الكتاب: الاستذكار
المؤلف: ابن عبد البر
الجزء: ٢
الوفاة: ٤٦٣
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ القسم العام
تحقيق: سالم محمد عطا-محمد علي معوض
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ٢٠٠٠م
المطبعة: بيروت - دار الكتب العلمية
الناشر: دار الكتب العلمية
ردمك:
ملاحظات:

بسم الله الرحمن الرحيم
((4 كتاب السهو))
((1 باب العمل في السهو))
هذا الباب كله محمول عند مالك وأصحابه على أنه من يكثر عليه الوهم فلا ينفك منه أو لا يكاد ينفك منه فيسمونه المستنكح (1) بكثرة الوهم فمن كانت هذه حاله أجزأه أن يسجد سجدتين بعد التسليم لترغيم الشيطان
وفي حديث هذا الباب الذي رواه مالك عن بن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
193 إن أحدكم إذا قام يصلي جاءه الشيطان فلبس عليه (2 حتى لا يدري كم صلى فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس
فأخبر أن الشيطان لبس عليه فلذلك يرغمه بالسجدتين لأنه يقال ليس على الشيطان عمل أثقل ولا أصعب من سجود بن آدم لربه وذلك والله أعلم لما لحقه من سخط الله عند امتناعه من السجود لآدم وإنما جاز لهذا ومن كان مثله سجود السهو عند البناء على يقينه لأنه شيء لا ينفك عنه يعتريه أبدا ولا يؤمن عليه فيما يقضيه أن ينوبه مثل ما نابه إذ قد علم من نفسه أنه لا يسلم من الوسوسة في ذلك
3

ولذلك أردف مالك حديثه المسند في هذا الباب بما بلغه عن القاسم بن محمد أن رجلا سأله فقال إني أهم (1) في صلاتي فيكثر ذلك علي فقال القاسم امض في صلاتك فإنه لن يذهب عنك حتى تنصرف وأنت تقول ما أتممت صلاتي
قال أبو عمر هذا عندي فيمن يغلب عليه أنه يعتريه ذلك مع إتمام صلاته وأن تلك الوسوسة قد علم من نفسه فيها أنها تعتريه وقد أكمل ما عليه من العمل في الأغلب وأنه لا ينفك منها والأغلب عنده أنها وسوسة تنوبه مع حاله تلك ولم يكن يعرف من نفسه قبل أن يعتريه ذلك إلا الإتمام والله أعلم
وأما من كان الأغلب عليه أنه لم يكمل صلاته فالحكم فيه أن يبني على يقينه فإن اعتراه ذلك فيما يبني لها أيضا عنه على ما جاء عن القاسم وغيره ويدلك على أن حديث هذا الباب غير حديث البناء على اليقين أن أبا سعيد الخدري هو الذي روى فيمن لم يدر أثلاثا صلى أم أربعا أن يصلي ركعة وهو على البناء على اليقين في أصل فرضه ألا يخرج عنه إلا بيقين
وقد ذكرنا في الباب قبل هذا عند ذكر حديث مالك عن زيد بن أسلم في البناء على اليقين من قال من العلماء بالتحري في معنى هذا الحديث أيضا فأغنى ذلك عن ذكره ها هنا
وقد روى أبو سعيد عن النبي عليه السلام أنه قال إذا صلى أحدكم فلم يدر أزاد أم نقص فليسجد سجدتين وهو قاعد فإذا أتاه الشيطان فقال إنك أحدثت فليقل كذبت إلا أن يجد ريحا بأنفه أو صوتا بأذنه (2)
رواه يحيى بن أبي كثير عن هلال بن عياض عن أبي سعيد الخدري وقد أسندناه في التمهيد
فهذا أبو سعيد الخدري قد روى في هذا المعنى مثل ما روى أبو هريرة وحصل في ذلك عن أبي سعيد حديثان
ومحال أن يكون معناهما واحدا باختلاف ألفاظهما بل لكل واحد منهما موضع وهو ما ذكرنا من أن هذا في الذي يعتريه الشك دأبا لا ينفك منه قد استنكحه ومع ذلك فقد أتم في أغلب ظنه عند نفسه
والحديث الآخر على من لم يدر أثلاثا صلى أم أربعا مثل حديث عبد الرحمن بن عوف
وقد ذكرنا أسانيدها كلها في التمهيد
4

وبمعنى ما ذكرنا فسر الليث بن سعد حديث هذا الباب حكاه عنه بن وهب وهو قول مالك وأصحابه
وذكر عيسى بن دينار في كتاب الصلاة من كتاب المدونة عن بن القاسم عن مالك قال إذا كثر السهو على الرجل ولزمه ذلك ولا يدري أسها أم لا سجد سجدتي السهو بعد السلام
ثم قيل لابن القاسم أرأيت رجلا سها في صلاته ثم نسي سهوة فلا يدري أقبل السلام أم بعده
قال يسجد قبل السلام
قال أبو مصعب من استنكحه السهو فليله عنه وليدعه ولو سجد بعد السلام لكان حسنا
ومذهب الشافعي فيمن وصفنا حاله أن يسجد قبل السلام ولا خرج عند مالك وأصحابه لو سجد قبل السلام
وقد ذكرنا في التمهيد من قال من أصحاب بن شهاب في هذا الباب فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين قبل السلام وذكرنا حديث عبد الله بن جعفر عن النبي عليه السلام أنه قال من شك في صلاته فليسجد سجدتين بعد ما يسلم
194 وأما قوله إنه بلغه إن رسول الله عليه السلام قال إني لأنسى أو أنسى لأسن
فهذا حديث لا يعرف بهذا اللفظ في الموطأ ولا يأتي مسندا بهذا اللفظ بوجه من الوجوه والله أعلم أو أنسى شك من المحدث وأما قوله لأسن فإنه يريد لأسن لأمتي كيف العمل فيما ينوبهم من السهو ليقتدوا بي ويتأسوا بفعلي
وقد ذكرنا في التمهيد عند ذكر بلاغات مالك ما روى عن النبي عليه السلام في معنى قوله إني لأنسى أو أنسى لأسن والله الموفق
5

((5 كتاب الجمعة))
((1 باب العمل في غسل يوم الجمعة))
195 مالك عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنه (1) ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر
فيه الندب إلى الاغتسال يوم الجمعة والأحاديث في غسل الجمعة كثير جدا منها ما ظاهره الوجوب ومنها ما هو ندب وسنبين معنى ذلك كله في هذا الباب
وأما ذكره فيه الساعات الخمس وأن الصلاة كانت في السادسة فإن أهل العلم مختلفون في تلك الساعات
فقالت طائفة أراد الساعات من طلوع الشمس وصفائها وهو أفضل البكور في ذلك الوقت إلى الجمعة وهو قول الثوري وأبي حنيفة والشافعي وأكثر العلماء كلهم يستحب البكور إليها
قال الشافعي ولو بكر إليها بعد الفجر وقبل طلوع الشمس لكان حسنا
6

وذكر الأثرم قيل لأحمد بن حنبل كان مالك يقول لا ينبغي التهجير (1) يوم الجمعة باكرا
قال هذا خلاف حديث النبي عليه السلام
وقال سبحان الله إلى أي شيء ذهب في هذا والنبي عليه السلام يقول كالمهدي جزورا (2)
وأما مالك فذكر يحيى بن عمر عن حرملة أنه سأل بن وهب عن تفسير هذه الساعات أهو الغدو (3) من أول ساعات النهار أو إنما أراد بهذا القول ساعات الرواح (4)
فقال بن وهب سألت مالكا عن هذا فقال أما الذي يقع في قلبي فإنه إنما أراد ساعة واحدة تكون فيها هذه الساعات من راح في أول تلك الساعة أو الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو الخامسة ولو لم يكن كذلك ما صليت الجمعة حتى يكون النهار تسع ساعات في وقت العصر أو قريبا من ذلك
وكان بن حبيب ينكر قول مالك هذا ويميل إلى القول الأول
وقال قول مالك هذا تحريف في تأويل الحديث ومحال من وجوه
قال وذلك أنه لا تكون ساعات في ساعة واحدة
قال والشمس إنما تزول في الساعة السادسة من النهار وهو وقت الأذان وخروج الإمام إلى الخطبة فدل ذلك على أن الساعات المذكورات في هذا الحديث هي ساعات النهار المعروفات فبدأ بأول ساعات النهار فقال من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ثم قال في الخامسة بيضة ثم انقطع التهجير وحان وقت الأذان
قال فشرح الحديث بين في لفظه ولكنه حرف عن موضعه وشرح بالخلف من القول وما لا يتكون وزهد شارحه الناس فيما رغبهم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من التهجير في أول النهار وزعم أن ذلك كله إنما يجتمع في ساعة واحدة قرب زوال الشمس
7

قال وقد جاءت الآثار بالتهجير إلى الجمعة في أول النهار (1) وقد سقنا ذلك في موضعه من كتاب واضح السنن بما فيه بيان وكفاية
هذا كله قول بن حبيب
قال أبو عمر هذا كله تحامل منه على مالك فهو الذي قال القول الذي أنكره وجعله خلفا من القول وتحريفا من التأويل
والذي قاله مالك تشهد له الآثار الصحاح من رواية الأئمة ويشهد له أيضا العمل بالمدينة عنده وهذا مما يصح فيه الاحتجاج بالعمل لأنه أمر متردد كل جمعة لا يخفى على عامة العلماء
فمن الآثار التي يحتج بها مالك ما رواه الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام قال إذا كان يوم الجمعة قام على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الناس الأول فالأول فالمهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة ثم الذي يليه كالمهدي بقرة ثم الذي يليه كالمهدي كبشا حتى ذكر الدجاجة والبيضة فإذا جلس الإمام طويت الصحف واستمعوا الخطبة (2)
وقد ذكرنا الإسناد إلى الزهري في التمهيد من طرق جلبنا فيها الاختلاف عنه فيه وقد ذكرناه عن غيره أيضا من وجوه
ألا ترى إلى ما في هذا الحديث أنه قال يكتبون الناس الأول فالأول المهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة ثم الذي يليه فجعل الأول مهجرا
وهذه اللفظة إنما هي مأخوذة من الهاجرة والهجير وذلك وقت النهوض إلى الجمعة وليس ذلك عند طلوع الشمس لأن ذلك الوقت به هاجرة ولا هجير
وفي الحديث ثم الذي يليه ثم الذي يليه ولم يذكر الساعات
والطرق بذلك اللفظ كثيرة مذكورة في التمهيد وفي بعضها المتعجل إلى
8

الجمعة كالمهدي بدنة (1) وفي أكثرها المهجر إلى الجمعة كالمهدى بدنة الحديث
وفي بعضها ما يدل على أنه جعل الرائح إلى الجمعة في أول الساعة كالمهدى بدنة وفي آخرها كذلك وفي أول الساعة الثانية كالمهدي بقرة وفي آخرها كذلك
وهذا كله مذكور في التمهيد والحمد لله
وقال بعض أصحاب الشافعي لم يرد النبي عليه السلام بالمهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة الناهض إليها في الهجير والهاجرة وإنما أراد بذلك التارك لأشغاله وأعماله من طلب الدنيا للنهوض إلى الجمعة كالمهدى بدنة وذلك مأخوذ من الهجرة وهي ترك الوطن والنهوض إلى الله ومنه سمي المهاجرون
وقال الشافعي أحب التبكير إلى الجمعة ولا تؤتى إلا مشيا
وأما قوله في حديث مالك حضرت الملائكة يستمعون الذكر فالذكر هنا الخطبة وقد بين ذلك في حديث بن المسيب عن أبي هريرة قوله يستمعون الخطبة
وقد استدل الشافعي وأصحابه بحديث هذا الباب في تفضيل البدن على البقر والبقر على الضأن في الضحايا والهدايا
وهذا موضع اختلف فيه الفقهاء
فقال مالك وأصحابه أفضل الضحايا فحول الضأن وإناث الضأن أفضل من فحول المعز وفحول المعز أفضل من إناثها وإناث المعز أفضل من الإبل والبقر في الضحايا
واحتج بعضهم في ذلك بقوله تعالى " وفدينه بذبح عظيم " [الصافات 107] وذلك كبش لا جمل ولا بقرة
وقال بعضهم لو علم الله حيوانا أفضل من الكبش لفدى به إسحاق وضحى رسول الله بكبشين أملحين (2) وأكثر ما ضحى بالكباش
وذكر بن أبي شيبة عن بن علية عن ليث عن مجاهد قال الذبح العظيم الشاة
9

وقد روى الحنيني عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل جبريل في يوم عيد فقلت يا جبريل كيف ترى عيدنا فقال يا محمد لقد تباهى به أهل السماء وقال اعلم يا محمد أن الجذع من الضأن خير من المسن من المعز والبقر والإبل ولو علم الله ذبحا خيرا منه لفدى به إبراهيم ابنه
وهذا حديث لا أعلم له إسنادا غير هذا انفرد به الحنيني وليس ممن يحتج به
قال أبو عمر الكبش أول قربان تقبله الله من أحد ابني آدم ثم فدى بمثله الذبيح وحسبك بهذا كله فضلا
وقال الشافعي الإبل أحب إلي أن يضحى بها من البقر والبقر أحب إلي من الغنم والضأن أحب إلي من المعز
وقال أبو حنيفة وأصحابه الجزور في الأضحية أفضل ما ضحى به ثم يتلوه البقر ثم يتلوه الشاء
ومن حجة من ذهب إلى هذا حديث هذا الباب وما كان مثله في تقديم البدن في الفضل مما يتقرب به إلى الله قوله فكأنما قرب بدنة ثم بقرة ثم كبشا حتى الدجاجة والبيضة وإجماعهم على أن أفضل الهدايا الإبل فكان هذا الإجماع يقضي على ما اختلفوا فيه من الضحايا لأنها نسكان شريعة وقربان
وقد قالوا أيضا ما استيسر من الهدي شاة فدل على نقصان ذلك عن مرتبة ما هو أعلى منه
وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الرقاب (1) فقال أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها
ومعلوم أن الإبل أنفس وأغلى عند الناس من الغنم
قال وأما قوله تعالى " وفدينه بذبح عظيم " [الصافات 107] فجائز أن يطلق عليه عظيم لما ذكر عن بن عباس أنه رعى في الجنة أربعين خريفا وأنه الذي قربه بن آدم فتقبل منه ورفع إلى الجنة فلهذا قال فيه * (العظيم) * والله أعلم
196 ثم ذكر مالك في هذا الباب أيضا عن صفوان بن سليم عن عطاء بن
10

يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي عليه السلام أنه قال غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم (1)
197 وعن سعيد بن أبي سعيد (المقبري) عن أبي هريرة أنه كان يقول غسل الجمعة واجب على كل محتلم كغسل الجنابة
وهذان الحديثان ظاهرهما الوجوب الذي هو لازم ولا أعلم أحدا أوجب غسل الجمعة فرضا إلا أهل الظاهر فإنهم أوجبوه وجعلوا تاركه غامدا عاصيا لله وهم مع ذلك يجيزون صلاة الجمعة دون غسل لها واحتجوا بظاهر الحديثين اللذين ذكرناهما وهما ثابتان ولكن المعنى فيهما غير ظاهرهما بالدلائل الموجبة إخراجهما عن الظاهر
فأول ذلك ما ذكرناه في التمهيد من حديث الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أتى الجمعة فتوضأ فيها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل (2)
فهذا أبو سعيد قد روى الحديثين معا وفي هذا ما يدل على أن غسل الجمعة فضيلة لا فريضة فلم يبق إلا أنه على الندب كأنه قال واجب في الأخلاق الكريمة وحسن المجالسة كما تقول العرب وجب حقك أي في كرم الأخلاق والبر بالصديق ونحو هذا
ومثل هذا حديث سمرة ذكرناه أيضا في التمهيد عن قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل (3)
وقال أبو عيسى الترمذي قلت للبخاري قولهم إن الحسن لم يسمع من
11

سمرة إلا حديث العقيقة قال قد سمع منه أحاديث كثيرة وجعل روايته عن سمرة سماعا وصححها
ومن حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي سعيد الخدري قال ثلاث هن على كل مسلم يوم الجمعة الغسل والسواك ويمس طيبا إن وجد
ومعلوم أن الطيب والسواك ليس بواجبين فكذلك الغسل والله أعلم
وأما قول أبي هريرة كغسل الجنابة فإنه أراد الهيئة والكيفية ففي هذا جاء تشبيهه له بغسل الجنابة لا في الفرض والوجوب بما ذكرنا من الدلائل مع أنه محفوظ معلوم عن أبي هريرة أنه كان يأمر بالغسل ولا يوجبه فرضا ويقول فيه كغسل الجنابة
ورواه سفيان وغيره عن عاصم بن عبيد الله عن مولى لبني أدهم عن أبي هريرة أنه خرج إلى المسجد فلقي امرأة قد تطيبت أين تريدين يا أمة الله قالت إلى المسجد قال وله تطيبت قالت نعم قال فارجعي فاغسلي عنك الطيب فإن الله لا يقبل منك حتى ترجعي فتغسليه عنك كغسلك من الجنابة (1)
وبعض رواة هذا الحديث عن عاصم يرفعه إلى النبي عليه السلام
والحديث المذكور في أول هذا الباب عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى الحديث يشهد أيضا بما وصفنا وبالله توفيقنا وقد ساوى أبو هريرة بين الغسل والطيب للجمعة والطيب قد أجمعوا على أنه ليس بواجب فكذلك الغسل
رواه سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن طاوس قال سمعت أبا هريرة يقول حق الله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوما يغسل كل شيء منه ويمس من طيب إن كان لأهله
12

وهذا الحديث أثبت إسنادا من حديث مالك عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة
وقد مضى في الطيب يوم الجمعة في باب السواك ما فيه كفاية والحمد لله
وأما قوله في حديث سمرة وأبي سعيد من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت (1) فإن أبا حاتم ذكر عن الأصمعي أنه سأل عن تفسير ذلك فقال فبها أي بالسنة أخذ ونعمت الخصلة هي أو قال ونعمت الخصلة فعل
قال أبو حاتم ونعمت بالتاء في الوصل والوقف هنا
قال أبو عمر لو كان الغسل للجمعة واجبا فرضا لكان من فرائض الجمعة ألا تجزئ إلا به
وقد أجمع العلماء على أن صلاة من شهد الجمعة على وضوء دون غسل جائزة ماضية
ويدلك على ذلك أيضا أن عثمان دخل يوم الجمعة وعمر يخطب فقال عمر أية ساعة هذه فقال يا أمير المؤمنين انقلبت من السوق فسمعت النداء فما زدت على أن توضأت فقال عمر الوضوء أيضا وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل ولم يأمره بالخروج إلى الغسل ولا بالإعادة إذا صلاها بالوضوء بغير غسل
وعثمان قد علم من ذلك ما حمله على شهودها بغير غسل
198 وهذا الحديث رواه مالك في هذا الباب عن بن شهاب عن سالم بن عبد الله أنه قال دخل رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد يوم الجمعة وعمر يخطب وذكر الحديث
ولم يقل إنه عثمان وصح أنه عثمان من طرق كثيرة لهذا الحديث وقد ذكرتها في التمهيد وذكرنا هناك من وصل الحديث وأسنده ومن قطعه وأرسله وما فيه من المعاني والتوجيهات والحمد لله
وقول عمر في هذا الحديث الوضوء أيضا وقد علمت أن رسول الله كان يأمر
13

بالغسل مثل قوله عليه السلام في حديث بن شهاب عن بن السباق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في جمعة من الجمع يا معشر المسلمين إن هذا يوم قد جعله الله عيدا فاغتسلوا (1)
وقد ذكرنا الحديث فيما مضى من هذا الكتاب وذلك في باب السواك
وذكرنا في التمهيد أن عمر أول من تسمى بأمير المؤمنين وأوردنا الخبر بذلك وما كان سببه هناك
وفي حديث بن شهاب هذا من الفقه أيضا شهود الفضلاء السوق وطلبهم الرزق بالتجارة وفيه أن السوق يوم الجمعة لم يكن الناس يمنعون منه إلا في وقت النداء لقوله تعالى " إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله " [الجمعة 9]
ومن الدليل أيضا على أن الأمر بالغسل للجمعة ليس على الوجوب ما روته عائشة وبن عمر وبن عباس وأبو سعيد في الوجه الذي من أجله أمروا بالغسل يوم الجمعة أول ما أمروا به
وقد ذكرنا الأسانيد عنهم بذلك في التمهيد فمن ذلك أن يحيى بن سعيد الأنصاري قال سألت عمرة عن غسل الجمعة فذكرت أنها سمعت عائشة تقول كان الناس عمال أنفسهم يروحون بهيئتهم فقيل لهم لو اغتسلتم (2)
وروى إسماعيل بن أمية عن نافع عن بن عمر قال كان الناس يغدون في أعمالهم فإذا كانت الجمعة جاؤوا وعليهم ثياب درنة وألوانها متغيرة قال فشكوا ذلك إلى رسول الله فقال من جاء منكم الجمعة فليغتسل ويتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته
وفي الموطأ لمالك عن نافع عن بن عمر أنه كان لا يروح إلى الجمعة الا ادهن وتطيب إلا أن يكون حراما ولم يذكر غسلا
وروى الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة أن ناسا من أهل العراق جاؤوا فقالوا يا بن عباس الغسل يوم الجمعة واجب قال لا ولكنه أطهر وأطيب وخير لمن
اغتسل ومن لم يغتسل فلا حرج وسأخبركم كيف بدء الغسل كان الناس مجهودين يلبسون الصوف ويعملون على ظهورهم وكان
14

مسجدهم ضيقا متقارب السقف إنما هو عريش فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم حار وقد عرق الناس في ذلك الصوف حتى ثارت منهم رياح أذى بذلك بعضهم بعضا فلما وجد رسول الله تلك الريح قال أيها الناس إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا ثم جاء الله بالخير ولبسوا غير الصوف وكفوا العمل ووسع مسجدهم وذهب الذي كان يؤذي به بعضهم بعضا من العرق
وقد تقدم عن أبي سعيد أنه قرنه بالسواك والطيب يوم الجمعة
وفي إجماع الجمهور من علماء المسلمين على سقوط وجوب الغسل يوم الجمعة وجوب فرض لاتفاقهم على أن من شهد الجمعة بغير غسل أجزائه الجمعة ما يغني عن كل قول
إلا أنهم اختلفوا هل غسل الجمعة سنة مسنونة للأمة أم هو استحباب وفضل أم كان لعلة فارتفعت وليس بسنة
فذهب مالك والثوري وجماعة من أهل العلم أن غسل الجمعة سنة مؤكدة لأنها قد عمل بها رسول الله والخلفاء بعده والمسلمون واستحبوها وندبوا إليها
وهذا سبيل السنن المؤكدة
ومن حجتهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالغسل للجمعة بقوله من جاء منكم الجمعة فليغتسل (1)
وبما ذكرنا من الآثار بلفظ الأمر والوجوب فيما تقدم من هذا الباب
ثم جاءت الآثار المذكورة بجواز شهوده بغير غسل وبأنه أفضل إن اغتسل يدل على أن ذلك أمر سنة لا فرض
وروى بن وهب عن مالك أنه سئل عن غسل الجمعة واجب هو قال هو سنة ومعروف قيل له إنه في الحديث واجب قال ليس كل ما جاء في الحديث يكون كذلك
وروى أشهب عن مالك أنه سئل عن غسل الجمعة أواجب هو قال هو حسن وليس بواجب
وهذه الرواية عن مالك تدل على أنه مستحب وذلك عندهم دون منزله السنة إلا أن رواية بن وهب عنه أنه سنة عليه أكثر أصحابه بن عبد الحكم وغيره
وقد قال بن القاسم فيمن أتى الجمعة ولم يغتسل فإنه يخرج من المسجد إذا كان الوقت واسعا ثم يغتسل وقاله بن كنانة
15

قال بن كنانة إنما ترك عمر رد عثمان للغسل لضيق الوقت ولو كان فيه سعة لرده حتى يغتسل
ذكر عبد الرزاق عن بن جريج قال سألت عطاء قلت له الغسل واجب يوم الجمعة قال نعم ومن تركه فليس بآثم
وقد ذكرنا في التمهيد حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام ومن مس الحصى فقد لغا (1)
وهذا حديث ثابت عن النبي عليه السلام ليس فيه إلا الوضوء للجمعة دون غسل رواه أبو معاوية وجماعة من أصحاب الأعمش عن الأعمش هكذا
وذكر عبد الرزاق عن بن عيينة عن مسعر عن وبرة عن همام بن الحارث عن بن مسعود قال الغسل يوم الجمعة سنة
وكان الشافعي يقول إنه سنة ويحتج في تفسير لفظ الحديث في وجوبه بحديث عائشة كان الناس عمال أنفسهم الحديث وبحديث سمرة ومن اغتسل فالغسل أفضل وقد ذكرناهما وما كان في معناهما فيما تقدم من هذا الباب
وذهبت طائفة من أهل العلم إلى أن غسل الجمعة ليس بواجب وجوب سنة ولكنه مستحب مرغب فيه كالطيب والسواك
وقال بعضهم الطيب يغني عنه واحتجوا بأنه كان لعلة قد زالت على ما بينا في الآثار عن عائشة وبن عمر وبن عباس وغيرهم
وقد ذكرنا في التمهيد عن القاسم بن محمد أنهم ذكروا غسل الجمعة عند عائشة فقالت إنما كان الناس يسكنون العالية فيحضرون الجمعة وبهم وسخ فإذا أصابهم الروح سطعت أرواحهم فتأذى بهم الناس فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أو لا تغتسلون (2)
وذكر عبد الرزاق عن الثوري عن الأعمش عن إبراهيم قال كانوا لا يرون غسلا واجبا إلا غسل الجنابة وكانوا يستحبون غسل الجمعة
وقال عبد الكريم بن مالك الجزري الطيب يجزئ من الغسل يوم الجمعة
16

199 وأما حديثه عن نافع عن بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل
فقد ذكرنا في التمهيد اختلاف الألفاظ عن مالك في ذلك فبعضهم يقول عنه كما قال يحيى إذا جاء أحدكم
ومنهم من يقول إذا راح أحدكم إلى الجمعة
ومنهم من يقول إذا أتى أحدكم والمعنى كله سواء
وذكرنا هناك من جعل الحديث من أصحاب نافع عن نافع عن بن عمر عن النبي عليه السلام كما قال مالك ومن جعله عن نافع عن بن عمر عن حفصة وخالف في لفظه فقال على كل محتلم الرواح إلى الجمعة وعلى من راح إلى صلاة الجمعة الغسل وكلهم يرفعونه إلى النبي عليه السلام من غير خلاف
وقد أجمع العلماء على أن من اغتسل بعد صلاة الجمعة يوم الجمعة فليس بمغتسل للسنة ولا للجمعة ولا فاعل لما أمر به
فدل ذلك على أن الغسل للجمعة وشهودها لا لليوم ودل على أن حديث جابر عن النبي عليه السلام أنه قال الغسل واجب على كل محتلم في كل أسبوع يوما وهو يوم
الجمعة أنه ليس على ظاهره وأن المعنى فيه على ما ذكرنا
وأما ألفاظ حديث بن عمر هذا إذا جاء أحدكم الجمعة أو إذا راح أحدكم إلى الجمعة فليغتسل فيدل على أن الغسل إنما يجب عند الرواح والله أعلم
وإلى هذا ذهب مالك قال في الموطأ من اغتسل يوم الجمعة أول نهاره وهو يريد بذلك غسل الجمعة فإن ذلك الغسل لا يجزئ عنه حتى يغتسل لرواحه
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل
قال مالك من اغتسل يوم الجمعة معجلا أو مؤخرا وهو ينوي بذلك غسل الجمعة فأصابه ما ينقض وضوءه فليس عليه إلا الوضوء وغسله ذلك مجزئ عنه
ومذهب الليث في ذلك كمذهب مالك على اختلاف عنه وعن الأوزاعي أيضا في ذلك
17

وروي عنهما أنه يجزيه إن اغتسل قبل الفجر للجنابة والجمعة
وقال الليث بعد الفجر
وذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أن من اغتسل للجمعة بعد الفجر أجزأه من غسله
وهو قول الحسن البصري والنخعي
وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور والطبري
وهو قول بن وهب صاحب مالك
وقال أبو يوسف إذا اغتسل بعد الفجر ثم أحدث فتوضأ ثم شهد الجمعة لم يكن كمن شهد الجمعة على غسل
وقال أبو يوسف إن كان الغسل لليوم فاغتسل بعد الفجر ثم أحدث فصلى الجمعة بوضوء فغسله تام وإن كان الغسل للصلاة فإنما شهد الجمعة على وضوء
وقال مالك في اغتسل للجمعة عند الرواح ثم أحدث فتوضأ شهد الجمعة أجزأه غسله وإن اغتسل أول النهار يريد الجمعة لم يجزه من غسل الجمعة
وقال الثوري إذا اغتسل يوم الجمعة بعد الفجر من جنابة أو غيرها أجزأه من غسل الجمعة
قال الطحاوي فهذا يدل على أن الغسل عنده لليوم لا للرواح إلى الجمعة
وقال الأوزاعي الغسل هو للرواح إلى الجمعة فإن اغتسل بعد الفجر لم يجزه من غسل الجنابة وهذا خلاف ما تقدم عنه
وقال الشافعي الغسل للجمعة سنة ومن اغتسل للفجر للجنابة ولها أجزأه وإن اغتسل لها دون الجنابة وهو جنب لم يجزه
وقال بن الماجشون إذا اغتسل ثم أحدث أجزأه الغسل
فهذا يمكن أن يكون مذهبه في ذلك كمذهب مالك ويمكن أن يكون كمذهب الثوري
وقال الأثرم سئل بن حنبل عن الذي يغتسل سحر الجمعة ثم يحدث أيغتسل أم يجزيه الوضوء فقال يجزيه ولا يعيد الغسل
ثم قال ما سمعت في هذا بأعلى من حديث بن أبزى
وحديث بن أبزى ذكره بن أبي شيبة قال حدثنا بن عيينة عن عبدة بن أبي لبابة عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه أنه كان يغتسل يوم الجمعة ثم يحدث بعد الغسل فيتوضأ ولا يعيد غسلا
18

قال أبو عمر هذا يدل على المداومة وعلى أنه كان غسله قبل الرواح
واختلف العلماء فيمن اغتسل للجمعة وهو جنب ولم يذكر جنابته فذهبت طائفة منهم إلى أنه يجزئ من غسل الجنابة وإن كان ناسيا لها في حين الغسل
وممن ذهب إلى ذلك بن كنانة وأشهب وبن وهب ومطرف وبن نافع ومحمد بن مسلمة وبن الماجشون وهؤلاء كلهم أصحاب مالك
وبه قال المزني صاحب الشافعي
وقال آخرون لا يجزيه ذلك عن غسل الجنابة حتى ينوي غسل الجنابة ويكون ذاكرا لجنابته في حين غسله قاصدا إلى الاغتسال منها
وممن ذهب إلى هذا بن القاسم وحكاه بن عبد الحكم عن مالك وهو قول الشافعي وأكثر أصحابه وبه قال داود
ولم يختلف قول مالك وأصحابه أن من اغتسل للجنابة لا ينوي الجمعة معها أنه غير مغتسل للجمعة ولا يجزيه من غسل الجمعة إلا ما رواه محمد بن الحكم عن أشهب أنه قال يجزيه غسل الجنابة من غسل الجمعة
وقد رواه أبو إسحاق البرقي أيضا عن أشهب
وهو قول مالك وأصحابه أن من تيمم للفريضة جاز أن يصلي به صلاة السنة والنافلة ولا يجزئ عند واحد منهم أن يتيمم للنافلة فيصلي به الفريضة
وهذا يقضي لقول أشهب
وقال عبد العزيز بن أبي سلمة والثوري والشافعي والليث بن سعد والطبري المغتسل للجنابة يوم الجمعة يجزيه من غسل الجمعة ومن الجنابة جميعا إذا نوى غسل الجنابة وإن لم ينو الجمعة
وأجمعوا على أن من اغتسل ينوي غسل الجنابة والجمعة جميعا في وقت الرواح أنه يجزيه منهما جميعا ولا يضره اشتراك النية في ذلك إلا قوما من أهل الظاهر وبعض
المتأخرين فإنهم شذوا فأفسدوا الغسل إذا اشترك فيه الفرض والنفل وهذا لا وجه له
ولو نوى بوضوء الفريضة والنافلة لم يضره
وقال الأثرم قلت لابن حنبل رجل اغتسل يوم الجمعة من جنابة ينوي به غسل الجمعة فقال أرجو أن يجزيه منهما جميعا قلت له يروى عن مالك أنه قال لا يجزيه عن واحد منهما فأنكره
19

قال أبو بكر حدثنا أحمد بن أبي شعيب قال حدثنا موسى بن أعين عن ليث عن نافع عن بن عمر أنه كان يغتسل للجمعة والجنابة غسلا واحدا
((2 باب ما جاء في الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب))
200 ذكر فيه مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت (1)
وبعض الرواة عن مالك يقول فيه والإمام يخطب يوم الجمعة
وكذلك اختلفت فيه الألفاظ عن أبي هريرة وقد ذكرناها في التمهيد
ولمالك فيه غير هذا الإسناد وقد ذكرناه في التمهيد
ومعنى قوله قد لغوت أي جئت بالباطل وما ليس بحق واللغو الباطل
قال قتادة في قوله تعالى * (وإذا مروا باللغو مروا كراما) * [الفرقان 72] قال لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم
قال والزور الكذب
وقال أبو عبيد اللغو كل شيء من الكلام ليس بحسن والفحش أشد من اللغو واللغو والهجر في القول سواء واللغو واللغا لغتان
قال العجاج
(عن اللغا ورفث التكلم
20

ولا خلاف عليه بين فقهاء الأمصار في وجوب الإنصات للخطبة على من سمعها
واختلف فيمن لم يسمعها وجاء في هذا المعنى خلاف عن بعض المتأخرين فروي عن الشعبي وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وأبي بردة أنهم كانوا يتكلمون والإمام يخطب إلا في حين قراءة القرآن في الخطبة خاصة
وفعلهم هذا مردود عند أهل العلم بالسنة المذكورة في هذا الباب وأحسن أحوالهم أن يقال إنهم لم يبلغهم الحديث في ذلك لأنه حديث انفرد به أهل المدينة ولا علم لمتقدمي أهل العراق به
واختلف العلماء في وجوب الإنصات على من شهد الخطبة إذا لم يسمعها لبعده من الإمام فذهب مالك والشافعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي إلى أن الكلام لا يجوز لكل من شهد الخطبة سمع أو لم يسمع
وقد كان عثمان يقول في خطبته استمعوا وأنصتوا
فإن المنصت الذي لا يسمع له من الأجر مثل ما للمستمع الصامت
وعن بن عمر وبن عباس أنهما كانا يكرهان الكلام والصلاة بعد خروج الإمام ولا مخالف لهؤلاء من الصحابة
فسقط قول من قال بقول الشعبي ومن تابعه
وذكر عبد الرزاق (1) عن الثوري عن حماد عن إبراهيم قال إني لأقرأ حزبي إذا لم أسمع الإمام بالخطبة يوم الجمعة
وعن بن جريج عن عطاء قال يحرم الكلام ما كان الإمام على المنبر وإن كان قد ذهب في غير ذكر الله قال ويوم عرفة والعيدين كذلك في الخطبة (2)
قال بن جريج قلت لعطاء أسبح وأهلل وأدعو الله في نفسي يوم الجمعة وأنا أعقل الخطبة قال لا إلا الشيء اليسير واجعله بينك وبين نفسك
قلت لعطاء كنت لا أسمع الإمام أسبح وأهلل وأدعو الله لنفسي ولأهلي وأسميهم بأسمائهم قال نعم
21

وعن معمر قال سئل الزهري عن التسبيح والتكبير والإمام يخطب قال كان يؤمر بالصمت
قلت فإن ذهب الإمام في غير ذكر الله في الجمعة قال تكلم إن شئت
قال معمر وقال قتادة إن حدثوا فلا تحدث
وقد مضى في التمهيد من هذا كثير
وممن يرى أنه إذا أخذ الإمام في غير ذكر الله والموعظة أن يتكلم الليث بن سعد وعروة بن الزبير وابنه عبد الله بن عروة
والأسانيد عنهم في التمهيد
وأما عكرمة وعطاء بن عبد الله الخرساني فقالا من قال صه والإمام يخطب فقد لغا ومن لغا فلا جمعة له
قال أبو عمر يريد في تمام أجر الذي شاهد الخطبة صامتا أي لا جمعة له مثل جمعة هذا والله أعلم لأن الفقهاء في جميع الأمصار يقولون إن جمعته مجزية عنه ولا يصلي
أربعا
قال بن وهب من لغا كانت صلاته ظهرا يعني في الفضل
قال ولم تكن له جمعة وحرم فضلها
وقال بن جريج قلت لعطاء هل تعلم شيئا يقطع جمعة الإنسان حتى يجب عليه أن يصلي أربعا من كلام أو تخطي رقاب الناس أو غير ذلك قال لا
وعلى هذا جماعة الفقهاء لأن الصلاة وإن كانت قصرت للخطبة كما زعم بعض الفقهاء فإنها لا يفسدها ما كان قبل الإحرام منها فقد يدرك المصلي من الجمعة ركعة وتفوته الخطبة فتجزيه صلاة ركعتين
وقال بعض الفقهاء لو أدركه في التشهد صلى ركعتين
وسيأتي القول في ذلك في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله
واختلفوا في تشميت العاطس ورد السلام في الخطبة فقال مالك وأصحابه لا يرد السلام ولا يشمت العاطس والإمام يخطب إلا أن يرد إشارة كما يرده في الصلاة
وهو قول أكثر أهل المدينة منهم سعيد بن المسيب وعروة
وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه قالوا لا يرد السلام ولا يشمت العاطس
22

وقال الثوري والأوزاعي وغيرهما لا بأس برد السلام وتشميت العاطس والإمام يخطب
وهو قول الحسن البصري والنخعي والحكم وحماد والشعبي والزهري
واختلف في ذلك قول الشافعي فقال بالعراق كقول مالك وقال بمصر ولو سلم رجل لم يسمع الخطبة كرهت ذلك ورأيت أن يرد عليه بعضهم لأن رد السلام فرض
قال ولو شمت عاطسا قد حمد الله رجوت أن يسعه فضله لأن التشميت سنة
واختاره المزني وحكى البويطي عنه أنه لا بأس برد السلام وتشميت العاطس والإمام يخطب في الجمعة وغيرها
وكذلك حكى إسحاق بن منصور عن أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وكذلك حكى الأثرم عن أحمد أيضا
وقد روى عن أحمد أيضا إذا لم يسمع الخطبة شمت ورد السلام وهو قول عطاء
وقال الطحاوي لما كان مأمورا بالإنصات للخطبة كما هو مأمور بالإنصات في الصلاة لم يشمت كما لا يشمت في الصلاة
قال فإن قيل رد السلام فرض والصمت للخطبة سنة قيل له الصمت فرض لأن الخطبة فرض وإنما يصح بالخاطب والمخطوب عليهم
قال أبو عمر الذي عليه أصحابنا أن الصمت فرض واجب بسنة النبي عليه السلام وهي سنة مجتمع عليها معمول بها
وقد أجمعوا أن من تكلم ولغا لا إعادة عليه للجمعة ولا يقال له صلها ظهرا فلما أجمعوا على ما وصفنا دل على أن الإنصات ليس من فرائضها لأن الشأن في فرائض الصلاة أن يفسد العمل بتركها فهذا يدلك على أن الإنصات ليس بفرض والله أعلم
201 وذكر مالك أيضا في هذا الباب عن بن شهاب عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي أنه أخبره أنهم كانوا في زمان عمر بن الخطاب يصلون يوم
23

الجمعة حتى يخرج عمر فإذا خرج عمر وجلس على المنبر وأذن المؤذنون (قال ثعلبة) جلسنا نتحدث فإذا سكت المؤذنون وقام عمر يخطب أنصتنا أنصتنا فلم يتكلم منا أحد
قال بن شهاب فخروج الإمام يقطع الصلاة وكلامه يقطع الكلام
قال أبو عمر ألا ترى إلى قول ثعلبة أنصتنا فلم يتكلم منا أحد وقول بن شهاب كلام الإمام يقطع الكلام وهذا كله يدل على أن الأمر بالإنصات ليس برأي وإنما هو سنة يحتج بها كما احتج بن شهاب لأن قوله خروج الإمام يقطع الصلاة وكلامه يقطع الكلام خبر عن علم علمه لا عن رأي اجتهده وهو يرد عند أصحابنا حديث جابر وحديث أبي سعيد وحديث أبي هريرة أن النبي عليه السلام أمر من جاء والإمام يخطب أن يصلي ركعتين (1) أمر بذلك سليكا الغطفاني وغيره
واختلف الفقهاء في المسألة فذهب مالك وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري والليث بن سعد إلى أن من جاء يوم الجمعة والإمام يخطب ودخل المسجد أن يجلس ولا يركع لحديث بن شهاب هذا وهو سنة وعمل مستفيض في زمن عمر وغيره
ويشهد بصحة ما ذهبوا إليه في ذلك من حديث النبي عليه السلام ما رواه الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا منازلهم الأول فالأول فإذا خرج الإمام طويت الصحف واستمعوا الخطبة
24

فهذا يدل على أنه لا عمل إذا خرج الإمام إلا استماع الخطبة لطي الصحف فيما عدا ذلك والله أعلم وما رواه عبد الله بن بسر عن النبي صلى الله عليه وسلم في معنى ذلك أيضا
حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا هارون بن معروف قال حدثنا بشر بن السري قال حدثنا معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية قال كنا مع عبد الله بن بسر صاحب النبي عليه السلام فجاء رجل يتخطى رقاب الناس فقال عبد الله بن بسر جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي عليه السلام يخطب فقال النبي عليه السلام اجلس فقد آذيت (1)
قال أبو عمر لم يأمره بالركوع بل أمره أن يجلس دون أن يركع
وذهب الشافعي وبن حنبل وإسحاق وأبو ثور وداود والطبري إلى أن كل من دخل المسجد والإمام يخطب أن يركع لحديث جابر وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة عن النبي عليه السلام لما ذكرنا
ولحديث أبي قتادة عن النبي عليه السلام إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس (2) يريد في كل وقت لم ينه فيه عن الصلاة
ونذكر منه ها هنا طرقا فنقول إن نهيه عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر وعند طلوع الشمس وغروبها يقتضي الإباحة كذلك فيما عدا هذه الأوقات
وحديث أبي قتادة مبني على ذلك ومعنى حديث أبي قتادة أمره عليه السلام من دخل يوم الجمعة والإمام يخطب أن يركع ركعتين
حدثنا عبد الوارث حدثنا قاسم حدثنا أحمد بن زهير قال محمد بن محبوب قال حدثنا حفص بن غياث عن الأعمش عن أبي سفيان عن داود عن أبي صالح عن أبي هريرة قال جاء سليك الغطفاني ورسول الله يخطب يوم الجمعة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم صليت قال لا قال صل ركعتين وتجوز فيهما
25

قال أبو عمر روى هذا الحديث عن النبي عليه السلام جابر بن عبد الله الأنصاري من رواية عمرو بن دينار وأبي الزبير وأبي سفيان طلحة بن نافع كلهم عن جابر
ورواه الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام
ورواه عياض بن عبد الله بن أبي سرح عن أبي سعيد الخدري عن النبي عليه السلام
وهو عند أبي عيينة عن محمد بن عجلان عن عياض عن أبي سعيد وعن عمرو بن دينار عن جابر
وكان سفيان بن عيينة إذا جاء يوم الجمعة والإمام يخطب صلى ركعتين
ورواه عن عمرو بن دينار حماد بن زيد أيضا وغيره
قال أبو عمر قد قدمنا قوله عليه السلام للذي تخطى الرقاب اجلس
واستعمال الحديثين يكون بأن الداخل إن شاء ركع وإن شاء لم يركع كما قال مالك بإثر حديث أبي قتادة
قال وذلك حسن وليس بواجب
وأما قوله في حديث بن شهاب عن ثعلبة بن أبي مالك إنهم كانوا في زمان عمر بن الخطاب إذا خرج عمر وجلس على المنبر وأذن المؤذن
فهذا موضع فيه بعض الإشكال على من لم تتسع عنايته بعلم الآثار عن السلف
فإنه قد شبه على قوم من أصحابنا في موضع الأذان في يوم الجمعة وأنكروا أن يكون الأذان يوم الجمعة بين يدي الإمام كان في زمن النبي عليه السلام وأبي بكر وعمر وزعموا أن ذلك حدث في زمن هشام بن عبد الملك
وهذا قول يدل على قلة علم قائله بذلك
وروى عن السائب بن يزيد قال كان النداء يوم الجمعة إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي عليه السلام وأبي بكر وعمر فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء
هكذا ذكر البخاري عن آدم بن أبي إياس عن بن أبي ذئب عن الزهري وقال فيه النداء الثالث
وكذلك رواه بن وهب عن يونس عن بن شهاب عن السائب بن زيد مثله سواء وجعل النداء الذي أحدثه عثمان على الزوراء نداء ثالثا
26

وذكره أبو داود وغيره من طريق بن وهب وغيره
والنداء الثالث هو الإقامة
ورواه معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال كان الأذان يوم الجمعة على عهد رسول الله عليه السلام وأبي بكر وعمر أذانا واحدا حين يخرج الإمام فلما كان عثمان كثر الناس فزاد الأذان الأول وأراد أن يتهيأ الناس للجمعة
فهذا يدل على أن الأذان الذي زاده عثمان إنما هو أذان ثان على الزوراء قبل الأذان بين يدي الإمام
وكذلك تدل الآثار كلها عن السائب بن يزيد عن سعيد بن المسيب أن الأذان إنما كان بين يدي الإمام في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر
وقد رفع الإشكال في ذلك رواية بن إسحاق عن الزهري عن السائب بن يزيد
حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا محمد بن بكر حدثنا أبو داود حدثنا المعلى قال حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن السائب بن يزيد قال كان يؤذن بين يدي النبي عليه السلام إذا جلس على المنبر يوم الجمعة وأبي بكر وعمر فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء على الزوراء
فهذا نص في الأذان يوم الجمعة بين يدي الإمام وعلى هذا العمل عند العلماء في أمصار المسلمين بالعراق والحجاز وغيرهما من الآفاق
واختلف الفقهاء هل يؤذن بين يدي الإمام مؤذن واحد أو مؤذنون
فذكر بن عبد الحكم عن مالك قال إذا جلس الإمام على المنبر ونادى المنادي منع الناس من البيع تلك الساعة
وهذا يدل على أن النداء عنده واحد بين يدي الإمام
ويشهد لهذا حديث بن شهاب عن السائب بن يزيد أنه لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مؤذن واحد
وهذا يحتمل أن يكون أراد بلالا المواظب على الأذان دون بن أم مكتوم وغيره
والذي في المدونة من قول بن القاسم روايته عن مالك قال فإذا جلس الإمام على المنبر وأخذ المؤذنون في الأذان حرم البيع
فذكر المؤذنين بلفظ الجمع
27

ويشهد بهذا حديث بن شهاب عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي أنهم كانوا في زمن عمر بن الخطاب يصلون يوم الجمعة حتى يخرج عمر فإذا خرج وجلس على المنبر وأذن المؤذنون هكذا بلفظ الجماعة
ومعلوم عند العلماء أنه جائز أن يكون المؤذنون واحدا وجماعة في كل صلاة إذا كان مترادفا لا يمنع من إقامة الصلاة في وقتها
وأما حكاية قول الشافعي فقال أحب إلي أن يكون الأذان يوم الجمعة حين يجلس الإمام على المنبر بين يديه فإذا قعد أخذ المؤذن في الأذان فإذا فرغ قام الإمام يخطب فذكر المؤذن بلفظ الواحد على نحو رواية بن عبد الحكم
قال وكان عطاء ينكر أن يكون عثمان أحدث الأذان الثاني ويقول أحدثه معاوية
قال الشافعي وأيهما كان فالأذان الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي وهو الذي ينهى عنده عن البيع وأما قول أبي حنيفة وأصحابه فإن الطحاوي حكى عنهم في مختصره قال إذا زالت الشمس يوم الجمعة جلس الإمام على المنبر وأذن المؤذنون بين يديه وامتنع الناس من البيع والشراء وأخذوا في السعي إلى الجمعة فإذا فرغ المؤذنون من الأذان قام الإمام فخطب خطبتين هكذا قال وأذن المؤذنون بين يديه بلفظ الجماعة
وقد أجمع الفقهاء أن الأذان بعرفة يكون بين يدي الإمام
وفيما أوردنا من الأثر عن السلف وعن أئمة الفقهاء ما فيه بيان وشفاء إن شاء الله
202 وأما حديث مالك بن أبي عامر عن عثمان بن عفان في تسوية الصفوف فهو أمر مجتمع عليه
والآثار عن النبي عليه السلام كثيرة فيه
28

منها حديث حميد عن أنس قال أقيمت الصلاة فأقبل علينا النبي عليه السلام بوجهه قبل أن يكبر فقال تراصوا وأصلحوا صفوفكم إني أراكم من وراء ظهري (1)
وحديث شعبة عن قتادة عن أنس عن النبي عليه السلام قال سووا صفوفكم فإن ذلك من تمام الصلاة (2)
وحديث عائشة عن النبي عليه السلام قال إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف (3)
وحديث البراء بن عازب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقيمت الصلاة مسح صدورنا وقال رصوا المناكب بالمناكب والأقدام بالأقدام فإن الله يحب في الصلاة ما يحب في القتال كأنهم بنيان مرصوص (4)
وأما قوله إنه كان لا يكبر حتى يأتيه رجال قد وكلهم بتسوية الصفوف فيخبرونه أن قد استوت فيكبر فيه من الفقه أنه لا بأس بالكلام بين الإقامة والإحرام
وفيه أن العمل بالمدينة على خلاف ما رواه العراقيون أن بلالا كان يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسبقني بآمين (5)
واستدلوا بذلك على أنه كان عليه السلام يكبر قبل فراغ بلال من الإقامة وقالوا يكبر الإمام إذا قال المؤذن قد قامت الصلاة
29

وقد ذكرنا هذه المسألة فيما مضى من هذا الكتاب فلا معنى لإعادتها
والمعنى في ذلك أنهما وجهان في حين تكبير الإمام
203 وأما حديثه عن نافع عن بن عمر أنه رأى رجلين يتحدثان والإمام يخطب يوم الجمعة فحصبهما (1) أن اصمتا
ففيه تعليم كيف الإنكار لذلك لأنه لا يجوز أن ينكر عليهما الكلام بالكلام في وقت لا يجوز فيه الكلام
وفيه أنه لا يفسد ذلك عليهما صلاتهما كما ذكرنا لأنه لم يأمرهما بإعادة الصلاة ظهرا ولا غيرها
204 وكذلك حديث سعيد بن المسيب في الذي شمت العاطس قال له لا تعد ولم يأمر بإعادة الصلاة
وهذا القول إنما كان من سعيد ومن السائل له بعد السلام من الصلاة وسؤال مالك لابن شهاب عن الكلام يوم الجمعة إذا نزل الإمام عن المنبر قبل أن يكبر قال لا بأس بذلك يدل على علم مالك باختلاف الناس في هذه المسألة قديما
وهي مأخوذة عند العراقيين من حديث بلال المذكور لكن العمل والفتيا عند أهل المدينة بخلاف ما ذهب إليه العراقيون في ذلك والأمر عندي فيه مباح كله والحمد لله
((3 باب فيمن أدرك ركعة يوم الجمعة))
205 مالك عن بن شهاب أنه كان يقول من أدرك من صلاة الجمعة ركعة فليصل إليها أخرى
قال بن شهاب وهي السنة
قال مالك وعلى ذلك أدركت أهل العلم ببلدنا
206 وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أدرك من ا لصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة
30

قال أبو عمر احتج مالك لمذهبه في ذلك بأنه العمل المعمول به ببلده وأن الفتيا عليه عنده وأتى بالدليل في ذلك من عموم السنة لأنها لم يخص فيها جمعة من غيرها
وفي ذلك دليل على علمه باختلاف السلف في هذه المسألة
فمن الخلاف فيها أن جماعة من التابعين منهم عطاء بن أبي رباح وطاوس ومجاهد ومكحول قالوا من فاتته الخطبة يوم الجمعة صلى أربعا
وحجتهم أن الإجماع منعقد أن الإمام لو لم يخطب بالناس لم يصلوا إلا أربعا
وفي هذه المسألة قول آخر وذلك أن مالكا والشافعي وأصحابهما والثوري والحسن بن حي والأوزاعي وزفر بن الهذيل ومحمد بن الحسن في الأشهر عنه والليث بن سعد وعبد العزيز بن أبي سلمة وأحمد بن حنبل قالوا من أدرك ركعة من صلاة الجمعة مع الإمام صلى إليها أخرى ومن لم يدرك ركعة تامة معه صلى أربعا
قال أحمد بن حنبل إذا فاته الركوع صلى أربعا وإذا أدرك ركعة صلى إليها أخرى
وروى ذلك عن غير واحد من أصحاب النبي عليه السلام منهم بن مسعود وبن عمر وأنس
قال أبو عمر قد ذكرنا عنهم في التمهيد وعن إبراهيم النخعي وسعيد بن المسيب والزهري وعلقمة والحسن البصري وعبيدة السلماني
وقال بن شهاب هو السنة وهو قول إسحاق وأبي ثور وقال الزهري هي السنة
حدثنا محمد بن عبد الله حدثنا محمد بن معاوية حدثنا إسحاق بن أبي حسان حدثنا هشام بن عمار حدثنا عبد الحميد بن حبيب حدثنا الأوزاعي قال سألت الزهري عن رجل فاتته خطبة الإمام يوم الجمعة وأدرك الصلاة فقال حدثني أبو سلمة عن أبي هريرة قال
31

207 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركها
وروى بن عيينة عن معمر قال سألت الزهري عن الرجل يدرك من الجمعة ركعة فقال يضيف إليها أخرى لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة
وفي المسألة قول ثالث قال أبو حنيفة وأبو يوسف إذا أحرم في الجمعة قبل سلام الإمام صلى ركعتين
روى ذلك عن النخعي أيضا
وهذا قول الحكم وحماد
وبه قال داود وحجتهم قوله عليه السلام ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا (1)
قالوا ومن أدرك من الصلاة جزءا قبل السلام فهو مأمور بالدخول فيها مع الإمام
ومعلوم أن الذي فاته ركعتان فإنما يقضي ما فاته وذلك ركعتان لا أربع
قال أبو عمر في قوله عليه السلام من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة وقد أجمعوا أن إدراكها بإدراك الركوع مع الإمام دليل على أن من لم يدرك من الصلاة ركعة فلم يدركها هذا مفهوم الخطاب ومن لم يدركها لزمه أن يصلي ظهرا أربعا
وقد جعل رسول الله الذي لا يدرك منها ركعة تامة في حكم من لم يدرك منها شيئا وهو أولى ما قيل في هذا الباب والله الموفق للصواب
وأما قول مالك في الذي يصيبه الزحام يوم الجمعة فيركع ولا يقدر على أن يسجد حتى يقوم الإمام أو يفرغ من صلاته إنه إن قدر على أن يسجد إن كان قد ركع فليسجد إذا قام الناس وإن لم يقدر على أن يسجد حتى يفرغ الإمام من صلاته فإنه أحب إلي أن يبتدئ صلاته ظهرا أربعا
32

قال أبو عمر من زوحم عن ركعة لم تتم له مع الإمام حتى سلم ولا كان ممن عقد مع إمامه في الجمعة ركعة غيرها فهذا رجل يجب عليه أن يصلي ظهرا أربعا لأنه لم يدرك من صلاته ركعة مع إمامه فيبني عليها فهذا واجب عليه الابتداء عند الفقهاء لا يقولون فيه يستحب ذلك له
ووجه الاستحباب من مالك ها هنا فهو على معنى اختياره ومذهب من مذاهب من قبله من الفقهاء الذين وصفنا أقوالهم وذلك واجب عنده وعند أصحابه
وإذا كان ذلك فوجهه عند أصحابه الابتداء بالظهر في الذي زوحم ولم يدرك غير تلك الركعة التي زوحم عند سجودها حتى سلم الإمام والله أعلم
((4 باب فيمن رعف (1) يوم الجمعة))
قال مالك من رعف يوم الجمعة والإمام يخطب فخرج ولم يرجع حتى فرغ الإمام من صلاته فإنه يصلي أربعا
وقال مالك في الذي يركع مع الإمام ركعة يوم الجمعة ثم يرعف فيخرج ثم يأتي وقد صلى الإمام الركعتين كلتيهما أنه يبني بركعة أخرى ما لم يتكلم
قال مالك ليس على من رعف أو أصابه أمر لابد له من الخروج أن يستأذن الإمام يوم الجمعة إذا أراد أن يخرج (2)
قال أبو عمر لم يختلف قول مالك وأصحابه إن الراعف في صلاة الجمعة وغيرها وفي خطبة الجمعة يخرج فيغسل الدم عنه ثم يرجع فيصلي مع الإمام ما أدرك ثم يقضي ما فاته
ولا يضره عمل ذلك من استدبار القبلة وغسل الدم فإن عمر غير ذلك استأنف
وكذلك إن تكلم عامدا لم يبن فإن لم يتكلم بنى إذا كان قد عقد ركعة وأكملها مع إمامه ثم رعف لأن الجمعة لا يعملها إلا في المسجد أو في رحابه حيث تؤدى الجمعة
ولا يبني الراعف عند مالك وجمهور أصحابه إلا إذا أتم ركعة يسجد فيها مع الإمام ثم رعف في الجمعة وغيرها
33

ومن رعف في الجمعة قبل إكمال ركعة بسجدتيهما أو في الخطبة ولم يطمع في إدراك الركعة الثانية معه لم يكن عليه أن يأتي المسجد وابتدأ صلاته ظهرا
فإن عاد إلى المسجد فأدرك الركعة بسجدتيهما مع الإمام بنى عليها ركعة وتمت له جمعة
فإن صلى ركعة وبعض أخرى ثم رعف خرج وغسل الدم وابتدأ الثانية من أولها وبنى على الأولى
وقال محمد بن مسلمة وعبد الملك بن عبد العزيز يبني على ما مضى من الثانية
وقد أوضحنا مسائل هذا الباب وذكرنا ما اختلف فيه أصحاب مالك هنا وفي كتاب اختلاف قول مالك وأصحابه
ومضى في باب الرعاف معان من هذا الباب وأوضحناه في التمهيد والحمد لله
وأما قوله ليس على من رعف أو أصابه أمر لابد له من الخروج أن يستأذن الإمام يوم الجمعة إذا أراد أن يخرج
قال أبو عمر رأى ذلك قوم من التابعين وتأولوا في ذلك قوله تعالى " وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستئذنوه " [النور 62]
وتأول أكثر أهل العلم ذلك على السرايا تخرج من العسكر لا تخرج إلا بإذن الإمام
والفقهاء اليوم على ما قاله مالك لأنه كان يضيق على الناس ويعجزهم مع كبار المساجد وكثرة الناس وما جعل الله في الدين من حرج والآية عندهم معناها في الغزو وخروج السرايا
وقد روى سفيان الثوري عن خالد الحذاء عن محمد بن سيرين قال كانوا يستأذنون الإمام يوم الجمعة في الرجل يحدث أو يرعف والإمام يخطب يوم الجمعة فلما كان زمان زياد كثر ذلك فقال زياد من أخذ بأنفه فهو إذن
((5 باب ما جاء في السعي يوم الجمعة))
208 مالك أنه سأل بن شهاب عن قول الله عز وجل " يا أيها الذين ءامنوا إذا
34

نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله) [الجمعة 9] فقال بن شهاب كان عمر بن الخطاب يقرؤها إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فامضوا إلى ذكر الله
قال أبو عمر روى هذا الخبر سفيان بن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه قال ما سمعت عمر يقرؤها قط " فامضوا إلى ذكر الله "
قال أبو عمر قد احتج مالك في هذا الباب لمعنى السعي في هذا الموضع أنه ليس الاشتداد والإسراع وأنه العمل نفسه بما فيه كفاية من كتاب الله فأحسن الاحتجاج
وفي هذا الحديث دليل على ما ذهب إليه العلماء من الاحتجاج بما ليس في مصحف عثمان على جهة التفسير فكلهم يفعل ذلك ويفسر به مجملا من القرآن ومعنى مستغلقا في مصحف عثمان وإن لم يقطع عليه بأنه كتاب الله كما يفعل بالسنن الواردة بنقل الآحاد العدول وإن لم يقطع على منعها
وقد كان بن مسعود يقرؤها كما كان يقرؤها عمر " فامضوا إلى ذكر الله "
وكان بن مسعود يقول لو قرأتها * (فاسعوا إلى ذكر الله) * لسعيت حتى يسقط ردائي
والسعي أيضا في اللغة الإسراع والجري
وذلك معروف في لسان العرب كما أنه معروف فيه أنه العمل
ألا ترى إلى قوله عليه السلام إذا ثوب (1) بالصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون (2) أي تجرون وتسرعون وتشتدون
ومن السعي الذي هو العمل قوله تعالى " ومن أراد الأخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا الإسراء 19]
وقال " إنما جزؤا الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا المائدة 33]
وقال " الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا الكهف 104]
وهو كثير في القرآن
قال زهير
(سعى بعدهم قوم فلم يدركوهم
* ولم يفعلوا ولم يلاموا ولم يألوا
35

((6 باب ما جاء في الإمام ينزل بقرية يوم الجمعة في السفر))
قال مالك إن كانت القرية مما تجب فيها الجمعة يعني لكبرها وكثرة الناس فيها وأنها ذات سوق ومجمع للناس فإنه يجمع بهم بخطبة ويجزيه ويجزيهم
قال وإن كانت القرية لا تجب فيها الجمعة لم يجمع بهم وإن جمع فليست جمعة له ولا لمن معه من المسافرين ولا لأهل تلك القرية ويتم أهل تلك القرية صلاتهم يبنون على الركعتين اللتين صلوا معه ظهرا
وكذلك ذكر بن عبد الحكم عنه يبنون وليس عليهم أن يبتدئوا وتجزيه صلاته كل مسافر معه إلا أنها ليست جمعة وإنما هي صلاة سفر
وقال بن نافع عن مالك يتمون بعد إمامهم وصلاتهم جائزة
وقال بن نافع فيما روى يحيى بن يحيى عنه
وقال بن القاسم في المدونة لا جمعة له ولا لهم ويعيد ويعيدون لأنه جهر عامدا
وذكر بن المواز عن بن القاسم أنه قال أما فصلاته تامة وأما هم فعليهم الإعادة
وأما قوله ليس على مسافر جمعة فإجماع لا خلاف فيه
وقد روي ذلك عن النبي عليه السلام من أخبار الآحاد
وسيأتي القول في مقدار السفر الذي تقصر فيه الصلاة في موضعه إن شاء الله
قال أبو عمر الصواب ما رواه بن نافع وبن عبد الحكم في هذا الباب وهو ظاهر ما في الموطأ وهذا الذي لا يصح عندي غيره وليس جهره من باب تعمد الفساد وإنما هو من باب الاجتهاد في التأويل فلا يضره
((7 باب ما جاء في الساعة التي في يوم الجمعة))
209 مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
36

ذكر يوم الجمعة فقال فيه ساعة لا يوافقها (1) عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده يقللها (2)
هكذا يقول عامة رواة الموطأ في هذا الحديث إلا قتيبة بن سعيد وبن وأبي أويس وعبد الله بن يوسف التنيسي وأبا المصعب فإنهم لم يقولوا في روايتهم لهذا الحديث عن مالك وهو قائم يصلي
وهو محفوظ في حديث أبي الزناد هذا من رواية مالك وغيره عنه وفي رواية أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة
وقد ذكرنا ذلك في التمهيد
وفي هذا الحديث دليل على فضل يوم الجمعة على سائر الأيام ودليل على أن فيه ساعة هي أفضل من سائر ساعاته
والفضائل لا تورد بقياس وإنما فيها التسليم لمن ينزل عليه الوحي بما غاب عنه
فأما قوله وهو قائم يصلي فإنه يحتمل القيام المعروف ويحتمل أن يكون القيام هنا المواظبة على الشيء لا الوقوف من قوله تعالى " ما دمت عليه قائما آل عمران 75] أي مواظبا بالاختلاف والاحتضار
وعلى هذا التأويل يخرج جماعة الآثار
ولا يبعد أن يكون على قول من قال إنها بعد العصر لأنه ليس بوقت صلاة ولكنه وقت مواظبة في انتظارها
قال الأعشى
(يقوم على الوغم (3 " في قومه
* فيعفوا إذا شاء أو ينتقم (4) لم يرد بقوله يقوم ها هنا الوقوف وإنما أراد المطالبة بالذحل والمداومة على طلب الوتر حتى يدركه
وأما الساعة المذكورة في يوم الجمعة فاختلفت فيها الآثار المرفوعة وكذلك اختلف فيها العلماء
37

وقال قوم قد رفعت
وهذا ليس بشيء عندنا لحديث بن جريج عن داود بن أبي عاصم عن عبد الله بن يحنس مولى معاوية قال قلت لأبي هريرة زعموا أن الساعة التي في يوم الجمعة لا يدعوا فيها مسلم إلا استجيب له قد رفعت قال كذب من قال ذلك قلت فهي في كل جمعة استقبلها قال نعم (1)
قال أبو عمر على هذا تواترت الآثار وبه قال علماء الأمصار إلا أنهم اختلفوا
فذهب عبد الله بن سلام إلى أنها بعد العصر إلى غروب الشمس وقال بقوله ذلك جماعة
ومن حجتهم حديث يرويه بن وهب عن عمرو بن الحارث عن الجلاح مولى عبد العزيز بن مروان عن أبي سلمة عن جابر عن النبي عليه السلام قال يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة فيها ساعة لا يوجد مسلم يسأل الله فيها شيئا إلا أعطاه فالتمسوها آخر ساعة في العصر (2)
وقد قيل إن قوله في هذا الحديث فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر هو من قول أبي سلمة
وقال آخرون الساعة المذكورة يوم الجمعة هي ساعة الصلاة وحينها من الإحرام فيها إلى السلام منها
واحتجوا بحديث عمرو بن عوف المزني قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن في الجمعة ساعة من النهار لا يسأل العبد فيها شيئا إلا أعطي بقوله
قيل أية ساعة هي فقال من حين تقام الصلاة إلى الانصراف منها (3)
وهو حديث لم يروه فيما علمت إلا كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده وليس ممن يحتج به
وقال آخرون الساعة المذكورة يوم الجمعة من حين يفتتح الإمام الخطبة إلى الفراغ من الصلاة
38

واحتجوا بحديث أبي موسى عن النبي عليه السلام قال إن في الجمعة ساعة لا يسأل العبد فيها ربه إلا أعطاه قيل يا رسول الله أي ساعة هي قال من حين يقوم الإمام أو من حين يجلس الإمام إلى أن تقوم الصلاة (1)
رواه بن وهب عن مخرمة بن بكير عن أبيه عن أبي بردة عن أبيه عن النبي عليه السلام
وروى روح بن عبادة عن عوف عن معاوية بن قرة عن أبي بردة بن أبي موسى أنه قال لابن عمر هي الساعة التي يخرج فيها الإمام إلى أن تقضى الصلاة فقال بن عمر أصاب الله بك
وروى عبد الرحمن بن حجيرة عن أبي ذر أن امرأته سألته عن الساعة التي يستجاب فيها يوم الجمعة للعبد المؤمن فقال لها مع زيغ الشمس بيسير إلى ذراع
فإن سألتني بعدها فأنت طالق
وروى وكيع عن محمد بن قيس قال تذاكرنا عند الشعبي الساعة التي ترجى في يوم الجمعة قال هي ما بين أن يحرم البيع إلى أن يحل
وروى جرير عن إسماعيل بن سالم عن الشعبي أنه كان يقول في الساعة التي ترجى في يوم الجمعة هي ما بين خروج الإمام إلى انقضاء الصلاة
وقال بن سيرين هي الساعة التي كان يصلي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقد روى حصين عن الشعبي عن عوف بن حصيرة قال الساعة التي ترجى في الجمعة من حين تقام الصلاة إلى انصراف الإمام
وقد ذكرنا أسانيد هذه الأحاديث كلها في التمهيد
ويشهد لهذه الأقاويل ما جاء في حديث مالك في هذا الباب قوله وأشار بيده يقللها)) أي يصغرها
ويحتج أيضا من ذهب إلى هذا بحديث علي عن النبي عليه السلام أنه قال إذا زالت الشمس وفاءت الأفياء (2) وراحت الأرواح (3) فاطلبوا إلى الله حوائجكم
39

فإنها ساعة الأوابين ثم تلا " فإنه كان للأوابين غفورا الإسراء 17]
واحتج أيضا من قال ذلك بحديث أبي هريرة هذا عن النبي عليه السلام قوله وهو قائم يصلي قال وبعد العصر لا صلاة في ذلك الوقت ولا يجوز لأحد أن يقوم فيصلي في ذلك الوقت
وظاهر الحديث أولى من ادعاء الباطن فيه
وممن قال إنها بعد العصر إلى غروب الشمس بن عباس
رواه سعيد بن جبير عن بن عباس قال الساعة التي تذكر يوم الجمعة ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس
وكان سعيد بن جبير إذا صلى العصر لم يكلم أحدا حتى تغرب الشمس
210 وأما حديث مالك عن يزيد بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن
40

أبي سلمة عن أبي هريرة أنه قال خرجت إلى الطور فلقيت كعب الأحبار وساق الحديث إلى آخره
ثم قال بصرة بن أبي بصرة الغفاري
فلم يقل في هذا الحديث فيما علمت فلقيت بصرة بن أبي بصرة الغفاري في حديث مالك هذا عن يزيد بن الهاد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن أبي سلمة عن أبي هريرة غيره وسائر الرواة إنما فيه عن أبي هريرة قال لقيت أبا بصرة لا بصرة بن أبي بصرة
وأظن الوهم جاء فيه من يزيد والله أعلم
وقد ذكرنا بصرة وأباه أبا بصرة في كتاب الصحابة بما ينبغي والحمد لله
وفي هذا الحديث من العلم وجوه منها الخروج إلى المواضع التي يتبرك بشهودها والصلاة فيها لما بان من بركتها
وليس في ذلك ما يعارض قوله لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد (1) على مذهب أبي هريرة وإن كانع بصرة بن أبي بصرة قد خالفه في ذلك فرأى قوله لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد قولا عاما فيها سواها والله أعلم
وكأن أبا هريرة لم ير النهي عن إعمال المطي فيما عدا الثلاثة المساجد إلا في الواجب من النذر وكأن عنده إعمال المطي في سائر السنن والمباح كزيارة الأخ في الله وشبهه غير داخل في النهي عن إعمال المطي
وقد قال مالك وجماعة من أهل العلم فيمن نذر رباطا في ثغر يسده فإنه يلزمه الوفاء به حيث كان الرباط لأنه طاعة لله تعالى
فأما من نذر صلاة في مسجد لا يصل إليه إلا برحلة وراحلة فلا يفعل ويصلي في مسجده إلا في الثلاثة المساجد المذكورة فإنه من نذر الصلاة فيها خرج إليها
قال مالك من نذر أن يصلي في مسجد لا يصل إليه إلا برحلة فإنه يصلي في مسجد بلده إلا أن ينذر ذلك في مسجد مكة والمدينة وبيت المقدس فإن نذر في هذه المساجد الثلاثة الصلاة فعليه السير إليها
وقد يجوز أن يكون خروج أبي هريرة إلى الطور لحاجة عنت هناك من أمور دنياه وما يعنيه منها فإن كان كذلك فليس خروجه من باب لا تعمل المطي في شيء
41

وأما كعب الأحبار فهو كعب بن مانع الحميري من ذي رعين من حمير وقيل من ذي هجر من حمير يكنى أبا إسحاق أسلم في زمن عمر وتوفي في آخر خلافة عثمان وقد ذكرنا طرفا من خبره في التمهيد
وفي هذا الحديث أيضا إباحة الحديث عن التوراة لمن علمها علم ثقة ويقين
وكان كعب عالما بها لأنه كان حبرا من أحبار يهود وإن كان عربي النسب فإن من العرب كثيرا تنصر وكثيرا تهود
وقد أفردنا بابا كافيا في الحديث عن أهل الكتاب وكيف المعني فيما جاء عنهم في كتاب جامع بيان العلم
وفيه أن خير الأيام يوم الجمعة وفي ذلك فضل بعض الأيام على بعض ولا يعلم ذلك إلا بتوقيف وقد صح فضل يوم الجمعة ويوم عاشوراء ويوم عرفة وجاء في يوم الاثنين والخميس ما جاء
وروى الأعمش عن مجاهد عن عبد الله بن ضمرة عن كعب الأحبار قال الصدقة يوم الجمعة تضاعف وقد روى حصين عن هلال بن يساف عن كعب الأحبار في يوم الجمعة قال تضاعف فيه الحسنة والسيئة وأنه يوم القيامة
وفيه الخبر عن خلق آدم وهبوطه إلى الأرض وفي ذلك جواز الحديث عن أمور ابتداء الخلق وعمن كان قبلنا من الأنبياء وعن بني إسرائيل وغيرهم
وأهل العلم يرون رواية ذلك عن كل أحد لأنه ليس في حكم ولا في دم ولا فرج ولا مال ولا حلال ولا حرام
وقد أوضحنا هذا المعنى في صدر كتاب التمهيد
وفيه أن آدم تيب عليه يوم الجمعة وإن كان في القرآن المحكم أنه " فتلقىءادم من ربه كلمت فتاب عليه البقرة 37] ليس فيه أن ذلك كان يوم جمعة
وفيه إباحة الحديث عن المستقبل من الأمور وإن كان من علم الغيب إذا كان ذلك عمن يوثق به في علمه ودينه وكان الخبر مما لا يرده أصل من أصول الشريعة لأن كل ما ترده أصول شريعتنا فباطل
وليس في قوله إن الساعة تقوم يوم الجمعة دليل على أن الخبر بذلك من علم الساعة الذي لا يعلمه إلا هو لأن يوم الجمعة متكرر مع أيام الدنيا فليس في ذكره ما يوجب متى هي
42

وقد سأل عنها رسول الله جبريل عليه السلام فقال ما المسؤول عنها بأعلم من السائل (1)
وقال تعالى * (قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو) * [الأعراف 187]
وقد ظهر كثير من أشراطها
وقال تعالى " لا تأيتكم إلا بغتة " [الأعراف 187]
وقوله وما من دابة إلا وهي مصيخة فالإصاخة الاستماع وهو ها هنا سماع حذر وإشفاق خشية الفجأة والبغتة
وأصل الكلمة الاستماع
قال أعرابي
(وحديثها كالقطر يسمعه
* راعي سنين تتابعت جدبا (2)
(فأصاخ يرجو أن يكون حيا
* ويقول من فرح أيا ربا) وقال أمية بن أبي الصلت
(وهم عند رب ينظرون قضاءه
* يصيخون بالأسماع للوحي ركد (3) وقال
(كم من مصيخ إلى أوتار غانية
* ناحت عليه وقد كانت تغنيه) وقال غيره يصف ثورا بحريا
(ويصيخ أحيانا كما استمع
* المضل لصوت ناشد (4)) والمضل الذي قد أضل دابته أو بعيره أو غلامه يقال منه أضل سببه فهو مضل
43

والناشد الطالب يقال منه نشدت ضالتي أنشدها إذا طلبتها وناديت عليها
وأما المنشد فهو المعرف بالضالة وقيل هو الدال عليها والمعنى متقارب
وفي الحديث دليل على أن الإنس والجن لا يعرفون من أمر الساعة ما تعرف الدواب وهذا أمر تقصر عنه أفهامنا وهذا العلم وشبهه لم نؤت منه إلا قليلا
وأما قوله فيها ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله إلا أعطاه إياه فقد اختلف في تلك الساعة
وقد قدمنا من ذلك ما فيه كفاية إن شاء الله تعالى
وقول عبد الله بن سلام فيها أثبت شيء إن شاء الله وقد تابعه بن عباس وغيره
وفي سكوت أبي هريرة لعبد الله بن سلام عندما ألزمه في ذلك وأدخل عليه في مناظرته إياه دليل على متابعة أبي هريرة له وتسليمه لقوله والله أعلم
وقد روي بنحو قول عبد الله بن سلام أحاديث مرفوعة منها حديث موسى بن وردان عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم التمس الساعة التي في يوم
الجمعة بعد العصر إلى غروب الشمس (1)
ومنها حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الساعة التي يتحرى فيها الدعاة يوم الجمعة هي آخر ساعة من يوم الجمعة (2)
وحديث أبي هريرة عن النبي عليه السلام أنه قال الساعة التي يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة بعد العصر إلى غروب الشمس (3)
وحديث جابر عن النبي عليه السلام التمسوها آخر ساعة بعد العصر
44

