومما يقوى ما قدمناه أن زكريا عليه السلام خاف بنى عمه فطلب
وارثا لأجل ولا يليق خوفه منهم إلا بالمال دون العلم والنبوة لأنه عليه السلام كان
أعلم بالله تعالى من أن يخاف أن يبعث نبيا ليس بأهل للنبوة وأن يورث علمه وكمه
من ليس أهلا لهما ولأنه إنما بعث لإذاعة العلم ونشره في الناس فلا يجوز أن يخاف من
الامر الذي هو الغرض في البعثة (1). فإن (2) قيل: هذا يرجع عليكم في الخوف عن أرث المال
لان ذلك غاية الضن والبخل. قلنا: معاذ الله أن يستوي الحال لان المال قد يصح أن
يرزقه الله تعالى المؤمن والكافر والعدو والولي ولا يصح ذلك في النبوة وعلومها.
وليس من الضن أن يأسى على بنى عمه - وهم من أهل الفساد - أن يظفروا بماله فينفقوه على المعاصي ويصرفوه في غير وجوهه المحبوبة بل ذلك غاية الحكمة وحسن التدبير في
الدين لان الدين يحظر تقوية الفساق وإمدادهم بما يعينهم على أفلا طرائقهم المذمومة
وما يعد ذلك شحا ولا بخلا الا من لا تأمل له.
فإن قيل: أفلا (3) جاز أن يكون خاف من بنى عمه أن يرثوا علمه وهم من أهل الفساد
على ما ادعيتم فيستفسدوا به الناس ويموهوا به عليهم؟ قلنا: لا يخلو هذا العلم الذي
أشرتم إليه من أن يكون هو كتب علمه وصحف حكمته لان ذلك قد يسمى علما على
طريق المجاز أو يكون هو العلم الذي يحل القلب. فإن كان الأول فهو يرجع إلى معنى
المال ويصحح أن الأنبياء يورثون أموالهم وما في معناها وإن كان الثاني لم يخل هذا
من أن يكون هو العلم الذي بعث النبي لنشره وأدائه أو أن يكون علما مخصوصا
لا يتعلق بالشريعة ولا يجب اطلاع جميع الأمة عليه كعلم العواقب وما يجرى في
مستقبل الأوقات وما جرى مجرى ذلك. والقسم الأول لا يجوز على النبي أن يخاف
من وصوله إلى بنى عمه وهم من جمله أمته الذين بعث لاطلاعهم على ذلك وتأديته إليهم
وكأنه على هذا الوجه يخاف مما هو الغرض من بعثته. والقسم الثاني فاسد أيضا لان

(1) ا والشافي: (بعثته).
(2) د: (قال فإن قيل).
(3) ا، د: (فألا).
243

هذا العلم المخصوص إنما يستفاد من جهته ويوقف عليه باطلاعه وإعلامه وليس هو
مما يجب نشره في جميع الناس فقد كان يجب إذا خاف من إلقائه إلى بعض الناس فسادا
ألا يلقيه إليه فإن ذلك في يده ولا يحتاج إلى أكثر من ذلك (1).
قلت: لعاكس أن يعكس هذا على المرتضى رحمه الله حينئذ ويقول له: وقد كان
يجب إذا خاف من أن يرث بنو عمه أمواله فينفقوها في الفساد أن يتصدق بها على الفقراء
والمساكين فإن ذلك في يده فيحصل له ثواب الصدقة ويحصل له غرضه من حرمان
أولئك المفسدين ميراثه.
قال المرتضى رضي الله عنه: ومما يدل على أن الأنبياء يورثون قوله تعالى: (وورث
سليمان داود) (2) والظاهر من إطلاق لفظة (الميراث) يقتضى الأموال وما في معناها
ما دللنا به من قبل.
قال: ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل
حظ الأنثيين...) (3) الآية وقد أجمعت الأمة على عموم هذه اللفظة إلا من أخرجه
الدليل فيجب أن يتمسك بعمومها لمكان هذه الدلالة ولا يخرج عن حكمها إلا من
أخرجه دليل قاطع (1).
قلت: أما قوله تعالى: (وورث سليمان داود) فظاهرها يقتضى وراثة النبوة أو الملك
أو العلم الذي قال في أول الآية: (ولقد آتينا داود وسليمان علما...) لأنه لا معنى لذكر
ميراث سليمان المال فإن غيره من أولاد داود قد ورث أيضا أباه داود وفى كتب اليهود
والنصارى أن بنى داود كانوا تسعه عشر وقد قال بعض المسلمين أيضا ذلك فأي معنى
في تخصيص سليمان بالذكر إذا كان أرث المال! وأما: (يوصيكم الله في أولادكم)
فالبحث في تخصيص ذلك بالخبر فرع من فروع مسألة خبر الواحد هل هو حجه في

(1) الشافي 229، 230.
(2) سورة النمل 16.
(3) سورة النساء 11.
244

الشرعيات أم لا! فإن ثبت مذهب المرتضى في كونه ليس بحجة فكلامه هنا جيد وإن
لم يثبت فلا مانع من تخصيص العموم بالخبر فإن الصحابة قد خصصت عمومات (1)
الكتاب بالاخبار في مواضع كثيره.
* * *
قال المرتضى: وأما تعلق صاحب الكتاب بالخبر الذي رواه أبو بكر وادعاؤه أنه أستشهد
عمر وعثمان وفلانا وفلانا فأول ما فيه أن الذي ادعاه من الاستشهاد غير معروف والذي
روى أن عمر أستشهد هؤلاء النفر لما تنازع (2) أمير المؤمنين عليه السلام والعباس رضي الله عنه
في الميراث فشهدوا بالخبر المتضمن لنفى الميراث وإنما مقول مخالفينا في صحة
الخبر الذي رواه أبو بكر عند مطالبة فاطمة عليه السلام بالإرث على مساك الأمة عن
النكير عليه والرد لقضيته (3).
قلت: صدق المرتضى رحمه الله فيما قال أما عقيب وفاة النبي صلى الله عليه وآله ومطالبة
فاطمة عليه السلام بالإرث فلم يرو الخبر إلا أبو بكر وحده وقيل: أنه رواه معه مالك بن
أوس بن الحدثان وأما المهاجرون الذين ذكرهم قاضي القضاة فإنما شهدوا بالخبر في خلافة
عمر وقد تقدم ذكر ذلك.
* * *
قال المرتضى: ثم لو سلمنا استشهاد من ذكر على الخبر لم يكن فيه حجه لان الخبر على
كل حال لا يخرج من أن يكون غير موجب للعلم وهو في حكم أخبار الآحاد وليس يجوز
أن يرجع عن ظاهر القرآن بما يجرى هذا المجرى لان المعلوم لا يخص إلا بمعلوم وإذا
كانت دلالة الظاهر معلومة لم يجز أن يخرج عنها بأمر مظنون.
قال: وهذا الكلام مبنى على أن التخصيص للكتاب والسنة المقطوع بها لا يقع

(1) ا، د: (عموم).
(2) ا والشافي: (نازع).
(3) الشافي 230.
245

بأخبار الآحاد وهو المذهب الصحيح. وقد أشرنا إلى ما يمكن أن يعتمد في الدلالة عليه من
أن الظن لا يقابل العلم ولا يرجع عن المعلوم بالمظنون. قال: وليس لهم أن يقولوا:
إن التخصيص بأخبار الآحاد يستند أيضا إلى علم وأن كان الطريق مظنونا ويشيروا إلى
ما يدعونه من الدلالة على وجوب العمل بخبر الواحد في الشريعة وأنه حجة لان ذلك
مبنى من قولهم على ما لا نسلمه وقد دل الدليل على فساده - أعني قولهم: خبر الواحد حجة
في الشرع - على أنهم لو سلم لهم ذلك لاحتاجوا إلى دليل مستأنف على أنه يقبل في تخصيص
القرآن لان ما دل على العمل به في الجملة لا يتناول هذا الموضع كما لا يتناول
جواز النسخ به (1).
قلت: أما قول المرتضى: لو سلمنا أن هؤلاء المهاجرين الستة رووه لما خرج عن
كونه خبرا واحدا ولما جاز أن يرجع عن عموم الكتاب به لأنه معلوم
والخبر مظنون.
ولقائل أن يقول: ليته حصل في كل واحد من آيات القرآن رواية مثل هذه الستة
حيث جمع القرآن على عهد عثمان ومن قبله من الخلفاء فإنهم بدون هذا العدد كانوا يعملون
في إثبات الآية في المصحف بل كانوا يحلفون من أتاهم بالآية ومن نظر في كتب التواريخ
عرف ذلك فإن كان هذا العدد إنما يفيد الظن فالقول في آيات الكتاب كذلك
وأن كانت آيات الكتاب أثبتت عن علم مستفاد من رواية هذا العدد ونحوه
فالخبر مثل ذلك.
فأما مذهب المرتضى في خبر الواحد فإنه قول أنفرد (2) به عن سائر الشيعة لان من قبله
من فقهائهم ما عولوا في الفقه إلا على أخبار الآحاد كزرارة ويونس وأبى بصير وابني
بابويه والحلبي وأبى جعفر القمي وغيرهم ثم من كان في عصر المرتضى منهم

(1) الشافي 230.
(2) د: (تفرد).
246

كأبي جعفر الطوسي وغيره وقد تكلمت في،، اعتبار الذريعة،، على ما اعتمد عليه
في هذه المسألة وأما تخصيص الكتاب بخبر الواحد فالظاهر أنه إذا صح كون خبر الواحد
حجة في الشرع جاز تخصيص الكتاب به وهذا من فن أصول الفقه فلا معنى
لذكره هنا.
قال المرتضى رضي الله عنه: وهذا يسقط قول صاحب الكتاب: إن الشاهدين
لو شهدا أن في التركة حقا لكان يجب أن ينصرف (1) عن الإرث وذلك لان الشهادة
وإن كانت مظنونة فالعمل بها يستند (2) إلى علم لان الشريعة قد قررت العمل بالشهادة
ولم تقرر العمل بخبر الواحد وليس له أن يقيس خبر الواحد على الشهادة من حيث اجتمعا
في غلبة الظن لأنا لا نعمل على الشهادة من حيث غلبة الظن دون ما ذكرناه من تقرير
الشريعة العمل بها ألا ترى أنا قد نظن بصدق الفاسق والمرأة والصبي وكثير ممن
لا يجوز العمل بقوله! فبان أن المعول في هذا على المصلحة التي نستفيدها على طريق الجملة
من دليل الشرع.
قال: وأبو بكر في حكم المدعى لنفسه والجار إليها بخلاف ما ظنه صاحب الكتاب
وكذلك من شهد له إن كانت هناك شهادة (3) وذلك أن أبا بكر وسائر المسلمين
سوى أهل بيت الرسول صلى الله عليه وآله يحل لهم الصدقة ويجوز أن يصيبوا فيها
وهذه تهمة في الحكم والشهادة.
قال: وليس له أن يقول: فهذا يقتضى ألا يقبل شهادة شاهدين في تركة فيها صدقة
لمثل ما ذكرتم.

(1) ا، د: (يصرف).
(2) الشافي: (استند).
(3) بعدها في الشافي: (قد وجدت).
247

قال: وذلك لان الشاهدين إذا شهدا في الصدقة (1) فحظهما منها كحظ صاحب الميراث
بل سائر المسلمين وليس كذلك حال تركة الرسول لان كونها صدقة يحرمها على ورثته
ويبيحها لسائر المسلمين (2).
: قلت هذا فرق غير مؤثر اللهم إلا أن يعنى به تهمة أبى بكر والشهود الستة
في جر النفع إلى أنفسهم يكون أكثر من تهمتهم لو شهدوا على أبي هريرة مثلا أن
ما تركه صدقة لان أهل أبي هريرة يشاركون في القسمة وأهل النبي صلى الله عليه وآله لا
يشاركون الشهود فيما يصيبهم إذ هم لا تحل لهم الصدقة فتكون حصة أبى بكر
والشهود مما تركه رسول الله أكثر من حصتهم مما يتركه أبو هريرة فيكون تطرق التهمة
إلى أبى بكر والشهود أكثر حسب زيادة حصتهم وما وقفت للمرتضى على شئ أطرف
من هذا لان رسول الله صلى الله عليه وآله مات والمسلمون أكثر من خمسين ألف إنسان
لأنه قاد في غزاة تبوك عشرين ألفا ثم وفدت إليه الوفود كلها بعد ذلك فليت شعري
كم مقدار ما يتوفر على أبى بكر وستة نفر معه وهم من جملة خمسين ألفا بين ما إذا كان
بنو هاشم وبنو المطلب - وهم حينئذ عشرة نفر - لا يأخذون حصة وبين ما إذا كانوا
يأخذون أترى أيكون المتوفر على أبى بكر وشهوده من التركة عشر عشر درهم! ما أظن
أنه يبلغ ذلك. وكم مقدار ما يقلل حصص الشهود على أبي هريرة إذا شركهم أهله في التركة
لتكون هذه القلة موجبة رفع التهمة وتلك الزيادة والكثرة موجبة حصول التهمه!
وهذا الكلام لا أرتضيه للمرتضى.
* * *
قال المرتضى رضي الله عنه: وأما قوله: يخص القرآن بالخبر (3) كما خصصناه في العبد
والقاتل فليس بشئ لأنا إنما خصصنا من ذكر بدليل مقطوع عليه معلوم وليس هذا
موجودا في الخبر الذي ادعاه. فأما قوله: وليس ذلك ينقص الأنبياء بل هو إجلال لهم

(1) كذا في ا، د والشافي، وفى ب: (بالصدقة).
(2) الشافي 230.
(3) الشافي: (بذلك).
248