وحديث شعبة عن إبراهيم بن ميسرة قال أخبرني من أرسله عمرو بن أوس إلى أبي هريرة يسأله عن الساعة التي في يوم الجمعة فقال هي بعد العصر
وشعبة عن الحكم عن بن عباس مثله
وشعبة عن يونس بن خباب عن أبي هريرة مثله
وجرير عن ليث عن مجاهد
وطاوس عن أبي هريرة أنه قال في الساعة التي في يوم الجمعة بعد العصر حتى تغرب الشمس أو بعد الصبح حتى تطلع الشمس
قال وكان طاوس إذا صلى العصر لا يكلم أحدا ولا يلتفت مشغولا بالدعاء والذكر حتى تغيب الشمس
وقد ذكرنا هذه الأحاديث بأسانيدها في التمهيد
وذكرنا هناك عن عبد الله بن سلام وكعب هذه الساعة التي خلق الله فيها آدم وهي آخر ساعة من يوم الجمعة بالإسناد الحسن عنهما أيضا
وعن طاوس أن الساعة من يوم الجمعة التي تقوم فيها الساعة والتي أنزل فيها آدم والتي لا يدعو فيها المسلم بدعوة صالحة إلا استجيب له من حين تصفر الشمس إلى حين تغيب
وأما قوله فقال كعب هي في كل سنة مرة فقلت بل في كل جمعة ثم قرأ كعب التوراة فقال صدق رسول الله ففيه دليل على أن العالم يخطئ وأنه ربما قال على أكثر ظنه فيخطئه ظنه
وفيه أن من سمع الخطأ وهو يعلمه ينكره ويرد على من سمعه منه إذا كان عنده في رده أصل صحيح يركن إليه كما صنع أبو هريرة في إنكاره على كعب
وفيه أن العالم إذا رد عليه قوله طلب التثبت فيه والوقوف على صحته حيث رجاه في مظانه ومواضعه حتى يصح له أو يصح قول مخالفه فينصرف إليه
وفه دليل على أن الواجب على كل من سمع الحق وعرفه الانصراف إليه
وأما قوله عن أبي هريرة في هذا الحديث فلقيت بصرة بن أبي الغفاري إلى آخر قصته معه فهكذا في الموطأ بصرة بن أبي بصرة لم يختلف عن مالك في ذلك ولا عن يزيد بن الهادي فيما علمت
وأما غير مالك وغير شيخه يزيد بن الهادي فإنهم يقولون في هذا الحديث فلقيت أبا بصرة الغفاري
45

وأبو بصرة اسمه جميل بن بصرة على اختلاف عنه قد ذكرته عند ذكري له في كتاب الصحابة
وروى القعبني عن الدراوردي عن زيد بن أسلم عن المقبري عن أبي هريرة أنه خرج إلى الطور يصلي فيه ثم أقبل فلقي جميل بن بصرة الغفاري فذكر الحديث على ما ذكرناه في التمهيد من طرق
وفي قول عبد الله بن سلام كذب كعب ثم قال صدق كعب دليل على ما كان القوم عليه من إنكار ما يجب إنكاره والإذعان إلى الحق والرجوع إليه والاعتراف به
ومعنى قوله كذب كعب أي غلط كعب وكذلك هو معروف للعرب في أشعارها ومخاطباتها
فمن ذلك قول أبي طالب
(كذبتم وبيت الله يبزى محمد
* ولما نطاعن دونه ونناضل (1)) ألا ترى أن هذا ليس من باب الكذب الذي هو ضد الصدق إنما هو من باب غلط الإنسان فيما يظنه فكأنه قال كذبكم ظنكم
ومثل هذا قول زفر بن الحارث العبسي
(كذبتم وبيت الله لا تقتلونه
* ولما يكن يوم أغر محجل (2)) وقال بعض شعراء همدان
(كذبتم وبيت الله لا تأخذونها
* مراغمة ما دام للسيف قائم (3)) ومن هذا ما رواه حماد بن زيد عن أيوب قال سألت سعيد بن جبير عن الرجل يأذن لعبده في التزويج بيد من الطلاق قال بيد العبد قال إن جابر بن زيد يقول بيد السيد قال كذب جابر
ومن هذا قول عبادة كذب أبو محمد
فمعنى قول عبد الله بن سلام كذب كعب أي أخطأ ظنه وقوله صدق كعب أي أصاب
46

وفي قول عبد الله بن سلام قد علمت أي ساعة هي دليل على أن للعالم أن يقول قد علمت كذا وأنا أعلم كذا إذا لم يكن على سبيل الفخر وما الفخر بالعلم إلا حديث بنعمة الله
وفي قول أبي هريرة أخبرني بها ولا تضن علي أي لا تبخل علي دليل على ما كان القوام عليه من الحرص على العلم والبحث عنه
وفي مراجعة أبي هريرة لعبد الله بن سلام حين قال هي آخر ساعة من يوم الجمعة واعتراضه عليه بأنها ساعة لا يصلى فيها لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يوافقها عبد مؤمن وهو يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه دليل على إثبات المعارضة والمناظرة وطلب الحجة وموضع الصواب
وفي إدخال عبد الله بن سلام عليه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم من جلس مجلسا ينتظر الصلاة فهو في صلاة وإذعان أبي هريرة إلى ذلك دليل واضح على ما كان عليه القوم من البصر بالاحتجاجات والاعتراضات والإدخال والإلزامات في المناظرة وهذا سبيل أهل العلم
وعن بن عباس مثل قول عبد الله بن سلام في ذلك سواء
وقد ذكرنا كل ذلك في التمهيد والحمد لله
((8 باب الهيئة وتخطي الرقاب واستقبال الإمام يوم الجمعة))
211 مالك عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما على أحدكم لو اتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته (1)
هكذا هو عند أكثر رواة الموطأ
وذكر بن وهب عن مالك عن يحيى بن سعيد وربيعة بن أبي عبد الرحمن أن رسول الله عليه السلام قال ما على أحدكم أن يتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته
وهو مرسل منقطع يتصل من وجوه حسان وقد ذكرتها في التمهيد
47

والمهنة الخدمة بفتح الميم
قال الأصمعي ولا يقال بالكسر وأجاز الكسائي فيه الكسر مثل الجلسة والركبة
ومعنى ثوبي مهنته أي ثوبي بذلته يقال منه امتهنني القوم أي ابتذلوني
والثوبان والله أعلم قميص ورداء أو جبة ورداء
وفي هذا الحديث الندب لكل من وجد سعة أن يتخذ الثياب الحسان للأعياد والجمعات ويتجمل بها
وكان رسول الله يفعل ذلك ويعتم ويتطيب ويلبس أحسن ما يجد في الجمعة والعيد وفيه الأسوة الحسنة وكان يأمر بالطيب والسواك والدهن
قال رسول الله عليه السلام إذا أنعم الله على عبد نعمة أحب أن يرى أثرها عليه (1)
وقال عمر بن الخطاب إذا أوسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم جمع امرؤ عليه ثيابه وقال إنه ليعجبني أن أنظر إلى القارئ أبيض الثياب
212 وذكر في هذا الحديث أيضا عن نافع عن بن عمر كان لا يروح إلى الجمعة إلا ادهن (2) وتطيب إلا أن يكون محرما (3)
وهي سنة مسنونة معمول بها عند جماعة العلماء
213 وأما قول أبي هريرة في هذا الباب لأن يصلي أحدكم بظهر الحرة خير له من أن يقعد حتى إذا قام الإمام يخطب جاء يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة
فإن هذا المعنى مرفوع إلى النبي عليه السلام من حديث أبي هريرة وغيره في تخطي رقاب الناس يوم الجمعة
فمن ذلك حديث أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي عليه السلام من اغتسل يوم الجمعة واستن ومس طيبا إن كان عنده ولبس أحسن ثيابه ثم خرج حتى
48

أتى المسجد فلم يتخط رقاب الناس وأنصت إذا خرج الإمام كانت كفارة ما بينه وبين الجمعة التي تليها (1)
وحديث عبد الله بن عمرو بن العاصي عن النبي عليه السلام قال يحضر الجمعة ثلاثة نفر فرجل حضرها يلغو وهو حظه منها ورجل حضرها يدعو فهو رجل دعا الله إن شاء أعطاه وإن شاء منعه ورجل حضرها بإنصات ولم يتخط رقبة مسلم ولم يؤذ أحدا فهي كفارة إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام الحسنة بعشر أمثالها (2)
وحديث عبد الله بن بسر قال جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والإمام يخطب فقال له رسول الله أجلس فقد آذيت (3)
وحديث الأرقم بن أبي الأرقم عن النبي عليه السلام من تخطى رقاب الناس يوم الجمعة بعد خروج الإمام وفرق بين اثنين فكأنما يجر قصبه في النار (4)
وهو حديث ضعيف الإسناد
وروى بن أبي ذئب عن المقبري عن أبيه عن عبد الله بن وديعة عن سلمان الفارسي عن النبي عليه السلام قال لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويمس طيبا من بيته ثم راح ولم يفرق بين اثنين ثم صلى ما كتب له ثم أنصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى (5)
ذكره بن أبي شيبة عن شبابة عن بن أبي ذئب في المسند ولم يذكره في
49

المصنف وهو في موطأ بن أبي ذئب رواه أحمد بن صالح عن بن أبي فديك عن بن أبي ذئب
وروى بن القاسم عن مالك قال أكره التخطي إذا قعد الإمام على المنبر ولا بأس به قبل ذلك إذا كان بين يديه فرج
وقال بن وهب عنه مثل ذلك وزاد تخط قبل خروج الإمام في رفق
وذكر الثوري التخطي مطلقا
وقال الأوزاعي التخطي الذي جاء فيه القول إنما هو والإمام يخطب حينئذ كره أن يفرق بين اثنين
وقال الأوزاعي في الذي يجلس على طريق الناس في المسجد يوم الجمعة تخطوهم فإنهم لا حرمة لهم
وقال الشافعي أكره تخطي الرقاب يوم الجمعة قبل دخول الإمام وبعده لما فيه من سوء الأدب
وذكر محمد بن الحسن عن مالك أنه قال لا بأس بالتخطي بعد خروج الإمام
قال محمد أراه قبل خروج الإمام ولا أراه بعده ولم يحك عن أصحابه خلافا في ذلك
وأجمعوا أن التخطي لا يفسد شيئا من الصلاة
وقال الأوزاعي هدي المسلمين إذا جلس الإمام على المنبر يوم الجمعة أن يستقبلوه بوجوههم
وأما قوله السنة عندنا أن يستقبل الناس الإمام يوم الجمعة إذا أراد أن يخطب من كان منهم يلي القبلة أو غيرها فهو كما قال سنة مسنونة عند العلماء لا أعلمهم يختلفون في ذلك وأن كنت لا أعلم فيها حديثا مسندا
إلا أن وكيعا ذكر عن يونس عن الشعبي قال من السنة أن يستقبل الإمام يوم الجمعة
ووكيع عن أبان بن عبد الله البجلي عن عدي بن ثابت قال كان النبي عليه السلام إذا خطب استقبله أصحابه بوجوههم
وذكرها أيضا بن أبي شيبة عن وكيع
وروى استقبال الإمام إذا خطب يوم الجمعة عن جماعة من العلماء بالحجاز والعراق
50

((9 باب القراء في صلاة الجمعة والاحتباء ومن تركها من غير عذر))
214 مالك عن ضمرة بن سعيد المازني عن عبيد الله بن عبد الله (بن عتبة بن مسعود) أن الضحاك بن قيس سأل النعمان بن بشير ماذا كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على إثر سورة الجمعة قال كان يقرأ " هل آتك حديث الغشية " [الغاشية 1]
قوله على إثر سورة الجمعة دليل على أن سورة الجمعة كان يقرأ بها ولا يترك قراءتها فلم يحتج إلى السؤال عن ذلك لعلمه به
وفيه أيضا دليل على أن الركعة الثانية كان يقرأ فيها بغير سورة الجمعة (ولو كان يقرأ سورة الجمعة) في الركعتين كلتيهما ما كان سؤاله مثل هذا السؤال وكذلك لو كان يقرأ معها شيئا واحدا أبدا لعلمه كما علم سورة الجمعة ولكنه كان مختلفا فلم يقف منه على شيء واحد وسأل عن الأغلب منه فأخبره النعمان بما عنده
وقد علم غير النعمان من ذلك خلاف ما علم النعمان وقد أدى عنه (صلى الله عليه وسلم أصحابه) ما علموا من ذلك
وقد اختلف العلماء في هذا الباب على حسب اختلاف الآثار فيه وهذا عندهم من اختلاف المباح الذي ورد ورود التخيير
وأما اختلاف الآثار في ذلك فمن ذلك حديث مالك هذا
ومنها حديث إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه عن حبيب بن سالم عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العيدين والجمعة ب سبح اسم ربك الأعلى) [الأعلى 1] " هل أتك حديث الغشية " [الغاشية 1] وإذا اجتمع العيدان في يوم قرأ بهما جميعا (1)
ومنها حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن عبد الله بن أبي رافع قال استخلف مروان أبا هريرة على المدينة وخرج إلى مكة فصلى بنا أبو هريرة
51

الجمعة فقرأ بسورة الجمعة في الركعة الأولى وفي الآخرة " إذا جاءك المنفقون " [المنافقون 1] قال عبيد الله فأدركت أبا هريرة حين انصرف فقلت له إنك قرأت بسورتين كان علي يقرأ بهما في الكوفة فقال أبو هريرة إني سمعت رسول الله يقرأ بهما (1)
ومنها حديث الثوري عن محمد بن راشد عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن بن عباس أن النبي عليه السلام كان يقرأ في الجمعة بسورة الجمعة " وإذا جاءك المنافقون (2) *
ومنها حديث زيد عقبة عن سمرة بن جندب قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الجمعة ب سبح اسم ربك الأعلى) [الأعلى 1] و " هل أتك حديث الغشية * (3) [الغاشية 1]
وهذه آثار صحاح كلها لها طرق كثيرة ورويت من وجوه غير هذه
وأما اختلاف الفقهاء في هذه المسألة
فقال مالك بما روي في ذلك قال أحب إلي أن يقرأ الإمام يوم الجمعة " هل أتك حديث الغشية " [الغاشية 1] مع سورة الجمعة
وقد روى عنه أنه كان يقرأ ب * (سبح اسم ربك الأعلى) * [الأعلى 1]
وذكر بن أبي شيبة عن إسماعيل بن عياش عن محمد بن عجلان قال صليت خلف عمر بن عبد العزيز الجمعة فقرأ في الركعة الأولى بسورة الجمعة وفي الثانية ب سبح اسم ربك الأعلى)
وجملة قول مالك في ذلك أن الإمام لا يترك سورة الجمعة في الأولى ويقرأ في الثانية بما شاء إلى أنه يستحب ما وصفنا
وروى بن وهب عن مالك أنه سئل عن قراءة سورة الجمعة يوم الجمعة أسنة قال لا أدري ما سنة ولكن من أدركنا كان يقرأ بها يوم الجمعة قيل له فما
52

ترى أن يقرأ معها قال أما فيما مضى ف * (سبح اسم ربك الأعلى) * وأما اليوم فيقرؤون بالسورة التي تليها (1)
وقال الأوزاعي ما نعلم أحدا من أئمة المسلمين ترك سورة الجمعة يوم الجمعة
وقال الشافعي أختار أن يقرأ في الأولى بسورة الجمعة وفي الثانية " إذا جاءك المنفقون " [المنافقون 1]
وهو قول علي وأبي هريرة وجماعة
وقال مالك والشافعي وداود لا يترك قراءة سورة الجمعة في الركعة الأولى على كل حال فإن لم يقرأها لم تفسد صلاته وقد أساء وترك ما يستحب له
وقال أبو حنيفة وأصحابه ما قرأ به فحسن وكانوا يكرهون أن يوقتوا في ذلك شيئا من القرآن سورة الجمعة أو غيرها
وقال الثوري لا يتعمد أن يقرأ في الجمعة بالسورة التي جاءت في الآثار ولكن يتعمد ذلك أحيانا ويدع أحيانا
وأما الاحتباء فذكر في رواية يحيى بن يحيى في ترجمة هذا الباب ولم يذكر في الباب فيه شيئا
وذكر في رواية بن بكير وغيره في هذا الباب مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عمر كان يحتبى يوم الجمعة والإمام يخطب
وهذا الحديث قد رواه عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر ولم يرو عن أحد من الصحابة خلافه ولا روي عن أحد من التابعين كراهية الاحتباء يوم الجمعة إلا وقد روي عنه جوازه وأظن مالكا سمع والله أعلم ما روي عن النبي عليه السلام من كراهية الاحتباء يوم الجمعة والإمام يخطب وأنه قد قال به قوم ولم يصح عنده وصح عنده فعل بن عمر وبلغه فأدخله في كتابه
والحديث المسند فيه رواه أبو عبد الرحمن المقبري عن سعيد بن أبي أيوب قال حدثني أبو مرحوم عن سهل بن معاذ عن أبيه أن النبي عليه السلام نهى عن الاحتباء يوم الجمعة والإمام يخطب
53

وذكره أبو داود وقال حدثنا محمد بن عوف قال حدثنا المقبري فذكره
قال أبو داود وكان بن عمر وأنس بن مالك وشريح وصعصعة بن صوحان وسعيد بن المسيب والنخعي ومكحول وإسماعيل بن محمد بن سعد يحتبون يوم الجمعة
وقال نعيم بن سلامة لا بأس بها ولم يبلغني أن أحدا كرهها الا عبادة بن نسي
وروي في غير الموطأ جواز الاحتباء يوم الجمعة عن جماعة من السلف
وهو قول مالك والأوزعي والشافعي والثوري وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق وأبي ثور وداود
215 وأما حديثه في هذا الباب عن صفوان بن سليم قال مالك لا أدري أعن النبي عليه السلام أم لا أنه قال من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير عذر طبع الله على قلبه (1)
فإن هذا الحديث مروي عن النبي عليه السلام من وجوه
منها حديث أبي الجعد الضمري وكانت له صحبة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ترك الجمعة ثلاث مرات ومنهم من يقول فيه ثلاث جمع تهاونا طبع الله على قلبه
وهو حديث مدني رواه محمد بن عمر بن علقمة عن عبيدة بن سفيان عن أبي الجعد الضمري عن النبي عليه السلام
(وقد رواه بعضهم عن محمد بن عمر وعن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم) والأول عندي أولى بالصواب
54

وقد ذكرناه بالأسانيد في التمهيد
وحديث أبي قتادة أيضا مدني عن النبي عليه السلام في معناه رواه الدراوردي وسليمان بن بلال عن أسيد بن أبي أسيد البراد عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من ترك الجمعة ثلاثا من غير عذر طبع الله على قلبه
قال أبو عمر يرويه غير سليمان والدراوردي عن أسيد بن أبي أسيد عن عبد الله بن أبي قتادة عن جابر ورواية سليمان والدراوردي أولى بالصواب إن شاء الله
وفيه من غير ضرورة وقد ذكرنا في التمهيد معنى الضرورة وما هي وما الذي يتخلف له الصحيح عن الجمعة وأتينا بما للعلماء في ذلك هنالك والحمد لله
وأما التشديد في تركها فروي عن النبي عليه السلام من حديث بن عمر وحديث بن عباس وحديث أبي هريرة أن النبي عليه السلام قال لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعة (1) أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين (2)
وقد ذكرتها بأسانيدها في التمهيد
والختم على القلوب مثل الطبع عليها وهذا وعيد شديد لأن من طبع على قلبه وختم عليه لم يعرف معروفا ولم ينكر منكرا
وقد قال عبد الله بن مسعود والحسن البصري إن الصلاة التي أراد النبي عليه السلام أن يحرق على من تخلف عنها هي الجمعة
ذكره بن أبي شيبة عن الفضل بن دكين عن زهير عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله وعن عفان عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن وهي عن سفيان الثوري وبن المبارك ومراون بن معاوية عن عوف الأعرابي عن سعيد بن أبي الحسن عن عبد الله بن عباس أنه قال من ترك ثلاث جمعات متواليات من غير عذر فقد نبذ
الإسلام وراء ظهره
وروى جرير وعبد الله بن إدريس عن ليث عن مجاهد أن رجلا سأل بن عباس شهرا كل يوم يسأله عنها ما تقول في رجل يصوم النهار ويقوم الليل ولا
55

يشهد الجمعة ولا الجماعة فكان بن عباس يقول في ذلك كله صاحبك في النار
وهذا يحتمل أن يكون بن عباس عرف حال المسؤول عنه باعتقاد مذهب الخوارج في ترك الصلاة مع الجماعة والتهمة باستحلال دماء المسلمين وتكفيرهم وأنه لذلك ترك الجمعة والجماعة معهم فأجابه بهذا الجواب تغليظا في سوء مذهبه
وقد ذكرنا في التمهيد حديث علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبهم فقال في خطبته إن الله فرض عليكم الجمعة في يومي هذا وفي عامي هذا فمن تركها جحودا بها واستخفافا لحقها فلا جمع الله عليه شمله ولا بارك له في أمره ألا ولا صلاة له ولا زكاة له ولا صوم له ولا حج له إلا أن يتوب فمن تاب تاب الله عليه (1) في حديث طويل ذكرته من طرق في التمهيد وقد بان فيه أن الوعيد المذكور إنما هو لمن تركها جحودا بها واستخفافا بحقها
وفي قوله تعالى " يا أيها الذين ءامنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله " [الجمعة 9] كفاية في وجوب الجمعة على من سمع النداء
وأجمع علماء الأمة أن الجمعة فريضة على كل حر بالغ ذكر يدركه زوال الشمس في مصر من الأمصار وهو من أهل المصر غير مسافر
وأجمعوا أنه من تركها وهو قادر على إتيانها ممن تجب عليه أنه غير كافر بفعله ذلك إلا أن يكون جاحدا لها مستكبرا عنها
وأجمعوا أنه بتركها ثلاث مرات من غير عذر فاسق ساقط الشهادة
وقيل ذلك فيمن تركها عامدا مرة واحدة من غير تأويل ولا عذر
فإن قال بعض أهل الجهل إنه روى بن وهب عن مالك أن شهودها سنة فالجواب عن ذلك أن شهودها سنة على أهل القرى الذين اختلف السلف والخلف في إيجاب الجمعة عليهم وأما أهل الأمصار فلا
ونحن نورد ذلك على نصه والرواية في سماع بن وهب عن مالك قال قال لي مالك كل قرية متصلة البيوت وفيها جماعة من المسلمين فينبغي لهم أن يجمعوا إذا كان إمامهم يأمرهم أن يجمعوا أو ليؤمروا رجلا فيجمع بهم لأن الجمعة سنة
56

هذه رواية بن وهب التي شبه بها على من لا علم له ولم يعلم أن من أهل العلم جماعة يقولون إنه لا جمعة إلا في مصر جامع
وفي قول مالك في رواية بن وهب هذه إذا كان إمامهم يأمرهم دليل على أن وجوب الجمعة عنده في القرية الكبيرة التي ليست بمصر إنما هو اجتهاد منه سنة وتشبيه لها بالمصر المجتمع على إيجاب الجمعة فيه
ومسائل الاجتهاد لا تقوى قوة توجب القطع عليها وقد أخبرتك بالإجماع القاطع للعذر وعليه جماعة فقهاء الأمصار
فلهذا أطلق مالك أنها سنة في قرى البادية لما رأى من العمل بها ببلده وإن كان فيها خلاف معلوم عنده وعند غيره
وقد ذكرنا الاختلاف في التجميع في القرى الصغار والكبار في التمهيد
على أنه يحتمل أن يكون قول مالك سنة أي طريقة الشريعة التي سلكها المسلمون ولم يختلفوا فيها هذا لو أراد الجمعة بالأمصار
وقال مكحول السنة سنتان سنة فريضة وسنة غير فريضة
فالسنة الفريضة الأخذ بها فريضة وتركها كفر والسنة غير الفريضة الأخذ بها فضيلة وتركها إلى غير حرج
وقد روى بن وهب عن مالك قال سمعت بعض أهل العلم يقول كان الناس في زمن رسول الله ينزلون من العوالي يشهدون الجمعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال والعوالي من المدينة على ثلاثة أميال أو نحو ذلك
قال ولم يبلغني ان شهودها يجب على أحد أبعد من ذلك
قال أبو عمر هذا يدل على أنها واجبة على هؤلاء عنده وعلى من هو أقرب إلى المصر منهم
وأما المصر فيه عنده واجبة على أهله وعلى كل من سمع النداء أو كان بمكان يسمع منه أو رأس ثلاثة أميال أو أدنى
ومن كان أبعد من ذلك فهو في سعة إن شاء الله
وقد روى بن القاسم عن مالك أنه قال في القرى التي تجمع فيها الجمعة ولا يكون لهم وال قال ينبغي أن يقدموا رجلا فيخطب بهم ويصلي
قال بن القاسم قال لي مالك إن لله فرائض في أرضه فرائض لا يسقطها الوالي
57

قال بن القاسم يريد الجمعة فهذه الرواية هي التي عليها جماعة العلماء بالفقه والحديث في جميع الأمصار والحمد لله ولم يختلفوا أن الجمعة واجب شهودها على كل بالغ من الرجال حر إذا كان في مصر جامع هذا إجماع من علماء السلف والخلف
واختلفوا في القرى الصغار في أنفسها وفي المسافة التي منها يجب قصد المصر للجمعة من البوادي على ما قد ذكرناه في التمهيد ونذكر ها هنا اختلاف فقهاء الأمصار
قال مالك من كان بينه وبين الجمعة ثلاثة أميال فعليه إتيان الجمعة وهو قول الليث والشافعي لأنه تجب على أهل المصر وعلى من كان خارج المصر من موضع يسمع فيه النداء والنداء يسمع بالصوت الندي من ثلاثة أميال فيما ذكروا
وروى علي بن زياد عن مالك قال عزيمة الجمعة على من كان من المصر بموضع يسمع فيه النداء وذلك ثلاثة أميال
وأما اختلافهم في العدد الذي تصح به الجمعة فأما مالك فلم يحد فيه حدا وراعى القرية المجتمعة المتصلة البيوت
قال بن القاسم كالروحاء وشبهها فإذا كانت كذلك لزمتهم الجمعة
وقال مطرف وبن الماجشون تجب الجمعة على أهل ثلاثين بيتا فما فوق ذلك بوال وبغير وال
وعن عمر بن عبد العزيز خمسين رجلا
وقال أبو حنيفة والليث ثلاثة سوى الإمام
وقال أبو يوسف اثنان سوى الإمام
وبه قال الثوري وداود
وقال الحسن بن صالح والطبري إن لم يحضر مع الإمام إلا رجل واحد يخطب عليه وصلى الجمعة أجزتهما
واعتبر الشافعي وأحمد بن حنبل أربعين رجلا
وعن أبي هريرة مائتا رجل
وقال طائفة اثنا عشر رجلا لأن الذين بقوا مع النبي عليه السلام فأقام الجمعة بهم إذ تركوه قائما كانوا اثني عشر رجلا
ولكل قول وجه يطول الاحتجاج له وبالله التوفيق
58

216 وأما حديثه عن جعفر بن محمد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب خطبتين يوم الجمعة وجلس بينهما
فهو مرسل في روايته عند جميع رواته
وقد أسندناه من طرق في التمهيد صحاح كلها
منها حديث عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب خطبتين قائما يفصل بينهما بجلوس (1)
وحديث الثوري وغيره عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة قال كان النبي عليه السلام يخطب قائما ويجلس بين الخطبتين وكانت صلاته قصرا وخطبته قصرا وكان يتلو في خطبته آيات من القرآن (2)
واختلف الفقهاء في الجلوس بين الخطبتين (هل هو فرض أم سنة
فقال مالك وأصحابه وأبو حنيفة وأصحابه الجلوس بين الخطبتين في الجمعة) سنة فإن لم يجلس بينهما فقد أساء ولا شيء عليه
إلا أن مالكا قال يجلس جلستين إحداهما قبل الخطبة والأخرى بين الخطبتين
وقال أبو حنيفة لا يجلس الإمام أول ما يخطب ويجلس بين الخطبتين
وقال الشافعي يجلس حين يظهر على المنبر قبل أن يخطب لأنه ينتظر الأذان ولا يفعل ذلك في العيدين لأنه لا ينتظر أذانا فإن ترك الجلوس الأول كراهته ولا إعادة عليه لأنه ليس من الخطبتين ولا فصل بينهما وأما الجلوس بين الخطبتين فلابد منه فإن خطب خطبتين لم يفصل بينهما أعاد ظهرا أربعا
وقال أبو ثور يخطب خطبتين ويجلس جلستين
واختلفوا أيضا في الخطبتين يوم الجمعة وما يجزئ منهما وهل هي فرض أو سنة
فالروايات عن أصحابنا فيها مضطربة والخطبة عندنا في الجمعة فرض وهو
59

قول بن القاسم ولا يجزئ عنده إلا أقل ما يقع عليه اسم خطبة من الكلام المؤلف المبتدأ بالحمد لله وأما تكبيرة أو تهليلة أو تسبيحة كما قال أبو حنيفة فلا تجزئه
وذكر بن عبد الحكم عن مالك إن كبر أو هلل أو سبح أجزأه من الخطبة
قال بن وهب عن مالك يخطب خطبتين يفصل بينهما بجلوس ويجلس جلستين
وقال الثوري لا تكون جمعة إلا بخطبة
وقال الشافعي لا تجزئ الجمعة بأقل من خطبتين قائما فإن خطب جالسا وهو يطيق لم يجزه وإن علموا أنه يطيق لم تجزهم جمعة
قال وأقل ما يقع عليه اسم خطبة منهما أن يحمد الله في أو كل واحدة منهما ويصلي على النبي عليه السلام ويوصي بتقوى الله ويقرأ شيئا من القرآن في الأولى ويدعو في الآخرة لأن الخطبة جمع بعض الكلام إلى بعض
قال وإن خطب خطبة واحدة عاد فخطب ثانية مكانه فإن لم يفعل حتى ذهب الوقت أعاد الظهر أربعا
قال ولا تتم الخطبة إلا أن يقرأ في إحداهما بآية أو أكثر ويقرأ في الآخرة أيضا بآية أو أكثر والقراءة في الأولى أكثر وما قدم من الكلام في الخطبة أو القراءة أو أخر لم يضره
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف إن خطب الإمام بالناس يوم الجمعة فقال الحمد لله أو قال سبحان الله أو قال لا إله إلا الله أو ذكر الله ولم يزد على هذا شيئا أجزأه من الخطبة
وقال محمد لا يجزئه حتى يكون كلاما يسمى خطبة
قال أبو عمر قال الله تعالى " يا أيها الذين ءامنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله الجمعة 9] والذكر ها هنا الصلاة والخطبة بإجماع
فأبان رسول الله الجمعة بفعله كيف هي وفي أي وقت هي وكم ركعة هي ولم يصلها قط إلا بخطبة
فكان بيانه ذلك فرضا كسائر (بيانه لمجملات الصلوات في ركوعها وسجودها وأوقاتها وفي الزكوات ومقاديرها وغير ذلك من مجملات الفرائض المنصوص عليها في الكتاب
60

وقد استدل بعض أصحابنا على وجوب الخطبة بقوله تعالى " وتركوك قائما الجمعة 11] لأنه عاتب بذلك الذين تركوا النبي صلى الله عليه وسلم قائما يخطب يوم الجمعة وانفضوا إلى التجارة التي قدمت العير بها في تلك الساعة وعابهم بذلك ولا يعاب إلا على ترك الواجب
وما قدمناه من القول في وجوبها لازم قاطع والحمد لله
وأجمعوا أن الخطبة لا تكون إلا قائما لمن قدر على القيام فإن أعيا وجلس للراحة لم يتكلم حتى يعود قائما
وقد كان عثمان ربما استراح في الخطبة ثم يقوم فيتكلم قائما
وأول من خطب جالسا معاوية لا يختلفون في ذلك
وقد ذكرناه بإسناده في موضعه والحمد لله
61

((6 كتاب الصلاة في رمضان))
((1 باب الترغيب في الصلاة في رمضان))
217 ذكر فيه مالك حديثين مسندين أحدهما عن بن شهاب عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد ذات ليلة فصلى بصلاته ناس الحديث
218 والآخر عن بن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرغب في قيام رمضان الحديث
ففي الحديث الأول من الفقه الاجتماع في النافلة وأن النوافل إذا اجتمع في شيء منها على سنته لم يكن لها أذان ولا إقامة لأنه لم يذكر الأذان في ذلك ولو كان لذكر ونقل
وأجمع العلماء أن لا أذان في شيء من السنن والنوافل وأن الأذان إنما هو للمكتوبات فأغنى عن الكلام في ذلك
وفيه أن قيام رمضان سنة من سنن النبي عليه السلام مندوب إليها مرغب فيها ولم يسن منها عمر إلا ما كان رسول الله يحبه ويرضاه وما لم يمنعه من المواظبة عليه إلا أن يفرض على أمته وكان بالمؤمنين رؤوفا رحيما صلى الله عليه وسلم
62

فلما علم عمر ذلك من رسول الله وعلم أن الفرائض في وقته لا يزاد فيها ولا ينقص منها أقامها للناس وأحياها وأمر بها وذلك سنة أربع عشرة من الهجرة صدر خلافته
وقد أوضحنا ما فضل به عمر من ذلك وغيره في التمهيد
ومما يدل على أن قيام شهر رمضان سنة من سنن النبي عليه السلام ما ذكره بن وهب عن مسلم بن خالد عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال خرج النبي وإذا الناس يصلون في رمضان في ناحية المسجد فقال من هؤلاء قيل ناس لهم قرآن وأبي بن كعب يصلي بهم وهم يصلون بصلاته فقال النبي عليه السلام أصابوا ونعم ما صنعوا (1)
وذكر الدارقطني عن إسماعيل بن محمد الصفار عن أبي قلابة الرقاشي عن بشر بن عمر عن مالك عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله فرض عليكم صيام رمضان وسننت لكم قيامه فمن صامه وقامه إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه (2)
وهذا لفظ لم يروه أحد عن مالك في هذا الحديث إلا أبو قلابة الرقاشي عن بشر بن عمر
قاله الدارقطني وهو كما قال ومما يؤيد ذلك قول عائشة إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به لئلا يفرض على الناس
63

وقد ذكرنا في التمهيد حديث أبي ذر أن رسول الله قام بهم في رمضان عند سبع بقين منه ليلة إلى ثلث الليل ولم يقم بهم التي تليها وقام بهم التي بعدها وهي الخامسة إلى أن ذهب شطر الليل ثم قام بهم الثالثة حتى خشوا أن يفوتهم السحور
هذا كله معنى الحديث لا لفظه
ومثله حديث النعمان بن بشير قال قمنا مع رسول الله عليه السلام في شهر رمضان ليلة ثلاث وعشرين إلى ثلث الليل ثم قمنا معه ليلة خمس وعشرين إلى نصل الليل ثم قمنا ليلة سبع وعشرين حتى ظننا ألا ندرك الفلاح وكانوا يسمونه السحور
وهذا كله يدل على أن قيام رمضان جائز أن يضاف إلى النبي عليه السلام بحضه عليه وعمله به وأن عمر إنما سن منه ما سنه رسول الله
219 وأما حديث بن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمر بعزيمة فيقول من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه (1)
قال بن شهاب فتوفي رسول الله والأمر على ذلك ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبى بكر وصدرا من خلافة عمر
فقد ذكرنا في التمهيد الاختلاف على مالك وعلي بن شهاب في إسناده في هذا الحديث ومتنه بأبسط ما يكون والحمد لله
وفيه من الفقه فضل قيام رمضان
وظاهره يبيح فيه الجماعة والانفراد لأنه لم يقل فيه من قام رمضان وحده ولا في جماعة
64

وذلك كله فعل خير
وقد ندب الله إلى فعل الخير بقوله تعالى " وافعلوا الخير لعلكم تفلحون الحج 77]
وفي قوله عليه السلام إيمانا واحتسابا دليل على أن الأعمال الصالحة إنما يقع بها غفران الذنوب وتكفير السيئات مع الإيمان والاحتساب وصدق النيات
وقد قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب أن الكبائر لا يكفرها إلا التوبة منها والندم عليها واعتقاد ترك العودة والرجوع إليها وبالله التوفيق
((2 باب ما جاء في قيام رمضان "
220 مالك عن بن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القارئ أنه قال خرجت مع عمر بن الخطاب في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون (1) يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط (2) فقال عمر والله إني لأراني لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل فجمعهم على أبي بن كعب (3) قال ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم (4) فقال عمر نعمت البدعة هذه والتي تنامون عنها أفضل من التي تقومون يعني آخر الليل وكان الناس يقومون أوله
قال أبو عمر الأوزاع في هذا الحديث هم الجماعات المتفرقون وقد يقال للجماعة المتفرقة عزون قال الله تعالى " فمال الذين كفروا قبلك مهطعين عن اليمين وعن الشمال عزين المعارج 36 37] أي جماعات متفرقة
وفي حديث سمرة بن جندب قال دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن جلوس متفرقون فقال ما لي أراكم عزين
65

وفيها وجوه لأهل التفسير معانيها كلها متقاربة
وفي الحديث نفسه ما يدل على تفسير الأوزاع لأنهم كانوا يصلون متفرقين خلف كل إمام رهط فجمعهم عمر على قارئ واحد واختار لهم أقرأهم امتثالا والله أعلم لقوله عليه السلام يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله (1)
رواه أبو مسعود الأنصاري عن النبي
وقد روي عن النبي عليه السلام أنه قال وأقرؤهم أبي بن كعب (2)
وقال عمر بن الخطاب علي أقضانا وأبي أقرؤنا وإنا لنترك أشياء من قراءة أبي
وفي خروجه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم فقال نعمت البدعة دليل على أنه كان لا يصلي معهم وأنه كان يتخلف عنهم إما لأمور المسلمين وإما للانفراد بنفسه في الصلاة
وروى بن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس قال سمعت بن عباس يقول دعاني عمر أتغدى عنده في شهر رمضان يعني السحور فسمع هيعة الناس حين انصرفوا من القيام فقال عمر أما إن الذي بقي من الليل أحب إلي مما مضى منه
وفيه دليل على أن قيامهم كان أول الليل ثم جعله عمر في آخر الليل فلم يزل كذلك في معنى ما ذكر مالك إلى زمان أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال كنا ننصرف في رمضان فنستعجل الخدم بالطعام مخافة الفجر
221 وروى مالك في هذا الباب عن محمد بن يوسف عن السائب بن
66

يزيد أنه قال أمر عمر بن الخطاب أبي بن كعب وتميما الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة قال وقد كان القارئ يقرأ بالمئين حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر (1)
ورواه بن عيينة عن إسماعيل بن أمية عمن حدثه عن السائب بن يزيد قال أمر عمر أبي بن كعب أن يقيم بالناس في شهر رمضان فكان القارئ يقرأ بالمئين ولا ينصرف من القيام حتى يرى فروع الفجر لم يذكر بن عيينة في هذا الخبر تميما الداري مع أبي بن كعب كما ذكره مالك وقد يمكن أن يكون تميم الداري أقيم للنساء لأن في حديث بن شهاب وهو أثبت حديث في هذا الباب أنه جمعهم على أبي بن كعب
وقد روى بن عيينة عن هشام بن عروة عن أبيه أن عمر بن الخطاب جمع الناس في قيام رمضان الرجال على أبي بن كعب والنساء على سليمان بن أبي حثمة فيمكن أن يكون تميم الداري أقيم وقتا ما للنساء والله أعلم
وبن عيينة عن أبان بن أبي عياش عن أنس بن مالك قال لما دخلت العشر الأواخر من شهر رمضان أبق إمامنا يعني أبي بن كعب وكان يصلي بالرجال
وأما قول عمر نعمت البدعة في لسان العرب اختراع ما لم يكن وابتداؤه فما كان من ذلك في الدين خلافا للسنة التي مضى عليها العمل فتلك بدعة لا خير فيها وواجب ذمها والنهي عنها والأمر باجتنابها وهجران مبتدعها إذا تبين له سوء مذهبه وما كان من بدعة لا تخالف أصل الشريعة والسنة فتلك نعمت البدعة كما قال عمر لأن أصل ما فعله سنة
وكذلك قال عبد الله بن عمر في صلاة الضحى وكان لا يعرفها وكان يقول وللضحى صلاة
وذكر بن أبي شيبة عن بن علية عن الجريري عن الحكم عن الأعرج قال سألت بن عمر عن صلاة الضحى فقال بدعة ونعمت البدعة
وقد قال تعالى حاكيا عن أهل الكتاب " ورهبانية ابتدعوها ما كتبنها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله الحديد 27]
وأما ابتداع الأشياء من أعمال الدنيا فهذا لا حرج فيه ولا عيب على فاعله
67

وأما قوله والتي ينامون عنها أفضل فلما جاء في دعاء الأسحار
وقد أثنى الله على المستغفرين بالأسحار (1)
وجاء عن أهل العلم بتأويل القرآن في قوله تعالى حاكيا عن يعقوب * (سوف أستغفر لكم ربي) * [يوسف 98] قالوا أخرهم إلى السحر
وقال عليه السلام ينزل الله تعالى إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل ويروى نصف الليل فيقول هل من داع هل من مستغفر هل من تائب (2)
وسيأتي ذكر هذا الحديث في موضعه
وفي حديث مالك عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد قال أمر عمر أبي بن كعب وتميما الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة (3)
(هكذا قال مالك في هذا الحديث إحدى عشرة ركعة) وغير مالك يخالفه فيقول في موضع إحدى عشرة ركعة (إحدى وعشرين) ولا أعلم أحدا قال في هذا الحديث إحدى عشرة ركعة غير مالك والله أعلم
إلا أنه يحتمل أن يكون القيام في أول ما عمل به عمر بإحدى عشرة ركعة ثم خفف عليهم طول القيام ونقلهم إلى إحدى وعشرين ركعة يخففون فيها القراءة ويزيدون في الركوع والسجود إلا أن الأغلب عندي في إحدى عشرة ركعة الوهم والله أعلم
وذكر عبد الرزاق (4) عن داود بن قيس وغيره عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أن عمر بن الخطاب جمع الناس في رمضان على أبي بن كعب وتميم الداري على إحدى وعشرين ركعة يقومون بالمئين وينصرفون في فروع الفجر
وروى وكيع عن مالك عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب نهر رجلا يصلي بهم عشرين ركعة
68

وروى الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب عن السائب بن يزيد قال كنا ننصرف من القيام على عهد عمر (وقد دنا فروع الفجر وكان القيام على عهد عمر) بثلاث وعشرين ركعة
وهذا محمول على أن الثلاث للوتر والحديث الأول على أن الواحدة للوتر والوتر بواحدة قد تقدمها ركعات يفصل بينهن وبينها بسلام وبثلاث لا يفصل بينها بسلام
كل ذلك معروف معمول به بالمدينة وسنذكر ذلك في موضعه من هذا الكتاب ونذكر وجه اختيار مالك لما اختاره من ذلك إن شاء الله
وذكر عبد الرزاق (1) عن بن جريج قال أخبرني عمران بن موسى أن يزيد بن حصيفة أخبره عن السائب بن يزيد قال جمع عمر الناس على أبي بن كعب وتميم الداري فكان أبي يوتر بثلاث ركعات
وعن معمر عن قتادة عن الحسن قال قال كان أبي يوتر بثلاث لا يسلم إلا من الثالثة مثل المغرب
وقد سئل مالك عن الإمام يوتر بثلاث لا يفصل بينهن فقال أرى أن يصلى خلفه ولا يخالف
قال مالك كنت أنا أصلى معهم فإذا كان الوتر انصرفت ولم أوتر معهم
222 وقد روى مالك عن يزيد بن رومان قال كان الناس يقومون في زمن عمر بن الخطاب في رمضان بثلاث وعشرين ركعة
وهذا كله يشهد بأن الرواية بإحدى عشرة ركعة وهم وغلط وأن الصحيح ثلاث وعشرون وإحدى وعشرون ركعة والله أعلم
وقد روى أبو شيبة واسمه إبراهيم بن علية بن عثمان عن الحكم عن بن عباس أن رسول الله عليه السلام كان يصلي في رمضان عشرين ركعة والوتر
وليس أبو شيبة بالقوي عندهم
ذكره بن أبي شيبة عن يزيد بن رومان عن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان
وروي عشرون ركعة عن علي وشتير بن شكل وبن أبي مليكة والحارث الهمداني وأبي البختري
69

وهو قول جمهور العلماء وبه قال الكوفيون والشافعي وأكثر الفقهاء
وهو الصحيح عن أبي بن كعب (من غير خلاف من الصحابة
وقال عطاء أدركت الناس وهم يصلون ثلاثا وعشرين ركعة بالوتر
وكان الأسود) بن يزيد يصلي أربعين ركعة ويوتر بسبع
وذكر بن القاسم عن مالك تسع وثلاثون والوتر ثلاث
وزعم أنه الأمر القديم
وذكر بن أبي شيبة قال حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن داود بن قيس قال أدركت الناس بالمدينة في زمن عمر بن عبد العزيز وأبان بن عثمان يصلون ستا وثلاثين ركعة ويوترون بثلاث
وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي وأحمد بن داود قيام رمضان عشرون ركعة سوى الوتر لا يقام بأكثر منها استحبابا
وذكر عن وكيع عن حسن بن صالح عن عمرو بن قيس عن أبي الحسين عن علي أنه أمر رجلا يصلي بهم في رمضان عشرين ركعة
وهذا هو الاختيار عندنا وبالله توفيقنا
وذكره أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا محمد بن فضيل عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي
واختلفوا في الأفضل من القيام مع الناس والانفراد في شهر رمضان فقال مالك والشافعي صلاة المنفرد في بيته في رمضان أفضل
قال مالك وكان ربيعة وغير واحد من علمائنا ينصرفون ولا يقومون مع الناس
قال مالك وأنا أفعل ذلك وما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في بيته
واحتج الشافعي بحديث زيد بن ثابت أن النبي عليه السلام قال في قيام رمضان أيها الناس صلوا في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة
70

قال الشافعي ولا سيما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده على ما في ذلك من الفضل
وقد ذكرنا حديث زيد بن ثابت بإسناده هذا في التمهيد
وروينا عن بن عمر وسالم والقاسم وإبراهيم ونافع أنهم كانوا ينصرفون ولا يقومون مع الناس
وجاء عن عمر وعلي أنهما كانا يأمران من يقوم للناس في المسجد ولم يجئ عنهما أنهما كانا يقومان معهم
وأما الليث بن سعد فقال لو أن الناس كلهم قاموا في رمضان لأنفسهم وأهليهم حتى يترك المسجد لا يقوم فيه لكان ينبغي أن يخرجوا إلى المسجد حتى يقوموا فيه في رمضان لأن قيام رمضان من الأمر الذي لا ينبغي للناس تركه وهو مما سن عمر للمسلمين وجمعهم عليه
قال الليث وأما إذا كانت الجماعة قد قامت في المسجد فلا بأس أن يقوم الرجل لنفسه في بيته وأهل بيته
قال أبو عمر وحجة الليث ومن قال بقوله قول رسول الله عليه السلام عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي (1) رواه العرباض بن سارية عن النبي عليه السلام
وقال عليه السلام اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر (2) رواه حذيفة عن النبي عليه السلام
وقال يقول الليث في هذه المسألة جماعة من المتأخرين من أصحاب أبي حنيفة والشافعي
فمن أصحاب أبي حنيفة عيسى بن أبان وبكار بن قتيبة وأحمد بن أبي عمران والطحاوي
ومن أصحاب الشافعي إسماعيل بن يحيى المزني وبن عبد الحكم كلهم قال الجماعة في المسجد في قيام رمضان أحب إلينا وأفضل عندنا من صلاة المرء في بيته
71

واحتجوا بحديث أبي ذر عن النبي عليه السلام إن الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة (1)
وقد ذكرنا هذا الحديث بإسناده في التمهيد
وإلى هذا ذهب بن حنبل
قال الأثرم كان بن حنبل يصلي مع الناس التراويح كلها يعني الأشفاع عندنا إلى آخرها ويوتر معهم ويحتج بحديث أبي ذر
قال أحمد بن حنبل كان جابر يصليها في جماعة وروي عن علي وبن مسعود مثل ذلك
وقد احتج أهل الظاهر في ذلك بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة (2) ويروى سبع وعشرين درجة
وهذا عند أكثر أهل العلم في الفريضة والحجة لهم قوله عليه السلام في حديث زيد بن ثابت صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة (3)
وهذا الحديث وإن كان موقوفا في الموطأ على زيد فإنه قد رفعه جماعة ثقات
وقد ذكرنا ذلك في موضعه وبالله التوفيق
قال الأثرم سمعت أحمد بن حنبل يسأل عن الصلاة بين التراويح فكرهها
فذكر له في ذلك رخصة عن بعض الصحابة فقال هذا باطل وإنما فيه رخصة عن سعيد بن جبير والحسن وإبراهيم
قال أحمد وفيه عن ثلاثة من الصحابة كراهيته عبادة بن الصامت وأبي الدرداء وعقبة بن عامر
72

قال أبو عمر القيام في رمضان نافلة ولا مكتوبة إلا الخمس وما زاد عليها فتطوع بدليل حديث طلحة هل علي غيرها قال لا إلا أن تطوع
وقال عليه السلام صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة (1)
فإذا كانت النافلة في البيت أفضل منها في مسجد النبي عليه السلام والصلاة فيه بألف صلاة فأي فضل أبين من هذا
ولهذا كان مالك والشافعي ومن سلك سبيلهما يرون الانفراد في البيت أفضل في كل نافلة
فإذا قامت الصلاة في المساجد في رمضان ولو بأقل عدد فالصلاة حينئذ في البيت أفضل
وقد زدنا هذه المسألة بيانا في التمهيد والحمد لله
223 وأما حديث مالك عن داود بن الحصين أنه سمع الأعرج يقول ما أدركت الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان (2) قال وكان القارئ يقرأ سورة البقرة في ثمان ركعات فإذا قام بها في اثنتي عشرة ركعة رأى الناس أنه قد خفف
ففيه إباحة لعن الكفرة كانت لهم ذمة أو لم تكن
وليس ذلك بواجب ولكنه مباح لمن فعله غضبا لله في جحدهم الحق وعداوتهم للدين وأهله
وأما قوله في رمضان فمعناه أنهم كانوا يقنتون في الوتر من صلاة رمضان ويلعنون الكفرة في القنوت اقتداء برسول الله في دعائه في القنوت على رعل وذكوان وبني لحيان الذين قتلوا أصحاب بئر معونة
وروى بن وهب عن مالك في القنوت في رمضان إنما يكون ذلك في النصف الآخر من الشهر وهو لعن الكفرة يلعن الكفرة ويؤمن من خلفه
ولا يكون ذلك إلا بعد أن يمر النصف من رمضان ويستقبل النصف الآخر
73

قال مالك فإن دعا الإمام على عدو للمسلمين واستسقى لم أر بذاك بأسا
وروى بن نافع عن مالك أنه سئل عن لعن الكفرة في رمضان في أول الشهر أم في آخره فقال مالك كانوا يلعنون الكفرة في رمضان في النصف منه حتى ينسلخ رمضان
وأرى ذلك واسعا إن فعل أو ترك
قال أبو عمر قد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه (1)
ولعن من انتمى إلى غير أبيه وادعى غير مواليه (2)
ولعن المخنثين من الرجال والمذكرات من النساء (3)
ولعن من غير تخوم الأرض (4)
ولعن المكذب بقدر الله والمتسلط بالجبروت ليذل أولياء الله
74

ولعن الواصلة والمستوصلة (1)
ولعن جماعة يطول ذكرهم قصدا إلى لعنهم
وليس لعنه هؤلاء ولا من استحق اللعنة من باب من لعنة رسول الله وشتمه عند غضب يغضبه وهو يظنه أهلا لذلك ثم تبين له إذ كان من البشر غير ذلك بل يكون لعنه له صلاة ورحمة كما قال عليه السلام إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر فمن سببته أو لعنته فأجعل ذلك عليه رحمة (2) أو كما قال
وقد أوضحناه في موضعه من التمهيد والحمد لله
أخبرني أحمد بن عبد الله عن أبيه عن يونس بن بقي بن بقي بن مخلد قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا وكيع قال حدثنا سفيان عن عبد الأعلى أن أبا عبد الرحمن السلمي قنت في الفجر يدعو على قطري (3)
وروي عن علي أنه كان يقنت أيام صفين وبعد انصرافه منها يدعو على قوم ويلعنهم كرهت ذكرهم
ومن فعل الصحابة وجله التابعين بالمدينة في لعن الكفرة في القنوت أخذ العلماء لعن الكفرة في الخطبة الثانية من الخطبة والدعاء عليهم
والأعرج أدرك جماعة من الصحابة وكبار التابعين وهذا هو العمل بالمدينة
والأصل في ذلك ما أخبرناه عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر حدثنا أبو داود حدثنا داود بن أمية حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن يحيى بن أبي كثير قال حدثني أبو سلمة عن أبي هريرة قال كان رسول الله
75

صلى الله عليه وسلم يقنت في الركعة الآخرة من صلاة الظهر وصلاة العشاء الآخرة وصلاة الصبح فيدعو للمؤمنين ويلعن الكفار (1)
وروى بن القاسم عن مالك أنه قال ليس عليه العمل
وهذا معناه عندي أنه ليس سنة مسنونة فيواظب عليها في القنوت ولكنه مباح فعله اقتداء بالسلف في ذلك لمن شاء
وقد كان مالك يرى القنوت في النصف الثاني من رمضان في الوتر والدعاء على من استحق الدعاء عليه ثم ترك ذلك فيما رواه المصريون عنه
وروى أهل المدينة عنه أنه كان يقول يقنت الإمام في النصف من رمضان ويؤمن من خلفه
وهو قول أحمد وإسحاق
وروي القنوت في النصف الآخر من رمضان (عن علي وأبي بن كعب وبن عمر وبن سيرين والثوري والزهري ويحيى بن وثاب
وقال بن المنذر ومالك والشافعي أحمد
قال أبو عمر أما رواية المصريين بن القاسم وأشهب وبن وهب عن مالك في ذلك فإنهم رووا عن مالك أنه سئل أيقنت الرجل في الوتر فقال لا
قال وكان الناس في زمن بني أمية يقنتون في الجمعة
وما ذلك بصواب
قال أشهب سئل مالك عن القنوت في الصبح فقال أما الصبح فنعم وأما الوتر فلا أرى فيه قنوتا ولا في رمضان
وقد اختلف فيه عن بن عمر فروى بن علية عن أيوب عن نافع عن بن عمر أنه كان لا يقنت إلا في النصف من رمضان
وروى بن نمير عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر أنه كان لا يقنت في الفجر ولا في الوتر
ورواية مالك عن نافع عن بن عمر نحو ذلك
76

وأما الشافعي فقال بالعراق فيما روى الزعفراني عنه يقنت في الوتر في النصف من رمضان ولا يقنت في الوتر في سائر السنة إلا في النصف الآخر من رمضان)
وقال بمصر يقنت في الصبح ومن قنت في كل صلاة إن احتاج إلى الدعاء على أحد لم أعبه
قال أبو عمر لا يصح عن النبي عليه السلام في القنوت في الوتر حديث مسند
وأما عن الصحابة فروي ذلك عن جماعة
فمن ذلك ما ذكره الطبري قال حدثنا حميد بن مسعدة قال حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا يونس عن الحسن قال أمر عمر أبي بن كعب يصلي بالناس فكان إذا مضى النصف الأول واستقبلوا النصف الآخر ليلة ست عشرة قنتوا فدعوا على الكفرة وقال بن جريج قلت لعطاء القنوت في شهر رمضان قال أول من قنت فيه عمر قلت في النصف الآخر قال نعم
(فبهذا احتج من أجاز القنوت في الوتر من قيام رمضان النصف الآخر منه لأنه عمن ذكرنا من جله الصحابة وهو عمل ظاهر بالمدينة في ذلك الزمان في رمضان لم يأت عن أحد منهم إنكاره
وقد رأى القنوت في النصف الأول من السلف وبه قال أبو ثور
وقد قيل يقنت في رمضان كله ويلعن الكفرة في القنوت
وهو قول الأوزاعي قال ويقنت أيضا في الفجر قبل الركوع)
وأما مقدار القراءة في كل ركعة من قيام رمضان ففي الموطأ ما قد رأيت من القراءة بالمئين عن أبي وأصحابه من قراءة البقرة في ثمان ركعات وفي اثنتي عشرة ركعة
وذكر بن أبي شيبة حدثنا حسين بن علي عن زائدة عن هشام عن الحسن قال من أم الناس في رمضان فليأخذ بهم اليسر فإن كان بطيء القراءة فليختم القرآن ختمة وإن كان بين ذلك فختمه ونصف وإن كان سريع القراءة فمرتين
وكان سعيد بن جبير يقرأ في كل ركعة بخمس وعشرين آية
وكان عمر بن عبد العزيز يأمر الذين يقرؤون في رمضان يقرؤون في كل ركعة بعشر آيات
وروى بن وهب عن مالك أنه قيل له إنهم يقرؤون في كل ركعة بخمس
77

آيات فقال غير ذلك أحب إلي فقيل له عشر آيات في كل ركعة فقال نعم من السور الطوال
قال ورأى أكثر من عشر آيات إذا بلغ الطواسين والصافات
وقال الزعفراني عن الشافعي إن أطالوا القيام وأقلوا السجود فحسن وهو أحب إلي وإن أكثروا الركوع والسجود فحسن وجملة القول في هذه المسألة أنه لا حد عند مالك وعند العلماء في مبلغ القراءة
وقد قال عليه السلام من أم الناس فليخفف (1)
وقال عمر لا تبغضوا الله إلى عباده يعني لا تطولوا عليهم في صلاتهم
وفيما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل حين وجهه إلى اليمن معلما وأميرا قال له وأطل القراءة على قدر ما يطيقون
وقال صلى الله عليه وسلم أفضل الصلاة طول القيام
وهذا لمن صلى لنفسه ولست أعلم خلافا بين العلماء في جواز صلاة العبد البالغ في قيام رمضان وفيما عدا الجمعة للناس
224 ولهذا أدخل مالك حديثه عن هشام بن عروة عن أبيه أن ذكوان أبا عمرو كان عبدا لعائشة أعتقته عن دبر منها (2) فكان يقوم يقرأ للناس في رمضان
78

وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا عبد الله بن نمير عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر أن المهاجرين حين أقبلوا من مكة نزلوا إلى جنب قباء فأمهم سالم مولى أبي حذيفة لأنه كان أكثرهم قرآنا فيهم أبو سلمة بن عبد الأسود وعمر بن الخطاب
وأجمع العلماء على أن الرجال لا يؤمهم النساء واختلفوا في إمامة النساء بعضهن لبعض وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى
كمل السفر الأول من كتاب الاستذكار والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما يتلوه بحول الله تعالى في أول الثاني باب صلاة الليل
79

((7 كتاب صلاة الليل))
((1 باب (ما جاء في) صلاة الليل))
225 مالك عن محمد بن المنكدر عن سعيد بن جبير عن رجل عنده رضا (1) عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما من امرئ تكون له صلاة بليل يغلبه
عليها نوم إلا كتب له أجر صلاته وكان نومه عليه صدقة
الرجل الرضي المذكور في هذا الإسناد هو الأسود بن يزيد وهو رضي عند الجميع
وقد ذكرنا من رواه عن محمد بن المنكدر عن سعيد بن جبير عن الأسود عن عائشة في التمهيد
وروى سفيان عن أبي إسحاق قال قالت عائشة أم المؤنين ما بالعراق أحد أعجب إلي من الأسود بن يزيد
ويقال حج الأسود ستين من بين حجة وعمرة
وفي هذا الحديث ما يدل على أن المرء مجازى على ما نوى من عمل الخير وإن لم يعمله كما لو عمله إذا لم يحبسه عنه شغل دنيا مباحا أو مكروها وكان المانع له عذرا من الله لا ينفك منه
وقد روي مثل حديث عائشة هذا من حديث أبي الدرداء وهو مذكور في التمهيد
80

وهذا تفضل من الله على عباده المؤمنين يجازيهم بما وفقهم له إذا عملوه وإن حال دون العمل حائل جازى صاحبه على النية فيه
وقد ذكرنا في التمهيد إسناد قوله صلى الله عليه وسلم نية المؤمن خير من عمله ونية الفاجر شر من عمله وكل يعمل على نيته
ومعنى هذا الحديث والله أعلم أن النية بغير عمل خير من العمل بلا نية
وتفسير ذلك أن العمل بلا نية لا يرفع ولا يصعد والنية الحسنة تنفع بلا عمل ولا ينفع العمل بغير نية
ويحتمل أن يكون المعنى نية المؤمن في الأعمال الصالحة أكثر مما يقوى عليه منها ونية الفاجر في أعمال الشر أكثر مما يعمله منها ولو أنه يعمل كلما ينوي عمله من الشر أهلك الحرث والنسل
وقد روى أبو هريرة وبن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة (1)
إلا أن في حديث بن عباس فإن عملها كتبت عشرا وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة وفي حديث أبي هريرة من هم بحسنة فعملها كتبت عشرا إلى سبع مائة ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب وإن عملها كتبت
فحديث أبي هريرة مخالف لحديث بن عباس فيمن هم بسيئة فلم يعملها
وقد يحتمل أن يكون معنى ما روى بن عباس نحو معنى قول الله تعالى " ولمن خاف مقام ربه جنتان الرحمن 46]
وروي عن بن عباس ومجاهد وإبراهيم النخعي قالوا هو الرجل يهم بالمعصية ثم يتركها خوف الله تعالى
وقد ذكرنا في التمهيد حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه في غزوة تبوك إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا ولا أنفقتم من نفقة إلا وهم
81

معكم قالوا كيف يكونون معنا يا رسول الله وهم بالمدينة قال نعم حبسهم العذر (1)
وحديث أبي موسى الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من كان له عمل فشغله عنه علة أو سفر فإنه يكتب له كصالح ما كان يعمل وهو صحيح مقيم (2)
وفي حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار في الموطأ قوله صلى الله عليه وسلم في المريض إنه يكتب له أجر ما كان يعمل في صحته ما دام في وثاق مرضه
هذا معنى الحديث لا لفظه وقد زدنا هذا المعنى بيانا في التمهيد
والذي جاء له حديث هذا الباب هو ما تضمنته رحمته في صلاة الليل يريد الترغيب فيها
قال أبو عمر صلاة الليل من أفضل نوافل الخير وهي عندي سنة مسنونة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعلها ويواظب عليها
وقد قال قوم إن صلاة الليل واجبة على النبي صلى الله عليه وسلم وسنة لأمته
وهذا لا أعرف وجهه لأن الله تعالى يقول " ومن اليل فتهجد به نافلة لك الإسراء 79]
وقال قوم أمره بقيام الليل وقوله تعالى " نافلة لك " أي فضيلة
ونسخ الأمر بقيام الليل عن سائر أمته مجتمع عليه بقول الله عز وجل " علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن المزمل 20]
وهذا ندب لأن الفرائض محدودات
وقد شذ بعض التابعين فأوجب قيام الليل ولو قدر حلب شاة
والذي عليه جماعة العلماء أنه مندوب إليه مرغوب فيه
قال عبد الله بن مسعود فضل صلاة الليل على صلاة النهار كفضل صدقة السر على صدقة العلانية
وروى وكيع عن سفيان عن علي بن الأقمر عن الأغر أبي مسلم عن أبي
82

هريرة وأبي سعيد قالا إذا أيقظ الرجل أهله فضليا من الليل كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات (1)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم رحم الله رجلا قام من الليل فصلى ثم أيقظ أهله فصلوا رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت ثم أيقظت زوجها فصلى (2)
وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أبو قلابة عبد الملك بن محمد قال حدثنا عبيد الله بن عبد المجيد قال حدثنا زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن عكرمة عن بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال استعينوا على قيام الليل بقيلولة النهار واستعينوا على الصيام بأكلة السحر (3)
وفي هذا الباب حديث منكر انفرد به ثابت بن موسى أبو يزيد الكوفي وهو منكر الحديث رماه بن معين بالكذب
حدثناه خلف بن قاسم قال حدثنا أبو بكر محمد بن العباس بن وصيف الأبزاري بغزة قال حدثنا محمد بن الحسن بن قتيبة قال وحدثنا عمران بن موسى الطائي عن ثابت بن موسى الطائي قال حدثنا شريك عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار (4)
226 وأما حديث مالك في هذا الباب عن أبي النضر عن أبي سلمة عن عائشة أنها قالت كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته فإذا سجد غمزني (5) فقبضت رجلي وإذا قام بسطتهما قالت والبيوت يؤمئذ ليس فيها مصابيح
83

قد ذكرنا من تابعه على مثل هذه الرواية ومعناها في التمهيد
وفيه من الفقه وجوه منها أن المرأة لا تبطل صلاة من صلى إليها سواء جعلها سترة من صلاته أو كانت بينه وبين قبلته فإن ذلك كله مذكور في حديثها هذا عند ناقليه
وهذا موضع اختلف فيه العلماء لاختلاف الآثار المرفوعة في ذلك
فقالت طائفة يقطع الصلاة على المصلي إذا مر بين يديه الحمار والكلب والمرأة
وممن قال بها أنس بن مالك وأبو الأحوص والحسن البصري وحجتهم حديث أبي ذر وحديث بن عباس بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكرتهما بالأسانيد الحسان في كتاب التمهيد والحمد لله
وروى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لا يقطع الصلاة إلا الكلب الأسود
وبه قال أحمد بن حنبل وقال في نفسي من المرأة والحمار شيء
وكان بن عباس وعطاء بن أبي رباح يقولان يقطع الصلاة الكلب الأسود والمرأة الحائض
رواة قتادة عن جابر بن زيد سمعة يحدثه عن بن عباس ورواه شعبة عن قتادة عن جابر عن بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم
وقال جمهور العلماء لا يقطع الصلاة شيء
وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم والثوري وأبي ثور وداود والطبري وجماعة من التابعين
وحجتهم حديث بن شهاب عن عروة عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل صلاته وأنا معترضة بينه وبين القبلة كاعتراض الجنازة (1)
ورواه عطاء بن أبي رباح عن عروة عن عائشة مثله
84

وقد ذكرنا إسناده من طرق في التمهيد
فسقط بهذا الحديث أن تقطع المرأة بمرورها صلاة من تمر بين يديه
ومعلوم أن اعتراضها بين يديى المصلي أشد من مرورها
وسيأتي القول في مرور الحمار بين يدي المصلي في باب الرخصة في المرور بين يدي المصلي من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى وهناك يقع الاستيعاب من القول في السترة والمرور بين يدي المصلي بعون الله تعالى
وأما قوله في حديث هذا الباب ورجلاي في قبلته فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي وهو حديث القاسم بن محمد عن عائشة غمز رجلي فقبضتهما أو فضممتهما إلي ففيه دليل على أن الملامسة باليد لا تنقض الطهارة (ما لم يكن معها اللذة) لأن الأصل في (لمس) الرجل أن يكون بلا حائل وكذلك اليد حتى يثبت الحائل وهنا اعتراض طويل قد ذكرته في التمهيد
وقد مضى في باب الوضوء من القبلة معنى الملامسة ومراعاة اللذة فيها من جعلها من شرائطها ومن أبي من ذلك ومن لم ير الملامسة إلا الجماع ولا معنى لإعادة ذلك هنا
وفي هذا الحديث ما كانوا عليه من ضيق العيش والإقلال ألا ترى أنهم كانت بيوتهم يومئذ دون مصابيح
وفي قول عائشة رحمها الله والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح دليل على أنها إذ حدثت بهذا الحديث كانت بيوتهم فيها المصابيح وذلك أن الله عز وجل فتح عليهم من الدنيا بعد النبي صلى الله عليه وسلم فوسعوا على أنفسهم إذ وسع الله عليهم
وقولها يومئذ تريد حينئذ لأنا لو جعلنا اليوم هنا النهار على المعهود
ومعلوم أن النهار ليس بوقت للمصابيح استحال ذلك فعلمنا أنها أرادت بقولها يؤمئذ أي حينئذ
وهذا مشهور في لسان العرب كانت تعبر باليوم عن الحين والوقت وهذا أشهر من أن يحتاج فيه إلى الاستشهاد
227 وأما حديثه عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن رسول الله
85

صلى الله عليه وسلم قال إذا نعس أحدكم في صلاته فليرقد حتى يذهب عنه النوم فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه (1)
ففيه دليل على أن الصلاة لا ينبغي أن يقربها من لا يعقلها ولا يقيمها على حدودها وأن كل ما شغل القلب عنها وعن الخشوع فيها فواجب تركه واستعمال الفراغ لها بقلب مقبل عليها
وقد قال الضحاك بن مزاحم في قول الله تعالى " لا تقربوا الصلاة وأنتم سكرى " [النساء 43] قال من النوم
وما أعلم أحدا تابعه على ذلك والله أعلم
وقد ذكرنا في التمهيد أقوال العلماء في تأويل هذه الآية
وقد يستدل من هذا الحديث بأن النعاس وهو النوم اليسير لا ينقض الصلاة وإذا لم ينقض الصلاة لم ينقض الوضوء
والدليل على أن النعاس ليس بالنوم الثقيل قول الشاعر
(وسنان أقصده النعاس فرنقت
* في عينه سنة وليس بنائم (2)) وليس في هذا الحديث معنى يحتاج فيه إلى القول غير ما وصفنا إلا أن يستدل مستدل بأنه لا يجوز للمرء أن يسب نفسه وذلك بأن يستسب لها وهذا فيه من النصوص ما يغني عن الاستدلال
228 وفي هذا الباب حديث مالك عن إسماعيل بن أبي حكيم أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع امرأة من الليل تصلي (3) فقال من هذه فقيل الحولاء بنت تويت لا تنام الليل فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرفت الكراهية
86

في وجهه ثم قال إن الله لا يمل حتى تملوا اكلفوا (1) من العمل (2) ما لكم (3) به طاقة (4)
وقد ذكرنا في التمهيد من أسنده ووصله وهو حديث صحيح مسند
والحولاء امرأة قرشية من بني أسد بن عبد العزى بن قصي والتويتات في بني أسد
وقد أوضحنا ذلك عند ذكرها في كتاب الصحابة
وأما قوله إن الله لا يمل حتى تملوا فمعناه عند أهل العلم إن الله لا يمل من الثواب والعطاء على العمل حتى تملوا أنتم العمل وتقطعونه فينقطع عنكم ثوابه ولا يسأم من أفضاله عليكم إلا بسآمتكم عن العمل
وأنتم متى تكلفتم من العمل والعبادة ما لا تطيقون وأسرفتم لحقكم الملل وضعفتم عن العمل فانقطع عنكم الثواب بانقطاع العمل
يحضهم صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى على القليل الدائم ويخبرهم أن النفوس لا تحتمل الإسراف عليها وأن ذلك سبب إلى قطع العمل
ومن هذا حديث بن مسعود قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا (5)
ومنها أيضا قوله صلى الله عليه وسلم لا تشادوا الدين فإنه من غالب الدين يغلبه الدين (6)
ومنه الحديث إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق فإن المنبت لا يقطع أرضا ولا يبقى ظهرا
87

وقال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص وكان يصوم النهار ويقوم الليل لا تفعل فإنك إذا فعلت نفهت نفسك (1)
أي أعيت وكلت يقال للمعيي منفه ونافه وجمع نافه نفه
كذلك فسره أبو عبيد عن أبي عبيدة وأبي عمرو قال الأصمعي الإيفال السير الشديد وأما الوغول فهو الدخول
وقد جعل مطرف بن عبد الله بن الشخير رحمه الله الغلو في أعمال البر سيئة والتقصير سيئة فقال الحسنة بين السيئتين
وأما لفظه في قوله إن الله لا يمل حتى تملوا فهو لفظ خرج على مثال لفظ ومعلوم أن الله عز وجل لا يمل سواء مل الناس أو لم يملوا ولا يدخله ملال في شيء من الأشياء جل عن ذلك وتعالى علوا كبيرا
وإنما جاء لفظ هذا الحديث على المعروف من لغة العرب فإنهم إذا وضعوا لفظا بإزاء لفظ جوابا له أو جزءا ذكروه بمثل لفظه وإن كان مخالفا له معناه
ألا ترى إلى قوله عز وجل " وجزؤا سيئة سيئة مثلها " [الشورى 40]
وقوله تعالى * (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) * [البقرة 194]
والجزاء لا يكون سيئة والقصاص لا يكون اعتداء لأنه حق وجب
ومثل ذلك قول الله عز وجل " ومكروا ومكر الله والله خير المكرين " [آل عمران 54]
وقوله تعالى " إنما نحن مستهزءون الله يستهزئ بهم " [القرة 14]
وقوله تعالى * (إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا) * [الطارق 15 16]
وليس من الله مكر ولا هزو ولا كيد إنما هو جزاء مكرهم واستهزائهم وكيدهم فذكر الجزاء بمثل لفظ الابتداء لما وضع بحذائه وقبالته
فكذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله لا يمل حتى تملوا أي من مل فقطع عمله انقطع عنه الجزاء
88

روى الأوزاعي وغيره عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خذوا من العمل قدر ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا (1)
قالت وكان أحب العمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما داوم عليه صاحبه وإن قل
وبعضهم يرويه وكان أحب الصلاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما داوم عليها صاحبها وإن قلت
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة داوم عليها
ثم قرأ أبو سلمة * (الذين هم على صلاتهم دائمون) * [المعارج 23]
وقد تقدم بعض القول في صلاة الليل وأن قول القائل بأنه فرض ولو كقدر حلب شاة قول متروك وشذوذ والعلماء على خلافه كلهم يقولون إنه فضيلة لا فريضة ولو كان قيام الليل فرضا لكان مقدرا موقتا معلوما كسائر الفرائض
وقد روى قتادة عن زرارة بن أوفى عن سعد بن هشام عن عائشة أنه قال لها حدثيني عن قيام الليل فقالت ألست تقرأ سورة المزمل قلت بلى قالت فإن أول هذه السورة نزلت فقام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتفخت أقدامهم وحبست خاتمتها في السماء اثني عشر شهرا ثم أنزل آخرها فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة (2)
ومن حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل (3)
وقد ذكرنا إسناد هذا الحديث وما كان مثله من معاني هذا الباب في التمهيد أما حديثه عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب كان
89

يصلي من الليل ما شاء الله حتى إذا كان من آخر الليل أيقظ أهله للصلاة يقول لهم الصلاة الصلاة ثم يتلو * (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها) * [طه 132]
ففيه ما كان عليه عمر من قيام الليل وأنه لم تشغله أمور المسلمين وما كان إليه منهم عن الصلاة بالليل وذلك لفضل صلاة الليل
وفيه أنه لم يكن يكلف أهله من الصلاة ما كان هو يفعله منها بالليل
ويحتمل أن يكون إيقاضه أهله ليدركوا شيئا من صلاة الأسحار والاستغفار فيها
ويحتمل أن يكون إيقاظه لهم للصلاة المفروضة صلاة الصبح وأيها كان فإنه امتثل في ذلك الآية التي ذكر مالك وامتثل والله أعلم قول الله عز وجل " يا أيها الذين ءامنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا التحريم 6]
قال أهل العلم بتأويل القرآن ومعانيه أدبوهم وعلموهم
230 وأما قول سعيد بن المسيب كان يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها
فهذا المعنى مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي برزة الأسلمي وغيره
وقد ذكرناه من طرق في التمهيد أحسنها حديث يحيى القطان قال حدثنا عوف قال حدثني أبو المنهال سيار بن سلامة عن أبي برزة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن الثوم قبلها والحديث بعدها يعني العشاء الآخرة (1 "
وقد روي من حديث علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال مررت ليلة أسري بي فإذا بقوم تضرب رؤوسهم بالصخر فقلت يا جبريل من هؤلاء قال يا محمد بن أمتك قلت وما بالهم قال كانوا ينامون عن العشاء الآخرة
90

وهذا معناه عندي والله أعلم أنهم كانوا ينامون عنها ولا يصلونها في شيء من وقتها
وعلى هذا حمل الطحاوي قوله صلى الله عليه وسلم فيمن نام ليله كله حتى أصبح ذلك رجل بال الشيطان في أذنه (1) قال هذا والله أعلم أنه نام عن صلاة العشاء الآخرة حتى انقضى الليل كله ويدلك على ذلك أن من السلف قوما كانوا ينامون قبل العشاء ويصلون في وقتها
روى شعبة قال سألت الحكم عن النوم قبل صلاة العشاء في رمضان فقال قد كانوا ينامون قبل صلاة العشاء
وإسناده عن شعبة في التمهيد
روى سفيان عن منصور عن إبراهيم عن الأسود أنه كان يقرأ القرآن في شهر رمضان في ليلتين وينام ما بين المغرب والعشاء
وعن بن عمر أنه كان يرقد قبل الصلاة العشاء الآخرة ويوكل من يوقظه
ذكره أبو بكر بن أبي شيبة عن بن علية عن أيوب عن بن عمر
قال وحدثنا جرير عن مغيرة عن إبراهيم أو مجاهد قال كان بن عمر يكاد يسب الذي ينام عن العشاء
والإسناد الأول عنه أجود ومعناه عندي على ما وصفت والله أعلم
وروي عن بريد لعلي رضي الله عنه أنه ربما أغفي قبل العشاء
وروي أنه ما كانت نومة أحب إليه من نومة بعد العشاء قبل العشاء
وذكرت إباحة النوم قبل العشاء عن الأسود بن يزيد وعروة بن الزبير وعلي الأزدي وسعيد بن جبير وبن سيرين
ذكره بن أبي شيبة عنهم
وهذا كله عنهم على أنهم كانوا يصلون العشاء في وقتها أو مع الجماعة
وأما الذين كرهوا النوم قبلها فعمر بن الخطاب رضي الله عنه ودعا على من نام قبل العشاء قال فمن نام فلا نامت عينه
91

وأبو هريرة جاءه رجل فقال إن منا المخارج والمضارب فهل علينا حرج أن ننام قبل العشاء قال نعم وحرج وحرجان وثلاثة أحراج
وعن بن عمر أيضا لسائل سأله عن ذلك فقال إن نمت عنها قبل أن تصليها فلا نامت عينك
وعن بن عباس قال ما أحب النوم قبلها ولا الحديث بعدها
وعن إبراهيم وعطاء وطاوس ومجاهد وسعيد بن المسيب أنهم كانوا يكرهون النوم قبلها والحديث بعدها
وقال مجاهد لأن أصلي العشاء قبل مغيب الشفق أحب إلي من أن أنام ثم أصليها بعد مغيب الشفق في جماعة
وهذا عندي إسراف وصلاتها في الحضر قبل مغيب الشفق غير جائز إلا لعذر صحيح
واتفق مالك والشافعي على كراهة النوم قبل العشاء الآخرة والحديث بعدها
واحتج مالك بما ذكره في موطئه عن سيعد بن المسيب
وذكر عن عائشة في الحديث بعدها في كتاب الجامع أنها كانت ترسل بعض أهلها بعد العتمة تقول لهم ألا تريحون الكتاب
وأما أبو حنيفة وأصحابه فيكرهون النوم قبلها ويرخصون في الحديث بعدها فيما لا مأثم فيه
وقال الليث بن سعد إنما معنى قول عمر فلا نامت عينه من نام قبل ثلث الليل
وقد ذكرنا في التمهيد حديث بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا سمر بعد العشاء إلا لمصل أو مسافر
231 وذكر مالك في آخر هذا الباب أنه بلغه أن عبد الله بن عمر كان يقول صلاة الليل والنهار مثنى مثنى يسلم من كل ركعتين
وهذا تفسير لحديثه المجمل الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الليل مثنى مثنى
92

ويدل على ما قاله الشافعي إنه حديث خرج على جواب السائل كأنه قال يا رسول الله كيف صلاة الليل فقال مثنى مثنى ولو سأله عن صلاة النهار لقال أيضا مثل ذلك بدليل هذا الحديث عن بن عمر أنه قال صلاة الليل والنهار مثنى مثنى
وقد روي علي بن عبد الله الأزدي البارقي عن بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال صلاة الليل والنهار مثنى مثنى ركعتين
وسيأتي القول في ذلك في باب الوتر إن شاء الله تعالى
وقوله مثنى مثنى يقتضي التسليم من كل ركعتين كما جاء مفسرا في هذا الخبر عن بن عمر لأنه لا يقال للظهر مثنى مثنى ولا للعصر مثنى مثنى وإن كان فيهما جلوس في كل ركعتين
وهذا كله يدل على ضعف مذهب الكوفيين في إجازتهم عشر ركعات وثمانيا ومثنى وأربعا
وقد روى يحيى بن سعيد الأنصاري عن نافع عن بن عمر أنه كان يتطوع بالنهار أربعا لا يفصل بينهن
وهذا لو صح احتمل أن يكون لا يفصل بينهن بتقدم عن موضعه ولا تأخر وجلوس طويل أو كلام والله أعلم
وهذا المعنى يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث المغيرة بن شعبة ومن حديث أبي هريرة
حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن الحجاج عبيد عن إبراهيم بن إسماعيل عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أيعجز أن يتقدم أو يتأخر أو عن يمينه أو عن شماله (1) يعني في السبحة بعد الفريضة
قال إسماعيل هكذا حدثني به سليمان بن حرب وحدثناه عارم بن الفضل قال حدثنا حماد بن زيد عن ليث عن الحجاج بن عبيد عن إبراهيم بن إسماعيل عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
93

قال أبو عمر إبراهيم بن إسماعيل هذا مجهول وكذلك الحجاج بن عبيد وإنما روى حديثه ليث لا أيوب وهو حديث لا يحتج بمثله
ولكن قد روى بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء عن بن عباس قال إذا صلى أحدكم المكتوبة ثم أراد أن يصلي بعدها فليتقدم ولا يتكلم
قال أبو عمر هذا حديث صحيح
وسفيان عن حصين عن الشعبي قال إذا صليت المكتوبة ثم أردت أن تتكلم فاخط خطوة أو تكلم
قال أبو عمر قد خالف بن عمر بن عباس في هذا القول فقال وأي فضل أفضل من السلام
وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى
وكان مالك رحمه الله لا يرى بأسا أن يتطوع من سوى الإمام في موضعه ولا يتقدم ولا يتأخر ولا يتكلم وكان ينكر قول من كره ذلك على معنى ما روي عن بن عمر وغيره في ذلك
وإنما قلنا إن قوله مثنى مثنى يقتضي السلام من كل ركعتين في النوافل مع ما تقدم ذكره لأن بن عمر روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي قبل الظهر ركعتين وبعدها ركعتين وقبل العصر ركعتين وبعد المغرب ركعتين وبعد الجمعة ركعتين في بيته وهو كان أشد الناس امتثالا لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم
حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا وكيع وغندر عن شعبة عن يعلى بن عطاء عن علي الأزدي عن بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الليل والنهار ركعتان ركعتان وقال غندر مثنى مثنى
وذكر بن وهب قال حدثنا عمرو بن الحارث عن بكير بن عبد الله الأشج أن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان حدثه أنه سمع بن عمر يقول صلاة الليل والنهار مثنى مثنى يعني التطوع
فكيف يقبل مع هذا عن بن عمر أنه كان يتطوع بالنهار أربعا لا يفصل بينهن ومع ما رواه علي الأزدي عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
94

((2 باب صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الوتر))
232 ذكر فيه مالك عن بن شهاب عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة (1) فإذا فرغ اضطجع على شقه الأيمن
في هذا الحديث الوتر بواحدة وهو رد لقول من قال لا يوتر بثلاث لا يفصل بينهن بسلام
وسيأتي القول في هذه المسألة في موضعها من الباب بعد هذا إن شاء الله تعالى
وهكذا هذا الحديث عند رواة الموطأ
وخالف أصحاب بن شهاب مالكا في معنى منه وذلك أنهم جعلوا الاضطجاع فيه بعد ركعتي الفجر لا بعد الوتر
ومن أصحاب بن شهاب من قال فيه كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة يسلم منها في كل ويوتر بواحدة هكذا رواه بن أبي ذئب ويونس بن يزيد والأوزاعي عن بن شهاب
ورواه معمر وعقيل وشعيب كما رواه مالك لم يقولوا يسلم من كل ركعتين ولا ذكروا يوتر بواحدة ولم يختلفوا في إسناده عن بن شهاب عن عروة عن عائشة
وقد ذكرنا ذلك بالأسانيد عنهم في التمهيد
وقد أنكر أهل الحديث على مالك قوله في هذا الحديث أوتر منها بواحدة فإذا فرغ اضطجع على شقه الأيمن
95

وقالوا لم يذكر غيره في الحديث عن بن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يضطجع على شقه الأيمن إلا بعد ركعتي الفجر
كذلك رواه عمرو بن الحارث ويونس وبن أبي ذئب عن بن شهاب عن عروة عن عائشة الحديث وفي آخره فإذا تبين له الفجر وجاءه المؤذن قام فركع ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة (1)
قال أبو عمر قد قال يحيى بن معين إن أصحاب بن شهاب إذا اختلفوا فالقول ما قاله مالك فهو أثبتهم في بن شهاب وأحفظهم لحديثه وممكن أن يكون اضطجاعهم مرة كذا ومرة كذا
وغير نكير أن يكون ما قاله مالك لأنه موجود من روايته عن مخرمة بن سليمان عن كريب عن بن عباس قال بت عند خالتي ميمونة قال فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين الحديث قال ثم أوتر ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن فصلى ركعتين
ففي هذا الحديث أن اضطجاعه كان بعد الوتر وبعد ركعتي الفجر
ولكنه لم يتابع على ذلك في حديث بن شهاب هذا وإنما يقولون فيه عن بن شهاب عن عروة عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى أن ينصدع الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم من كل اثنتين ويوتر بواحدة ويمكث في سجوده قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه فإذا سكت المؤذن الأول من صلاة الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن (2)
وقد ذكرنا من ساقه هكذا ومن خالف فيه في هذا الباب
وفي هذا الحديث من الفقه ما يدل على أن قيام الليل سنة مسنونة اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم
وقد مضى القول في ذلك في الباب قبل هذا
وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الليل مثنى مثنى ما يقضي لرواية من روى في هذا الحديث أنه كان يسلم في كل ركعتين
وقد زعم قوم أن اضطجاعه صلى الله عليه وسلم بعد ركعتي الفجر سنة
96

واحتجوا بحديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا صلى أحدكم الركعتين قبل الصبح فليضطجع على يمينه (1)
وإسناده مذكور في التمهيد
وأبي جماعة من أهل العلم ذلك وقالوا ليس الاضطجاع سنة وإنما كان ذلك منه صلى الله عليه وسلم راحة لطول قيامه
واحتجوا بحديث أبي سلمة عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى ركعتي الفجر فإن كنت نائمة اضطجع وإن كنت مستيقظة حدثني (2)
وفي لفظ بعض الناقلين لهذا الحديث إن كنت مستيقظة حدثني وإلا فاضطجع
وروى بن القاسم عن مالك قال لا بأس بالضجعة بين ركعتي الفجر وصلاة الصبح إن لم يرد بذلك الفصل بينهما
وقال الأثرم سئل أحمد بن حنبل وأنا أسمع عن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر فقال ما أفعله أنا فإن فعله رجل ثم سكت كأنه لم يعبه إن فعله قيل له لم لم تأخذ به ليس فيه حديث يثبت
قلت له حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال رواه بعضهم مرسلا
وعن بن عمر وإبراهيم النخعي وأبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود وجابر بن زيد أنهم أنكروا الضجعة بعد ركعتي الفجر وقال بن عمر إنها بدعة
وفي هذا الحديث من رواية جماعة من أصحاب بن شهاب اتخاذ مؤذن ثابت للأذان وفيه إشعار المؤذن للإمام لدخول الوقت وفي ذلك ما يدل على أن على المؤذنين ارتقاب الأوقات
واحتج بعض من لا يجيز الأذان بصلاة الصبح قبل الفجر بحديث بن شهاب هذا من رواية عقيل وغيره قوله فيه فإذا سكت المؤذن الأول لصلاة الفجر قام فصلى ركعتين خفيفتين
97

قالوا فهذا يدل على أن الأذان لصلاة الفجر إنما كان بعد الفجر في حين يجوز عمل ركعتي الفجر لقوله إذا سكت المؤذن الأول
وهذا التأويل قد عارضه قوله صلى الله عليه وسلم إن بلالا ينادي بليل وقد مضى القول فيه والحمد لله
233 وأما حديثه عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي سلمة عن عائشة أنها قالت ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة يصلي أربعا فلا تسل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعا فلا تسل عن حسنهن وطولهن (1) ثم يصلي ثلاثا قالت عائشة فقلت يا رسول الله أتنام قبل أن توتر فقال يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي (2)
وفي هذا الحديث البيان بأن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان وغيره كانت سواء
وقد مضى القول في قيام رمضان
وأكثر الآثار على أن صلاته كانت إحدى عشرة ركعة وقد روي ثلاث عشرة ركعة
واحتج العلماء على أن صلاة الليل ليس فيها حد محدود والصلاة خير موضوع فمن شاء استقل ومن شاء استكثر
وروى يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي
98

من الليل ثلاث عشرة ركعة كان يصلي ثمان ركعات وأربع ركعات ويوتر بركعة واحدة (1)
وروى الدراوردي عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة تسعا قائما واثنتين جالسا واثنتين بين النداءين (2)
وحديث مالك أثبت من هذين الحديثين
وأما قوله يصلي أربعا ثم يصلي ثلاثا
فذهب قوم إلى أن الأربع لم يكن بينها سلام وكذلك الأربع بعدها
وقال آخرون لم يجلس إلا في آخر الأربع ثم في الأربع ثم أوتر بثلاث
وذهب فقهاء الحجاز وبعض أهل العراق إلى أنه كان يسلم في كل ركعتين منها على ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم صلاة الليل مثنى مثنى
فمن ذهب إلى هذا تأول في قوله يصلي أربعا ثم أربعا أي حسنهن وطولهن ورتل القرآن فيهن وكذلك أيضا فعل في الأربع بعدهن حسنهن وطولهن ثم الثلاث بعدهن لم يبلغ فيهن من الطول ذلك المبلغ لكنه سلم في كل ركعتين من صلاته تلك كلها
فهذا معنى أربعا ثم أربعا ثم ثلاثا عند هؤلاء
وحجتهم صلاة الليل مثنى مثنى ولا يقال للظهر ولا للعصر مثنى وإن كان فيها جلوس
واختصار اختلافهم في صلاة التطوع بالليل أن مالكا والشافعي وبن أبي ليلى وأبا يوسف ومحمدا قالوا في صلاة الليل مثنى مثنى والحجة لهم ما قدمنا من تسليم رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته بالليل من كل ركعتين وقوله صلاة الليل مثنى مثنى
وذلك يقتضي الجلوس والتسليم في كل ركعتين
وقال أبو حنيفة في صلاة الليل إن شئت ركعتين وإن شئت أربعا وإن شئت ستا وثمانيا لا تسليم إلا في آخرهن
99

وقال الثوري والحسن بن حيي صل بالليل ما شئت بعد أن تقعد في كل ركعتين وتسلم في آخرهن
وحجة هؤلاء ظواهر الأحاديث عن عائشة (منها) حديثها هذا أربعا ثم أربعا ثم ثلاثا
(ومنها) ما رواه الأسود عن عائشة أنها قالت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل تسع ركعات فلما أسن صلى سبع ركعات (1)
وقال مسروق عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بتسع فلما أسن أوتر بسبع
ويحيى بن الجزار عن عائشة مثله على اختلاف عن يحيى في ذلك
وروى بن نمير ووهيب وطائفة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر منها بخمس لا يجلس في شيء من الخمس حتى يجلس في الآخرة منهن
قال أبو عمر أما حديث هشام بن عروة هذا فقد أنكره مالك وقال مذ صار هشام بالعراق أتانا عنه ما لم نعرف منه
وأما سائر الأحاديث فمحتمله للتأويل ويقضي عليها قوله صلى الله عليه وسلم صلاة الليل مثنى مثنى مع حديث بن شهاب عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة ويسلم من كل اثنتين
وقد ذكرنا من روى عن بن شهاب هذا الحديث كما وصفنا من ثقات أصحابه
قال أبو عمر في معنى قوله أيضا في حديث هذا الباب أربعا ثم أربعا ثم ثلاثا وجه رابع وهو أنه كان ينام بعد الأربع ثم ينام بعد الأربع ثم يقوم فيوتر بثلاث
واحتج من قال بذلك بحديث بن أبي مليكة عن يعلى بن مملك عن أم سلمة أنها وصفت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل وقراءته فقالت كان يصلي ثم ينام قدر ما صلى ثم يصلي قدر ما نام ثم ينام قدر ما صلى ونعتت قراءاته حرفا حرفا
100

وزاد بعضهم فيه ثم يقوم فيصلي ويوتر
رواه الليث بن سعد وغيره عن بن أبي مليكة
وأما قولها أتنام قبل أن توتر يا رسول الله فقيل إن عائشة لم تعرف النوم قبل الوتر لأن أباها أبا بكر رضي الله عنه كان لا ينام حتى يوتر وكان يوتر أول الليل
وهذا عنه محفوظ معلوم قد ذكرنا الخبر به في موضعه
فلذلك والله أعلم قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتنام قبل أن توتر لأنها رأت أباها لا يفعل ذلك وكانت صبية فيها يقظة
أما قوله صلى الله عليه وسلم جوابا لها إن عيني تنامان ولا ينام قلبي فتلك من علياء مراتب الأنبياء صلوات الله عليهم
وذلك روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال إنا معشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا
ولهذا والله أعلم قال بن عباس رؤيا الأنبياء وحي لأن الأنبياء يفارقون سائر البشر في نوم القلب ويساووهم في نوم العين ولو تسلط النوم على قلوبهم كما يصنع بغيرهم لم تكن رؤياهم إلا كرؤيا من سواهم وقد خصهم الله من فضله بما شاء أن يخصهم به
ومن هذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام حتى ينفخ ثم يصلي ولا يتوضأ لأن الوضوء من النوم إنما يجب لغلبة النوم على القلب لا على العين
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يساوي أمته في الوضوء من الحدث ولا يساويهم في الوضوء من النوم كما لم يساويهم في وصال الصوم وغيره مما جرت عادتهم به
فإن قيل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ من النوم قيل كان يتوضأ لكل صلاة وما جاء عنه قط أنه قال وضوئي هذا من النوم وليس ببعيد أن يتوضأ إذا خامر النوم قلبه وذلك نادر كنومه في سفره عن صلاة الصبح ليسن لأمته أن الصلاة لا يسقطها خروج الوقت وإن كان مغلوبا بنوم أو نسيان وهذا واضح والله المستعان
روى حماد بن سلمة عن أيوب عن عكرمة عن بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نام حتى سمع غطيطه ثم صلى ولم يتوضأ (1)
قال عكرمة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم محفوظا
101

وإن ذلك كان منه نادرا ليس لأمته كما سن فيمن نام أو نسي وكما قال صلى الله عليه وسلم إني لأنسى لأسن (1)
وذكر عبد الرزاق وأبو سفيان عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل لي لتنم عينك وليعقل قلبك ولتسمع أذنك فنامت عيني وعقل قلبي وسمعت أذني وذكر الحديث
وقد زدنا هذا المعنى بيانا في التمهيد وتقدم عنه في باب النوم عن الصلاة ليلة الوادي ما فيه كفاية والحمد لله
234 وأما حديثه عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة إذا سمع النداء بالصبح ركعتين ثم يصلى خفيفتين
فهذا أكثر ما روي في عدد ركعات صلاته بالليل صلى الله عليه وسلم وهو يعارض حديث أبي سلمة عن عائشة قالت ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره عن إحدى عشرة ركعة
وهذه شهادات عدول على عائشة فمن زاد في ذلك زيادة قبلت لأنها شهادة مستأنفة
وأهل العلم يقولون إن الاضطراب عنها في أحاديثها في الحج وأحاديثها في الرضاع وأحاديثها في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل وأحاديثها في قصر صلاة المسافر لم يأت ذلك إلا منها رضي الله عنها لأن الذين يروون ذلك عنها حفاظ أثبات القاسم بن محمد وعروة بن الزبير والأسود بن يزيد ومسروق ونظراؤهم
وقد أجمع العلماء على أن لا حد ولا شيء مقدرا في صلاة الليل وأنها نافلة فمن شاء أطال فيها القيام وقلت ركعاته ومن شاء أكثر الركوع والسجود
102

وقد ذكرنا اختلافهم في الأفضل من ذلك ويأتي القول في ركعتي الفجر بعد إن شاء الله تعالى
235 وأما حديثه عن مخرمة بن سليمان عن كريب عن بن عباس فلم يختلف عن مالك في إسناده ومتنه
وقد ذكرنا في التمهيد كثيرا من طرقه واختلاف الناقلين له
وفيه جواز مبيت الغلمان عند ذوات أرحامهم
وكان بن عباس نام تلك الليلة عند خالته ميمونة بنت الحارث الهلالية زوج النبي صلى الله عليه وسلم
وأما الدخول عليهن في العورات الثلاث إحداها وهي أوكدها بعد صلاة العشاء
وقد أوضحنا هذا في موضعه من هذا الكتاب وهو أمر لا خلاف فيه
وفيه التحري في الألفاظ والمعاني لقوله أو قبله بقليل أو بعده بقليل هذا فرار من الكذب وورع صادق وامتثال هذا من أفعال أهل الصدق
والوسادة ها هنا الفراش وشبهه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام في طولها ونام هو في عرضها مضطجعا عند رجليه والله أعلم أو عند رأسه
وفيه قراءة القرآن على غير وضوء لأنه نام النوم الكثير الذي لا يختلف في
103

مثله ثم استيقظ فمسح النوم عن وجهه وقرأ العشر الآيات خواتيم آل عمران ثم قام إلى الشن المعلق فتوضأ
والشن القربة الخلق والإداوة الخلق يقال لكل واحدة منهما شنة وشن وجمعها شنان ومنه الحديث قرسوا الماء في الشنان
ومن هذا المعنى والله أعلم أخذ عمر قوله للذي قال له أتقرأ يا أمير المؤمنين وأنت على غير وضوء فقال له من أفتاك بهذا أمسيلمة
وسيأتي هذا الحديث في موضعه من هذا الكتاب
وما أعلم خلافا في جواز قراءة القرآن على غير وضوء ما لم يكن حدثه جنابة
وروى علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يحجزه عن قراءة القرآن شيء إلا الجنابة (1)
رواه الأعمش وشعبة وبن أبي ليلى ومسعر والثوري عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن علي
وروى مثله ومعناه عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن مالك الغافقي وحكيم بن حزام (2)
على هذا جمهور العلماء من السلف والخلف
وقد شذت فرق فأجازت قراءته جنبا وهي مخجوجة بالسنة وأقاويل علماء الأمة
وأما الاختلاف في مس المصحف على غير طهارة فسيأتي في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى
وفيه رد على من لم يجز للمصلي أن يؤم أحدا إلا أن ينوي الإمامة مع الإحرام لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينو إمامة بن عباس وقد قام إلى جنبه مؤتما به فأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلك به سنة الإمامة إذ نقله عن شماله إلى يمينه
وفي هذه المسألة أقوال
أحدها هذاوقد ذكرنا فساده
104

وقال آخرون جائز لكل من افتتح الصلاة وحده أن يكون إماما لمن ائتم به في تلك الصلاة وإن لم ينو ذلك عند افتتاحها لأن الإمامة والجماعة في الصلاة فعل خير لم يمنع الله منه ولا رسوله ولا اتفق الجميع عليه
وقال آخرون أما المؤذن والإمام إذا أذن فقد دعا الناس إلى الصلاة ثم انتظر فلم يأته أحد فتقدم وصلى وحده فدخل رجل فجائز له أن يدخل معه في صلاته ويكون إمامه لأنه قد دعا الناس إلى الصلاة ونوى الإمامة
والقول في هذا الحديث كالقول فيما مضى من صلاته صلى الله عليه وسلم
وأما قوله فصلى ركعتين ثم ركعتين فمحمول عندنا على أنه كان يجلس في كل ركعتين ويسلم بدليل قوله صلى الله عليه وسلم صلاة الليل مثنى مثنى وبما ذكرنا في حديث عائشة من أنه كان يسلم في كل ركعتين من صلاته بالليل وقوله فيه بعد ثنتي عشرة ركعة ثم أوتر دليل على أن الوتر واحدة منفصلة مما قبلها
وسنبين ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى
وأما قوله فيه ثم اضطجع حتى أتاه المؤذن فصلى ركعتين خفيفتين فقد ذكرنا معنى الاضطجاع بعد الوتر ومن جعله بعد ركعتي الفجر وما في ذلك للعلماء فلا وجه لإعادته هنا
ورواية مالك في رواية بن عباس هذا بمعنى روايته في حديث عائشة على ما وصفنا في هذا الباب
وأما قول بن عباس في هذا الحديث فقمت إلى جنبه يعني إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده اليمنى على رأسي وأخذ بأذني يفتلها فمعناه أنه قام عن يساره فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعله عن يمينه
وهذا المعنى لم يقمه مالك في حديثه وقد ذكره أكثر رواة هذا الحديث عن كريب
وقد ذكرنا الروايات بذلك في التمهيد من طرق كثيرة من حديث مخرمة بن سليمان وعمرو بن دينار وسلمة بن كهيل وحبيب بن أبي ثابت كلهم عن كريب عن بن عباس
ومن حديث سعيد بن جبير أيضا عن بن عباس
وكلهم يصف المعنى الذي ذكرنا وهي سنة مسنونة مجتمع عليها في الإمام إذا قام معه واحد أنه لا يقوم إلا عن يمينه
105

واختلفوا في الاثنين مع الإمام وسيأتي ذكر ذلك في موضعه من هذا الكتاب
واحتجوا إذا كانوا ثلاثة سوى الإمام أنهم يقومون خلفه وقيل إنه إنما فتل أذنه ليذكر ذلك ولا ينساه وقيل ليذهب نومه
236 وأما حديثه عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن عبد الله بن قيس بن مخرمة عن زيد بن خالد الجهني فإن يحيى بن يحيى صاحبنا قد وهم منه في قوله فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين طويلتين طويلتين ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما الحديث
ولم يتابعه أحد من رواة الموطأ على ذلك
والذي في الموطأ عند جميعهم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين خفيفتين ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين فأسقط يحيى ذكر الركعتين الخفيفتين وذلك وهم وخطأ منه لأن المحفوظ في هذا الحديث وفي غيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتتح صلاة الليل بركعتين خفيفتين
وقال يحيى أيضا في هذا الحديث طويلتين طويلتين مرتين وغيره من رواة الموطأ يقولها ثلاث مرات طويلتين طويلتين طويلتين
وقد ذكرنا في التمهيد الروايات عن مالك بما وصفنا
وذكرنا حديث عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يصلي افتتح صلاته بركعتين خفيفتين (1)
وحديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام أحدكم من الليل فليصل ركعتين خفيفتين
106

أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بن وضاح قال حدثنا حامد بن يحيى عن سفيان عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام أحدكم من الليل فليصل ركعتين خفيفتين يفتتح بهما صلاته (1)
وأخبرنا عبد الله قال حدثنا محمد قال حدثنا أبو داود قال حدثنا الربيع بن نافع قال حدثنا سليمان بن حيان عن هشام بن حسان عن بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله
وحدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم قال حدثنا بن وضاح قال حدثنا بن أبي شيبة قال حدثنا هشيم قال حدثنا أبو حرة عن الحسن عن سعد بن هشام عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يصلي افتتح صلاته بركعتين خفيفتين
وفي هذا الحديث بيان أن صلاة الليل ركعتان ركعتان فإن الركعتين الخفيفتين اللتين يفتتح بهما صلاة الليل لم يعتبرها ولا اعتد بها من جعل صلاته بالليل عشر ركعات ثم واحدة للوتر
وإذا حملت الأحاديث التي أوردها مالك في هذا الباب على هذا صحت وائتلفت ولم يختلف شيء منها إن شاء الله تعالى
((3 باب الأمر بالوتر))
237 مالك عن نافع وعبد الله بن دينار عن بن عمر أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة توتر له ما قد صلى
107

ظاهر هذا الحديث أن صلاة الليل مثنى مثنى دون صلاة النهار
ويحتمل أن يكون جوابه صلى الله عليه وسلم خرج على سؤال السائل فاقتصر به على جوابه عن ما سأل عنه كأنه قال له يا رسول الله صلاة الليل فقال مثنى مثنى وبقيت صلاة النهار موقوفة على الدليل محتملة للتأويل
لأنه جائز أن يكون جوابه له لو سأله عن صلاة النهار كذلك أيضا وجائز أن يكون بخلافه
فلما روى علي الأزدي عن بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الليل والنهار مثنى مثنى بان المراد فيما وصفنا مع ما قدمنا ذكره قبل هذا الباب من قول بن عمر صلاة الليل والنهار مثنى مثنى وفتواه فبان بذلك أن المسكوت عنه في هذا الحديث هو بمعنى المذكور وأن النهار والليل في صلاة النافلة سواء مثنى مثنى
وقد تقدم ما يكفي في هذا المعنى
وروي هذا الحديث عن بن عمر جماعة منهم نافع وعبد الله بن دينار وسالم وطاوس وأبو سلمة بن عبد الرحمن ومحمد بن سيرين وحبيب بن أبي ثابت وحميد بن عبد الرحمن وعبد الله بن شقيق كلهم قال فيه عن بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الليل مثنى مثنى لم يذكر النهار
وذكره علي الأزدي عن بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم والمعنى عندنا في ذلك ما وصفنا وبالله التوفيق
واختلف الفقهاء في صلاة التطوع بالنهار والليل فقال مالك والليث بن سعد والشافعي وبن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد بن الحسن صلاة الليل والنهار مثنى مثنى
وهو قول أحمد بن حنبل وأبي ثور وداود
وقال أبو حنيفة والثوري صل ما شئت بعد أن تقعد في كل ركعتين
وهو قول الحسن بن حي
وقال الأوزاعي صلاة الليل مثنى مثنى وصلاة النهار أربع ركعات
وهو قول إبراهيم النخعي رواه سيعد بن أبي عروبة عن أبي معشر عن إبراهيم قال صلاة الليل مثنى مثنى وصلاة النهار أربع ركعات إن شاء لا يسلم إلا في آخرهن
وهو قول يحيى بن سعيد الأنصاري
108

وقال الأثرم سألت أحمد بن حنبل عن صلاة الليل والنهار في النافلة فقال أما الذي أختار فمثنى مثنى وإن صلى بالنهار أربعا فلا بأس وأرجو ألا يضيق عليه
فذكرت له حديث يعلى بن عطاء عن علي الأزدي فقال لو كان ذلك الحديث يثبت ومع هذا فإن بن عمر كان يصلي ركعتين في تطوعه بالنهار ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها فهو أحب إلي فإن صلى أربعا فقد روي عن بن عمر أنه كان يصلي أربعا بالنهار
قال بن عون قال لي نافع أما نحن فنصلي بالنهار أربعا فذكرته لمحمد بن سيرين فقال لو صلى ركعتين كان أجدر أن يحفظ
حدثنا خلف بن قاسم قال حدثنا أبو طالب محمد بن زكريا المقدسي قال حدثنا أبو محمد مضر بن محمد قال سألت يحيى بن معين عن صلاة الليل والنهار فقال صلاة النهار أربع لا يفصل بينهن وصلاة الليل ركعتان
فقلت له إن أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول صلاة الليل والنهار مثنى مثنى
فقال بأي حديث
فقلت بحديث شعبة عن يعلى بن عطاء عن علي الأزدي عن بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال صلاة الليل والنهار مثنى مثنى
فقال ومن علي الأزدي حتى أقبل منه هذا أدع يحيى بن سعيد الأنصاري عن نافع عن بن عمر أنه كان يتطوع بالنهار أربعا لا يفصل بينهن وآخذ بحديث علي الأزدي لو كان حديث علي الأزدي صحيحا لم يخالفه بن عمر
قال يحيى وقد كان شعبة يتقي هذا الحديث وربما لم يرفعه
قال أبو عمر قد تقدم قولنا في معنى حديث بن عمر المرفوع في هذا الباب وما يحتمله من التأويل وحديث علي الأزدي لا نكارة فيه ولا مدفع له في شيء من الأصول لأن مالكا قد ذكر في موطئه أنه بلغه أن عبد الله بن عمر كان يقول صلاة الليل والنهار مثنى مثنى ورواه بن وهب عن عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان أنه سمع بن عمر يقول صلاة الليل والنهار مثنى مثنى
ومن الدليل على ذلك أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الظهر ركعتين وبعدها ركعتين وبعد المغرب ركعتين وبعد الجمعة ركعتين وقد روي قبل العصر ركعتين وقال إذا دخل المسجد فليركع ركعتين
109

وكان إذا قدم من سفر نهارا صلى ركعتين
وصلاة الفطر والأضحى والاستسقاء ركعتان
فهذه كلها صلاة النهار وما أجمعوا عليه من هذا وجب رد ما اختلفوا فيه إليه قياسا ونظرا وبالله التوفيق
وفي قوله في هذا الحديث فإذا خشي الصبح صلى ركعة توتر له ما قد صلى على أن الوتر يكون بركعة واحدة قد تقدمتها صلاة ولا تكون ثلاثا لا يفصل بينهن بسلام
وهذا موضع اختلف فيه العلماء قديما وحديثا فأجاز الوتر بركعة منفصلة مما قبلها جماعة من السلف منهم عبد الله بن عمر ومعاذ بن الحارث والسائب بن خباب وسعيد بن المسيب وعطاء
وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور كل هؤلاء يستحب أن يسلم المصلي بين الشفع والوتر
وقال مالك ما شيء أبين من هذا في الفصل بين الشفع والوتر
وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي الوتر ثلاث لا يفصل بينهن
وروى محمد بن سيرين عن بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة المغرب وتر صلاة النهار فاجعلوا آخر صلاة الليل وترا (1)
احتج بهذا الحديث المالكيون والحنفيون وليس فيه حجة واضحة بهذا لأحد الفريقين والله أعلم
على أن مالكا قد رواه عن نافع عن بن عمر موقوفا
وقال الأوزاعي إن شاء فصل وإن شاء لم يفصل
وكل هذه الأقوال لها وجوه ودلائل من جهة الأثر قد ذكرتها في التمهيد
والاختيار في ذلك ما قاله مالك والشافعي
110

وسيأتي القول في الوتر بركعة ليس قبلها شيء عند ذكر فعل سعد بن أبي وقاص لذلك في هذا الباب إن شاء الله تعالى فإنه لم يذكره مالك عن غيره
وليس هذا الحديث بمجيز عند مالك وأصحابه لأحد أن يوتر بركعة ليس قبلها صلاة إذا خشي الصبح على ظاهر الشرط في هذا الحديث لأنه حديث خرج الكلام فيه على صلاة تقدمت قبل ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح الحديث
ولأنه صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة وغيرها كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة فكان فعله صلى الله عليه وسلم بيانا لقوله ذلك والله أعلم
وأما الشافعي فقال في هذا الحديث دليل على أن الوتر بركعة لمن خشي الصبح جائز وإن لم يصل قبلها شيئا
قال والقياس أنه يجوز ذلك لكل الناس خشوا الصبح أو لم يخشوه لأنه إذا جاز أن يفصل بسلام مما قبلها جاز أن تصلى وحدها
238 وأما حديث عبادة ذكره عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن بن محيريز عن المخدجي الكناني عن عبادة بن الصامت فقد تكلمنا على إسناده في التمهيد
وقد روي عن عبادة من وجوه منها ما رواه أبو داود الطيالسي قال حدثنا زمعة بن صالح عن الزهري عن أبي إدريس الخولاني قال كنت في مجلس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم عبادة بن الصامت فذكروا الوتر فقال بعضهم واجب وقال بعضهم سنة فقال عبادة أما أنا فأشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أتاني جبريل من عند الله عز وجل فقال يا محمد إن الله تعالى يقول لك قد فرضت على أمتك خمس صلوات من وافاني بهن
111

على وضوئهن ومواقيتهن وركوعهن وسجودهن فإن له بهن عندي عهدا أن أدخله الجنة ومن لقيني قد انتقص من ذلك شيئا فليس له عندي عهد إن شئت عذبته وإن شئت رحمته
وحديث محمد بن يحيى بن حبان رواه عنه يحيى بن سعيد وعبد ربه بن سعيد ومحمد بن إسحاق وعقيل بن خالد ومحمد بن عجلان إلا أن عقيلا لم يذكر المخدجي في إسناده
ورواه الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد كما رواه مالك
والمخدجي عندهم لا يعرف وقيل اسمه (أبو) رفيع ذكر ذلك عن بن معين
وأما بن محيريز فأشهر في الثقة والجلالة من أن يحتاج إلى ذكره
وقال مالك المخدجي لقب ليس ينسب في شيء من العرب
في هذا الحديث دليل على أن من السلف من يقول بوجوب الوتر وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه
وحجتهم حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله قد زادكم صلاة وهي الوتر فحافظوا عليها (1)
وحديث خارجة بن حذافة قال خرج علينا رسول الله فقال إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم الوتر جعلها الله لكم فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر (2)
وحديث بريدة الأسلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا (3)
وكلها آثار محتملة للتأويل
لأن قوله زادكم صلاة ليس بموجب للفرض لاحتماله أن يكون زادنا فيما يكون لنا زيادة في أعمالنا
كما جاء في الوصية عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الله جعل لكم ثلث أموالكم زيادة في أعمالكم
112

ومعلوم أنما هو لنا خلاف لما افترض علينا
ويصحح هذا التأويل قوله عز ة وجل " حفظوا على الصلوات والصلاة الوسطى البقرة 238] ولو كانت ستا لم يكن فيها وسطى
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس صلوات كتبهن الله على العباد (1 "
وقوله صلى الله عليه وسلم مثل الصلوات الخمس (2)
وقال له أعرابي يا رسول الله هل علي غيرها قال لا إلا أن تطوع (3)
والآثار بمثل هذا كثيرة جدا قد ذكرناها في التمهيد
وقال علي رضي الله عنه ليس الوتر بحتم ولكنه سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم
وحديثه أوتروا يا أهل القرآن فخص أهل القرآن بذلك
أخبرنا عبد الله قال حدثنا حمزة قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا هناد بن السري عن أبي بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن عاصم عن علي قال أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال أوتروا يا أهل القرآن فإن الله وتر يحب الوتر (4)
قال أحمد وأخبرنا محمود بن غيلان قال حدثنا وكيع قال حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه قال ليس الوتر بحتم مثل الصلاة المكتوبة ولكنه سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم
113

وحدثنا عبد الله قال حدثنا محمد قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال حدثنا أبو حفص الأبار عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أوتروا يا أهل القرآن فقال أعرابي ما يقول ما يقول فقال ليس لك ولا لأصحابك
قال أبو عمر الفرائض لا تثبت إلا بيقين لا خلاف فيه فكيف والقول بأن الوتر سنة ليس بواجب يكاد أن يكون إجماعا لشذوذ الخلاف فيه
وأما قول عبادة كذب أبو محمد في قوله الوتر واجب فأبو محمد هذا رجل من الأنصار من وجوه الصحابة اسمه مسعود بن أوس وقد ذكرناه في كتاب الصحابة بما ينبغي من ذكره
وقد تقدم معنى قول عبادة كذب أبو محمد عند قول عبد الله بن سلام كذب كعب من هذا الكتاب فلا معنى لإعادته هنا
واختصار ذلك أن معنى قوله كذب أبو محمد أي غلط أبو محمد ووهم
وقد مضت الشواهد على ذلك فيما تقدم والحمد لله
وقد ذكرنا في التمهيد الآثار الواردة في معنى حديث عبادة هذا وأوردنا من طرق حديث عبادة ما تبين به صحته وأن المخدجي لم يأت فيه إلا بمعنى ما تواترت الرواية به
وفي هذا الحديث دليل على أن من لم يصل وهو مقر موقن بفرض الصلاة مؤمن بها أو صلى ولم يقم الصلاة بما يجب فيها ومات لا يشرك بالله شيئا مقرى بالنبيين مصدقا للمرسلين مؤمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأن كل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم حق إلا أنه مقصر مفرط عاص لم يتب من ذنوبه حتى أدركته منيته أنه في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له فإنه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء
وقد ذكرنا الآثار بهذا المعنى عند ذكر حديث عبادة هذا في التمهيد
ويأتي ذكر أحكام تارك الصلاة المقر بها عند ذكر حديث زيد بن أسلم عن بسر بن محجن في قوله صلى الله عليه وسلم ما لك لم تصل ألست برجل مسلم (1) إن شاء الله تعالى
114

239 وأما حديثه عن أبي بكر بن عمر بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن سعيد بن يسار عن بن عمر أنه أنكر عليه إذ نزل فأوتر وقال له أليس لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر على البعير
ففيه أوضح الدلائل على أن الوتر ليس بواجب فرضا ولا يشبه المكتوبات لأن الإجماع منعقد أنه لا يجوز لأحد أن يصلي على الدواب شيئا من فرائض الصلوات إلا في شدة الخوف خاصة وفي غلبة المطر عليه إذا كان الماء فوقه وتحته فإنهم اختلفوا في ذلك
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتنفل على البعير ويوتر عليه
فبان بذلك خروج الوتر عن طريق الوجوب
وهذ سنة جهلها أبو حنيفة فلم يجز لأحد أن يوتر على الدابة أو البعير في المحمل وكره ذلك له إلا من عذر
وخالفه أصحابه وسائر الفقهاء إلا فرقة تابعته وهي محجوجة بإجماع العلماء وراثة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أنه كان يتنفل على محمله حيث ما توجهت به حاجته
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يتنفل ويوتر على البعير
فبان بذلك أنه نافلة وسنة لإجماعهم على أنه لا يجوز ذلك في المكتوبة
وهذا كاف حجة بالغة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد
240 وأما وتر أبي بكر رضي الله عنه حين كان يأتي فراشه ووتر عمر آخر الليل وقول سعيد بن المسيب أما أنا فإذا جئت فراشي أوترت
ففيه الإباحة في تقديم الوتر في أول الليل وتأخيره عن ذلك
115

وهو أمر مجتمع عليه لا مدخل للقول فيه لأن الوتر من صلاة الليل وصلاة الليل لا وقت لها محدود وإنما الأوقات للمكتوبات فما فعل الإنسان من ذلك فحسن
وسيأتي القول في آخر وقت الوتر في باب الوتر بعد الفجر إن شاء الله تعالى
قالت عائشة رضي الله عنها من كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتهى وتره إلى السحر
وعن عائشة أيضا قالت ربما أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم أول الليل وربما أوتر آخره (1)
وأما اختيار سعيد فعل أبي بكر رضي الله عنه دون فعل عمر رضي الله عنه مع علمه بفضل الصلاة في السحر فلأن الأخذ بالحزم في أمور الدين والدنيا خوف غلبة النوم فيصبح على غير وتر
وكان أبو بكر رضي الله عنه إذا استيقظ وقد كان أوتر يصلي ركعتين ركعتين بعد أن أحرز وتره
وقد كان من وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر وأبي الدرداء وأبي هريرة أن لا ينام أحدهم إلا على وتر (2)
وحسبك بهذا حجة لاختيار سعيد فعل أبي بكر
وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر له فعل أبي بكر في الوتر وفعل عمر فقال حذر هذا يعني أبا بكر وقوي هذا يعني عمر ولم يفضل فعل واحد منهما ولا أنكر عليه لعلمه بأنهما قد اجتهدا جهدهما
241 وقول عائشة رضي الله عنها من خشي أن ينام حتى يصبح فليوتر قبل أن ينام ومن رجا أن يستيقظ آخر الليل فليؤخره وتره تفسير لحديث أبي بكر وعمر في ذلك
إلا أن قولها ومن رجا أن يستيقظ فالرجاء قد نفع المرجو منه وقد لا يقع ففعل أبي بكر واختيار سعيد ليس بمدفوع بقولها ولكل وجه
116

وقد بينا موضع الاختيار في الفضائل والمباحات وبالله العصمة والتوفيق
242 وأما سؤال الرجل عبد الله بن عمر عن الوتر أواجب هو وجواب بن عمر له أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوتر المسلمون فردد عليه الرجل السؤال فلم يزده على هذا الجواب
ففيه دليل على أن الوتر ليس بواجب ولو كان واجبا عنده لأفصح له بوجوبه ولكنه أخبره بما دله على أنه سنة معمول بها ليدفع عنه تأويل الخصوص في ذلك
والنسخ لأن في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة فلما تلقى المسلمون علمه ذلك بالاتباع بان بأنه لم يخص به نفسه كالوصال في الصيام وما أشبهه
وقد روى عبد الحميد بن جعفر عن أبيه عن عبد الرحمن بن أبي عمرة أنه سأل عبادة بن الصامت عن الوتر فقال أمر حسن جميل قد عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون بعده
243 وأما حديث مالك عن نافع قال كنت مع بن عمر بمكة والسماء مغيمة فخشي عبد الله بن عمر الصبح فأوتر بواحدة ثم انكشف الغيم فرأى أن عيله ليلا فشفع بواحدة ثم صلى ركعتين ركعتين فلما خشي الصبح أوتر بواحدة
فقد روى عن بن عمر هذا المذهب في شفع الوتر بعد النوم من وجوه روى الثوري عن عبد الله بن دينار عن بن عمر أنه كان يشفع وتره ثم يصلي مثنى مثنى ثم يوتر
وروى الشعبي عن بن عمر مثله
وهذه مسألة يعرفها أهل العلم بمسألة نقض الوتر
وقد روى مثل قول بن عمر في ذلك عن علي وعثمان وبن مسعود وأسامة ولم يختلف عنهم في ذلك
واختلف فيها عن بن عباس وسعد بن أبي وقاص
وقال بمذهب بن عمر في ذلك جماعة منهم عروة بن الزبير ومكحول وعمرو بن ميمونة
117

وحجتهم قوله صلى الله عليه وسلم الوتر ركعة من آخر الليل (1)
وقوله فإذا خشي أحدكم الصبح أوتر بركعة واحدة
وخالف هذا المذهب في نقض الوتر جماعة أيضا من السلف
فروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه من وجوه أنه كان يوتر قبل النوم ثم إن قام صلى ركعتين ركعتين ولم يعد الوتر
وروى ذلك عن طائفة من الصحابة أيضا منهم عمار بن ياسر وعائذ بن عمرو وعائشة أم المؤمنين
وكانت عائشة تقول في ذلك أوتران في ليلة إنكارا منها لنقض الوتر
وقال بذلك من التابعين جماعة منهم علقمة وأبو مجلز وطاوس والنخعي
وهو قول مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وأبي ثور والحجة لهم قوله صلى الله عليه وسلم لا وتران في ليلة (3)
حدثنا عبد الوارث بن سفيان وسعيد بن نصر قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال وحدثنا عبيد بن عبد الواحد قال حدثنا علي بن المديني قالا حدثنا ملازم بن عمرو قال حدثنا عبد الله بن بدر عن قيس بن طلق عن أبيه طلق بن علي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا وتران في ليلة (3)
فإن قيل إن من شفع الوتر بركعة فلم يوتر في ركعة قيل له محال أن يشفع ركعة قد سلم منها ونام مصليها وتراخى الأمر فيها وقد كتبها الملك الحافظ وترا فكيف تعود شفعا هذا ما لا يصح في قياس ولا نظر والله أعلم
244 وأما حديثه عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يسلم بين الركعتين والركعة حتى يأمر ببعض حاجته
118

فهذه مسألة اختلف فيها السلف أيضا والخلف فروي الفصل بين الشفع وركعة الوتر بالسلام عن عثمان وسعد وزيد بن ثابت وبن عمر وبن عباس وأبي موسى الأشعري ومعاوية وبن الزبير وعائشة رضي الله عنهم
وكان معاذ القارئ يؤم جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان فيفعل ذلك معهم
وبهذا قال مالك والشافعي وأصحابهما وأحمد وأبو ثور
وهو قول سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وعطاء بن أبي رباح وغيرهم
وحجة من ذهب هذا المذهب قوله صلى الله عليه وسلم صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشيت الصبح فصل ركعة توتر لك ما قد صليت
وما رواه جماعة من أصحاب بن شهاب عن بن شهاب عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي إحدى عشرة ركعة يسلم بين كل ركعتين منها ويوتر بواحدة
وقد ذكرنا من قال ذلك عن بن شهاب ومن خالفه فيه فيما تقدم من هذا الكتاب
وقال آخرون الوتر ثلاث ركعات لا يفصل بينهن بسلام
روي ذلك عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس على اختلاف عنه وعبد الله بن معسود وأبي بن كعب وأنس بن مالك وأبي أمامة
وبه قال عمر بن عبد العزيز وأبو حنيفة وأصحابه
وهو الذي استحبه الثوري
وكان الأوزاعي يقول إن شاء فصل قبل الركعة بسلام وإن شاء لم يفصل
وحجة هؤلاء حديث عائشة إذ سئلت عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت كان يصلي أربعا فلا تسل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعا فلا تسل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثا
قالوا صلى أربعا بغير سلام وأربعا كذلك وثلاثا أوتر بها
وما رواه بن سيرين عن بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال صلاة المغرب وتر صلاة النهار
119

ومعلوم أن المغرب ثلاث ركعات لا يسلم إلا في آخرهن فكذلك وتر صلاة الليل
وحديث أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من شاء أوتر بسبع ومن شاء أوتر بخمس ومن شاء أوتر بثلاث ومن شاء أوتر بواحدة (1)
245 وأما حديثه عن بن شهاب أن سعد بن أبي وقاص كان يوتر بعد العتمة بركعة واحدة
قال مالك وليس على هذا العمل عندنا ولكن أدنى الوتر ثلاث
وقد روي مثل فعل سعد بن أبي وقاص في ذلك عن عثمان بن عفان وبن عمر وبن الزبير
وروي أن معاوية فعله فذكر ذلك لابن عباس فقال أصاب أو قال أصاب السنة
وقال جماعة من أهل العلم من أصحاب الشافعي وغيرهم كل من روي عنه الفصل بين الشفع وركعة الوتر بسلام من الصحابة والتابعين فهو مجيز الوتر بركعة واحدة ليس قبلها شيء
وحجتهم ما تقدم ذكره
وقالوا ليس أحد ممن يفصل بين ذلك بسلام ويفرد الركعة مما قبلها يكره الوتر بواحدة ليس قبلها شيء إلا مالك بن أنس ومن تابعه
وأجاز الشافعي وأحمد وأبو ثور وداود الوتر بواحدة ليس قبلها شيء من صلاة النافلة إلا أنهم يستحبون أن يكون قبلها صلاة
قال الشافعي أقلها ركعتان وأكثرها عشر على ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم
وأما مالك فكان يكره أن يوتر أحد بركعة لا صلاة نافلة قبلها ويقول أي شيء توتر له الركعة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم توتر له ما قد صلى
وكره بن مسعود الوتر بركعة ليس قبلها شيء وسماها البتيراء
وهو مذهب كل من رأى الوتر ثلاث ركعات لا يفصل بينهن بسلام
246 وأما حديثه عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول صلاة المغرب وتر صلاة النهار
120

فقد روي مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم
واستدل بعض أصحابنا على أن الوتر لا ينبغي أن يكون إلا بعد صلاة أقلها ركعتان بهذا الخبر
وقالوا إذا كانت المغرب وتر صلاة النهار يعني المكتوبات لأنها من جنسها فكذلك ينبغي أن يكون الوتر لصلاة نافلة تقدمها ولا تكون ركعة مفردة
قال مالك من أوتر أول اليل ثم نام ثم قام فبدا له أن يصلي فليصل مثنى مثنى
فهو أحب ما سمعت إلي في ذلك ولا يشفع وتره ولا يعيده وهو خلاف لابن عمر
وقد ذكرنا من تقدم مالكا إلى اختياره ذلك من السلف ومن تابع بن عمر على مذهبه في هذا الباب
وقد أخبر مالك أن الخلاف في ذلك قد سمعه واختار من ذلك ما اختاره وهو الاختيار عند أكثر الفقهاء
((4 باب الوتر بعد الفجر))
247 ذكر فيه مالك عن بن عباس وعبادة بن الصامت وعبد الله بن عامر بن ربيعة والقاسم بن محمد أنهم أوتروا بعد الفجر
248 وعن بن مسعود أنه قال ما أبالي لو أقيمت الصلاة وأنا أوتر
249 وعن عبادة بن الصامت أنه أسكت المؤذن بالإقامة لصلاة الصبح حتى أوتر
121

وقال مالك بأثر ذلك إنما يوتر (بعد الفجر من نام عن الوتر ولا ينبغي لأحد أن يتعمد ذلك حتى يضع وتره بعد الفجر
قال أبو عمر اختلف السلف من العلماء والخلف بعدهم في آخر وقت الوتر بعد إجماعهم على أن أول وقته بعد صلاة العشاء وأن الليل كله حتى ينفجر الصبح وقت له إذ هو آخر صلاة الليل
فقال منهم قائلون لا يصلي الوتر بعد طلوع الفجر وإنما وقتها من صلاة العشاء إلى طلوع الفجر فإذا طلع الفجر فلا وتر
وممن قال هذا سعيد بن جبير ومكحول وعطاء بن أبي رباح
وهو قول سفيان الثوري وأبي يوسف ومحمد
وحجتهم حديث خارجة بن حذافة العدوي قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن الله تعالى قد أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم هي الوتر جعلها
الله لكم ما بين صلاة العشاء وطلوع الفجر (1)
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن هشيم عن أبي هارون عن أبي سعيد الخدري قال نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا لا وتر بعد طلوع الفجر
وأبو هارون العبدي ليس ممن يحتج به
وقال آخرون يصلي الوتر ما لم يصل الصبح فمن صلى الصبح فلا يصلي الوتر
روي هذا القول عن بن مسعود وبن عباس وعبادة بن الصامت وأبي الدرداء وحذيفة وعائشة
وبه قال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأبي ثور وإسحاق وجماعة
وهو الصواب عندي لأني لا أعلم لهؤلاء الصحابة مخالفا من الصحابة
فدل إجماعهم على أن معنى الحديث في مراعاة طلوع الفجر أريد ما لم تصل صلاة الفجر
122

ويحتمل أيضا أن يكون ذلك لمن قصده واعتمده وأما من نام عنه وغلبته عينه حتى انفجر الصبح وأمكنه أن يصليه مع الصبح قبل طلوع الشمس مما أريد بذلك الخطاب والله الموفق للصواب وإلى هذا المعنى أشار مالك رحمه الله
وأما من أوجب قضاء الوتر بعد طلوع الشمس فقد شذ عن الجمهور وحكم للوتر بحكم الفريضة
وقد أوضحنا خطأ قوله فيما مضى من هذا الكتاب
روي ذلك عن طائفة من التابعين منهم طاوس
وهو قول أبي حنيفة وخالفه صاحباه
إلا أن من أهل العلم من استحب ورأى إعادة الوتر بعد طلوع الشمس
وقال الثوري إذا طلعت الشمس فإن شاء قضاه وإن شاء لم يقضه
وقال الأوزاعي يقضيه متى ما ذكره من يومه حتى يصلي العشاء الآخرة فإن لم يذكر حتى صلاة العشاء لم يقضه بعد فإن فعل شفع وتره
قال الليث يقضيه بعد طلوع الشمس
وقال مالك والشافعي لا يقضيه
واختلف أصحابنا وغيرهم فيمن ذكر الوتر في صلاة الصبح
واختلف في ذلك أيضا قول مالك على قولين
فقال مرة يقطع ويصلي الوتر
واختاره بن القاسم فضارع في ذلك قول أبي حنيفة في إيجاب الوتر
ومرة قال مالك لا يقطع ويتمادى في صلاة الصبح ولا شيء عليه ولا يعيد الوتر
وهو قول الشافعي والجمهور من العلماء
وهو الصواب لأن القطع لمن ذكر الصلاة وهو في صلاة لم يكن من أجل شيء غير الترتيب في صلاة اليوم
ومعلوم أنه لا رتبة بين الوتر وصلاة الصبح لأنه ليس من جنسها وإنما الرتبة في المكتوبات لا في النوافل من الصلوات
وما أعلم أحدا قال يقطع صلاة الصبح لمن ذكر فيها أنه لم يوتر إلا أبا حنيفة وبن القاسم
123

وأما مالك فالصحيح عنه أنه لا يقطع
وقد قال أبو ثور ومحمد لا يقطع
وهو قول جمهور أصحابنا وتحصيل مذهبنا
ولولا إيجاب أبي حنيفة الوتر ما رأى القطع والله أعلم
فإن قيل إنما أمر بقطع صلاة الصبح للوتر لأن الوتر لا يقضى ولا يصلى بعد صلاة الصبح وإنما وقته قبل الفجر وقبل صلاة الصبح عندنا وهو من السنن المؤكدة فمن نسية ثم ذكره وهو في صلاة الصبح قطعها إذا كان في سعة من وقتها وصلى الوتر ثم صلى الصبح فيكون قد أتى بالسنة والفريضة في وقتها
قيل ليس لهذا أصل في الشرع المجتمع عليه بل الأصل أن لا يبطل الإنسان عمله ولا يخرج من فرضه قبل أن يتمه لغير واجب عليه
ومعلوم أن إتمام ما وجب إتمامه فرض والوتر سنة فكيف يقطع فرض لسنة
وقد أجمع العلماء أنه لا تقطع صلاة فريضة لصلاة مسنونة فيما عدا الوتر واختلفوا في قطعها للوتر فالواجب رد ما اختلفوا فيه إلى ما أجمعوا عليه
وكذلك أجمع فقهاء الأمصار أنه لا يقطع صلاة الصبح للوتر إن كان خلف إمام فكذلك المنفرد قياسا ونظرا وعليه جمهور العلماء وبالله التوفيق
ولم يختلف قول مالك وأصحابه فيمن أحرم بالتيمم فطرأ عليه الماء وهو في الصلاة أنه يتمادى ولا يقطع وهذا كان أولى من القطع للوتر
وقد أوضحنا ذلك في غير هذا الموضع والحمد لله
((5 باب ما جاء في ركعتي الفجر))
250 مالك عن نافع عن بن عمر أن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سكت المؤذن عن الأذان لصلاة الصبح صلى ركعتين خفيفتين قبل أن تقام الصلاة
124

روى هذا الحديث عن نافع جماعة منهم عبد الكريم الجزري وغيره فقال فيه عبد الكريم الجزري عن نافع عن بن عمر عن حفصة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع أذان الصبح صلى ركعتين ثم خرج إلى المسجد وحرم الطعام وكان لا يؤذن حتى يصبح
فبان بهذا حديث مالك إذا سكت المؤذن أنه أراد بأثر سكوته دون تراخ
وإذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتي الفجر عند الأذان بان بذلك أن الأذان للصبح كان عند طلوع الفجر وبعده لا قبله
وقد احتج به من لم يجز الأذان للفجر إلا بعد طلوع الفجر
وقد مضى القول في ذلك عند قوله صلى الله عليه وسلم إن بلالا ينادي بليل (1) وفي حديث بن شهاب عن سالم
ومعلوم أن أذان بن أم مكتوم كان مع الفجر أو بعده ولذلك استحب من أجاز الأذان للفجر بليل أن يكون مؤذن آخر مع الفجر إذا بان له طلوعه
وقد أوضحنا ذلك كله فيما تقدم من باب الأذان
وقد ذكرنا في التمهيد كثيرا من اختلاف أصحاب نافع في ألفاظ هذا الحديث ولم يختلفوا في إسناده عن نافع عن بن عمر عن حفصة
وأما قوله في حديث عبد الكريم الجزري وحرم الطعام ففيه جواز الأكل لمن شك في الفجر حتى يتبين له ويرتفع الشك فيه عنه
وسيأتي ما للعلماء في هذا المعنى في كتاب الصيام إن شاء الله تعالى
على أنه قوله وحرم الطعام عطف على سماع الأذان لا على الخروج إلى المسجد والله أعلم
وأما رواية مالك فيه خفيفتين فهو المحفوظ عنه صلى الله عليه وسلم في ركعتي الفجر
وروى عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر عن حفصة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفف ركعتي الفجر
125

251 وروى مالك في هذا الباب عن يحيى بن سعيد أن عائشة قالت إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخفف ركعتي الفجر حتى أني لأقول أقرأ فيهما بأم القرآن أم لا وقد ذكرنا من أسند هذا الحديث عن يحيى بن سعيد عن محمد بن عبد الرحمن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة من الثقات
وهو حديث ثابت صحيح بهذا الإسناد
وحديث أبي الرجال عن عمرة عن عائشة رواه شعبة وغيره عن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن الأنصاري سمع عمرة عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طلع الفجر صلى ركعتين فأقول أقرأ فيهما بفاتحة الكتاب أم لا (1)
وقد روى يحيى بن سعيد عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة عن عائشة
وهو عندي وهم والله أعلم وإنما هو ليحيى بن سعيد عن محمد بن عبد الرحمن أبي الرجال عن أمه عمرة عن عائشة
وقد رواه هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة
وقد ذكرنا الأسانيد بذلك كله في التمهيد
وفي قول عائشة حتى أني لأقول أقرأ بأم القرآن أم لا ذلك على التخفيف ودليل على أن لا يزاد فيهما على فاتحة الكتاب هو المستحب عند مالك وأكثر العلماء
وفي قول عائشة أقرأ فيهما بأم القرآن أم لا دليل على أن قراءته صلى الله عليه وسلم فيهما كانت سواء
وهو قول مالك والشافعي وطائفة من أهل المدينة
ومن أهل العلم من يقول يجهر بما يقرأ فيهما
126

وأصبح من قال فيهما ب * (قل هو الله أحد) * و " قل يا أيها الكافرون "
واستدل في تهذيب الآثار من ذلك تخريجها على الإباحة فمن شاء أسر فيهما ومن شاء جهر ومن شاء اقتصر على فاتحة الكتاب في كل واحدة منهما ومن شاء قرأ معها " قل يا أيها الكافرون " و (قل هو الله أحد)
وفيه دليل أيضا على أن قراءة أم القرآن لابد منها في كل صلاة نافلة أو فريضة
ويشهد لهذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب (1)
وقوله صلى الله عليه وسلم كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج غير تمام (2)
وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ فيهما ب * (قل هو الله أحد) * و " قل يا أيها الكافرون " من حديث عائشة وحديث بن عمر وحديث بن مسعود
وهي كلها صحاح ثابتة قد ذكرتها بطرقها في التمهيد والحمد لله
وروي من حديث بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان كثيرا ما يقرأ في ركعتي الفجر " قولوا ءامنا بالله وما أنزل إلينا " [البقرة 136] في الركعة الأولى ويقرأ في الثانية " ءامنا بالله وأشهد بأنا مسلمون آل عمران 52]
وهذا كله محمول عندنا على أن ذلك مع فاتحة الكتاب لما وصفنا
وأما أقاويل الفقهاء فيما يقرأ به في ركعتي الفجر فقال مالك أما أنا فلا أزيد فيها على أم القرآن في كل ركعة لحديث عائشة
رواه بن القاسم عنه
وقال بن وهب عنه لا يقرأ فيهما إلا بأم القرآن
127

وقال الشافعي يخفف فيهما ولا بأس أن يقرأ مع أم القرآن سورة قصيرة
وروى بن القاسم عن مالك أيضا مثله
وروى البويطي عن الشافعي أنه قال أحب أن يقرأ المصلي في ركعتي الفجر مع فاتحة الكتاب * (قل هو الله أحد) * و " قل يا أيها الكافرون "
وقال الثوري يخفف فإن شيء من حزبه فلا بأس أن يقرأه فيهما ويطول
وقال أبو حنيفة ربما قرأت في ركعتي الفجر حزبي من القرآن
وهو مذهب أصحابه
قال أبو عمر السنة في هذا الباب ما قاله مالك والشافعي والله الموفق للصواب
حدثنا خلف بن سعيد وسعيد بن سيد وعبد الله بن محمد بن يوسف قالوا حدثنا عبد الله بن محمد بن علي قال أخبرنا أحمد بن خالد قال حدثنا إبراهيم بن محمد قال حدثنا عون بن يوسف قال حدثنا علي بن زياد قال حدثنا سفيان عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن عائشة قالت صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعتين قبل صلاة الفجر فقرأ فيهما * (قل هو الله أحد) * و " قل يا أيها الكافرون "
قال أحمد بن خالد بهذا آخذ
قال أبو عمر في مراعاة العلماء من الصحابة ومن بعدهم واهتبالهم بركعتي الفجر وتخفيفهما وما يقرأ فيهما مع مواظبة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما دليل على أنهما من مؤكدات السنن
وعلى ما ذكرت لك جمهور الفقهاء إلا أن من أصحابنا من يأبى أن يسميها سنة ويقول هما من الرغائب وليستا سنة
وهذا لا وجه له ومعلوم أن أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها سنة يحمد الاقتداء به فيها إلا أن يقول صلى الله عليه وسلم إن ذلك خصوص لي وإنما يعرف من سنته المؤكدة منها من غير المؤكد بمواظبته عليها وندب أمته إليها وهذا كله موجود محفوظ عنه صلى الله عليه وسلم في ركعتي الفجر
وقد قال أشهب بن عبد العزيز وعلي بن زياد ركعتا الفجر سنة مسنونة
وهو قول الشافعي وإسحاق وأحمد بن حنبل وأبي ثور وداود وجماعة أهل العلم فيما علمت
128

وروى عبيد بن عمير بن عائشة قالت ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على الركعتين قبل الصبح (1)
ومعلوم أن كل ما ليس بفريضة فهو نافلة
ومن النوافل ما هو سنة بمواظبة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقد استدل بعض أهل العلم على تأكيد ركعتي الفجر في السنن بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاهما بعد طلوع الشمس يوم نام عن الصلاة كما قضى الفريضة ولم يأت عنه أنه قضى شيئا من السنن بعد خروج وقتهما غيرهما
وفي حديث عطاء عن عبيد بن عمير عن عائشة قالت ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرع إلى شيء من النوافل إسراعه إلى ركعتي الفجر ولا إلى غنيمة (2)
وروى سعد بن هشام عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها (3)
وقد ذكرنا أسانيد هذه الآثار كلها في التمهيد
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا جرير عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن عائشة قالت أما ما لم يدعه رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحا ولا مريضا ولا في سفر ولا في حضر فركعتا الفجر
وروى أبو إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله عز وجل " ومن اليل فسبحه وإدبر النجوم ق 40] قال الركعتان قبل الغداة
وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أوس بن خالد عن أبي هريرة قال إدبار النجوم الركعتان بعد طلوع الفجر
252 وأما حديثه عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال سمع قوم الإقامة فقاموا يصلون فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
129

فقال أصلاتان معا أصلاتان معا وذلك في صلاة الصبح والركعتين اللتين قبل الصبح
فهكذا رواه في الموطأ كل من روى الموطأ ورواه الوليد بن مسلم عن مالك عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أنس بن مالك أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعوا الإقامة فقاموا يصلون فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أصلاتان معا
وقد أخطأ الوليد بن مسلم إذ جعله عن أنس والصواب عن مالك ما في الموطأ
وقد رواه الدراوردي عن شريك بن أبي نمر عن أبي سلمة عن عائشة فأسنده
وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه عبد الله بن سرجس وعبد الله بن بحينة وأبو هريرة وبن عباس وجابر بن عبد الله
وقد ذكرناها بالأسانيد في كتاب التمهيد
والمعنى في هذا الحديث النهي عن أن يصلي أحد في المسجد صلاة نافلة ويترك الصلاة القائمة فيه الفريضة
وكذلك حكى بن عبد الحكيم عن مالك قال لا يركع أحد في المسجد وقد أقيمت الصلاة
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة (1)
وقد ذكرنا هذا الحديث من طرق كثيرة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في التمهيد
واختلف الفقهاء في الذي لم يصل ركعتي الفجر وأدرك الإمام في الصلاة أو دخل المسجد ليصليهما فأقيمت عليه الصلاة
فقال مالك إذا كان قد دخل المسجد فليدخل مع الإمام ولا يركعهما في المسجد وإن كان لم يدخل المسجد فإن لم يخف أن يفوته الإمام بركعة فليركعهما خارج المسجد ولا يركعهما في شيء من أفنية المسجد اللاصقة به التي تصلى فيها
130

الجمعة وإن خاف أن تفوته الركعة الأولى مع الإمام فليدخل وليصل معه ثم يصليهما إذا طلعت الشمس إن أحب ولأن يصليهما إذا طلعت الشمس أحب إلي من تركهما
وقال الثوري إن خشي فوت ركعة دخل معه ولم يصلهما وإلا صلاهما وإن كان قد دخل المسجد
وقال الأوزاعي إذا دخل المسجد يركعهما إلا أن يوقن أنه إن فعل فاتته الركعة الأخيرة فأما الركعة الأولى فليركع وإن فاتته
وقال الحسن بن حي إذا أخذ المقيم في الإقامة فلا تطوع إلا ركعتي الفجر
وقال أبو حنيفة وأصحابه إن خشي أن تفته الركعتان ولا يدري الإمام قبل رفعه من الركوع في الثانية دخل معه وإن رجى أن يدرك ركعة صلى ركعتي الفجر خارج المسجد ثم يدخل مع الإمام
قال أبو عمر اتفق هؤلاء كلهم على أن يركع ركعتي الفجر والإمام يصلي منهم من راعى فوت الركعة الأولى ومنهم من راعى الثانية ومنهم من اشترط الخروج عن المسجد ومنهم من لم يشترطه ورأى أن يصلي فيه وحجتهم أن ركعتي الفجر من السنن المؤكدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواظب عليها فإذا أمكن الإتيان بهما وإدراك ركعة من صلاة الصبح فلا يتركهما لأن من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركتها
واحتج بعضهم بأن قال يحتمل قوله أصلاتان معا أن يكون أراد الجمع بين الفريضة والنافلة في موضع واحد كما نهى عن الصلاة يوم الجمعة تطوعا بعدها في مقام واحد حتى يتقدم أو يتكلم
احتج بهذا الطحاوي وليس هذا عندي بشيء لأن النهي إنما ورد أن تصليا معا وأن يصلي إذا أقيمت المكتوبة غيرها مما ليس بمكتوبة ويشتغل عنها بما سواها
واحتج من رأى أن تصلى خارج المسجد بحديث يحيى بن أبي كثير عن زيد بن أسلم عن بن عمر أنه جاء والإمام يصلي صلاة الصبح ولم يكن صلى الركعتين قبل صلاة الصبح فصلاهما في حجرة حفصة ثم دخل مع الإمام
وهذا قول مالك وأبي حنيفة
وقد ذكرنا إسناد هذا الحديث في التمهيد
وعن سعيد بن جبير معناه وقد ذكرناه أيضا
وروي عن بن مسعود أنه دخل المسجد وقد أقيمت الصلاة فصلى إلى أسطوانة
131

في المسجد ركعتي الفجر ثم دخل في الصلاة بمحضر من حذيفة وأبي موسى
وبهذا قال الأوزاعي والثوري
ومن حجتهما أنه إذا جاز الاشتغال عن المكتوبة التي أقيمت بركعتي الفجر خارج المسجد جاز ذلك في المسجد
وقال الشافعي من دخل المسجد وقد أقيمت الصلاة للصبح ولم يكن ركع ركعتي الفجر فليدخل مع الناس ولا يركع ركعتي الفجر لا خارج المسجد ولا داخل المسجد
وكذلك قال الطبري لا يتشاغل أحد بنافلة بعد إقامة الفريضة
وقال أبو بكر بن الأثرم سئل أحمد بن حنبل وأنا أسمع عن رجل دخل المسجد والإمام في صلاة الصبح ولم يركع الركعتين
فقال يدخل في الصلاة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة وقال أيضا أصلاتان معا
قال أحمد ويقضيهما من الضحى إن شاء
قيل له فإن صلاهما بعد سلامه قبل طلوع الشمس قال يجزئه وأما أنا فأختار أن يصليهما من الضحى
ثم قال حدثنا بن علية عن أيوب عن نافع قال كان بن عمر يصليهما من الضحى
وقال محمد بن سيرين كان يكرهون أن يصلوهما إذا أقيمت الصلاة وقال ما يفوته من المكتوبة أحب إلي منهما
قال أبو عمر هذا القول أصح لأن فيه حديثا مسندا يجب الوقوف عنده والرد إليه فيما ينازع العلماء فيه إذ لم يكن له في الكتاب ذكر ولا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يعارضه
حدثنا أبو الحسن علي بن إبراهيم بن أحمد بن حمويه قال حدثنا أبو محمد الحسن بن رشيق قال حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن سلم المقدسي ببيت المقدس قال حدثنا أحمد بن محمد بن عمر الحنفي قال حدثنا عبد الرزاق بن همام قال أخبرنا معمر وبن جريج وسفيان الثوري وزكريا بن إسحاق عن عمرو بن دينار عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة
132

وهكذا رواه حماد بن سلمة وحماد بن زيد وجماعة يطول ذكرهم عن عمرو بن دينار عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا
ومنهم من يرويه عن حماد بن زيد عن أيوب عن عمرو بن دينار بإسناده مثله
وقد وقف قوم هذا الحديث على أبي هريرة منهم سفيان بن عيينة والذين يرفعونه أكثر عددا وكلهم حافظ ثقة فيجب قبول ما زادوه وحفظوه على أن ما صح رفعه لا حرج على الصاحب في توقيفه لأنه أفتى بما علم منه
وليس قوله صلى الله عليه وسلم أصلاتان معا مما يمنع من صلاة العشاء الآخرة في المسجد لمن فاتته مع الإمام والناس في صلاة الإشفاع لأن النهي في ذلك إنما ورد عن الاشتغال بنافله عن فريضة تقام في الجماعة والمساجد إنما بنية للفرائض لا للنوافل
فالذي تفوته صلاة العشاء أحق بإقامتها في المسجد من المصلين فيه جماعة نافلة الإشفاع كانت أو غيرها
وينبغي له أن يصير في ناحية من المسجد حيث يأمن تخليط الإمام في الإشفاع عليه
وعلى ما قلت لك جماعة الفقهاء لا أعلمهم يختلفون في ذلك
وفيما وصفت لك دليل على أن المراد بالحديث كراهة الاشتغال عن الفريضة بالنافلة
253254 254 وأما قضاء عبد الله بن عمر والقاسم بن محمد ركعتي الفجر بعد طلوع الشمس فذلك دليل على أنهما عندهما من مؤكدات السنن
وأجاز الشافعي وأصحابه وطائفة من السلف منهم عطاء وعمرو بن دينار أن تصلي ركعتا الفجر بعد سلام الإمام من صلاة الصبح
وأبى ذلك مالك وأكثر العلماء لنهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس
وذهب الشافعي في ذلك إلى ما حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا
133

محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال حدثنا عبد الله بن نمير عن سعد بن سعيد قال حدثني محمد بن إبراهيم عن قيس بن عمرو قال رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يصلي بعد صلاة الصبح ركعتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح ركعتان فقال الرجل أني لم أكن صليت الركعتين قبلهما فصليتهما الآن فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال أبو داود روى هذا الحديث يحيى بن سعيد وعبد ربه بن سعيد مرسلا عن جدهم قيس بن عمرو
قال أبو داود حدثنا حامد بن يحيى قال حدثنا سفيان قال كان عطاء بن أبي رباح يحدث بهذا الحديث عن سعد بن سعيد
وقد مضى القول في معنى النهي عن الصلاة بعد الصبح والعصر وما للعلماء في ذلك من المذاهب في بابه من هذا الكتاب والحمد لله
ويأتي القول فيمن دخل المسجد لصلاة الصبح وقد ركع ركعتي الفجر هل يركع الركعتين تحية المسجد عند ذكر حديث أبي قتادة في موضعه في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى
134