فمن الذي قال له: إن فيه (1) نقصا! وكما أنه لا نقص فيه فلا إجلال فيه ولا فضيلة لان
الداعي وإن كان قد يقوى على جمع المال ليخلف على الورثة فقد يقويه أيضا إرادة صرفه في
وجوه الخير والبر وكلا الامرين يكون داعيا إلى تحصيل المال بل الداعي الذي ذكرناه
أقوى فيما يتعلق بالدين.
قال: وأما قوله: إن فاطمة لما سمعت ذلك كفت عن الطلب فأصابت أولا وأصابت
ثانيا فلعمري إنها كفت عن المنازعة والمشاحة لكنها انصرفت مغضبة متظلمة متألمة
والامر في غضبها وسخطها أظهر من أن يخفى على منصف فقد روى أكثر الرواة
الذين لا يتهمون بتشيع ولا عصبية فيه من كلامها في تلك الحال وبعد انصرافها عن
مقام المنازعة والمطالبة ما يدل على ما ذكرناه من سخطها وغضبها.
أخبرنا أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزباني قال: حدثني محمد بن أحمد الكاتب
قال: حدثنا أحمد بن عبيد بن ناصح النحوي قال: حدثني الزيادي قال: حدثنا الشرقي
بن القطامي عن محمد بن إسحاق قال: حدثنا صالح بن كيسان عن عروة عن عائشة
قالت: لما بلغ فاطمة إجماع أبى بكر على منعها فدك لاثت خمارها على رأسها واشتملت
بجلبابها وأقبلت في لمة (2) من حفدتها...
قال المرتضى: وأخبرنا المرزباني قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد المكي قال: حدثنا
أبو العيناء بن القاسم اليماني قال: حدثنا أبن عائشة قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم
أقبلت فاطمة إلى أبى بكر في لمة من حفدتها. ثم اجتمعت الروايتان من
هاهنا (3)...
ونساء قومها تطأ ذيولها ما تخرم مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وآله

(1) د. والشافي: (إنه نقص).
(2) اللمة، بالضم والتشديد: الرفقة والجماعة.
(3) الشافي: (اتفقا من ها هنا).
249

حتى دخلت على أبى بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم فنيطت (1) دونها
ملاءة ثم أنت أنه أجهش لها القوم بالبكاء وارتج المجلس ثم أمهلت هنيهة حتى إذا
سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم افتتحت كلامها بالحمد لله عز وجل والثناء عليه
والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله ثم قالت: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم
عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم (2)) فإن تعزوه
تجدوه أبى دون آبائكم وأخا أبن عمى دون رجالكم فبلغ الرسالة صادعا بالنذارة (3)
مائلا عن سنن المشركين ضاربا ثبجهم يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة
آخذا بأكظام (4) المشركين يهشم الأصنام ويفلق الهام حتى انهزم الجمع وولوا
الدبر، وحتى تفرى (5) الليل عن صبحه وأسفر الحق عن محضه ونطق زعيم الدين
وخرست شقائق الشياطين وتمت كلمة الاخلاص وكنتم على شفا حفرة من النار
نهزة الطامع ومذقة الشارب وقبسة العجلان وموطأ الاقدام تشربون الطرق (6)
وتقتاتون القد. أذلة خاسئين يختطفكم الناس من حولكم حتى أنقذكم الله برسوله
صلى الله عليه وآله بعد اللتيا والتي وبعد أن منى بهم الرجال وذؤبان العرب ومردة
أهل الكتاب و (كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله (7)) أو نجم قرن الشيطان
أو فغرت فاغرة (8) قذف أخاه في لهواتها. ولا ينكفي (9) حتى يطأ صماخها بأخمصه ويطفئ
عادية لهبها بسيفه - أو قالت: يخمد لهبها بحده - مكدودا في ذات الله وأنتم في رفاهية
فكهون آمنون وادعون.

(1) نيطت: أي وصلت وعلقت.
(2) سورة التوبة 128.
(3) د: (صادرا بالتذكرة).
(4) الأكظام: جمع كظم، بالتحريك، وهو مخرج النفس من الحلق.
(5) تفرى: أنشق.
(6) الطرق: الماء الذي بالت الإبل فيه
(7) سورة المائدة 64.
(8) فغرت فاغرة: أي فتحت فاها.
(9) د: (فلا تكفى).
250

إلى هنا انتهى خبر أبي العيناء عن ابن عائشة. وأما عروة عن عائشة فزاد بعد هذا: حتى
إذا أختار الله لنبيه دار أنبيائه ظهرت حسيكة النفاق وشمل جلباب الدين ونطق كاظم
الغاوين ونبغ خامل الآفكين وهدر فنيق المبطلين فخطر في عرصاتكم وأطلع
الشيطان رأسه صارخا بكم فدعاكم فألفاكم لدعوته مستجيبين ولقربه متلاحظين. ثم
استنهضكم فوجدكم خفافا وأحمشكم فألفاكم غضابا فوسمتم غير إبلكم ووردتم غير
شربكم هذا والعهد قريب والكلم رحيب (1) والجرح لما يندمل إنما زعمتم ذلك خوف
الفتنة (ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) (2) فهيهات! وأنى بكم
وأنى تؤفكون وكتاب الله بين أظهركم زواجره بينة وشواهده لائحة وأوامره
واضحة. أرغبة عنه تريدون أم لغيره تحكمون. بئس للظالمين بدلا! ومن يتبع غير الاسلام
دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين. ثم لم تلبثوا إلا ريث أن تسكن نفرتها
تسرون حسوا في ارتغاء ونحن نصبر منكم على مثل حز المدى وأنتم الان تزعمون أن لا
أرث لنا (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون (3)).
يا بن أبي قحافة أترث أباك ولا أرث أبى لقد جئت شيئا فريا! فدونكها مخطومة
مرحولة تلقاك يوم حشرك فنعم الحكم الله والزعيم محمد والموعد القيامة وعند
الساعة يخسر المبطلون! ثم انكفأت إلى قبر أبيها عليه السلام فقالت:
قد كان بعدك أنباء وهنبثة لو * كنت شاهدها لم تكثر الخطب
إذا فقدناك فقد الأرض وابلها * واختل قومك فاشهدهم ولا تغب.
وروى حرمي بن أبي العلاء مع هذين البيتين بيتا ثالثا:
فليت بعدك كان الموت صادفنا * لما قضيت وحالت دونك الكتب

(1) رحب: أي واسع.
(2) سورة التوبة 49.
(3) سورة المائدة 50.
251

قال: فحمد أبو بكر الله وأثنى عليه وصلى على رسوله صلى الله عليه وسلم وقال يا خير (1)
النساء وابنه خير الاباء (2) والله ما عدوت رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا
عملت الا بإذنه وإن الرائد لا يكذب أهله وإني أشهد الله وكفى بالله شهيدا أنى سمعت
رسول الله يقول (إنا معاشر الأنبياء لا نورث ذهبا ولا فضه ولا دارا ولا عقارا
وإنما نورث الكتاب والحكمة والعلم والنبوة).
قال: فلما وصل الامر إلى علي بن أبي طالب عليه السلام كلم في رد فدك فقال: إني
لأستحي من الله أن أرد شيئا منع منه أبو بكر وأمضاه عمر (3).
* * *
قال المرتضى: وأخبرنا أبو عبد الله المرزباني: قال: حدثني علي بن هارون قال:
أخبرني عبيد الله بن أحمد بن أبي طاهر عن أبيه قال: ذكرت لأبي الحسين زيد بن علي
بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام كلام فاطمة عليه السلام عند منع أبى بكر
إياها فدك وقلت له: إن هؤلاء يزعمون أنه مصنوع وأنه من كلام أبى العيناء لان
الكلام منسوق البلاغة فقال لي: رأيت مشايخ آل أبي طالب يروونه عن آبائهم ويعلمونه
أولادهم وقد حدثني به أبى عن (4 جدي يبلغ به فاطمة عليه السلام 4) على هذه الحكاية
وقد رواه مشايخ الشيعة وتدارسوه قبل أن يوجد جد أبى العيناء وقد حدث الحسين بن
علوان عن عطية العوفي أنه سمع عبد الله بن الحسن بن الحسن يذكر (5) عن أبيه هذا
الكلام.
ثم قال أبو الحسن زيد: وكيف (6) تنكرون هذا من كلام فاطمة عليه السلام وهم

(1) ا، د: (يا خيرة).
(2) الشافي: (الأنبياء).
(3) الشافي 230.
(4 - 4) ساقط من د.
(5) الشافي، د: (ذكر).
(6) د: (كيف).
252

يروون من كلام عائشة عند موت أبيها ما هو أعجب من كلام فاطمة عليه السلام ويحققونه
لولا عداوتهم لنا أهل البيت. ثم ذكر الحديث بطوله على نسقه وزاد في الأبيات بعد
البيتين الأولين:
ضاقت على بلادي بعد ما رحبت * وسم سبطاك خسفا فيه لي نصب
فليت قبلك كان الموت صادفنا * قوم تمنوا فأعطوا كل ما طلبوا
تجهمتنا رجال واستخف بنا * مذ غبت عنا وكل الإرث قد غصبوا.
قال: فما رأينا يوما أكثر باكيا أو باكية من ذلك اليوم.
قال المرتضى: وقد روى هذا الكلام على هذا الوجه من طرق مختلفة ووجوه كثيرة
فمن أرادها أخذها من مواضعها فكيف يدعى أنها عليه السلام كفت راضية وأمسكت
قانعة لولا البهت وقلة الحياء (1)!
قلت: ليس في هذا الخبر ما يدل على فساد ما ادعاه قاضي القضاة لأنه أدعى أنها
نازعت وخاصمت ثم كفت لما سمعت الرواية وانصرفت تاركه للنزاع راضية بموجب
الخبر المروى. وما ذكره المرتضى من هذا الكلام لا يدل إلا على سخطها حال
حضورها ولا يدل على أنها بعد رواية الخبر وبعد أن أقسم لها أبو بكر بالله تعالى أنه
ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله إلا ما سمعه منه، انصرفت ساخطة ولا في الحديث
المذكور والكلام المروى ما يدل على ذلك ولست أعتقد أنها انصرفت راضية كما
قال قاضي القضاة بل أعلم أنها انصرفت ساخطة وماتت وهي على أبى بكر واجدة
ولكن لا من هذا الخبر بل من أخبار أخر كان الأولى بالمرتضى أن يحتج بها على

(1) الشافي 231.
253

ما يرويه في انصرافها ساخطة وموتها على ذلك السخط وأما هذا الخبر وهذا الكلام
فلا يدل على هذا المطلوب.
قال المرتضى رحمه الله: فأما قوله: إنه يجوز أن يبين ع أنه لا حق لميراثه في
ورثته لغير الورثة ولا يمتنع أن يرد من جهة الآحاد لأنه من باب العمل وكل (1) هذا
بناء منه على أصوله الفاسدة في أن خبر الواحد حجة في الشرع وأن العمل به واجب
ودون صحة ذلك خرط القتاد. وإنما يجوز أن يبين من جهة أخرى (2) إذا تساويا في الحجة
ووقوع العمل فأما مع تباينهما فلا يجوز التخيير فيهما وإذا كان ورثة النبي صلى الله عليه وسلم
متعبدين بألا يرثوه فلا بد من إزاحة علتهم في هذه العبادة بأن يوقفهم على
الحكم ويشافههم به ويلقيه إلى من يقيم الحجة عليهم بنقله وكل ذلك لم يكن.
فأما قوله: أتجوزون صدقه في الرواية أم لا تجوزون ذلك؟ فالجواب إنا لا نجوزه
لان كتاب الله أصدق منه وهو يدفع روايته ويبطلها. فأما اعتراضه على قولنا: إن
إطلاق الميراث لا يكون إلا في الأموال بقوله تعالى: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا
من عبادنا) (3) وقولهم: ما ورثت الأبناء من الاباء شيئا أفضل من أدب حسن وقولهم:
العلماء ورثة الأنبياء فعجيب لان كل ما ذكر مقيد غير مطلق وإنما قلنا أن مطلق لفظ
الميراث من غير قرينة ولا تقييد يفيد بظاهره ميراث الأموال فبعد ما ذكره وعارض به لا يخفى
على متأمل.
فأما استدلاله على أن سليمان ورث داود علمه دون ماله بقوله: (يا أيها الناس علمنا
منطق الطير وأوتينا من كل شئ إن هذا لهو الفضل المبين) (4) وأن المراد أنه

(1) الشافي: (فكل).
(2) الشافي: (من جهة دون جهة).
(3) سورة فاطر 32.
(4) سورة النمل 16.
254

ورث العلم والفضل وإلا لم يكن لهذا القول تعلق بالأول فليس بشئ يعول عليه لأنه
لا يمتنع أن يريد به أنه ورث المال بالظاهر والعلم بهذا المعنى من الاستدلال فليس يجب
إذا دلت الدلالة في بعض الألفاظ على معنى المجاز أن يقتصر (1) بها عليه بل يجب أن يحملها
على الحقيقة التي هي الأصل إذا لم يمنع من ذلك مانع على أنه لا يمتنع أن يريد ميراث المال
خاصة ثم يقول مع ذلك: (إنا علمنا منطق الطير) ويشير (الفضل المبين) إلى العلم
والمال جميعا فله بالامرين جميعا فضل على من لم يكن عليهما وقوله: (وأوتينا من كل
شئ) يحتمل المال كما يحتمل العلم فليس بخالص ما ظنه.
فأما قوله في قصة زكريا: إنه خاف على العلم أن يندرس لان الأنبياء وإن كانوا
لا يحرصون على الأموال وأنما خاف أن يضيع العلم فسأل الله تعالى وليا يقوم بالدين
مقامه فقد بينا أن الأنبياء وإن كانوا لا يحرصون على الأموال ولا يبخلون بها فإنهم
يجتهدون في منع المفسدين من الانتفاع بها على الفساد ولا يعد ذلك بخلا ولا حرصا (2)
بل فضلا ودينا وليس يجوز من زكريا أن يخاف على العلم الاندراس والضياع لأنه
يعلم أن حكمة الله تعالى تقتضي حفظ العلم الذي هو الحجة على العباد وبه تنزاح عللهم في
مصالحهم فكيف يخاف مالا يخاف من مثله!
فإن قيل: فهبوا أن الامر كما ذكرتم من أن زكريا كان يأمن على العلم أن يندرس
أليس لابد أن يكون مجوزا أن (3) يحفظه الله تعالى بمن هو من أهله وأقاربه كما يجوز حفظه بغريب أجنبي! فما أنكرتم أن يكون خوفه إنما كان من بنى عمه ألا يتعلموا العلم ولا يقوموا
فيه مقامه فسأل الله ولدا يجمع فيه هذه العلوم حتى لا يخرج العلم عن بيته ويتعدى إلى
غير قومه فيلحقه بذلك وصمة!