((8 كتاب صلاة الجماعة))
((1 باب فضل صلاة الجماعة صلاة الفذ))
255 ذكر فيه مالك عن نافع عن بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ (1) بسبع وعشرين درجة
256 وعن بن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءا
قال أبو عمر معنى قوله في هذا الحديث جزءا وفي حديث بن عمر درجة وفي حديث أبي سعيد الخدري خمسا وعشرين صلاة ذكره أبو داود معنى واحدا كله يريد تضعيف ثواب المصلي في جماعة على ثواب المصلي وحده وفضل أجر من صلى في جماعة على أجر المنفرد في صلاته بالأجزاء المذكورة
ويشهد لهذا حديث أنس بن مالك وغيره في حديث الإسراء قال فيه هي خمس وهي خمسون الحسنة بعشر أمثالها
135

وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنان فما فوقهما جماعة
حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا الحوطي قال حدثنا بقية بن الوليد عن عيسى بن إبراهيم عن موسى بن أبي حبيب عن الحكم
بن عمير وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنان فما فوقهما جماعة
قال الحوطي حدثت به سفيان بن عيينة في المنام بإسناده فقال صدق
قال أبو عمر قد استدل قوم بهذه الأحاديث على الأفضل لكثير الجماعة على قليلها وبما عليه أكثر العلماء فيمن صلى في جماعة اثنين فما فوقهما ألا يعيد في جماعة أخرى بأكثر منها
ومعلوم أن إعادة الفذ لما صلى وحده مع الجماعة إنما كان لفضل الجماعة على الانفراد
فإذا لم يعد من صلى مع اثنين أو ثلاثة في الجماعة الكثيرة دل على ما وصفناه
وقد رويت آثار مرفوعة منها
حديث أبي بن كعب وغيره أن صلاة الرجل مع الرجلين أفضل من صلاته وحده وصلاته مع الثلاثة أفضل من صلاته مع الرجلين وكلما كثر كان أزكى وأطيب
وهي آثار كثيرة ليست في القوة والثبوت والصحة كآثار هذا الباب
وقد قلنا إن الفضائل لا مدخل فيها للقياس والنظر وإنما يقال فيها بما صح التوقيف به والله يتفضل بما شاء من رحمته على من يشاء من عباده
وفي هذا الحديث من رواية بن عمر وأبي هريرة دليل على جواز صلاة الفذ وحده وإن كانت صلاة الجماعة أفضل
وإذا جازت صلاة الفذ وحده بطل أن يكون شهود صلاة الجماعة فرضا
لأنه لو كانت فرضا لم تجز للفذ صلاته وهو قادر على الجماعة تارك لها
كما أن الفذ لا يجزئه يوم الجمعة أن يصلي قبل الإمام ظهرا إذا كان ممن تجب عليه الجمعة
قد احتج بهذا جماعة من العلماء وعلى هذا أكثر الفقهاء بالحجاز والعراق والشام كلهم يقولون إن حضور الصلاة في جماعة فضيلة وسنة مؤكدة لا ينبغي تركها وليست بفرض
ومنهم من قال إنها فرض على الكفاية
136

ومنهم من قال شهودها سنة مؤكدة لا يرخص في تركها للقادر عليها ومن تخلف عنها وأتى بها في بيته جزت عنه إلا أن من صلاها في المسجد جماعة أفضل منه ولهم في ذلك دلائل يطول ذكرها
وقال داود وسائر أهل الظاهر حضور صلاة الجماعة فرض متعين على كل مكلف من الرجال إذا كان قادرا عليها كالجمعة
وقالوا لا تجزئ الفذ صلاته إلا بعد صلاة الناس وبعد إلا يجد قبل خروج الوقت من يصلي معه
واحتجوا في إيجاب شهود الجماعة فرضا بأشياء منها حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في إحراق بيوت المتخلفين عن الصلاة معه (1)
وقالوا لا يحرق عليهم بيوتهم إلا لتركهم ما قد وجب عليهم
وسيأتي القول في معنى حديث أبي هريرة وما كان مثله في ذلك عند ذكره من رواية مالك في هذا الباب إن شاء الله تعالى
واحتجوا أيضا بظواهر آثار منها قوله صلى الله عليه وسلم لعتبان بن مالك ولابن أم مكتوم حين استأذنه كل واحد منهما في التخلف عن صلاة الجماعة أتسمع النداء قال نعم قال لا أجد لك رخصة (2)
وقوله صلى الله عليه وسلم لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد
وقوله فمن سمع النداء ولم يجب فلا صلاة له (3)
وهذا القول منه صلى الله عليه وسلم عند جمهور العلماء خرج على شهود الجمعة لا على شهود الجماعة في غيرها
وكذلك قوله لعتبان بن مالك وبن أم مكتوم
هذا لو صح الأثر بما ذكروا فكيف وهي آثار فيها علل وهي محتملة للتأويل
137

وكذلك قوله لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد لا يثبت مرفوعا ولو صح كان معناه الكمال كما قال لا إيمان لمن لا أمانة له (1) ولا يزني الزاني وهو مؤمن (2)
وقد بينا هذا المعنى في التمهيد والحمد لله
قال أبو عمر لا يخلو قوله صلى الله عليه وسلم صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ من أحد ثلاثة أوجه إما أن يكون المراد بذلك صلاة النافلة
أو يكون المراد بذلك من تخلف من غير عذر
أو يكون المراد بذلك من تخلف من غير عذر
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة (3)
فعلمنا بذلك أنه لم يرد بحديث هذا الباب صلاة النافلة لأنه قد فضل صلاة المنفرد في بيته
وكذلك لما قال صلى الله عليه وسلم من كان له صلاة بليل فغلبه عليها نوم كتب له أجر صلاته وكان نومه عليه صدقة
وقال صلى الله عليه وسلم إذا شغل العبد عن عمل كان يعمله مرض ابتلاه الله به كتب له أجر ذلك العمل ما دام في وثاق مرضه (4)
ومثل هذا كثير قد ذكرناه فيما مضى من هذا الكتاب
علمنا بذلك أن من تخلف من عذر فلم يدخل في معنى الحديث
وإذا بطل هذان الوجهان صح أن المراد بذلك هو المتخلف عما ندب إليه وجب وجوب سنة عليه بغير عذر
وعلمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفاضل بينهما إلا وهما جائزان إلا أن أحدهما أفضل من الآخر
138

257 وأما حديثه في هذا الباب عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب (1) ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال (2) فأحرق عليهم بيوتهم والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عظما سمينا أو مرماتين (3) حسنتين لشهد العشاء
فقد احتج به من أهل الظاهر الموجبون لصلاة الجماعة فرضا داود وأصحابه
وقد مضى القول عليه في ذلك بما يكفي والحمد لله
وقد اختلف العلماء في الصلاة التي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم إحراق بيوت المتخلفين عنها فقال أهل الظاهر هي كل صلاة على ما قدمنا عنهم
وقال آخرون هي صلاة العشاء
وحجتهم ما حدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا إبراهيم بن إسحاق النيسابوري قال حدثنا هارون بن معروف قال أخبرنا بن وهب قال أخبرنا بن أبي ذئب عن عجلان مولى المشمعل عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لينتهين رجال ممن حول المسجد لا يشهدون العشاء أو لأحرقن عليهم بيوتهم أو حول بيوتهم بحزم الحطب
ويشهد لذلك أيضا حديث مالك هذا عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله فيه لو يعلم أحدهم أنه يجد عظما سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا عفان قال حدثنا حماد بن سلمة
139

قال أخبرنا عطاء الخرساني عن سعيد بن المسيب قال كانت الصلاة التي أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يحرق على من تخلف عنها صلاة العشاء
قال وحدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال هي العشاء أو الفجر
هكذا رواه مرفوعا على الشك
وقال آخرون بل هي صلاة الجمعة
قال أبو بكر حدثنا الفضل بن دكين عن زهير عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال هي الجمعة
هكذا ذكر أيضا مرفوعا
قال وحدثنا عفان قال حدثنا حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن قال كانت الصلاة التي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحرق على من تخلف عنها الجمعة
حدثنا أحمد بن قاسم وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا كثير قال حدثنا جعفر قال حدثنا يزيد بن الأصم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم أخرج بفتياني معهم حزم الحطب فأحرق على قوم بيوتهم يسمعون النداء ثم لا يأتون الصلاة
وسئل يزيد بن الأصم أفي الجمعة هذا أم في غيرها فقال ما سمعت أبا هريرة ذكر جمعة ولا غيرها
وقد قال يحيى بن معين إن الحديث في الإحراق على من تخلف عن الصلاة معه صلى الله عليه وسلم بيوتهم هو في الجمعة لا في غيرها
احتج بما حدثناه سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا الفضل بن دكين عن زهير عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص سمعه منه عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أحرق على قوم يتخلفون عن الجمعة بيوتهم
ورواه معمر عن أبي إسحاق بإسناده مثله
وقد روى عن بن مسعود من وجوه ذكرتها في التمهيد أنه قال عليكم بالصلوات الخمس حيث ينادى بهن فإنهن من سنن نبيكم صلى الله عليه وسلم ولو تركتم سنة نبيكم
140

لضللتم ولقد عهدتنا وإن الرجل ليهادي بين الرجلين حتى يقام في الصف ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم نفاقه
قال أبو عمر معلوم أنه لا يتخلف عن الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير عذر إلا منافق صحيح النفاق
وفي قول بن مسعود في الصلوات الخمس في جماعة أنها من سنن نبيكم مع روايته حديث الإحراق عليهم في الجمعة دليل واضح أن الجمعة فريضة وأن شهود الجماعة في غيرها سنة من مؤكدات السنن يخشى على التارك لها رغبة عنها حتى لا تقوم في المساجد جماعة الضلال كما قال بن مسعود رضي الله عنه
وفرض الجمعة على من وجبت عليه لا يحتاج فيه إلى دليل
ومما يوضح لك سقوط فرض الجماعة وأنها سنة وفضيلة لا فريضة قوله صلى الله عليه وسلم إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء فابدأوا بالعشاء (1)
رواه بن عمر وعائشة وأنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه ثابتة صحيحة
وقد ذكرنا الأسانيد بذلك في التمهيد
ومثله الرخصة لآكل الثوم في التخلف عن الجماعة
وقد مضى ذلك في موضعه من هذا الكتاب والحمد لله
وفيه الرخصة في التأخر عن شهود الجماعة لعذر العشاء
وأما الوعيد منه في إحراق بيوت المتخلفين عن الصلاة معه فهو كسائر الوعيد في الكتاب والسنة وليس من لم ينفذه مخلفا ولكنه محسن ذو عفو محمود على ذلك وليس مخلف الوعد كذلك
وقد بينا هذا المعنى في موضعه على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يتخلف عنه إلا متهم بالنفاق كما قال بن مسعود
وقد استدل من أجاز عقوبة العاصي في المال بهذا الحديث
وللعقوبة في المال موضع من كتابنا هذا وبالله تعالى التوفيق
141

وأما ضربه المثل صلى الله عليه وسلم بالعظم السمين والمرماتين الحسنتين فإنه أراد الشيء الحقير والنذر اليسير يقول لو علم أحدهم يعني المنافقين المتخلفين عنه أنه يجد في المسجد أقل شيء من عرض الدنيا لجاءه
وأما المرماتان فقيل هما السهمان وقيل هما حديدتان من حديد كانوا يلعبون بهما وهي ملس كالأسنة كانوا يثبتونهما في الأكوام والأعراض ويقال لهم فيما زعم بعضهم المداحي
وقال أبو عبيد يقال إن المرماتين ما بين ظلفي الشاة
قال وهذا حرف لا أدري ما هو ولا ما وجهه إلا أن هذا تفسيره
ويروي المرماتين بفتح الميم وكسرها وأحدها مرماة مثل مدحاة ومذكاة
ذكر ذلك الأحفش وغيره
258 وذكر مالك أيضا في هذا الباب حديثه عن أبي النضر عن بسر بن سعيد عن زيد بن ثابت أنه قال أفضل الصلاة صلاتكم في بيوتكم إلا الصلاة المكتوبة
هذا ذكر في جميع الموطآت موقوفا على زيد بن ثابت
وهو حديث مرفوع عن زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه صحاح
ويستحيل أن يكون مثله رأيا لأن الفضائل لا مدخل فيها للاجتهاد والقياس وإنما فيها التوقيف
ومن طرق هذا الحديث مرفوعا ما رواه جماعة عن موسى بن عقبة عن عمر بن سعيد عن زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أيها الناس صلوا في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة
وقد ذكرنا إسناده في التمهيد
ولم يذكر فيه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم
142

وهو عندي أولى بالصواب والله أعلم
وفي هذا الحديث تفسير لما قبلة من الأحاديث أنها في المكتوبات لا في النوافل
ويستدل بذلك على جماعة إلا في الفريضة
وقد مضى القول فيما سنه عمر رضي الله عنه في رمضان خاصة من التراويح
وفيه دليل على أن الانفراد بكل ما يعمله المؤمن من أعمال البر ويستره ويخفيه أفضل
ولذلك قال بعض الحكماء إخفاء العلم هلكة وإخفاء العمل نجاة
وقال الله عز وجل في الصدقات " وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم البقرة 271]
وإذا كانت النافلة في البيوت أفضل منها في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فما ظنك بها في غير ذلك الموضع إلى ما في صلاة المرء في بيته من اقتداء أهله به من بنين وعيال والصلاة في البيت نور له
وفقنا الله لما يرضى من القول والعمل آمين برحمته إنه ولي ذلك
((2 باب ما جاء في العتمة والصبح "
259 مالك عن عبد الرحمن بن حرملة الأسلمي عن سعيد بن المسيب أن رسول الله قال بيننا وبين المنافقين شهود صلاة العشاء والصبح لا يستطيعونها أو نحو هذا
وهذا الحديث هكذا في الموطأ مرسل وقد ذكرناه مسندا من طرق في التمهيد
وأما قوله فيه أو نحو هذا فإنما هو شك من المحدث
وقال فيه يحيى العشاء أو الصبح
وقال القعنبي وبن بكير وجمهور الرواة للموطأ عن مالك فيه صلاة العتمة والصبح على ما في ترجمة الباب
143

وفي ذلك جواز تسمية العشاء بالعتمة
وقد روي ذكر العتمة عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه ففي السنة اسم هذه الصلاة العتمة
وفي القرآن العشاء
قال الله عز وجل " ومن بعد صلاة العشاء النور 58]
وأما الأحاديث المسندة في معنى هذا الحديث فمنها ما رواه شعبة أو هشيم عن أبي بشر عن أبي عمير بن أنس عن عمومته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في صلاة الصبح والعشاء ما يشهدهما منافق (1 "
وقد ذكرنا الأسانيد بذلك في التمهيد
وروى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء الآخرة وصلاة الصبح ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا (2)
وقال بن عمر كنا إذا فقدنا الرجل في هاتين الصلاتين أسأنا به الظن العشاء والصبح
وقال شداد بن أوس من أحب أن يجعله الله من الذين يرفع الله بهم العذاب من أهل الأرض فليحافظ على هاتين الصلاتين في الجماعة صلاة العشاء وصلاة الصبح
وأسانيد هذه الأحاديث كلها في التمهيد
المعنى عندي في ذلك أنه من شهد هاتين الصلاتين في الجماعة فأحرى أن يواظب على غيرهما
وفي ذلك تأكيد في شهود الجماعة وأعلام من علامات أهل الفسق والنفاق المواظبة على التخلف عنهما في الجماعة من غير عذر والله أعلم
144

260 مالك عن سمي مولى أبي بكر عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بينما رجل يمشي بطريق إذ وجد غصن شوك على الطريق فأخره فشكر الله له فغفر له وقال الشهداء خمسة المطعون (1) والمبطون (2) والغرق (3) وصاحب الهدم (4) والشهيد في سبيل الله
هكذا في الموطأ عند يحيى في هذا الباب لم يزد على ما ترى
261 والذي يرويه القعنبي وبن بكير وأبو مصعب ومطرف وبن القاسم وسائر رواة الموطأ عن مالك في هذا الباب عن سمي مولى أبي بكر عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بينما رجل يمشي بطريق إذ وجد غصن شوك على الطريق فأخره فشكر الله له فغفر له
وقال الشهداء خمسة المطعون والمبطون والغرق وصاحب الهدم والشهيد في سبيل الله وقال لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا (5) عليه لاستهموا ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه ولو يعلمون ما في العتمة (6) والصبح لأتوهما ولو حبوا
وكلهم يروي في الموطأ عن مالك في باب النداء بهذا الإسناد قوله لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول إلى آخر الحديث كما رواه يحيى
وسقط ليحيى من هذا الباب قوله في الحديث ولو يعلم الناس ما في النداء إلى قوله لأتوهما ولو حبوا
145

ورواه في باب النداء وهذا اللفظ الآخر هو الذي ينبغي أن يكون في هذا الباب لا قصة الرجل الذي وجد غصن شوك بالطريق والخبر عن الشهداء
وهي ثلاثة أحاديث وقد جعلها بعضه رواة أبي هريرة أربعة
فالذي ينبغي أن يكون منها في هذا الباب قوله ولو يعلم الناس ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا ولم يقع ليحيى في هذا الباب
وقد ذكره في باب النداء مع قوله ولو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول على ما مضى في باب النداء
وفي هذا الحديث من الفقه الإعلام بأن نزع الأذى من الطريق من أعمال البر وأن أعمال البر تكفر السيئات وتوجب الغفران وتكسب الحسنات
وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى من الطريق (1) ما يشهد لما قلنا
وقد أوضحنا هذا المعنى في التمهيد والحمد لله
وأما قوله الشهداء خمسة فهكذا جاء في هذا الحديث
وقد جاء في غيره الشهداء سبعة على ما في كتاب الجنائز من الموطأ
وقد مضى القول في النداء وفضله وحكم الاستهام على الصف الأول في باب النداء من هذا الكتاب
ويأتي في كتاب الجنائز القول في المبطون والغرق والمطعون وسائر من ذكر معهم إن شاء الله تعالى
وأما قوله في هذا الحديث لو يعلمون ما في العتمة والصبح ففيه جواز تسمية العشاء بالعتمة
وهو معارض لحديث أبي سلمة عن بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم هذه إنما هي العشاء وإنما يسمونها العتمة لأنهم يعتمون بالإبل
146

وإسناد هذا الحديث ليس له من الطرق ما للأحاديث في تسمية العشاء بالعتمة
فجائز بالكتاب والسنة أن تسمى بالاسمين جميعا ولا أعلم خلافا اليوم بين فقهاء الأمصار في ذلك
وقد ذكرنا في التمهيد حديث هشام بن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال حوسب رجل فلم يوجد له من الخير إلا غصن شوك نحاه عن الطريق فغفر له تفسير لحديث سمي
وذكرنا أيضا في ذلك حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق صدقة (1) في حديث ذكرناه هناك بتمامه
262 وأما قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذا الباب لأن أشهد صلاة الصبح في جماعة أحب إلي من أن أقوم ليلة
263 وكذلك قول عثمان بن عفان في هذا الباب أيضا من شهد العشاء فكأنما قام نصف ليلة ومن شهد الصبح فكأنما قام ليلة
ففي ذلك دليل على أن أعمال الفرائض والسنن وإقامتها على وجوهها من النوافل والتطوع كله
147

وكذلك قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله أفضل الفضائل أداء الفرائض واجتناب المحارم
وهذا شيء لا خلاف فيه ولا يسغ جهله
وترتيب الفضائل عند العلماء الفرائض المتعينة كالصلوات الخمس وما أشبهها ثم ما كان فرضا على الكفاية كالجهاد وطلب العلم والصلاة على الجنائز والقيام بها
والصلاة في الجماعة قد قلنا إنها من هذا القسم أو من وكيد السنن
ثم السنن التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في جماعة كالعيدين والكسوف والاستسقاء وكل ما واظب عليه من النوافل كصلاة الليل والوتر وركعتي الفجر وما أشبه ذلك ثم سائر التطوع
فقف على هذا الأصل فإنه يشهد له سائر الأصول ويقوم عليه الدليل وبالله التوفيق
وقد روي حديث عثمان في هذا الباب مسندا حدثنا أحمد بن محمد بن أحمد قال حدثنا أحمد بن الفضل بن العباس قال حدثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي قال حدثنا أبو الربيع سليمان بن داود الزهراني قال حدثنا عمر بن عبد الرحمن الأبار عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء في جماعة تعدل قيام ليلة وصلاة الفجر في جماعة تعدل قيام نصف ليلة
هكذا قال في صلاة العشاء قيام ليلة وفي صلاة الفجر نصف ليلة وهو خلاف ما في الموطأ
((3 باب إعادة الصلاة مع الإمام))
264 ذكر فيه مالك عن زيد بن أسلم عن بسر بن محجن الديلي عن
148

أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له إذ لم يصل معه وجلس مجلسه ما لك لم تصل مع الناس ألست برجل مسلم قال بلى يا رسول الله ولكني قد صليت في أهلي
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جئت فصل مع الناس وإن كنت قد صليت
لم يختلف رواة الموطأ عن مالك في اسم هذا الرجل أنه بسر لا بشر بن محمد فإنه رواه عن مالك وقال فيه فقيل لمالك بسر فقال عن بسر أو بشر ثم حدثنا به بعد ذلك فقال عن بن محجن ولم يقل بسر ولا بشر
وروى الثوري هذا الحديث فقال فيه بشر بالشين المنقوطة في أكثر الروايات عن الثوري
وقال أحمد بن صالح المصري سألت جماعة من ولده أو رهطه فما اختلف علي منهم اثنان أنه بشر كما قال الثوري
وفي هذا الحديث وجوه من الفقه منها قوله صلى الله عليه وسلم للذي لم يصل معه ألست برجل مسلم فدل على أن من لم يصل ليس بمسلم ومن صلى الصلاة مواظبا عليه شهد له بالإسلام
ومنها أن من أقر بعمل الصلاة وإقامتها على ما يجب وكل إلى قوله وقبل منه لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبل من بن محجن الديلي قوله قد صليت في بيتي
وأجمع المسلمون على أن جاحد فرض الصلاة كافر يقتل إن لم يتب من كفره ذلك
واختلفوا في المقر بها وبفرضها التارك عمدا لعملها وهو على القيام بها قادر
فروى عن علي وبن عباس وجابر وأبي الدرداء تكفير تارك الصلاة قالوا من لم يصل فهو كافر
وعن عمر بن الخطاب لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة
وعن بن مسعود من لم يصل فلا دين له
وقال إبراهيم النخعي والحكم بن عتيبة وأيوب السختياني وعبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه من ترك صلاة واحدة متعمدا حتى يخرج وقتها لغير
عذر وأبي من أدائها وقضائها وقال لا أصلي فهو كافر ودمه وماله حلالان إن لم يتب ويراجع الصلاة ويستتاب فإن تاب وإلا قتل ولا ترثه ورثته من المسلمين وحكم ماله حكم مال المرتد إذا قتل على ردته
وبهذا قال أبو داود الطيالسي وأبو خيثمة زهير بن حرب وأبو بكر بن أبي شيبة
149

قال إسحاق هو رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى زماننا هذا
قال إسحاق وينتظر تارك الصلاة إذا أبى من أدائها وقضائها في استتابته حتى يخرج وقتها وخروج وقت الظهر بغروب الشمس وخروج وقت المغرب بطلوع الفجر
قال إسحاق وقد أجمع المسلمون أن من سب الله عز وجل أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم أو دفع شيئا مما أنزل الله تعالى أو قتل نبيا من أنبياء الله تعالى أنه كافر بذلك وإن كان مقرى بكل ما أنزل الله فكذلك تارك الصلاة حتى يخرج وقتها عامدا أبيا من قضائها وعملها وإقامتها
قال ولقد أجمعوا في الصلاة على شيء لم يجمعوا عليه في سائر الشرائع
قالوا من عرف بالكفر ثم رأوه يصلي الصلاة في وقتها حتى صلى صلوات كثيرة في أوقاتها ولم يعلموه أقر بلسانه أنه يحكم له بالإيمان ولم يحكموا له في الصوم والزكاة والحج بمثل ذلك
قال إسحاق ولقد كفر إبليس إذ لم يسجد السجدة التي أمر بسجودها
قال فكذلك تارك الصلاة
وقال أحمد بن حنبل لا يكفر أحد بذنب إلا تارك الصلاة عمدا
ثم ذكر استتابته وقتله
وحجة هؤلاء ومن ذهب مذهبهم ما روي من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم في تكفير تارك الصلاة
منها حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليس بين العبد وبين الكفر أو قال الشرك إلا ترك الصلاة (1)
وحديث بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر
150

وقوله صلى الله عليه وسلم من ترك الصلاة حبط عمله (1)
وحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم من ترك الصلاة حشر مع قارون وفرعون وهامان (2)
وحديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا فذلك المسلم (3)
وبآثار كثيرة في معنى هذه قد ذكرناها في التمهيد مع ما قدمنا عن الصحابة المذكورين من أقوالهم في هذا الباب
واحتج إسحاق في ذلك أيضا بحجج قد ذكرتها في التمهيد
وأما الشافعي رحمه الله فقال بقول الإمام لتارك الصلاة صل فإن قال لا أصلي سئل فإن ذكر علة بجسمه أمر بالصلاة على قدر طاقته فإن أبى من الصلاة حتى يخرج وقتها قلته الإمام
وإنما يستتاب ما دام وقت الصلاة قائما يستتاب في أدائها وإقامتها فإن أبى قتل وورثه ورثته
وهو قول مالك رحمه الله وأصحابه
قال بن وهب سمعت مالكا يقول من آمن بالله وصدق المرسلين وأبى أن يصلي قتل
وبه قال أبو ثور وهو قول مكحول وحماد بن زيد ووكيع
وكل هؤلاء إذا قتل أن لا يمنع ورثته من ميراثه لأنه لا يقتل على الكفر إن كان مقرى بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من التوحيد والشرائع ودين الإسلام ومقر بفرض الصلاة والصيام إلا أنه يأبى من أدائها وهو مقر بفرضها ومؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت
151

ومن حجة من ذهب هذا المذهب فعل أبي بكر الصديق رضي الله عنه في جماعة الصحابة لأنهم رجعوا إلى قوله حين قال له عمر كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال لا إله إلا الله عصم مني دمه وماله إلا بحقه وحسابه على الله
فقال أبو بكر من حقه الزكاة والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة
قال عمر فما هو إ لا أن سمعت ذلك منه فعلمت أن الله قد شرح صدره للحق (1)
فقاتل أبو بكر والصحابة معه مانعي الزكاة لما أبوا من أدائها إذ فرقوا بين الصلاة والزكاة فأقاموا الصلاة وامتنعوا عن الزكاة فمن أبى من إقامة الصلاة وامتنع منها كان أحرى بالقتل
ومعلوم أن هؤلاء من بين أهل الردة لم يكفروا بعد الإيمان ولا أشركوا بالله وقد قالوا لأبي بكر ما كفرنا بعد إيماننا ولكن شححنا على أموالنا
وذلك بين في شعر شاعرهم حيث يقول
(أطعنا رسول الله ما كان بيننا
* فيا عجبا ما بال ملك أبي بكر (2))
(فإن التي سألوكموا فمنعتموا
* لكالتمر أو أشهى إليهم من التمر)
وأما توريث ورثتهم منهم فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما ولي الخلافة رد إلى هؤلاء ما وجد من أموالهم قائما بأيدي الناس وكان أبو بكر قد سباهم كما سبى أهل الردة
وقال أهل السير إن عمر رضي الله عنه لما ولي أرسل إلى النسوة اللاتي كانوا المسلمون قد أحرزوهم من نساء مانعي الزكاة فيما أحرزوا من غنائم أهل الردة فخيرهن بين أن يمكثن عند من هن عنده بتزويج وصداق أو يرجعن إلى أهليهن بالفداء فاخترن أن يمكثن عند من هن عنده بتزويج وصداق
وكان الصداق الذي جعل لمن اختار أهله عشر أواقي لكل امرأة والأوقية أربعون درهما
152

ومن حجة مالك والشافعي في ذلك أيضا حديث أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال سيكون أمراء تعرفون وتنكرون فمن أنكر فقد بريء ومن كره فقد سلم ولكن من رضي وتابع قالوا يا رسول الله ألا نقاتلهم قال لا ما صلوا الخمس (1)
فدل أنهم لا يقاتلون ولا يقتلون إذا صلوا الخمس
ودل ذلك على أن من لم يصل الخمس قوتل وقتل
وقد ذكرنا الأسانيد بذلك في التمهيد
وقوله صلى الله عليه وسلم في مالك بن الدخشم أليس يصلي قالوا بلى ولا صلاة له
فقال أولئك الذين نهاني الله عنهم أو عن قتلهم
فدل على أنه لو لم يصل لم يكن من الذين نهاه الله عن قتلهم بل كان يكون من الذين أمره الله بقتلهم
وقال صلى الله عليه وسلم إني نهيت عن قتل المصلين (2)
فدل ذلك على أنه قد أمر بقتل من لم يصل كما نهى عن قتل من صلى وأنه لا يمنع من القتل إلا فعل الصلاة والله أعلم
قالوا فهذا كله يدل على القتل ولا يدل على الكفر
وتأولوا في الآثار التي ورد ظاهرها بتكفير تارك الصلاة ما تأولوا في زنى المؤمن وسرقته وشربه الخمر وانتهابه النهبة التي يرفع الناس إليه فيها رؤوسهم بقوله صلى الله عليه وسلم لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن (3) الحديث وما كان مثله وتفسيقه وسبابه والرغبة عن الآباء وضرب بعضهم رقاب بعض والحكم بغير ما أنزل الله وما كان مثل هذا
روى بن عيينة عن هشام بن حجر عن طاوس عن بن عباس أنه قال ليس بالكفر الذي تذهبون إليه إنه ليس بكفر ينقل عن الملة ثم تلا " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " [المائدة 44]
فلهذا كله وما كان مثله ورثوا من تارك الصلاة إذا قتلوه ورثته
وقد زدنا هذه المسألة بيانا بضروب من الشواهد في التمهيد
153

وقال إسماعيل القاضي لم ير مالك استتابة القدرية وسائر أهل الأهواء وقتلهم إن لم يتوبوا من جهة الكفر وإنما رأى قتلهم من جهة الفساد في الدين لأنهم أعظم فسادا من المحاربين
حدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن قال أخبرنا محمد بن القاسم بن شعبان قال حدثني علي بن سعيد قال حدثنا أبو رجاء سعيد بن حفص البخاري قال حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال حدثنا حماد بن زيد قال حدثنا عمرو بن مالك النكري عن أبي الجوزاء عن بن عباس ولا أظنه إلا رفعه قال عرى الإسلام ثلاث بني الإسلام عليها من ترك منهن واحدة فهو حلال الدم شهادة أن لا إله إلا الله والصلاة وصوم رمضان
قال بن عباس نجده كثير المال ولا يزكي فلا يكون بذلك كافرا ولا يحل دمه
ونجده كثير المال ولا يحج فلا يكون بذلك كافرا ولا يحل دمه
ومنها قوله ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن الحديث وما كان مثله
وفي تارك الصلاة قول ثالث قاله بن شهاب وغيره
روى شعيب بن أبي حمزة عن بن شهاب أنه سئل عن تارك الصلاة فقال إذا ترك الرجل الصلاة لأنه ابتدع دينا غير الإسلام قتل وإن كان إنما فعل ذلك فسقا ومجونا وتهاونا فإنه يضرب ضربا مبرحا ويسجن حتى يرجع
قال والذي يفطر في رمضان كذلك
قال أبو جعفر الطحاوي وهو قولنا وإليه ذهب جماعة من سلف الأمة منهم أبو حنيفة وأصحابه
قال أبو عمر يقول داود ومن اتبعه وحجة هؤلاء ومن قال بقولهم قوله صلى الله عليه وسلم خمس صلوات كتبهن الله على العباد ثم قال ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة
وقال صلى الله عليه وسلم لن يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة (1)
واحتجوا أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله
154

وإني رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها (1)
قالوا وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حقها فقال لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان أو قتل نفس بنفس (2) يعني قودا
وقد بسطنا هذه المسألة في التمهيد بسطا شافيا وذكرنا أقوال سائر أهل القبلة فيها والحمد لله
وفي هذا الحديث أيضا من الفقه أن من صلى في بيته ثم دخل المسجد فأقيمت عليه تلك الصلاة أنه يصليها معهم ولا يخرج حتى يصلي وإن كان قد صلى في جماعة أهله أو غيرهم
لأن في حديثنا في هذا الباب قوله بلى يا رسول الله ولكني قد صليت في أهلي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتيت فوجدت الناس يصلون فصل معهم وإن كنت قد صليت
واحتمل قوله صليت في أهلي أي في جماعة أهلي ويحتمل أن يكون صلى في بيته وحده
وقد اختلف العلماء في هذا المعنى فقال جمهور الفقهاء إنما يعيد الصلاة مع الإمام في الجماعة من صلى وحده في بيته وأهله أو في غير بيته
وأما من صلى في جماعة وإن قلت فإنه لا يعيد في جماعة أكثر منها ولا أقل وكل من صلى عندهم مع آخر فقد صلى في جماعة ولا يعيد في أخرى قلت أو كثرت ولو أعاد في جماعة أخرى لأعاد في ثالثة أو رابعة إلى ما لا نهاية له وهذا لا يخفي فساده
وممن قال بهذا القول مالك بن أنس وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم
155

ومن حجتهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تصلى صلاة في يوم مرتين
ومنهم من يقول لا تصلوا صلاة في يوم مرتين
رواه سليمان بن يسار عن بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكرنا إسناده في التمهيد
وحملوه على من صلى في جماعة لا يعيدها في جماعة
واستعملوا الحديثين جميعا كلا على وجهه
وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود بن علي جائز لمن صلى في جماعة ووجد جماعة أخرى في تلك الصلاة أن يعيدها معهم إن شاء لأنها نافلة وسنة
وقال بعضهم إذا كانت صلاة يجوز بعدها نافلة وروي مثل ذلك من إعادة الصلاة في جماعة لمن صلاها في جماعة عن حذيفة بن اليماني وأبي موسى الأشعري وأنس بن مالك وصلة بن زفر والشعبي والنخعي
وبه قال حماد بن زيد وسليمان بن حرب
وقد ذكرنا الأسانيد عنهم بذلك في التمهيد وذكرنا الحجة لهم وعليهم هناك والحمد لله
واتفق أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه على أن معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تصلوا صلاة في يوم مرتين أن ذلك أن يصلي الرجل صلاة مكتوبة عليه ثم يقوم بعد الفراغ منها فيعيدها على جهة الفرض أيضا
قالا وأما من صلى الثانية مع الجماعة على أنها له نافلة اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في أمره بذلك وقوله صلى الله عليه وسلم للذي أمرهم بإعادة الصلاة في جماعة إنها لكم نافلة فليس ذلك ممن أعاد الصلاة في يوم مرتين لأن الأولى فريضة والثانية نافلة
واختلف الفقهاء أيضا فيما يعاد من الصلوات مع الإمام لمن صلاها وحده
فقال قوم يعيد الصلوات كلها مع الإمام من صلاها وحده إلا الصبح والمغرب
265 ذكر مالك في الموطأ عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول من صلى المغرب أو الصبح ثم أدركهما مع الإمام فلا يعد لهما
156

وهو قول الأوزاعي والحسن البصري وسفيان الثوري
وقال مالك وأصحابه يعيد الصلوات كلها من صلاها وحده إلا المغرب وحدها
وهو قول أبي موسى الأشعري والنعمان بن مقرن وأبي مجلز وطائفة
روى حماد بن سلمة عن أبي عمران الجوني عن أنس بن مالك قال ضليت الفجر ثم أتيت المسجد فوجدت أبا موسى الأشعري يريد أن يصلي فجلست ناحية فلما صلى قال ما لك لم تصل قلت إني قد صليت قال إن الصلاة كلها تعاد إلا المغرب فإنها وتر صلاة النهار
وحماد عن حميد عن أنس عن الأشعري والنعمان بن مقرن مثله
وحماد عن عمران بن حدير عن أبي مجلز قال الصلوات كلها تعاد إلا المغرب فإنها وتر
وقال مالك تعاد الصلوات كلها إن صلاها وحده إلا المغرب وحدها فإنه لا يعيدها لأنها تصير شفعا
كذلك قال في موطأه
وفي رواية قال مالك ومن صلى في جماعة ولو مع واحد فإنه لا يعيد تلك الصلاة إلا أن يعيدها في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أو المسجد الحرام أو مسجد بيت المقدس
قال مالك فإن دخل الذي صلى وحده المسجد فوجد القوم جلوسا في آخر صلاتهم فلا يدخل معهم وإنما يدخل معهم من علم أنه يدري من صلاتهم ركعة بسجدتيهما
وقال أبو حنيفة وأصحابه لا يعيد المصلي وحده مع الإمام العصر ولا الفجر ولا المغرب ويعيد معه الظهر والعشاء ويجعل صلاته مع الإمام نافلة
قال محمد بن الحسن لأن النافلة بعد الصبح والعصر لا تجوز ولا تعاد المغرب لأن النافلة لا تكون وترا في غير الوتر
قال أبو عمر احتج بهذا بعض أصحابنا لمالك في قوله لا تعاد المغرب وهو أصح من قوله تكون شفعا
وقد تقدم القول في صلاة الليل مثنى مثنى وقوله لا وتران في ليلة وهو المعنى الذي نزع به محمد بن الحسن في المغرب
والعجيب من مالك رحمه الله يقول لأنها تصير شفعا وهو يحتج بقول بن
157

عمر لا فصل أفضل من السلام فكيف وبعد السلام مشي وعمل فكيف تنضاف مع ذلك صلاة إلى أخرى
وحجة من ذهب إلى قول بن عمر والأوزاعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بعد العصر ركعتين فيما ذكرت عائشة وقد روي عنها أنها قالت ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين بعد العصر في بيتي قط
وقالت أم سلمة ركعهما بعد العصر حين شغله الوفد عنهما قبل العصر
وقد ذكرنا هذه الآثار فيما سلف من كتابنا فرأى بن عمر إعادة العصر لهذا ولأنه المذهب الذي كان يذهب إليه في النهي عن الصلاة بعد العصر أنه عند اصفرار الشمس وعند الطلوع وعند الغروب
وقد ذكرنا مذهبه في ذلك والحجة له في باب النهي عن الصلاة بعد الصبح والعصر فيما تقدم من هذا الكتاب والحجة له ولغيره في المغرب ما ذكرنا في هذا الباب والحمد لله
وقال الشافعي من صلى وحده أعاد صلاته مع الجماعة إذا وجدها وأمكنته في تلك الصلاة والصلوات كلها في ذلك سواء لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمحجن الديلي إذا جئت فصل مع الناس وإن كنت قد صليت ولم يخص صلاة من صلاة ولم يذكر عصرا ولا مغربا ولا صبحا
قال والأولى هي الفريضة والثانية تطوع سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سن الوتر والعيدين وغيرهما
وهو قول داود بن علي في إعادة الصلوات كلها في جماعة لأنه يرى الصلاة في الجماعة فرضا على ما تقدم عنه
واختلف عن الثوري فروي عنه أنه يعيد الصلوات كلها مع الإمام كقول الشافعي
وروي عنه مثل قول مالك سواء
ولا خلاف عن الثوري أن الأولى فريضة والثانية تطوع
وقال أبو ثور يعيدها كلها إلا الصبح والعصر إلا أن يكون في مسجد فتقام الصلاة فلا يخرج حتى يصليها
وحجته حديث أبي هريرة أنه رأى رجلا خارجا من المسجد إذا أقيمت الصلاة فقال أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم ونهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح
158

266267 267 وذكر مالك في هذا الباب أيضا عن نافع عن بن عمر وعن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب بمعنى واحد أن سائلا سال كل واحد منهما قال له إنه يصلي في بيته ثم يأتي المسجد فيجد الناس يصلون أيصلي معهم فقالا نعم قال السائل فأيتهما أجعل صلاتي فقالا ذلك إلى الله تعالى يجعلها أيتها شاء
وذكر أصحاب مالك عن مالك أن هذا مذهبه لا يدري أي الصلاتين فلايضة ولا أيتهما هي النافلة وإنما ذلك إلى يجعلها أيتهما شاء
هذه جملة حكاها أصحابه عنه لم يختلفوا عنه في ذلك واختلفوا عنه في مسائل تدل على المراد من ذلك واختلفت أجوبة أصحابه في تلك المسائل
منها الرجل يحدث في الثانية مع الإمام
ومنها أن يذكر أن الأولى كانت على غير وضوء
ومنها أن يسقط من إحداهما سجدة ناسيا ولا يدري من أيتها أسقطها بما ذكرناه في كتاب اختلاف مالك وأصحابه
والذي يتحصل عليه مذهبه عندي ما ذكره بن وهب في موطأه عن مالك قال قال مالك من أحدث في صلاته مع الإمام فصلاته في بيته هي صلاته
وقد روى بن أبي ذئب عن عثمان بن عبد الله بن سراقة قال سألت عبد الله بن عمر عن رجل صلى العصر ثم أعادها في جماعة أيتهما المكتوبة قال الأولى
وهذه رواية عن بن عمر ظاهرها مخالف لما ذكره مالك عنه في الموطأ في قوله ذلك إلى الله لأنه في رواية بن أبي ذئب قطع بأن الأولى هي المكتوبة والثانية نافلة
وفي رواية مالك شك فلم يدر أيتهما صلاته إلا أنه ممكن أن تكون الأولى وممكن أن تكون الثانية
159

والنظر عندي يوجب أن تكون رواية مالك متقدمة لأنه لم يبن له حينئذ أيتهما صلاته ثم بان له بعد أن الأولى صلاته فانصرف من شكه إلى يقين علمه ومحال أن ينصرف من يقينه إلى شك فدل ذلك على أن قوله الأولى هي المكتوبة قد بان له فأفتى به
فإن قيل كيف يكون عنده الأولى المكتوبة والثانية نافلة في العصر ولا نافلة بعد العصر
قيل معلوم عن بن عمر أن التنفل بعد العصر جائز عنده ومذهبه أن العصر والظهر والعشاء تعاد عنده دون المغرب والصبح لمن صلى وحده
وقد ذكرنا في التمهيد الروايات عن بن عمر في ذلك بالأسانيد
واختلف في ذلك أيضا عن سعيد بن المسيب كما اختلف عن بن عمر
فروى همام عن قتادة قال قلت لسعيد بن المسيب إذا صليت وحدي ثم أدركت الجماعة فقال أعد غير أنك إذا أعدت المغرب فاشفع بركعة واجعل صلاتك وحدك تطوعا
قال أبو عمر هذا شيء لا يعرف وجهه كيف يشفع المغرب بركعة وتكون الأولى تطوعا وقد أجمع العلماء على أن المغرب إذا نوى بها الفريضة لم يشفعها بركعة
وما أظن الحديث والله أعلم إلا والأولى فرضه فإن صح ما ذكرناه عنه وهم من قتادة أو ممن دونه في الإسناد
وقد ذكرنا الإسناد في التمهيد
وقد كان جماعة من العلماء يضعفون أشياء من حديث قتادة عن سعيد بن المسيب
وأما قول بن عمر وسعيد ذلك إلى الله فقد تأول فيه قوم منهم بن الماجشون وغيره أن ذلك في القبول كأنه قال أيتهما يتقبل الله مني فقالا له ذلك إلى الله لأنه قد يتقبل النافلة دون الفريضة ويتقبل الفريضة دون النافلة على حسب النية في ذلك والإخلاص مع أنه تعالى يتفضل على من يشاء من عباده بما شاء من رحمته
وعلى هذا التأويل لا يتدافع قول من قال إن الفريضة هي الأولى مع قوله ذلك إلى الله تعالى
160

وقد أجمع مالك وأصحابه على أن من صلى في بيته وحده أنه لا يؤم في تلك الصلاة غيره
وهذا يوضح لك أن الأولى هي عندهم الفريضة على هذا جماعة أهل العلم
حتى لقد قال إبراهيم النخعي من صلى صلاة وحده وقصد بذلك أداء فرضه وكتبت الملائكة الحفظة ذلك لم يستطع أحد أن يرده إلى نافلة أو نحو ذلك هذا معنى قوله
واختارت طائفة من أصحاب مالك أن تكون الثانية فرضه لأنها صلاة جماعة ويأمرونه ألا يدخل مع الإمام إلا بنية الفرض
وتأولوا في قوله صلى الله عليه وسلم للذين أمرهم أن يعيدوا الصلاة مع الإمام فإنها لكم نافلة قالوا نافلة ها هنا بمعنى فضيلة
واحتجوا بقول الله عز وجل " ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة الأنبياء 72] أي فضيلة
وكذلك تأولوا في قول الله تعالى " ومن اليل فتهجد به نافلة لك الإسراء 79] أي فضيلة
قالوا وإنما لم يؤم في تلك الصلاة أحدا لأنا لا ندري أي الصلاتين صلاته حقيقة فاحتطنا ألا يؤم أحدا خوفا من أن يكون الثانية تطوعا فيأتم به فيها من هي فريضته
268 وأما حديثه في هذا الباب عن عفيف بن عمرو السهمي عن رجل من بني أسد أنه سأل أبا أيوب الأنصاري فقال إني أصلي في بيتي ثم آتي المسجد فأجد الإمام يصلي أفأصلي معه فقال أبو أيوب نعم صل معه فإن من صنع ذلك له سهم جمع أو مثل سهم جمع
فقد رواه بن وهب عن عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج أنه سمع عفيف بن عمرو يقول حدثني رجل من أسد بن خزيمة انه سأل أبا أيوب الأنصاري فقال أحدنا يصلي في منزله الصلاة ثم يأتي المسجد فتقام الصلاة فيصلي معهم فقال أبو أيوب سألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له بذلك سهم جمع
161

ولو استدل مستدل على سقوط فرض الجماعة وأنها مستحبة وسنة لا فريضة بهذه لآثار كلها وما كان مثلها عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم عن أصحابه فإنهم لم يقولوا لأحد ممن سألهم في إعادة الصلاة مع الإمام وقد صلى وحده بئس ما فعلت إذ صليت وحدك وكيف تصلي وحدك ولا صلاة لمن صلى وحده بل جميعهم سكت له عن ذلك وندبة إلى إعادة الصلاة للفضل لا لغيره والله يمن على من يشاء بفضله وتوفيقه
وما قوله سهم جمع فقال بن وهب يضعف له الأجر
قال أبو عمر هذا التأويل أشبه عندي من قول من قال إن الجمع هنا الجيش وإن له أجر الغازي وأجر الغزاة في سبيل الله وإن ذلك مأخوذ من قوله تعالى " فلما ترءا الجمعان الشعراء 61] يعني الجيشين وقول بن وهب في ذلك أصوب
وقد ذكرنا في التمهيد الخبر عن المنذر بن الزبير أنه أوصى في وصيته فقال لفلان كذا ولفلان كذا ولفلان سهم جمع
قال مصعب بن عبد الله فسألت عبد الله بن المنذر ما يعني بسهم جمع قال نصيب رجلين
وهذا يشهد لما قاله بن وهب وهو المعروف عن فصحاء العرب والله أعلم
((4 باب العمل في صلاة الجماعة "
269 ذكر فيه مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا صلى أحدكم بالناس فيخفف فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء
في هذا الحديث أوضح الدلائل على أن أئمة الجماعة يلزمهم التخفيف لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بذلك
ولا يجوز لهم التطويل لأن في الأمر لهم بالتخفيف نهيا عن التطويل
وقد بان في هذا الحديث العلة الموجبة للتخفيف وهي عندي غير مأمونة على
162

أحد من أئمة الجماعة لأنه وإن علم قوة من خلفه فإنه لا يدري ما يحدث لهم من آفات بني آدم
ولذلك قال فإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء لأنه يعلم من نفسه ما لا يعلم من غيره
وقد يحدث للظاهر القوة ومن يعرف منه الحرص على طول الصلاة حادث من شغل وعارض من حاجة وآفة من حدث بول أو غيره
فينبغي لكل إمام أن يخفف جهده إذا أكمل الركوع والسجود
قال أنس بن مالك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخف الناس كلهم صلاة في تمام (1)
ولحديث أنس هذا طرق كثيرة وقد ذكرت بعضها في التمهيد
ومن التمام ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن نفر الغراب (2)
وقال اعتدلوا في ركوعكم وسجودكم (3)
ونظر إلى رجل لم يتم ركوعه ولا سجوده فقال له ارجع فصل فإنك لم تصل
163

وقال صلى الله عليه وسلم لا ينظر الله عز وجل إلى من لا يقيم صلبه في ركوعه وسجوده (1)
وعنه صلى الله عليه وسلم قال لا تجزئ صلاة امرئ لا يقيم فيها صلبه في ركوعه وسجوده (2)
وقد ذكرنا الآثار بذلك كله في التمهيد
وقد أنكر العلماء على أبي حنيفة فيمن صار من الركوع إلى السجود ولم يرفع رأسه أنه يجزئه وقالوا هذا قول مخالف للسنة ولعلماء الأمة
حدثنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب النسائي عن إسماعيل بن مسعود عن خالد عن شعبة عن قتادة قال سمعت أنسا يحدث عن رسول الله قال اعتدلوا في الركوع والسجود (3)
وروى عبد الحكم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم اعتدلوا في الركوع والسجود
حدثنا أحمد بن قاسم وعبد الوراث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا يعلى بن عبيد قال حدثني عبد الحكم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اعتدلوا في الركوع والسجود والله إني لأراكم من خلفي كما أراكم من بين يدي (4)
وقد قال بن القاسم من رفع رأسه من السجود فلم يعتدل جالسا أو من الركوع فلم يعتدل قائما حتى سجد أو حتى خر راكعا فليستغفر الله ولا يعد ولا شيء عليه في صلاته
وهذا مضارع لقول أبي حنيفة إلا أن بن القاسم قال من لم يرفع رأسه من الركوع فلا يعتد بتلك الركعة
وهو قول مالك أنه قال من لم يرفع رأسه ويعتدل في ركوعه وسجوده ويقم في ذلك صلبه لم تجزئه صلاته
164

وعلى هذا جماعة فقهاء الأمصار منهم أبو يوسف ومحمد والثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وداود والطبري
وذكر بن عبد الحكم عن مالك في ترك الاعتدال رخصة فقال عنه إذا رفع الإمام رأسه من الركوع ولم يعتدل قائما ثم أهوى ساجدا قبل أن يعتدل فإنه تجزئه صلاته
والقول بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وتلقاه الجمهور بالقبول أولى من كل ما خالفه وبالله التوفيق
حدثنا عبد الله قال حدثنا محمد قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أبو حفص بن عمر النمري قال حدثنا شعبة عن سليمان الأعمش عن عمارة بن عمير عن أبي مسعود البدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهرة في الركوع والسجود (1)
وقد تقدم في هذا الكتاب أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل الذي لم يتم ركوعه وسجوده بالإعادة وقال له ارجع فصل فإنك لم تصل (2)
وكذلك فعل حذيفة بن اليماني برجل رآه لم يتم ركوعه وسجوده وقال له لو مت على هذا مت على غير ملة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وعلى هذا جماعة أهل العلم فيمن لم يقم صلبه من ركوعه وسجوده
إلا أن ما بعد قيام الصلب والاعتدال عندهم من الطمأنينة والمكث قليلا ليس من الواجب ولكنه من الكمال
وكذلك العمل عندهم في الأئمة والتخفيف على ما وصفنا لا يختلفون في ذلك لما وصفنا من الآفات والضعف والحاجات
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وأبي مسعود الأنصاري وعثمان بن أبي العاص أنه قال صلى الله عليه وسلم من أم الناس فليخفف فإن فيهم السقيم والكبير وذا الحاجة
165

هذا معنى حديثهم وقد ذكرنا الأسانيد بذلك عنهم في التمهيد
وروى أبو قتادة الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إني لأقوم في الصلاة فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي مخافة أن أفتن أمه (1)
وروى أبو هريرة وأنس عنه النبي صلى الله عليه وسلم معنى حديث أبي قتادة
وروى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاذ إذ شكاه بعض قومه أنه يطول بهم أفتان أنت يا معاذ اقرأ بسبح اسم ربك الأعلى ونحوها (2)
وقد ذكرنا ذلك كله في مواضع من التمهيد والحمد لله
قرأت على أبي القاسم أحمد بن فتح قال حدثنا محمد بن عبد الله بن زكريا النيسابوري بمصر قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن يونس قال حدثنا يوسف بن سعيد بن مسلم قال حدثنا حجاج عن بن جريج عن بن عجلان قال حدثني بكير بن عبد الله بن الأشج قال حدثني معمر بن أبي حيية عن عبيد الله بن عدي بن الخيار عن عمر بن الخطاب أنه قال أيها الناس لا تبغضوا الله إلى عباده فقال قائل منهم وكيف قال يكون الرجل إماما للناس يصلي بهم فلا يزال يطول عليهم حتى يبغض إليهم ما هم فيه
270 مالك عن نافع أنه قال قمت وراء عبد الله بن عمر في صلاة من
166

الصلوات وليس معه أحد غيري فخالف عبد الله بيده فجعلني حذاءه عن يمينه (1)
قال أبو عمر هذا من فعل بن عمر سنة وإجماع فالسنة ما رواه بن عباس وغيره في ذلك
روى الحميدي عن بن عيينة عن عمرو بن دينار أنه أخبره قال أخبرني كريب أنه سمع بن عباس يقول بت عند خالتي ميمونة فقام النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ فصنعت مثل ذلك ثم جئت فقمت عن يساره فأخلفني فجعلني عن يمينه فصلى ما شاء الله ثم نام (2)
ولا خلاف بين العلماء أن هذه سنة مع إمام وحده أن يقوم عن يمينه فإن كان مع الإمام ثلاثة رجال سواه فالسنة المجتمع عليها أيضا أن يقوموا خلفه لا خلاف بين علماء الأمة في ذلك
واختلفوا إذا كان مع الإمام اثنان
فقالت طائفة يقوم الإمام بينهما روي ذلك عن بن مسعود
ويه قال جماعة من فقهاء الكوفة
وقال آخرون حكم الاثنين كحكم الثلاثة لا يقومون إلا خلفه كذلك حكم الاثنين في أكثر أحكام الصلاة حكم الجماعة
وإلى هذا ذهب مالك والشافعي في حكم الرجلين مع الإمام أنهما يقومان خلفه ولا يقوم بينهما
وأجمع العلماء أيضا أن من صلى بامرأة لا تقوم المرأة إلا خلفه ولا تقوم عن يمينه بخلاف الرجل وسيأتي حكم ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى
271 وذكر مالك في هذا الباب أيضا عن يحيى بن سعيد أن رجلا كان يؤم الناس بالعقيق فأرسل إليه عمر بن عبد العزيز فنهاه
قال وإنما نهاه لأنه كان لا يعرف أبوه
قال أبو عمر هذه عندهم كناية كالتصريح لأنه كان ولد زنا فكره عمر بن عبد العزيز رحمه الله أن ينصب مثله إماما لأنه خلق من نطفة خبيثة وقد
167

روي أنه شر الثلاثة كما يعاب من حملت به إن كانت حائضا أو من سكران وإن كان هو في ذلك كله لا ذنب له
وقد يحتمل أن يكون نهاه عن التعرض للإمامة لأنه فيها كمال وجمال حال بنفس صاحبها ويحسد عليها
فمن كان لغير رشده وطلب ذلك فقد عرض نفسه للقول فيه وجعله غرضا للألسنة وأثار على نفسه من كان سكت عنه لو لم يضر في حاله تلك والله أعلم
واختلف الفقهاء في إمامة ولد الزنى فقال مالك أكره أن يكون إماما راتبا
قال وشهادته جائزة في كل شيء إلا في الزنى فإنها لا تجوز
وهو قول الليث بن سعد
وقال سفيان الثوري والأوزاعي لا بأس بأن يؤم ولد الزنى
وقال أبو حنيفة وأصحابه غيره أحب إلينا
وقال الشافعي أكره أن ينصب إماما لأن الإمامة موضع فضل وتجزئ من صلى خلفه صلاتهم وتجزيه
وقال عيسى بن دينار لا أقول بقول مالك في إمامة ولد الزنى وليس عليه من ذنب أبويه شيء
وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم لا أكره إمامة ولد الزنى إذا كان في نفسه أهلا للإمامة
قال أبو عمر ليس في شيء من الآثار الواردة في شرط الإمامة في الصلاة ما يدل على مراعاة نسب وإنما فيه الدلالة على الفقه والقراءة والصلاح في الدين
((5 باب صلاة الإمام وهو جالس
*))
272 مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو شاك جالسا وصلى وراءه قوم قياما فأشار إليهم
168

أن اجلسوا فلما انصرف قال إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا
273 مالك عن بن شهاب عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب فرسا فصرع عنه (1) فجحش شقه الأيمن (2) الحديث
فيه ركوب الخيل لأهل الدين والفضل والتقلب عليها لما في ذلك من العزة والعون على جهاد العدو
وقد روى ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب فرسا لأبي طلحة عريا في حين فرغ أهل المدينة لخيل أغار بها عيينة بن حصن أو ابنه عبد الرحمن على لقاح المدينة ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لن تراعوا لن تراعوا
ثم قال في الفرس لقد وجدته بحرا أو إن وجدناه لبحرا (3)
وهو مذكور بإسناده في التمهيد
وأما قوله جحش شقه فهو بمعنى خدش شقه وقد قيل الجحش فوق الخدش وحسبك أنه من أجله لم يقدر أن يصلي قائما فصلى قاعدا
169

وأما قوله في الحديث إنما جعل الإمام ليؤتم به فقد أجمع العلماء على أن الائتمام واجب على كل إمام بإمامه في ظاهر أفعاله الجائزة وأنه لا يجوز خلافه لغير عذر
وقد روى معن بن عيسى في الموطأ عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه
ولا أعلم أحدا رواه عن مالك من رواة الموطأ بهذا الإسناد غير معن بن عيسى وفيه فلا تختلفوا عليه وليس في حديث بن شهاب وهشام بن عروة قوله فلا تختلفوا عليه
وقد رواه عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
واختلف العلماء في صلاة ما كانت نيته فيها خلاف نية إمامه
فقال مالك وأصحابه لا تجزئ أحد أن يصلي الفريضة خلف المتنفل ولا يصلي عصرا خلف من يصلي ظهرا ومتى اختلفت نية الإمام والمأموم في الفريضة بطلت صلاة المأموم دون الإمام وكذلك من صلى فرضه خلف المتنفل
وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري وقول أكثر التابعين بالمدينة والكوفة
وحجتهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما جعل الإمام ليؤتم به فمن خالف في نيته فلم يأتم به
وقال فلا تختلفوا عليه ولا اختلاف أشد من اختلاف النيات التي عليها مدار الأعمال
واعتلوا في قصة معاذ برواية عمرو بن يحيى عن معاذ بن رفاعة الزرقي عن رجل من بني سلمة أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تطويل معاذ بهم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تكن فتانا إما أن تصلي معي وإما أن تحفف على قومك (1)
قالوا وهذا يدل على أن صلاته بقومه كانت فريضته وكان متطوعا بصلاته مع النبي صلى الله عليه وسلم
قالوا وصلاة المتنفل خلف من يصلي الفريضة جائزة بإجماع العلماء على ذلك
170

وقال الشافعي والأوزاعي وداود والطبري وهو المشهور عن أحمد بن حنبل يجوز أن يقتدي في الفريضة بالمتنفل وأن يصلي الظهر خلف من يصلي العصر فإن كل مصل يصلي لنفسه وله ما نواه من صلاته فالأعمال بالنيات
ومن حجتهم أن قالوا إنما أمرنا أن نأتم بالإمام فيما يظهر إلينا من أفعاله فأما النية فمغيبة عنها ومحال أن نؤمر باتباعه فيما يخفى من أفعاله علينا
قالوا وفي الحديث نفسه ما يدل على ذلك أنه قال إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا
وقد ذكرنا في التمهيد من زاد في هذا الحديث وإذا كبر فكبروا وإذا سجد فاسجدوا
ولم تختلف الرواية فيه في قوله وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا فعرفنا أفعاله التي نأتم به فيها صلى الله عليه وسلم بما يقتدى فيه بالإمام وهي أفعاله إليهم من التكبير والركوع والسجود والقيام والقعود ففي هذا قيل لهم لا تختلفوا عليه
قالوا ومن الدليل على صحة هذا التأويل حديث جابر من نقل الأئمة في قصة معاذ إذ كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ينصرف فيؤم قومه في تلك الصلاة التي صلاها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي له نافلة ولهم فريضة
ولا يوجد من نقل من يوثق به أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له إما أن تجعل صلاتك معي وإما أن تخفف بالقوم
وهذا لفظ منكر لا يصح عن أحد يحتج بنقله ومحال أن يرغب معاذ عن الصلاة الفريضة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاته مع قومه وهو يعلم فضل ذلك وفضل صلاة الفريضة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفه صلى الله عليه وسلم
والدليل على صحة هذا التأويل أيضا قوله صلى الله عليه وسلم إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة (1)
فنهى أصحابه وسائر أمته أن يشتغلوا بنافله إذا أقيمت المكتوبة فكيف يظن بمعاذ أن يترك صلاة لم يصلها بعد ولم يقض ما افترض عليه في وقتها ويتنفل وتلك تقام في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وهو صلى الله عليه وسلم قد قال لهم لا صلاة إلا المكتوبة التي تقام
171

وقد روى بن جريج عن عمرو بن دينار عن جابر أن معاذا كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ثم ينصرف إلى قومه فيصلي بهم هي له تطوع ولهم فريضة
وهذا نص في موضع الخلاف
قال بن جريج وحدثت عن عكرمة عن بن عباس أن معاذا فذكر مثله سواء
وأما قوله في حديث مالك في هذا الباب وإذا صلى قائما فصلوا قياما فهذا كلام خرج على صلاة الفريضة وهذا ما لا خلاف فيه
وقد أجمع العلماء على جواز صلاة الجالس خلف الإمام القائم في النافلة فدل على ما ذكرنا إلا أن المصلي جالسا في النافلة وهو قادر على القيام نصف أجر المصلي فيها
قائما
وأجمع العلماء على أن القيام في الصلاة المكتوبة فرض واجب لقول الله عز وجل " وقوموا لله قنتين " [البقرة 238] فلا يجوز لأحد أن يصلي مكتوبة قاعدا وهو قادر على القيام
واختلفوا في المأموم الصحيح يصلي قاعدا خلف إمام مريض لا يستطيع القيام
فأجازت ذلك طائفة من أهل العلم اتباعا لهذا الحديث وما كان مثله في قوله صلى الله عليه وسلم وإذا صلى جالسا يعني من عذر فصلوا جلوسا أجمعون
روي هذا من طرق عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وبن عباس وبن عمر وأنس وجابر بأسانيد صحاح
وممن قال بأن الإمام إذا صلى جالسا لمرض أصابه صلى الناس خلفه جلوسا وهم أصحاء قادرون على القيام حماد بن زيد وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه أخذا بحديث مالك هذا وما كان مثله واتباعا له
وإليه ذهب بعض أصحاب الظاهر
وقال أحمد بن حنبل وفعله أربعة من الصحابة بعده أسيد بن حضير وقيس بن قهد وجابر بن عبد الله وأبو هريرة
قال أبو عمر قد ذكرنا الأسانيد بذلك عنهم في التمهيد
وقال جمهور العلماء لا يجوز لأحد أن يصلي شيئا من الصلوات المكتوبات جالسا وهو صحيح قادر على القيام لا إماما ولا منفردا ولا خلف إمام
ثم اختلفوا فمنهم من أجاز صلاة القائم خلف القاعد كلا يؤدي فرضه على
172

قدر طاقته للحديث الذي فيه صلاة أبي بكر وهو قائم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قاعد في مرضه الذي مات فيه والناس قيام خلفه مع أبي بكر
ويأتي بعد هذا الباب إن شاء الله تعالى
وممن قال بهذا الشافعي وأبو ثور وأبو حنيفة وأبو يوسف وداود بن علي
وقد روى الوليد بن مسلم عن مالك أنه أجاز للإمام المريض أن يصلي بالناس جالسا وهم قيام
قال وأحب إلي أن يقوم بجنبه من يعلم الناس بصلاته
وهذه الرواية غريبة عن مالك عند أصحابه
وقال بن القاسم لا يأتم القائم بالجالس في فريضة ولا نافلة ولا بأس أن يأتم الجالس بالقائم
قال ولا ينبغي لأحد أن يؤم أحدا في فريضة ولا نافلة قاعدا فإن عرض له ما يمنعه من القيام استخلف
واحتج بن القاسم في ذلك بأن قال حدثني مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وهو مريض وأبو بكر يصلي بالناس فجلس إلى جنب أبي بكر فكان أبو بكر هو الإمام وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بصلاة أبي بكر وقال ما مات نبي حتى يؤمه رجل من أمته
قال بن القاسم قال مالك والعمل عندنا على حديث ربيعة هذا وهو أحب إلي
قال سحنون بهذا الحديث يأخذ بن القاسم وليس في الموطأ أن أبا بكر كان الإمام وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مؤتما والذي في الموطأ خلاف هذا أن أبا بكر كان يصلي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر وهو قائم والناس قيام ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس
وذكر أبو مصعب في متخصره عن مالك قال لا يؤم الناس أحد قاعدا فإن أمهم قاعدا فسدت صلاته وصلاتهم
قال فإن كان الإمام عليلا تمت صلاته وفسدت صلاة من خلفه
قال ومن صلى قاعدا من غير علة أعاد الصلاة
فعلى رواية أبي مصعب هذه عن مالك تجب الإعادة على من صلى قائما خلف إمام مريض جالس في الوقت وبعده
173

وقد روي عن مالك أنهم يعيدون في الوقت خاصة
وذلك والله أعلم لحديثه عن هشام بن عروة عن أبيه أن أبا بكر كان يصلي بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس وأبو بكر إلى جنبه قائم والناس قيام يصلون بصلاة أبي بكر
ولما رواه في غير الموطأ عن ربيعة أن أبا بكر كان المقدم وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بصلاته فلما رأى الاختلاف في ذلك احتاط فرأى الإعادة في الوقت لأن كلا قد أدى فرضه على حسب حاله
وقد احتج محمد بن الحسن لقوله ومذهبه في هذا الباب بالحديث الذي ذكر أبو المصعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يؤم أحد بعدي قاعدا
وهو حديث لا يصح عند أهل العلم بالحديث إنما يرويه جابر الجعفي عن الشعبي مرسلا وجابر الجعفي لا يحتج بما يرويه مسندا فكيف بما يرويه مرسلا
وأما قول محمد بن الحسن وأصحابه في هذا الباب فإنه قال إذا صلى الرجل لمرض به جالسا يركع ويسجد ولا يطيق إلا ذلك بقوم قيام يركعون ويسجدون فإن صلاته جائزة وصلاتهم باطلة وإن كان خلفه أحد جالسا لا يطيق القيام فحكمه حكم الإمام صلاته جائزة وصلاة من خلفه من قائم أو جالس يطيق القيام باطل وعليهم الإعادة
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف صلاة القائمين خلفه جائزة
وهو قول زفر
واتفق أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد في أن الإمام لو كان ممن لا يقدر إلا على الإيماء ولا يقدر على الجلوس ولا الركوع ولا السجود جالسا فاقتدى به في الإيماء قوم قيام يركعون ويسجدون لم تجزهم صلاتهم وأجزأت الإمام صلاته وكان زفر يقول تجزئهم صلاتهم لأنهم صلوا على فرضهم وصلى إمامهم على فرضه
274 وذكر مالك أيضا في هذا الباب عن هشام بن عروة عن أبيه أن
174

رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في مرضه (فأتى) فوجد أبا بكر وهو قائم يصلي بالناس فاستأخر أبو بكر فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كما أنت فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب أبي بكر فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الناس يصلون بصلاة أبي بكر
هذا مرسل في الموطأ وقد وصله حماد بن سلمة وبن نمير وأبو أسامة فرووه عن هشام عن أبيه عن عائشة وقد ذكرنا ذلك في التميهد
وفي الحديث ما يدل على أن قوله صلى الله عليه وسلم في الإمام وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا منسوخ لأن هذا الفعل كان سنة في علته التي مات منها صلى الله عليه وسلم
وقوله الأول كان إذ صرع عن فرس فجحش شقه فصلى في بيته صلاة من الصلوات يعني المكتوبات جالسا وأشار إلى من خلفه أن يجلس وأمرهم أن يصلوا جلوسا إذا صلى إمامهم جالسا
وفي هذا الحديث أن أبا بكر والناس كانوا قياما خلفه وهو قاعد فلم يشر إليهم بالجلوس ولا نهاهم عن فعلهم ذلك فعلم أن هذا ناسخ لما قبله
فإن قيل إنه قد اختلف عن عائشة في حديثها هذا فروى عنها أن أبا بكر كان المقدم وروى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو الإمام المتقدم في تلك الصلاة
قيل وليس هذا باختلاف لأنه قد يجوز أن يكون أبو بكر المقدم في وقت ورسول الله صلى الله عليه وسلم المقدم في وقت آخر لأن مرضه كان أياما خرج فيها مرارا
وقد روى الثقات الحفاظ أن أبا بكر كان خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدا وأبو بكر قائم والناس قيام
وقد ذكرنا الآثار بذلك من الطرق الصحاح في كتاب التمهيد في باب مرسل هشام بن عروة والحمد لله
وقد روى شعبة عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت من الناس من يقول كان أبو بكر المقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم من يقول كان رسول الله صلى الله عليه وسلم المقدم بين يدي أبي بكر
وأكثر أحوال حديث عائشة في هذا الباب (عند المخالف أن يجعل متعارضا فلا يوجب حكما) وإذا كان (ذلك) كذلك لم يحتج بشيء منه ورجعنا إلى حديث بن عباس فإنه لم يختلف فيه عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في مرضه يهادي بين رجلين فانتهى إلى أبي بكر وهو يؤم الناس فجلس إلى أبي بكر وأخذ من الآية التي انتهى
175

إليها أبو بكر فجعل أبو بكر يأتم بالنبي صلى الله عليه وسلم والناس يأتمون بأبي بكر
وقد ذكرنا خبر بن عباس هذا من طرق في التمهيد فأوضحنا معناه هناك وأخبرنا عن العلة الموجبة لقيام أبي بكر وقيام الناس معه بعد أن كان هو الإمام في أول تلك الصلاة وأنهما لم يكونا إمامين في صلاة واحدة كما زعم من أراد إبطال الحديث بذلك وأن ذلك إنما كان لأن الإمام يحتاج أن يسمع من خلفه تكبيره ويظهر إليهم أفعاله وكانت حال رسول الله صلى الله عليه وسلم من مرضه حال من يضعف عن ذلك فأقام أبا بكر إلى جنبه لينوب عنه في إسماع الناس التكبير ورؤيتهم لخفضه ورفعه ليقتدوا به في حركاته وهو جالس والناس وأبو بكر وراءه قيام
وصحت بذلك النكتة التي بان فيها أن صلاة القائم خلف الإمام المريض جائزة وأن قوله فصلوا جلوسا منسوخ
وقد بينا أن ما روي عنه صلى الله عليه وسلم لا يؤمن أحد بعدي قاعدا منكر باطل لا يصح من جهة النقل
وكذلك حديث ربيعة عن النبي صلى الله عليه وسلم منقطع لا يصح أيضا ولا يحتج بمثله على الآثار الثابتة الصحاح من نقل الأئمة وبالله التوفيق
وهذه المسألة فيها للعلماء أقوال أحدها قول أحمد بن حنبل ومن تابعه تجوز صلاة الصحيح جالسا خلف الإمام المريض جالسا لقوله صلى الله عليه وسلم وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا
والثاني قول الشافعي وأبي حنيفة وأبي يوسف وزفر والأوزاعي وأبي ثور وداود جائز أن يقتدى القائم بالقاعد في الفريضة وغيرها لأن على كل واحد أن يصلي كما يقدر عليه ولا يسقط فرض القيام عن المأموم الصحيح لعجز إمامه عنه
وقد روى الوليد بن مسلم عن مالك مثل ذلك
والثالث قول مالك في المشهور عنه وعن أصحابه أنه ليس لأحد أن يؤم جالسا وهو مريض بقوم أصحاء قيام ولا قعود
وهو مذهب محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة فإن صلوا قياما خلف إمام مريض جالس فعليهم عند مالك الإعادة قيل عنه في الوقت وقيل أبدا
قال سحنون اختلف قول مالك في ذلك ومن أصحاب مالك من قال يعيد الإمام المريض معهم وأكثرهم على أنهم يعيدون دونه
وقال مالك والحسن بن حي والثوري ومحمد بن الحسن في قائم اقتدى
176

بجالس أو جماعة صلوا قياما خلف إمام جالس مريض إنها تجزيه ولا تجزيهم
واختلف أصحاب مالك في إمامة المريض بالمرضى جلوسا كلهم فأجازها بعضهم وهو قول جمهور الفقهاء وكرهها أكثرهم وهو قول بن القاسم ومحمد بن الحسن
وأما قوله في حديث مالك عن بن شهاب عن أنس في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم وإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا فإنه يدل على أن عمل المأموم يكون بعقب عمل الإمام وبعده فلا فصل لقوله إذا ركع وهذا يقتضي ركوعه
وكذلك يقتضي قوله وإذا رفع رفعه فإذا حصل من الإمام الركوع والرفع والسجود فعل المأموم بعده
واختلف قول مالك في ذلك فروي عنه أن عمل المأموم كله مع عمل الإمام ركوعه وسجوده وخفضه ورفعه ما خلا الإحرام والتسليم فإنه لا يكون ذلك إلا بعد عمل الإمام وبعقبه
وروي عنه مثل ذلك أيضا ما خلا الإحرام والقيام من اثنتين والسلام
وكان شيخنا أبو عمر (رحمه الله) يذهب إلى الرواية الأولى ورأيته مرات لا أحصيها كثرة يقوم مع الإمام في حين قيامه من اثنتين قبل اعتداله وقبل تكبيره ولا يراعي اعتداله وتكبيره وكان يقول هي أصح عن مالك قياسا على سائر حركات البدل في الصلاة أنها يكون فيها عمل المأموم مع عمل الإمام إلا ما يبتدئ به منها الإمام
وقد روي عن مالك أيضا أن الأحب إليه في هذه المسألة أن يكون عمل المأموم بعد عمل الإمام وبعقبه في كل شيء
وقد ذكرت في التمهيد حديث أبي موسى الأشعري أنه علم أصحابه الصلاة وسننها فقال في الحديث وإذا كبر وركع فكبروا واركعوا فإن الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم وقال قال نبي الله صلى الله عليه وسلم فتلك بتلك
177

وقال أبو بكر الأثرم سمعت أحمد بن حنبل يسأل متى يكبر من خلف الإمام ومتى يركع فذكر الحديث إذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا ثم قال يتبعه في كل شيء يصنعه كلما فعل شيئا فعله بعده
وهو معنى قول الشافعي
وأما قوله في حديث بن شهاب عن أنس أيضا في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد فإنه يقتضي ما قاله مالك ومن قال بقوله في ذلك إن الإمام يقتصر على قول سمع الله لمن حمده دون أن يقول ربنا ولك الحمد وإن المأموم يقتصر على قول ربنا ولك الحمد دون أن يقول سمع الله لمن حمده
وهو حجة على من قال يقول الإمام سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد كما يقول المنفرد وإن المأموم كذلك يقول أيضا
ولا أعلم خلافا أنه المنفرد يقول سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد أو ولك الحمد
وإنما اختلفوا في الإمام والمأموم فقالت طائفة من أهل العلم إنما يقول الإمام سمع الله لمن حمده فقط ولا يقول ربنا ولك الحمد
وممن قال ذلك أبو حنيفة ومالك وأصحابهما والليث بن سعد
وحجتهم ظاهر حديث بن شهاب عن أنس هذا وما مثله
وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن والشافعي وأحمد بن حنبل يقول الإمام سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد كما يقول المنفرد
178

وحجتهم حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن أبي أوفى فكلهم حكى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد
وقال الشافعي ويقول الإمام أيضا سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد كما يقول الإمام والمنفرد لأن الإمام إنما جعل ليؤتم به
وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري وأحمد بن حنبل لا يقول المأموم سمع الله لمن حمده وإنما يقول ربنا ولك الحمد فقط
وحجتهم حديث بن شهاب هذا عن أنس حديث هذا الباب وحديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله
وفي هذا الحديث أيضا دليل على ما اختاره مالك من قوله ربنا ولك الحمد بالواو
ذكره بن القاسم وغيره عنه
وحكى الأثرم قال سمعت أحمد بن حنبل ثبت الواو في ربنا ولك الحمد وقال روى الزهري فيه ثلاثة أحاديث أحدها عن أنس والثاني عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة والثالث عن سالم عن أبيه (يعني حديث رفع اليدين) وقال في حديث علي (رضي الله عنه) اللهم ربنا ولك الحمد بالواو
والله الموفق للصواب لا رب غيره
((6 باب فضل صلاة القائم على صلاة القاعد))
275276 276 ذكر فيه مالك عن حديث (عبد الله بن) عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريقين أحدهما عن إسماعيل بن محمد بن سعد والثاني عن بن شهاب مرسلا عن (عبد الله بن) عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صلاة القاعد مثل نصف صلاة القائم
179

وفي حديث بن شهاب تفسير لحديث إسماعيل بقوله فيه خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس وهم يصلون في سبحتهم قعودا يعني في نافلتهم
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الأمراء المؤخرين للصلاة عن ميقاتها صلوا الصلاة لوقتها واجعلوا صلاتكم معهم سبحة (1) يعني نافلة
وهذه اللغة في السبحة أن المراد بها النافلة معروفة في الصحابة مشهورة وهم أهل اللسان
فدل هذا على أن المعنى الذي خرج عليه الحديث صلاة النافلة
وأوضح ذلك الإجماع الذي لا ريب فيه فإن العلماء لم يختلفوا أنه لا يجوز لأحد أن يصلي منفردا أو إماما قاعدا فريضته التي كتبها الله عليه وهو قادر على القيام فيها وأن من فعل ذلك ليس له صلاة وعليه إعادة ما صلى جالسا فكيف يكون له أجر نصف القائم وهو آثم عاص لا صلاة له
وقد تقدم ما للعلماء في معنى قوله في الإمام المريض يصلي قاعدا بقوم أصحاء إذا صلى جالسا فصلوا جلوسا
وأجمعوا أن فرض القيام في الصلاة على الإيجاب لا على التخيير
قال الله عز وجل " وقوموا لله قنتين " [البقرة 238]
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنفل جالسا فبان بهذا أن النافلة جائز أن مثل نصف يصليها إن شاء قاعدا ومن شاء قائما إلا أن القاعد فيها على مثل أجر القائم
وهذا كله لا خلاف فيه والحمد لله
وقد أوضحنا الآثار بمعنى ما قلنا في التمهيد في باب مرسل بن شهاب وباب إسماعيل أيضا
والدليل على أن القيام يسمى قنوتا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سئل أي الصلاة أفضل قال طول القنوت (2) يعني طول القيام لا خلاف نعلمه عند أحد في ذلك
180

واختلف العلماء في كيفية صلاة القاعد في النافلة وصلاة المريض
وسنذكره في الباب بعد هذا إن شاء الله تعالى وبالله التوفيق
((7 باب صلاة القاعد في النافلة))
ذكر فيه مالك ثلاثة أحاديث مسندة أحدها 277 عن بن شهاب عن السائب بن يزيد عن المطلب بن أبي وداعة السهمي عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في سبحته قاعدا قط حتى كان قبل وفاته بعام فكان يصلي في سبحته قاعدا ويقرأ بالسورة فيرتلها (1) حتى تكون أطول من أطول منها
في هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتكلف في علم النافلة ما كان أعظم أجرا فلما شق عليه القيام الطويل دخل فيما أباح الله له
وفيه دليل على أن السبحة اسم لصلاة النافلة وإن كان في اللغة جائزا أن تسمى كل صلاة سبحة بدليل قول الله عز وجل * (فلولا أنه كان من المسبحين) * [الصافات 143]
قالوا من المصلين
ولكن اسم السبحة بالسنة وقول الصحابة لزم النافلة دون غيرها والله أعلم
وقد أوضحنا ذلك بالشواهد في التمهيد
وقوله فيه فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها يعني إذا لم ترتل الأخرى وهز فيها
وفي ذلك دليل على أن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ترتيلا لا هزا
وبذلك أمره الله (عز وجل) فقال * (ورتل القرآن ترتيلا) * [المزمل 4]
والترتيل التمهل والترسل الذي يقع منه التدبر
181

278 والثاني حديثه عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها أخبرته أنها لم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الليل قاعدا قط حتى أسن (1) فكان يقرأ قاعدا حتى إذا أراد أن يركع قام فقرأ نحوا من ثلاثين أو أربعين آية ثم ركع
والمعنى في هذا الحديث نحو المعنى في الذي قبله إلا أن في هذا رد قول من قال لا يكون المصلي في بعض صلاته قاعدا وفي بعضها قائما
والذي عليه جمهور العلماء فيمن افتتح صلاة النافلة قاعدا أنه لا بأس أن يقوم فيها ويقرأ بما أحب على ما في الحديث وما كان مثله
واختلفوا فيمن افتتحها قائما ثم قعد فقال مالك والثوري وأبو حنيفة والشافعي ويجوز أن يقعد فيها كما يجوز له أن يفتتحها قاعدا
وقال الحسن بن حي وأبو يوسف ومحمد يصلي قائما ولا يجلس إلا من ضرورة لأنه افتتحها قائما
وقال بن جريج قلت لعطاء افتتحت الصلاة قائما فركعت ركعة وسجدت ثم قمت أفأجلس إن شئت بغير ركوع ولا سجود قال لا
وهذا يدل من قول عطاء أنه من صلى ركعة بسجدتيها قائما كان له أن يقعد في الثانية ما لم يقف فيها فإن قام فيها لم يجلس كما قال أبو يوسف
فأما المريض فقال أبو القاسم في المريض يصلي مضطجعا أو قاعدا ثم يخفف عنه المرض ويجد القوة أنه يقوم فيما بقي من صلاته ويبني على ما مضى منها
وهو قول الشافعي وزفر والطبري
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد فيمن صلى مضطجعا ركعة ثم إنه يستقبل الصلاة من أولها ولو كان قاعدا يركع ويسجد
182

ثم صح بنا في قول أبي حنيفة ولم يبن في قول محمد
وقال أبو حنيفة وأصحابه إذا افتتح الصلاة قائما ثم صار إلى حال الإيماء يبني
وروي عن أبي يوسف أنه يستقبل
وقال مالك في المريض الذي لا يستطيع الركوع ولا السجود وهو يستطيع القيام والجلوس أنه يصلي قائما ويومئ إلى الركوع فإذا أراد السجود جلس فأومأ إلى السجود
وهو قول أبي يوسف وقياس قول الشافعي
وقال أبو حنيفة وأصحابه يصلي قاعدا
وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما إذا صلى مضطجعا تكون رجلاه ما يلي القبلة مستقبل القبلة
وقال الشافعي والثوري يصلي على جنبه ووجهه إلى القبلة
وجائز ذلك أيضا عند مالك
وأما اختلاف العلماء في كيفية صلاة القاعد في النافلة وصلاة المريض
فذكر بن عبد الحكم عن مالك في المريض أنه يتربع في قيامه وركوعه فإذا أراد السجود تهيأ للسجود فيسجد على قدر ما يطيق وكذلك المتنفل قاعدا
وقال الثوري يتربع في حال القراءة والركوع ويثنى رجليه في حال السجود فيسجد
وهذا نحو مذهب مالك أيضا وكذلك قال الليث
وقال الشافعي يجلس المتنفل في صلاته كلها كجلوس التشهد
هذه رواية المزني عنه
وقال البويطي عنه يصلي متربعا في موضع القيام
وقال أبو حنيفة وزفر يجلس كجلوس الصلاة في التشهد وكذلك يركع ويسجد
وقال أبو يوسف ومحمد يكون متربعا في حال القيام وحال الركوع
وقد روي عن أبي يوسف أنه يتربع في حال القيام ويكون في حال ركوعه وسجوده كجلوس التشهد
183

وكل هذه الأقوال قد رويت عن السلف من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين رحمهم الله وذكرتها في التمهيد
279 والثالث حديثه عن عبد الله بن يزيد المدني وعن أبي النضر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي جالسا فيقرأ وهو جالس فإذا بقي من قراءته قدر ما يكون ثلاثين أو أربعين آية قام فقرأ وهو قائم ثم ركع وسجد ثم صنع في الركعة الثانية مثل ذلك
وليس في هذا الحديث معنى غير ما تقدم في الحديثين اللذين قبله إلا أن قول عائشة فيه كان يصلي جالسا تعني في النافلة لولا ما تقدم عنها في الحديثين اللذين قبله أن ذلك لم يكن منه حتى أسن وضعف عن القيام وكان ذلك منه قبل وفاته بعام لكان ظاهره يقضي بصلاة النافلة جالسا على كل حال
280 وأما قوله في هذا الباب أنه بلغه أن عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب كانا يصليان النافلة وهما محتبيان (1)
فقد روى معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب أنه كان يحتبى في آخر صلاته
ذكره عبد الرزاق عن معمر
وذكر عن الثوري عن بن أبي ذئب عن الزهري عن بن المسيب مثله قال فإذا أراد أن يسجد ثنى رجله وسجد
قال معمر ورأيت عطاء الخرساني يحتبي في الصلاة التطوع
وقال ما أراني أخذته إلا عن سعيد بن المسيب
ومعمر عن أيوب عن بن سيرين أنه كان يصلي في التطوع محتبيا
184

وكان عمر بن عبد العزيز يصلي جالسا محتبيا فقيل له في ذلك فقال بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى كان أكثر صلاته وهو جالس
نجز الجزء الثاني بحمد الله وعونه وصلى الله على محمد رسوله وعبده وعلى آله وصحبه وذريته وأهل بيته وسلم تسليما كثيرا وذلك في العشر الأول من شعبان المكرم سنة ست وستمائة فرحم الله كاتبه وكاسبه والقارئ فيه ومن دعا لهم بالرحمة والمغفرة ولجميع المسلمين أجمعين آمين آمين والحمد لله رب العالمين بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على النبي محمد وآله وسلم تسليما
((8 باب الصلاة الوسطى))
281 مالك عن زيد بن أسلم عن القعقاع بن حكيم عن أبي يونس مولى عائشة أم المؤمنين أنه قال أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا وذكر الحديث وفيه فأملت علي حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين قالت عائشة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم
282 وعن زيد بن أسلم عن عمرو بن رافع أنه قال كنت أكتب مصحفا لحفصة أم المؤمنين رضي الله عنها بمثل معناه قال قالت (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين)
ولم يرفع حديث حفصة إلى النبي صلى الله عليه وسلم
وفي هذا الحديث دليل على صحة مذهب من ذهب إلى أن القرآن نسخ منه ما ليس في مصحفنا اليوم
ومن قال بهذا يقول إن النسخ على ثلاثة أوجه في القرآن
أحدها نسخ الخط والتلاوة والرسم مبينا ولا يعرف ولا يقرأ إلا أنه ربما رويت منه أشياء على سبيل الرواية لا يقطع شيء منها على الله تعالى
185

وذلك نحو ما جاء في الحديث أنه كان يقرأ لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم (1)
وقوله لو أن لابن آدم واديا من ذهب لابتغى إليه ثانيا ولا يملأ جوف بن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب (2)
ومنها أيضا قوله بلغوا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا (3)
وهذا من حديث مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك أنه قال أنزل في الذين قتلوا ببئر معونة قرآن قرأناه ثم نسخ بعد بلغوا قومنا وذكره
ومنها قول عائشة كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات ثم نسخت بخمس معلومات (4)
ومن هذا قول من قال إن سورة الأحزاب كانت نحوا من سورة البقرة والأعراف (5)
وقد روى مالك عن أبي بن كعب وبن عباس وعمرو بن دينار
وقد ذكرنا ذلك بالأسانيد عنهم في التمهيد واتسعنا هذا المعنى هناك والحمد لله
186

والوجه الثاني أن ينسخ خطه ويبقى حكمه نحو قول عمر بن الخطاب قد قرأنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الشيخ والشيخة إذا زنيا فأرجموهما البتة الحديث على ما ذكر في التمهيد وغيره
ومن هذا قوله وصلاة العصر عند من ذهب إلى هذا
والوجه الثالث أن ينسخ حكمه ويبقى خطه يتلى في المصحف وهذا كثير نحو قوله " والذين يتوفون منكم ويذرون أزوجا وصية لأزوجهم متعا إلى الحول غير إخراج البقرة 240] نسختها " يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا البقرة 234] وهو من الناسخ والمنسوخ والمجتمع عليه
وقد أنكر قوم أن يكون قوله وصلاة العصر من باب الناسخ والمنسوخ وقالوا إنما هو من معنى السبعة أحرف التي أنزل القرآن عليها وخير رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وقال صلى الله عليه وسلم كلها أنزلت فاختار الصحابة في زمن عثمان لما خافوا على من دخل في الدين من سائر الناس غير العرب (أن يلحنوا فيه فجمعوا " الناس عليه وهو حرف زيد بن ثابت
وسنبين ذلك في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل القرآن على سبعة أحرف (1 "
فمن الأحرف السبعة التي هي في معنى وصلاة العصر قراءة عمر (بن الخطاب) وعبد الله بن مسعود فامضوا إلى ذكر الله
وقراءة بن مسعود فلا جناح عليه ألا يطوف بهما
وقراءة أبي بن كعب (وبن عباس و) أما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين
وقراءة بن مسعود فلما خر تبينت الإنس أن لو كان الجن يعلمون (الغيب ما لبثوا) في العذاب المهين
ومثل هذا كثير قد جمعه جماعة من علماء هذا الشأن
187

وقد أنكر آخرون أن يكون (شيء) من القرآن (إلا ما بين لوحي) مصحف عثمان بن عفان
وقد ذكرنا أقوالهم ووجوهها في التمهيد
وفي هذا الحديث دليل على أن الصلاة الوسطى ليست صلاة العصر لقوله فيه وصلاة العصر
وهذه الواو تسمى الفاصلة لأنها فصلت بين الصلاة الوسطى وبين صلاة العصر
وقد ذكرنا حديث حفصة مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم حسب حديث عائشة في ذلك في التمهيد من طرق
وقد رواه حماد بن زيد عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن حفصة قال نافع فرأيت الواو فيها
على أنه قد روي أيضا في حديث حفصة حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر بلا واو
وقد ذكر أيضا في التمهيد
ولم يختلف في حديث (عائشة عن) النبي صلى الله عليه وسلم وإنما الاختلاف في حديث حفصة وفي رفعه وفي ثبوت الواو فيه
وقد قال بعض من ذهب إلى أن الصلاة الوسطى صلاة العصر دخول الواو في قوله تعالى صلاة العصر وخروجها وسقوطها منه وثبوتها فيه سواء المعنى فيه حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر
واحتج في ذلك برواية من رواها كذلك حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر
وقد ذكرنا الرواية بذلك في التمهيد
واستشهد في ذلك بقول الشاعر
(إلى الملك القرم وبن الهما م وليث الكتيبة في المزدحم (1)) يريد الملك القرم بن الهمام ليث الكتيبة
لأنه إنما أراد هو دون أبيه
188

قال ومن هذا المعنى قول تعالى " فيهما فكهة ونخل ورمان الرحمن 68]
والمعنى فاكهة نخل ورمان
ومنه أيضا قوله تعالى " من كان عدوا لله وملئكته ورسله وجبريل وميكل " [البقرة 98]
والمعنى وملائكته جبريل وميكائيل
وقد خولف هذا القائل في ما ادعاه
ومن هذا المعنى بما قد ذكرناه في غير موضع والحمد لله
وأما اختلاف العلماء في الصلاة الوسطى فقالت طائفة الصلاة الوسطى صلاة الصبح
283 ذكر مالك في موطأه أنه بلغه عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنهما كانا يقولان الصلاة الوسطى صلاة الصبح
وهذا صحيح عن بن عباس من وجوه صحاح ثابتة عنه وغير صحيح عن علي
ولا يوجد هذا القول في الصلاة الوسطى عن علي إلا من طريق حسين بن عبد الله بن ضميرة عن أبيه عن جده ضميرة بن أبي ضميرة عن علي (رضي الله عنه "
وحسين هذا متروك الحديث مجمع على ضعفه
روى حديث حسين هذا عنه إسماعيل بن أبي أويس ويحيى بن يحيى الأندلسي وغيرهما
والمحفوظ المعروف عن علي أنها صلاة العصر
وسنذكر هذا عنه فيما بعد إن شاء الله
وإنما قول بن عباس في الصلاة الوسطى أنها صلاة الصبح فمعلوم عنه ذلك من طرق كثيرة
(منها) ما حدثناه إسماعيل بن عبد الرحمن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن شعبان قال حدثنا الحسين بن محمد بن الضحاك قال حدثنا أبو مروان العثماني قال حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن ثور بن زيد الديلي عن عكرمة عن بن عباس أنه كان يقول الصلاة الوسطى صلاة الصبح تصلى في سواد من الليل وبياض من النهار وهي أكثر الصلاة تفوت الناس
189

وذكره إسماعيل بن إسحاق عن إبراهيم بن حمزة عن الدراوردي بإسناده مثله
قال إسماعيل وحدثنا (به) محمد بن أبي بكر قال حدثنا عبد الله بن جعفر عن ثور بن زيد عن عكرمة عن بن عباس مثله
قال إسماعيل وحدثنا إبراهيم بن حمزة أيضا وعلي بن المدني قالا حدثنا عبد العزيز بن محمد قال حدثني زيد بن أسلم قال سمعت بن عمر يقول الصلاة الوسطى صلاة الصبح
قال إسماعيل يدل على قول بن عباس وبن عمر من ذلك قول الله (عز وجل) * وقرءان الفجر إن قرءان الفجر كان مشهودا " [الإسراء 78] فخصت صلاة الصبح بهذا النص مع أنها منفردة بوقتها (لا يشاركها غيرها في هذا الوقت) ولا تجمع مع غيرها في سفر ولا حضر فدل على أنها الوسطى والله أعلم
قال أبو عمر قد اختلف عن بن عمر في هذا
وعن عائشة أيضا قد روي عنها الصبح وروي عنها العصر
وكذلك اختلف عن بن عباس في أنها الصبح والعصر جميعا إلا أن الرواية عنه أنها الصبح من رواية أهل المدينة وهي أثبت عنه عندنا والله أعلم
وممن قال إنها صلاة الصبح طاوس وعطاء ومجاهد
وبه قال مالك وأصحابه
وقال آخرون الصلاة الوسطى صلاة الظهر روي ذلك عن زيد بن ثابت وهو أثبت ما روي عنه في ذلك
وروي (ذلك) أيضا عن بن عمر وعائشة وأبي سعيد الخدري على اختلاف عنهم أنها الظهر
وروي ذلك أيضا عن عبد الله بن شداد وعروة بن الزبير
وقد ذكرنا الطرق بذلك عن زيد بن ثابت في التمهيد
284 وهو عند مالك عن داود بن الحصين عن بن يربوع المخزومي عن زيد بن ثابت
190

وقال إسماعيل من قال إنها الظهر ذهب إلى أنها وسط النهار أو لعل بعضهم روى في ذلك أثرا فاتبعه
وقال آخرون الصلاة الوسطى صلاة العصر
وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه عنه جماعة من أصحابه منهم علي رضوان الله عليه وغيره رواه عن علي يحيى بن الجزار وشتير بن شكل وزر بن حبيش والحارث
والأحاديث عنه في ذلك صحاح ثابتة أسانيدها حسان
ذكر إسماعيل قال أخبرنا محمد بن أبي بكر قال حدثنا يحيى وعبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن عاصم عن زر قال قلت لعبيدة سل عليا عن الصلاة الوسطى فسأله قال كنا نراها الفجر حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الخندق شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا
هذا لفظ أحدهم عن علي (رضي الله عنه) عن النبي صلى الله عليه وسلم
وقد ذكرنا ذلك في التمهيد
وممن قال إنها العصر علي بن أبي طالب روي ذلك عنه من وجوه
وأبو أيوب الأنصاري وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري على اختلاف عنه وعن عائشة على اختلاف عنها
وهو قول عبيدة السلماني والحسن البصري ومحمد بن سيرين والضحاك بن مزاحم وسعيد بن جبير
وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم وأكثر أهل الأثر
وروي عن بن عباس خلاف الرواية الأولى
وقد ذكرناها في التمهيد وذكرنا الطرق عن علي وعائشة وبن عمر وأبي سعيد وبن عباس بالاختلاف عنهم
واحتج من قال إنها العصر بقوله صلى الله عليه وسلم الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله
191

فخصها بالذكر والتأكيد
كما قال تعالى " حفظوا على الصلوات والصلاة الوسطى البقرة 238] تأكيدا لها وتعظيما والله أعلم
واحتج أيضا بحديث زيد بن أرقم قال كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت " حفظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قنتين " [البقرة 238] فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام (1 "
قالوا فهذا زيد بن أرقم يذكر أن الآية هكذا أنزلت ليس فيها وصلاة العصر وهو الثابت بين الوحيين بنقل الكافة
أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بكر بن حماد
وحدثنا عبد الله بن محمد بن أسد قال حدثنا بكر بن محمد بن العلاء القشيري قال حدثنا زياد بن الخليل قالا حدثنا إسماعيل بن خالد عن الحارث بن شبيل عن أبي عمرو الشيباني عن زيد بن أرقم قال كنا نتكلم في الصلاة يكلم أحدنا صاحبه في حاجته حتى نزلت هذه الآية " حفظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قنتين " فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام (2)
ومما يؤكد أنها العصر حديث عمارة بن رويبة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها حرمه الله على النار (3)
وهذا الحض بين يقتضي صلاة الصبح وصلاة العصر
والاختلاف القوي في الصلاة الوسطى إنما هو في هاتين الصلاتين وما روي في الصلاة الوسطى في غير الصبح والعصر ضعيف لا تقوم به حجة
192

وقد روى عاصم عن أبي رزين عن بن عباس * (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب) * [ق 39] قال الصلاة المكتوبة يعني الصبح والعصر
وبه قال قتادة وغيره
وقال آخرون الصلاة الوسطى صلاة المغرب
روى ذلك عن قبيصة بن ذؤيب وقال ألا ترى أنها ليست بأقلها ركعات ولا أكثرها وأنها لا تقصر في السفر وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤخرها عن وقتها ولم يعجلها
قال أبو عمر كل ما ذكرنا قد قيل فيما وصفنا والله أعلم بمراده من قوله ذلك تبارك اسمه
وكل واحدة من الخمس وسطى لأن قبل كل واحدة منها صلاتين فهي وسطى والمحافظة على جميعهن واجب وبالله التوفيق
((9 باب الرخصة في الصلاة في الثوب الواحد))
285 ذكر فيه مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عمر بن أبي سلمة أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد مشتملا به في بيت أم سلمة واضعا طرفيه على عاتقيه
286 وذكر فيه أيضا عن بن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن سائلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في ثوب واحد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكلكم ثوبان
(لم يختلف في لفظهما و) إسنادهما عن مالك وهما ثابتتان عند الجميع
والصلاة في الثوب الواحد للرجل جائز لا خلاف فيه (وكل ثوب ستر العورة
193

والفخذين من الرجل جازت الصلاة) فيه وإن كان الاختيار له عند العلماء التجمل بالثياب في الصلاة إن قدر (على ذلك)
(وقال الأخفش الاشتمال) هو أن يلتف الرجل بردائه أو بكسائه من رأسه إلى قدميه برد طرف الثوب الأيمن (على منكبه الأيسر فهذا هو الاشتمال)
قال والتوشح هو أن يأخذ طرف الثوب الأيسر من تحت يده اليسرى فيلقيه على (منكبه الأيمن ويلقي طرف الثوب الأيمن من) تحت يده اليمنى على منكبه الأيسر
قال فهذا هو التوشح الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى في ثوب واحد متوشحا به
وأما حديثه عن بن شهاب فلم يختلف رواة الموطأ عن مالك في (إسناد هذا الحديث ولا متنه وقد ذكرنا من رواه عن) بن شهاب في التمهيد
وقد أجمع العلماء على أن من صلى مستور العورة (فلا إعادة عليه وإن كانت امرأة فكل ثوب يغيب ظهور) قدميها ويستر جميع جسدها إذا سترت شعرها فجائز لها (الصلاة فيه لأنها كلها عورة إلا الوجه والكفين على هذا أكثر) أهل العلم
وسيأتي القول مستوعبا فيما يجزئ المرأة من (الثياب في الصلاة في الباب التالي لهذا الباب)
وأما الرجل فإن أهل العلم يستحبون أن يكون (على عاتق الرجل ثوب إذا لم يكن متزرا) في صلاته ويستحبون لكل من قدر على جميل الثياب يتجمل بها في صلاته كما يفعل في جمعته من سواكه وطيبه
وقد ذكرنا في التمهيد حديث بن عمر إذ رأى نافعا مولاه يصلي في ثوب واحد فقال له ألم أكسك ثوبين قال قلت بلى قال أرأيت لو أرسلتك إلى فلان أكنت تذهب في ثوب واحد قلت لا قال فالله أحق من تزين له أم الناس قلت بل الله ثم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد أحدكم ثوبين فليصل فيهما (1)
وفي قوله صلى الله عليه وسلم أو لكلكم ثوبان دليل على أن من كان معه ثوبان فيتزر بالواحد ويلبس الآخر أنه حسن أن يصلي فيهما معا
وإنما قلنا إن ذلك حسن وليس واجبا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد صلوا في ثوب واحد ومعهم ثياب
194

وذلك عندي تعليم منهم لمن يأخذ الدين عنهم وقبول لرخصة الله تعالى فيما رخص عنه من دينه
وهذا يغني عن إعادة القول في
287 حديث أبي هريرة حيث يقول إني لأصلي في ثوب واحد وإن ثيابي لعلى المشجب (1) جوابا منه لمن سأله عن الصلاة في الثوب الواحد
288 وكذلك القول في حديث جابر أنه كان يصلي في الثوب الواحد
289 وحديث محمد بن عمرو بن حزم أنه كان يصلي في القميص الواحد
290 وكذلك أعلى ذلك ما رواه مالك عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم من لم يجد ثوبين فليصل في ثوب واحد ملتحفا به وأن كان قصيرا فليتزر به
وهذا بين فمن وجد ثوبين أن يصلي فيهما
وقد استحب مالك لمن صلى في ثوب واحد أنه يجزيه إذا ستر منه عورته
والاختيار التجمل بالثياب في الصلاة فهي من الزينة
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه جمع امرؤ عليه ثيابه صلى في قميص ورداء في قميص وإزار في إزار ورداء وإذا وسع الله عليكم فوسعوا على أنفسكم
وقد روى أنس أن آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوب واحد متوشحا به خلف أبي بكر
وتهذيب آثار هذا الباب على كثرته حملها على ما وصفنا وبالله توفيقنا
وكان مالك (رحمه الله) مع استحبابه أن يكون على عاتق المصلي في القميص ثوب قد خص له في الصلاة في القميص محلول الأزرار ليس عليه سراويل ولا إزار
195

وهو قول أبي حنيفة وأبي ثور
وكان سالم بن عبد الله يصلي محلول الأزرار
وقال داود الطائي إذا كان عظيم اللحية فلا بأس بذلك
وقال الشافعي إذا كان الثوب ضيقا يزره أو يخلله بشيء لئلا يتجافى القميص فيرى من الجيب عورة فإن لم يفعل ورأى عورته أعاد الصلاة
وهو قول أحمد بن حنبل
وأجمع العلماء على أن ستر العورة فرض واجب بالجملة على الآدميين وأنه لا يجوز لأحد أن يصلي عريانا وهو قادر على ما يستر به عورته من الثياب وإن لم يستر عورته وكان قادرا على سترها لم تجزه صلاته
واختلفوا هل سترها من فروض الصلاة أم لا فقال أكثر أهل العلم وجمهور الفقهاء إنه من فروض الصلاة
وإلى هذا ذهب أبو الفرج عمر بن محمد بن المالكي واستدل بأن الله (عز وجل) قرن أخذ الزينة بإتيان المساجد يعني بالصلاة المأمور بها في قول الله عز وجل * (خذوا زينتكم عند كل مسجد) * [الأعراف 31] هي الثياب الساترة للعورة لأن الآية نزلت من أجل الذين كانوا يطوفون بالبيت عراة
وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء
وروي عن بن عباس أنه قال كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة وتقول
(اليوم يبدو بعضه أو كله
* وما بدا منه فلا أحله (1)) فنزلت " يبنىءادم خذوا زينتكم عند كل مسجد " [الأعراف 31]
وقد أوردنا هذا المعنى في التمهيد والحمد لله
قال أبو عمر ستر العورة من فرائض الصلاة واستدل بالإجماع على أنه لا يجوز لأحد أن يصلي عريانا وهو قادر على الاستتار به وأنه من فعل ذلك فلا صلاة له وعليه إعادة ما صلى على تلك الحال
وهذا سنة وإجماع لا خلاف فيه وأن الآية في أخذ الزينة نزلت فيمن كان يطوف بالبيت عريانا
196

وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديه فنادى أن لا يحج هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان (1)
وقد ذكرنا الإسناد بذلك في غير هذا المكان
قال أبو عمر استدل من جعل ستر العورة من فرائض الصلاة بالإجماع على إفساد من ترك ثوبه وهو قادر على الاستتار به وصلى عريانا
وقال آخرون ستر العورة فرض عن أعين المخلوقين لا من أجل الصلاة وستر العورة سنة مؤكدة من سنن الصلاة ومن ترك الاستتار وهو قادر على ذلك وصلى عريانا فسدت صلاته وكما تفسد صلاة من ترك الجلسة الوسطى عامدا وإن كانت مسنونة
ولكلا الفريقين اعتلال يطول ذكره والقول الأول أصح في النظر وأصح أيضا من جهة الأثر وعليه الجمهور
واختلف العلماء في العورة من الرجل ما هي فقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والأوزاعي وأبو ثور ما دون السرة إلى الركبة عورة
وقال الشافعي ليست السرة ولا الركبتان من العورة
وقال أبو حنيفة الركبة عورة
وكذلك قال عطاء
وحكى بن حامد الترمذي أن للشافعي في السرة قولين
واختلف المتأخرون من أصحابه في ذلك أيضا على ذينك القولين فطائفة منهم قالت السرة من العورة وطائفة قالت السرة ليست بعورة
قال وأكره للرجل أن يكشف فخذه بحضرة زوجته
وهذا ما لا أعلم أن أحدا قاله غيره
وقال بن أبي ذئب العورة من الرجل الدبر والقبل دون غيرهما
وهو قول داود وأهل الظاهر وقول بن علية والطبري
197

فمن حجة من قال إن ما بين السرة والركبة عورة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الفخذ عورة (1)
روي ذلك عنه صلى الله عليه وسلم من خمسة أوجه من حديث علي بن أبي طالب ومن حديث بن عباس وحديث محمد بن جحش وحديث قبيصة بن مخارق وحديث جرهم الأسلمي
وأن أبا هريرة قبل سرة الحسن بن علي سأله كشف ذلك فكشف له عن بدنه فقبلها وقال أقبل منك ما من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل منه
فلو كانت السرة عورة ما قبلها أبو هريرة ولا مكنه الحسن منها
ومن حجة من قال إن الفخذ ليست بعورة حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسا في بيته كاشفا عن فخذه فاستأذن أبو بكر ثم عمر فأذن لهما وهو على تلك الحال ثم استأذن عثمان فسوى عليه ثيابه ثم أذن له فسئل عن ذلك فقال إني أستحي ممن تستحي منه الملائكة (2)
وهذا الحديث في ألفاظه اضطراب
((10 باب الرخصة في صلاة المرأة في الدرع (3) والخمار (4)))
291 ذكر فيه مالك أنه بلغه أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت تصلي في الدرع والخمار
292 وعن محمد بن زيد بن قنفذ عن أمه أنها سألت أم سلمة زوج النبي
198

صلى الله عليه وسلم ماذا تصلي فيه المرأة من الثياب فقالت تصلي في الخمار والدرع السابع إذا غيب ظهور قدميها
293 وعن الثقة عنده عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن بسر بن سعيد عن عبيد الله بن الأسود الخولاني وكان في حجر ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن ميمونة كانت تصلي في الدرع والخمار ليس عليها إزار (1)
فأما حديث عائشة رضي الله عنها فذكره أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا بن فضيل عن عاصم بن سليمان الأحول عن معاذة عن عائشة أنها كانت تصلي في درع وخمار
قال وحدثنا عيسى بن يونس عن الأوزاعي عن مكحول قال سئلت عائشة فبكم تصلي المرأة فقالت أتت عليا فاسأله ثم ارجع إلي فقال في درع سابغ وخمار فرجع إليها فأخبرها فقالت صدق
وروى حماد بن سلمة عن قتادة عن بن سيرين عن صفية بنت الحارث عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار (2)
وأما حديث أم سلمة فرواه موقوفا على أم سلمة كما رواه مالك ومحمد بن إسحاق بن أبي ذئب وبكر بن مطر وجعفر بن غياث وإسماعيل بن جعفر كلهم رووه عن محمد بن زيد عن أمه عن أم سلمة موقوفا عليها ورفعه عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن محمد بن زيد بن قنفذ عن أمه أنها سألت أم سلمة أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم ماذا تصلي فيه المرأة قال في الخمار والدرع السابغ الذي يغيب ظهور قدميها (3)
وأما حديث ميمونة فالثقة الذي رواه عنه مالك هو الليث بن سعد
ذكر أبو الحسن علي بن عمر الحافظ الدارقطني قال حدثنا به إسماعيل بن محمد الصفار قال حدثنا محمد بن الفرج الأزرق قال حدثنا منصور بن سلمة قال حدثنا الليث بن سعد عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن بسر بن سعيد عن عبيد الله الخولاني قال رأيت ميمونة تصلي في درع سابغ (ليس عليها إزار
199

قال أبو سلمة منصور بن سلمة وهذا ما رواه مالك بن أنس عن الليث بن سعد
قال أبو عمر أكثر ما (يقول مالك حدثني الثقة فهو مخرمة بن بكير الأشج
وقال أصحاب مالك بن وهب وغيره كل ما أخذه مالك من كتب بكير فإنه يأخذها من مخرمة ابنه فينظر فيها)
وروي أن المرأة تصلي في الخمار والدرع السابغ عن بن عباس وعروة بن الزبير وعكرمة وجابر بن زيد وإبراهيم والحكم
عن جابر بن زيد تصلي المرأة في درع صفيق وخمار صفيق
وهو قول فقهاء الأمصار
وقال بن عمر إذا صلت المرأة (فلتصل في ثيابها) كلها الدرع والخمار والملحفة
وروي عن عبيدة أن المرأة تصلي في الدرع والخمار والحقو
رواه بن أبي شيبة
وقال مجاهد لا تصلي المرأة في أقل من أربع أثواب
وهذا لم يقله غيره وهذه الأثواب الخمار والدرع والملحفة والإزار
قال أبو عمر لهذا والله أعلم ترجم مالك (رحمه الله) () في صلاة المرأة في الدرع والخمار
حدثنا محمد بن عبد الملك قال حدثنا بن الأعرابي قال حدثنا محمد بن إبراهيم التيمي قال حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري قال حدثنا سليمان التيمي عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال تصلي المرأة في ثلاثة أثواب إزار ودرع وخمار
294 وأما حديث مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن امرأة استفتته فقالت إن المنطق (1) يشق علي أفأصلي في درع وخمار فقال نعم إذا كان الدرع سابغا
200

فإن المنطق ها هنا الحقو وهو الإزار والسراويل
والذي عليه فقهاء الأمصار بالحجاز والعراق أن على المرأة الحرة أن تغطي جسمها كله بدرع صفيق سابغ وتخمر رأسها فإنها كلها عورة إلا وجهها وكفيها وأن عليها ستر ما عدا وجهها وكفيها
واختلفوا في ظهور قدميها
فقال مالك والليث بن سعد تستر قدميها في الصلاة قال مالك فإن لم تفعل أعادت ما دامت في الوقت وعند الليث تعيد أبدا
وقال الشافعي ما عدا وجهها وكفيها عورة فإن انكشف ذلك منها في الصلاة أعادت
ولا إعادة عنده مقصورة على الوقت في شيء من الصلاة وكل ما قال فيه عليه الإعادة وذلك عنده في الوقت وبعده
وقال أبو حنيفة والثوري قدم المرأة ليست بعورة إن صلت وقدمها مكشوفة لم تعد
قال أبو عمر لا خلاف علمته بين الصحابة في ستر ظهور قدمي المرأة في الصلاة وحسبك بما جاء في ذلك عن أمهات المسلمين (رضي الله عنهن)
وقد أجمعوا أن الرجل إذا صلى وشئ من عورته مكشوف أعاد أبدا والمرأة الحرة عورة كلها حاشى ما لا يجوز لها ستره في الصلاة والحج وذلك وجهها وكفاها فإن المرأة لا تلبس القفازين محرمة ولا تلتفت في الصلاة ولا تتبرقع في الحج
وأجمع العلماء على أنها لا تصلي متنقبة ولا متبرقعة
وفي هذا أوضح الدلائل على أن وجهها وكفيها ليس شيء من ذلك عورة
ولهذا لا يجوز النظر إلى وجهها في الشهادة عليها وأما النظر لشهوة إلى غير حليلة أو ملك يمين مع التأمل فمحظور غير مباح
وقد روي عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أنه قال كل شيء من المرأة عورة حتى ظفرها
وأقول لا نعلمه قاله غيره إلا أحمد بن حنبل فإنه جاءت عنه رواية بمثل ذلك
واختلف العلماء في تأويل قول الله عز وجل " ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها النور 31]
201

فروي عن بن عمر وبن عباس في قوله * (إلا ما ظهر منها) * قال الوجه والكفان
وروي عن بن مسعود أنه قال البنان والقرط والدملج
وروي عنه أيضا أنه قال الخلخال والخاتم والقلادة
واختلف التابعون في ذلك على هذين القولين
وعلى قول بن عباس وبن عمر جماعة الفقهاء وبالله التوفيق
الحمد لله وحده وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما
202

((9 - كتاب قصر الصلاة في السفر))
((1 باب الجمع بين الصلاتين في الحضر والسفر))
295 مالك عن داود بن الحصين عن الأعرج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الظهر والعصر في سفره إلى تبوك
هكذا رواه أكثر الرواة عن مالك مرسلا وقد روي عنه عن داود عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
وقد ذكرنا العلة في إسناد هذا الحديث والاختلاف فيه على يحيى وغيره عن مالك في التمهيد
وقال أبو بكر البزار قد روي الجمع بين الصلاتين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريقين أحدهما زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة
والآخر عبد الرحمن بن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة
قال وقد روي ذلك عن (بن عباس) وبن عمر ومعاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال أبو عمر وقد روي ذلك أيضا عن جابر وأنس عن النبي صلى الله عليه وسلم
ولم يذكر مالك في حديثه هذا الجمع بين المغرب والعشاء وهو محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان في سفره إلى تبوك يجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء من حديث معاذ بن جبل
قال أبو عمر حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن يونس الكديمي قال حدثنا أبو [بكير الحنفي قال] حدثنا سفيان
203

الثوري عن أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ بن جبل قال جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء
حدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح وأحمد بن محمد البرتي قالا حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا علي بن مسهر عن بن أبي ليلى عن عطاء عن جابر قال جمع رسول الله في غزوة تبوك بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء
أخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا يزيد بن خالد الرملي حدثنا المفضل بن فضالة عن الليث بن سعد عن هشام بن سعد عن أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر وإن يرتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى ينزل للعصر وفي المغرب والعشاء مثل ذلك إن غابت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين المغرب والعشاء وإن يرتحل قبل أن تغيب الشمس أخر المغرب حتى ينزل للعشاء ثم جمع بينهما (1)
قال أبو داود روى حديث معاذ بن جبل هذا بن أبي فديك عن هشام بن سعد عن أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ على معنى ما رواه مالك
قال أبو عمر قد ذكرنا طرق هذا الحديث واختلاف ألفاظ الرواة في التمهيد
296 وأما حديث مالك (الذي) ذكره في هذا الباب من الموطأ بعد حديثه عن داود بن الحصين ذكره عن أبي الزبير المكي عن أبي الطفيل عامر بن واثلة أن معاذ بن جبل أخبره أنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء قال فأخر الصلاة يوما ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا ثم دخل فصلى المغرب والعشاء جميعا ثم قال إنكم ستأتون غدا إن شاء الله عين تبوك وإنكم لن تأتوها حتى يضحى
204

النهار (1) فمن جاءها (2) فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان والعين تبض (3) بشيء من ماء فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم هل مسستما من مائها شيئا فقالا نعم فسبهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لهما ما شاء الله أن يقول ثم غرفوا بأيديهم من العين قليلا قليلا حتى اجتمع في شيء ثم غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وجهه ويديه ثم أعاده فيها فجرت العين بماء كثير فاستقى الناس ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما ها هنا قد ملئ جنانا (4)
297 مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عجل به السير (5) يجمع بين المغرب والعشاء
قال أبو عمر ليس في حديث بن عمر هذا ما يدل على أن المسافر لا يجوز له الجمع بين الصلاتين إلا أن يجد به السير بدليل حديث معاذ بن جبل لأن فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين في سفره إلى تبوك نازلا غير سائر
وليس في أحد الحديثين ما يعارض الآخر وإنما التعارض لو كان في حديث بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يجمع بين الصلاتين إلا أن يجد به السير فحينئذ كان يكون التعارض لحديث معاذ
وإنما هما حديثان حكى الراوي لكل واحد منهما () الجمع للمسافر بالصلاتين جد به السير أو لم يجد ولو تعارض الحديثان لكان الحكم لحديث معاذ لأنه أثبت ما نفاه بن عمر وليس للنافي شهادة مع المثبت
وقد اختلف الفقهاء في هذا الباب
205

روى بن القاسم عن مالك أنه قال لا يجمع المسافر في حج أو عمرة إلا أن يجد به السير أو يخاف فوت أمر فيجمع في آخر وقت الظهر وأول وقت العصر وكذلك في المغرب والعشاء إن (ارتحل) عند الزوال فيجمع حينئذ في المرحلة بين الظهر والعصر ولم يذكر في العشائين الجمع عند الرحيل أول الوقت
قال سحنون وهما كالظهر والعصر
قال أبو عمر رواية بن القاسم هذه تضاهي مذهب الكوفيين في الجمع بين الصلاتين للمسافر ورواية أهل المدينة عن مالك بخلاف ذلك
قال عبد الملك بن حبيب عن شيوخه وللمسافر أن يجمع بين الصلاتين ليقطع سفره وإن لم يخف فوات شيء يبادره
وذكر أبو الفرج عن مالك قال ومن أراد الجمع بين الصلاتين في السفر جمع بينهما إن شاء في آخر وقت الأولى منهما وأن شاء في آخر وقت الآخرة منهما وإن شاء أخر الأولى فصلاها في آخر وقتها وصلى الثانية في أول وقتها
قال وذلك كجواز الجمع بين الظهر والعصر بعرفة وبين المغرب والعشاء بالمزدلفة
قال أبو الفرج وأصل هذا الباب الجمع بين الظهر والعصر بعرفة وبين المغرب والعشاء بالمزدلفة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سافر فقصر وجمع بينهما كذلك والجمع أيسر خطبا من القصر فوجب الجمع بينهما في الوقت الذي جمع بينهما فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال أبو عمر الجمع بين الصلاتين بعرفة ثم بالمزدلفة أصل مجتمع عليه واجب أن يرد كل ما اختلف فيه من معناه إليه
ذكر مالك في هذا الباب من الموطأ
298 مالك عن بن شهاب أنه سأل سالم بن عبد الله هل يجمع بين
206

الظهر والعصر في السفر فقال نعم لا بأس بذلك ألم تر إلى صلاة الناس بعرفة
(عبد الرزاق) قال أخبرنا محمد بن مسلم الطائفي عن إبراهيم بن ميسرة قال جاءت امرأة إلى طاوس فقالت (إني أكره أبي حملني على) الجمع بين الصلاتين (قال لا يضرك أما ترين) الناس يجمعون بين الصلاتين صلاة الهاجرة وصلاة (العصر بعرفة والمغرب والعشاء بجمع)
قال أبو عمر هذا دليل على جواز الجمع بين الصلاتين في السفر في وقت إحداهما إن شاء قدم الثانية إلى الأولى كالصلاة بعرفة وإن شاء أخر الأولى إلى دخول وقت الثانية ثم جمعهما كالصلاة بمزدلفة
وقال الليث بن سعد لا يجمع بين الصلاتين إلا من جد به السير
وقال الأوزاعي لا يجمع بين الصلاتين إلا من عذر لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جد به السير جمع بينهما
وعن الثوري نحو هذا
وعنه أيضا ما يدل على جواز الجمع بين الصلاتين في وقت إحداهما للمسافر وإن لم يجد به السير
وقال أبو حنيفة وأصحابه لا يجمع أحد بين الصلاتين في سفر ولا حضر لا صحيح ولا مريض في صحو ولا مطر إلا أن للمسافر أن يؤخر الظهر إلى آخر وقتها ثم ينزل فيصليها ثم يمكث قليلا ويصلي العصر في أول وقتها وكذلك المريض
قالوا وأما أن يصلي صلاة في وقت أخرى فلا إلا بعرفة والمزدلفة لا غير
وحجتهم ما رواه الأعمش عن عمارة بن عمير عن عبد الرحمن بن يزيد قال قال عبد الله بن مسعود والذي لا إله غيره ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة قط إلا في وقتها إلا صلاتين جمع بين الظهر والعصر يوم عرفة وبين المغرب والعشاء بجمع (1)
قال أبو عمر ليس في هذا حجة لأن عند بن مسعود فقط عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
207

جمع بين الصلاتين في السفر بغير عرفة والمزدلفة ومن حفظ وشهد حجة على من لم يحفظ ولم يشهد
وقال الشافعي وأصحابه من كان له أن يقصر فله أن يجمع بين الصلاتين في وقت إحداهما إن شاء في وقت الأولى وإن شاء في وقت الآخرة
وهو قول عطاء بن أبي رباح وسالم بن عبد الله بن عمر وجمهور علماء الحجاز
وبه قال إسحاق بن راهويه وداود بن علي
وهو قول ربيعة وأبي الزناد ومحمد بن المنكدر وصفوان بن سليم وأبي حازم وزيد بن أسلم
وقد ذكرنا الآثار بذلك عنهم في التمهيد
وقال أحمد بن حنبل وجه الجمع للمسافر أن يؤخر الظهر حتى يدخل وقت العصر ثم ينزل فيجمع بينهما ويؤخر المغرب حتى يغيب الشفق ثم يجمع بين المغرب والعشاء
قال فإن قدم العصر إلى الظهر والعشاء إلى المغرب فأرجو أن لا يكون به بأس
قال إسحاق بن منصور فذكرت قول أحمد لإسحاق فقال إسحاق لا بأس بذلك
وقال الطبري للمسافر أن يجمع بين الظهر والعصر ما بين الزوال إلى أن تغيب الشمس وبين المغرب والعشاء إلى طلوع الفجر
قال والجمع في المطر كذلك
قال أبو عمر الحجة عند الاختلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما لا يوجد فيه نص من كتاب الله (عز وجل) وقد مضى ذكر السنة من حديث معاذ بن جبل وغيره وما أجمعوا عليه في صلاتي عرفة والمزدلفة فأغنى ذلك عما سواه والحمد لله
ولا معنى للجمع الذي ذهب إليه أبو حنيفة ومن قال بقوله لأن ذلك جائز في الحضر بدليل قوله صلى الله عليه وسلم في طرفي وقت الصلاة ما بين هذين وقت (1) فأجاز الصلاة
208

في آخر الوقت ولو لم يجز في السفر من سعة الوقت إلا ما جاز في الحضر بطل معنى السفر ومعنى الرخصة والتوسعة لأجله
ومعلوم أن الجمع بين الصلاتين في السفر رخصة لمكان السفر وتوسعة في الوقت كما أن القصر في السفر لم يكن إلا من أجل السفر وما يلقى فيه من المشقة في الأغلب وفي ارتقاب المسافر ومراعاته أن لا يكون نزوله إلا في الوقت الذي عده أبو حنيفة مشقة وضيقا لا سعة
وقد أجمع العلماء أنه لا يجوز الجمع بين العصر والمغرب ولا بين العشاء والصبح ولو كان (الجمع بين الصلاتين في السفر على ما ذهب أبو حنيفة إليه) والقائلون بقوله لجاز الجمع بين العصر والمغرب بأن يصلي العصر في آخر وقتها ثم يتمهل قليلا ويصلي المغرب
وهذا كله شاهد على ما ذهبوا إليه في الجمع بين الصلاتين ودليل على أنهم دفعوا الآثار في ذلك برأيهم وبالله التوفيق لا شريك له
وفي حديث مالك عن أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ في هذا الباب تقدم الإمام إلى العسكر بالنهي عما لا يريد فعله وله العفو فإن خالفه مخالف كانت له معاقبته بما يراه ردعا له عن مثل فعله وله العفو عنه فإن الله عفو يحب العفو
ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع حلمه وما كان عليه من الخلق العظيم كيف سب الرجلين وقال لهما ما شاء الله أن يقول إذ خالفاه وأتيا ما قد نهى عنه وفيه علم عظيم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم إذ غسل وجهه ويديه بقليل من ماء تلك العين ثم صبه فيها فجرت العين بماء كثير عمهم وفضل عنهم وتمادى إلى الآن ولعله يتمادى إلى قيام الساعة وهكذا النبوة وأما السحر فلا يبقى بعد مفارقة عين صاحبه والله أعلم
قال بن وضاح أنا رأيت ذلك الموضع كله حوالي تلك العين جنانا خضرة نضرة بعده
وفيه إخباره صلى الله عليه وسلم بغيب كان بعده وهذا وغيره ليس عجيبا منه ولا مجهولا من شأنه ولا مستغربا من فعله صلى الله عليه وسلم
وأما قوله في الحديث والعين تبض بشيء من ماء وهي الرواية عندنا (بالضاد المنقوطة) فمعناه أنها كانت تسيل بشيء من الماء ضعيف
209

قال حميد بن ثور الهلالي
(منعمة لو يصبح الذر ساريا
* على جلدها بضت مدارجه دما (1)) هذه رواية الأصمعي في شعر حميد بن ثور ورواية غيره
(مهاة لو أن الذر يمشي ضعابه
* على متنها بضت مدارجه دما) وقد فسر بضت بمعنى سالت والتفسير الأولى بمعنى الحديث
وتقول العرب للموضع الذي يندى قد بض وتقول ما بض بقطرة
وأما من رواه بالصاد من البصيص فمعناه أنها كانت يضيء فيها الماء ويبرق ويرى له بصيص والرواية الأولى أكثر
301 وفي هذا الباب أيضا حديث مالك عن أبي الزبير المكي عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس أنه قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا في غير خوف ولا سفر
قال مالك أرى ذلك كان في مطر
وهذا الحديث صحيح لا يختلف في صحته
وقد روي عن بن عباس من وجوه وإن كان في بعض ألفاظ رواته اختلاف
فرواه حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن بن عباس قال جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر
قيل لابن عباس ما أراد بذلك قال أراد ألا يحرج أمته
هكذا رواه حبيب بن أبي ثابت بإسناده المذكور فقال فيه من غير خوف ولا مطر فخالف أبا الزبير وحبيب بن أبي ثابت أحد أئمة أهل الحديث من الكوفيين
وأبو الزبير أيضا حافظ
وكذلك رواه عنه الثوري كما رواه مالك
رواه وكيع وغيره عن الثوري عن أبي الزبير عن سعيد بن جبير عن بن
210

عباس قال جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا سفر
وقد روى صالح مولى التوأمة عن بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث فقال فيه من غير خوف ولا مطر كما قال حبيب بن أبي ثابت
وهذا ليس بالقوي لأنه تغير بآخره
وأما تأويل مالك فيه وقوله أرى ذلك كان في مطر فقد تابعه على ذلك جماعة بالمدينة وغيرها منهم الشافعي
وأجمع العلماء على أنه لا يجوز الجمع بين الصلاتين في الحضر لغير عذر المطر إلا طائفة شذت سنورد ما إليه ذهبت في هذا الباب إن شاء الله
واختلفوا في ذلك لعذر المطر
فقال مالك وأصحابه أما المغرب والعشاء فجائز أن يجمع بينهما في حال المطر
قال ويجمع بينهما إذا كان طين وظلمة وإن لم يكن مطر
فهذا هو المشهور من مذهب مالك في مساجد الجماعات في كل البلدان
ولا يجمع بين الظهر والعصر عند مالك ولا عند أحد من أصحابه في المطر
وروى زياد بن عبد الرحمن عن مالك أنه قال لا يجمع بين الصلاتين ليلة المطر في شيء من الأمصار وغير المصار إلا بالمدينة خاصة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لفضله وأنه ليس هناك غيره وهو يقصد من بعد
قال أبو عمر وروي عن عبد الله بن عمر وأبان بن عثمان وعروة بن الزبير وأبي سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب وأبي بكر بن عبد الرحمن والقاسم بن محمد وعمر بن عبد العزيز أنهم كانوا يجمعون بين الصلاتين ليلة المطر
وقد ذكرنا الأسانيد عنهم بذلك في التمهيد
وهو أمر مشهور بالمدينة معمول به فيها
وبه قال أحمد وإسحاق
والجمع عند مالك بين المغرب والعشاء ليلة المطر أن يؤخر المغرب ثم يؤذن لها وتقام فتصلى ثم يؤذن في داخل المسجد للعشاء ويقيمونها وتصلى ثم ينصرفون مع مغيب الشفق
211

وقال مرة أخرى ينصرفون وعليهم أسفار
وقال الأثرم قلت لأحمد بن حنبل يجمع بين الظهر والعصر في المطر قال لا ما سمعت قلت فالمغرب والعشاء قال نعم قلت قبل مغيب الشفق قال لا الأولى كما صنع بن عمر قلت فسنة الجمع فيهما في السفر فقال تؤخر أيضا حتى يغيب الشفق
وقال الشافعي يجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء في المطر الوابل إذا كان المطر دائما ولا يجمع في غير المطر
وبه قال أبو ثور والطبري لحديث بن عباس هذا من رواية مالك وغيره عن أبي الزبير عن سعيد بن جبير عن بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء في غير خوف ولا سفر
وتأولوا ذلك في المطر
قال أبو حنيفة وأصحابه لا يجمع أحد بين الصلاتين في المطر لا الظهر والعصر ولا المغرب والعشاء
وهو قول الليث بن سعد وبه قال أكثر أصحاب داود
وقالت طائفة شذت عن الجمهور الجمع بين الصلاتين في الحضر وإن (لم يكن مطر مباح) إذا كان عذر وضيق على صاحبه ويشق عليه
وممن قال ذلك محمد بن سيرين وأشهب صاحب مالك
وكان (بن سيرين لا يرى بأسا أن يجمع) بين الصلاتين إذا كانت حاجة أو عذر ما لم يتخذه عادة
وقال أشهب بن عبد العزيز لا بأس بالجمع عندي بين الصلاتين كما جاء في الحديث من غير خوف ولا سفر وإن كانت الصلاة في أول وقتها أفضل وهذا الجمع عندي بين صلاتي النهار في آخر وقت الظهر وأول وقت العصر وكذلك صلاة المغرب والعشاء في آخر وقت الأولى منهما وأول وقت الآخرة جائز في الحضر والسفر فأما أن يجمع أحد بين الصلاتين في وقت إحداهما فلا إلا في السفر
قال أبو عمر احتج من ذهب هذا المذهب بحديث عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء عن بن عباس قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ثمانيا جميعا وسبعا جميعا
212

قال عمرو بن دينار قلت لأبي الشعثاء أظنه أخر الظهر وعجل العصر وأخر المغرب وعجل العشاء قال وأنا أظن ذلك
قال أبو عمر قد ذكرنا طرق أحاديث هذا الباب كلها في التمهيد
ولا حجة في هذا الحديث وما كان مثله لمن جعل الوقت في صلاتي الليل وفي صلاتي النهار (في الحضر) كهو في السفر وأجاز الجمع بين الصلاتين في الحضر في وقت إحداهما لأنه ممكن أن تكون صلاته بالمدينة في غير خوف ولا سفر كانت بأن أخر الأولى من صلاتي النهار فصلاها في آخر وقتها وصلى الثانية في أول وقتها وصنع مثل ذلك بالعشاء بين على ما ظنه أبو الشعثاء وتأول الحديث عليه هو وعمرو بن دينار وموضعهما من الفقه الموضع الذي لا فوقه موضع
وإذا كان ذلك غير مدفوع إمكانه وكان ذلك الفعل يسمى جمعا في اللغة العربية بطلت الشبهة التي نزع بها من هذا الحديث من أراد الجمع في الحضر بين الصلاتين في وقت إحداهما لأن جبريل أقام لرسول الله صلى الله عليه وسلم أوقات الصلوات في الحضر ثم سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمع بين الصلاتين على حسب ما تقدم ذكرنا في هذا الباب وسن للمسافر ذلك كما سن له القصر في السفر مع الأمن توسعة أذن الله له فيها فسنها لأمته فلا يتعدى بها إلى غير ما وضعها عليه صلى الله عليه وسلم
وأما قول بن عباس إذ سئل عن معنى جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصلاتين في الحضر فقال أراد أن لا يحرج أمته فمعناه مكشوف على ما وصفنا أي لا يضيق على أمته فتصلي في أول الوقت أبدا وفي وسطه أو آخره أبدا لا تتعدى ذلك ولكن لتصل في الوقت كيف شاءت في أوله أو وسطه أو آخره لأن ما بين طرفي الوقت وقت كله وأما أن تقدم صلاة الحضر قبل دخول وقتها فلا والله أعلم
واختلفوا أيضا في جمع المريض بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء
فقال مالك إذا خاف المريض أن يغلب على عقله جمع بين الظهر والعصر عند الزوال وجمع بين العشاءين عند الغروب
قال فأما إن كان الجمع أرفق به لشدة مرض أو بطن ولم يخش أن يغلب على
213

عقله فليجمع بينهما في وقت وسط الظهر وفي غيبوبة الشفق
قال مالك والمريض أولى بالجمع من المسافر وغيره لشدة ذلك عليه
قال مالك وإن جمع المريض بين الصلاتين وليس بمضطر إلى ذلك أعاد ما كان في الوقت فإن خرج الوقت فلا شيء عليه
وقال الليث يجمع المريض والمبطون
وقال أبو حنيفة يجمع المريض بين الصلاتين كجمع المسافر
وقد قدمنا مذهبه ومذهب بن القاسم وروايته في جمع المسافر فيما مضى من هذا الباب
وقال الشافعي لا يجمع المريض بين الصلاتين ولكن يصلي كل صلاة لوقتها على حسب ما يقدر عليه
وقال أحمد وإسحاق يجمع المريض بين الصلاتين
قال أبو عمر هذا عندي على حسب جمع المسافر عندهما والله أعلم
302 مالك عن يحيى بن سعيد أنه سأل سالم بن عبد الله ما أشد ما رأيت أباك أخر المغرب في السفر فقال سالم غربت الشمس ونحن بذات الجيش (1) فصلى المغرب بالعقيق (2)
هذا الحديث عند يحيى في الباب بعد هذا وهو من معنى هذا الباب وكذلك هو عند بعض الرواة
واختلف في المسافة التي بين العقيق وبين ذات الجيش
فذكر الأثرم عن القعنبي قال بين العقيق وبين ذات الجيش اثنا عشر ميلا
وذكر علي بن عبد العزيز عن القعنبي قال ذات الجيش على بريدين من المدينة
قال بن وضاح بين ذات الجيش وبين العقيق سبعة أميال
وروى بن وهب ستة أميال
214

((2 باب قصر الصلاة في السفر))
303 مالك عن بن شهاب عن رجل من آل خالد بن أسيد أنه سأل عبد الله بن عمر فقال يا أبا عبد الرحمن إنا نجد صلاة الخوف وصلاة الحضر في القرآن ولا نجد صلاة السفر فقال بن عمر يا بن أخي إن الله عز وجل بعث إلينا محمدا صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئا فإنما نفعل كما رأيناه يفعل
قال أبو عمر معنى قوله ولا نجد صلاة السفر يعني في القرآن لأنها لا ذكر لها في القرآن وسؤال السائل عن صلاة السفر في الأمن دون الخوف وإنما في القرآن قد قال الله تعالى * (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) * [النساء 101] فأجابه بن عمر بكلام معناه أن الذي نزل عليه القرآن صلى الله عليه وسلم قصر وهو آمن في السفر ونحن نفعل كما رأيناه يفعل
304 مالك عن صالح بن كيسان عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت
صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر
قال أبو عمر أما حديثه في هذا الباب عن بن شهاب عن رجل من آل خالد بن أسيد فلم يختلف رواة موطأ مالك في إسناده إلا أنه لم يسمه ولا سمى الرجل السائل لعبد الله بن عمر
وقد أقام إسناد هذا الحديث جماعة من رواة بن شهاب وسموا الرجل منهم معمر ويونس والليث بن سعد فرووه عن بن شهاب عن عبد الله بن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد أنه سأل بن عمر فقال يا أبا عبد الرحمن إنا نجد صلاة الخوف وذكروا الحديث
وقد ذكرنا الأسانيد عنهم بذلك في التمهيد
215

وفي هذا الحديث من الفقه أن قصر الصلاة في السفر من غير خوف سنة مسنونة لا فريضة مذكورة في القرآن
لأن القصر في القرآن إنما هو لمن ضرب في الأرض مسافرا إذا خاف الذين كفروا فصح القصر للمسافر بشرط السفر وشرط الخوف
ثم قصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمره وغزواته وحجته آمنا فكان ذلك زيادة بيان على ما في القرآن
ولهذا نظائر قد ذكرناها في باب المسح على الخفين وفي كتاب النكاح عند نهيه صلى الله عليه وسلم عن نكاح المرأة على عمتها وعلى خالتها
وما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن إذن الله عز وجل فعله ولا يشرع في دين الله إلا ما أمره به
قال الله تعالى * (فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة) * [النساء 103] إذا وصلتم إلى أوطانكم ومواضع [أمنكم] فأتموا الصلاة
فهذه صلاة الحضر وقد تقدمت صلاة السفر [وقد نص عليهما جميعا القرآن]
حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أبو نعيم قال حدثنا مالك بن مغول عن أبي حنظلة قال سألت بن عمر عن صلاة السفر قال ركعتان قلت أين قوله * (إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) * [النساء 101] ونحن آمنون قال سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال الشيخ الفقيه الحافظ عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم عن أبي نعيم وبينهما آخر والظاهر أنه بن أبي شيبة أبو بكر والله أعلم
حدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم حدثنا عبد الله بن روح المدائني قال حدثنا عثمان بن عمر قال أخبرنا مالك بن مغول عن أبي حنظلة الحذاء قال قلت لابن عمر أصلي ركعتين في السفر والله تعالى يقول * (وإن خفتم) * ونحن نجد الزاد والمزاد فقال كذا سن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وحدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا عبيد بن عبد الواحد قال حدثنا أبو صالح محبوب بن موسى قال حدثنا أبو إسحاق الفزاري عن بن جريج عن بن أبي عمار عن بن بابيه عن يعلى بن أمية قال قلت لعمر بن الخطاب إنما قال الله * (إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) * [النساء 101] وقد أمن
216

الناس فقال عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ما سألتني عنه فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فأقبلوا صدقته (1)
حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا محمد بن بكر بن داسة قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن حنبل ومسدد قالا حدثنا يحيى بن سعيد عن بن جريج قال حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار عن عبد الله بن بابيه عن يعلى بن أمية قال قلت لعمر بن الخطاب أرأيت إقصار الناس الصلاة وإنما قال تعالى * (إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) * [النساء 101] فقد ذهب ذلك اليوم فقال عجبت مما عجبت منه فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته (2)
هكذا قال يحيى القطان عن بن جريج عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار
ورواه الشافعي عن عبد المجيد بن عبد العزيز عن بن جريج وهو الصواب الذي لا شك فيه
وقد ذكرنا الاختلاف على عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار هذا والشواهد على صحة هذا القول في التمهيد
قال علي بن المديني بن أبي عمار وبن بابيه مكيان ثقتان
قال أبو عمر يقال عبد الله بن بابيه وبن باباه وبن بابى أيضا
حدثنا سعيد بن نصر حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا يزيد بن هارون قال حدثنا بن عون عن بن سيرين عن بن عباس قال صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة ونحن آمنون لا نخاف شيئا ركعتين ركعتين
217

رواه أيوب وهشام ويزيد بن إبراهيم التستري عن بن سيرين عن بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله
قال أبو عمر أجمع العلماء على أن للمسافر أن يقصر الصلاة إذا سافر في حج أو عمرة أو غزو سفرا طويلا أقله ثلاثة أيام فله أن يقصر ثلاثة أيام صلاة الظهر والعصر والعشاء من أربع إلى اثنتين لا يختلفون في ذلك وإن كانوا قد اختلفوا في هذا
والمسافة التي يجوز فيها قصر الصلاة على ما نذكره عنهم في الباب بعد هذا إن شاء الله
واختلفوا فيمن سافر سفرا مباحا في غير جهاد ولا حج ولا عمرة
فروي عن بن مسعود من وجوه أنه كان لا يرى القصر إلا في حج أو عمرة أو جهاد
من ذلك ما ذكره أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا أبو معاوية ومحمد بن فضيل عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن عبد الرحمن بن يزيد قال قال عبد الله لا تقصر الصلاة
إلا في حج أو جهاد
قال وحدثنا هشيم عن العوام قال كان إبراهيم التيمي لا يرى القصر إلا في حج أو جهاد أو عمرة
وذكر عبد الرزاق (1) عن معمر عن الأعمش عن القاسم بن عبد الرحمن أن بن مسعود قال لا تقصر الصلاة إلا في حج أو جهاد
قال أبو عمر لم يذكر العمرة لأنها حج وفي معنى الحج
قال عبد الرزاق (2) وأخبرنا بن جريج عن عطاء قال ما أرى أن تقصر الصلاة إلا في سبيل من سبل الله
وقد كان قبل ذلك لا يقول هذا القول كان يقول تقصر في كل ذلك
قال وكان طاوس يسأله الرجل فيقول أسافر لبعض حاجتي أفأقصر الصلاة فسكت وقال إذا خرجنا حجاجا أو عمارا صلينا ركعتين
قال بن جريج قلت لعطاء قولهم لا تقصر إلا في سبيل من سبل الخير
قال إني لأحسب أن ذلك كذلك قلت لم قال من أجل أن إمام المتقين لم يقصر الصلاة إلا في سبيل من سبل الله حج أو عمرة أو غزو والأئمة بعده أيهم
218

كان يضرب في الأرض يبتغي الدنيا قلت أرأيت بن عباس خرج في غير حج أو عمرة قال لا إلا ما أخرجه إلى الطائف قلت فجائز وأبو عمر وأبو سعيد الخدري قال لا ولا أحد منهم قلت فماذا ترى قال أرى ألا تقصر إلا في سبيل من سبل الخير وقد كان قبل ذلك يقول تقصر في ذلك
قال أبو عمر ذهب داود في هذا الباب إلى قول بن مسعود ومن قال بقوله ممن ذكرنا وهو عندي نقض لأصله في تركه ظاهر كتاب الله عز وجل في قوله * (وإذا ضربتم في الأرض) * [النساء 101] ولم يخص ضربا في حج ولا غيره وأخذه بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا يدل على أن غيره بخلافه وقد ذكر الله الضرب في الأرض ابتغاء فضل الله
واختلف أهل الظاهر في هذه المسألة فطائفة قالت بقول داود وقال أكثرهم يقصر المطيع والعاصي كل مسافر ضارب في الأرض
وأما اختلاف أئمة الأمصار فيها فقال مالك لا يقصر الصلاة مسافر إلا أن يكون سفره في طاعة أو في ما أباح الله له السفر فيه ولم يحظره عليه
وسئل عن المسافر في الصيد فقال إن خرج للصيد وهذا معاشه قصر وإن خرج متلذذا لم أستحب له أن يقصر
قال ومن سافر في معصية لم يجز له أن يقصر
وقال الشافعي إن سافر في معصية لم يقصر ولم يمسح مسح المسافر
وهو قول الطبري
قال أبو عمر قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يشهد بصحة قول مالك والشافعي ومنتهاهما حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي قال حدثني أبي قال حدثنا عبد الله بن يونس قال حدثنا بقي بن مخلد قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا وكيع قال حدثنا الأعمش عن إبراهيم قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني رجل تاجر اختلف إلى البحرين فأمره أن يصلي ركعتين
قال أبو عمر كل ما في كتابنا هذا عن أبي بكر بن أبي شيبة ليس من المسند فيه هذا الإسناد
وقال أحمد بن حنبل لا يقصر إلا في حج أو عمرة
219

وقد روي عنه أنه قصر الصلاة في كل سفر مباح
وقال أبو حنيفة وأصحابه يقصر المسافر عاصيا كان أو غير عاص
وهو قول الثوري
وحجتهم قول الله تعالى * (وإذا ضربتم في الأرض) * [النساء 101] ولم يخص ضربا من ضرب
قال أبو عمر وروي عن بن عمر أنه كان يقصر الصلاة إذا خرج إلى ماله بخيبر (1)
وعن بن عباس أنه كان يقصر الصلاة إلى ماله بالطائف
ذكر عبد الرزاق عن بن جريج قال أخبرني نافع عن بن عمر أنه كان يقصر الصلاة إلى ماله بخيبر يطالعه
قال بن جريج وليس ذلك في حج ولا عمرة ولا غزو
وعن بن جريج عن عطاء أن بن عباس خرج إلى الطائف فقصر الصلاة
وسئل بن عباس أيقصر إلى عرفة ومر الظهران فقال لا ولكن أقصر إلى الطائف وإلى عسفان
وسيأتي هذا المعنى محددا تاما في الباب بعد هذا إن شاء الله
وأما حديث عائشة فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر (2) فقد ذكرنا في التمهيد اختلاف ألفاظ رواته عن بن شهاب وغيره ولم يروه مالك عن بن شهاب وإنما رواه عن صالح بن كيسان عن عروة عن عائشة على ما قدمنا في صدر هذا الباب
وذكرنا في التمهيد من خالف عائشة في ذلك من الصحابة وغيرهم فقال بل فرضت الصلاة في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين
وربما قال بعضهم فرضت الصلاة في الحضر أربعا وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر ركعتين منهم عمر وبن عباس وجبير بن مطعم
حدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا بكر بن حماد حدثنا مسدد
وحدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا محمد بن شاذان قال
220

حدثنا موسى بن داود قالا حدثنا أبو عوانة عن بكير بن الأخنس عن مجاهد عن بن عباس قال فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة (1)
وقد روي عن بن عباس مثله وقد ذكرناه في التمهيد
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي قلابة عن رجل من بني عامر أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة (2)
وعن أنس بن مالك القشيري (رجل من بني عبد الله بن كعب) عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله
وهذا يدل على خلاف ما قالت عائشة إلا أن حديث عائشة من جهة الإسناد أثبت
وروى وكيع وروح بن عبادة عن أسامة بن زيد الليثي قال حدثني الحسن بن مسلم بن يناق عن طاووس عن بن عباس قال قد فرض الله على رسوله صلى الله عليه وسلم الصلاة في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين فكما يصلي في الحضر قبلها وبعدها فكذلك يصلي في السفر (3)
وقد طعن قوم في حديث عائشة لقول الله (عز وجل) * (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) * [النساء 101] فقالوا لو كانت ركعتين لم يقصر لأن الإجماع منعقد أن لا يصلي المسافر الآمن في سفره أقل من ركعتين في شيء من الصلوات فأي قصر كان يكون لو كانت الصلاة ركعتين
وهذه غفلة شديدة لأن الصلاة إن كانت فرضت بمكة ركعتين كما قالت عائشة فقد زيد فيها على قولها بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وبعد ذلك أنزلت سورة النساء بإباحة القصر للضاربين في الأرض وهم المسافرون وهذا لا يخفى على من له أقل فهم
على أنا نقول إن فرض الصلاة استقر من زمان النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين لمن شاء عند قوم وعند آخرين على الإلزام فلا
221

حاجة بنا إلى أول فرضها لما فيه من الاختلاف فمن ذهب إلى الإلزام احتج بحديث عائشة وهو حديث قد خولفت فيه فكانت هي أيضا (رحمها الله) لا تأخذ به وإنما كانت تتم في سفرها والمصير إلى ظاهر قول الله تعالى * (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) * [النساء 101] أولا لأن رفع الجناح يدل على الإباحة لا على الإلزام مع ما قدمنا من الآثار المنبئة بأن قصر الصلاة سنة ورخصة وصدقة تصدق الله بها على عباده
حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا وكيع قال حدثنا محمد بن أبي خالد عن أبي حنظلة قال سألت بن عمر عن الصلاة في السفر فقال ركعتان سنة النبي صلى الله عليه وسلم
وأما اختلاف الفقهاء وأئمة الأمصار في [إيجاب القصر] في هذه المسألة فذهب الكوفيون سفيان الثوري والحسن بن حي وأبو حنيفة وأصحابه إلى أن القصر واجب في السفر فرضا
وهو قول عمر بن عبد العزيز وحماد بن أبي سليمان وطائفة
وإليه ذهب إسماعيل بن إسحاق وأبو بكر بن الجهمي
وذكر بن الجهمي أن أشهب روى ذلك عن مالك
وحجة من ذهب هذا المذهب حديث عائشة فرضت الصلاة ركعتين في السفر والحضر فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى
وحديث بن عباس فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر [أربعا] وفي السفر ركعتين (1)
وحديث عمر بن الخطاب قال صلاة الجمعة ركعتان وصلاة العيدين ركعتان وصلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم (2)
وذكرنا حديث عمر هذا في التمهيد وذكرنا العلة فيه
222

قال أبو عمر من ذهب إلى أن الركعتين في السفر فرض أبطل صلاة من أتم الصلاة في السفر عامدا أو رأى الإعادة عليه واجبة ركعتين
على أنهم اختلفوا في ذلك
فقال الثوري إن قعد المسافر في اثنتين لم يعد
وقال حماد بن أبي سليمان إذا صلى المسافر أربعا [متعمدا] أعاد وإن كان ساهيا لم يعد
وقال الحسن بن حي من صلى في السفر أربعا متعمدا أعاد إذا كان ذلك منه الشيء اليسير فإن طال ذلك في سفره وكثر لم يعد
وقال أبو حنيفة وأصحابه في المسافر يصلي أربعا عامدا بطلت صلاته وعليه الإعادة ركعتين وإن صلاها ساهيا فإن قعد في اثنتين فقرأ التشهد قضيت صلاته وإن لم يقعد فصلاته فاسدة
قال أبو عمر لأنه خلط الفرض عندهم بالنافلة إذا لم يقعد في الاثنين مقدار التشهد ففسدت لذلك صلاته عندهم
وأصل الكوفيين في مراعاة الجلوس قدر التشهد لأن القعود في آخر الصلاة عندهم فرض واجب والتشهد ليس عندهم بواجب ولا السلام لأنهما من الذكر
وحجتهم فيها ذهبوا إليه من ذلك حديث بن مسعود في التشهد لأن فيه عن بعض رواته فإذا قلت ذلك فقد تمت صلاتك إذا سلمت بدليل قوله صلى الله عليه وسلم تحريمها التكبير وتحليلها التسليم (1) وهم يقولون بوجوب الإحرام فرضا فكذلك السلام لأنهما جاء مجيئا واحدا في حديث واحد
على أن في حديثهم هذا ما يوجب أن من تشهد وسلم فقد تمت صلاته ودليله أنه إن لم يقل ذلك لم تتم صلاته
وقد مضى القول في التشهد في باب التشهد في الصلاة في هذا الكتاب والحمد لله
223