(1) ا، الشافي: (يقتصرها)
(2) ب: (بخلا وحرصا).
(3) الشافي (لان).
255

قلنا: أما إذا رتب السؤال هذا الترتيب فالجواب عنه ما أجبنا به صاحب الكتاب
وهو أن الخوف الذي أشاروا إليه ليس من ضرر ديني وإنما هو من ضرر دنياوي
والأنبياء إنما بعثوا لتحمل المضار الدنياوية ومنازلهم في الثواب إنما زادت على كل
المنازل لهذا الوجه ومن كانت حاله هذه الحال فالظاهر من خوفه إذا لم يعلم وجهه بعينه
أن يكون محمولا على مضار الدين لأنها هي جهة خوفهم والغرض في بعثهم تحمل ما
سواها من المضار فإذا قال النبي صلى الله عليه: (أنا خائف) فلم يعلم جهة خوفه على
التفصيل يجب أن يصرف خوفه بالظاهر إلى مضار الدين دون الدنيا لان أحوالهم
وبعثهم (1) يقتضى ذلك فإذا كنا لو اعتدنا من بعضنا الزهد في الدنيا وأسبابها والتعفف
عن منافعها والرغبة في الآخرة والتفرد (2) بالعمل لها لكنا نحمل على ما يظهر لنا
من خوفه الذي لا يعلم وجهه بعينه على ما هو أشبه وأليق بحاله ونضيفه إلى الآخرة
دون الدنيا وإذا كان هذا واجبا فيمن ذكرناه فهو في الأنبياء عليه السلام
أوجب (3).
* * *
قلت: ينبغي ألا يقول المعترض: فيلحقه بذلك وصمة فيجعل الخوف من هذه الوصمة
بل يقول: إنه خاف ألا يفلح بنو عمه ولا يتعلموا العلم لما رأى من الامارات الدالة على
ذلك فالخوف على هذا الترتيب يتعلق بأمر ديني لا دنيوي فسأل الله تعالى أن يرزقه ولدا
يرث عنه علمه أي يكون عالما بالدينيات كما أنا عالم بها وهذا السؤال متعلق بأمر ديني
لا دنيوي. وعلى هذا يندفع ما ذكره المرتضى على أنه لا يجوز إطلاق القول بأن الأنبياء
بعثوا لتحمل المضار الدنياوية ولا القول: الغرض في بعثتهم تحمل ما سوى المضار
الدينية من المضار فإنهم ما بعثوا لذلك ولا الغرض في بعثتهم ذلك وإنما بعثوا
لأمر آخر. وقد تحصل المضار في أداء الشرع ضمنا وتبعا لا على أنها الغرض ولا داخلة

(1) الشافي: (بعثهم) (2) د: (والتعود) (3) الشافي 232.
256

في الغرض وعلى أن قول المرتضى: لا يجوز أن يخاف زكريا من تبديل الدين وتغييره
لأنه محفوظ من الله فكيف يخاف ما لا يخاف من مثله غير مستمر على أصوله!
لان المكلفين الان قد حرموا بغيبة الامام عنده ألطافا كثيرة الوصلة بالشرعيات كالحدود
وصلاة الجمعة والأعياد وهو وأصحابه يقولون في ذلك إن اللوم على المكلفين. لأنهم
قد حرموا أنفسهم اللطف فهلا جاز أن يخاف زكريا من تبديل الدين وتغييره
وإفساد الأحكام الشرعية! لأنه إنما يجب على الله تعالى التبليغ بالرسول إلى المكلفين
فإذا أفسدوا هم الأديان وبدلوها لم يجب عليه أن يحفظها عليهم لأنهم هم الذين حرموا
أنفسهم اللطف.
واعلم أنه قد قرئ: (وإني خفت الموالى من ورائي) (1) وقيل: إنها قراءة
زين العابدين وأبنه محمد بن علي الباقر عليه السلام وعثمان بن عفان وفسروه
على وجهين:
أحدهما أن يكون (ورائي) بمعنى خلفي وبعدي أي قلت الموالى وعجزوا عن إقامة
الدين تقول: قد خف بنو فلان أي قل عددهم فسأل زكريا ربه تقويتهم ومظاهرتهم
بولي يرزقه.
وثانيهما أن يكون (ورائي) بمعنى قدامي أي خف الموالى وأنا حي ودرجوا
وانقرضوا ولم يبق منهم من به اعتضاد. وعلى هذه القراءة لا يبقى متعلق بلفظة الخوف.
وقد فسر قوم قوله: (وإني خفت الموالى) أي خفت الذين يلون الامر من
بعدي لان الموالى يستعمل في الوالي وجمعه موال أي خفت أن يلي بعد موتى أمراء
ورؤساء يفسدون شيئا من الدين فارزقني ولدا تنعم عليه بالنبوة والعلم كما أنعمت

(1) انظر الجامع لأحكام القرآن 11: 77.
257

على واجعل الدين محفوظا (به) (1). وهذا التأويل غير منكر وفيه أيضا دفع
لكلام المرتضى.
* * *
قال المرتضى: وأما تعلق صاحب الكتاب في أن الميراث محمول على العلم بقوله:
(ويرث من آل يعقوب) لأنه لا يرث أموال آل يعقوب في الحقيقة وأنما يرث ذلك
غيره فبعيد من الصواب. لان ولد زكريا يرث بالقرابة من آل يعقوب أموالهم على أنه
لم يقل: (يرث آل يعقوب) بل قال: (يرث من آل يعقوب) تنبيها (2) بذلك
على أنه يرث من كان أحق بميراثه في القرابة (4).
فأما طعنه على من تأول الخبر بأنه عليه السلام لا يورث ما تركه للصدقة بقوله:
إن أحدا من الصحابة لم يتأوله على هذا الوجه فهذا التأويل الذي ذكرناه أحد ما قاله
أصحابنا في هذا الخبر فمن أين له إجماع الصحابة على خلافه! وإن أحدا لم يتأوله
على هذا الوجه.
فإن قال: لو كان ذلك لظهر واشتهر ولوقف أبو بكر عليه فقد مضى من الكلام
فيما يمنع من الموافقة على هذا المعنى ما فيه كفاية.
* * *
قلت: لم يكن ذلك اليوم - أعني يوم حضور فاطمة عليه السلام وقولها لأبي بكر
ما قالت - يوم تقية وخوف وكيف يكون يوم تقيه وهي تقول له - وهو الخليفة: يا بن أبي
قحافة أترث أباك ولا أرث أبى! وتقول له أيضا: لقد جئت شيئا فريا! فكان ينبغي
إذا لم يؤثر أمير المؤمنين عليه السلام أن يفسر لأبي بكر معنى الخبر أن يعلم فاطمة عليه السلام

(1) تكملة من د.
(2) د: (منها).
(3) ا، د: (يورث).
(4) الشافي 232.
258

تفسيره فتقول لأبي بكر: أنت غالط فيما ظننت إنما قال أبى: ما تركناه صدقة
فإنه لا يورث.
واعلم أن هذا التأويل كاد يكون مدفوعا بالضرورة لان من نظر في الأحاديث التي
ذكرناها وما جرت عليه الحال يعلم بطلانه علما قطعيا.
* * *
قال المرتضى: وقوله إنه لا يكون إذ ذلك تخصيص للأنبياء ولا مزية: ليس
بصحيح وقد قيل في الجواب عن هذا أن النبي صلى الله عليه وآله يجوز أن يريد أن
ما ننوي فيه الصدقة ونفرده لها من غير أن نخرجه عن أيدينا لا تناله ورثتنا. وهذا
تخصيص للأنبياء ومزية ظاهرة (1).
قلت: هذه مخالفة لظاهر الكلام وإحالة اللفظ (2) عن وضعه وبين قوله: ما ننوي
فيه الصدقة وهو بعد في ملكنا ليس بموروث. وقوله: ما نخلفه صدقة ليس بموروث فرق
عظيم فلا يجوز أن يراد أحد المعنيين باللفظ المفيد للمعنى الاخر لأنه إلباس وتعمية.
وأيضا فإن العلماء ذكروا خصائص الرسول في الشرعيات عن أمته وعددوها نحو حل
الزيادة في النكاح على أربع ونحو النكاح بلفظ الهبة على قول فرقة من المسلمين ونحو
تحريم أكل البصل والثوم عليه وإباحة شرب دمه وغير ذلك ولم يذكروا في خصائصه
أنه إذا كان قد نوى أن يتصدق بشئ فإنه لا يناله ورثته لو قدرنا أنه يورث الأموال
ولا الشيعة قبل المرتضى ذكرت ذلك ولا رأينا في كتاب من كتبهم وهو مسبوق
بإجماع طائفته عليه وإجماعهم عندهم حجة.
* * *
قال المرتضى: فأما قوله: إن قوله عليه السلام: ما تركناه صدقة جملة من الكلام

(1) الشافي 232 (2) ا، د: (اللفظ).
259

مستقلة بنفسها فصحيح إذا كانت لفظة (ما) مرفوعة على الابتداء ولم تكن منصوبة
بوقوع الفعل عليها وكانت لفظة (صدقة) أيضا مرفوعة غير منصوبة وفى هذا وقع
النزاع فكيف يدعى أنها جملة مستقلة بنفسها! وأقوى ما يمكن أن نذكره أن نقول:
الرواية جاءت بلفظ (صدقة) بالرفع وعلى ما تأولتموه لا تكون إلا منصوبة والجواب
عن ذلك أنا لا نسلم الرواية بالرفع ولم تجر عادة الرواة بضبط ما جرى هذا المجرى من
الاعراب والاشتباه يقع في مثله فمن حقق منهم وصرح بالرواية بالرفع يجوز أن يكون
أشتبه عليه فظنها مرفوعة وهي منصوبه (1). قلت: وهذا أيضا خلاف الظاهر وفتح الباب فيه يؤدى إلى إفساد الاحتجاج
بكثير من الاخبار.
* * *
قال: وأما حكايته عن أبي على أن أبا بكر لم يدفع إلى أمير المؤمنين عليه السلام
السيف والبغلة والعمامة على جهة الإرث. وقوله: كيف يجوز ذلك مع الخبر الذي رواه!
وكيف خصصه بذلك دون العم الذي هو العصبة! فما نراه زاد على التعجب ومما عجب منه
عجبنا ولم يثبت عصمة أبى بكر فينتفى عن أفعاله التناقض (2)
قلت: لا يشك أحد في أن أبا بكر كان عاقلا وإن شك قوم في ذلك فالعاقل في يوم
واحد لا يدفع فاطمة عليه السلام عن الإرث ويقول: إن أباك قال لي: إنني
لا أورث ثم يورث في ذلك اليوم شخصا آخر من مال ذلك المتوفى الذي حكى عنه
أنه لا يورث وليس انتفاء هذا التناقض عن أفعاله موقوفا على العصمة بل على
العقل.

(1) الشافي 232.
(2) الشافي 232.
260

قال المرتضى: وقوله يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله نحله إياه وتركه أبو بكر
في يده - لما في ذلك من تقويه الدين - وتصدق ببدله. وكل ما ذكره جائز إلا أنه قد
كان يجب أن يظهر أسباب النحلة والشهادة بها والحجة عليها ولم يظهر من ذلك شئ
فنعرفه ومن العجائب أن تدعى فاطمة فدك نحلة وتستشهد على قولها أمير المؤمنين عليه السلام
وغيره فلا يصغى إلى قولها ويترك السيف والبغلة والعمامة في يد أمير المؤمنين على
سبيل النحلة بغير بينة ظهرت ولا شهادة قامت (1).
قلت: لعل أبا بكر سمع الرسول صلى الله عليه وآله وهو ينحل ذلك عليا عليه السلام
فلذلك لم يحتج إلى البينة والشهادة فقد روى أنه أعطاه خاتمه وسيفه في مرضه وأبو بكر
حاضر وأما البغلة فقد كان نحله إياها في حجة الوداع على ما وردت به الرواية
وأما العمامة فسلب الميت وكذلك القميص والحجزة (2) والحذاء فالعادة أن يأخذ ذلك
ولد الميت. ولا ينازع فيه لأنه خارج أو كالخارج عن التركة فلما غسل عليه السلام
أخذت أبنته ثيابه التي مات فيها وهذه عادة الناس على أنا قد ذكرنا في الفصل الأول
كيف دفع إليه آله النبي صلى الله عليه وآله وحذاءه ودابته والظاهر أنه فعل ذلك اجتهادا
لمصلحة رآها. وللامام أن يفعل ذلك.
* * *
قال المرتضى: على أنه كان يجب على أبى بكر أن يبين ذلك ويذكر وجهه بعينه لما
نازع العباس فيه فلا وقت لذكر الوجه في ذلك أولى من هذا الوقت (3).
قلت: لم ينازع العباس في أيام أبى بكر لا في البغلة والعمامة ونحوها ولا في غير

(1) الشافي 232، 233.
(2) حجرة الإزار: معقده.
(3) الشافي ص 233.
261

ذلك وإنما نازع عليا في أيام عمر وقد ذكرنا كيفية المنازعة وفيما ذا كانت. * * *
قال المرتضى رضي الله عنه في البردة والقضيب: إن كان نحلة أو على الوجه الاخر
يجرى مجرى ما ذكرناه في وجوب الظهور والاستشهاد ولسنا نرى أصحابنا - يعنى
المعتزلة - يطالبون أنفسهم في هذه المواضع بما يطالبوننا بمثله إذا ادعينا وجوها وأسبابا وعللا
مجوزة لأنهم لا يقنعون منا بما يجوز ويمكن. بل يوجبون فيما ندعيه الظهور والاستشهاد
وإذا كان هذا عليهم نسوه أو تناسوه (1).
قلت: أما القضيب فهو السيف الذي نحله رسول الله صلى الله عليه وآله عليا عليه السلام
في مرضه وليس بذي الفقار بل هو سيف آخر وأما البردة فإنه وهبها كعب
بن زهير ثم صار هذا السيف وهذه البردة إلى الخلفاء بعد تنقلات كثيرة مذكورة في
كتب التواريخ.
* * *
قال المرتضى: فأما قوله: فإن أزواج النبي صلى الله عليه وآله إنما طلبن الميراث
لأنهن لم يعرفن رواية أبى بكر للخبر وكذلك إنما نازع علي عليه السلام بعد موت
فاطمة عليه السلام في الميراث لهذا الوجه فمن أقبح ما يقال في هذا الباب وأبعده عن (3)
الصواب! وكيف لا يعرف أمير المؤمنين عليه السلام رواية أبى وبكر وبها دفعت زوجته
عن الميراث! وهل مثل ذلك المقام الذي قامته وما رواه أبو بكر في دفعها يخفى على من هو
في أقاصي البلاد فضلا عمن هو في المدينة حاضر شاهد يراعى (2) الاخبار ويعني بها! إن هذا لخروج في المكابرة عن الحد! وكيف يخفى على الأزواج ذلك حتى يطلبنه مرة بعد
أخرى ويكون عثمان الرسول لهن والمطالب عنهن وعثمان على زعمهم أحد من شهد