قال أبو عمر الذي ذهب إليه أكثر العلماء من السلف والخلف في قصر الصلاة في السفر أنه سنة مسنونة لا فريضة
وبعضهم يقول إنه رخصة وتوسعة
فمن جعلها سنة رأى الإعادة منها في الوقت وكره الإتمام وهذا تحصيل مذهب مالك وأكثر أصحابه
ومن رآها رخصة أجاز الإتمام وجعل المسافر بالخيار في القصر والإتمام
وذكر أبو مصعب عن مالك أنه قال القصر في السفر سنة مؤكدة للرجال والنساء
وقال أبو الفرج رواية أبي مصعب أغنتنا عن طلب مذهب مالك في ذلك يعني من مسائله وأجوبته
وقال بن خواز مندار المالكي القصر عند مالك مسنون غير واجب
قال وهو قول الشافعي
وأما اختلاف أصحاب مالك فيمن صلى في السفر أربعا عامدا أو ناسيا
فقال مالك من فعل ذلك أعاد في الوقت صلاة سفر وإن خرج الوقت فلا شيء عليه
هذه رواية بن القاسم عنه
قال بن القاسم ولو رجع إلى بيته في الوقت لأعادها مرة ثالثة أربعا
قال ولو أحرم مسافر فنوى أربعا ثم بدا له ثم سلم من اثنتين لم يجزه
وذكر بن حبيب عن مطرف عن مالك قال إذا أتم المسافر جاهلا أو عامدا أعاد في الوقت لأنه ما اختلف الناس فيه
وروى بن وهب عن مالك في مسافر أم قوما فيهم مسافر ومقيم فأتم الصلاة بهم جاهلا
قال أرى أن يعيدوا الصلاة جميعا
وهذا يحتمل أن تكون الإعادة في الوقت
وقال بن المواز الذي رجع إليه بن القاسم أنه من صلى في سفره أربعا ناسيا لسفره أو عامدا لذلك أو جاهلا فليعد في الوقت
وكذا قال سحنون
224

وقال الشافعي يقصر المسافر الصلاة إذا كان خائفا بالقرآن والسنة وإن لم يكن خوف في السفر قصر بالسنة
قال ولا أحب لأحد أن يتم متأولا فإن أتم متأولا وأخذ بالرخصة فلا حرج
قال وليس للمسافر أن يصلي ركعتين حتى ينوي القصر مع الإحرام فإن أحرم ولم ينو القصر فهو على أصل فرضه أربعا
قال أبو عمر أصحاب الشافعي اليوم على أن المسافر مخير في القصر والإتمام كما هو مخير في الفطر والصيام وكذلك جماعة المالكيين من البغداديين
وقال الأوزاعي إذا قام المسافر إلي ثلاثة وصلاها ثم ذكر فإنه يلغيها ويسجد سجدتي السهو
وقال الحسن البصري فيمن صلى في السفر أربعا بئس ما صنع وقد قضت عنه صلاته ثم قال للسائل لا أم لك ترى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم تركوها لأنها ثقلت عليهم قال أبو عمر حديث عائشة الذي عليه بنى مذهبه من جعل القصر فرضا يخرجه عن ظاهره تمامها في السفر لأنه لا يظن عاقل بها تعمد إفساد صلاتها بالزيادة فيها ما ليس منها عامدة
يدل ذلك على أنها علمت أن القصر ليس بواجب وأنه سنة وإذا كانت رخصة وتوسعة فالناس مخيرون في قبولها إلا أن الأفضل عندي القصر لأنه فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسفاره كلها سنة لأمته وفيه الأسوة الحسنة
ولا وجه لقول من قال إن عائشة إنما أتمت في سفرها بعد النبي صلى الله عليه وسلم لأنها تأولت أنها أم المؤمنين فحيث ما كانت فهي عند بنيها كأنها في أهلها
وهذا قول ضعيف لا معنى له ولا دليل عليه لأنها إنما صارت أم المؤمنين بأن كانت زوجا لأبي المؤمنين محمد صلى الله عليه وسلم وبه صار أزواجه أمهات المؤمنين
وقد روى في قراءات أبي بن كعب " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهتهم " [الأحزاب 6]
وروي عن بن عباس أنه كان يقرؤها كذلك
ولو كان ما ذكروا من تأويل عائشة لكان النبي صلى الله عليه وسلم أولى بذلك منها وصلاته في أسفاره ركعتين لأنه سن لأمته أنه لا يصلي أحد في موضع إقامته ركعتين في صلاة أربع خلاف ما شرع لأمته وبين في ذلك مراد ربه
225

وقد روى أن عائشة (رضي الله عنها) إنما أتمت في السفر لوجوه غير هذا الوجه أولاها عندنا بالصواب والله أعلم أنها علمت من قصر النبي صلى الله عليه وسلم لما خير في القصر والإتمام اختار الإقصار ليسر ذلك على أمته وقالت ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما (1) فأخذت هي في خاصتها بغير رخصة إذا كان ذلك مباحا لها في حكم التخيير الذي أذن الله فيه
وقد روي عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم معنى ذلك حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة
وحدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا بن وضاح قال حدثنا موسى بن معاوية قالا حدثنا وكيع قال حدثنا المغيرة بن زياد عن عطاء عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتم الصلاة ويقصر ويصوم ويفطر ويؤخر الظهر ويعجل العصر ويؤخر المغرب ويعجل العشاء
وذكر أبو بكر قال حدثنا عبدة بن سليمان عن عاصم بن أبي قلابة قال إن صليت في السفر ركعتين فالسنة وإن صليت أربعا فالسنة
قال وحدثنا محمد بن أبي عدي عن حبيب بن الشهيد عن ميمون بن مهران أنه سأل سعيد بن المسيب عن الصلاة في السفر قال إن شئت ركعتين وإن شئت أربعا
قال وحدثنا وكيع قال حدثنا بسطام بن مسلم قال سألت عطاء عن قصر الصلاة فقال إن قصرت فسنة وإن شئت أتممت
قال وأخبرنا وكيع قال حدثنا عبد الرحمن بن خضير عن أبي نجيح المكي قال اصطحبت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فكان بعضهم يتم وبعضهم يقصر وبعضهم يصوم وبعضهم يفطر فلا يعيب هؤلاء على هؤلاء ولا هؤلاء على هؤلاء
226

وروى زيد العمي عن أنس مثله
وذكر عبد الرزاق عن بن جريج عن عطاء قال كان سعد بن أبي وقاص يوفي الصلاة في السفر ويصوم قال وسافر الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسعد معهم فأوفى سعد الصلاة وصام وقصر القوم وأفطروا فقالوا لسعد كيف نفطر ونقصر الصلاة وأنت تتمها وتصوم فقال دونكم أمركم فإني أعلم بشأني قال فلم يحرمه سعد عليهم ولا نهاهم عنه
قال بن جريج فقلت لعطاء فأي ذلك أحب إليك قال قصرها وكل ذلك قد فعل الصالحون والأخيار
وروى جويرية عن مالك عن الزهري عن رجل عن عبد الله بن مسور بن مخرمة أن سعد بن أبي وقاص والمسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث سافروا فأتم الصلاة سعد وقصر القوم وذكر معنى حديث عطاء
قال أبو عمر وقد كان عثمان يتم الصلاة في السفر بعد ستة أعوام أو نحوها من خلافته
وقد تأول قوم عليه ذلك وجوها أربعة ورووا بعضها عنه فذكرتها في التمهيد
منها أنه اتخذ أهلا بمكة
والوجه الثاني أنه قال أنا خليفة حيث ما كنت فهو عملي
والوجه الثالث أنه بلغه أن أعرابيا صلى معه ركعتين فظن أن الفريضة ركعتان فانصرف إلى منزله فلم يزل يصلي ركعتين السنة كلها فلما بلغه ذلك أتم الصلاة
والوجه الرابع عن عثمان وعائشة جميعا أصح وذلك أنهما رأيا أن لهما القصر والتمام كما لهما الفطر والصيام ورأيا أن القصر رخصة فمالا إلى التمام
هذا هو الذي يليق بهما والله أعلم
ولا يصح عندي منها إلا أنه اختار التمام لعلمه بصحة تخيير المسافر بين القصر والتمام
وروى معمر عن الزهري عن سالم عن بن عمر قال صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين ومع أبي بكر ركعتين ومع عمر ركعتين ومع عثمان صدرا من خلافته ركعتين ثم صلاها أربعا
227

قال الزهري فبلغني أن عثمان إنما صلاها أربعا لأنه أزمع أن يقيم بعد الحج
قال أبو عمر وهذا ليس بشيء لأن عثمان مهاجري لا يحل له المقام بمكة والمعروف أنه كان لا يطوف للإفاضة والوداع إلا ورواحله قد رحلت
حدثنا عبد الوارث قال وحدثنا أبو سعيد قالا حدثنا قاسم قال حدثنا محمد قال حدثنا أبو بكر قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن عبد الرحمن بن يزيد قال صلى عثمان بمنى أربعا فقال عبد الله صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين ومع أبي بكر ركعتين ومع عمر ركعتين ثم تفرقت بكم الطرق ولوددت أن لي من أربع ركعتين متقبلتين (1)
قال أبو عمر عاب بن مسعود عثمان بالإتمام بمنى ثم أقيمت الصلاة فصلى خلفه أربعا فقيل له في ذلك فقال الخلاف شر
روينا ذلك من وجوه وفيه من الفقه أن عثمان لو كان القصر عنده فرضا ما أتم وهو مسافر بمنى
وكذلك بن مسعود لو كان القصر عنده واجب فرض ما صلى خلف عثمان أربعا ولكنه رأى أن الخلاف على الإمام فيما سبيله التخيير والإباحة شر لأن القصر عنده أفضل لمواظبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسفاره [عليه] وإنما عابه لتركه الأفضل عنده
وكذلك صنع سلمان سافر مع طائفة من الصحابة نحو ثلاثة عشر رجلا فأرادوه على أن يصلي بهم فأبى وتقدم بعض القوم فصلى بهم أربع ركعات فلما قضى الصلاة قال سلمان ما لنا وللمربعة إنما كان يكفينا ركعتين نصف المربعة ولم يعد
228

صلاته ولا أمر أحدا بالإعادة بل تمادى وراء إمامه ورأى ذلك مجزيا عنه
ذكر خبر سلمان هذا عند عبد الرزاق عن إسرائيل وذكره أيضا أبو بكر عن أبي الأحوص جميعا عن أبي إسحاق عن أبي ليلى الكندي قال خرج سلمان في ثلاثة عشر رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غزاة وسلمان أسنهم وذكر الخبر بتمامه
ورواه وكيع قال حدثنا سعيد بن حميد الطائي عن علي بن ربيعة الوالبي عن الربيع بن نضلة قال خرجنا في سفر ومعنا سلمان ونحن اثنا عشر رجلا أو ثلاثة عشر رجلا راكبا كلهم قد صحب النبي صلى الله عليه وسلم فذكر معنى ما وصفناه
وفي هذا كله ما يتبين به صحة ما ذهبنا إليه في أن القصر ليس بفرض واجب وإنما هو سنة ورخصة والحمد لله
وإنما اختار مالك وأكثر العلماء القصر لأنه الذي عمل به النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وكذلك كان علي يقصر في أسفاره كلها إلى صفين وغيرها
حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر قال حدثنا بن علية عن علي بن زيد عن أبي نضرة قال مر عمران بن حصين في مجلسنا فقام إليه فتى من القوم فسأله عن صلاة رسول الله في الحج والغزو والعمرة فجاء فوقف علينا فقال إن هذا سألنا عن أمر فأردت أن تسمعوه أو كما قال غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يصل إلا ركعتين حتى رجع إلى المدينة وحججت معه فلم يصل إلا ركعتين حتى رجع إلى المدينة وشهدت معه الفتح فأقام بمكة ثماني عشر ليلة لا يصلي إلا ركعتين ويقول لأهل البلد صلوا أربعا فإنا سفر واعتمر واعتمرت معه ثلاث عمر لا يصلي إلا ركعتين وخرجت مع أبي بكر وغزوت فلم يصل إلا ركعتين حتى رجع إلى المدينة وحججت مع عمر حجاته فلم يصل إلا ركعتين حتى رجع إلى المدينة وحججت مع عثمان سبع سنين من إمارته لا يصلي ركعتين ثم صلى بمنى أربعا
((3 باب ما يجب فيه قصر الصلاة))
305 مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا خرج حاجا أو معتمرا قصر الصلاة بذي الحليفة
229

قال أبو عمر كان بن عمر يتبرك بالمواضع التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزلها للصلاة وغيرها وكان يمتثل فعله بكل ما يمكنه لما علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قصر الصلاة بذي الحليفة (صلاة العصر) في حين خروجه من المدينة إلى مكة فكان هو متى خرج من المدينة إلى مكة لم يقصر الصلاة إلا بذي الحليفة
وروى محمد بن المنكدر وإبراهيم بن ميسرة عن أنس قال صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعا والعصر بذي الحليفة ركعتين (1)
ورواه الثوري وبن عيينة كلاهما عن محمد بن المنكدر وإبراهيم بن ميسرة جميعا عن أنس بن مالك
ذكره وكيع عن الثوري وعبد الرزاق عن بن عيينة
قال أبو عمر يعني في حجة الوداع وسنبين ذلك إن شاء الله
وأما سفر بن عمر في غير الحج والعمرة فكان يقصر الصلاة إذا خرج من بيوت المدينة
ذكر عبد الرزاق وعبد الله بن وهب عن عبد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر أنه كان يقصر الصلاة في السفر حين يخرج من بيوت المدينة ويقصر إذا رجع حتى يدخل بيوتها واللفظ لعبد الرزاق
قال وأخبرنا الثوري عن ورقاء بن إياس الأسدي عن علي بن ربيعة الأسلمي قال خرجنا مع علي (رضي الله عنه) ونحن ننظر إلى الكوفة فصلى ركعتين ثم رجعلنا فصلى ركعتين وهو ينظر إلى الكوفة فقلت ألا تصلي أربعا قال لا حتى ندخلها
وروى بن عيينة وغيره عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن [يزيد] قال خرجت مع علي بن أبي طالب إلى صفين فلما كان بين الجسر والقنطرة صلى ركعتين
ومثل هذا عن علي من وجوه شتى
وهو مذهب جماعة العلماء إلا من شذ
وممن روينا ذلك عنه علقمة والأسود وعمرو بن ميمون والحارث بن قيس
230

الجعفي وإبراهيم النخعي وعطاء وقتادة والزهري
وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة والثوري وسليمان بن موسى والأوزاعي وأحمد بن حنبل وجماعة من الفقهاء وأهل الحديث
قال مالك في الموطأ لا يقصر الصلاة الذي يريد السفر حتى يخرج من بيوت القرية ولا يتم حتى يدخلها أو يقاربها وهذا تحصيل مذهبه عند جمهور أصحابه
وذكر بن حبيب عن مطرف وبن الماجشون عن مالك وبن كنانة أيضا عن مالك أنه قال إذا كانت القرية لا تجمع فيها الجمعة فإنه لا يقصر الصلاة الخارج عنها حتى يجاوز ثلاثة أميال وذلك أيضا ما تجب الجمعة فيه على من كان خارجا من المصر وكذلك إذا انصرف لا يزال يقصر حتى ينتهي إلى مثل ذلك من المصر
قال أبو عمر الذي رواه بن القاسم وغيره عن مالك في ذلك هو ما ذكره في الموطأ وهو الصحيح في مذهبه والذي ذكره بن الحكم عنه وهو الذي عليه جماعة السلف وجمهور الخلق
قال أبو عمر أما الإقامة للمسافر فلا يحتاج فيها إلى غير النية وأما السفر فمفتقر إلى العمل مع النية وكذلك من نوى الإقامة لزمه الصوم وإتمام الصلاة في الوقت
ومن كان في الحضر ونوى السفر لم يكن مسافرا بنيته حتى يعمل أقل عمل في سفره
فإذا تأهب المسافر وخرج من حضره عازما على سفره فهو مسافر ومن كان مسافرا فله أن يفطر ويقصر الصلاة إن شاء
ذكر عبد الرزاق عن بن جريج عن عطاء قال إذا خرج الرجل حاجا فلم يخرج من بيوت القرية حتى حضرت الصلاة فإن شاء قصر
وعن الثوري عن داود بن أبي هند عن أبي حرب بن أبي الأسود أن عليا رضي الله عنه حين خرج من البصرة رأى خصا (1) فقال لولا هذا الخص لصلينا ركعتين
ورواه وكيع عن الثوري مثله
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا أبو معاوية عن حجاج عن عمران بن عمير عن أبيه قال خرجت مع عبد الله بن مسعود إلى مكة فقصر الصلاة بقنطرة الحيرة
231

وكان علقمة والأسود وعمرو بن ميمون وإبراهيم النخعي إذا خرجوا مسافرين قصروا الصلاة إذا خرجوا من بيوت القرية
وهذا كله قول مالك المعروف عنه الذي عليه يتحصل مذهبه وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأصحابهما والثوري والليث بن سعد والأوزاعي وأحمد وإسحاق وجمهور أهل العلم
306 مالك عن بن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه أنه ركب إلى ريم (1) فقصر الصلاة في مسيرة ذلك
قال مالك وذلك نحو من أربعة برد
قال أبو عمر خالفه عقيل عن بن شهاب فقال وذلك نحو ثلاثين ميلا
وكذلك رواه عبد الرزاق عن مالك عن بن شهاب عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر كان يقصر الصلاة في مسيرة اليوم التام
قال سالم وخرجنا مع عبد الله إلى أرض له بريم وذلك من المدينة على نحو من ثلاثين ميلا فقصر عبد الله الصلاة يومئذ
قال أبو عمر أما رواية عبد الرزاق عن مالك فأظنها وهما فخلاف ما في الموطأ لها وإنما رواية عقيل عن بن شهاب فإن لم تكن وهما فيحتمل أن يكون ريم موضعا متسعا كالإقليم عندنا فيكون تقدير مالك إلى آخر ذلك وتقدير عقيل في روايته إلى أول ذلك
ومالك أعلم بنواحي بلده
قال بعض شعراء أهل المدينة
(فكم من حرة بين المنقى
* إلى أحد إلى جنبات ريم (2))
(إلى الروحاء ومن ثغر نقي
* عوارضه ومن ذلك وخيم
232

(ومن عين مكحلة المآقي
* بلا كحل ومن كشح هضيم)
(وجنبات ريم ربما كانت بعيدة الأقطار
*)
307 - مالك عن نافع عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر ركب إلى ذات النصب فقصر الصلاة في مسيرة ذلك
قال مالك وبين ذات النصب والمدينة أربعة برد
قال أبو عمر ذكر هذا الحديث أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا بن علية عن أيوب عن سالم عن نافع أن بن عمر خرج إلى أرض له بذات النصب فقصر وهي ستة عشر فرسخا
وهذا كما قاله مالك أربعة برد
وقال أخبرنا معمر أخبرني أيوب عن نافع عن بن عمر أنه كان يقصر في مسيره أربعة أبرد
308 قال مالك عن بن شهاب عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر كان يقصر الصلاة في مسيره اليوم التام
قال أبو عمر كذلك رواه بن جريج عن الزهري قال أخبرني سالم أن بن عمر كان يقصر في مسيره اليوم التام
قال أبو عمر مسيره اليوم التام بالسير الحثيث هي أربعة برد أو نحوها
309 مالك عن نافع عن بن عمر أنه كان يسافر إلى خيبر فيقصر الصلاة
رواه بن جريج قال أخبرني نافع أن بن عمر كان أدنى ما يقصر الصلاة إليه مال له بخيبر يطالعه وهو مسيرة ثلاثة فواصل لم يكن يقصر فيما دونه قلت فكم خيبر قال ثلاثة فواصل
وهذا أيضا خلاف ما روى مالك في ذلك ومالك أثبت من بن جريج في نافع
233

إذا اختلف القول عندهم فقول مالك لأن مالكا أحد الثلاثة المقدمين في حفظ حديث نافع وهم عبيد الله بن عمر وأيوب ومالك وأما بن جريج فهو عندهم في مالك رابعهم
وقد اختلف عن بن عمر في أدنى ما يقصر إليه الصلاة وأصح ما في ذلك عنه ما رواه عنه ابنه سالم ومولاه نافع أنه كان لا يقصر إلا في مسيره اليوم التام أربعة برد
310 وقد روى مالك عن نافع أنه كان يسافر مع عبد الله بن عمر البريد فلا يقصر الصلاة
وهذا يرد ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر الصلاة
وما رواه محمد بن زيد بن خليد عن بن عمر أنه [كان يقصر الصلاة في] مسيرة ثلاثة أميال
وهذان الخبران من رواية أهل الكوفة عن بن عمر فكيف نقبلها عن بن عمر مع ما ذكرنا من رواية سالم ونافع عنه بخلافها من حديث أهل المدينة وقد روى سفيان بن عيينة عن سعيد بن عبيد عن علي بن ربيعة قال سألت بن عمر عن قصر الصلاة فقال أتعرف السويداء قلت نعم قال فاقصر إليها
وهي على مسيرة يومين من المدينة
قال وكان بن عمر يقصر إليها
311 مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عباس كان يقصر الصلاة في مثل ما بين مكة الطائف وفي مثل ما بين مكة وعسفان وفي مثل ما بين مكة وجده
قال مالك وذلك أربعة برد وذلك أحب ما تقصر إلي فيه الصلاة
[قال مالك لا يقصر الذي يريد السفر الصلاة حتى يخرج من بيوت القرية ولا يتم حتى يدخل أول بيوت القرية أو يقارب ذلك]
قال أبو عمر هذا عن بن عباس معروف من نقل الثقات متصل الإسناد عنه من وجوه
234

(منها) ما رواه عمرو بن دينار وبن جريج عن عطاء قال سألت بن عباس فقلت أقصر الصلاة إلى عرفة وإلى منى قال لا ولكن إلى الطائف وإلى جدة ولا تقصروا الصلاة إلا في اليوم التام ولا تقصر فيما دون اليوم فإن ذهبت إلى الطائف أو إلى جدة أو إلى قدر ذلك من الأرض إلى أرض لك أو ماشية فاقصر الصلاة فإذا قدمت فأوف
ذكره عبد الرزاق عن بن جريج عن عطاء واللفظ لحديث بن جريج
وذكر أبو بكر قال حدثنا بن عيينة عن عمرو قال أخبرني عطاء عن بن عباس قال لا تقصر إلى عرفة ولا بطن نخلة وأقصر إلى عسفان والطائف وجدة فإذا قدمت على أهل أو ماشية فأتم
قال وحدثنا وكيع حدثنا هشام بن الغاز عن ربيعة الجرشي عن عطاء بن أبي رباح قال قلت لابن عباس أقصر إلى عرفة قال لا قلت أقصر إلى الطائف أو إلى عسفان قال نعم وذلك ثمانية وأربعون ميلا وعقد بيده
قال وحدثنا وكيع قال حدثنا شعبة عن رجل يقال له شبيل عن أبي حبرة قال قلت لابن عباس اقصر إلى بلد قال تذهب وتجيء في يوم قال قلت نعم قال لا إلا في يوم تام
قال أبو عمر هو شبيل بن عزرة كوفي ثقة وأبو حبرة اسمه شيحة بن عبد الله كوفي ثقة
قال أبو عمر قول بن عباس هذا لا يشبه أن يكون رأيا ولا يكون مثله إلا توفيقا والله أعلم ولا أعلم عن بن عباس خلافا إلا ما ذكره أبو بكر
قال حدثنا جرير عن منصور عن مجاهد عن بن عباس قال إذا كان سفرك يوما إلى العتمة فلا تقصر الصلاة فإن جاوزت ذلك فاقصر
قال أبو عمر قول بن عباس اختلف الفقهاء أئمة الفتوى بالأمصار في مقدار ما يقصر إليه الصلاة من المسافة فذهب مالك والشافعي وأصحابهما والأوزاعي والليث بن سعد إلى أن الصلاة لا يقصرها المسافر إلا في سيره اليوم التام بالبغل الحسن السير
وهو قول أحمد وإسحاق والطبري
وقد قال بعضهم يوما وليلة
235

ومعلوم أن الليل ليس بوقت سير لمن مشى بالنهار ولكنه تأكيد باليوم التام في أيام الصيف أو ما كان مثله في المسافة من أيام الشتاء
وقدره مالك بأربعة برد ثمانية وأربعون ميلا
قال الشافعي والطبري ستة وأربعون ميلا
وهذا أمر متفاوت
ومن قال بما وصفنا من مسيره اليوم التام وتقديره ما قاله لهم بن عباس وبن عمر على ما ذكرنا عنهما
وقال الكوفيون سفيان الثوري والحسن بن صالح وشريك وأبو حنيفة وأصحابه لا يقصر المسافر الصلاة إلا في المسافة البعيدة المحتاجة إلى الزاد والمزاد من الأفق إلى الأفق
قال سفيان وأبو حنيفة أقل ذلك ثلاثة أيام لا يقصر الصلاة مسافر في أقل من ثلاثة أيام كاملة
ومن السلف من ذهب هذا المذهب عثمان بن عفان وبن مسعود وحذيفة بن اليمان
روى سفيان بن عيينة عن أيوب عن أبي قلابة قال حدثني من سمع كتاب عثمان إلى عبد الله بن عباس يقول بلغني أن قوما يخرجون في جشرهم (1) إما في تجارة وإما في جباية فيقصرون الصلاة وأنه لا تقصر الصلاة إلا في سفر بعيد أو حضرة عدو
وذكر أبو بكر قال حدثنا إسماعيل بن علية عن أيوب عن أبي قلابة قال حدثني من قرأ كتاب عثمان أو قرئ عليه أما بعد فإنه بلغني أن رجالا منكم يخرجون إلى سوادهم إما في جشرة (2) أو في جباية وإما في تجارة فيقصرون الصلاة فلا يفعلوا فإنما يقصر الصلاة من كان شاخصا أو بحضرة عدو
قال وحدثنا وكيع قال حدثنا سفيان ومسعر عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال قال بن مسعود لا يغرنكم سوادكم من صلاتكم فإنما هو من كوفيكم
236

قال وحدثني علي بن مسهر عن الشيباني عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن بن مسعود مثله إلا أنه قال فإنه من مصركم
وروي عن معاذ بن جبل وعقبة بن عامر مثله
قال وحدثنا بن فضيل عن حجاج عن حماد عن إبراهيم قال كان أصحاب عبد الله لا يقصرون إلى واسط والمدائن وأشباههما
قال وحدثنا هشيم عن مغيرة أن الحارث قال لإبراهيم أتقصر الصلاة إلى المدائن قال إن المدائن لقريب ولكن إلى الأهواز
قال وحدثنا وكيع قال حدثنا الحسن بن صالح وإسرائيل عن إبراهيم بن عبد الأعلى عن سويد بن علقمة قال إنما تقصر الصلاة في مسيرة ثلاث
قال وحدثنا أبو الأحوص عن عاصم عن بن سيرين قال كانوا يقولون السفر الذي يقصرون الصلاة فيه الذي يحمل فيه الزاد والمزاد
وذكر عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال كنت مع حذيفة بالمدائن فاستأذنته أن آتي أهلي بالكوفة فأذن لي وشرط علي أن لا أقصر ولا أصلي ركعتين حتى أرجع إليه
وأخبرنا الثوري عن خصيف عن أبي عبيدة عن بن مسعود أنه قال لا تغتروا بتجارتكم وأجشاركم تسافرون إلى آخر السواد وتقولون إنا قوم سفر إنما المسافر من أفق إلى أفق
قال وأخبرنا بن جريج قال أخبرنا عبد الكريم الجزري عن بن مسعود وحذيفة أنهما كانا يقولان لأهل الكوفة لا يغرنكم جشركم ولا سوادكم لا تقصروا الصلاة إلى السواد قال وبينهم وبين السواد ثلاثون فرسخا
قال وأخبرنا بن جريج عن نافع قال أقل مكان يقصر فيه بن عمر الصلاة إلى خيبر وهي مسيرة ثلاث قواصد
قال وأخبرنا إسرائيل عن عامر بن شقيق قال سألت شقيق بن سلمة قلت أخرج إلى المدائن وإلى واسط قال لا تقصر الصلاة
قال وأخبرنا أبو حنيفة عن حماد قال سألت إبراهيم وسعيد بن جبير في كم تقصر الصلاة قالا في مسيرة ثلاثة
قال عبد الرزاق سمعت الثوري يقول قولنا الذي نأخذ به ألا تقصر الصلاة
237

إلا في مسيرة ثلاثة أيام فصاعدا قلت من أجل ما أخذت به قال لقول النبي صلى الله عليه وسلم لا تسافر امرأة فوق ثلاث إلا مع ذي محرم (1)
قال أبو عمر ليس في هذا حجة لأنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تسافر امرأة مسيرة ثلاث وروي عنه عليه الصلاة والسلام مسيرة يومين أو ليلتين وروي عنه صلى الله عليه وسلم يوما وليلة وروي عنه لا تسافر امرأة بريدا إلا مع ذي محرم
وقد تكلمنا على معانيها في كتاب الحج وذكرنا كل حديث منها هناك بإسناده
وقال الحسن البصري وبن شهاب الزهري تقصر الصلاة في مسيرة يومين ذكره عبد الرزاق عن سفيان عن الزهري وعن الثوري عن يونس عن الحسن
وقالت طائفة من أهل الظاهر يقصر الصلاة كل مسافر في كل سفر قصيرا كان أو طويلا ولو ثلاثة أميال
وقال داود إن سافر في حج أو عمرة أو غزو قصر الصلاة في قصير السفر وطويله
ومن حجتهم من ظاهر قول الله عز وجل * (وإذا ضربتم في الأرض) * [النساء 101] لم يجد مقدارا من المسافة
وقد نقض داود من قال بقوله من أهل الظاهر أصلهم هذا لأنه عز وجل لم يقل وإذا ضربتم في الأرض في حج أو عمرة
واحتج بعضهم بحديث أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر سار فرسخا ثم نزل قصر الصلاة (2)
والحديث حدثناه سعيد قال حدثنا قاسم قال حدثنا محمد قال حدثنا أبو بكر قال حدثنا هشيم عن أبي هارون عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر فرسخا قصر الصلاة
238

وأبو هارون العبدي اسمه عمارة بن جوين منكر الحديث عند جميعهم متروك لا يكتب حديثه وقد نسبه حماد بن زيد إلى الكذب قال وكان يروي بالغداة شيئا وبالعشي شيئا
وقال عباس عن بن معين قال أبو هارون العبدي كانت عنده صحيفة يقول فيها هذه صحيفة الوصي وكان عندهم لا يصدق في حديثه
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل سألت أبي عن هارون العبدي فقال ليس بشيء
قال أبو عمر على أن عبد الرزاق رواه عن هشيم قال أخبرني أبو هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فرسخا ثم نزل يقصر الصلاة
وهذا على ما رواه مطرف وبن الماجشون عن مالك على ما ذكرنا في أول هذا الباب
واحتجوا بحديث محمد بن المنكدر وإبراهيم بن ميسرة عن أنس قال صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعا والعصر بذي الحليفة ركعتين (1)
قالوا فمن سافر في مثل هذه المسافة أو مثلها قصر الصلاة
وهذا جهل بالحديث لأن حديث أنس هذا إنما هو في خروجه مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى ذي الحليفة في حجة الوداع
ذكر البخاري قال حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس بن مالك قال صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة الظهر أربعا والعصر بذي الحليفة ركعتين (2)
وسمعتهم يصرخون بهما جميعا
قال أبو عمر يعني أحرموا بالحج والعمرة جميعا من ذي الحليفة يومئذ
وذكر عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس بن مالك قال صليت الظهر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعا وصليت معه بذي الحليفة ركعتين وكان خرج مسافرا
قال أبو عمر هذا أول حديث أدخله عبد الرزاق في باب متى يقصر إذا خرج مسافرا
239

قال وأخبرني بن جريج قال أخبرني بن المنكدر عن أنس بن مالك أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة الظهر أربعا ثم خرج فصلى معه بذي الحليفة العصر ركعتين والنبي صلى الله عليه وسلم يريد مكة
فقد بان برواية بن جريج عن محمد بن المنكدر عن أنس وبرواية أبي قلابة عن أنس أن قصر النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة إنما كان في حين خروجه من المدينة مسافرا إلى مكة
حدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدثنا سليمان بن حرب وعارم قالا حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس قال صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعا والعصر بذي الحليفة ركعتين وسمعتهم يصرخون بهما جيمعا
وذكر وكيع قال حدثنا زكريا عن عامر الشعبي قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسافرا قصر الصلاة من ذي الحليفة
قال أبو عمر قد مضى في أول هذا الباب حديث بن عمر أنه كان إذا خرج مسافرا قصر الصلاة بذي الحليفة (1)
قال وذكرنا الاختلاف في الحال والموضع الذي يبدأ فيه المسافر بقصر الصلاة إذا خرج من مصره وهذه الآثار في ذلك المعنى
واحتج داود أيضا ومن قال بقوله من أهل الظاهر بحديث شعبة عن يحيى بن يزيد الهنائي قال سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة فقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أيام أو ثلاثة فراسخ شعبة الشاك صلى ركعتين (2)
وأبو يزيد يحيى بن يزيد الهنائي شيخ من أهل البصرة ليس مثله ممن يحتمل أن يحمل هذا المعنى الذي خالف فيه جمهور الصحابة التابعين ولا هو ممن يوثق به في ضبط مثل هذا الأصل
وقد يحتمل أن يكون أراد ما تقدم ذكره من ابتدأ قصر الصلاة إذا خرج ومشى ثلاثة أميال على نحو ما قاله وذهب إليه بعض أصحاب مالك فلم يحسن العبارة عنه
240

واحتجوا أيضا بحديث شعبة عن يزيد بن خمير عن حبيب بن عبيد عن جبير بن نفير عن بن السمط أن عمر صلى بذى الحليفة ركعتين فقلت له فقال أصنع كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع
وهذا الحديث لا حجة فيه لأن عمر إنما صنع ذلك وهو مسافر إلى مكة وكذلك صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم
حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد قال حدثنا أبو بكر قال حدثنا عبيد بن سعيد عن شعبة بن يزيد بن خمير قال سمعت خمير بن عبيد يحدث عن جبير بن نفير عن بن السمط قال شهدت عمر بذي الحليفة وهو يريد مكة صلى ركعتين فقلت له لم تفعل هذا فقال إنما أصنع كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع
واحتجوا أيضا بما حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم قال حدثنا محمد قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا هشيم قال أخبرنا جويبر عن الضحاك عن النزال أن عليا خرج إلى النخيلة فصلى بها الظهر والعصر ركعتين ركعتين ثم رجع من يومه فقال إني أعلمكم بسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم
وهذا إسناد فيه من الضعف والوهن ما لا (خفاء) به
وجويبر متروك الحديث لا يحتج به لإجماعهم على ضعفه
وخروج علي رضي الله عنه إلى النخيلة معروف أنه كان مسافرا سفرا طويلا
فإن احتجوا بما ذكره أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا أبو علية عن الجريري عن أبي الورد عن اللجلاج قال كنا نسافر مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فنسير ثلاثة أميال فيتجوز في الصلاة
فإن اللجلاج وأبا الورد مجهولان ولا يعرفان في الصحابة ولا في التابعين
واللجلاج قد ذكر عن الصحابة ولا يعرف فيهم ولا في التابعين وليس في نقله حجة
وأبو الورد أشر جهالة وأضعف نقلا ولو صح احتمل ما وصفنا قبل والله أعلم
وكذلك ما روي عن بن مسعود أنه قصر في أربعة فراسخ منكر غير معروف من مذهب بن مسعود
وكذلك ما حكاه الأوزاعي عن أنس بن مالك أنه كان يقصر الصلاة في خمسة
241

فراسخ وذلك خمسة عشر ميلا ليس بالقوي لأنه منقطع ليس يحتج بمثله
قال الأوزاعي وكان قبيصة بن ذؤيب وهانئ بن كلثوم وعبد الله بن محيريز يقصرون الصلاة فيما بين الرملة وبيت المقدس
قال الأوزاعي وعامة العلماء يقولون مسيرة يوم تام قال وبه نأخذ
قال أبو عمر هو كما قال الأوزاعي وجمهور العلماء لا يقصرون الصلاة في أقل من أربعة برد وهو مسيرة يوم تام بالسير القوي الحسن الذي لا إسراف فيه ومن احتاط فلم يقصر إلا في مسيرة ثلاثة أيام كاملة فقد أخذنا بالأوثق وبالله التوفيق
((4 باب صلاة المسافر ما لم يجمع مكثا (1)))
312 مالك عن بن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر أن عبد الله بن عمر كان يقول أصلي صلاة المسافر ما لم أجمع مكثا وإن حبسني ذلك اثنتي عشرة ليلة
313 مالك عن نافع أن بن عمر أقام بمكة عشر ليال يقصر الصلاة إلا أن يصليها [مع] إمام فيصليها بصلاة الإمام
قال أبو عمر لا أعلم خلافا فيمن سافر سفرا يقصر فيه الصلاة لا يلزمه أن يتم في سفره إلا أن ينوي الإقامة في مكان من سفره ويجمع نيته على ذلك
واختلف أهل العلم في المدة التي إذا نوى المسافر أن يقيم فيها لزمه الإتمام
وسنذكر ما رووه فيه من ذلك وما نقلوه فيه من الآثار في الباب بعد هذا إن شاء الله
وليس في حديث بن عمر المتقدم في هذا الباب ذكر المقام في مكة أو غيرها
والحديث الثاني حديث نافع دل فيه إقامته بمكة عشرا يقصر الصلاة
وبن عمر رجل من المهاجرين الذين شهدوا البيعة التي بايعوا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المقام معه بالمدينة وأن لا يتخذوا مكة وطنا فمقامه بمكة ليس بنية إقامة
242

ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول عمر بعده لأهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر (1)
وأما قوله إلا أن يصليها وراء إمام فيأتي القول في ذلك في بابه بعد هذا إن شاء الله
وقد تقدم في الباب حديث عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة عام الفتح ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين وقيل تسع عشرة ليلة وقيل سبع عشرة وقيل خمس عشرة ليلة
وليس لمن احتج بمقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة حجة بكثرة الاختلاف والاضطراب في ذلك ولأنه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه جعل شيئا من ذلك سنة وقد قال لأهل مكة أتموا صلاتكم فإنا سفر ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقيم في الدار التي هاجر منها
((5 باب المسافر إذا أجمع مكثا))
314 مالك عن عطاء بن عبد الله الخرساني أنه سمع سعيد بن المسيب قال من أجمع إقامة أربع ليال وهو مسافر أتم الصلاة
قال مالك وذلك أحب ما سمعت إلي
قال وسئل مالك عن صلاة الأسير فقال مثل صلاة المقيم
قال أبو عمر قال اختلف العلماء في المدة التي إذا نوى المسافر الإقامة فيها لزمه إتمام صلاته
فذهب مالك إلى ما ذكره في هذا الباب عن عطاء الخرساني عن سعيد بن المسيب وقال في موطئه أنه أحب ما سمع إليه في ذلك فدل ذلك على سماعه الاختلاف في ذلك
وذكر بن وهب عن مالك قال أحسن ما سمعت والذي لم يزل عليه أهل العلم عندنا أن من أجمع إقامة أربع ليال وهو مسافر أتم الصلاة
قال أبو عمر وإلى هذا ذهب الشافعي وهو قوله وقول أصحابه وأبي ثور وداود
243

قال وخالفه في ذلك بعض أهل الظاهر
قال الشافعي إذا أزمع المسافر أن يقيم بموضع أربعة أيام بلياليهن أتم الصلاة ولا يحسب في ذلك يوم نزوله ولا يوم رحله
وقول أبي ثور في ذلك كقول الشافعي ومالك
وقد روي عن أبي جعفر محمد بن علي بن حسين وعن الحسن بن صالح بن حي مثل ذلك على اختلاف عنهما في ذلك
وروى قتادة عن سعيد بن المسيب قال إذا أقام المسافر أربعا صلى أربعا
وذكره وكيع عن هشام الدستوائي عن قتادة عن سعيد بن المسيب
وهذا في معنى رواية عطاء الخرساني عن سعيد بن المسيب وهو عندي أثبت ما روي في ذلك عن سعيد بن المسيب والله أعلم
وقد روي عنه في ذلك ثلاثة أقوال أذكرها كلها في هذا الباب إن شاء الله والحمد لله
قال الشافعي وأبو ثور ومن ذلك ما روي في هذا حديث العلاء بن الحضرمي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل للمهاجر مقام ثلاثة أيام بمكة بعد قضاء نسكه (1)
ومعلوم أن مكة لا يجوز لمهاجري أن يتخذها دار إقامة
فأبان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ثلاثة أيام لمن نوى إقامتها لحاجة ليست بإقامة يخرج فيها الذي نواها عن حكم المسافر وأن حكمها حكم السفر لا حكم الإقامة
فوجب بهذا أن يكون من نوى المقام أكثر من ثلاث فهو مقيم ومن كان مقيما لزمه الإتمام
ومعلوم أن أول منزلة بعد الثلاث الأربع
ويعضد هذا أيضا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
244

قال في مرضه الذي توفي فيه لا يبقين دينان بأرض العرب وأمر بإخراج يهود الحجاز لم يجعل لهم غير مقام ثلاثة أيام إذ أمر بإخراجهم فكانت عنده مدة الثلاثة الأيام إقامة بلا إقامة (1)
حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي قال حدثنا محمد بن الميمون بن حمزة الحسني قال حدثنا الطحاوي قال حدثنا المزني قال حدثنا الشافعي قال حدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الرحمن بن حميد قال سأل عمر بن العزيز جلساءه ماذا سمعتم في مقام المهاجرين بمكة فقال السائب بن يزيد أخبرنا العلاء بن الحضرمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يمكث بمكة المهاجر من بعد قضاء نسكه ثلاثا (2)
حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا يحيى بن عبد الحميد قال حدثنا سفيان بن عيينة وحفص بن غياث عن عبد الرحمن بن حميد قال سمعت السائب بن يزيد يحدث عمر بن عبد العزيز عن العلاء بن الحضرمي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يقيم المهاجر من قال سفيان بعد نسكه ثلاثا وقال حفص بعد الصدر ثلاثا
قال أبو عمر هو عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ثقة
ذكر علي بن المديني قال حدثنا سفيان بن عيينة قال حدثنا إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن عبد الرحمن الأعرج قال خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على سعد رجلا فقال إذا مات سعد بمكة فلا تدفنه بها
قال وحدثنا سفيان عن محمد بن قيس الأسدي عن () قال قال سعد بن أبي وقاص يا رسول الله أتكره أن يموت الرجل بالأرض التي هاجر منها قال نعم
وقال سفيان وأبو حنيفة وأصحابه (إذا نوى) الرجل إقامة خمس عشرة ليلة أتم الصلاة وإن كان دون ذلك قصر
وروي مثله عن بن عمر وسعيد بن المسيب
روى وكيع [عن عمرو بن دينار] عن مجاهد قال كان بن عمر إذا أجمع على إقامة خمس عشرة ليلة سرج ظهره وصلى أربعا
245

وروى وكيع أيضا عن () عن بن عمر وبن عباس أنهما قالا إذا قدمت بلدا وأنت مسافر وفي نيتك أن تقيم خمس عشرة ليلة فأكمل الصلاة
قال الطحاوي ولا مخالف لهما من الصحابة
قال ولما أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته أكثر من أربع يقصر الصلاة ذكر الإتمام على اعتبار الأربع
وروى أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا عبد الله بن إدريس عن داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيب قال إذا نوى الرجل على إقامة خمس عشرة ليلة أتم الصلاة
وهذا أيضا حديث صحيح الإسناد عن سعيد
وفي المسألة قول ثالث قال الليث بن سعد إن نوى إقامة خمس عشرة فما دون قصر وإن نوى إقامة أكثر من خمس عشرة أتم الصلاة
واحتج بما رواه عن يزيد بن أبي حبيب عن عراك بن مالك عن عبيد الله بن عبد الله بن مسعود عن بن عباس قال أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة يصلي ركعتين ركعتين
قال أبو عمر هذا الحديث قد رواه الزهري عن عبيد الله كما رواه عراك
وقد ذكره أبو بكر قال حدثنا عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بعد الفتح خمس عشرة يقصر الصلاة حتى سار إلى حنين (1)
قال أبو عمر فكان الليث بن سعد يقول إنه لم يبلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قصر في سفره أكثر من هذه المدة فمن زاد عليها شيئا لزمه الإتمام
وهذا لم يختلف في مقامه صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح لكن الاختلاف في ذلك كثير جدا
وفي المسألة قول رابع ذكره وكيع قال أخبرنا قرة بن خالد عن أبي حكيمة قال سألت سعيد بن المسيب فقال إذا أتممت ثلاثا فأتم الصلاة
وفيها قول خامس قال الأوزاعي إذا أقام المسافر ثلاثة عشر يوما أتم وإن نوى أقل من ذلك قصر
246

وفيها قول سادس روي عن بن عمر أنه قال إذا أقام اثنتي عشرة ليلة أتم وإن كان دون ذلك قصر
ومثل هذا حديث مالك عن بن شهاب عن سالم عن أبيه أنه كان يقول أصلي صلاة المسافر ما لم أجمع مكثا وإن حبسني ذلك اثنتي عشرة ليلة (1)
وقد روى عن الأوزاعي أيضا مثل ذلك
وفيها قول سابع قاله أحمد بن حنبل وداود قال أحمد روت عائشة وجابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قدم مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة قال أحمد فقد أزمع رسول الله صلى الله عليه وسلم على مقام أربعة أيام يقصر فمن زاد على ذلك فإنه يتم
وقال داود من عزم على إقامة أربعة أيام عشرين صلاة قصر ومن عزم على مقام أكثر من ذلك أتم لأن النبي صلى الله عليه وسلم (صلى) في حجته صلاة أربعة أيام وهو مقيم بمكة ثم خرج إلى منى وهو في ذلك كله يقصر
والأصل أن كل من أقام فقد لزمه الإتمام إلا أن يخص ذلك سنة أو إجماع وقد نصت السنة ذلك المقدار فمن زاد عليه لزمه الإتمام
قال أبو عمر ليس مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة إذ دخلها لحجته بإقامة لأنها ليست له بدار إقامة ولا بملاذ ولا لمهاجري أن يتخذها دار إقامة ولا وطن وإنما كان مقامه بمكة إلى يوم التروية كمقام المسافر في حاجة يقضيها في سفر منصرفا إلى أهله فهو مقام من لا نية له في الإقامة ومن كان هذا فلا خلاف أنه في حكم المسافر يقصر فلم ينو النبي صلى الله عليه وسلم بمكة إقامة بل نوى الخروج منها إلى منى يوم التروية عاملا في حجة حتى ينقضي وينصرف إلى المدينة
وفيها قول ثامن روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال إذا أقام عشرة أيام أتم
وروي ذلك عن أبي جعفر محمد بن علي وعن الحسن بن صالح
وفيها قول تاسع ذكره البخاري عن موسى بن إسماعيل عن أبي عوانة عن عاصم وحصين عن عكرمة عن بن عباس قال أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يوما يقصر فنحن إذا أقمنا تسعة عشر قصرنا وإن زدنا أتممنا (2)
هكذا ذكر البخاري أن مقامه بمكة حيث فتحها صلى الله عليه وسلم كان تسعة عشر
247

وهو حديث مختلف فيه لا يثبت فيه شيء لكثرة اضطرابه
وقد رواه حفص بن غياث عن عاصم عن عكرمة عن بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام سبع عشرة يقصر الصلاة
قال وقال بن عباس من أقام سبع عشرة يقصر الصلاة ومن أقام أكثر من ذلك أتم
هكذا ذكره أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا حفص عن عاصم عن عكرمة عن بن عباس وحفص أحفظ من أبي عوانة إلا أن عباد بن منصور قد تابع أبا عوانة فروى عن عكرمة عن بن عباس قال أقام تسعة عشر وأما الزهري فروى عن عبيد الله بن عبد الله عن بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام حيث فتح مكة خمسة عشر يقصر الصلاة حتى سار إلى حنين
هكذا رواه بن إسحاق عن بن شهاب
وحدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا النفيلي قال حدثنا محمد بن سلمة عن بن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن بن عباس قال أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة يقصر الصلاة
قال أبو داود رواه عبدة بن سليمان وسلمة (بن الفضل) وأحمد بن خالد الوهبي كلهم عن بن إسحاق عن الزهري عن عبد الله لم يذكروا بن عباس
قال أبو عمر ليس فيهم من يقاس بابن إدريس وقد تابعه محمد بن سلمة وزيادة مثلهما مقبولة
وقد روى علي بن زيد عن أبي نضرة عن عمران بن حصين قال قمنا مع النبي عليه الصلاة والسلام بمكة حيث فتحها ثمانية عشر يصلي ركعتين ركعتين
فكيف يثبت مع هذا الاختلاف مقدار إقامته بمكة عام الفتح أو أي حجة في إقامته بمكة وليست له بدار إقامة بل هي في حكم دار الحرب أو حيث لا تجوز الإقامة
وأما مقامه في عمرة القضاء فلم يختلفوا أنه كان ثلاثة أيام
وأما إقامته في حجته فدخل صبيحة رابعة من ذي الحجة وخرج صبيحة رابعة عشر تواترت الروايات بذلك وفيها قول عائشة
روي عن الحسن البصري أنه قال يصلي المسافر ركعتين ركعتين أبدا إلا أن يقدم مصرا من الأمصار
248

وهذا قول لا أعلم أحدا قاله أيضا غيره والله أعلم
وفيها قول حادي عشر قاله ربيعة بن أبي عبد الرحمن لا أعلم أحدا قاله أيضا غيره قال ربيعة من أجمع إقامة يوم وليلة أتم الصيام وصام
هذا منه قياس على ما تقصر فيه الصلاة عنده ولم يبلغه فيه شيء عن السلف والله أعلم
وأما قوله في هذا الباب سئل مالك عن صلاة الأسير فقال مثل صلاة المقيم
قال أبو عمر لا أعلم خلافا بين العلماء في ذلك ومحال أن يصلي وهو مقيم مأسور إلا صلاة المقيم وإن سافر أو سوفر به كان له حينئذ حكم المسافر وبالله التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل
((6 باب صلاة المسافر إذا كان إماما أو وراء إمام))
315 ذكر فيه مالك عن عمر بن الخطاب من طريقين أحدهما عن بن شهاب عن سالم عن أبيه عن عمر
316 الثاني عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر أنه كان إذا قدم مكة صلى بهم ركعتين ثم يقول يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر
وفي هذا الحديث من الفقه على ما كان المهاجرون عليه من الاهتمام بأمر الهجرة وحفظها وإن أهل مكة لما أمروا بالهجرة عنها إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم يتخذها أحد منهم بعد ذلك دار إقامة فكان من قدم منهم إلى الحج لا ينوي إقامة وكان يصلي صلاة المسافر حتى يخرج
وفيه أن المسافر يؤم المقيمين وهذا هو المستحب عند جماعة العلماء لا خلاف علمته بينهم في أن المسافر إذا صلى بمقيمين ركعتين وسلم قاموا فأتموا أربعا لأنفسهم أفرادا
وأما صلاة المقيم بالمسافر فيأتي ذكرها بعد هذا إن شاء الله
وفيه أن الإمام إذا سلم في موضع من الصلاة يجوز له فيه السلام لم يضر المأمومين ما تكلم به إليهم بعد السلام
249

وفيه ما كان عليه عمر رضي الله عنه من تعليم رعيته ما يجب عليهم من أمر دينهم وهذا هو الذي خاطب به عمر رضي الله عنه أهل مكة في إتمام صلاتهم امتثل فيه فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه صلى الله عليه وسلم صنع ذلك بمكة أيضا
حدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا إسماعيل بن علية عن علي بن زيد عن أبي نضرة قال مر بنا عمران بن حصين في مجلسنا فقال غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يصل إلا ركعتين حتى رجع إلى المدينة وحججت معه فلم يصل إلا ركعتين حتى رجع إلى المدينة واعتمرت معه ثلاث عمر ولم يصل إلا ركعتين حتى رجع إلى المدينة وشهدت معه الفتح فأقام بمكة اثنتي عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين ثم يقول لأهل البلد صلوا أربعا فإنا سفر (1)
317 وذكر مالك في هذا الباب عن بن شهاب عن صفوان بن عبد الله بن صفوان أنه قال جاءنا عبد الله بن عمر يعود عبد الله بن صفوان فصلى بنا ركعتين فقمنا فأتممنا
وهذا على ما ذكرت لك في هذا الباب أنه لا اختلاف علمته فيه وحسبك بذلك وسنة وإجماعا وحديثا
318 وأما حديثه عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يصلي وراء الإمام بمنى أربعا فإذا صلى لنفسه صلى ركعتين فإن العلماء قديما وحديثا اختلفوا في المسافر يصلي وراء مقيم
فقال مالك وأصحابه إذا لم يدرك معه ركعة تامة صلى ركعتين وإن أدرك معه ركعة بسجدتيها صلى أربعا
وهو معنى قول الأوزاعي
وذكر الطحاوي أن أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدا قالوا يصلي صلاة مقيم وإن أدركه في التشهد
قال وهو قول الليث والشافعي والأوزاعي
250

وذكر الطبري قال حدثنا العباس بن الوليد بن مزيد عن أبيه عن الأوزاعي فيمن صلى من المسافرين مع الحضري ركعة أو ركعتين ثم عرض له رعاف فقطع صلاته قال يبني على صلاة مقيم حتى يكمل أربعا قيل له فإنه صلى صلاة مسافر في بيته ثم دخل المسجد فوجدهم في تشهد تلك الصلاة الآخر فجلس معهم قال لا يعتد بما أدرك من الجلوس معهم لأنه لم يدرك الركعة معهم وقد أجزأت عنه صلاته التي صلى في بيته
قال وقال الأوزاعي في مسافر أراد أن يصلي المكتوبة ركعتين فسها حتى صلى ثلاثا قال ليكمل أربع ركعات
وأما الشافعي فلم يختلف في قوله إن كل مسافر دخل في صلاة مقيم قبل أن يسلم المقيم منها لزمه إتمامها ولا يراعي إدراك الركعة لإجماعهم على أن من نوى في حين دخوله في الصلاة الإتمام لزمه فكذلك من دخل مع مقيم في صلاته
وحجة قول مالك أن المسافر سنته ركعتان ومن لم يدرك ركعة من الصلاة فهو في حكم من لم يدرك شيئا منها والمسافر إذا لم يدرك شيئا من صلاة المقيم صلى ركعتين بإجماع
واختلف الفقهاء في المسافر يدرك من صلاة المقيم ركعة أو أكثر أو يدركه في التشهد فيصلي معه ثم يعرض له ما يفسد صلاته من حدث أو غيره ماذا يقضي وماذا عليه أن يصلي فأما مالك فقال من أدرك من صلاة المقيم ركعة وهو مسافر لزمه الإتمام ومن لم يدركها فصلاته ركعتان فعلى هذا يلزمه أن يصلي أربعا إذا صلى مع المقيم ركعة ثم فسدت عليه صلاته وإن لم يدرك معه ركعة رجع إلى عمل صلاته ركعتين
وقال الشافعي وأصحابه يصلي أربعا فإنه قد لزمه بدخوله الإتمام في صلاة المقيم أربعا ويصح لهم الدخول عندهم
وهو قول الحسن بن حي
وقال أبو حنيفة وأصحابه في المسافر يدخل في صلاة مقيم ثم يقطعها يصلي صلاة مسافر لأنه إنما يصلي وراءه أربعا اتباعا له فإذا لم يكن خلف مقيم لم يصل إلا فريضة ركعتين
وقال أبو ثور في هذه المسألة قولان
251

أحدهما أنه لما دخل مع المقيم وجب عليه ما وجب على المقيم فلما أفسدها وجب عليه أن يأتي بما وجب عليه من الإتمام
والآخر أنه لما أفسدها رجع إلى ما كان عليه في الابتداء من الخيار في الإتمام أو التقصير
وأما من نسي صلاة في حضر فذكرها في سفر أو نسيها في السفر فذكرها وهو مقيم فقد تقدم القول في ذلك في صدر هذا الكتاب حيث ذكره مالك رحمه الله في موطئه وذلك في باب جامع الوقوت لكن لم يذكر منها هناك إلا وجها واحدا فنذكر ها هنا ما للفقهاء من المذاهب ليتم فائدتها
قال مالك وأصحابه من نسي صلاة أو فاتته في السفر فلم يذكرها إلا مقيما قصرها وإن سافر بعد خروج الوقت ولم يصل صلاة الوقت في الحضر صلاها مسافرا صلاة مقيم كما لزمته إنما يقضي ما فاته على حسب ما فاته وهو قول أبي حنيفة والثوري
وقال الأوزاعي والشافعي وعبد الله بن الحسن والحسن بن صالح وأحمد بن حنبل يصلي في المسألتين جميعا صلاة حضر
وقد كان الشافعي يقول ببغداد مثل قول مالك ثم رجع بمصر إلى ما ذكرنا عنه وهو تحصيل مذهبه
وقال الحسن البصري وطائفة من البصريين من نسي صلاة في حضر فذكرها في السفر صلاها سفرية ومن نسيها في السفر وذكرها في الحضر صلاها حضرية أربعا لأنها لا تجب عليه إلا في الحين الذي يذكرها فيه كما لو ذكرها وهو مريض أو ذكرها وهو في صحة وقد لزمته في مرضه صلاها على حاله
وبهذا قال بن علية وبن المديني والطبري
((7 باب صلاة النافلة في السفر بالنهار والصلاة على الدابة))
319 ذكر فيه مالك عن نافع عن بن عمر أنه كان لا يصلي مع صلاة الفريضة في السفر شيئا قبلها ولا بعدها إلا من جوف الليل فإنه كان يصلي على الأرض وعلى راحلته حيث توجهت
252

320 وذكر عن القاسم بن محمد وعروة بن الزبير وأبي بكر بن عبد الرحمن أنهم كانوا يتنفلون في السفر
321 وعن نافع أيضا أن عبد الله كان يرى ابنه يتنفل في السفر فلا ينكر عليه
وهذا الخبر خلاف ما روي عن بن عمر لو تنفلت في السفر لأتممت
إلا أن بن عمر قد احتج لفعله ذلك بما نذكره عنه بعد في هذا الباب إن شاء الله
وهذه الآثار كلها دالة على أن الإنسان مخير في النافلة وفي صلاة السنة الركعتين قبل الظهر وبعدها وبعد المغرب إن شاء فعل ذلك فحصل على ثوابه وإن شاء قصر
ومعلوم أن المرء مخير في فعل النافلة في الحضر فكيف في السفر وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنفل في السفر وفيه الأسوة الحسنة
روى الليث بن سعد عن صفوان بن سليم عن أبي بسرة عن البراء بن عازب قال سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني عشرة سفرة فما رأيته يترك الركعتين قبل الظهر (1)
حدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا بكر قال حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى القطان عن بن أبي ذئب عن بن سراقة قال سمعت بن عمر يقول رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلي قبلها ولا بعدها في السفر (2)
وحدثنا عبد الوارث قال حدثنا عيسى بن حفص الغمري عن أبيه قال كنت مع بن عمر في مصر فصلى بنا ركعتين ثم انصرف إلى خشبة رحله فاتكأ عليها فرأى قوما وراءه قياما فقال ما يصنع هؤلاء قلت يسبحون قال لو كنت مسبحا لأتممت صلاتي يا بن أخي صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزد على ركعتين ركعتين حتى مضى ثم صحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين ركعتين ثم صحبت عمر فلم
253

يزد على ركعتين ركعتين ثم صحبت عثمان فلم يزد على ركعتين ركعتين (1)
وحدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا أبو يحيى بن أبي ميسرة قال حدثنا مطرف قال حدثنا عبد الله بن عمر عن عمه عيسى بن حفص عن أبيه أنه قال سافرت مع عبد الله بن عمر فذكر مثله
قال أبو عمر [هذا المعنى] محفوظ عن بن عمر من وجوه وقد رويت آثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ربما تنفل في السفر [وأنه كان يرتحل من] منزل ينزله حتى يصلي ركعتين وأهل العلم لا يرون بالنافلة في السفر بأسا كما قال مالك رحمه الله
قال يحيى [سئل مالك عن النافلة] في السفر فقال لا بأس بذلك بالليل والنهار وقد بلغني أن بعض أهل العلم كان يفعل ذلك
وفي قوله بعض أهل العلم دليل على أن منهم من كان لا يتنفل في السفر وذلك كله على ما وصفنا وبالله التوفيق
وقد تقدم في كتابنا هذا عن بن عباس أنه كان يأمر بالنافلة في السفر ويقول كما يتنفل في الحضر بعد الأربع فكذلك يتنفل في السفر بعد الركعتين هذا معنى قوله دون لفظه
322 وأما حديث مالك في هذا الباب عن عمرو بن يحيى وسعيد بن يسار عن بن عمر أنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو على حمار وهو متوجه إلى خيبر
254

323 وحديثه عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي على راحلته في السفر حيث توجهت به
وكان بن عمر يفعله
لم يذكر مالك رحمه الله في حديثه هذا أنه كان ذلك منه صلى الله عليه وسلم تطوعا في غير المكتوبة
وقد ذكره موسى بن عقبة وشعبة عن عبد الله بن دينار عن عمر
وذكره بن شهاب عن أبيه عن سالم
ورواه القاسم بن محمد ونافع عن بن عمر كلهم يذكر فيه التطوع وهذا أمر لا خلاف فيه والحمد لله
وقد انعقد الإجماع على أنه لا يجوز أن يصلي أحد فريضة على الدابة في غير شدة الخوف فكفى بهذا بيانا وحجة
وقد ذكرنا الآثار بما وصفنا بالأسانيد في كتاب التمهيد
وأما قول الشيخ رحمه الله أن عمرو بن يحيى قد انفرد بذكر صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على الحمار في السفر فإنما قال ذلك لأن المعروف المحفوظ في حديث بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي النافلة في السفر على راحلته لا على الحمار حيث توجهت به
وهذا إنما أنكر العلماء منه اللفظ دون المعنى ولا خلاف بين الفقهاء في جواز صلاة النافلة على الدابة حيث توجهت براكبها في السفر
وقد ذكرنا في التمهيد حديث جابر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي أين ما كان وجهه على الدابة
255

عن الحسن البصري قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون في أسفارهم على دوابهم أينما كانت وجوههم
وهذا أمر مجتمع عليه لا خلاف فيه بين العلماء كلهم في تطوع المسافر على دابته حيث توجهت به للقبلة وغيرها يومئ إيماء يجعل السجود أخفض من الركوع ويتشهد ويسلم وهو جالس على دابته وفي محله
إلا أن بينهم جماعة يستحبون أن يفتتح المصلي صلاته إلى القبلة في تطوعه على دابته محرم بها وهو مستقبل القبلة ثم لا يبالي حيث توجهت به
ومنهم من لم يستحب ذلك وقال كما يجوز أن يكون في سائر صلاة إلى غير القبلة عامدا وهو عالم بذلك فكذلك يجوز افتتاحها إلى غير القبلة
وإلى هذا ذهب مالك وأصحابه
وذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو ثور إلى القول الأول
واحتج بعضهم بحديث الجارود بن أبي سبرة عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر فأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة فكبر ثم صلى حيث وجهه ركابه (1)
وقد ذكرنا إسناده في التمهيد
وقال أحمد بن حنبل وأبو ثور هكذا ينبغي أن يفعل من يتنفل على راحلته في السفر
وكان عبد الله بن عمر يقول في قول الله تعالى * (فأينما تولوا فثم وجه الله) * [البقرة 115] أنها نزلت في صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفره التطوع على الراحلة
وهو تأويل حسن للآية تعضده السنة
وفي الآية قولان غير هذا أحدهما أنها نزلت في قول اليهود في القبلة
256

والآخر أنها نزلت في قوم كانوا في سفر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة ظلماء فلم يعرفوا القبلة واجتهدوا وصلوا إلى جهات مختلفة ثم بان لهم فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل * (فأينما تولوا فثم وجه الله) * فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مضت صلاتكم
واختلف الفقهاء في المسافر سفرا لا يقصر فيه الصلاة هل له أن يتنفل على راحلته ودابته أم لا فقال مالك وأصحابه لا يتطوع على الراحلة إلا في سفر يقصر في مثله الصلاة
وحجتهم في ذلك أن الأسفار التي حكى بن عمر وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى فيها على راحلته تطوعا كانت مما تقصر فيها الصلاة فكأن الرخصة خرجت على ذلك فلا ينبغي أن تتعدي لأنه شيء وقع به البيان كأنه قال إذا سافرتم مثل سفري هذا فافعلوا بفعلي هذا والله أعلم ولأن ترك القبلة لا يجوز (للمصلي إلا بالإجماع أو سنة لا تتفدى)
وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والحسن بن حي والليث بن سعد وداود بن [علي لا يجوز التطوع] على الراحلة خارج المصر في كل سفر قصير أو طويل ولم يراعوا مسافة قصر الصلاة
وحجتهم أن الآثار (الواردة بذلك ليس) في شيء منها تحديد سفر ولا تخصيص مسافة فوجب امتثال العموم في ذلك
وقال أبو يوسف يصلي في المصر على الدابة أيضا بالإيماء لحديث يحيى بن سعيد عن أنس بن مالك أنه صلى على حمار في أزقة المدينة يومئ إيماء
قال أبو عمر (ذكر مالك حديث) يحيى بن سعيد هذا عن أنس فلم يقل فيه في أزقة المدينة بل قال فيه 324 عن يحيى بن سعيد رأيت أنس بن مالك في السفر وهو يصلي على حمار متوجها إلى غير القبلة يركع ويسجد إيماء من غير أن يضع وجهه على شيء
257

ولم يروه عن يحيى بن سعيد (أحد يقاس بمالك وقد قال فيه في السفر فبطل بذلك) قول من قال في أزقة المدينة يريد الحضر
وقال الطبري يجوز لكل راكب وماش حاضرا كان أو مسافرا أن يتنفل على دابته وعلى راحلته وعلى رجليه
وذكر بعض أصحاب الشافعي أن مذهبهم جواز التنفل على الدابة في الحضر والسفر
قال الأثرم قيل لأحمد بن حنبل التنفل على الدابة في الحضر فقال أما في السفر فقد سمعنا وإنما في الحضر فما سمعنا
قال وقيل لأحمد بن حنبل يصلي المريض المكتوبة على الدابة والراحلة
فقال لا يصلي أحد المكتوبة على الدابة مريض ولا غيره إلا في الطين والتطوع
وكذلك بلغنا يصلي ويومئ قال وأما في الخوف فقد قال الله تعالى * (فإن خفتم فرجالا أو ركبانا) * [البقرة 239] قال بن عمر مستقبل القبلة وغير مستقبلها
قال أبو عمر سيأتي القول في صلاة الطين وفي صلاة الخوف في موضعهما من هذا الباب إن شاء الله
وقد اختلف قول مالك في المريض يصلي على محمله
فمرة قال لا يصلي على ظهر البعير فريضة وإن اشتد مرضه حتى لا يقدر أن يجلس لم يصل إلا بالأرض
ومرة قال إذا كان ممن لا يصلي بالأرض إيماء فإنه يصلي على البعير بعد أن يوقف له ويستقبل القبلة
وقال بن القاسم من تنفل في محمله تنفل جالسا يجعل قيامه تربعا ويركع واضعا يديه على ركبتيه ثم يرفع رأسه
قال عبد العزيز بن أبي سلمة ويزيل يديه ثم يثني رجليه ويومئ بسجوده فإن لم يقدر أومأ متربعا
حدثنا سعيد قال حدثنا قاسم قال حدثنا محمد قال حدثنا أبو بكر قال حدثنا بن علية عن هشام الدستوائي عن يحيى عن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن عن جابر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته نحو المشرق فإذا أراد أن يصلي المكتوبة نزل فاستقبل القبلة
258

((8 باب صلاة الضحى))
325 ذكر مالك فيه حديث أم هانئ من طريق موسى بن ميسرة عن أبي مرة عن أم هانئ [بنت أبي طالب أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى عام الفتح ثماني ركعات ملتحفا في ثوب واحد (1)
326 وذكر مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله أن أبا مرة لمولى عقيل بن أبي طالب أخبره أنه سمع أم هانئ بنت أبي طالب تقول ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره بثوب قالت فسلمت عليه فقال من هذه فقلت أم هانئ بنت أبي طالب فقال مرحبا بأم هانئ فلما فرغ من غسله قام فصلى ثماني ركعات ملتحفا في ثوب واحد ثم انصرف فقلت يا رسول الله زعم بن أمي علي أنه قاتل رجلا أجرته فلان بن هبيرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجرنا من أجرت (2) يا أم هانئ قالت أم هانئ وذلك ضحى]
وقد ذكرنا في التمهيد أن الصحيح في أبي مرة أنه مولى عقيل كما قال مالك ولكنه يقال فيه مولى أم هانئ واسمه يزيد
واسم أم هانئ فاخته وقد ذكرناها في كتاب الصحابة بما ينبغي من ذكرها
259

احتج بهذا الحديث الكوفيون في جواز صلاة النهار ثماني ركعات وأقل من ذلك وأكثر بلا فصل من سلام
وهذا الذي نزعوا به من هذا الحديث لا حجة لهم فيه لقوله صلى الله عليه وسلم صلاة الليل والنهار مثنى مثنى (1) وقد أوضحنا هذا المعنى فيما مضى من كتابنا هذا
وقد روى بن وهب عن عياض الفهري عن مخرمة بن سليمان عن كريب عن بن عباس عن أم هانئ في هذا الحديث من صلاة الضحى أنه صلى ثماني ركعات يسلم بين كل ركعتين منها
وقد احتج بهذا الإسناد أحمد بن حنبل
قال الأثرم قيل لأحمد أليس قد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى قبل الظهر أربعا فقال وقد روي أيضا أنه صلى الضحى ثمانيا فتراه لم يسلم فيها
وذكر حديث بن وهب هذا بإسناده عن بن عباس عن أم هانئ بنت أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الضحى ثماني ركعات يسلم بين كل ركعتين
وأما قوله ملتحفا في ثوب واحد فقد مضى القول في الصلاة في الثوب الواحد فيما تقدم من هذا الكتاب ومضى تفسير الالتفاف والالتفاع والالتحاف فيما تقدم منه أيضا
وأما حديثه في هذا الباب عن أبي النضر عن أبي مرة عن أم هانئ ففيه من الفقه الاغتسال بالعراء إلى سترة لأن اغتساله ذلك كان منه صلى الله عليه وسلم وهو بالأبطح وفيه كان يومئذ نزوله
حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل قال (حدثنا الحميدي)
وحدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا محمد بن عبد السلام الحسيني قال حدثنا محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني قال (حدثنا سفيان قال) حدثنا محمد بن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي مرة مولى عقيل عن أم هانئ قالت أتاني يوم (الفتح حموان) لي فأجرتهما فجاء علي يريد
260

قتلهما فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قبته بالأبطح بأعلى مكة فوجدت (فاطمة فأخبرتها) فكانت أشد علي من علي فقالت تؤمنين المشركين وتجيرينهم فبينما أنا أكلمها إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى وجهه وهج الغبار فقلت يا رسول الله إني أمنت حموين لي وإن بن أمي عليا يريد قتلهما فقال ما كان ذلك له قد أجرنا من أجرت وأمنا من أمنت ثم أمر فاطمة أن تسكب له غسلا فسكبت له في جفنة إني لأرى فيها أثر العجين ثم سترت عليه (فاغتسل فقام) فصلى الضحى ثماني ركعات في ثوب واحد قد خالف بين طرفيه لم أره صلاها قبل ولا بعد
وفيه أن ستر ذوي المحارم عند (الاغتسال) مباح حسن
وفيه جواز السلام على من يغتسل وفي حكم ذلك السلام على من يتوضأ ورد المتوضئ والمغتسل السلام في ذلك كرده لو لم تكن ذلك حالته وقد قال الله عز وجل وإذا حييتم بتحية فحيو بأحسن منها أو ردوها) [النساء 86] ولم يخص حالا من حال إلا حالا لا يجوز فيه الكلام
وقد احتج بهذا الحديث من رد شهادة الأعمى وقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يميز صوت أم هانئ مع علمه بها حتى قال لها من هذه فقالت أنا أم هانئ فلم يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم صوتها لأنه لم يرها وكل من لا يرى فذلك أحرى
وفيه ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأخلاق الجميلة الحسنة وصلة الرحم وطيب الكلام ألا ترى إلى قوله عليه السلام مرحبا بأم هانئ ويروي مرحبا يا أم هانئ والرحب والتسهيل ما يستدل به على فرح المرور بالزائر وفرح المقصود إليه بالقاصد
وهذا معلوم عند العرب قال شاعرهم
(فقلت له أهلا وسهلا ومرحبا
* فهذا مبيت صالح وصديق (1)) وهذا البيت من أبيات حسان لعمرو بن الأهتم وهو الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سمعه مدح الزبرقان بن برد ثم ذمه لم يتناقص في قوله إن من البيان لسحرا
261

وقد ذكرت الشعر في كتاب بهجة المجالس ومثل هذا كثير في أشعارهم وأخبارهم وقد تقدم القول في صلاة الثماني ركعات
وأما قولها زعم بن أمي علي أنه قاتل رجل أجرته فلان بن هبيرة (1) ففيه ما كانوا عليه من تسمية كل شقيق بابن أم دون بن أب عند الدعاء لهم
والخبر عندهم يدلك بذلك على قرب المحل من القلب والمنزلة من النفس إذ جميعهم بطن واحد ونحو هذا
وبهذا نطق القرآن على لغتهم قال الله عز وجل حاكيا عن هارون بن عمران أخي موسى بن عمران " يبنؤم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني " [طه 94] ويا * (بن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني) * [الأعراف 150] وهما لأب وأم
وأما قوله صلى الله عليه وسلم قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ ففيه دليل على جواز أمان المرأة وأنها إذا أمنت من أمنت حرم قتله وحقن دمه وأنها لا فرق بينها في ذلك وبين الرجل وإن لم يكن تقاتل
وعلى هذا مذهب جمهور الفقهاء بالحجاز والعراق مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم والثوري والأوزاعي وأبي ثور وأحمد بن حنبل وإسحاق وداود وغيرهم
وقال عبد الملك بن الماجشون أمان المرأة موقوف على جواز الإمام فإن أجازه جاز وإن رده رد لأنها ليست ممن يقاتل ولا ممن لها سهم في الغنيمة
واحتج من ذهب هذا المذهب بأن أمان أم هانئ لو كان جائزا على كل حال دون إذن الإمام ما كان علي ليريد قتل من لا يجوز قتله لأمان من يجوز أمانه فلو كان أمانها جائزا لقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمنته أنت أو غيرك فلا يحل قتله فلما قال لها قد أمنا من أمنت وأجرنا من أجرت كان ذلك دليلا على أن أمان المرأة موقوف على إجازة الإمام أو رده
واحتج الآخرون وهم الأكثرون من العلماء بأن عليا وغيره لم يكن يعلم إلا ما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم من علم دينه ألا ترى إلى قول بن عمر بعث إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن لا نعلم شيئا فإنما نفعل كما رأيناه يفعل
ويحتمل قوله عليه السلام قد أجرنا من أجرت أي في حكمنا وسنتنا إجازة من أجرته أنت ومثلك ولم يحتج إلى قوله لها أو مثلك من النساء لأنه كان على
262

خلق عظيم وأراد تطييب نفسها بإسعافها في رغبتها وإن كانت قد صادفت حكم الله في ذلك
والدليل على صحة هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ويرد عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم (1)
ومعنى قوله تتكافأ دماؤهم يريد أن شريفهم يقتل [] بوضيعهم إذا شملهم الإسلام وجمعهم الإيمان والحرية
وفي ذلك دليل على أن الكفار لا تتكافأ دماؤهم لقوله المسلمون تتكافأ دماؤهم وهذا موضع اختلف فيه العلماء ليس هذا موضع ذكره
ومعنى قوله يسعى بذمتهم أدناهم أن كل مسلم أمن من الحربيين أحدا جاز أمانه دنيئا كان أو شريفا رجلا كان أو امرأة عبدا كان أو حرا [وفي هذا] حجة على من لم يجز أمان المرأة وأمان العبد
ومعنى قوله ويرد عليهم أقصاهم يريد السرية إذا خرجت من العسكر فغنمت أبعدت في خروجها في ذلك ولم تبعد ترد ما غنمت عليها وعلى العسكر الذي خرجت منه لأن به وصلت إلى ما وصلت إليه
ومعنى قوله وهم يد على من سواهم أن أهل الحرب إذا نزلوا بمدينة أو قرية من قرى المسلمين فواجب على جماعة المسلمين أن يكونوا يدا واحدة على الكفار حتى ينصرفوا عنهم إلا أن يعلموا أن بهم قوة على مدافعتهم فيكون حينئذ مدافعتهم ندبا وفضلا لا واجب فرض
ومما يدل على صحة ما ذهب إليه جمهور العلماء في جواز أمان المرأة مع قوله عليه السلام ويسعى بذمتهم أدناهم قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أم هانئ هذا من رواية الحميدي عن بن عيينة عن بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي مرة عن أم هانئ وقد ذكرناه في هذا الباب وفيه فقلت يا رسول الله إني أجرت
263

(حموين لي) وإن بن أمي عليا أراد قتلهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس ذلك له قد أجرنا من أجرت وأمنا من أمنت وفي قوله في هذا الحديث ليس ذلك له دليل على صحة ما قلنا وبالله التوفيق
ويدل على ذلك أيضا ما رواه إبراهيم النخعي عن الأسود عن عائشة قالت إن كانت المرأة لتجير على المسلمين فيجوز (1)
وحديث عمرو بن مرة عن أبي البختري عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذمة [المسلمين] واحدة وإن جارت عليهم جارية فلا تخفروها فإن لكل غادر
لواء [يعرف به] يوم القيامة (2)
وقد ذكرنا إسناد هذين الحديثين في التمهيد
وروى الوليد بن رباح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يجير على المسلمين أدناهم (3)
وقد ذكرنا إسناده أيضا في التمهيد
وروى مالك عن عبد الله بن دينار عن بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة (4) الحديث
وأما اختلاف العلماء في أمان العبد فقال مالك والشافعي وأصحابهما والثوري والأوزاعي والليث بن سعد وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود أمانه جائز قاتل أو لم يقاتل
وهو قول محمد بن الحسن
وقال أبو حنيفة أمانه غير جائز إلا أن يقاتل
264

وهو قول أبي يوسف
وروي عن عمر معناه
والحجة فيما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم مما أوردنا في هذا الباب والحمد لله
وأما قول أم هانئ في الحديث وذلك ضحى ففيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي الضحى وليس في قول عائشة في هذا الباب
327 ما سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحة الضحى قط وإني لأستحبها ما يرد برواية من روى شيئا عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الضحى لأن من لم يعلم ليس بشاهد ولا يحتج بمن لا علم له فيما يوجد علمه عند غيره ولكن قولها ذلك يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل الضحى في بيتها قط وليس أحد من الصحابة إلا وقد فاته من علم السنن ما وجد عند غيره من هو أقل ملازمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم
وقد أوضحنا هذا المعنى في غير هذا الموضع
وقولها سبحة الضحى تعني صلاة الضحى
والسبحة الصلاة النافلة
قال الله عز وجل * (فلولا أنه كان من المسبحين) * [الصافات 143]
وقال أهل العلم بالتأويل من المصلين إلا أن السبحة إنما لزمت صلاة النافلة في الأغلب
وقد روي شعبة عن (عمرو بن مرة) عنه [بن] أبي ليلى قال ما خبرنا أحدا أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الضحى غير أم هانئ
وفي رواية أبي صالح مولى أم هانئ عن أم هانئ قالت لما كان عام الفتح اغتسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى ثماني ركعات فلم يره أحد صلاهن بعد
وهذا يدل على صحة قول عائشة في صلاة الضحى
265

وقال عبد الله بن الحارث سألت وحرصت على أن أجد أحدا يحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الضحى فسألت عن ذلك والصحابة متوافرون فلم أجد أحدا غير أم هانئ
وحدثني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم فتح مكة فأمر بما يوضع له فاغتسل ثم صلى في بيتها ثماني ركعات وذكر تمام الخبر على ما في التمهيد
قال عبد الله بن الحارث فحدثت به بن عباس فقال إن كنت لأمر على هذه الآية * (يسبحن بالعشي والإشراق) * [ص 18] فهذه صلاة الإشراق
فهذه الآثار كلها تدل على أن قول عائشة ما سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحة الضحى قط هو الأغلب من أمره وأنه لم يصلها في بيتها والله أعلم
وفي صلاة الضحى آثار معلومة كثيرة
منها حديث أبي ذر يصبح على كل سلامي بن آدم صدقة فإماطة الأذى عن الطريق صدقة والتسليم على من لقيت صدقة والأمر بالمعروف صدقة والنهي عن المنكر صدقة وذكر الصلاة والصوم والحجة والتسبيح والتحميد والتكبيركل ذلك صدقة ثم قال يجزئ أحدكم من ذلك ركعتا الضحى (1)
وهذا أبلغ شيء في فضل صلاة الضحى
وحديث أبي ذر أيضا أوصاني خليلي بثلاث لا ندعهن إن شاء الله أبدا صلاة الضحى وصيام ثلاثة أيام من كل شهر والوتر قبل النوم (2)
وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله
266

وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله
وقد ذكرنا الأسانيد عنهم بذلك في التمهيد
وذكرنا هناك أيضا حديث سهل بن معاذ الجهني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل صلاة الضحى (1)
وحديث نعيم بن همار قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يقول الله عز وجل يا بن آدم صل لي في أول النهار أربع ركعات أكفك آخره (2) حملوه على الضحى كما فعلوا في صلاته صلى الله عليه وسلم لعتبان بن مالك
وقد ذكر ذلك مالك وسيأتي في بابه إن شاء الله تعالى
وروى الأعمش عن ثابت عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صل صلاة الضحى فإنها صلاة الأوابين
ومن حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من حافظ على صلاة الضحى غفرت ذنوبه (3)
ومن حديث زيد بن أرقم قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل قباء وهم يصلون الضحى فقال صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال (4)
حدثنا خلف بن قاسم قال حدثنا أبو بكر محمد بن عمير بن إسماعيل قال حدثنا يحيى بن أيوب بن بادي حدثنا حامد بن يحيى البلخي قال حدثنا سفيان وجرير ويعلى بن عبيد ووكيع عن عبيدة بن معتب عن إبراهيم عن بن منجاب عن قزعة عن القرثع الضبي عن أبي أيوب الأنصاري قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى أربع ركعات عند زوال الشمس فسألته عن ذلك فقال يا أبا أيوب إن أبواب الجنة تفتح عند زوال الشمس فأحب أن يصعد لي في تلك الساعة خير قال
267

قلت يا رسول الله أتفصل بينهما بكلام أو بسلام قال لا
وأما الصحابة فمنهم من كان يصلي الضحى ومنهم من لم يصلها
ذكر بن عيينة عن إسماعيل عن الشعبي قال سمعت بن عمر يقول ما صليت الضحى منذ أسلمت
وقال أبو إسحاق السبيعي عن التيمي سألت بن عمر عن صلاة الضحى فقال أو للضحى صلاة قال بن عمر ما صلاهما أبو بكر ولا عمر وما أخال النبي صلى الله عليه وسلم صلاها
وقال عبيدة لم يخبرني [أحد] أنه رأى بن مسعود يصلي الضحى
وكان علقمة لا يصلي الضحى
وقال إبراهيم كانوا يصلون الضحى ويدعون ويكرهون أن يدعوها كالمكتوبة
وصلاها بن عباس وسعيد بن المسيب والضحاك وجماعة ذكرهم بن أبي شيبة وغيره
وكذلك التابعون في ذلك مختلفون منهم من كان يصليها ومنهم من لم يصلها
وأما عائشة فكانت تصليها ثماني ركعات
328 وقالت - لو نشر لي أبواي ما تركتهن
وبالله التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل
((9 باب جامع سبحة الضحى))
329 ذكر فيه مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس أن جدته مليكة دعت رسول الله إلى طعام صنعته فأكل منه ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قوموا فلأصل لكم قال أنس فقمت إلى حصير لنا قد إسود من طول ما لبس
268

فنضحته بماء (1) فقام عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصففت أنا واليتيم وراءه والعجوز من ورائنا فصلى بنا ركعتين ثم انصرف
في هذا الحديث إجابة الدعوة إلى الطعام في غير الوليمة وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة
وفيه أن المرأة المتجالة والمرأة الصالحة إذا دعت إلى طعام أجيبت
قال الله عز وجل " والقوعد من النساء التي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن " [النور 60]
وفيه من الفقه أن من حلف ألا يلبس ثوبا ولم تكن له نية ولا لكلامه بساط يعلم به مخرج يمينه فإنه يحنث بما ينوي ويبسط من الثياب لأن ذلك يسمى لباسا
ألا ترى إلى قوله فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس
وأما نضح الحصير فإن إسماعيل بن إسحاق وغيره من أصحابنا كانوا يقولون إنما كان ذلك ليلين الحصير لا لنجاسة فيه
وقال بعض أصحابنا إن النضح طهارة لما شك فيه لتطييب النفس عليه اتباعا لعمر في قوله أغسل ما رأيت وأنضح ما لم أره (2)
قال أبو عمر الذي أقول به أن ثوب المسلم محمول على الطهارة حتى يستيقن بالنجاسة وأن النضح فيما قد يحبس لا يزيده إلا شرا وقد يسمى الغسل نضحا
وقد ذكرنا ذلك بالشاهد عليه فيما تقدم من هذا الكتاب
إلا أن من قصد بالنضح الذي هو الرش إلى قطع الوسوسة وحزازة النفس فيما يشك فيه اتباعا لعمر وغيره من السلف واتباعا للأصل في الثوب أنه على الطهارة محمول حتى نضح النجاسة فيه إلا أن يكون في النفس فيما شك فيه اتباعا شيء من الشك يقطع بالرش على ما جاء عن السلف فهو احتياط غير مضر وبالله التوفيق
وأما النضح بالخاء المنقوطة فالكثير المنهمر
يدل على ذلك قول الله عز وجل * (فيهما عينان نضاختان) * [الرحمن 66]
وفي هذا الحديث حجة على الكوفيين القائلين إذا كانوا ثلاثة وأرادوا أن يصلوا
269

جماعة قام إمامهم وسطهم لحديث رووه عن علقمة والأسود أن بن مسعود صلى بهما فقام وسطهما
وقد ذكرنا في التمهيد من رفع هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم والصحيح أنه موقوف
وقال أهل الحجاز وأكثر أهل العلم يقومان خلفه كما لو كانوا ثلاثة سوى الإمام ولم يختلفوا فيما لو كانوا ثلاثة سوى الإمام أنه يقف أمامهم ويقومون خلفه
وكذلك إذا كانوا اثنين سوى الإمام بدليل هذا الحديث عن أنس قوله فصففت أنا واليتيم من ورائه
وقد روينا عن جابر بن عبد الله قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبجبار بن صخر فأقامنا خلفه (1)
وزعم الشافعي أن فيه حجة على من أبطل صلاة المصلي خلف الصف وحده لأن العجوز قد قامت خلف الصف في هذا الحديث
وكان أحمد بن حنبل والحميدي وأبو ثور يذهبون إلى الفرق بين الرجل والمرأة في المصلي خلف الصف فكانوا يرون الإعادة على من صلى خلف الصف وحده من الرجال لحديث وابصة بن معبد عن النبي عليه السلام بذلك
ولا يرون على المرأة إذا صلت خلف الصف شيئا لهذا الحديث
وقالوا سنة المرأة أن تقوم خلف الرجال لا تقوم معهم
قالوا فليس في حديث أنس هذا حجة لمن أجاز الصلاة للرجل خلف الصف وحده
قال أبو عمر لا خلاف في أن سنة النساء القيام خلف الرجال لا يجوز لهن القيام معهم في الصف
وقد ذكرنا في التمهيد حديث شعبة عن عبد الله بن المختار عن موسى بن أنس عن أنس قال صلى النبي صلى الله عليه وسلم بي وبامرأة من أهلي فأقامني عن يمينه والمرأة خلفنا
270

وحديث أبي مالك الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصف الرجال ثم الصبيان خلف الرجال ثم النساء خلف الصبيان في الصلاة
وأما الشافعي فقد استدل على جواز صلاة الرجل خلف الصف وحده بحديث أنس هذا وأردفه بحديث أبي بكرة حين ركع خلف الصف وحده فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم زادك الله حرصا ولا تعد (1) ولم يأمره بإعادة الصلاة
قال وقوله لأبي بكرة لا تعد يعني لا تعد أن تتأخر عن الصلاة حتى تفوتك أو تفوتك منها ركعة
قال وإذا جاز الركوع للرجل خلف الصف وحده أجزأ ذلك عنه فكذلك سائر صلاته لأن الركوع ركن من أركانها فإذا جاز للمصلي أن يركع خلف الصف وحده جاز له أن يسجد وأن يتم صلاته والله أعلم
وقد احتج جماعة من أصحابنا ما احتج به الشافعي في هذه المسألة
والذي أقول إنه ليس في هذا الباب حجة على من أنكر صلاة الرجل وحده خلف الصف لأن السنة المجتمع عليها أن تقوم المرأة خلف الرجال
ولكني أقول إن الحديث في إبطال صلاة الرجل خلف الصف وحده مضطرب الإسناد لا يقوم به حجة
وقد اتفق فقهاء الحجاز والعراق على ترك القول به منهم مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم ومن سلك سبيلهم كلهم يرى أن صلاة الرجل خلف الصف جائزة
وفي هذا الحديث أيضا ما يدل على أن الصبي إذا عقل الصلاة حضرها مع الجماعة ودخل معهم في الصف إذا كان يؤمن منه اللعب والأذى وكان ممن يفهم معنى ما هو فيه من الصلاة
وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان إذا أبصر صبيا في الصف أخرجه
وعن زر بن حبيش وأبي وائل مثل ذلك
وهذا يحتمل أن يكون ذلك الصبي من لا يؤمن لعبة وعبثه أو يكون كثرة التقدم
271

له في الصف مع الشيوخ والأصل ما ذكرنا بحديث هذا الباب والله أعلم
وقد كان أحمد بن حنبل يذهب إلى كراهة ذلك
قال الأثرم سمعت أحمد بن حنبل يكره أن يقوم مع الناس في المسجد إلا من قد احتلم أو انبت أو بلغ خمس عشرة سنة فذكرت له حديث أنس واليتيم فقال ذلك في التطوع
وفي هذا الحديث صلاة الضحى [ولذلك ساقه مالك وقد مضى القول في صلاة الضحى في الباب قبل هذا
وقد ذكرنا في التمهيد حديث شعبة عن بن سيرين عن أنس بن مالك قال كان رجل ضخم لا يستطيع أن يصلي مع النبي عليه الصلاة والسلام فقال إني لا أستطيع أن أصلي معك فلو أتيت منزلي فصليت فأقتدي بك فصنع الرجل طعاما ثم دعا بالنبي عليه الصلاة والسلام ونضح حصيرا لهم فصلى النبي صلى الله عليه وسلم عليه ركعتين فقال رجل من آل الجارود لأنس أكان رسول الله يصلي الضحى فقال ما رأيته صلاها إلا يومئذ (1)
330 وأما حديثه في هذا الباب عن بن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبيه قال دخلت على عمر بالهاجرة فوجدته يسبح فقمت وراءه فقربني حتى جعلني عن يمينه فلما جاء يرفأ تأخرت فصففنا وراءه
ففي هذا الحديث من الفقه معرفة صلاة عمر في الضحى وأنه كان يصليها
وقد تقدم أن من الصحابة من صلاها ومنهم من لم يصلها وأن بن عمر كان ممن لا يعرفها ويقول وهل للضحى صلاة وكان أبوه يصليها
وكذلك كان بن عمر أيضا لا يقنت ولا يعرف القنوت وروي القنوت عن عمر من وجوه
وكان بن عمر أيضا يصلي بعد العصر ما لم تصفر الشمس وتدنو للغروب وكان عمر يضرب الناس بالدرة عليها ومثل هذا كثير من اختلاف مذهبيهما
272

وفيه أن الإمام إذا قام أحد معه فسنته أن يقوم عن يمينه ويقرب منه
وهذا الذي فعله عمر موجود في السنة الثابتة التي رواها بن عباس وغيره
وقد صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن عباس مثل ما صنع عمر هذا
وقد تقدم هذا في باب صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل من هذا الكتاب
وفيه أن العمل القليل في الصلاة لا يضرها مثل المشي إلى الفرج والتقدم اليسير والتأخر إذا كان ذلك مما ينبغي عمله في الصلاة لأن السنة في الجماعة خلف الإمام في أن الواحد يقوم عن يمينه إلا أن الاثنين مختلف فيهما والثلاثة فما زاد
ولا خلاف أن سنتهم القيام خلف الإمام
وقد ذكرنا هذه المسألة فيما تقدم والحمد لله
((10 باب التشديد في أن يمر أحد بين يدي المصلي))
331 ذكر فيه مالك عن زيد بن أسلم عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدا يمر بين يديه وليدرأه ما استطاع فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان
قد ذكرنا عبد الرحمن بن أبي سعيد في التمهيد وذكرنا أباه في الصحابة
وعن بن وهب في هذا الحديث إسناد آخر عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري
وهو محفوظ أيضا لعطاء عن أبي سعيد وعن أبي سعيد في هذا طرق قد ذكرتها وبعضها في التمهيد
وفي هذا الحديث كراهية المرور بين يدي المصلي إذا كان وحده وصلى إلى غير سترة وكذلك حكم الإمام إذا صلى إلى غير سترة
وأشد من ذلك أن يدخل المار بين يدي المصلي وبين سترته ومن السنة أن يدنو المصلي من سترته
273

هذا كله في الإمام وفي المنفرد فأما المأموم فلا يضره من مر بين يديه كما أن الإمام والمنفرد لا يضر واحدا منهما من مر من وراء سترته لأن سترة الإمام سترة لمن خلفه وقد قيل الإمام نفسه سترة لمن خلفه
والدليل على أن ما قلناه كما وصفنا في الإمام والمنفرد دون المأمومين قوله صلى الله عليه وسلم إذا كان أحدكم يصلي ومعناه عند العلماء إذا كان أحدهم يصلي وحده لحديث بن عباس فمررت بين يدي بعض الصف فنزلت وأرسلت الأتان ترتع فدخلت الصف فلم ينكر ذلك علي أحد (1)
وإذا كان الإمام أو المنفرد مصليا إلى سترة فليس عليه أن يدفع من يمر من وراء سترته
هذا كله لا خلاف فيه بين العلماء على ما رسمته
ومما يوضح لك أن الإمام سترة لمن خلفه حديث هشام بن الغازي عن نافع عن بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر أو العصر فجاءت بهمة تمر بين يديه فجعل يداريها حتى رأيته ألصق منكبه بالجدار فمرت خلفه (2)
وقد ذكرنا إسناده في التمهيد وذكرناه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله
وفي هذا الحديث دليل على جواز العمل في الصلاة
وقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز (منه إلا) القليل الذي لا يخرج المصلي عن عمل صلاته إلى غيرها ولا يشتغل به عنها نحو حك الجسد حكا غير طويل (وأخذ البرغوث) وقتل العقرب بما خف من الضرب
وقد أوضحنا هذا المعنى في مواضع من هذا الكتاب
وأما قوله في (الحديث فإن أبى) فليقاتله فالمقاتلة هنا المدافعة وأحسبه كلاما خرج على التغليط ولكل شيء حد
وأجمعوا أنه لا يقاتله بسيف ولا يبلغ به مبلغا يفسد به على نفسه صلاته
وفي إجماعهم على هذا ما يبين لك المراد بمعنى (الحديث
فإن دافعه مدافعة لا يقصد بها إلا قتله فكان فيها تلف نفسه كان عليه ديته كاملة
274

في ماله وقد (قيل على) عاقلته وقيل هي هدر على حسب ثنية العاض
وهذا كله يدل على أن فيه القود لا خلاف في ذلك والله أعلم
وقد أجمعوا أيضا أنه إذا مر بين يديه ولم يدركه من مقامه الذي يقوم فيه أنه لا يمشي إليه كي لا يصير المصلي مثله
وهذا كله يبين لك ما ادعيناه في معنى الحديث وأنه غير ظاهره
(وقال بن القاسم عن مالك إذا جاز) المار بين يدي المصلي فلا يرده
قال وكذلك لا يرده وهو ساجد
وقال أشهب إذا (مر من قدامه فليرده بإشارة ولا يمش إليه) لأن مشية إليه أشد من مروره بين يديه
قال فإن مشى إليه ورده لم تفسد بذلك صلاته وإنما ينبغي له أن يدرأه درأ لا يشتغل به عن صلاته فإن غلبة فليدعه يبوء بإثمه لأن الأصل في مروره أنه لا يقطع المار صلاة المصلي والكراهة للمار صلاة أكثر منها للمصلي
ذكر بن أبي شيبة عن أبي معاوية عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن الأسود قال قال عبد الله
من استطاع منكم أن لا يمر بين يديه وهو يصلي فليفعل فإن المار أبغض من الممر عليه
وقد قال صلى الله عليه وسلم لا يقطع الصلاة شيء (1)
رواه أبو الخدري وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم
وقد ذكرنا ذلك في التمهيد
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي خالد الأحمر وبن فضيل عن داود بن أبي هند عن الشعبي قال إن مر بين يديك فلا ترده
قال أبو عمر قد كان أبو سعيد الخدري يشدد في هذا وهو رواية الحديث طلبا لاستعمال ظاهره والله أعلم
ذكر أبو بكر قال حدثنا أبو معاوية عن عاصم عن بن سيرين قال كان أبو سعيد الخدري قائما يصلي فجاء عبد الرحمن بن الحارث بن هشام يمر بين
275

يديه فمنعه فأبى أن لا يمضي فدفعه أبو سعيد فطرحه فقيل له تصنع هذا بعبد الرحمن فقال والله لو أبي إلا أن آخذ بشعره لأخذت
قال وحدثنا أبو أسامة عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال سمعت عبد الحميد بن عبد الرحمن عامل عمر بن عبد العزيز ومر رجل بين يديه وهو يصلي فجبذه حتى كاد يخرق ثيابه
وهذا يحتمل أن يكون المار عاتيا جبارا لا يريد الرجوع
وقوله كاد يخرق ثيابه يدل على أنه لم يخرق ولكل شيء وجه
والذي عليه جمهور العلماء ما وصفت لك وبالله التوفيق
وقد روينا عن الثوري قال إنه ليمر بين يدي الرجل الضعيف فلا أكابره ويمر بين يدي المتجبر فلا أدعه
ذكر بن أبي حاتم قال حدثنا أبو سعيد الأشج قال حدثنا أبو خالد قال سمعت سفيان الثوري يقول إنه ليمر بين يدي المسكين وأنا أصلي فأدعه فإذا مر أحد وعليه ثياب يتمشى بطرا لم أدعه
وهذا يدل على أنه ليس بواجب عنده دفع المار وإنما هو شيء أباحته السنة للمصلي أن يفعله والكراهة كلها إنما هي للمار دون المصلي
وذكر أبو داود من حديث أبي حاجب سليمان بن عبد الملك قال رأيت عطاء بن يزيد الليثي قائما يصلي فذهبت أمر بين يديه فردني ثم قال حدثني أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من استطاع أن لا يحول بينه وبين قبلته حاجز فليفعل (1)
وذكر عبد الرزاق عن الثوري عن عاصم عن محمد بن سيرين عن أبي العالية عن أبي سعيد الخدري قال مر رجل من بني مروان بين يدي في الصلاة فدفعته ثلاث مرات فشكاني إلى مروان فذكر ذلك لي فقلت لو أبى لأخذت شعره
قال وأخبرني بن جريج قال سمعت سليمان بن موسى يحدث عطاء قال أراد داود بن مروان أن يمر بين يدي أبي سعيد وهو يصلي وعليه حلة له ومروان أمير بالمدينة فرده فكأنه أبى فلهزه في صدره فذهب الليثي إلى أبيه فأخبره فدعا
276

مروان أبا سعيد وهو يظن أنما لهزه من أجل حلته قال فذكر ذلك له فقال نعم قال النبي صلى الله عليه وسلم اردده فإن أبى فجاهده (1)
وذكر بن أبي شيبة قال حدثنا بن علية
قال قلت لسعيد بن جبير أدع أحدا يمر بين يدي قال لا قلت فإن أبى قال فما تصنع قلت بلغني أن بن عمر كان لا يدع أحدا يمر بين يديه قال إن ذهبت تصنع صنيع بن عمر دق أنفك
وقوله فإنما هو شيطان يعني قد بعد في فعله من الخير من قول (العرب)
شطون أي عيدة
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى رجلا يتبع حمامة فقال شيطان يتبع شيطانة (2) لأنه (كان نهى) عن اللعب بالحمام وتطييرها
332 وأما حديثه عن أبي النضر عن بسر بن سعيد عن أبي جهيم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه (قال لو يعلم) المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه
فليس فيه أكثر من كراهة المرور (بين يدي المصلي) والتغليظ عليه والتشديد فيه
ومعنى قوله ماذا عليه يريد ماذا عليه من الإثم وكذلك هو مفسر في رواية الثوري (عن أبي النضر) لهذا الحديث
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث لأن يقف أربعين عاما
وروي من حديث أبي هريرة (عن النبي صلى الله عليه وسلم) أنه قال لو يعلم أحدكم ما له في
277

أن يمر بين يدي المصلي معترضا كان لأن يقف مائة عام خير له (من الخطوة التي) خطاها
حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم قال حدثنا محمد قال حدثنا أبو بكر قال حدثنا وكيع عن عبد الله بن عبد (الرحمن عن موهب عن عمه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو يعلم أحدكم فذكره
وروى وكيع عن سعيد بن عبد العزيز (التنوخي عن مولى ليزيد بن) ثروان عن يزيد بن نمران قال رأيت بتبوك رجلا مقعدا فقال مررت بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا (على حمار وهو يصلي فقال اللهم) اقطع أثره فقال فما مشيت عليهما
333 وأما قول كعب الأحبار لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه (لكان أن يخسف به خير له من أن يمر بين يديه رواه مالك عن) زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن كعب فهو معنى حديث أبي النضر عن بسر بن سعيد عن أبي جهيم والمعنى فيه تعظيم الإثم والله أعلم بما ذكره من ذلك فإنه لا يقطع الصلاة شيء يمر بين يدي المصلي كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم
والدليل على أنه لا يقطع صلاة المصلي مرور من مر بين يديه مع ما ذكرناه قبل حديث وكيع عن أسامة بن زيد عن محمد بن قيس عن أمه عن أم سلمة قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فمر بين يديه عبد الله أو عمر بن أبي سلمة فقال بيده فرجع فمرت زينب بنت أم سلمة فقال بيده هكذا فمضت فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هن أغلب (1)
ألا ترى أنه لم يعد صلاته وهذا رد من قال المرأة تقطع الصلاة
وقد ذكرنا الحجة في ذلك من الآثار المرفوعة عن عائشة في موضعه
334 وأما حديثه في هذا الباب أنه بلغه عن عبد الله بن عمر أنه كان يكره أن يمر بين أيدي النساء وهن يصلين
وفائدته كراهة بن عمر للمرور بين يدي المصلي وإن لم يكن بحيث تناله يده
278

لأن صفوف النساء كان بينها وبين صفوف الرجال شيء من البعد
ولا يحتمل عندي ما ظنه بعض الناس من كراهية المرور بين يدي صفوف النساء وهن خلف الإمام لما قدمنا في سترة الإمام أنها سترة لمن خلفه وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر المصلي بالدنو من سترته (1) من حديث سهل بن أبي حثمة وهو مذكور في التمهيد
وها هنا أن الدنو منها موجود في حديث مالك وغيره عن نافع عن بن عمر عن بلال في صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة وفيه وجعل بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع (2)
هكذا رواه بن القاسم وجماعة عن مالك وإليه ذهب الشافعي وأحمد وهو قول عطاء
قال عطاء أقل ما يكفيك ثلاثة أذرع
والشافعي وأحمد يستحبان ثلاثة أذرع ولا يوجبان ذلك
ولم يحد فيه مالك حدا
وكان عبد الله بن مغفل يجعل بينه وبين سترته ستة أذرع
وقال عكرمة إذا كان بينك وبين الذي يقطع الصلاة قذفة حجر لم يقطع الصلاة
وخير من هذا الموضع الاقتداء والتأسي بحديث سهل بن سعد قال كان بين مقام النبي صلى الله عليه وسلم وبين القبلة ممر عنز
279

قال أبو عمر الفرق عندي لمن صلي بغير سترة بين من يدرأه وبين من لا يدرأه هو المقدار الذي لا ينال المصلي فيه المار بين يديه إذا مد يده إليه ليدرأه ويدفعه لإجماعهم على أن المشي في الصلاة لا يجوز إلا إلى الفرج في الصف لمن ركع دونه
وقد قيل لا يذب إلا راكعا ولو أجزنا له المشي إليه باعا أو باعين من غير أثر لزمنا أكثر من ذلك وذلك فاسد بإجماع والله المستعان
وأما استقبال السترة والصمد لها ففي حديث المقداد بن الأسود قال ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى إلى عود ولا إلى عمود ولا شجرة إلا جعله عن جانبه الأيمن أو الأيسر ولا يصمد له صمدا (1)
وكل العلماء يستحسنون هذا ولا يوجبونه خوفا من الحد في ما لم يجزه الله ولا رسوله
وأما قدر السترة وصفتها في ارتفاعها وغلظها فقد اختلف العلماء في ذلك
فقال مالك أقل ما يجزئ المصلي في السترة غلظ الرمح وكذلك السوط إن كان قائما والعصا وارتفاعها قدر عظم الذراع
هذا أقل ما يجزئ عنده ولا يفسد غيره صلاة من صلى إلى غير سترة وإن كان ذلك مكروها له
وقول الشافعي في ذلك كقول مالك
وقال الثوري وأبو حنيفة أقل السترة قدر مؤخرة الرحل ويكون ارتفاعها على ظهر الأرض ذراعا
وهو قول عطاء
وقال قتادة ذراع وشبر
وقال الأوزاعي على قدر مؤخرة الرحل ولم يحد ذراعا ولا عظم ذراع ولا غير ذلك
وقال يجزئ السهم والسوط والسيف يعني في الغلظة
واختلفوا فيما يعرض ولا ينصب وفي الخط فكل من ذكرنا قوله أنه لا يجزئ عنده أقل من عظم الذراع أو أقل من ذراع لا يجيز الخط إلا أن يعرض العصا
280

والعود في الأرض فيصلي إليها وهم مالك والليث وأبو حنيفة كلهم يقولون الخط ليس بشيء
وهو قول إبراهيم النخعي
قال مالك الخط باطل
وقال أحمد بن حنبل وأبو ثور إذا لم يجعل تلقاء وجهه شيئا ولم يجد عصا ينصبها فليخط خطا
وكذلك قال الشافعي بالعراق
وقال الأوزاعي إذا لم ينتصب له عرضه بين يديه وصلى إليه فإن لم يجد خط خطا وهو قول سعيد بن جبير
وقال الأوزاعي والسوط بعرضه أحب إلي من الخط
وقال الشافعي بمصر لا يخط الرجل بين يديه خطأ إلا أن يكون في ذلك حديث ثابت فيتبع
قال أبو عمر احتج من ذهب إلى الخط بحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا فإن لم يجد فلينصب عصاه فإن لم يكن معه عصا فليخط خطا ولا يضره من مر بين يديه (1)
أخرجه أبو داود وقد ذكرناه في التمهيد ولا يجيء إلا من حديث إسماعيل بن أمية عن أبي عمرو بن محمد بن حريث عن جده عن أبي هريرة
قال الطحاوي أبو عمرو وجده مجهولان
وأما أحمد بن حنبل وعلي بن المديني فكانا يصححان هذا الحديث
قال أبو عمر اختلف القائلون بالخط كيف يكون نصبه بين يدي المصلي
فقالت طائفة يخطه في الأرض كما كان يفعل قائما ولا يعرض عرضا
وقال آخرون بل يجعله معترضا بين يديه
وقال آخرون بل يخط خطا كالمحراب ويصلي إليه كالصلاة في المحراب
وكان أحمد بن حنبل يختار هذا ويجيز الوجوه الثلاثة وبالله التوفيق
281

((11 باب الرخصة في المرور بين يدي المصلي))
336 ذكر فيه عن بن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عبد الله بن عباس قال أقبلت راكبا على آتان (1) وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام (2) ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي للناس بمنى فمررت بين يدي بعض الصف فنزلت وأرسلت الأتان ترتع (3) ودخلت في الصف فلم ينكر ذلك علي أحد
337 ثم أردفه بأنه بلغه أن سعد بن أبي وقاص كان يمر بين يدي بعض الصفوف والصلاة قائمة
قال مالك وأنا أرى ذلك واسعا إذا أقيمت الصلاة وبعد أن يحرم الإمام ولم يجد المرء مدخلا إلى المسجد إلا بين الصفوف
قال أبو عمر حديث بن شهاب في هذا الباب خالف بن عيينة مالكا في بعض ألفاظه فرواه عن بن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن عبد الله بن عباس قال جئت أنا والفضل على أتان ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بعرفة فمررنا بين يدي بعض الصف فنزلنا وتركناها ترتع فلما دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا
قال أبو عمر قول مالك في هذا الباب مع ما ترجم به الباب يدل على أن في المشي بين يدي الصفوف خلف الإمام رخصة لمن لم يجد من ذلك بدا وغيره لا يرى بذلك بأسا لحديث بن عباس هذا قوله فمررت بين يدي بعض الصف فلم ينكر علي أحد
وقد قدمنا أن الإمام سترة لمن خلفه فالماشي خلفه أمام الصف كالماشي خلفه دون الصف
282

ويحتمل هذا أن يكون المار لم يجد بدا كما قال مالك ولكن الظاهر ما قدمنا في الباب قبل هذا من الآثار الدالة على أن الإمام سترة لمن خلفه
وظاهرها يدل على أن الرخصة المترجم بها هذا الباب ليست في معنى التشديد في الباب قبله والآثار كلها دالة على ذلك
ومن ذلك حديث عبد الله بن عمر وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رد البهيمة التي همت بالمرور بين يديه حتى ألصق منكبه بالجدار
فمرت خلفه (1)
وقد استدل قوم بهذا الحديث على أن الحمار لا يقطع الصلاة وانفصل منهم مخالفهم في ذلك بأن قال مرور الآتان كان خلف الإمام بين يدي الصف وفيه إجازة شهادة من علم الشيء صغيرا فأداه كبيرا وهذا أملا لا خلاف فيه
وكذلك العبد يعلم في حال عبوديته ما يؤديه في حال الحرية
والفاسق يعلم فسقه ما يشهد به في حال عدالته
وهذا لا اختلاف فيه بين العلماء إلا أنهم اختلفوا لو شهد أحد هؤلاء بشهادة في الحال الأولى فردت ثم شهد بها في الحال الثانية
فقال مالك لا تقبل إذا ردت قبل
وقال غيره تقبل لارتفاع العلة التي لها ردت أولا
338 وأما حديثه أنه بلغه أن علي بن أبي طالب قال لا يقطع الصلاة شيء مما يمر بين يدي المصلي
فقد حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي قال حدثني أبي قال حدثنا عبد الله بن يونس قال حدثنا بقي قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا عبدة بن سليمان ووكيع عن سعيد عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن علي وعثمان قالا لا يقطع الصلاة شيء وادرؤوا عنكم ما استطعتم
339 وأما حديثه عن بن شهاب عن سالم عن أبيه أنه كان يقول لا يقطع الصلاة شيء مما يمر بين يدي المصلي
283

فلا خلاف عن بن عمر في ذلك
وقد رواه عنه نافع كما رواه سالم ورواه عبيد الله بن عمرو وأيوب عن نافع عن بن عمر
وذكر أبو بكر قال حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سالم أن بن عمر قيل له إن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة يقول يقطع الصلاة الحمار والكلب قال لا يقطع صلاة المسلم شيء
وبن عيينة عن عمرو بن دينار قال انصرف الإمام من العصر فقلت أبادر مجلس عبيد بن عمير فمررت بين يدي بن عمر وأنا لا أشعر فقال سبحان الله سبحان الله مرتين وحثى على ركبته ومد يده حتى ردني
قال أبو عمر هذا في معنى حديث مالك في الباب قبل هذا عن نافع أن عبد الله بن عمر كان لا يمر بين يدي أحد وهو يصلي ولا يدع أحدا يمر بين يديه
قال أبو بكر وحدثنا بن عيينة عن عبد الكريم قال سألت سعيد بن المسيب فقال لا يقطع الصلاة إلا الحدث
وحدثنا عبدة بن سليمان عن هشام بن عروة عن أبيه كان يقول لا يقطع الصلاة شيء إلا الكفر
حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا أبو أسامة عن المجالد عن أبي الوداك عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقطع الصلاة شيء وادرؤوا ما استطعتم فإنه شيطان
حدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بكر بن حماد قال حدثنا مسدد قال حدثنا عبد الواحد بن زياد قال حدثنا مجالد قال حدثنا أبو الوداك قال مر شاب من قريش بين يدي أبي سعيد الخدري وهو يصلي فدفعه ثم عاد فدفعه ثلاث مرات فلما انصرف قال إن الصلاة لا يقطعها شيء ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ادرؤوا ما استطعتم فإنه شيطان
وهذا الحديث يفسر حديث أبي سعيد الخدري في أول الباب الذي قبل هذا الباب والله الموفق للصواب وهو حسبنا ونعم الوكيل
284

((12 باب سترة المصلي في السفر))
340 ذكر فيه مالك أنه بلغه عن بن عمر أنه كان يستتر براحلته إذا صلى
341 وعن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يصلي في الصحراء إلى غير سترة
قال أبو عمر أما الاستتار بالراحلة فلا أعلم فيه خلافا وحسب المصلي وما يستره ما يزيد على عظم الذراع
وأما الصلاة في الصحراء أو غيرها إلى غير سترة فهذا عند أهل العلم محمول على الموضع الذي يأمن فيه المصلي أنه يمر أحد بين يديه فإن كان على غير ذلك فلا حرج على من فعله لأن الأصل في سترة المصلي استحباب وندب إلى اتباع السنة في ذلك وحسبك بما مضى فإنه لا يقطع صلاة المصلي شيء مما يمر بين يديه وإنما يقطعها ما يفسدها من الحدث وغيره
حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا أبو معاوية عن حجاج عن الحكم عن يحيى بن الجزار عن بن عباس قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضاء ليس بين يديه شيء
وقال أبو بكر في المصنف حدثنا معن بن عيسى عن خالد بن أبي بكر قال رأيت القاسم وسالما يصليان في السفر إلى غير سترة
قال وحدثنا شريك عن جابر قال رأيت أبا جعفر وعامر يصليان إلى غير أسطوانة
قال وحدثنا وكيع عن مهدي بن ميمون قال رأيت الحسن يصلي في الجبانة إلى غير سترة
قال وحدثنا بن عيينة عن عمرو بن دينار
قال رأيت محمد بن الحنفية يصلي في مسجد منى والناس يمرون بين يديه فجاء فتى من أهله فجلس بين يديه
285

((13 باب مسح الحصباء في الصلاة))
342 ذكر فيه مالك عن أبي جعفر القارئ قال رأيت عبد الله بن عمر إذا أهوى ليسجد مسح الحصباء لموضع جبهته مسحا خفيفا
343 وعن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن أبا ذر كان يقول مسح الحصباء مرة واحدة وتركها خير من حمر النعم (1)
قال أبو عمر أما فعل بن عمر فإن عنده من الفعل الخفيف الذي لا يشغله عن صلاته
وأما قول أبي ذر فهو الاختيار ألا يمسح موضع سجوده إلا مرة واحدة لأن ترك ذلك من التذلل والتواضع لله عز وجل
وكذلك لا يمسح جبهته من التراب إلا مرة واحدة أيضا في آخر صلاته
وقد روي حديث أبي ذر مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من طرق كثيرة
وروى بن عيينة عن عمرو بن دينار عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة أنه سمع عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة يقول مر بي أبو ذر وأنا أصلي فقال إن الأرض لا تمسح إلا مرة واحدة
وروي عن عمر بن الخطاب وجابر وأبي هريرة وجماعة من السلف أنهم كرهوا للمصلي مسح الحصى إلا مرة واحدة
قال أبو الدرداء ما أحب أن لي حمر النعم وإني مسحت مكان جبيني من الحصباء إلا أن يغلبني فأمسحه مسحة واحدة
والنعم الإبل والحمر منها أرفعها
وروى بن أبي ذئب عن شرحبيل بن سعد عن جابر قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم
286

عن مسح الحصباء في الصلاة قال واحدة لأن تمسك عنها خير لك من مائة ناقة كلها سود الحدقة (1)
وأما مسح الجبهة فقال بن عباس إذا كنت في صلاة فلا تمسح جبهتك ولا تنفخ ولا تحرك الحصباء
وقال بن مسعود أربع من الجفاء أن يصلي إلى غير سترة أو يمسح جبهته قبل أن ينصرف أو يبول قائما أو يسمع المنادي ثم لا يجيبه
وعن بن بريدة مثله إلا أنه جعل الرابعة أو ينفخ في سجوده ولم يذكر فيها الصلاة إلى غير سترة
وكان سعيد بن جبير والشعبي والحسن البصري يكرهون أن يمسح الرجل جبهته قبل أن ينصرف ويقولون هو من الجفاء
أخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال حدثنا طلق بن غنام بن طلق قال حدثنا سعيد أبو عثمان الوراق عن أبي صالح قال دخلت على أم سلمة فدخل عليها بن أخ لها فصلى في بيتها ركعتين فلما سجد نفخ التراب فقالت أم سلمة يا بن أخي لا يتنفخ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لغلام له يقال له يسار ونفخ ترب وجهك لله تعالى (2)
وأخبرنا عبد الله قال حدثنا أحمد قال حدثنا عبد الله قال حدثنا أبي قال حدثنا عفان قال حدثنا حماد بن سلمة قال أخبرنا أبو حمزة عن أبي صالح عن أم سلمة أنها رأت نسيبا لها ينفخ إذا أراد أن يسجد فقالت له لا تنفخ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لغلام لنا يقال له رباح ترب وجهك يا رباح (3))
1 (14 باب تسوية الصفوف))
344 ذكر فيه مالك عن نافع أن عمر بن الخطاب كان يأمر بتسوية الصفوف فإذا أخبروه أن قد استوت كبر
287

345 وعن عمه أبي سهيل عن أبيه عن عثمان معناه
وفي ذلك جواز الكلام بين الإقامة والإحرام خلاف ما ذهب إليه العراقيون
وأما تسوية الصفوف في الصلاة فالآثار فيها متواترة من طرق شتى صحاح كله ثابتة في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم تسوية الصفوف وعمل الخلفاء الراشدين بذلك بعده
وهذا ما لا خلاف فيما بين العلماء فيه
وأسانيد الأحاديث في ذلك كثيرة في كتب المصنفين فلم أر لذكرها وجها
((15 باب وضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة))
346 ذكر فيه مالك عن عبد الكريم بن أبي المخارق البصري أنه قال من كلام النبوة إذا لم تستح فافعل ما شئت ووضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة (يضع اليمنى على اليسرى) وتعجيل الفطر والاستيناء بالسحور (1)
347 وعن أبي حازم بن دينار عن سهل بن سعد قال كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة
قال أبو حازم لا أعلمه إلا أنه ينمي ذلك (2)
قد جرا في التمهيد من القول في عبد الكريم ما يغني عن ذكره هنا
وما ذكر مالك عنه في هذا الباب معروف محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه صحاح كثيرة
وأما قوله من كلام النبوة إذا لم تستح فافعل ما شئت رواه شعبة
288

والثوري وشريك وزهير بن معاوية عن منصور عن ربعي بن خراش عن أبي مسعود الأنصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من ما أدرك الناس ولفظ الثوري آخر ما تعلق به الناس من كلام النبوة
ولفظ شريك آخر ما كان من كلام النبوة إذا لم تستح فاصنع ما شئت
وفي حديث بعضهم فافعل ما شئت
وهذا حديث ثابت لا يختلف في صحته ومن رواه عن ربعي عن حذيفة فقد أخطأ فيه
وأما معناه فإنه لفظ يقتضي التحذير والذم على قلة الحياء وهو أمر في معنى الخبر فإن من لم يكن له حياء يحجزه عن محارم الله تعالى فسواء عليه فعل الكبائر منها والصغائر
ومن هذا المعنى حديث المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من باع الخمر فليشقص (1) الخنازير (2)
فليس هذا على إباحة شقص الخنازير لمن باع الخمر ولكنه تقريع وتوبيخ يقول من استحل بيع الخمر وقد نهاه الله عن بيعها على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس يمتنع عن شقص الخنازير
ومن هذا الباب أيضا قول عمر بن الخطاب من استطاع إلى الحج سبيلا ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا
ومعنى قوله ولم يحج أي لم ير الحج واجبا
ومن ذلك قول أبي هريرة من وجد سعة ولم يضح فلا يشهد مصلانا
يقول من ترك السنة في الصحبة مع السعة رغبة عنها فما له لا يرغب عن الصلاة معنا
ونحو هذا ومن ذلك قول الشاعر
(إذا لم تخش عاقبة الليالي
* ولم تستح فاصنع ما تشاء (3))
(فلا والله ما في العيش خير
* ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
289

وقال أبو دلف العجلي
(إذا لم تصن عرضا ولم تخش خالقا
* وتستح مخلوقا فما شئت فاصنع)
وقد قيل إن معنى هذا الحديث افعل ما شئت مما لا تستحي من فعله أيما حل لك وأبيح فافعله ولا تستحي منه
وهذا تأويل ضعيف والأول أولى عند العلماء بالنسة واللسان العربي
وأما وضع اليمنى على اليسرى ففيه آثار ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم منها
حديث وائل بن حجر قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع اليمنى على اليسرى في الصلاة (1)
هذه رواية عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر
ورواية علقمة بن وائل عن أبيه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان قائما في الصلاة قبض على شماله بيمينه
وبعضهم يقول فيه إذا كبر أدخل يده في ثوبه فأدخل شماله بيمينه وذكرنا الأسانيد بذلك في التمهيد
وحديث بن مسعود قال رآني النبي صلى الله عليه وسلم قد وضعت شمالي على يميني فأخذ يميني فوضعا على شمالي (2)
وحديث الحارث بن غطيف أو غطيف بن الحارث قال متى رأيت شيئا فنسيته فإني لم أنس أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعا يده اليمنى على اليسرى في الصلاة
وحديث سماك عن قبيصة بن هلب عن أبيه قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم واضعا يمينه على شماله في الصلاة (3)
وعن علي رضي الله عنه قال من السنة وضع اليمين على الشمال في الصلاة
وعنه أيضا أنه كان إذا قام إلى الصلاة وضع يمينه على رسغه فلا يزال كذلك حتى يركع إلا أن يصلح ثوبا ولحك جسده
290

وقد ذكرنا أسانيد هذه الأحاديث كلها في التمهيد
وروى عاصم الجحدري عن عقبة بن ظهير عن علي في قوله * (فصل لربك وانحر) * [الكوثر 2] قال وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة تحت الصدر
وذكر بن أبي شيبة عن يحيى بن سعيد العطار عن ثور ين يزيد عن خالد بن معدان عن أبي زياد مولى آل دراج قال ما رأيت فنسيت غير أني لم أنس أن أبا بكر الصديق كان إذا قام إلى الصلاة قال هكذا ووضع اليمنى على اليسرى
قال أبو الدراداء من أخلاق النبيين وضع اليمين على الشمال في الصلاة
وقال بن الزبير صف القدمين ووضع اليد على اليد من السنة
وكل هذا مذكور في التمهيد بأسانيده
وأما أقاويل الفقهاء في هذا الباب فذهب مالك في رواية بن القاسم عنده إلى إرسال اليدين في الصلاة
وهو قول الليث بن سعد
قال بن القاسم قال مالك في وضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة إنما يفعل ذلك في النوافل من طول القيام قال وتركه أحب إلي
وقال الليث سدل اليدين في الصلاة أحب إلي إلا أن يطول القيام فلا بأس أن يضع اليمنى على اليسرى
وروى بن نافع وعبد الملك ومطرف عن مالك أنه قال توضع اليمنى على اليسرى في الصلاة في الفريضة والنافلة قال لا بأس بذلك
قال أبو عمر هو قول المدنيين من أصحابه
وقال الأوزاعي ما شاء فعل ومن شاء ترك
وهو قول عطاء
وقال عبد الرزاق رأيت بن جريج يصلي في إزار وقميص ويمينه على شماله
وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم والحسن بن صالح وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور وأبو عبيد وداود بن علي والطبري يضع المصلي يده على شماله في الفريضة والنافلة
وهو عند جميعهم حسن وليس بواجب
ومنهم من قال إنه سنة مسنونة
291

واختلفوا فقال بعضهم عند الصدر وقال بعضهم عند السرة
وقد أوضحنا ذلك عنهم في التمهيد والحمد لله
وأما قوله وتعجيل الفطر والاستيناء في السحور فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه ذكرنا بعضها في التمهيد في باب عبد الرحمن بن حرملة
وسيأتي في هذا الكتاب في كتاب الصيام إن شاء الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر (1)
وقد حدثنا خلف بن قاسم قال حدثنا أحمد بن إبراهيم بن الحداد قال حدثنا زكريا بن يحيى خياط السنة قال حدثنا وهب بن بقية قال حدثنا محمد بن المطلب عن أبان بن بشير المعلم قال حدثنا يحيى بن أبي كثير قال حدثنا أبو سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث من النبوة تعجيل الفطر وتأخير السحور ووضع اليمنى على اليسرى في الصلاة
وأخبرنا خلف بن قاسم قال حدثنا إبراهيم بن محمد الديلي قال حدثنا محمد بن علي بن يزيد قال حدثنا سعيد بن منصور قال أخبرنا هشيم قال أخبرنا منصور بن زاذان عن محمد بن أبان الأنصاري عن عائشة قالت ثلاث من النبوة تعجيل الإفطار وتأخير السحور ووضع اليمنى على اليسرى في الصلاة (2)
وأما قول سهل بن سعد كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة فالأغلب فيه أنه عمل معمول به في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين بعده
وقول أبي حازم لا أعلمه إلا أنه ينمي ذلك أو يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
((16 باب القنوت في الصبح))
348 مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان لا يقنت في شيء من الصلاة
292

لم يذكر في رواية يحيى في هذا الباب غير ذلك
وفي أكثر الموطآت بعد حديث بن عمر هذا مالك عن هشام بن عروة أن أباه كان لا يقنت في شيء من الصلاة ولا في الوتر إلا أنه كان يقنت في صلاة الفجر قبل أن يركع الركعة الآخرة إذا قضى قراءته
وعند أبي مصعب في باب السعي إلى الجمعة مالك أنه سأل بن شهاب عن القنوت يوم الجمعة فقال محدث
وفي غير الموطآت عن طاووس وإبراهيم قالا القنوت في الجمعة بدعة وكان مكحول يكرهه
ولي عن أحد من الصحابة أنه قنت في الجمعة
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا يحيى بن أبي كثير قال حدثني أبي قال أدركت الناس قبل عمر بن عبد العزيز يقنتون في الجمعة فلما كان زمن عمر بن عبد العزيز
ترك القنوت في الجمعة
وقد مضى كثير من هذا المعنى في باب القيام في رمضان
وأما القنوت في صلاة الصبح فاختلف الآثار المسندة في ذلك وكذلك اختلف فيه عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وبن مسعود وغيرهم
فروي عنهم القنوت وترك القنوت من الفجر
وكذلك اختلف عنهم في القنوت قبل الركوع وبعده
وقد أكثر في ذلك المصنفون بن أبي شيبة وغيره
والأكثر عن عمر بن الخطاب أنه كان يقنت في الصبح وروي ذلك عنه من وجوه متصلة صحاح
وأما بن عمر فكان لا يقنت لم يختلف عنه في ذلك
وروى سفيان بن عيينة عن بن أبي نجيح قال قلت لمجاهد صحبت بن عمر إلى المدينة فهل رأيته يقنت قال لا قال ولقيت سالم بن عبد الله فقلت له أكان بن عمر يقنت قال لا إنما هو شيء أحدثه الناس
سفيان عن بن أبي نجيح عن مجاهد ن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن عمر بن الخطاب كان يقنت في الصبح
وسفيان عن بن جريح عن عطاء عن عبيد بن عمير قال سمعت عمر بن الخطاب يقنت في الصبح ها هنا بمكة
293

وسفيان عن مخارق أنه حدثه عن طارق قال صليت خلف عمر بن الخطاب الصبح فقنت
وقال سفيان قلت لابن طاووس ما كان أبوك يقول في القنوت قال كان يقول طاعة لله وكان لا يراه
قال أبو عمر وكان الشعبي لا يرى القنوت
وسئل بن شبرمة عنه فقال الصلاة كلها قنوت
قال فقلت له أليس قنت علي يدعو على رجال فقال إنما هلكتم حين دعا بعضكم على بعض
ذكره بن عيينة عن بن شبرمة
وأما الفقهاء الذين دارت عليهم الفتيا في الأمصار فكان مالك وبن أبي ليلى والحسن بن حي والشافعي وأحمد بن حنبل وداود يرون القنوت في الفجر
قال الشافعي وأحمد بعد الركوع
وقال مالك قبل الركوع
وقد روي عنه أنه خير في ذلك قبل الركوع وبعده
وقال بن شبرمة وأبو حنيفة وأصحابه والثوري في رواية والليث بن سعد لا قنوت في الفجر
وقال أبو حنيفة ومحمد إن صلى خلف من يقنت سكت
وهو قول الثوري في رواية
وقال أبو يوسف يقنت ويتبع الإمام
وقد قال الشافعي إن احتاج الإمام عند نائبة تنزل بالمسلمين قنت في الصلاة كلها لحديث أبي هريرة وغيره في قنوت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا يدعو على الذين قتلوا أصحاب بئر معونة (1) ونحو ذلك من الآثار
294

وذكر بن أبي شيبة قال سمعت وكيعا يقول سمعت سفيان يقول من قنت فحسن ومن لم يقنت فحسن ومن قنت فإنما القنوت على الإمام وليس على من وراءه قنوت
حدثنا سعيد قال حدثنا قاسم قال حدثنا محمد بن إسماعيل قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال لما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من الركعة الآخرة من صلاة الصبح قال اللهم انج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين بمكة اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف (1)
حدثنا محمد بن عبد الله قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أبو حنيفة قال سمعت مسددا يقول كان يحيى بن سعيد يقول يجب الدعاء إذا وغلت الجيوش في بلاد العدو يعني القنوت
قال وكذلك كانت الأئمة تفعل
قال وكان مسدد يجهر بالقنوت
قال أبو حنيفة والدليل على ذلك حديث أبي الشعثاء أنه سأل بن عمر عن القنوت فقال ما شهدت ولا رأيت
ووجه ذلك أن عبد الله بن عمر كان لا يتخلف عن جيش ولا سرية أيام أبي بكر وأيام عمر فكان لا يشهد القنوت لذلك قال أبو حنيفة والعمل عندنا على ذلك وهو قول مالك في القنوت إنما هو دعاء فإذا شاء وإن شاء ترك
واختلف الفقهاء فيما يقنت به من الدعاء
فقال الكوفيون ومالك ليس في القنوت دعاء موقت ولكنهم يستحبون ألا يقنت إلا بقولهم اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك ونؤمن بك ونخنع لك ونخلع ونترك من يكفرك اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك الجد إن عذابك بالكافرين ملحق
وهذا يسميه العراقيون السورتين ويرون أنها في مصحف أبي بن كعب
295

وقال الحسن بن حي والشافعي وإسحاق بن راهويه يقنت باللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت اللهم قني شر ما قضيت وبارك لي فيما أعطيت فإنك تقضي بالحق ولا يقضى عليك وأنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت
وهذا يرويه الحسن بن علي من طرق ثابتة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه هذا الدعاء يقنت به في الصلاة
وقال عبد الله بن داود من لم يقنت بالسورتين فلا تصل خلفه
قال أبو عمر هذا خطأ بين وخلاف للجمهور وللأصول
((17 باب النهي عن الصلاة والإنسان يريد حاجته))
349 مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الأرقم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا أراد أحدكم الغائط فليبدأ به قبل الصلاة
ولم يختلف الرواة للموطأ في إسناد هذا الحديث
وقد ذكرنا الاختلاف فيه على هشام في التمهيد
350 مالك عن زيد بن أسلم أن عمر بن الخطاب قال لا يصلين أحدكم وهو ضام بين وركيه
قال أبو عمر أجمع العلماء على أنه لا ينبغي لأحد أن يصلي وهو حاقن إذا كان حقنة ذلك يشغله عن إقامة شيء من فروض صلاته وإن قل واختلفوا فيمن صلى وهو حاقن إلا أنه أكمل صلاته فقال مالك فيما روى بن القاسم عنه إذا شغله ذلك فصلى كذلك فإنني أحب أن يعيد في الوقت وبعده
وقال الشافعي وأبو حنيفة وعبد الله بن الحسن يكره أن يصلي وهو حاقن وصلاته جائزة مع ذلك إن لم يترك شيئا من فروضها
296

وقال الثوري إذا خاف أن يسبقه البول قدم رجلا وانصرف
قال أبو عمر في هذا الباب حديث حسن أيضا قد ذكرناه بإسناده في التمهيد وهو حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يصلي أحدكم بحضرة الطعام ولا هو يدافعه الأخبثان يعني البول والغائط (1)
وقد أجمعوا أنه لو صلى بحضرة الطعام فأكمل صلاته ولم يترك من فرائضها شيئا أن صلاته مجزية عنه وكذلك إذا صلى حاقنا فأكمل صلاته
وفي هذا دليل على أن الصلاة بحضرة الطعام إنما هو لأن لا يشتغل قلب المصلي بالطعام فيسهو عن صلاته ولا يقيمها بما يجب عليه فيها وكذلك الحاقن وإن كنا نكره لكل حاقن أن يبدأ بصلاته في حالته فإن فعل وسلمت صلاته جزت عنه وبئس ما صنع والمرء أعلم بنفسه فليست أحوال الناس في ذلك سواء ولا الشيخ في ذلك كالشاب والله أعلم
وقد روي من حديث الشاميين في هذا الباب حديث لا حجة فيه لضعف إسناده منهم من يجعله عن أبي هريرة ومنهم من يجعله عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يحل لمؤمن أن يصلي وهو حاقن جدا (2)
وقد ذكرناه بإسناده في التمهيد
وروي عن عمر فيه كراهية
وعن علي مثل ذلك
وعن بن عباس أنه قال لأن أصلي وهو في ناحية من ثوبي أحب إلي من أن أصلي وأنا أدافعه
وعن عبد الله بن عمر مثله
وعن سعيد بن جبير معناه
وعن نافع مولى بن عمر كراهيته
وعن عكرمة مثله
كل هؤلاء يكرهون للحاقن الصلاة
297

وروي عن المسور بن مخرمة فيه رخصة
وعن طاوس أنه قال إنا لنصره صرا ونضغطه ضغطا
وعن إبراهيم النخعي أنه قال لا بأس به ما لم يعجله عن الركوع والسجود
وعن أبي جعفر محمد بن علي وعطاء بن رباح والشعبي أنهم قالوا لا بأس أن يصلي وهو حاقن
وذكر أبو بكر قال حدثنا أبو معاوية عن واصل قال قلت لعطاء أجد العصر من البول وتحضر الصلاة أفأصلي وأنا أجده قال نعم إذا كنت ترى أنك تحبسه حتى تصلي
وفي هذا الحديث قوله إذا أراد أحدكم الغائط ما يدل على ما كان عليه العرب في مخاطباتها من البعد عن الفحش والبذاء والقذع ومجانبه الخنا ودناءة القول وفسولته
ولهذا قالوا لموضع حاجة الإنسان الخلاء والمذهب والغائط والمخرج والكنيف والحش والمرحاض والمرفق وكل ذلك كناية وفرار عن التصريح باسم الرجيع
((18 باب انتظار الصلاة والمشي إليها))
351 ذكر فيه مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث اللهم اغفر له اللهم ارحمه
قال مالك لا أرى قوله ما لم يحدث إلا الحدث الذي ينقض الوضوء
قال أبو عمر أما قوله الملائكة تصلي على أحدكم فقد بان في سياق الحديث معناه وذلك قوله اللهم اغفر اللهم ارحمه
ومعنى تصلي على أحدكم يريد تدعو له وتترحم عليه
ومصلاه موضع صلاته وذلك عندي في المسجد لأن هناك يحصل منتظرا
298

للصلاة في الجماعة وهذا هو الأغلب في معنى انتظار الصلاة
ولو قعدت المرأة في مصلى بيتها تنتظر وقت الصلاة الأخرى فتقوم إليها لم يبعد أن تدخل في معنى الحديث لأنها حبست نفسها عن التصرف رغبة في الصلاة وخوفا من أن تكون في شغل يفوتها معه الصلاة
ومن هذا المعنى قيل وانتظار الصلاة رباط لأن المرابط يحبس نفسه عن المكاسب والتصرف إرصادا للعدو وملازمة للموضع الذي يخشى فيه طريق العدو
وللصلاة في كلام العرب وجوه
قال أبو بكر بن الأنباري الصلاة تنقسم في لسان العرب على ثلاثة أقسام تكون الصلاة المعروفة التي فيه الركوع والسجود كما قال تعالى * (فصل لربك وانحر) * [الكوثر 2]
قال أبو عمر أنشد نفطويه في هذا المعنى قول الأعشى
(يراوح من صلوات الملك
* طورا سجودا وطورا جؤارا (1)) والحوار ها هنا الرجوع إلى القيام والقعود ومن هذا قولهم للبكرة تدور على الحور
قال بن الأنباري وتكون الصلاة الترحم من الله تعالى
قال الله عز وجل " أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة " [البقرة 157]
ومن ذلك قول كعب بن مالك
(صلى الإله عليهم من فتية
* وسقى عظامهم الغمام المسبل) وقال آخر
(صلى على يحيى وأشياعه
* رب كريم وشفيع مطاع (2))
ومنه الحديث الذي يروى عن بن أبي أوفى قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بصدقة آل أبي أوفى فقال اللهم صل على آل أبي أوفى يريد اللهم ارحمهم
299

حدثنا إبراهيم بن قاسم بن عيسى قال حدثنا عبيد الله بن محمد يعني بن حبابه ببغداد قال حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد العزيز قال حدثنا علي بن الجعد بن عبيد الجوهري قال حدثنا شعبة قال أخبرني عمرو بن مرة قال سمعت عبد الله بن أبي أوفى وكان من أصحاب الشجرة قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقة قال اللهم صل عليهم فأتاه أبي بصدقة فقال اللهم صل على آل أبي أوفى (1)
وتكون الصلاة الدعاء ومن ذلك الصلاة على الميت معناها الدعاء لأنها لا ركوع فيها ولا سجود
ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب فإن كان مفطرا فليأكل وإن كان صائما فليصل (2) يريد يدعو
وأما قوله عز وجل * (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها) * [الإسراء 110] فقيل والصلاة ها هنا الدعاء وقيل غير ذلك مما نزلت بسببه الآية على ما قد أوردناه في التمهيد ويأتي في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله
ومن معنى قوله اللهم اغفر له اللهم ارحمه ما روي عن سعيد بن المسيب إذ عوتب على تخلفه عن الجنائز فقال قعودي في المسجد انتظر الصلاة أحب إلي لأن الملائكة تصلي علي اللهم اغفر لسعيد بن المسيب
وقد ذكرنا في التمهيد خبر سعيد هذا بتمامه وذكرنا قول من خالفه في مذهبه هذا ورأى شهود الجنائز أفضل لأنه فرض على الكفاية والفرض على الكفاية أفضل من التطوع والنافلة
وأما قول مالك في معنى ما لم يحدث أنه الحدث الذي ينقض الطهارة وهو قول صحيح لأن المحدث في المسجد القاعد على غير وضوء لا يكون منتظرا للصلاة
وقول مالك هذا أولى من قول من قال إن الحدث ها هنا الكلام القبيح
وهذا قول ضعيف أن من تكلم بما لا يصلح من القول لا يخرجه ذلك من أن
300

يكون منتظرا للصلاة ويرجى له أن يدخل في دعاء الملائكة له بالمغفرة والرحمة لأنه منتظر للصلاة في حال يجوز له بها الصلاة إذا كان عقده ونيته انتظار الصلاة بعد الصلاة
ويشهد لهذا التأويل حديث مالك في هذا الباب أيضا
352 عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يزال أحدكم في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه لا يمنعه أن ينقلب (1) إلى أهله إلا الصلاة
وهذا الحديث بين واضح لا يحتاج إلى القول فيه
353 وكذلك حديثه أيضا عن نعيم المجمر عن أبي هريرة قال إذا صلى أحدكم ثم جلس في مصلاه لم تزل الملائكة تصلي عليه اللهم اغفر له اللهم ارحمه فإن قام من مصلاه فجلس في المسجد ينتظر الصلاة لم يزل في صلاة حتى يصلي
والقول في الحديث قبل هذا يغني عن القول في هذا لأن معناهما سواء إلا أن في هذا أن قيام المصلي من مصلاه لا يخرجه من أن يكون له ثواب المصلي إذا كان منتظرا للصلاة إلا أنه لا يقال إنه لا تصلي عليه الملائكة كما تصلي على الذي في مصلاه ينتظر الصلاة والله أعلم
على أنه ممكن يكون قوله ما دام في مصلاه شرطا يخرج ما خالفه عن حكمه وممن أن يكون له حكمه بالعلة الجامعة بينهما لانتظار الصلاة والله أعلم إذا لم يقم من مجلسه لشيء من عرض الدنيا وأقام لما يعنيه على ما كان يصنعه في مجلسه من الذكر
301

354 وأما حديثه عن سمي مولى أبي بكر أن أبا بكر بن عبد الرحمن كان يقول من غدا أو راح إلى المسجد لا يريد غيره ليتعلم خيرا أو ليعلمه ثم رجع إلى بيته كان كالمجاهد في سبيل الله
فمعلوم أن هذا لا يدركه بالرأي والاجتهاد لأنه قطع على عيب من حكم الله وأمره في ثوابه
وقد رويت في هذا المعنى آثار مرفوعة وقد أوردنا من ذلك أبوابا في كتاب جامع بيان العلم وفضله كافية والحمد لله
355 وأما حديثه عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات [إسباغ الوضوء (1) على المكاره وكثرة الخطا (2) إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الربط]
وهو من أفضل حديث يروى في فضائل الأعمال
وفيه من العلم طرح المسألة على المتكلم وابتداؤه بالفائدة وعرضها على من يرجو حفظها وحملها
وأما قوله إسباغ الوضوء على المكاره الإكمال والإتمام من ذلك قول الله عز وجل * (وأسبغ عليكم نعمه) * [لقمان 20] يعني أتمها عليكم وأكملها
وإسباغ الوضوء أن يأتي بالماء على كل عضو يلزمه غسله مع إمرار اليد فإذا فعل ذلك مرة وأكمل فقد توضأ مرة
وأما قوله على المكاره فقيل إنه أراد شدة البرد وكل حال يكره المرء فيها نفسه على الوضوء ومنه دفع تكسيل الشيطان له عنه
وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير قال من صدق الإيمان وبره إسباغ الوضوء في المكاره
302

ومن صدق الإيمان وبره أن يخلو الرجل بالمرأة الجميلة ويدعها لا يدعها إلا لله عز وجل
وأما قوله فذلكم الرباط فإن الرباط ها هنا ملازمة المسجد لانتظار الصلاة وذلك معروف في اللغة
قال صاحب العين الرباط ملازمة الثغور
قال والرباط ملازمة الصلاة
وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن في قول الله عز وجل " يا أيها الذي ءامنوا اصبروا وصابروا ورابطوا " [آل عمران 200] قال ما كان الرباط على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن نزلت في انتظار الصلاة بعد الصلاة
وقال محمد بن كعب القرظي في ذلك اصبروا على دينكم وصابروا الوعد الذي وعدتكم ورابطوا عدوي وعدوكم حتى يترك دينه لدينكم واتقوا فيما بيني وبينكم لعلكم تفلحون
قال أبو عمر قوله عز وجل * (لعلكم تفلحون) * أي إلي تفلحون
وقال قتادة صابروا المشركين ورابطوا في سبيل الله
وقد ذكرنا الأسانيد بذلك عنهم في التمهيد
وذكرنا فيه من حديث سعيد بن المسيب عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إسباغ الوضوء في المكاره وإعمال الأقدام إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة تغسل الخطايا غسلا
356 وذكر مالك في هذا الباب أنه بلغه عن سعيد بن المسيب أنه قال يقال لا يخرج أحد من المسجد بعد النداء إلا أحد يريد الرجوع إليه إلا منافق
وهذا كما قال سعيد بن المسيب إذا كان ممن لا يصلي تلك الصلاة في جماعة وخرج مشتغلا لها أبيا لإقامتها فهذا لا شك في كفره ونفاقه
وقد ذكر مالك رحمه الله قال دخل أعرابي المسجد وأذن المؤذن فقام يحل عقال ناقته ليخرج فنهاه سعيد بن المسيب فلم ينته فما سارت به ناقته إلا يسيرا حتى وقصت به فأصيب في جسده فقال سعيد بلغني أن من خرج من الأذان والإقامة لغير الوضوء فإنه شيطان
303

357 وأما حديثه عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن عمرو بن سليم عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين
قال مالك وذلك حسن وليس بواجب
فعلى قول مالك في استحسانه الركوع لكل من دخل المسجد وهو طاهر في وقت تجوز النافة فيه
وترك إيجاب الركوع على من دخل المسجد جماعة الفقهاء ويستحسنون لكل من دخله وهو على وضوء أن يحييه ولو بركعتين على ظاهر هذا الحديث ولا يوجبون ذلك عليه
والدليل على صحة ما ذهبوا في ذلك إليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر مرة رجلا دخل المسجد وهو يخطب يوم الجمعة أن يركع الركعتين وأمر مرة أخرى رجلا رآه يتخطى رقاب الناس بالجلوس ولم يقل له اركع
واستعمال الأحاديث في هذا الباب لا يكون إلا على ما قاله مالك وجمهور الفقهاء في الداخل المسجد إن شاء ركع ركعتين وإن شاء لم يركع
حدثني خلف بن قاسم قال حدثنا عبد الرحمن بن عمر قال حدثنا أبو زرعة قال حدثنا أبو نعيم قال حدثنا يزيد بن عبد الله بن أبي بردة قال رأيت الحسن دخل يوم الجمعة وبن هبيرة يخطب على المنبر فصلى ركعتين في مؤخر المسجد ثم جلس
وأوجب أهل الظاهر على كل من دخل المسجد طاهرا في حين يجوز فيه الصلاة أن يركع
وأوجب ذلك بعضهم في كل وقت وقالوا فعل الخير لا يمتنع منه إلا بدليل لا معارض له ولم يقولوا بالمجمل والمفسر من الكتاب والسنة
والذي عليه السلف ما ذهب إليه الفقهاء في ذلك
304

وروى أبو مصعب الزهري عن المغيرة بن عبد الرحمن بن عبد الله عن عبد الله بن عمر العمري عن أخيه عبيد الله بن عمر قال رأيت القاسم بن محمد يدخل المسجد فيجلس فيه ولا يصلي فيه
وذكر بن أبي شيبة عن الدراوردي عن زيد بن أسلم قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلون المسجد ثم يخرجون ولا يصلون
قال وقد رأيت بن عمر يفعله
وروى حماد بن زيد عن الجريري عن جابر بن زيد قال إذا دخلت المسجد فصل فيه فإن لم تصل فيه فاذكر الله فكأنك قد صليت فيه
وهذا كله يدلك على أن الأمر بالركعتين لمن دخل المسجد ندب وإرشاد لا إيجاب
وفي قول الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم في الصلوات الخمس هل علي غيرهن قال لا إلا أن تطوع (1) دليل على خطأ ما ذهب إليه أهل الظاهر وصواب ما ذهب إليه الفقهاء في ذلك وبالله التوفيق
358 وأما قول أبي سلمة بن عبد الرحمن على عمر بن عبيد الله أنه لم يركع إذ دخل المسجد
فيحتمل أن يكون عاب عليه تقصيره عن حظ نفسه في استعمال السنة مع قدرته عليها إلا أن ذلك كان واجبا عنده والله أعلم
واختلف الفقهاء فيمن ركع ركعتي الفجر في بيته ثم دخل المسجد قبل أن تقام صلاة الصبح
فاختلف في ذلك قول مالك أيضا
فروى أشهب عنه أحب إلي أن يركع
وروى بن القاسم عنه أحب إلي ألا يركع
305

وذكر بن عبد الحكم القولين وقال أحب إلي أن يركع
وقال أبو حنيفة والليث والأوزاعي لا يركع
وقال الشافعي وأحمد وداود يركع
((19 باب وضع اليدين على ما يوضع عليه الوجه في السجود))
359 ذكر فيه مالك عن نافع عن بن عمر أنه كان إذا سجد وضع كفيه على الذي يضع عليه وجهه
قال نافع ولقد رأيته في يوم شديد البرد وإنه ليخرج كفيه من تحت برنس له حتى يضعهما على الحصباء
360 وعن نافع عن بن عمر أنه كان يقول من وضع جبهته في الأرض فليضع كفيه على الذي يضع عليه جبهته ثم إذا رفع فليرفعهما فإن اليدين يسجدان كما يسجد الوجه
وهذا كله مستحب عند العلماء مرغوب فيه مأمور به إلا قوله في اليدين فليرفعهما فإن رفعهما عند الجميع فرض لأنه لا يعتدل من لم يرفعهما من الأرض والاعتدال في
الركوع والرفع منه وفي السجود والرفع منه واجب فرضا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وفعله له وقوله عليه السلام صلوا كما رأيتموني أصلي (1)
وقوله صلى الله عليه وسلم لا ينظر الله عز وجل إلى من لا يقيم صلبه في ركوعه ولا سجوده
306

ولا خلاف بين العلماء في ذلك وإنما اختلفوا في الطمأنينة بعد الاعتدال
وقد أوضحنا هذا المعنى فيما تقدم من كتابنا هذا
وإنما قلنا هذا لأنا لم نعد ما روي عن أبي حنيفة وبعض أصحابنا في ترك الاعتدال خلافا لأن مخالف الجمهور والآثار محجوج بهم وبالآثار
منها ما رواه أبو مسعود عقبة بن عمرو قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فوصف الصلاة قال ثم سجد حتى استقر كل شيء منه ثم قعد حتى استقر كل شيء منه (1)
رواه زائدة بن قدامة عن عطاء بن السائب عن سالم بن عبد الله عن أبي مسعود
حدثنا أحمد بن قاسم وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا يحيى بن أبي كثير قال حدثنا زائدة فذكره
وروى الأعمش عن عمارة بن عمير عن أبي معمر عن أبي مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تجزئ صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود (2)
وقد ذكرنا بإسناده فيما سلف من كتابنا
وأما قوله كان يخرج يديه في اليوم الشديد البرد من تحت برنس له فإن ذلك مستحب مأمور به عند الجميع
والدليل على ذلك إجماع الجميع على أن المصلي يسجد على ركبتيه مستورتين بالثياب وهي بعض الأعضاء التي أمر المصلي بالسجود عليها فكذلك سائر أعضائه إلا ما أجمعوا عليه من كشف الوجه
إلا أن في قول بن عمر اليدان تسجدان كما يسجد الوجه ما يدل على أن حكم اليدين عنده حكم الوجه لا حكم الركبتين
والذي أحب لكل مصل ألا يستر يديه بأكمامه عند سجوده وأن يباشر بهما ما يباشره بوجهه فإن لم يفعل فقد قصر عن حظ نفسه وصلاته ماضية جائزة عنه إن شاء اللعه
307