(1) الشافي ص 233.
(2) ا والشافي: (يعنى بالاخبار ويراعيها).
(3) د: (من).
262

أن النبي صلى الله عليه وآله لا يورث. وقد سمعن على كل حال أن بنت النبي صلى الله عليه وآله
لم تورث ماله ولا بد أن يكن قد سألن عن السبب في دفعها فذكر لهن الخبر
فكيف يقال: إنهن لم يعرفنه (1)!
قلت: الصحيح أن أمير المؤمنين عليه السلام لم ينازع بعد موت فاطمة في الميراث
وإنما نازع في الولاية لفدك وغيرها من صدقات رسول الله صلى الله عليه وآله وجرى بينه
وبين العباس في ذلك ما هو مشهور وأما أزواج النبي صلى الله عليه وآله فما ثبت أنهن
نازعن في ميراثه ولا أن عثمان كان المرسل لهن والمطالب عنهن إلا في رواية شاذة
والأزواج لما عرفن أن فاطمة عليه السلام قد دفعت عن الميراث أمسكن ولم
يكن قد نازعن وإنما اكتفين بغيرهن وحديث فدك وحضور فاطمة عند أبي بكر كان
بعد عشرة أيام من وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله والصحيح أنه لم ينطق أحد بعد
ذلك من الناس من ذكر أو أنثى بعد عود فاطمة عليه السلام من ذلك المجلس بكلمة
واحده في الميراث.
* * *
قال المرتضى: فإن قيل: فإذا كان أبو بكر قد حكم بالخطأ في دفع فاطمة عليه السلام
عن الميراث وأحتج بخبر لا حجة فيه فما بال الأمة أقرته على هذا الحكم ولم تنكر عليه وفى رضاها وإمساكها دليل على صوابه (2)!
قلت: قد مضى أن ترك النكير لا يكون دليل الرضا إلا في هذا الموضع الذي
لا يكون له وجه سوى الرضا وذكرنا في ذلك قولا شافيا وقد أجاب أبو عثمان
الجاحظ في كتاب،، العباسية،، عن هذا السؤال جوابا حسن المعنى واللفظ نحن

(1) الشافي ص 233.
(2) الشافي ص 233.
263

نذكره على وجهه ليقابل بينه وبين كلامه في العثمانية وغيرها (1).
قلت: ما كناه المرتضى رحمه الله في غير هذا الموضع أصلا بل كان ساخطا عليه
وكناه في هذا الموضع واستجاد قوله. لأنه موافق غرضه فسبحان الله ما أشد حب
الناس لعقائدهم!
قال قال أبو عثمان: وقد زعم أناس أن الدليل على صدق خبرهما - يعنى أبا بكر وعمر -
في منع الميراث وبراءة ساحتهما ترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم النكير عليهما.
ثم قال: قد يقال لهم: لئن كان ترك النكير دليلا على صدقهما ليكونن ترك النكير على
المتظلمين والمحتجين عليهما والمطالبين لهما دليلا على صدق دعواهم أو استحسان مقالتهم
ولا سيما وقد طالت المناجاة وكثرت المراجعة والملاحاة وظهرت الشكية واشتدت
الموجدة. وقد بلغ ذلك من فاطمة عليه السلام حتى إنها أوصت ألا يصلى عليها أبو بكر
ولقد كانت قالت له حين أتته طالبه بحقها ومحتجة لرهطها: من يرثك يا أبا بكر إذا مت؟
قال: أهلي وولدي. قالت: فما بالنا لا نرث النبي صلى الله عليه وآله! فلما منعها ميراثها
وبخسها حقها وأعتل عليها وجلح (2) في أمرها وعاينت التهضم (3) وأيست من
التورع ووجدت نشوة الضعف وقلة الناصر قالت: والله لأدعون الله عليك قال:
والله لأدعون الله لك قالت: والله لا أكلمك أبدا قال: والله لا أهجرك أبدا. فإن
يكن ترك النكير على أبى بكر دليلا على صواب منعها. إن في ترك النكير على فاطمة
عليه السلام دليلا على صواب طلبها! وأدنى ما كان يجب عليهم في ذلك تعريفها ما جهلت
وتذكيرها ما نسيت وصرفها عن الخطأ ورفع قدرها عن البذاء (4) وأن تقول هجرا (5)
أو تجور عادلا أو تقطع واصلا. فإذا لم تجدهم أنكروا على الخصمين جميعا فقد تكافأت

(1) الشافي 233.
(2) جلح في أمرها: جاهر به وكاشفها.
(3) التهضم: الظلم، وفى ا: (الهضم).
(4) البذاء: الفحش.
(5) الهجر: القبح من الكلام.
264

الأمور واستوت الأسباب والرجوع إلى أصل حكم الله من المواريث أولى بنا وبكم
وأوجب علينا وعليكم.
قال: فإن قالوا: كيف تظن به ظلمها والتعدي عليها! وكلما ازدادت عليه غلظة أزداد لها لينا ورقة حيث تقول له: والله لا أكلمك أبدا فيقول: والله لا أهجرك أبدا
ثم تقول: والله لأدعون الله عليك فيقول: والله لأدعون الله لك ثم يحتمل منها
هذا الكلام الغليظ والقول الشديد في دار الخلافة وبحضرة قريش والصحابة
مع حاجة الخلافة إلى البهاء والتنزيه وما يجب لها من الرفعة والهيبة! ثم لم يمنعه ذلك
أن قال معتذرا متقربا كلام المعظم لحقها المكبر لمقامها والصائن لوجهها المتحنن
عليها: ما أحد أعز على منك فقرا ولا أحب إلى منك غنى ولكني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول: (إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة)!
قيل لهم: ليس ذلك بدليل على البراءة من الظلم والسلامة من الجور وقد يبلغ من مكر الظالم ودهاء الماكر إذا كان أريبا وللخصومة معتادا أن يظهر كلام المظلوم وذلة
المنتصف (1) وحدب (2) الوامق ومقة (3) المحق. وكيف جعلتم ترك النكير حجة قاطعة
ودلالة واضحة وقد زعمتم أن عمر قال على منبره: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
: متعه النساء ومتعه الحج أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما فما وجدتم
أحدا أنكر قوله ولا استشنع مخرج نهيه ولا خطأه في معناه ولا تعجب منه
ولا استفهمه! وكيف تقضون بترك النكير وقد شهد عمر يوم السقيفة وبعد ذلك أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: (الأئمة من قريش). ثم قال في شكاته: لو كان سالم حيا ما تخالجني فيه شك حين (4) أظهر الشك في استحقاق كل واحد من الستة الذين

(1) المنتصف: المستوفى حقه.
(2) وحدب الوامق. أي وانثناء الناظر.
(3) المقة: التودد والحب.
(4) الشافي: (حتى).
265

جعلهم شورى وسالم عبد لامرأة من الأنصار وهي أعتقته وحازت ميراثه
ثم لم ينكر ذلك من قوله منكر ولا قابل إنسان بين قوله ولا تعجب منه وإنما يكون
ترك النكير على من لا رغبة ولا رهبة عنده دليلا على صدق قوله وصواب عمله
فأما ترك النكير على من يملك الضعة والرفعة والامر والنهى والقتل والاستحياء
والحبس والاطلاق فليس بحجة تشفى ولا دلالة تضئ.
قال: وقال آخرون: بل الدليل على صدق قولهما وصواب عملهما إمساك الصحابة
عن خلعهما والخروج عليهما وهم الذين وثبوا على عثمان في أيسر من جحد التنزيل
ورد النصوص (1) ولو كان كما تقولون وما تصفون ما كان سبيل الأمة فيهما إلا كسبيلهم
فيه وعثمان كان أعز نفرا وأشرف رهطا وأكثر عددا وثروة وأقوى عدة.
قلنا: إنهما لم يجحدا التنزيل ولم ينكرا النصوص ولكنهما بعد إقرارهما بحكم
الميراث وما عليه الظاهر من الشريعة ادعيا رواية وتحدثا بحديث لم يكن محالا كونه
ولا ممتنعا في حجج العقول مجيئه وشهد لهما عليه من علته مثل علتهما فيه. ولعل بعضهم
كان يرى تصديق الرجل إذا كان عدلا في رهطه مأمونا في ظاهره ولم يكن قبل ذلك
عرفه بفجرة (2) ولا جرت عليه غدرة فيكون تصديقه له على جهة حسن الظن
وتعديل الشاهد. ولأنه لم يكن كثير منهم يعرف حقائق الحجج والذي يقطع بشهادته
على الغيب وكان ذلك شبهة على أكثرهم فلذلك قل النكير وتواكل الناس فاشتبه
الامر فصار لا يتخلص إلى معرفة حق ذلك من باطله إلا العالم المتقدم أو المؤيد المرشد
ولأنه لم يكن لعثمان في صدور العوام وقلوب السفلة والطغام ما كان لهما من المحبة والهيبة
ولأنهما كانا أقل استئثارا بالفئ وتفضلا بمال الله منه ومن شأن الناس إهمال السلطان
ما وفر عليهم أموالهم ولم يستأثر بخراجهم ولم يعطل ثغورهم. ولأن الذي صنع أبو بكر

(1) د: (المصوص).
(2) الفجاة: الانبعاث في المعاصي والفجور.
266

من منع العترة حقها والعمومة ميراثها قد كان موافقا لجلة قريش وكبراء العرب ولأن
عثمان أيضا كان مضعوفا في نفسه مستخفا بقدره لا يمنع ضيما ولا يقمع عدوا. ولقد
وثب ناس على عثمان بالشتم والقذف والتشنيع والنكير لأمور لو أتى أضعافها وبلغ أقصاها
لما اجترأوا على اغتيابه فضلا على مبادأته والإغراء به ومواجهته كما أغلظ عيينة بن حصن
له فقال له: أما إنه لو كان عمر لقمعك ومنعك فقال. عيينة: إن عمر كان خيرا لي منك
أرهبني فاتقاني.
ثم قال: والعجب أنا وجدنا جميع من خالفنا في الميراث على اختلافهم في التشبيه
والقدر والوعيد يرد كل صنف منهم من أحاديث مخالفيه وخصومه ما هو أقرب أسنادا
وأصح رجالا وأحسن اتصالا. حتى إذا صاروا إلى القول في ميراث النبي صلى الله عليه وسلم
نسخوا الكتاب وخصوا الخبر العام بما لا يداني بعض ما ردوه وأكذبوا قائليه
وذلك أن كل إنسان منهم إنما يجرى إلى هواه ويصدق ما وافق رضاه.
هذا آخر كلام الجاحظ (1).
* * *
ثم قال المرتضى رضي الله عنه: فإن قيل ليس ما عارض به الجاحظ من الاستدلال
بترك النكير وقوله: كما لم ينكروا على أبى بكر فلم ينكروا أيضا على فاطمة ع
ولا على غيرها من الطالبين بالإرث كالأزواج وغيرهن معارضة صحيحة وذلك
أن نكير أبى بكر لذلك ودفعها والاحتجاج عليها ويكفيهم ويغنيهم عن تكلف
نكير آخر ولم ينكر على أبى بكر ما رواه منكر فيستغنوا بانكاره (2).
قلنا: أول ما يبطل هذا السؤال أن أبا بكر لم ينكر عليها ما أقامت عليه بعد

(1) نقلة في الشافي 233، 234.
267

احتجاجها من التظلم والتألم والتعنيف والتبكيت وقولها على ما روى: والله لأدعون الله
عليك ولا أكلمك أبدا وما جرى هذا المجرى فقد كان يجب أن ينكره غيره
ومن المنكر الغضب على المنصف وبعد فإن كان إنكار أبى بكر مقنعا ومغنيا عن إنكار
غيره من المسلمين فإنكار فاطمة حكمه ومقامها على التظلم منه. مغن عن نكير غيرها
وهذا واضح (1).
* * *
الفصل الثالث
في أن فدك هل صح كونها نحلة رسول الله صلى الله عليه وآله لفاطمة عليه السلام أم لا؟
نذكر في هذا الفصل ما حكاه المرتضى عن قاضي القضاة في،، المغني،، وما أعترض
به عليه ثم نذكر ما عندنا في ذلك.
قال المرتضى حاكيا عن قاضي القضاة: ومما عظمت الشيعة القول في أمر فدك قالوا:
وقد روى أبو سعيد الخدري أنه لما أنزلت: (وآت ذا القربى حقه) (2) أعطى رسول الله صلى الله عليه وآله
فاطمة عليه السلام فدك ثم فعل عمر بن عبد العزيز مثل ذلك فردها
على ولدها. قالوا: ولا شك أن أبا بكر أغضبها. إن لم يصح كل الذي روى في هذا
الباب وقد كان الأجمل أن يمنعهم التكرم مما ارتكبوا منها فضلا عن الدين ثم ذكروا
أنها استشهدت أمير المؤمنين عليه السلام وأم أيمن فلم يقبل شهادتهما هذا مع تركه
أزواج النبي صلى الله عليه وآله في حجرهن ولم يجعلها صدقة وصدقهن في ذلك أن
ذلك لهن ولم يصدقها.

(1) الشافي 234.
(2) سورة الإسراء 26.
268

قال: والجواب عن ذلك أن أكثر ما يروون في هذا الباب غير صحيح. ولسنا ننكر
صحة ما روى من ادعائها فدك فأما أنها كانت في يدها فغير مسلم بل إن كانت في يدها
لكان الظاهر أنها لها فإذا كانت في جملة التركة فالظاهر أنها ميراث وإذا كان كذلك
فغير جائز لأبي بكر قبول دعواها لأنه لا خلاف في أن العمل على الدعوى لا يجوز وإنما
يعمل على مثل ذلك إذا علمت صحته بمشاهدة أو ما جرى مجراها أو حصلت بينة أو إقرار
ثم إن البينة لا بد منها وإن أمير المؤمنين عليه السلام لما خاصمه اليهودي حاكمه وأن
أم سلمة التي يطبق على فضلها لو ادعت نحلا ما قبلت دعواها.
ثم قال: ولو كان أمير المؤمنين عليه السلام هو الوالي ولم يعلم صحه هذه الدعوى
ما الذي كان يجب أن يعمل؟ فإن قلتم: يقبل الدعوى فالشرع بخلاف ذلك وإن
قلتم: يلتمس البينة فهو الذي فعله أبو بكر.
ثم قال: وأما قول أبى بكر رجل مع الرجل وامرأة مع المرأة فهو الذي يوجبه
الدين ولم يثبت أن الشاهد في ذلك كان أمير المؤمنين عليه السلام بل الرواية المنقولة أنه
شهد لها مولى لرسول الله صلى الله عليه وآله مع أم أيمن.
قال: وليس لأحد أن يقول: فلما ذا ادعت ولا بينة معها؟ لأنه لا يمتنع أن
تجوز أن يحكم أبو بكر بالشاهد واليمين أو تجوز عند شهادة من شهد لها أن تذكر غيره
فيشهد وهذا هو الموجب على ملتمس الحق ولا عيب عليها في ذلك ولا على أبى بكر
في التماس البينة وأن لم يحكم لها لما لم يتم ولم يكن لها خصم لان التركة صدقة على
ما ذكرنا وكان لا يمكن أن يعول في ذلك على يمين أو نكول ولم يكن في الامر إلا
ما فعله. قال: وقد أنكر أبو علي ما قاله السائل من أنها لما ردت في دعوى النحلة ادعته
إرثا وقال: بل كان طلبت الإرث قبل ذلك فلما سمعت منه الخبر كفت وادعت النحلة (1).

(1) الشافي 235.
269

قال: فأما فعل عمر بن عبد العزيز فلم يثبت أنه رده على سبيل النحلة بل عمل في ذلك
ما عمله عمر بن الخطاب بأن أقره في يد أمير المؤمنين عليه السلام ليصرف غلاتها في المواضع
التي كان يجعلها رسول الله صلى الله عليه وآله فيه فقام بذلك مدة ثم ردها إلى عمر في
آخر سنته وكذلك فعل عمر بن عبد العزيز ولو ثبت أنه فعل بخلاف ما فعل السلف لكان
هو المحجوج بفعلهم وقولهم وأحد ما يقوى ما ذكرناه أن الامر لما انتهى إلى أمير المؤمنين
عليه السلام ترك فدك على ما كان ولم يجعله ميراثا لولد فاطمة وهذا يبين أن الشاهد كان
غيره لأنه لو كان هو الشاهد لكان الأقرب أن يحكم بعلمه. على أن الناس اختلفوا في
الهبة إذا لم تقبض فعند بعضهم تستحق بالعقد. وعند بعضهم أنها إذا لم تقبض يصير
وجودها كعدمها فلا يمتنع من هذا الوجه أن يمتنع أمير المؤمنين عليه السلام من ردها
وإن صح عنده عقد الهبة وهذا هو الظاهر لان التسليم لو كان وقع لظهر أنه كان في
يدها ولكان ذلك كافيا في الاستحقاق فأما حجر أزواج النبي صلى الله عليه وآله فإنما
تركت في أيديهن لأنها كانت لهن ونص الكتاب يشهد بذلك وقوله: (وقرن في
بيوتكن) (1) وروى في الاخبار أن النبي صلى الله عليه وآله قسم ما كان له من الحجر
على نسائه وبناته. ويبين صحة ذلك أنه لو كان ميراثا أو صدقة لكان أمير المؤمنين عليه السلام
لما أفضى الامر إليه يغيره.
قال: وليس لأحد أن يقول: إنما لم يغير ذلك لان الملك قد صار له فتبرع به وذلك
أن الذي يحصل له ليس إلا ربع ميراث فاطمة عليه السلام وهو الثمن من ميراث رسول
الله صلى الله عليه وآله فقد كان يجب أن ينتصف لأولاد العباس وأولاد فاطمة منهن في باب
الحجر ويأخذ هذا الحق منهن فتركه ذلك يدل على صحة ما قلناه وليس يمكنهم بعد
ذلك إلا التعلق بالتقية (2) وقد سبق الكلام فيها.

(1) سورة الأحزاب 33.
(2) التقية: الحيطة.
270

قال: ومما يذكرونه أن فاطمة عليه السلام لغضبها على أبى بكر وعمر أوصت
ألا يصليها عليها وأن تدفن سرا منهما فدفنت ليلا وهذا كما ادعوا رواية رووها
عن جعفر بن محمد عليه السلام وغيره أن عمر ضرب فاطمة عليه السلام بالسوط
وضرب الزبير بالسيف وأن عمر قصد منزلها وفيه علي عليه السلام والزبير والمقداد وجماعة
ممن تخلف عن أبي بكر وهم مجتمعون هناك فقال لها: ما أحد بعد أبيك أحب إلينا منك
وأيم الله لئن اجتمع هؤلاء النفر عندك لنحرقن عليهم! فمنعت القوم من الاجتماع.
قال: ونحن لا نصدق هذه الروايات ولا نجوزها. وأما أمر الصلاة فقد روى أن
أبا بكر هو الذي صلى على فاطمة عليه السلام وكبر عليها أربعا وهذا أحد ما استدل به
كثير من الفقهاء في التكبير على الميت ولا يصح أيضا أنها دفنت ليلا وإن صح ذلك
فقد دفن رسول الله صلى الله عليه وآله ليلا ودفن عمر ابنه ليلا وقد كان أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وآله يدفنون بالنهار ويدفنون بالليل فما في هذا مما يطعن به
بل الأقرب في النساء أن دفنهن ليلا أستر وأولى بالسنة.
ثم حكى عن أبي على تكذيب ما روى من الضرب بالسوط قال: والمروي
عن جعفر بن محمد عليه السلام أنه كان يتولاهما ويأتي القبر فيسلم عليهما مع تسليمه على
رسول الله صلى الله عليه وآله روى ذلك عباد بن صهيب وشعبة بن الحجاج ومهدي
ابن هلال والدراوردي وغيرهم وقد روى عن أبيه محمد بن علي عليه السلام
وعن علي بن الحسين مثل ذلك فكيف يصح ما ادعوه! وهل هذه الرواية الا كروايتهم
على أن علي بن أبي طالب عليه السلام هو إسرافيل والحسن ميكائيل والحسين جبرائيل
وفاطمة ملك الموت وآمنة أم النبي صلى الله عليه وآله ليلة القدر! فإن صدقوا ذلك أيضا
قيل لهم: فعمر بن الخطاب كيف يقدر على ضرب ملك الموت! وإن قالوا: لا نصدق
ذلك فقد جوزوا رد هذه الروايات وصح أنه لا يجوز التعويل على هذا الخبر
271

وإنما يتعلق بذلك من غرضه الالحاد كالوراق، وأبن الراوندي لان غرضهم القدح
في الاسلام.
وحكى عن أبي على أنه قال: ولم صار غضبها إن ثبت كأنه غضب رسول الله صلى الله عليه وآله
من حيث قال: (فمن أغضبها فقد أغضبني) أولى من أن يقال: فمن أغضب
أبا بكر وعمر فقد نافق وفارق الدين. لأنه روى عنه عليه السلام قال: (حب أبى بكر وعمر
إيمان وبغضهما نفاق)! ومن يورد مثل هذا فقصده الطعن في الاسلام وأن يتوهم الناس
أن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله نافقوا مع مشاهدة الاعلام ليضعفوا دلالة العلم
في النفوس.
قال: وأما حديث الاحراق فلو صح لم يكن طعنا على عمر لان له أن يهدد من
امتنع من المبايعة إرادة للخلاف على المسلمين لكنه غير ثابت. انتهى كلام قاضي القضاة (1).
قال المرتضى: نحن نبتدئ فندل على أن فاطمة عليه السلام ما ادعت من نحل
فدك إلا ما كانت مصيبة فيه وأن مانعها ومطالبها بالبينة متعنت عادل عن
الصواب لأنها لا تحتاج إلى شهادة وبينة ثم نعطف على ما ذكره على التفصيل
فنتكلم عليه.
أما الذي يدل على ما ذكرناه فهو انها كانت معصومة من الغلط مأمونا منها فعل
القبيح ومن هذه صفته لا يحتاج فيما يدعيه إلى شهادة وبينة.
فإن قيل: دللوا على الامرين قلنا: بيان الأول قوله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (2) والآية تتناول جماعة منهم فاطمة

(1) نقلة المرتضى في الشافي 234، 235.
(2) سورة الأحزاب 33.
272

عليها السلام بما تواترت الاخبار في ذلك والإرادة هاهنا دلالة على وقوع الفعل للمراد.
وأيضا فيدل على ذلك قوله عليه السلام: (فاطمة بضعة منى من آذاها فقد آذاني
ومن آذاني فقد آذى الله عز وجل) وهذا يدل على عصمتها لأنها لو كانت ممن
تقارف الذنوب لم يكن من يؤذيها مؤذيا له على كل حال بل كان متى فعل المستحق
من ذمها أو إقامة الحد عليها إن كان الفعل يقتضيه سارا له ومطيعا على أنا لا نحتاج
أن ننبه هذا الموضع على الدلالة على عصمتها بل يكفي في هذا الموضع العلم بصدقها فيما
ادعته وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين لان أحدا لا يشك أنها لم تدع ما ادعته
كاذبة وليس بعد ألا تكون كاذبة إلا أن تكون صادقة وإنما اختلفوا في هل يجب مع
العلم بصدقها تسلم ما ادعته بغير بينة أم لا يجب ذلك قال: الذي يدل على الفصل الثاني
أن البينة إنما تراد ليغلب في الظن صدق المدعى ألا ترى أن العدالة معتبرة في الشهادات
لما كانت مؤثرة في غلبة الظن لما ذكرناه ولهذا جاز أن يحكم الحاكم بعلمه من غير شهادة
لان علمه أقوى من الشهادة ولهذا كان الاقرار أقوى من البينة من حيث كان أغلب
في تأثير غلبة الظن وإذا قدم الاقرار على الشهادة لقوة الظن عنده فأولى أن يقدم العلم
على الجميع وإذا لم يحتج مع الاقرار إلى شهادة لسقوط حكم الضعيف مع القوى لا يحتاج
أيضا مع العلم إلى ما يؤثر الظن من البينات والشهادات.
والذي يدل على صحة ما ذكرناه أيضا أنه لا خلاف بين أهل النقل في أن أعرابيا
نازع النبي صلى الله عليه وآله في ناقة فقال عليه السلام: (هذه لي وقد خرجت إليك
من ثمنها) فقال الأعرابي من يشهد لك بذلك؟ فقال خزيمة بن ثابت: أنا أشهد بذلك. فقال
النبي صلى الله عليه وآله: (من أين علمت وما حضرت ذلك؟) قال: لا ولكن علمت
ذلك من حيث علمت أنك رسول الله فقال: (قد أجزت شهادتك وجعلتها شهادتين) فسمى ذا الشهادتين.
273

وهذه القصة شبيهة لقصة فاطمة عليه السلام لان خزيمة اكتفى في العلم بأن الناقة
له صلى الله عليه وآله وشهد بذلك من حيث علم أنه رسول الله صلى الله عليه وآله ولا يقول
إلا حقا وأمضى النبي صلى الله عليه وآله ذلك له من حيث لم يحضر الابتياع وتسليم الثمن
فقد كان يجب على من علم أن فاطمة عليه السلام لا تقول إلا حقا ألا يستظهر عليها بطلب
شهادة أو بينة هذا وقد روى أن أبا بكر لما شهد أمير المؤمنين عليه السلام كتب
بتسليم (1) فدك إليها فأعترض عمر قضيته وخرق ما كتبه.
روى إبراهيم بن السعيد الثقفي عن إبراهيم بن ميمون قال: حدثنا عيسى بن عبد الله
بن محمد بن علي بن أبي طالب عليه السلام عن أبيه عن جده عن علي عليه السلام قال:
جاءت فاطمة عليه السلام إلى أبى بكر وقالت: إن أبى أعطاني فدك وعلى وأم أيمن
يشهدان فقال: ما كنت لتقولي على أبيك إلا الحق قد أعطيتكها ودعا بصحيفة
من أدم فكتب لها فيها فخرجت فلقيت عمر فقال: من أين جئت يا فاطمة؟ قالت:
جئت من عند أبي بكر أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني فدك وأن عليا وأم أيمن يشهدان لي بذلك فأعطانيها وكتب لي (2) بها. فأخذ عمر منها
الكتاب ثم رجع إلى أبى بكر فقال: أعطيت فاطمة فدك وكتبت بها لها؟ قال: نعم
فقال: إن عليا يجر إلى نفسه وأم أيمن امرأة. وبصق في الكتاب فمحاه وخرقه.
وقد روى هذا المعنى من طرق مختلفة على وجوه مختلفة فمن أراد الوقوف عليها
واستقصاءها أخذها من مواضعها.
وليس لهم أن يقولوا: إنها أخبار آحاد لأنها وإن كانت كذلك فأقل أحوالها أن
توجب الظن وتمنع من القطع على خلاف معناها. وليس لهم أن يقولوا: كيف يسلم إليها

(1) ب: (يسلم). والصواب ما أثبته من ا، د والشافي.
(2) الشافي: (وكتبها لي).
274

فدك وهو يروى عن الرسول أن ما خلفه صدقة وذلك لأنه لا تنافى بين الامرين لأنه
إنما سلمها على ما وردت به الرواية على سبيل النحل (1) فلما وقعت المطالبة بالميراث روى
الخبر في معنى الميراث فلا اختلاف بين الامرين.
فأما إنكار صاحب الكتاب لكون فدك في يدها فما رأيناه اعتمد في إنكار ذلك
على حجة بل قال: لو كان ذلك في يدها لكان الظاهر أنها لها (2). والامر على ما قال
فمن أين أنه لم يخرج عن يدها على وجه يقتضى الظاهر خلافه! وقد روى من طرق مختلفة
غير طريق أبي سعيد الذي ذكره صاحب الكتاب أنه لما نزل قوله تعالى: (وآت ذا
القربى حقه) (3) دعا النبي صلى الله عليه وآله فاطمة عليه السلام فأعطاها فدك! وإذا
كان ذلك مرويا فلا معنى لدفعه بغير حجة.
وقوله: لا خلاف أن العمل على الدعوى لا يجوز صحيح وقد بينا أن قولها كان
معلوما صحته وإنما قوله: إنما يعمل على ذلك متى علم صحته بشهادة أو ما يجرى مجراها أو
حصلت بينة أو إقرار فيقال له: إما علمت بمشاهدة فلم يكن هناك وإما بينة فقد كانت
على الحقيقة لان شهادة أمير المؤمنين عليه السلام من أكبر البينات وأعدلها ولكن على
مذهبك أنه لم تكن هناك بينة فمن أين زعمت أنه لم يكن هناك علم! وإن لم يكن عن
مشاهدة فقد أدخلت ذلك في جملة الأقسام.
فإن قال: لان قولها بمجرده لا يكون جهة للعلم. قيل له: لم قلت ذلك؟ أو ليس قد
دللنا على أنها معصومة وأن الخطأ مأمون عليها! ثم لو لم يكن كذلك لكان قولها في
تلك القضية معلوما صحته على كل حال لأنها لو لم تكن مصيبة لكانت مبطلة عاصية فيما
ادعته إذ الشبهة لا تدخل في مثله وقد أجمعت الأمة على أنها لم يظهر منها بعد

(1) ا، د: (النحلة).
(2) ا والشافي: (أنه).
(3) سورة الإسراء 26.
275

رسول الله صلى الله عليه وآله معصية بلا شك وارتياب. بل أجمعوا على أنها لم تدع إلا
الصحيح وإن اختلفوا. فمن قائل يقول: مانعها مخطئ وآخر يقول: هو أيضا مصيب
لفقد البينة وإن علم صدقها.
وأما قوله: إنه لو حاكم غيره لطولب بالبينة فقد تقدم في هذا المعنى ما يكفي وقصة
خزيمة بن ثابت وقبول شهادته تبطل هذا الكلام.
وأما قوله: إن أمير المؤمنين عليه السلام حاكم يهوديا على الوجه الواجب في سائر الناس
فقد روى ذلك إلا أن أمير المؤمنين (1 لم يفعل من ذلك ما كان يجب عليه أن يفعله 1)
وإنما تبرع به واستظهر بإقامة الحجة فيه. وقد أخطأ من طالبه ببينة كائنا من كان.
فأما اعتراضه بأم سلمة فلم يثبت من عصمتها ما ثبت من عصمة فاطمة عليه السلام فلذلك
احتاجت في دعواها إلى بينة فأما إنكاره وادعاؤه أنه لم يثبت أن الشاهد في ذلك كان
أمير المؤمنين فلم يزد في ذلك إلا مجرد (الدعوى) (2) والانكار والاخبار مستفيضة
بأنه عليه السلام شهد لها فدفع ذلك بالزيغ (3) لا يغنى شيئا! وقوله: إن الشاهد لها
مولى لرسول الله صلى الله عليه وآله هو المنكر الذي ليس بمعروف.
وأما قوله: إنها جوزت أن يحكم أبو بكر بالشاهد واليمين فطريف. مع قوله: فيما بعد: (إن التركة صدقة ولا خصم فيها) فتدخل اليمين في مثلها. أفترى أن فاطمة لم تكن
تعلم من الشريعة هذا المقدار الذي نبه صاحب الكتاب عليه! ولو لم تعلمه ما كان أمير المؤمنين
ع وهو أعلم الناس بالشريعة يوافقها عليها.
وقوله: إنها جوزت عند شهادة من شهد لها أن يتذكر غيرهم فيشهد باطل لان مثلها
لا يتعرض للظنة والتهمة ويعرض قوله للرد وقد كان يجب أن تعلم من يشهد لها

(1 - 1) الشافي: (لم يفعل ذلك وهو واجب عليه).
(2) من الشافي.
(3) الشافي: (باقتراح).
276

ممن لا يشهد حتى تكون دعواها على الوجه الذي يجب معه القبول والامضاء ومن هو
دونها في الرتبة والجلالة والصيانة من أفناء الناس لا يتعرض لمثل هذه الخطة ويتورطها
للتجويز الذي لا أصل له ولا أمارة عليه.
فأما إنكار أبى على لان يكون النحل قبل ادعاء الميراث وعكسه الامر فيه فأول
ما فيه أنا لا نعرف له غرضا صحيحا في إنكار ذلك لان كون أحد الامرين قبل الاخر
لا يصحح له مذهبا. فلا يفسد على مخالفه مذهبا.
ثم إن الامر في أن الكلام في النحل كان المتقدم ظاهرا والروايات كلها به واردة.
وكيف يجوز أن تبتدئ بطلب الميراث فيما تدعيه بعينه نحلا! أو ليس هذا يوجب أن
تكون قد طالبت بحقها من وجه لا تستحقه منه مع الاختيار! وكيف يجوز ذلك والميراث
يشركها فيه غيرها والنحل تنفرد به! ولا ينقلب مثل ذلك علينا من حيث طالبت
بالميراث بعد النحل. لأنها في الابتداء طالبت بالنحل وهو الوجه الذي تستحق فدك
منه فلما دفعت عنه طالبت ضرورة بالميراث. لان للمدفوع عن حقه أن يتوصل إلى تناوله
بكل وجه وسبب وهذا بخلاف قول أبى على لأنه أضاف إليها ادعاء الحق من وجه
لا تستحقه منه وهي مختارة.
وأما إنكاره أن يكون عمر بن عبد العزيز رد فدك على وجه النحل وادعاؤه أنه فعل
في ذلك ما فعله عمر بن الخطاب من إقرارها في يد أمير المؤمنين عليه السلام ليصرف غلاتها
في وجوهها فأول ما فيه أنا لا نحتج عليه بفعل عمر بن عبد العزيز على أي وجه وقع لان
فعله ليس بحجة ولو أردنا الاحتجاج بهذا الجنس من الحجج لذكرنا فعل المأمون فإنه
رد فدك بعد أن جلس مجلسا مشهورا حكم فيه بين خصمين نصبهما أحدهما لفاطمة والاخر
لأبي بكر وردها بعد قيام الحجة ووضوح الامر
277

ومع ذلك فإنه قد أنكر من فعل عمر بن عبد العزيز ما هو معروف مشهور بلا خلاف
بين أهل النقل فيه وقد روى محمد بن زكريا الغلابي عن شيوخه عن أبي المقدام هشام
بن زياد مولى آل عثمان قال: لما ولى عمر بن عبد العزيز رد فدك على ولد فاطمة وكتب
إلى واليه على المدينة أبى بكر بن عمرو بن حزم يأمره بذلك فكتب إليه: أن فاطمة
قد ولدت في آل عثمان وآل فلان وفلان فعلى من أرد منهم؟ فكتب إليه: أما بعد
فإني لو كتبت إليك آمرك أن تذبح شاة لكتبت إلى: أجماء أم قرناء (1)؟ أو كتبت
إليك أن تذبح بقرة لسألتني: ما لونها؟ فإذا ورد عليك كتابي هذا فاقسمها في ولد فاطمة
ع من علي عليه السلام والسلام.
قال أبو المقدام: فنقمت بنو أمية ذلك على عمر بن عبد العزيز وعاتبوه فيه وقالوا
له: هجنت فعل الشيخين وخرج إليه عمر بن قيس في جماعه من أهل الكوفة فلما
عاتبوه على فعله قال: إنكم جهلتم وعلمت ونسيتم وذكرت إن أبا بكر محمد بن عمرو
بن حزم حدثني عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال (فاطمة بضعة
منى يسخطها ما يسخطني ويرضيني ما أرضاها) وإن فدك كان صافية على عهد
أبى بكر وعمر ثم صار أمرها إلى مروان فوهبها لعبد العزيز أبى فورثتها أنا
وإخوتي عنه فسألتهم أن يبيعوني حصتهم منها فمن بائع وواهب حتى استجمعت
لي فرأيت أن أردها على ولد فاطمة. قالوا: فإن أبيت إلا هذا فأمسك الأصل وأقسم
الغلة ففعل.
وأما ما ذكره من ترك أمير المؤمنين عليه السلام فدك لما أفضى الامر إليه. واستدلاله
بذلك على أنه لم يكن الشاهد فيها فالوجه في تركه عليه السلام رد فدك هو الوجه في اقراره

(1) الجماء: الملساء: ذات القرن.
278

أحكام القوم وكفه عن نقضها وتغييرها وقد بينا ذلك فيما سبق وذكرنا أنه كان في انتهاء الأمر
إليه في بقية من التقية قوية.
فأما استدلاله على أن حجر أزواج النبي صلى الله عليه كانت لهن بقوله تعالى: (وقرن
في بيوتكن) (1) فمن عجيب الاستدلال لأن هذه الإضافة لا تقتضي الملك بل العادة
جارية فيها أن تستعمل من جهة السكنى ولهذا يقال: هذا بيت فلان ومسكنه
ولا يراد بذلك الملك وقد قال تعالى: (لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن
يأتين بفاحشة مبينة) (2) ولا شبهة في أنه تعالى أراد منازل الرجال التي يسكنون فيها
زوجاتهم ولم يرد بهذه الإضافة الملك.
فأما ما رواه من أن رسول الله صلى الله عليه وآله قسم حجره على نسائه وبناته فمن
أين له إذا كان الخبر صحيحا أن هذه القسمة على وجه التمليك دون الاسكان والانزال!
ولو كان قد ملكهن ذلك لوجب أن يكون ظاهرا مشهورا.
فأما الوجه في ترك أمير المؤمنين لما صار الامر إليه في يده منازعة الأزواج في هذه
الحجر فهو ما تقدم وتكرر.
وأما قوله: إن أبا بكر هو الذي صلى على فاطمة وكبر أربعا وإن كثيرا من الفقهاء
يستدلون به في التكبير على الميت - وهو شئ ما سمع إلا منه وإن كان تلقاه عن غيره - فممن يجرى مجراه في العصبية وإلا فالروايات المشهورة وكتب الآثار والسير خالية من
ذلك ولم يختلف أهل النقل في أن عليا عليه السلام هو الذي صلى على فاطمة إلا رواية
نادرة شاذة وردت بأن العباس رحمه الله صلى عليها.
وروى الواقدي بإسناده في تاريخه عن الزهري قال: سالت ابن عباس:

(1) سورة الأحزاب 33.
(2) سورة الطلاق 1.
279

متى دفنتم فاطمة عليه السلام؟ قال: دفناها بليل بعد هدأة. قال: قلت: فمن صلى عليها؟
قال: على.
وروى الطبري عن الحارث بن أبي أسامة عن المدائني عن أبي زكريا العجلاني
أن فاطمة عليه السلام عمل لها نعش قبل وفاتها فنظرت إليه فقالت: سترتموني
ستركما الله!
قال أبو جعفر محمد بن جرير: والثبت في ذلك أنها زينب لان فاطمة دفنت ليلا
ولم يحضرها إلا على والعباس والمقداد والزبير.
وروى القاضي أبو بكر أحمد بن كامل بإسناده في تاريخه عن الزهري. قال حدثني
عروة بن الزبير أن عائشة أخبرته أن فاطمة (1) عاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم
ستة أشهر فلما توفيت دفنها على ليلا وصلى عليها وذكر في كتابه هذا أن عليا والحسن
والحسين عليه السلام دفنوها ليلا وغيبوا قبرها.
وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن عبيد عن الحسن بن محمد بن الحنفية أن
فاطمة دفنت ليلا.
وروى عبد الله بن أبي شيبة عن يحيى بن سعيد القطان عن معمر عن الزهري
مثل ذلك.
وقال البلاذري في تاريخه: إن فاطمة عليه السلام لم تر متبسمة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله
ولم يعلم أبو بكر وعمر بموتها.
والامر في هذا أوضح وأشهر من أن نطنب في الاستشهاد عليه ونذكر الروايات
فيه.

(1) الشافي: (فاطمة بنت رسول الله).
280

فأما قوله: ولا يصح أنها دفنت ليلا وإن صح فقد دفن فلان وفلان ليلا فقد بينا
أن دفنها ليلا في الصحة أظهر من الشمس وأن منكر ذلك كالدافع للمشاهدات
ولم يجعل دفنها ليلا بمجرده هو الحجة ليقال: لقد دفن فلان وفلان ليلا بل يقع الاحتجاج
بذلك على ما وردت به الروايات المستفيضة الظاهرة التي هي كالتواتر. أنها أوصت بأن
تدفن ليلا حتى لا يصلى الرجلان عليها وصرحت بذلك وعهدت فيه عهدا بعد أن
كانا (1) استأذنا عليها في مرضها ليعوداها فأبت أن تأذن لهما فلما طالت عليهما
المدافعة رغبا إلى أمير المؤمنين عليه السلام في أن يستأذن لهما وجعلاها حاجة إليه
وكلمها عليه السلام في ذلك وألح عليها فأذنت لهما في الدخول ثم أعرضت عنهما
عند دخولهما ولم تكلمهما فلما خرجا قالت لأمير المؤمنين عليه السلام: هل صنعت
ما أردت؟ قال: نعم قالت: فهل أنت صانع ما آمرك به؟ قال نعم قالت: فإني أنشدك الله
ألا يصليا على جنازتي ولا يقوما على قبري!
وروى أنه عفى قبرها (2 وعلم عليه 2) ورش أربعين قبرا في البقيع ولم يرش قبرها
حتى لا يهتدى إليه وأنهما عاتباه على ترك إعلامهما بشأنها وإحضارهما الصلاة عليها
فمن هاهنا احتججنا بالدفن ليلا ولو كان ليس غير الدفن بالليل من غير ما تقدم عليه وما
تأخر عنه لم يكن فيه حجة.
وأما حكايته عن أبي على إنكار ضرب الرجل لها. وقوله: إن جعفر بن محمد
وأباه وجده كانوا يتولونهما فكيف لا ينكر أبو علي ذلك واعتقاده فيهما
اعتقاده! وقد كنا نظن أن مخالفينا يقتنعون أن ينسبوا إلى أئمتنا الكف عن القوم
والامساك وما ظننا أنهم يحملون أنفسهم على أن ينسبوا إليهم الثناء والولاء

(1) ب: (كان)). (2 - 2) ساقط من الشافي.
281

وقد علم كل أحد أن أصحاب هؤلاء السادة المختصين بهم قد رووا عنهم ضد ما روى
شعبة بن الحجاج وفلان وفلان وقولهم: هما أول من ظلمنا حقنا وحمل الناس على رقابنا
وقولهم: أنهما أصفيا بإنائنا واضطجعا بسبلنا وجلسا مجلسا نحن أحق به منهما
إلى غير ذلك من فنون التظلم والشكاية وهو طويل متسع ومن أراد استقصاء ذلك
فلينظر في كتاب،، المعرفة،، لأبي إسحاق إبراهيم بن سعيد الثقفي فإنه قد ذكر عن
رجل من أهل البيت بالأسانيد النيرة مالا زيادة عليه ثم لو صح ما ذكره شعبة لجاز أن
يحمل على التقية.
وأما ذكره إسرافيل وميكائيل. فما كنا نظن أن مثله يذكر ذلك وهذا من أقوال
الغلاة الذين ضلوا في أمير المؤمنين عليه السلام وأهل البيت وليسوا من الشيعة ولا من
المسلمين فأي عيب علينا فيما يقولونه! ثم إن جماعة من مخالفينا قد غلوا في أبى بكر وعمر
ورووا روايات مختلفة فيهما تجرى مجرى ما ذكره في الشناعة ولا يلزم العقلاء وذوي
الألباب من المخالفين عيب من ذلك.
وأما معارضة ما روى في فاطمة عليه السلام بما روى في: (أن حبهما إيمان
وبغضهما نفاق) فالخبر الذي رويناه مجمع عليه والخبر الاخر مطعون فيه فكيف
يعارض ذلك بهذا!
وأما قوله: إنما قصد من يورد هذه الأخبار تضعيف دلالة الاعلام في النفوس من
حيث أضاف النفاق إلى من شاهدها. فتشنيع في غير موضعه واستناد إلى مالا يجدي
نفعا لان من شاهد الاعلام لا يضعفها ولا يوهن دليلها. ولا يقدح في كونها حجة لان
الاعلام ليست ملجئة إلى العلم ولا موجبة لحصوله على كل حال وإنما تثمر العلم لمن أمعن
النظر فيها من الوجه الذي تدل منه فمن عدل عن ذلك لسوء اختياره لا يكون
282

عدوله مؤثرا في دلالتها فكم قد عدل من العقلاء وذوي الأحلام الراجحة والألباب
الصحيحة عن تأمل هذه الاعلام وإصابة الحق منها! ولم يكن ذلك عندنا وعند صاحب
الكتاب قادحا في دلالة الاعلام. على أن هذا القول يوجب أن ينفى الشك والنفاق عن
كل من صحب النبي صلى الله عليه وآله وعاصره وشاهد أعلامه كأبي سفيان وابنه وعمرو
بن العاص وفلان وفلان ممن قد اشتهر نفاقهم وظهر شكهم في الدين وارتيابهم باتفاق
بيننا وبينه. وإن كانت إضافة النفاق إلى هؤلاء لا تقدح في دلالة الاعلام فكذلك
القول في غيرهم.
فأما قوله: إن حديث الاحراق لم يصح ولو صح لساغ لعمر مثل ذلك. فقد بينا أن
خبر الاحراق قد رواه غير الشيعة.
وقوله: إنه يسوغ مثل ذلك. فكيف يسوغ إحراق بيت على وفاطمة عليه السلام!
وهل في ذلك عذر يصغى إليه أو يسمع! وإنما يكون على وأصحابه خارقين للاجماع ومخالفين
للمسلمين. لو كان الاجماع قد تقرر وثبت وليس بمتقرر ولا ثابت مع خلاف على وحده
فضلا عن أن يوافقه على ذلك غيره. وبعد فلا فرق بين أن يهدد بالإحراق لهذه العلة
وبين أن يضرب فاطمة عليه السلام لمثلها. فإن إحراق المنازل أعظم من ضرب سوط
أو سوطين. فلا وجه لامتعاض المخالف من حديث الضرب إذا كان عنده مثل
هذا الاعتذار (1)!
* * *
قلت: أما الكلام في عصمة فاطمة عليه السلام فهو بفن الكلام أشبه وللقول فيه
موضع غير هذا.
وأما قول المرتضى: إذا كانت صادقه لم يبق حاجة إلى من يشهد لها. فلقائل أن

(1) الشافي 235، 236.
283

يقول: لم قلت ذلك؟ ولم زعمت أن الحاجة إلى البينة إنما كانت لزيادة غلبة الظن؟
ولم لا يجوز أن يكون الله تعالى يعبد بالبينة لمصلحة يعلمها. وإن كان المدعى لا يكذب!
أليس قد تعبد الله تعالى بالعدة في العجوز التي قد أيست من الحمل. وإن كان أصل وضعها
لاستبراء الرحم!
وأما قصة خزيمة بن ثابت. فيجوز أن يكون الله تعالى قد علم أن مصلحة المكلفين
في تلك الصورة أن يكتفى بدعوى النبي صلى الله عليه وآله وحدها. ويستغنى فيها عن الشهادة.
ولا يمتنع أن يكون غير تلك الصورة مخالفا لها وإن كان المدعى لا يكذب. ويبين ذلك أن
مذهب المرتضى جواز ظهور خوارق العادات على أيدي الأئمة والصالحين. ولو قدرنا أن
واحدا من أهل الصلاح والخير ادعى دعوى وقال بحضرة جماعة من الناس من جملتهم
القاضي: اللهم إن كنت صادقا فأظهر على معجزة خارقة للعادة. فظهرت عليه لعلمنا أنه
صادق. ومع ذلك لا تقبل دعواه إلا ببينة.
وسألت علي بن الفارقي مدرس المدرسة الغربية ببغداد فقلت له: أكانت فاطمة
صادقة؟ قال: نعم قلت: فلم لم يدفع إليها أبو بكر فدك وهي عنده صادقة؟ فتبسم ثم
قال كلاما لطيفا مستحسنا مع ناموسه وحرمته وقلة دعابته قال لو أعطاها اليوم فدك
بمجرد دعواها لجاءت إليه غدا وادعت لزوجها الخلافة وزحزحته عن مقامه ولم يكن
يمكنه الاعتذار والموافقة بشئ. لأنه يكون قد أسجل على نفسه أنها صادقة فيها تدعى
كائنا ما كان من غير حاجة إلى بينة ولا شهود. وهذا كلام صحيح. وإن كان أخرجه مخرج
الدعابة والهزل.
فأما قول قاضي القضاة: لو كان في يدها لكان الظاهر أنها لها واعتراض المرتضى عليه
بقوله: إنه لم يعتمد في إنكار ذلك على حجة بل قال: لو كانت في يدها لكان الظاهر
أنها لها والامر على ما قال: فمن. أين أنها لم تخرج عن يدها على وجه! كما أن الظاهر
284

يقتضى خلافه. فإنه لم يجب عما ذكره قاضي القضاة. لان معنى قوله: إنها لو كانت في يدها
أي متصرفة فيها لكانت اليد حجة في الملكية. لان اليد والتصرف حجة لا محالة فلو
كانت في يدها تتصرف فيها وفى ارتفاقها كما يتصرف الناس في ضياعهم وأملاكهم لما احتاجت إلى الاحتجاج بآية الميراث ولا بدعوى النحل. لان اليد حجة فهلا قالت لأبي بكر:
هذه الأرض في يدي. ولا يجوز انتزاعها منى إلا بحجة! وحينئذ كان يسقط احتجاج
أبى بكر بقوله: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث) لأنها ما تكون قد ادعتها ميراثا ليحتج
عليها بالخبر. وخبر أبي سعيد في قوله: (فأعطاها فدك) يدل على الهبة لا على القبض
والتصرف. ولأنه يقال: أعطاني فلان كذا فلم أقبضه ولو كان الاعطاء هو القبض والتصرف
لكان هذا الكلام متناقضا.
فأما تعجب المرتضى من قول أبى على: إن دعوى الإرث كانت متقدمة على دعوى
النحل وقوله: إنا لا نعرف له غرضا في ذلك فإنه لا يصح له بذلك مذهب ولا يبطل
على مخالفيه مذهب. فإن المرتضى لم يقف على مراد الشيخ أبى على في ذلك. وهذا شئ
يرجع إلى أصول الفقه فإن أصحابنا استدلوا على جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد
بإجماع الصحابة لأنهم أجمعوا على تخصيص قوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم) (1) برواية أبى بكر عن النبي صلى الله عليه وآله (لا نورث ما تركناه صدقة). قالوا:
والصحيح في الخبر أن فاطمة عليه السلام طالبت بعد ذلك بالنحل لا بالميراث فلهذا قال
الشيخ أبو علي: إن دعوى الميراث تقدمت على دعوى النحل وذلك لأنه ثبت أن فاطمة
انصرفت عن ذلك المجلس غير راضية ولا موافقة لأبي بكر. فلو كانت دعوى الإرث متأخرة
وانصرفت عن سخط لم يثبت الاجماع على تخصيص الكتاب بخبر الواحد. أما إذا كانت
دعوى الإرث متقدمة فلما روى لها الخبر أمسكت وانتقلت إلى النزاع من جهة أخرى فإنه يصح حينئذ الاستدلال بالاجماع على تخصيص الكتاب بخبر الواحد.

(1) سورة النساء 11.
285

فأما أنا فإن الاخبار عندي متعارضة يدل بعضها على أن دعوى الإرث متأخرة ويدل
بعضها على أنها متقدمة. وأنا في هذا الموضع متوقف.
وما ذكره المرتضى من أن الحال تقتضي أن تكون البداية بدعوى النحل فصحيح
وأما إخفاء القبر وكتمان الموت وعدم الصلاة وكل ما ذكره المرتضى فيه فهو الذي يظهر
ويقوى عندي لان الروايات به أكثر وأصح من غيرها وكذلك القول في موجدتها
وغضبها فأما المنقول عن رجال أهل البيت فإنه يختلف فتارة وتارة وعلى كل حال
فميل أهل البيت إلى ما فيه نصرة أبيهم وبيتهم.
وقد أخل قاضي القضاة بلفظة حكاها عن الشيعة فلم يتكلم عليها وهي لفظة جيدة.
قال: قد كان الأجمل أن يمنعهم التكرم مما ارتكبا منها فضلا عن الدين. وهذا
الكلام لا جواب عنه ولقد كان التكرم ورعاية حق رسول الله صلى الله عليه وآله
وحفظ عهده يقتضى أن تعوض ابنته بشئ يرضيها إن لم يستنزل المسلمون عن فدك
وتسلم إليها تطيبا لقلبها. وقد يسوغ للامام أن يفعل ذلك من غير مشاورة المسلمين
إذا رأى المصلحة فيه وقد بعد العهد الان بيننا وبينهم ولا نعلم حقيقة ما كان وإلى الله
نرجع الأمور.
* * *
الأصل: ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج
هذا القز ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة
- ولعل بالحجاز أو باليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع -
أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى وأكباد حرى أو أكون كما قال القائل:
وحسبك عارا أن تبيت ببطنة وحولك أكباد تحن إلى القد
286

أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره
الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش! فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات
كالبهيمة المربوطة. همها علفها أو المرسلة. شغلها تقممها تكترش من
أعلافها وتلهو عما يراد بها أو أترك سدى أو أهمل عابثا أو أجر حبل
الضلالة أو أعتسف طريق المتاهة!
* * *
الشرح:
قد روى: (ولو شئت لاهتديت إلى هذا العسل المصفى ولباب هذا البر المنقى.
فضربت هذا بذاك. حتى ينضج وقودا ويستحكم معقودا).
وروى: (ولعل بالمدينة يتيما تربا يتضور سغبا أأبيت مبطانا وحولي بطون غرثى
إذن يحضرني يوم القيامة وهم من ذكر وأنثى).
وروى: (بطون غرثى) بإضافة (بطون) إلى (غرثى).
والقمح: الحنطة.
والجشع: أشد الحرص.
والمبطان: الذي لا يزال عظيم البطن من كثرة الاكل. فأما المبطن: فالضامر البطن
وأما البطين فالعظيم البطن لا الاكل. وأما البطن فهو الذي لا يهمه إلا بطنه.
وأما المبطون فالعليل البطن. وبطون غرثى: جائعة والبطنة: الكظة. وذلك أن يمتلئ
الانسان من الطعام امتلاء شديدا وكان يقال: ينبغي للانسان أن يجعل وعاء بطنه أثلاثا:
فثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس.
287

والتقمم: أكل الشاة ما بين يديها بمقمتها أي بشفتها. وكل ذي ظلف كالثور وغيره
فهو ذو مقمة.
وتكترش من أعلافها: تملأ كرشها من العلف.
قوله: (أو أجر حبل الضلالة) منصوب بالعطف على (يشغلني) وكذلك
(أترك) ويقال: أجررته رسنه إذا أهملته
والاعتساف: السلوك في غير طريق واضح.
والمتاهة: الأرض يتاه فيها أي يتحير.
وفى قوله: (لو شئت لاهتديت) شبه من قول عمر: لو نشاء لملأنا هذا الرحاب
من صلائق وصناب. وقد ذكرناه فيما تقدم.
وهذا البيت من أبيات منسوبة إلى حاتم بن عبد الله الطائي الجواد وأولها:
أيا ابنة عبد الله وابنة مالك * ويا ابنة ذي الجدين والفرس الورد (1)
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له * أكيلا فإني لست آكله وحدي
قصيا بعيدا أو قريبا فإنني * أخاف مذمات الأحاديث من بعدي (2)
كفى بك عارا أن تبيت ببطنة * وحولك أكباد تحن إلى القد (3)
وإني لعبد الضيف ما دام نازلا * وما من خلالي غيرها شيمة العبد.
* * *

(1) ديوان الحماسة بشرح المرزوقي 4: 1668.
(2) الحماسة: * أخا طارقا أو جار بيت فإنني *
(3) لم يرد في رواية الحماسة.
288

الأصل: وكأني بقائلكم يقول: إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب فقد قعد به
الضعف عن قتال الاقران ومنازلة الشجعان. ألا وإن الشجرة (1) البرية
أصلب عودا والرواتع الخضرة أرق جلودا والنابتات العذية أقوى وقودا
وأبطأ خمودا.
وأنا من رسول الله كالضوء من الضوء والذراع من العضد. والله لو تظاهرت
العرب على قتالي لما وليت عنها ولو أمكنت الفرص (3) من رقابها لسارعت إليها
وسأجهد في أن أطهر الأرض من هذا الشخص المعكوس والجسم المركوس
حتى تخرج المدرة من بين حب الحصيد.
* * *
الشرح: الشجرة البرية: التي تنبت في البر الذي لا ماء فيه فهي أصلب عودا من الشجرة
التي تنبت في الأرض الندية وإليه وقعت الإشارة بقوله (والرواتع الخضرة أرق
جلودا).
ثم قال: (والنابتات العذية) التي تنبت عذيا والعذي بسكون الذال: الزرع
لا يسقيه إلا ماء المطر وهو يكون أقل أخذا من الماء من النبت سقيا قال عليه السلام:
إنها تكون أقوى وقودا مما يشرب الماء السائح أو ماء الناضح وأبطأ خمودا. وذلك
لصلابة جرمها.
ثم قال: (وأنا من رسول الله صلى الله عليه وآله كالضوء من الضوء والذراع من العضد).

(1) في د (التربة).
(2) في د (والمرتع).
(3) في ا، د (الفرصة).
289

وذلك لان الضوء الأول يكون علة في الضوء الثاني ألا ترى أن الهواء المقابل للشمس يصير
مضيئا من الشمس! فهذا الضوء هو الضوء الأول.
ثم إنه يقابل وجه الأرض فيضئ وجه الأرض منه فالضوء الذي على وجه الأرض
هو الضوء الثاني وما دام الضوء الأول ضعيفا فالضوء الثاني ضعيف. فإذا ازداد الجو إضاءة
ازداد وجه الأرض إضاءة لان المعلول يتبع العلة فشبه عليه السلام نفسه بالضوء الثاني
وشبه رسول الله صلى الله عليه وآله بالضوء الأول وشبه منبع الأضواء والأنوار سبحانه
وجلت أسماؤه بالشمس التي توجب الضوء الأول ثم الضوء الأول يوجب الضوء الثاني.
وها هنا نكتة وهي أن الضوء الثاني يكون أيضا علة لضوء ثالث وذلك أن الضوء
الحاصل على وجه الأرض - وهو الضوء الثاني - إذا أشرق على جدار مقابل ذلك الجدار
قريبا منه مكان مظلم فإن ذلك المكان يصير مضيئا بعد أن كان مظلما وإن كان لذلك
المكان المظلم باب وكان داخل البيت مقابل ذلك الباب جدار كان ذلك الجدار أشد إضاءة
من باقي البيت ثم ذلك الجدار إن كان فيه ثقب إلى موضع آخر كان ما يحاذي ذلك البيت
أشد إضاءة مما حواليه وهكذا لا تزال الأضواء (1) يوجب بعضها بعضا على وجه الانعكاس
بطريق العلية وبشرط المقابلة ولا تزال تضعف درجة درجة إلى أن تضمحل ويعود الامر
إلى الظلمة. وهكذا عالم العلوم. والحكم المأخوذة من أمير المؤمنين عليه السلام
لا تزال تضعف كما انتقلت من قوم إلى قوم إلى أن يعود الاسلام غريبا كما بدأ بموجب الخبر
النبوي الوارد في الصحاح.
وأما قوله: (والذراع من العضد) فلان الذراع فرع على العضد والعضد أصل
ألا ترى أنه لا يمكن أن يكون ذراع إلا إذا كان عضد ويمكن أن يكون عضد لا ذراع له
ولهذا قال الراجز لولده:
يا بكر بكرين ويا خلب الكبد * أصبحت منى كذراع من عضد.

(1) كذا في (د). ا، ب: (لا يزال الضوء).
290

فشبه عليه السلام بالنسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله بالذراع الذي العضد أصله وأسه
والمراد من هذا التشبيه الإبانة عن شدة الامتزاج والاتحاد والقرب بينهما. فإن الضوء
الثاني شبيه بالضوء الأول والذراع متصل بالعضد اتصالا بينا. وهذه المنزلة قد أعطاه إياها
رسول الله صلى الله عليه وآله في مقامات كثيرة نحو قوله في قصة براءة: (قد أمرت
أن لا يؤدى عنى إلا أنا أو رجل منى) وقوله: (لتنتهن يا بنى وليعة أو لأبعثن
إليكم رجلا منى) أو قال: (عديل نفسي) وقد سماه الكتاب العزيز (نفسه)
فقال: (ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم) (1) وقد قال له: (لحمك مختلط بلحمي
ودمك مسوط بدمي وشبرك وشبري واحد).
فإن قلت: أما قوله: (لو تظاهرت العرب على لما وليت عنها) فمعلوم فما الفائدة في
قوله: (ولو أمكنت الفرصة من رقابها لسارعت (2) إليها)؟ وهل هذا مما يفخر به الرؤساء
ويعدونه منقبة وإنما المنقبة أن لو أمكنته الفرصة تجاوز وعفا!
قلت: غرضه أن يقرر في نفوس أصحابه وغيرهم من العرب أنه يحارب على حق
وأن حربه لأهل الشام كالجهاد أيام رسول الله صلى الله عليه وآله وأن من يجاهد الكفار
يجب عليه أن يغلظ عليهم ويستأصل شأفتهم ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وآله
لما جاهد بني قريظة وظفر لم يبق ولم يعف وحصد في يوم واحد رقاب ألف انسان صبرا
في مقام واحد لما علم في ذلك من إعزاز الدين وإذلال المشركين فالعفو له مقام والانتقام له
مقام.
قوله: (وسأجهد في أن أطهر الأرض) الإشارة في هذا إلى معاوية سماه شخصا
معكوسا وجسما مركوسا والمراد انعكاس عقيدته وأنها ليست عقيدة هدى بل هي
معاكسة للحق والصواب وسماه مركوسا من قولهم: ارتكس في الضلال والركس

(1) سورة آل عمران 61.
(2) د (لأسرعت).
291

رد الشئ مقلوبا قال تعالى: (والله أركسهم بما كسبوا) (2) أي قلبهم وردهم إلى
كفرهم فلما كان تاركا للفطرة التي كل مولود يولد عليها كان مرتكسا في ضلاله
وأصحاب التناسخ يفسرون هذا بتفسير آخر قالوا: الحيوان على ضربين منتصب ومنحن
فالمنتصب الانسان والمنحني ما كان رأسه منكوسا إلى جهة الأرض كالبهائم
والسباع.
قالوا: وإلى ذلك وقعت الإشارة بقوله: (أفمن يمشى مكبا على وجهه أهدى
أمن يمشى سويا على صراط مستقيم) (2).
قالوا: فأصحاب الشقاوة تنتقل أنفسهم عند الموت إلى الحيوان المكبوب وأصحاب
السعادة تنتقل أنفسهم إلى الحيوان المنتصب ولما كان معاوية عنده ع من أهل
الشقاوة سماه معكوسا ومركوسا رمزا إلى هذا المعنى.
قوله: (حتى تخرج المدرة من بين حب الحصيد) أي حتى يتطهر الدين وأهله منه
وذلك لان الزراع يجتهدون في إخراج المدر والحجر والشوك والعوسج ونحو ذلك من
بين الزرع كي تفسد منابته. فيفسد الحب الذي يخرج منه فشبه معاوية بالمدر ونحوه من
مفسدات الحب وشبه الدين بالحب الذي هو ثمرة الزرع.
* * *
الشرح: ومن هذا الكتاب وهو آخره:
إليك عنى يا دنيا فحبلك على غاربك قد انسللت من مخالبك وأفلت من
حبائلك واجتنبت الذهاب في مداحضك

(1) سورة النساء 88.
(2) سورة الملك 22.
292

أين القرون الذين غررتهم بمداعبك! أين الأمم فتنتهم بزخارفك! فها هم رهائن القبور ومضامين اللحود.
والله لو كنت شخصا مرئيا وقالبا حسيا لأقمت عليك حدود الله في عباد
غررتهم بالأماني وأمم ألقيتهم في المهاوي وملوك أسلمتهم إلى التلف
وأوردتهم موارد البلاء إذ لا ورد ولا صدر!
هيهات! من وطئ دحضك زلق ومن ركب لججك غرق ومن أزور
عن حبائلك وفق والسالم منك لا يبالي إن ضاق به مناخه. والدنيا عنده كيوم
حان انسلاخه.
* * *
الشرح: إليك عنى أي ابعدي. وحبلك على غاربك كناية من كنايات الطلاق أي اذهبي
حيث شئت لان الناقة إذا ألقى حبلها على غاربها فقد فسح لها أن ترعى حيث شاءت
وتذهب أين شاءت لأنه إنما يردها زمامها فإذا ألقى حبلها على غاربها فقد أهملت.
والغارب: ما بين السنام والعنق. والمداحض: المزالق.
وقيل: إن في النسخة التي بخط الرضى رضي الله عنه (غررتيهم) بالياء وكذلك
(فتنتيهم) و (ألقيتيهم) و (أسلمتيهم) و (أوردتيهم) والأحسن حذف الياء
وإذا كانت الرواية وردت بها فهي من إشباع الكسرة كقوله:
ألم يأتيك والأنباء تنمى * بما فعلت لبون بنى زياد
ومضامين اللحود أي الذين تضمنتهم وفى الحديث نهى عن بيع المضامين والملاقيح
وهي ما في أصلاب الفحول وبطون الإناث.
293

ثم قال: لو كنت أيتها الدنيا إنسانا محسوسا كالواحد من البشر لأقمت عليك
الحد كما فعلت بالناس.
ثم شرح أفعالها فقال: منهم من غررت ومنهم من ألقيت في مهاوي الضلال والكفر
ومنهم من أتلفت وأهلكت.
ثم قال: ومن وطئ دحضك زلق مكان دحض أي مزلة.
ثم قال: لا يبالي من سلم منك إن ضاق مناخه لا يبالي بالفقر ولا بالمرض
ولا بالحبوس والسجون وغير ذلك من أنواع المحن! لان هذا كله حقير لا اعتداد به
في جنب السلامة من فتنة الدنيا.
قال: والدنيا عند من قد سلم منها كيوم قرب انقضاؤه وفناؤه.
* * *
الأصل: اعزبي عنى! فوالله لا أذل لك فتستذليني ولا أسلس لك فتقوديني وأيم الله
يمينا أستثني فيها بمشيئة الله لأروضن نفسي رياضة تهش معها إلى القرص إذا
قدرت عليه مطعوما وتقنع بالملح مأدوما ولأدعن مقلتي كعين ماء نضب معينها
مستفرغة دموعها أتمتلئ السائمة من رعيها فتبرك وتشبع الربيضة من عشبها
فتربض ويأكل على من زاده فيهجع!
قرت إذا عينه إذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة والسائمة
المرعية!
طوبى لنفس أدت إلى ربها فرضها وعركت بجنبها بؤسها وهجرت في
294

الليل غمضها حتى إذا غلب الكرى عليها افترشت أرضها وتوسدت كفها
في معشر أسهر عيونهم خوف معادهم وتجافت عن مضاجعهم جنوبهم
وهمهمت بذكر ربهم شفاههم وتقشعت بطول استغفارهم ذنوبهم (أولئك
حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون).
فاتق الله يا ابن حنيف ولتكفف أقراصك. ليكون من النار خلاصك.
* * *
الشرح: اعزبي: ابعدي يقال عزب الرجل بالفتح أي بعد ولا أسلس لك بفتح اللام أي
لا أنقاد لك سلس الرجل بالكسر يسلس فهو بين السلس أي سهل قياده.
ثم حلف واستثنى بالمشيئة أدبا كما أدب الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله
ليروضن نفسه أي يدربها بالجوع والجوع هو أصل الرياضة عند الحكماء
وأرباب الطريقة.
قال: (حتى أهش إلى القرص) أي إلى الرغيف وأقنع من الادام بالملح.
ونضب معينها: فنى ماؤها.
ثم أنكر على نفسه فقال: أتشبع السائمة من رعيها - بكسر الراء وهو الكلأ -
والربيضة - جماعة من الغنم أو البقر تربض في أماكنها. وأنا أيضا مثلها أشبع وأنام!
لقد قرت عيني إذا حيث (1) أشابه البهائم بعد الجهاد والسبق والعبادة والعم والجد في
السنين المتطاولة.
قوله: (وعركت بجنبها بؤسها) أي صبرت على بؤسها والمشقة التي تنالها. يقال:
قد عرك فلان بجنبه الأذى أي أغضى عنه وصبر عليه.

(1) في د (إذا).
295

قوله: (افترشت أرضها) أي لم يكن لها فراش إلا الأرض.
(وتوسدت كفها) لم يكن لها وسادة إلا الكف.
(وتجافت عن مضاجعهم جنوبهم) لفظ الكتاب العزيز (تتجافى جنوبهم
عن المضاجع) (1).
وهمهمت: تكلمت كلاما خفيا.
وتقشعت ذنوبهم: زالت وذهبت كما يتقشع السحاب.
قوله: (ولتكفف أقراصك) إنما هو نهى لابن حنيف أن يكف عن الأقراص
وإن كان اللفظ يقتضى أن تكف الأقراص عن ابن حنيف. وقد رواها قوم بالنصب
قالوا: (فاتق الله يا ابن حنيف ولتكفف أقراصك لترجو بها من النار خلاصك) والتاء
هاهنا للامر عوض الياء وهي لغة لا بأس بها وقد قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وآله
قرأ (فبذلك فلتفرحوا) (2) بالتاء.
تم الجزء السادس عشر من شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد
ويليه الجزء السابع عشر

(1) سورة السجدة 16.
(2) سورة يونس 58.
296