وإذا كانت اليدان كالوجه للحرمة كان الأولى للمصلي أن يخرج يديه قاسيا على الوجه
ذكر بن أبي شيبة قال حدثنا وكيع عن حسن بن صالح عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الرحمن بن أبي عاصم عن أبي هند الشامي قال قال عمر إذا سجد أحدكم فليباشر بكفيه الأرض لعل الله تعالى يصرف عنه الغل يوم القيامة
قال وحدثنا عبد الوهاب الثقفي عن أيوب عن محمد أن بن عمر كان يخرج يديه إذا سجد وأنهما ليقطران دما
قال وحدثنا مالك بن إسماعيل قال حدثنا عبد الوارث قال حدثنا إسحاق بن سويد قال رأيت قتادة العدوي إذا سجد يخرج يديه يمين بهما الأرض
قال وحدثنا عبد العزيز بن محمد عن أسامة بن زيد قال رأيت سالما إذا سجد أخرج يديه من برنسه حتى يضعهما على الأرض
قال وحدثنا أبو أسامة عن بن عون قال كان محمد يباشر بكفيه الأرض إذا سجد
وذكر يعني بن أبي شيبة عن مجاهد والأسود بن يزيد والحسن البصري وسعيد بن جبير وعلقمة ومسروق وإبراهيم أنهم كانوا يسجدون وأيديهم في ثيابهم وبرانسهم بالأسانيد عنهم
قال وحدثنا عبد العزيز بن محمد عن إسماعيل بن أبي حبيبة عن عبد الله بن عبد الرحمن قال جاءنا النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بنا في مسجد بني عبد الأشهل فرأيته واضعا يديه في ثوبه إذا سجد (1)
قال أبو عمر إسماعيل بن أبي حبيبة ضعيف لا يحتج بما يرويه إذا انفرد به
((20 باب الالتفات والتصفيق في الصلاة عند الحاجة))
361 ذكر فيه مالك عن أبي حازم الأشجعي [سلمة بن دينار] عن سهل بن
308

سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم وحانت الصلاة (1) [فجاء المؤذن إلى أبي بكر الصديق] فقال أتصلي للناس فأقيم قال نعم فصلى أبو بكر فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس في الصلاة فتخلص حتى وقف في الصف فصفق الناس وكان أبو بكر لا يلتفت في صلاته فلما أكثر الناس من التصفيق التفت أبو بكر [فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمكث مكانك فرفع أبو بكر يديه فحمد الله على ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك ثم استأخر حتى استوى في الصف وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ثم انصرف فقال يا أبا بكر ما منعك أن تثبت إذ أمرتك فقال أبو بكر ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم] مالي رأيتكم أكثرتم من التصفيح (2) من نابه (3) شيء في صلاته فليسبح فإنه إذا سبح التفت إليه وإنما التصفيح للنساء
قد ذكرنا في التمهيد اختلاف ألفاظ الناقلين لهذا الحديث عن أبي حازم وغيره
وبان في ذلك أن الصلاة الذي ذكر أنها كانت صلاة العصر وأن المؤذن كان بلالا
وفي هذا الحديث من الفقه أن الصلاة إذا خشي فوت وقتها المستحب المختار أنه لا ينتظر الإمام فيها وإن كان فاضلا
وفيه أن الإقامة إلى المؤذن هو أولى بها
وقد اختلف الفقهاء في هذا المعنى
فقال قائلون من أذن فهو يقيم ورووا فيه حديثا أخرج عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد فيه لين يدور على عبد الرحمن بن زياد الأفريقي
وقال مالك والكوفيون ولا بأس بأذان المؤذن وإقامة غيره
واستحب الشافعي أن يقيم المؤذن فإن أقام غيره فلا بأس بذلك عنده
وفي حديث عبد الله بن زيد إذ أري النداء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألقه على
309

بلال فإنه أندى منك صوتا ففعل فلما أذن بلال قال لعبد الله بن زيد أقم أنت (1)
وفي هذا أذان رجل وإقامة غيره
وإسناد حديث عبد الله بن زيد أثبت عند أهل العلم
وفي حديث هذا الباب أيضا أنه لا بأس بتخلل الصفوف والمشي إلى الصف الأول حتى يصل إليه من يليق به الصلاة فيه لأن شأن الصف الأول أن يكون فيه أفضل القوم علما ودينا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى (2) يعني ليحفظوا عنه ويعوا ما يكون منه في صلاته
وكذلك ينبغي أن يكون في الصف الأول من يصلح أن يلقنه ما تعايا عليه ووقف فيه من القرآن ومن يصلح أيضا للاستخلاف في الصلاة إن ناب الإمام فيها ما يحمله على الاستخلاف
وفيه أن التصفيق لا يفسد صلاة الرجال إن فعلوه فيها لأنهم لم يؤمروا بإعادة وإنما قيل لهم من نابه شيء في صلاته فليسبح
وفيه أن من فضائل الرجل لا يلتفت في صلاته ولذلك وصف به أبو بكر رضي الله عنه من حاله فلما أكثر الناس التصفيق التفت
في ذلك دليل على أن الالتفات الخفيف لأمر لابد منه لا يفسد الصلاة لأنه لم يؤمر بالإعادة لفعله ذلك
وقد جاءت في النهي عن الالتفات آثار حسان ذكرتها في التمهيد محلها عند العلماء على ما ذكرت لك
منها أن عبد الله بن عمر سئل أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتفت في الصلاة قال لا ولا في غير الصلاة
310

وفيه أن الإشارة في الصلاة باليد والغمز بالعين لا تضر المصلي
وقد روى نافع عن بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشير في الصلاة (1)
وقد ذكرنا الأحاديث بأسانيدها في التمهيد
وفيه أن رفع اليدين في الصلاة حمدا وشكرا ودعاء وضراعة إلى الله عز وجل لا تضر الصلاة
وفيه دليل على جواز الاستخلاف في الصلاة إذا أحدث الإمام أو منعه من تمام صلاته مانع وقد تأخر أبو بكر من غير حدث ليتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم
فمن نابه في صلاته من حدث أو غيره مما يمنعه من التمادي فيها أحرى بأن يجوز له الاستخلاف والتأخر
وقد كان يجوز لأبي بكر أن يبقى مكانه ولا يتأخر بدليل إشارة رسول الله أن امكث مكانك
وأما تأخر أبي بكر وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكانه فهو موضع خصوص عند أكثر العلماء وكلهم لا يجيز إمامين في صلاة واحدة من غير حدث يقطعها على الإمام وفي إجماعهم على هذا دليل على خصوص هذا الموضع لفضل رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا نظير له ولا يجوز أن يتقدم بين يديه للنهي في ذلك إلا بأمره وسائر الناس تتقارب أحوالهم ولا يجوز لأحد أن يتقدم قوما إلا بإذنهم أو إذن من له الإذن منهم فلا ضرورة بأحد اليوم إلى مثل ذلك الفعل فلذلك بان فيه الخصوص والله أعلم
وموضع الخصوص من هذا الحديث هو استئخار الإمام من غير حدث وأما من تأخر لعلة الحدث فجائز لم وصفنا
وقد روى عيسى عن بن القاسم في رجل صلى بقوم ركعة من صلاتهم ثم أحدث فخرج وقدم رجلا ثم توضأ وانصرف فأخرج الذي قدمه وتقدم مكانه فأتم بهم هل تجزئهم صلاتهم فقال قد جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تأخر له أبو بكر فصلى به وبالناس
قال فإما أن يصلي بهم بقية صلاتهم ثم يجلسون حتى يتم هو لنفسه ثم يسلم ويسلمون
قال عيسى قلت لابن القاسم فلو ذكر قبيح ما صنع بعد أن صلى ركعة
311

قال يخرج ويقوم الذي خرج
قلت فإن لم يجد قال يقوم غيره ممن أدرك الصلاة كلها
وفيه أن السنة لمن نابه شيء في صلاته أن يسبح ولا يصفق
هذا ما لا خلاف فيه للرجال وأما النساء فإن العلماء اختلفوا في ذلك
فذهب مالك وأصحابه أن التسبيح للرجال والنساء على ظاهر قوله من نابه شيء في صلاته فليسبح وهذا على عمومه في الرجال والنساء وتأولوا في قوله فإنما التصفيح
للنساء أي أن التصفيح من أفعال النساء على جهة الذم لذلك
وقال آخرون منهم الشافعي والأوزاعي وعبيد الله بن الحسن والحسن بن حي وجماعة من نابه من الرجال شيء في صلاته سبح وأما المرأة فإنها تصفق إذا نابها في صلاتها شيء فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فرق بين الرجال والنساء في ذلك فقال التسبيح للرجال والتصفيق للنساء (1)
وكذلك رواه جماعة في حديث سهل بن سعد هذا
وهو محفوظ ثابت من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه عن أبي هريرة سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن ومحمد بن سيرين وأبو صالح السمان وغيرهم
وعلى هذا يكون قوله صلى الله عليه وسلم من نابه شيء في صلاته منكم يا معشر الرجال فليسبح إذ عليهم خرج الخبر وإليهم توجه الخطاب
وقال بعض العلماء إن التصفيح للنساء أن تضرب المرأة بأصبعين من يمينها على كفها الشمال
وقال بعضهم إنما كره التسبيح للنساء وأبيح لهن التصفيق لأن صوت المرأة فتنة ولهذا منعت من الأذان والإقامة والجهر بالقراءة في صلاتها
وفي هذا الحديث دليل على جواز الفتح على الإمام إذا احتاج إلى ذكره لقوله صلى الله عليه وسلم من نابه شيء في صلاته فليسبح وإذا جاز التسبيح جازت التلاوة لأنها ذكر
312

وهذا إنما يكون إذا وقف الإمام ولم يجد ما يقرأ على ما يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا استطعمك الإمام فأطعمه
أخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثنا عبد الحميد بن أحمد قال حدثنا الخضر بن داود قال حدثنا أبو بكر بن الأثرم قال حدثنا قبيصة قال حدثنا سفيان الثوري عن خالد الحذاء قال سمعت الحسن يقول إن أهل الكوفة يقولون لا يفتح على الإمام ولا بأس به أليس الرجل يقول سبحان الله
وذكر الطحاوي أن الثوري وأبا حنيفة وأصحابه كانوا يقولون لا يفتح أحد على الإمام
قالوا فإن فتح عليه لم تفسد صلاته
وروى الكرخي عن أصحاب أبي حنيفة أنهم لا يكرهون الفتح على الإمام
وقال مالك والشافعي وأصحابهما لا بأس بالفتح على الإمام اتفاقا
وهذا هو الصحيح لأن تلاوة القرآن في الصلاة أجوز من التسبيح
وقد قال أبو حنيفة إذا كان التسبيح جوابا قطع الصلاة وإن كان مرور إنسان بين يديه لم يقطع
وقال أبو يوسف لا يقطع وإن كان جوابا
وكذلك اختلافهم فيمن جاوب بالقرآن وهو يصلي جوابا مفهوما
362 وأما حديثه عن نافع عن بن عمر أنه لم يكن يلتفت في صلاة
فهذه السنة المجتمع عليها
والالتفات مكروه عند الجميع إذا رمى ببصره وصعد عنقه يمينا أو شمالا
ولا يكرهون له النظر بين يديه إلا إلى ما يشغله عن صلاة فإنه لا يجوز ذلك له
363 وأما حديثه عن أبي جعفر القارئ أنه قال كنت أصلي وعبد الله بن عمر ورائي ولا أشعر به فالتفت فغمزني
فهذا الغمز باليد بدليل رواية أبي المصعب له عن مالك في الموطأ قال فالتفت فوضع يده في قفاي فغمزني
313

وقد أجمع العلماء على أن من سلم عليه وهو يصلي فرد إشارة أنه لا شيء عليه
وقد ثبت من حديث بن عمر عن صهيب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي والأنصار يدخلون يسلمون عليه وكان يرد إشارة
ومن أهل العلم من قال لا يرد إشارة ولكنه إذا سلم من الصلاة رد السلام كلاما
وأكثرهم يجيزون رد السلام إشارة باليد للمصلي
وكره السلام على المصلي جماعة من أهل العلم وأجازه الأكثر على ما وصفنا عنهم وبالله التوفيق
((21 باب ما يفعل من جاء والإمام راكع))
364 ذكر فيه مالك عن بن شهاب عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال دخل زيد بن ثابت المسجد فوجد الناس ركوعا فركع ثم دب حتى وصل إلى الصف
365 مالك أنه بلغه أن عبد الله بن مسعود كان يدب راكعا
قال أبو عمر حديث زيد بن ثابت في هذا الباب متصل صحيح وحديث بن مسعود وإن كان بلاغا منقطعا عند مالك فإنه متصل صحيح أيضا من رواية أئمة أهل الحديث
روى سفيان بن عيينة عن منصور بن المعتمر عن زيد بن وهب قال دخلت مع بن مسعود المسجد فوجدنا الناس ركوعا فركعنا جميعا قبل أن نصل إلى الصف ثم مشينا راكعين حتى دخلنا في الصف فلما سلم الإمام قمت لأقضي الركعة فأخذ بن مسعود بيدي فقال اجلس فقد أدركت
وروى سفيان أيضا عن الزهري عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال رأيت زيد بن ثابت دخل المسجد والناس ركوع فركع ثم دب راكعا حتى وصل إلى الصف
314

وسفيان عن عبيد الله بن يزيد قال رأيت سعيد بن جبير ركع قبل أن يصل إلى الصف ثم مشى راكعا حتى وصل إلى الصف
قال أبو عمر لا أعلم لزيد وبن مسعود مخالفا من الصحابة
روى محمد بن إسحاق عن الأعرج قال قلت لأبي هريرة يركع الإمام ولم أصل إلى الصف أفأركع فأخذ برجلي وقال لا يا أعرج حتى تأخذ مقامك من الصف
قال أبو عمر قد روي قول أبي هريرة مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم
رواه بن عجلان عن الأعرج عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاء أحدكم الصلاة فلا يركع دون الصف حتى يأخذ مكانه من الصف
وعلى هذا مذهب الشافعي إلا أنه يستحب ألا يركع دون الصف حتى يأخذ مكانه من الصف فإن فعل فلا شيء عليه كأنه لم يقطع بصحة رفع حديث أبي هريرة مع ما روي عن بن مسعود وزيد
وقال مالك والليث لا بأس أن يركع الرجل وحده دون الصف ويمشي إلى الصف إذا كان قريبا قدر ما يلحق
وقال أبو حنيفة أكره للواحد أن يركع دون الصف ثم يمشي ولا أكره ذلك للجماعة وهو قول الثوري
قال أبو عمر من هذا الباب صلاة الرجل الصف وحده وقد اختلف العلماء في ذلك قديما
فقال مالك لا بأس أن يصلي الرجل خلف الصف وحده وقد كره أن يجذب إليه رجلا
وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما والليث بن سعد والثوري إن صلى رجل خلف الصف وحده أجزأه
وقال الحسن بن حي والأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأكثر أهل الظاهر لا يصلي الرجل خلف الصف وحده وإن فعل فعليه الإعادة
قال أبو عمر احتج من لم يجز ذلك بحديث وابصة بن معبد رواه جماعة من أئمة أهل الحديث عن حصين بن عبد الرحمن عن هلال بن يساف أنه سمع
315

وابصة بن معبد يقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد (1)
ومن أجاز صلاة الرجل خلف الصف وحده احتج بحديث أبي بكرة أنه ركع دون الصف فلم يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإعادة وقال له زادك الله حرصا ولا تعد (2)
وقالوا ليس في حديث وابصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أمره بالإعادة لصلاته خلف الصف وحده لعله قد أمره بالإعادة لشيء رآه منه
وهذا خلاف ظاهر ما سبق له الحديث
واحتجوا أيضا بابن مسعود وزيد في ركوعهما دون الصف والركوع ركن من أركان الصلاة قالوا فكذلك سائر الصلاة
قال أبو عمر أجمع العلماء على أن المرأة تصلي خلف الرجل وحدها صفا وأن سنتها الوقوف خلف الرجل لا عن يمينه
وهذا المعنى قد مضى في جامع سبحة الضحى والحمد لله
قال إسماعيل بن إسحاق من دخل المسجد فوجد الناس ركوعا فلا يركع دون الصف إلا أن يطمع أن يصل إلى الصف راكعا قبل أن يرفع الإمام رأسه من الركعة
وهو معنى ما رواه بن القاسم عن مالك في ذلك
وقال غيره له أن يركع دون الصف ويعقد ركعته قبل أن يرفع الإمام رأسه كما له أن يصلي خلف الصف وحده
قال وهو قول مالك وأصل مذهبه في ذلك
وأما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكرة حين ركع دون الصف زادك الله حرصا ولا
316

تعد فمعناه عند أهل العلم زادك الله حرصا إلى الصلاة ولا تعد إلى الإبطاء عنها حتى يقوتك شيء منها ولم يأمره بإعادة ركوعه الصف ولا لسعيه إليه
حدثنا يعيش بن سعيد وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إسحاق بن الحسن الجويني قال حدثنا أحمد بن إسحاق الحضرمي قال حدثنا بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة عن أبيه عن أبي بكرة أنه دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس وهم ركوع فسعى إلى الصف فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من الساعي قال أبو بكرة أنا يا رسول الله قال زادك الله حرصا ولا تعد
((22 باب ما جاء في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم))
366 ذكر فيه مالك حديث أبي حميد الساعدي أنهم قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك فقال قولوا اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته الحديث
ذكره عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن أبيه عن عمرو بن سليم الزرقي أنه قال أخبرني أبو حميد الساعدي أنهم قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك فقال قولوا اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته الحديث
367 وحديث أبي مسعود الأنصاري واسمه [عقبة] بن عمرو بمعناه إلا أنه قال قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد
317

ذكره أيضا عن نعيم بن عبد الله المجمر عن محمد بن عبد الله بن زيد الأنصاري أنه أخبره عن أبي مسعود الأنصاري فذكر الحديث
وقد ذكرنا في التمهيد الرواية عن أبي مسعود أنه قال لما نزلت " إن الله وملئكته يصلون على النبي " [الأحزاب 56] قالوا يا رسول الله قد علمنا السلام عليك فكيف
الصلاة وذكر الحديث
وفي هذين الحديثين من الفقه أنه يلزم من ورد عليه خبر محتمل لوجه أو لوجهين في الكتاب أو السنة ألا يقطع منهما على وجه حتى يقف على المراد إن وجد إلى ذلك سبيلا
ألا ترى إلى قول سعد بن عبادة وغيره
أمرنا الله أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك وهذا والله أعلم لما يحتمله لفظ الصلاة من المعاني وقد بيناها فيما تقدم من هذا الكتاب
وقد اختلف الناس فيما لم يرد به التوقيف هل العموم أولى بذلك أم الخصوص في أقل ما يقع عليه الاسم
وذلك سبق لي كتاب الأصول والحمد لله
وهذا الحديث يخرج في التفسير المسند ويبين قول الله تعالى " إن الله وملئكته يصلون على النبي " [الأحزاب 56] الآية فبين لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف الصلاة عليه وبين لهم في التشهد كيف السلام عليه وهو قوله عليه السلام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم والسلام كما قد علمتم
ويشهد لما قلنا قول بن عباس وبن مسعود كان رسول الله يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن
318

وقال بن عمر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد
وفي بعض الروايات عنه على المنبر كما يعلم المكتب الولدان
وذكر أبو بكر قال حدثنا بن علية عن خالد بن الغلام المتوكل قال سمعت أبا سعيد الخدري يقول كنا لا نكتب شيئا إلا القرآن والتشهد
وقد قيل إنه التسليم من الصلاة الذي هو تحليلها
وقال بعض أهل العلم إن قوله صلى الله عليه وسلم في حديث بن مسعود ومن روى مثل روايته اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كلام مجمل محتمل للتأويل يفسره قوله في حديث أبي حميد الساعدي ومن تابعه اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته لأن لفظ الآل محتمل لوجوه من الأهل ومنها الأتباع كما قال تعالى " أدخلوا آل فرعون أشد العذاب " [غافر 46] أي أتباعه فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الآل هنا الأهل وأن ما أجمله مرة فسره أخرى وأوقف على أن الأهل أزواجه وذريته ويدخل في قوله آل إبراهيم إبراهيم وفي آل محمد محمدا صلى الله عليهما كأنه قال إبراهيم وآله ألا ترى إلى قوله تعالى " أدخلوا آل فرعون " يدخل فيه فرعون
هذا ما يوحيه تهذيب الأحاديث وترتيبها والله ولي التوفيق لا شريك له
وأجمع العلماء على أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فرض على كل مؤمن لقوله عز وجل " يا أيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليما " [الأحزاب 56]
ثم اختلفوا في كيفية ذلك وموضعه فذهب مالك وأصحابه وأبو حنيفة إلى أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فرض في الجملة بعقد الإيمان ولا يتعين في الصلاة ولا في وقت من الأوقات
ومن قول بعضهم أن من صلى على النبي صلى الله عليه وسلم مرة واحدة في عمره فقد سقط فرض ذلك عنه وبقي مندوبا إليه من عمره بمقدار ما يمكنه
وروي عن مالك وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي أنهم قالوا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مستحب في التشهد الآخر مندوب إليها وتاركها مسيء ومع ذلك فصلاة من لم يفعل ذلك تامة
319

حدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا محمد بن عبد السلام قال حدثنا بن أبي عمر قال حدثنا سفيان عن زائدة عن منصور عن إبراهيم قال كانوا يرون حين فرض الله الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما فكانوا يرون أن التشهد كاف من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
وقال الشافعي إذا لم يصل المصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الآخر بعد التشهد وقبل التسليم أعاد الصلاة
قال وإن صلى عليه قبل ذلك لم يجزئه
وهذا قول حكاه عنه حرملة لا يكاد يؤخذ عنه إلا من رواية حرملة وغير حرملة إنما يروى عنه أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فرض في كل صلاة وموضعها التشهد الآخر قبل التسليم ولم يذكروا إعادة فيمن وضعها قبل التشهد في الجلسة الآخرة إلا أن أصحابه قد تقلدوا رواية حرملة ومالوا إليها وناظروا عليها
ومن حجة من قال إن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليست من فرائض الصلاة حديث بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده فعلمه التشهد إلى وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وقال له فإذا قلت ذلك فقد قضيت الصلاة فإن شئت أن تقوم وإن شئت أن تقعد (1)
وقد ذكرناه بإسناده وتمام ألفاظه في التمهيد
وليس في هذا الحديث ذكر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد وكذلك سائر الآثار عن بن مسعود وغيره في التشهد ليس في شيء منها ذكر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
وفي حديث فضالة بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يدعو في صلاته لم يحمد الله ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه ثم ليصل على النبي ثم يدعو بما شاء (2)
ولم يأمر بإعادة ولو كان ذلك فرضا لأمره بالإعادة كما فعل بالذي لم يكمل ركوعه ولا سجوده
320

وحجة الشافعي ومن قال بقوله في هذه المسألة أن الله عز وجل أمرنا بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وأن نسلم عليه تسليما ثم جاء الأمر منه عليه السلام بالتشهد فعلمهم فيه كيف يسلمون عليه تسليما بقوله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله
وكان يعلم أصحابه التشهد كما يعلمهم السورة من القرآن وقال لهم إنه يقال في الصلاة لا في غيرها
وقالوا له قد علمنا السلام عليك في التشهد يعنون فكيف الصلاة عليك فعلمهم الصلاة عليه وقال لهم السلام كما قد علمتم فدلهم على أن ذلك قرين التشهد في الصلاة
قالوا وقد وجدنا الأمة بأجمعها تفعل الأمرين جميعا في صلاتها فلا يجوز أن يفرق بينها ولا تتم الصلاة إلا بهما وأراه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسائر المسلمين قولا وعملا
قالوا وليس في حديث بن مسعود حجة لأنه حديث خرج على معنى في التشهد كانوا يقولون فقال لهم لا تقولوا وقولوا كذا
ومعنى قوله فيه فإذا قلت كذلك فقد تمت صلاتك يعني إذا ضم إلى ذلك القول غيره من التسليم الذي به يسد الخلل منها وكذلك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
وهذا مثل قوله عليه السلام أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم فأردها على فقرائكم (1) يعني إذا ضم إليهم من سمي معهم في القرآن
وكذلك حديث أبي هريرة ورفاعة بن رافع في الذي لم يكمل صلاته فعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال له إذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك (2) يعني إذا ضم إليه
321

فيها ما لابد منه فيها من القراءة والتسليم وما أشبه ذلك
وإذا جاز المستدل أن يستدل على ظواهر أحاديث التشهد وما أشبهها بحديث تحليلها التسليم (1) جاز لغيره أن يستدل على إيجاب الصلاة على النبي في الصلاة بما وصفنا وببعضه وبالله التوفيق
قالوا وأبو مسعود هو الذي يروي الحديث في هذا الباب وهو القائل ما أرى أن صلاة لي تمت إذا لم أصل فيها على النبي صلى الله عليه وسلم
وقد ذكرنا إسناده في التمهيد وذكرنا حديث سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا صلاة لمن لم يصل فيها على النبي صلى الله عليه وسلم
روى حديث أبي مسعود جابر الجعفي
وجابر الجعفي وإن كان قد طعن عليه قوم منهم بن عيينة فقد أثنى عليه سفيان وشعبة وغيرهما ووصفوا بالحفظ والإتقان لما روى
ومن حجة الشافعي أيضا ما رواه بن عيينة عن منصور قال لما أنزل الله تعالى " إن الله وملئكته يصلون على النبي يا أيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليما " [الأحزاب 56] فافترض الله على عباده الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والتسليم علمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في التشهد السلام عليك أيها النبي ورحمة الله
هذا كله ما احتج به الشافعي وأصحابه لمذهبهم في إيجاب الصلاة على النبي عليه السلام في الصلاة
قال أبو عمر الأصل أن الفرائض لا تثبت إلا بدليل لا معارض له أو بإجماع لا مخالف فيه وذلك معدوم من هذه المسألة إلا أني رأيت الفقهاء وأصحابهم إذا قام لأحدهم دليلا من كتاب أو سنة أوجبوا به واستقصوا في موضع الخلاف
322

وحجة أصحاب الشافعي فيها ضعيف ولست أوجب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فرضا في كل صلاة ولكن لا أحب لأحد تركها وبالله التوفيق
قال أبو عمر رويت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من طرق متواترة بألفاظ متقاربة ليس في شيء منها وارحم محمدا وآل محمد وإنما فيها كلها لفظ الصلاة والبركة لا غير قوله اللهم صل على محمد وليس في شيء منها وأرحم محمدا فلا أحب أحدا أن يقوله لأن الصلاة وإن كانت من الله الرحمة فإن النبي صلى الله عليه وسلم خص بهذا اللفظ وذلك والله أعلم من معنى قول الله عز وجل * (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا) * [النور 63]
ولهذا أنكر العلماء على يحيى بن يحيى ومن تابعه في الرواية عن مالك في الموطأ
368 عن عبد الله بن دينار قال رأيت عبد الله بن عمر يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر وعمر
قالوا إنما الرواية لمالك وغيره عن عبد الله بن دينار عن بن عمر أنه كان يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو لأبي بكر وعمر
ففرقوا بما وصفت لك بين يدعو لأبي بكر وعمر وبين يصلي على أبي بكر وعمر وإن كانت الصلاة قد تكون دعاء لما خص به صلى الله عليه وسلم من لفظ الصلاة عليه
وكذلك روي عن عبد الله بن عباس قال لا يصلي على أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الناس يدعى لهم ويترحم عليهم
ومعلوم أن بن عباس قد يعلم أن الصلاة تكون الدعاء والرحمة أيضا
وقد رد بن وضاح رواية يحيى إلى رواية بن القاسم فإنه روى رواية بن القاسم عن سحنون وحدث بها عنه
وكما رواه بن القاسم كذلك رواه القعنبي وبن بكير ومن تابعهم في الموطأ وجعلها يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو لأبي بكر وعمر
وهذا كله مذهب من لا يرى ألا يصلى على غير النبي عليه الصلاة والسلام
حدثنا أحمد بن عبد الله عن أبيه عن عبد الله بن يونس عن بقي بن مخلد قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا هشيم قال أخبرنا عثمان بن
323

حكيم عن عكرمة عن بن عباس قال ما أعلم الصلاة تنبغي من أحد على أحد إلا عن النبي عليه السلام
وذكر عبد الرزاق (1) عن الثوري عن عثمان بن حكيم بن سهل عن عكرمة عن بن عباس قال لا تنبغي الصلاة على أحد إلا على النبيين
قال عبد الرزاق (2) وأخبرني الثوري عن موسى بن عبيدة عن محمد بن ثابت عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلوا على أنبياء الله ورسوله فإن الله بعثهم كما بعثني
وقد أجاز قوم الصلاة على غير النبي صلى الله عليه وسلم واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم اللهم صل على محمد وعلى آل محمد قالوا ومعلوم أن آل محمد غير محمد
واحتجوا أيضا بحديث عبد الله بن أبي أوفى قال كان الناس يأتون بصدقاتهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيدعو لهم فجئت مع أبي بصدقته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اللهم صلى على آل أبي أوفى (3)
ففي هذا الحديث لفظ الصلاة على غير النبي عليه السلام
قال أبو عمر تهذيب هذه الآثار وحملها على غير التضاد والتدافع هو أن يقال أما النبي عليه السلام فجائز أن يصلي على من شاء لأنه قد أمر أن يصلي على كل من يأخذ صدقته وأما غيره فلا ينبغي له إلا أن يخص النبي عليه السلام بالصلاة عليه كما قال بن عباس فجائز أن يحتج في ذلك بعموم قوله تعالى * (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا) * [النور 63]
والذي اختاروه في هذا الباب أن يقال اللهم ارحم فلانا واغفر له ورحم الله فلانا وغفر له ورضي عنه ونحو هذا من الدعاء له والترحم عليه ولا يقال إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم إلا صلى الله عليه إلا أنه جائز أن يدخل معه في ذلك آله على ما جاء في الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم اللهم صل على محمد وعلى آل محمد واللهم صل على محمد وأزواجه وذريته ولا يصلى على غيره بلفظ الصلاة امتثالا لعموم قول الله عز وجل * (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم) * [النور 63] في حياته وموته صلى الله عليه وسلم
324

((23 باب العمل في جامع الصلاة))
369 ذكر فيه مالك عن نافع عن بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الظهر ركعتين وبعدها ركعتين وبعد المغرب ركعتين في بيته وبعد صلاة العشاء ركعتين وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين
هكذا رواية يحيى عن مالك لم يذكر في بيته إلا بعد المغرب فقط وتابعه القعنبي على ذلك
وقال بن بكير في هذا الحديث في بيته في موضعين أحدهما في الركعتين بعد المغرب والأخرى في الركعتين بعد الجمعة في بيته
وقال بن وهب فيه عن مالك في الركعتين بعد المغرب والركعتين بعد العشاء في بيته ولم يذكر الصرافة في الجمعة
وقد تابعه أيضا جماعة من رواة الموطأ
وقد اختلف في لفظ هذا الحديث أصحاب نافع واختلف فيه أيضا عن بن عمر
وقد ذكرنا ذلك كله مبسوطا في التمهيد
وقد اختلفت الآثار وعلماء السلف في صلاة النافلة في المسجد وكرهها قوم لهذا الحديث ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى قوم يصلون بعد المغرب في المسجد فقال هذه صلاة البيوت (1)
ورخص فيها آخرون لحديث بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطيل القراءة في الركعتين بعد المغرب حتى يتفرق أهل المسجد
325

وقد أوضحنا هذا المعنى في التمهيد
والذي عليه العلماء أنه لا بأس بالتطوع في المسجد لمن شاء إلا أنهم مجمعون على أن صلاة النافلة في البيوت أفضل لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة (1)
وقد تقدم هذا الحديث فيما مضى من هذا الكتاب
وأما قوله في هذا الحديث وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين فإن الفقهاء اختلفوا في التطوع بعد الجمعة خاصة
فقال الإمام مالك ينبغي للإمام إذا سلم من الجمعة أن يدخل منزله ولا يركع في المسجد ويركع الركعتين في بيته إن شاء على حسب ما رواه في ذلك
قال مالك وأما من خلف الإمام فأحب إلي أيضا أن ينصرفوا إذا سلموا ولا يركعوا في المسجد فإن ركعوا فذلك واسع
وقال الشافعي ما أكثر المصلي من التطوع بعد الجمعة فهو أحب إلي
وقال أبو حنيفة يصلي بعد الجمعة أربعا
وقال في موضع آخر وستا
وقال الثوري إن صليت أربعا أو ستا فحسن
وقال الحسن بن حي يصلي بعد الجمعة أربعا
وقال أحمد بن حنبل أحب إلي أن يصلي بعد الجمعة ستا فإن صلى أربعا فحسن لا بأس به
وكل هذه الأقاويل مروية عن الصحابة قولا وعملا
وقد ذكرنا ذلك كله عنهم بالأسانيد في التمهيد
ولا خلاف بين متقدمي العلماء ومتأخريهم أنه لا حرج من لم يصل بعد الجمعة ولا من فعل من الصلاة أكثر أو أقل مما اختاره كل واحد منهم
وأما قولهم في ذلك على الاختيار لا على غير ذلك
326

واختار أكثر أهل العلم ركوع الركعتين بعد المغرب في البيت
روى القعنبي عن سليمان بن بلال عن بلال عن ربيعة أنه سمع السائب بن يزيد يقول رأيت الناس في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينصرفون من الصلاة بعد المغرب ولا يصلون حتى يصيروا إلى أهليهم وربما انصرفوا جميعا حتى ما يبقى في المسجد أحد
وروى حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن العباس بن سهل بن سعد أن الناس كانوا على عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه يصلون الركعتين بعد المغرب في بيوتهم
وروى الأعمش عن ثابت بن يزيد قال رأيت زيد بن ثابت صلى الركعتين بعد المغرب في بيته
وكان إبراهيم النخعي إذا صلى المغرب لم يركع إلا في بيته ركعتين
وكان سعد بن إبراهيم لا يصلي الركعتين بعد المغرب إلا في بيته
فهذا عمل الصحابة والتابعين بالمدينة
وروى سفيان عن منصور عن إبراهيم قال صلاة السنة اثنتا عشرة ركعة
وهذا محفوظ من حديث أم حبيبة عن النبي عليه السلام أنه قال من صلى ثنتي عشرة ركعة بعد الفريضة وثابر عليها بني له بيت في الجنة أربعا قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل الفجر (1)
وفي حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله إلا أنه جعل موضع الركعتين بعد العشاء ركعتين قبل العصر
370 مالك عن بن الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله
327

صلى الله عليه وسلم قال أترون قبلتي ها هنا فوالله ما يخفى علي خشوعكم ولا ركوعكم إني لأراكم من وراء ظهري
قال أبو عمر دفعت طائفة من أهل الزيغ هذا الحديث وقالوا كيف تقبلون مثل هذا وأنتم ترون ضده فذكروا حديث أبي بكرة إذ ركع دون الصف فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته قال أيكم الذي ركع دون الصف فقال أبو بكرة أنا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم زادك الله حرصا ولا تعد (1)
وذكروا حديث حميد عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للرجل الذي دخل الصف وقد حفزه النفس فقال حين انتهى إلى الصف الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة قال من المتكلم (2) الحديث
وذكروا مثل هذا من الأحاديث وقالوا ألا ترون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعلم من الراكع دون الصف حتى استعلم ولا ومن المتكلم
قال أبو عمر فالجواب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت فضائله تزيد في كل وقت إلى أن مات صلى الله عليه وسلم
ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم قال كنت عبدا قبل أن أكون نبيا وكنت نبيا قبل أن أكون رسولا
وقال صلى الله عليه وسلم لا يقولن أحدكم إني خير من يونس بن متى
328

وقال له رجل يا خير البرية فقال ذاك إبراهيم (1)
وقال له آخر يا سيد بن السادة أو يا شريف بن الشرفاء فقال ذاك يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم
وذلك قوله كله قبل أن تنزل عليه سورة * (إنا فتحنا لك) * [الفتح 1] فلما نزلت عليه وفيها * (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) * [الفتح 2] ولم يغفر لأحد قبله ما تقدم من ذنبه فلما كان ذلك قال حينئذ أنا سيد ولد آدم ولا فخر (2)
وحينئذ قال والله أعلم إني لأراكم من وراء ظهري
فكانت فضائله صلى الله عليه وسلم تزيد ولا تنقص
وقد تأول قوم أن أرى هنا بمعنى أعلم كما قال عز وجل حاكيا عن شعيب عليه السلام وكان أعمى " إني أراكم بخير " [هود 84]
وأرى بمعنى أعلم معلوم في لسان العرب فأراد بقوله أراكم أعلم خشوعكم وتمام ركوعكم بما يخفى عنكم ويلقي الله في قلبي معرفة أحوالكم
قال أبو عمر هذه دعوى فيها تحديد لمخالفة الظاهر وغير نكير أن يكون ذلك برؤية العين كسائر ما أعطيه من خرق العادة وأعلام النبوة فيكون ذلك في آخر أمره فيكون قولنا على ظاهر ما قاله صلى الله عليه وسلم وإن كان لا سبيل إلى كيفيته وهو علم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم
قال أبو بكر الأثرم قلت لأحمد بن حنبل قول النبي عليه السلام أراكم من وراء ظهري فقال كان يرى من خلفه كما يرى من بين يديه
قلت له إن إنسانا هو في ذلك كغيره وإنما كان يراهم كما ينظر الإمام من عن يمينه وشماله فأنكر ذلك إنكارا شديدا
قال أبو عمر وصحيح قول أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يلتفت في صلاته
وقد روي سفيان بن عيينة عن داود وحميد وبن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى " وتقلبك في السجدين " [الشعراء 219] قال كان النبي عليه السلام يرى من خلفه في الصلاة كما يرى من بين يديه
329

وروى وكيع عن سفيان عن الليث عن مجاهد قال كان يرى من خلفه كما يرى من أمامه
وخالف مجاهد في تأويل هذه الآية عكرمة وقتادة
وقد ذكرنا ذلك في التمهيد والحمد لله
وذكر سند قال حدثنا حجاج عن بن أبي ذئب عن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لأنظر من ورائي كما أنظر إلى من أمامي فسووا صفوفكم وأحسنوا ركوعكم وسجودكم (1)
371 مالك عن نافع عن بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء راكبا وماشيا
قد ذكرنا في التمهيد اختلاف رواة الموطأ في إسناد هذا الحديث واختلاف أصحاب نافع في ألفاظه أيضا
ورواية أيوب فيه عن نافع عن بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتي مسجد قباء
ولم يذكر مالك ولا عبيد الله مسجدا
وجرد حماد بن زيد هذا الحديث فرواه عن أيوب عن نافع قال كان عبد الله بن عمر يأتي مسجد قباء في كل سبت إذا صلى الغداة وكان يكره أن يخرج منه حتى يصلي فيه
ورواية أيوب هذه تفسير إتيان رسول الله صلى الله عليه وسلم قباء أنه كان للصلاة في مسجدها
وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أن قصد مسجد قباء والصلاة فيه تعدل عمرة بإسناد فيه لين من حديث أهل المدينة قد ذكرناه في التمهيد
وذكر بن أبي شيبة عن أبي خالد الأحمر عن سعد بن إسحاق عن سليط بن سعد قال سمعت بن عمر يقول من خرج يريد مسجد قباء لا يريد غيره يصلي كانت كعمرة
وهذا عن بن عمر تفسير حديثه في هذا الباب والله الموفق للصواب
وليس في إتيان رسول الله صلى الله عليه وسلم قباء راكبا ما يعارض قوله عليه السلام لا تعمل
330

المطي إلا إلى ثلاثة مساجد (1) لأن قوله ذلك معناه عند العلماء فيمن نذر على نفسه الصلاة في أحد الثلاثة المساجد أنه يلزمه إتيانها دون غيرها
وأما إتيان قباء وغيرها من مواضع الرباط تطوعا دون نذر فلا بأس بإتيانها بدليل حديث قباء هذا
وقد اختلف في المسجد الذي أسس على التقوى فقيل مسجد قباء وقيل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم
وثبت عن النبي عليه السلام من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك فقال هو مسجدي هذا (2)
وقد ذكرنا الأسانيد بذلك في التمهيد
وكذلك اختلفوا في الطائفة التي بنوا مسجد الضرار على ما قد أوردناه في التمهيد
وقد قيل إن إتيان رسول الله صلى الله عليه وسلم قباء كان زيارة منه للأنصار ونظرا إلى حيطانهم وتفرجا فيها ونحو هذا والأول أعلى عندي
ذكر بن أبي شيبة عن أبي خالد الأحمر عن هاشم بن هاشم عن عائشة بنت سعد قالت سمعت أبي يقول لأن أصلي في مسجد قباء أحب إلي من أن أصلي في بيت المقدس
وأما قباء فموضع سكنى بني عمرو بن عوف أو قربهم وهي لفظه ممدودة وقد تقصر
قال عبد الله بن الزبعري
(ليت أشياخي ببدر شهدوا
* جزع الخزرج من وقع الأسل
331

(حين ألقت بقباء رحلها
* واستحر القتل في عبد الأشل) وقال عمرو بن الوليد بن عقبة أبو قطيفة
(ألا ليت شعري هل تغير بعدنا
* قباء وهل زال العقيق وحاضره (1))
372 وأما حديثه بعد هذا عن يحيى بن سعيد عن النعمان بن مرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما ترون في السارق والشارب والزاني وذلك قبل أن ينزل فيهم قالوا الله ورسوله أعلم قال هن فواحش وفيهن عقوبة وأسوأ السرقة الذي يسرق صلاته قالوا وكيف يسرق صلاته يا رسول الله قال لا يتم ركوعها ولا سجودها
هكذا الرواية في الموطأ أسوأ السرقة بكسر الراء والمعنى أسوأ السرقة سرقة من يسرق صلاته
وقد جاء في القرآن " ولكن البر من ءامن بالله " [البقرة 177] والمعنى ولكن البربر من آمن بالله
ومن روى أسوأ السرقة الذي يسرق صلاته بفتح الراء يريد أسوأ السرقة فعلا الذي يسرق صلاته
والسرقة جمع سارق مثل الفاسق والفسقة والكافر والكفرة
وهذا الحديث متصل ويستند من وجوه صحاح من حديث أبي سعيد الخدري وحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله أسوأ السرقة الذي يسرق صلاته الحديث سواء
وفي حديث عمران بن حصين قال ما تعدون الكبائر فيكم قالوا الشرك والزنا والسرقة وشرب الخمر قال هن كبائر وفيهن عقوبات وذكر الحديث
وفي حديث مالك من الفقه طرح العالم على المتعلم المسائل ليختبره بها
وفيه أن شرب الخمر والزنا فواحش والله عز وجل قد حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن
332

ومعلوم من قوله ما ترون في الشارب أنه لم يرد شارب الماء وكذلك كل ما أباح الله شربه فلم يبق إلا أنه أراد شارب ما حرم الله عليه ولا يعلم شرب شرابا مجتمعا على تحريمه إلا الخمر وكل مسكر عندنا خمر
وفيه دليل على أن الشارب يعاقب وعقوبته كانت مردودة إلى الاجتهاد فلذلك جمع عمر رضي الله عنه الصحابة فشاورهم في حد الخمر فاتفقوا على ثمانين فصارت سنة وعليها العمل عند جمهور فقهاء المدينة
وسيأتي بيان ذلك في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله
وأما السرقة والزنا فقد أحكم الله الحد فيهما في كتابه على لسان نبيه مما لا مدخل للرأي فيه
وفيه دليل على أن ترك الصلاة وترك إقامتها على حدودها من أكبر الذنوب
ألا ترى أنه ضرب المثل لذلك بالزاني والسارق وشارب الخمر
ومعلوم أن السرقة والزنا وشرب الخمر من الكبائر
ثم قال شر السرقة
وفي رواية مالك وأسوأ السرقة الذي يسرق صلاته يريد وشر من ذلك كله من يسرق صلاته فلا يتم ركوعها ولا سجودها
وقد مضى القول في تارك الصلاة فيما تقدم من هذا الكتاب
وأما من لم يتم ركوعها ولا سجودها فلا صلاة له وعليه إعادتها وأقل ما يجزئه من ذلك أن يضع يديه على ركبتيه ويعتدل راكعا أقل ما يقع عليه اسم ركوع ويتمكن فيه
وكذلك لا يجزئه في السجود أقل من وضع وجهه في الأرض ويديه متمكنا أقل ما يقع عليه اسم ساجد غير ناقر
قرأت على أبي محمد قاسم بن محمد أن خالد بن سعد حدثهم قال حدثنا محمد بن فطيس قال حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال حدثنا بشر بن عمر قال حدثنا شعبة قال أخبرنا سليمان الأعمش قال سمعت عمارة بن عمير عن أبي معمر عن أبي مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا صلاة لمن لا يقيم صلبه في الركوع والسجود
333

وحدثنا عبد الرحمن بن يحيى قال حدثنا أحمد بن سعيد قال حدثنا موسى بن هارون قال حدثنا بن أخي جويرية قال حدثنا عبد الملك بن بحر قال حدثنا مهدي بن ميمون عن واصل الأحدب عن أبي وائل عن حذيفة أنه رأى رجلا يصلي لم يقم ركوعه ولا سجوده فلما قضى صلاته دعاه فقال له مذ كم صليت هذه الصلاة قال صليتها منذ كذا وكذا فقال حذيفة ما صليت لله صلاة (1)
وقد أوضحنا ما للفقهاء من تسبيح الركوع والسجود والطمأنينة في ذلك في غير موضع والحمد لله
373 وأما حديثه عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم [ولا تتخذوها قبورا]
وهذا الحديث روي مسندا عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه ذكرت بعضها في التمهيد
وللعلماء في معناه قولان أحدهما أنه أراد النافلة كأنه قال اجعلوا صلاتكم في بيوتكم يعني النافلة وتكون من زائدة كما قالوا ما جاءني من أحد يريدون ما جاءني أحد
وقال آخرون أراد اجعلوا صلاتكم يريد المكتوبات في بيوتكم ليقتدي بكم أهلوكم ومن لا يخرج إلى المسجد منكم ومن يلزمكم تعليمه لقول الله عز وجل * (قوا أنفسكم وأهليكم نارا) * [التحريم 6] يقول أدبوهم وعلموهم
وقالوا معلوم أن الصلاة إذا أطلقت فإنما يراد بها المكتوبة لا غيرها حتى يقال الصلاة النافلة وشبهها
قالوا وحقيقة من التبعيض فلا تخرج اللفظة عن حقيقة معناها إلا بدليل لا يحتمل التأويل
334

قالوا ومن تخلف عن الجماعة لجماعة أكثر منها أو أقل فلم يتخلف عنها وقد قال صلى الله عليه وسلم صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة (1) ولم يخص الجماعة من جماعة ومن صلى في بيته في جماعة فقد أصاب سنة الجماعة وفضلها
ذكر أبو بكر قال حدثنا سهل بن هارون قال أخبرنا هشام الدستوائي عن حماد عن إبراهيم قال إذا صلى الرجل مع الرجل فهما جماعة لهما التضعيف خمس وعشرين درجة
قال وحدثنا وكيع عن سفيان عن هشام عن الحسن قال الثلاثة جماعة
وروينا أن أحمد بن حنبل وعلي بن المديني وإسحاق وجماعة لم يحضرني حفظهم حين كتبت هذا اجتمعوا في دار أحمد فسمعوا النداء فقال أحدهم اخرج بنا إلى المسجد
فقال أحمد خروجنا إنما هو للجماعة ولولاها لم نخرج إلى المسجد ونحن في جماعة فأقاموا الصلاة وصلوا في البيت
أخبرنا أحمد بن عمر قال حدثنا عبد بن أحمد قال حدثنا علي بن عمر قال حدثنا أبو بكر النيسابوري قال حدثنا عجلان بن المغيرة قال حدثنا عمر بن الربيع بن طارق قال حدثنا عبد الله بن فروخ عن بن جريج عن عطاء عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرموا بيوتكم ببعض صلاتكم (2)
374 وأما حديثه عن نافع بن عن عمر أنه كان يقول إذا لم يستطع المريض السجود أومأ برأسه إيماء ولم يرفع إلى جبهته شيئا
فعلى قول بن عمر هذا أكثر أهل العلم من السلف والخلف
وقد روي عن أم سلمة أنها كانت تسجد على مرفقة من رمد كان بها
وعن بن عباس أنه أجاز ذلك
وعن عروة بن الزبير أنه فعله
وليس العمل إلا ما روي فيه عن بن عمر
وقد روي ذلك عن بن عمر من وجوه
رواه معمر وغيره عن أيوب عن نافع عن بن عمر
335

ومعمر عن الزهري عن سالم عن بن عمر قال إذا كان المريض لا يستطيع ركوعا ولا سجودا أومأ برأسه في الركوع والسجود وهو يكبر
قال عبد الرزاق وأخبرنا إسماعيل بن عبد الله عن داود بن أبي هند عن أبي حرب بن أبي الأسود الديلي قال أصاب والدي الفالج فأرسلني إلى بن عمر يرفع إليه شيئا إذا صلى فقال بن عمر أيضا بين عينيك أومئ إيماء
قال وحدثنا بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء قال دخل بن عمر على صفوان بن الطويل يعوده فوجده يسجد على وسادة فنهاه وقال أومئ واجعل السجود أخفض من الركوع
قال وأخبرنا الثوري عن أبي إسحاق عن زيد بن معاوية عن علقمة والأسود أن بن مسعود دخل على عتبة أخيه وهو يصلي على مسواك يرفعه إلى وجهه فأخذه فرمى به ثم قال له أومئ إيماء وليكن ركوعك أرفع من سجودك
فعلى هذا العمل عند مالك وأكثر الفقهاء وبالله التوفيق
375 وأما حديثه عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن عبد الله بن عمر كان إذا جاء المسجد وقد صلى الناس بدأ بالصلاة المكتوبة ولم يصل قبلها
فقد ذهب إليه جماعة من أهل العلم قديما وحديثا
ورخص آخرون في الركوع قبل المكتوبة إذا كان وقت تجوز فيه الصلاة النافلة وكان فيه سعة ركعوا ركعتين تحية المسجد ثم أقاموا الصلاة وصلوا
وكل ذلك مباح حسن إذا كان وقت تلك الصلاة واسعا
قال مالك من أتى مسجدا قد صلي فيه فلا بأس أن يتطوع قبل المكتوبة إذا كان في سعة من الوقت
وهو قول أبي حنيفة وأصحابه
وكذلك قال الشافعي وداود بن علي
وقال الثوري أبدأ بالمكتوبة ثم تطوع بما شئت
وقال الحسن بن جني يبدأ بالفريضة ولا يتطوع حتى يفرغ من الفريضة
336

قال فإن كانت الظهر فرغ منها ثم من الركعتين بعدها ثم يصلي الأربع التي قبلها
وقال الليث كل واجب من صلاة فريضة أو صلاة نذر أو صيام بدأ بالواجب قبل النفل
وقد روي عنه خلاف هذا
قال بن وهب سمعت الليث بن سعد يقول في الذي يدرك الإمام في قيام رمضان ولم يصل العشاء أنه يدخل معهم ويصلي بصلاتهم فإذا فرغ صلى العشاء
قال وإن علم أنهم في القيام قبل أن يدخل المسجد فوجد مكانا طاهرا فليصل العشاء ثم ليدخل معهم في القيام
376 وأما حديثه عن نافع أن عبد الله بن عمر مر على رجل وهو يصلي فسلم عليه فرد الرجل كلاما فرجع إليه عبد الله بن عمر فقال له إذا سلم على أحدكم وهو يصلي فلا يتكلم وليشر بيده
وأجمع العلماء على أنه ليس بواجب ولا أن سنة يسلم على المصلي
واختلفوا هل يسلم عليه في المسجد أو غير أم لا فذهب منهم ذاهبون إلى أنه لا يجوز أن يسلم عليه لأنه في شغل عن رد السلام وإنما السلام على من يمكنه رده
واحتجوا بحديث بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سلم عليه والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي فلم يرد عليه فلما سلم قال إن في الصلاة شغلا (1)
وقال آخرون جائز ان يسلم على المصلي ويرد إشارة لا كلاما لحديث بن عمر عن صهيب أنه حدثه قال كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد بني عمرو بن عوف
فكان الأنصار يدخلون وهو يصلي فيسلمون فيرد رسول الله صلى الله عليه وسلم إشارة بيده (2) فكان بن عمر يفتي بهذا
337

رواه مالك وأيوب وبن جريج وعبيد الله عن نافع عن بن عمر عن صهيب بمعنى واحد كما ذكره مالك
ورواه الزهري عن سالم عن بن عمر مثله
وقد تأول بعض أهل العلم في حديث صهيب هذا أن إشارته صلى الله عليه وسلم كانت إليهم ألا تفعلوا وهذا وإن كان محتملا ففيه بعد والأول أظهر
وقد روى عبد الرزاق وغيره عن بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء قال رأيت موسى بن عبد الله بن جميل الجمحي سلم علي بن عباس وبن عباس يصلي في الكعبة فأخذ بن عباس بيده
وهذا يحتمل التأويل أيضا
وجاء عن بن مسعود في هذا الباب مثل مذهب بن عمر أنه كان إذا سلم عليه وهو يصلي أشار بيده
وأما جابر بن عبد الله فذكر عبد الرزاق عن الثوري عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال لو مررت بقوم يصلون ما سلمت عليهم
وعن بن جريج عن عطاء قال أنا أكره أن أسلم عليهم
وعن الثوري عن منصور عن إبراهيم قال إذا سلم عليه في الصلاة فلا ترد فإذا انصرفت فإن كان قريبا فرد وإن كان بعيدا قد ذهب فأتبعه السلام
ولم يختلف الفقهاء أن من رد السلام وهو يصلي كلاما مفهوما مسموعا أنه قد أفسد صلاته
وهذا قول مالك وأبي حنيفة والشافعي وأصحابهم وأحمد وإسحاق وجمهور أهل العلم
وقد روي عن طائفة من التابعين منهم الحسن وقتادة أنهم أجازوا أن يرد السلام كلاما وهو يصلي
وقال من ذهب مذهبهم من المتأخرين السالكين سبيل الشذوذ إن الكلام المنهي عنه في الصلاة هو ما لا يحتاج إليه في الصلاة وأما رد السلام فهو فرض على من سلم عليه في الصلاة وغيرها فمن فعل ما يجب عليه فعله لم تفسد صلاته
وقد أجاز بن القاسم وأكثر أصحابنا الكلام في شأن إصلاح الصلاة
قال أبو عمر الحجة في هذا الباب حديث زيد بن أرقم كنا نتكلم في الصلاة
338

حتى نزلت " وقوموا لله قنتين " [البقرة 238] فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام (1)
وحديث بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى يحدث من أمره ما يشاء وإن مما أحدث ألا تتكلموا في الصلاة (2)
فلا يجوز الكلام في الصلاة لأنه أمر كان ونسخ والمنسوخ لا يجوز العمل به
وأما حديث هذا الباب فظاهره أن بن عمر لم يأمر الرجل بإعادة وقال له إذا سلم على أحدكم وهو يصلي فلا يتكلم وليشر بيده
ويحتمل أن يكون مذهب بن عمر في هذا مذهب الحسن ومن قال بقوله
ويحتمل أن يكون أمره بالإعادة فلم ينقل ذلك لعلم المخاطب بوجوبه فكأنه قد قال له فلا تتكلم فمن تكلم فقد أفسد على نفسه صلاته وقد أعلمتك بما عليه مذاهب أهل الفتوى من أئمة الأمصار وهو اللباب من العلم والاختيار وبالله التوفيق
377 وأما حديث مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول من نسي صلاة فلم يذكرها إلا وراء امام فإذا سلم الإمام فليصل الصلاة التي نسي ثم يصل بعدها الأخرى
فقد اختلف أهل العلم قديما في هذه المسألة
وحديثا فجملة قول مالك أنه من ذكر صلاة وهو في صلاة أو في آخر وقت صلاة فإنه يبدأ بالفائتة قبل التي هو في آخر وقت وقتها
وإن فات الوقت فإن كان في صلاة وراء إمام تمادى معه ولم يعتد بصلاته تلك معه وصلى الفائتة ثم عاد إليها وصلاها
ومن نسي صلاة فذكرها في آخر صلاة فإن كانت المذكورة صلاة واحدة أو اثنتين أو أربعا وقد قيل أو خمسة بدأ بها
339

وإن كان فات وقت الذي حضر وقتها وإن كانت ستة صلوات أو أكثر بدأ بالتي حضر وقتها ثم صلى الفوائت
وعلى هذا مذهب أبي حنيفة والثوري والليث إلا أن أبا حنيفة وأصحابه قالوا الترتيب عندنا واجب في اليوم والليلة إذا كان في الوقت سعة للفائتة ولصلاة الوقت فإن خشي فوات صلاة الوقت بدأ بها فإن زاد على صلاة يوم وليلة لم يجب الترتيب عندهم والنسيان عندهم يسقط الترتيب أيضا
وكذلك عند مالك وأصحابه لا يجب الترتيب في الفوائت مع صلاة الوقت إلا بالذكر وجوب استحسان بدليل إجماعهم أن من ذكر صلاة فائتة في وقت العصر أو صلوات يسيرة أنه إن قدم العصر على الفائتة أنه لا إعادة عليه للعصر التي صلاها وهو ذاكر فيها للفائتة إلا أن يبقى من وقتها ما يعيدها فيه قبل غروب الشمس
وهذا يدلك على أن قولهم من ذكر صلاة في صلاة أنها تنهدم أو تفسد عليه أنه كلام ليس على ظاهره ولو كان على ظاهره لوجبت الإعادة عليه للعصر بعد غروب الشمس لأن ما ينفسد وينهدم يعاد أبدا وما يعاد في الوقت فإنما إعادته استحباب فقف على هذا الأصل
وقال أبو حنيفة أيضا وأصحابه من فاتته صلاة فائتة وهو في صلاة أخرى من الصلوات الخمس فإن كان فيها أكثر من خمس صلوات مضى فيما هو فيه ثم صلى التي عليه وإن كان أقل من ذلك قطع ما هو فيه وصلى التي ذكر إلا أن يكون في آخر وقت التي دخل فيها فخاف فوتها أن يتشاغل بهذه فإن كان ذلك أتمها ثم قضى التي ذكر
وقال أبو حنيفة ومحمد إن ذكر الوتر في صلاة الصبح فسدت عليه وإن ذكر فيها ركعتي الفجر لم تفسد عليه
قال أبو عمر لأنهما يوجبان الوتر فجرت عندهما مجرى الخمس
وقال أبو يوسف لا تفسد عليه بذلك الوتر ولا بركعتي الفجر وبه يأخذ الطحاوي
وقد روي عن الثوري وجوب الترتيب ولم يفرق بين القليل والكثير
واختلف في ذلك عن الأوزاعي
وقال الشافعي الاختيار أن يبدأ بالفائتة إن لم يخف فوات هذه فإن لم يفعل وبدأ بصلاة الوقت أجزأه
340

وذكر الأثرم أن الترتيب عند أحمد بن حنبل واجب في ثلاث سنين وأكثر
وقال لا ينبغي لأحد أن يصلي صلاة وهو ذاكر لما قبلها لأنها تفسد عليه
قال أبو عمر ثم نقض هذا الأصل أحمد فقال أنا آخذ بقول سعيد بن المسيب في الذي يذكر صلاة في وقت صلاة كرجل ذكر العشاء في آخر وقت صلاة الفجر قال يصلي الفجر ولا يضيع صلاتين أو قال يضيع مرتين
وقال إذا خاف طلوع الشمس فلا يضيع هذه لقول سعيد لا يضيع مرتين
وهذا يشبه مذهب أبي حنيفة في مراعاتها الابتداء بالفائتة أبدا ما لم يخف فوات صلاة الوقت
وقال الأثرم قيل لأحمد إن بعض الناس يقول إذا دخلت في صلاة وتحرمت بها ثم ذكرت صلاة أنسيتها لم تقطع التي دخلت فيها ولكنك إذا فرغت منها قضيت التي نسيت وليس عليك إعادة هذه فأنكره وقال ما أعلم أحدا قاله إنما أعرف من قال أنا أقطع وأنا خلف الإمام فأصلي التي ذكرت لقول النبي صلى الله عليه وسلم فليصلها إذا ذكرها
قال وهذا شنيع أن يقطع وهو وراء إمام
قيل له فما تقول أنت قال يتمادى مع الإمام فإن كان وحده قطع
وقال الشافعي وداود يتمادى مع الإمام ثم يصلي التي ذكر ولا يعيد هذه
واحتج داود وأصحابه بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ركعتي الفجر وهو ذاكر للصبح
وهذا لا حجة فيه لأن ركعتي الفجر قبل صلاة الصبح فلم يذكر فيهما ما قبلهما وأيضا فلا ترتيب بين ركعتي الفجر والصبح إنما الترتيب في الخمس صلوات صلاة اليوم والليلة
واحتج أصحاب الشافعي بأن الترتيب إنما يلزم في صلاة اليوم والليلة في ذلك اليوم وتلك الليلة فإذا خرج الوقت سقط الترتيب استدلالا بالإجماع على أن شهر رمضان يجب الترتيب فيه ما دام قائما فإذا انقضى سقط الترتيب عن كل من يصومه عن مرض أو سفر وجاز له أن يأتي به على غير نسق
قالوا فكذلك ترتيب الصلوات الخمس
حدثنا عبد الله قال حدثنا عبد الحميد قال حدثنا الخضر قال حدثنا أبو بكر الأثرم قال حدثنا الحكم بن موسى قال حدثنا هقل قال حدثنا
341

الأوزاعي قال سمعت الزهري يقول في الذي ينسى الظهر فلا يذكرها حتى يدخل في العصر مع الإمام قال يمضي في صلاة الإمام فإذا انصرف استقبل الظهر ثم صلى العصر
فهذا بن شهاب الزهري يفتي بقول بن عمر وهو الذي يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن الله تعالى يقول " وأقم الصلاة لذكرى (1) * [طه 14]
وبهذا الحديث احتج من قدم الفائتة على صلاة الوقت
قالوا وإن خرج الوقت قالوا قد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الفائتة وقتا لها عند ذكرها فكأنهما صلاتان اجتمعتا في وقت واحد فيبدأ بالأولى منهما ومن أبي من ذلك فعلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إعلاما به بأن الفائتة لا يسقطها خروج الوقت وإنما تجب بالذكر أبدا وليست كالجمار والضحايا والأعمال التي تفوت بخروج وقتها فلا تقضى
وأما ترتيبها وتقديمها على صلاة الوقت فلا
وقد أوضحنا معنى هذا الباب بآثار عن علماء السلف في التمهيد والحمد لله
378 وأما حديثه في هذا الباب أيضا عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان أنه قال كنت أصلي وعبد الله بن عمر مسند ظهره إلى جدار القبلة فلما قضيت الصلاة انصرفت إليه من قبل شقي الأيسر فقال عبد الله بن عمر ما منعك أن تنصرف عن يمينك قال قلت رأيتك فانصرفت إليك قال عبد الله فإنك قد أصبت إن قائلا يقول انصرف على يمينك فإذا كنت تصلي فانصرف حيث شئت إن شئت على يمينك وإن شئت على يسارك
هكذا الحديث عند يحيى عن مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان وتابعه طائفة من رواة الموطأ
ورواه أبو مصعب وغيره في الموطأ عن مالك عن محمد بن يحيى بن حبان
لم يذكروا يحيى بن سعيد وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا يحيى بن عبيد
342

عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان فذكر مثله سواء إلى آخره وفيه الاستناد إلى جدار القبلة في المسجد إلا أن ذلك لا ينبغي أن يفعله من يستقبل المصلي ولا ينبغي للمصلي أن يبتدئ صلاته موجها بها غيره
فهذا مكروه
وروى سفيان عن سعيد عن القاسم بن عبد الرحمن أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبصر رجلا يصلي وآخر مستقبله فضربهما جميعا
وأما انصراف المصلي إذا سلم عن يمينه أو يساره فإن السنة [أن] ينصرف كيف شاء
روى شعبة عن سماك بن حرب قال سمعت قبيصة بن ذؤيب يحدث عن أبيه أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآه ينصرف عن شقيه (1)
ووكيع عن الأعمش عن عمارة عن الأسود قال قال عبد الله لا يجعلن أحدكم للشيطان من نفسه جزءا ألا يرى أن حقا عليه أن لا ينصرف إلا عن يمينه فإن أكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن شماله (2)
وأكثر أهل العلم على أنه الأفضل الانصراف من الصلاة على اليمين وأنه كالانصراف على الشمال سواء
وكذلك روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال انصرف نحو حاجتك إن شئت عن يمينك وإن شئت عن شمالك
وقال أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود لرجل رآه قد انصرف عن شماله أصبت السنة
وكان الحسن وطائفة من أهل العلم يستحبون الانصراف من ا لصلاة على اليمين لحديث وكيع وغيره عن سفيان عن السدي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينصرف عن يمينه لما تقدم ذكره
وأما قوله كان صلى الله عليه وسلم يحب التيامن في أمره كله في طهوره وانتعاله (3) فقد بان بما
343

ذكرنا أن ذلك في غير انصرافه من الصلاة لأنه كان ينصرف منها عن يمينه وعن شماله
وقال بن مسعود أكثر ما كان ينصرف عن شماله
فلما خص في طهوره وانتعاله دل على خصوص ذلك والله أعلم
379 وأما حديثه في هذا الباب عن هشام بن عروة عن أبيه عن رجل من المهاجرين لم ير به بأسا أنه سأل عبد الله بن عمرو بن العاص أأصلي في عطن الإبل (1) فقال عبد الله لا ولكن صل في مراح الغنم (2)
هكذا هو في الموطأ عند جميع الرواة
ورواه وكيع وعبده بن سليمان عن هشام قال حدثني رجل من المهاجرين
وبعضهم يقول عن هشام عن رجل من المهاجرين لا يذكرون فيه عن أبيه
وزعم مسلم أن مالكا وهم فيه وأن وكيعا ومن تابعه أصابوا وهو عندي ظن وتوهم لا دليل عليه
ومعلوم أن مالكا أحفظ ممن خالفه في ذلك وأعلم بهشام ولو صح ما نقله غير مالك عن هشام ما كان عندي إلا وهما من هشام والله أعلم
ومالك في نقله حجة
ومثل ذلك من الفرق بين الغنم والإبل لا يدرك بالرأي
وقد روي هذا الحديث يونس بن بكير عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم
ورواه عبدة بن سليمان عن هشام بن عروة قال حدثني رجل سأل عبد الله بن عمر عن الصلاة في أعطان الإبل قال فنهاه وقال صل في مراح الغنم
344

والصواب في إسناده عن هشام والله أعلم ما قاله مالك عنه وأما يونس بن بكير فليس بالحافظ
وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة من حديث أبي هريرة والبراء بن عازب وجابر بن سمرة وعبد الله بن معقل وكلها بأسانيد حسان وأكثرها تواتر وأحسنها حديث البراء وحديث عبد الله بن معقل رواه عن الحسن نحو خمسة عشر رجلا
وأما عطن الإبل فهو موضع بروكها عند سقيها لأنها في سقيها لها شربتان ترد الماء فيها مرتين فموضع بروكها بين الشربتين هو عطنها لا موضع بيتها وموضع بيتها هو مراحها كما لمراح الغنم موضع مقيلها وموضع مبيتها
وفي هذا الحديث دليل على أن ما يخرج من مخرج الحيوان المأكول لحمه ليس بنجس لأن مراح الغنم لا تسلم من بعرها وحكم الإبل حكمها
وقد تنازع العلماء في المعنى الذي ورد له هذا الحديث من الفرق بين عطن الإبل ومراح الغنم
فقال منهم قائلون كان هذا من أجل أنه كان يستتر بها عند الخلاء وهذا خوف النجاسة من غيرها لا منها
وقال آخرون النهي عن ذلك من أجل أنها لا تستقر في عطنها ولها إلى الماء نزوع فربما قطعت صلاة المصلي أو هجمت عليه فآذنه وقطعت صلاته
واعتلوا بقوله صلى الله عليه وسلم لا تصلوا في أعطان الإبل فإنها جن خلقت من جن (1)
وفي بعض الروايات في حديث عبد الله بن مغفل فإنها خلقت من الشياطين أو من عنان الشياطين
وهذه ألفاظ موجودة محفوظة في حديث عبد الله بن مغفل في كتاب عبد الرزاق وأبي بكر بن أبي شيبة
وذكر عبد الرزاق عن بن جريج قال قلت لعطاء أتكره أن تصلي في أعطان
345

الإبل قال نعم من أجل أنه يبول الرجل إلى البعير البارك ولولا ذلك لكان عطنها مثل مراحها
قلت أتصلي في مراح الغنم قال نعم قلت فإذا لم أخش من عطنها إذا قال فهو بمنزلة مراحها
قال أبو عمر لا أعلم في شيء من الآثار المعروفة ولا عن السلف أنهم كرهوا الصلاة في مراح الغنم وذلك دليل على طهارة أبعارها وأبوالها ومعلوم أن الإبل مثلها في إباحة أكل لحومها
واختلف العلماء فيمن صلى في أعطان الإبل والموضع طاهر سالم من النجاسة
وقال أهل الظاهر صلاته فاسدة لأنها طابقت النهي فهي فاسدة لقوله صلى الله عليه وسلم كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد (1) أي مردود
وقال أكثر العلماء بئس ما صنع إذا علم بالنهي وصلاته ماضية إذا سلم من ما يفسدها من نجاسة أو غيرها لأن النهي عندهم معناه عنهم
واستحب بعض أصحابنا الإعادة في الوقت
ولا أعلم أحدا أجاز الصلاة في أعطان الإبل إلا ما ذكر وكيع عن أبي بكر عن جابر عن عامر بن جندب بن عامر السلمي أنه كان يصلي في أعطان الإبل ومرابض الغنم وهذا لم يسمع بالنهي والله أعلم
وذكر عبد الرزاق عن بن جريج قال قلت لعطاء أأصلي في مراح الشاء قال نعم قلت أو تكرهه من أجل بول الكلب بين أظهرها قال إن خشيت بول الكلب بين أظهرها فلا تصل فيها
وعن بن جريج قال قلت لعطاء أأصلي في مراح الغنم قال نعم فقال له إنسان إن صليت في مراح الغنم أو البقر أسجد على البقر أو أفحص لوجهي قال بل افحص لوجهك
380 وأما حديث مالك في هذا الباب عن بن شهاب عن سعيد بن
346

المسيب أنه قال ما صلاة يجلس في كل ركعة منها قال سعيد يعني المغرب إذا فاتتك منها ركعة قال وكذلك سنة الصلاة كلها
في خبر سعيد هذا طرح العالم على جلسائه ومن يتعلم منه ليعلم ما عندهم ويعلمهم فيجيب عن ما وقفوا عنه من ذلك
وهذا باب من أبواب أدب العالم والمتعلم قد أوضحناه بالآثار في كتاب جامع بيان العلم وفضله
وأما قول سعيد هي المغرب إذا فاتتك منها ركعة فهو كما قال عند جماعة العلماء لا أعلم فيه خلافا وكذلك سنة المغرب أيضا إذا أدركت منها ركعة هي جلوس كلها كما قال إذا فاتتك منها ركعة سواء
إلا أنه قد جاء عن جندب بن عبد الله بن سفيان وكانت له صحبة فيمن أدرك ركعة من المغرب قول لم يتابع عليه إلا أنه قد جوز بن مسعود فعله وإن كان الاختيار عند غيره
روى هشام الدستوائي عن حماد عن إبراهيم أن مسروقا وجندبا أدركا ركعة من المغرب فأما مسروق فقعد فيهن كلهن وأما جندب فلم يقعد بعد الإمام إلا في آخرهن فذكرا ذلك لعبد الله بن مسعود فقال كلاكما محسن ولو كنت صانعا لصنعت كما صنع مسروق
قال أبو عمر معلوم أن المصلي إذا فاتته بعض الصلاة مع إمامه ثم خرج عن صلاة إمامه بسلام الإمام فإنما يصلي لنفسه ولا خلاف أن من صلى لنفسه يقعد في ثانيته ومن أدرك ركعة من المغرب مع الإمام وقام بعد سلامه فأتى بركعة فهي له ثانية ومن حق الثانية القعود فيها ثم إذا أتى الثالثة في المغرب جلس لأنها آخر صلاته وعلى هذا جماعة فقهاء الأمصار
وأما قول سعيد وكذلك سنة الصلاة كلها فإنما أراد سنة الصلاة كلها إذا فاتت المأموم منها ركعة أن يقعد إذا قضاها لأنها آخر صلاته
وكذلك لو أدرك منها ركعة قعد في الأولى من قضائه لأنها ثانية له
وقد يحتمل أن يكون أراد بقوله وكذلك سنة الصلاة كلها أي سنة صلاة المغرب وحدها الجلوس في كل ركعة منها لمن فاتته منها ركعة أو أدرك منها ركعة والله أعلم
347

((24 باب جامع الصلاة))
381 ذكر فيه مالك عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن عمرو بن سليم الزرقي عن أبي قتادة الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها
قد ذكرنا أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في التمهيد وفي كتاب الصحابة أيضا
وأما معنى هذا الحديث فمعناه أن حمل الطفلة أو الطفل على عنق المصلي ووضعها ورفعها لا يفسد ذلك كله صلاة المصلي ولا تضر ملامسته لها وضوءه وفي ذلك دليل على أن قول الله تعالى " أو لمستم النساء " [النساء 43] لم يرد به الأطفال ولا من يلمس بغير شهوة كالأم وسائر ذوات المحارم واللواتي لا ينبغي في لمسهن لذة
وقد مضت هذه المسألة في الوضوء مجودة والحمد لله
وقد روي عن مالك في ذلك روايتان إحداهما أن ذلك كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة النافلة وأن مثل هذا الفعل غير جائز عنده في الفريضة رواها أشهب عن مالك
وقد روى أشهب أيضا وبن نافع عن مالك أنه سئل عن تأويل هذا الحديث فقال ذلك عندي على حال الضرورة إذا كان الرجل لا يجد من يكفيه وأما لحب الولد فلا أرى ذلك
ففي هذه الرواية لم يفرق بين فريضة ونافلة وأجازه للضرورة
وحسبك بتأويل مالك في ذلك بهذا الدال على صحة قوله هذا أني لا أعلم خلافا أن مثل هذا العمل في الصلاة المكتوبة مكروه
وفي هذا ما يوضح لك أن هذا الحديث إما أن يكون في النافلة أو على ضرورة كما قال مالك وإما أن يكون منسوخا بتحريم العمل والاشتغال في الصلاة بغيرها
348

وقد قال بعض أهل العلم إن فاعلا لو فعل مثل ذلك لم أر عليه إعادة من أجل هذا الحديث وإن كنت لا أحب لأحد فعله
قال أبو عمر ولو كان هذا الحديث عنده سنة وكان عنده لا مدفع فيه ما قال وإن كنت لا أحب لأحد فعله بل كان ينبغي فعله تأسيا برسول الله ففيه الأسوة الحسنة
وقد ذكر أبو بكر الأثرم قال سمعت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل يسأل أيأخذ الرجل ولده وهو يصلي قال نعم واحتج بحديث أبي قتادة هذا وغيره في قصة أمامة هذه
وهذا يحتمل أن يكون الرجل يأخذ ولده مرة أو يدفعه أو يعمل من ذلك عملا لا يمنعه عن إكمال أحوال صلاته
وقد أجمع العلماء على أن العمل الخفيف في الصلاة جائز وأن العمل الكثير الذي يبين به ترك الصلاة له لا يجوز وكذلك فهو مفسد للصلاة
وقد يستدل على أن حمل الطفل في الصلاة خصوص للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا يؤمن من الطفل البول لحمله
وقد روى محمد بن إسحاق هذا الحديث عن سعيد المقبري عن عمرو بن سليم عن أبي قتادة قال بينما نحن ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر أو العصر حتى خرج علينا وأمامة بنت أبي العاص على عاتقه (1) فذكر الحديث
وبان فيه أن ذلك في الفريضة لا في النافلة
ومعلوم أن النافلة منه كانت في بيته لا حيث يراه أبو قتادة ومثله والله أعلم
وقد ذكرنا رواية محمد بن إسحاق هذه وحديث الليث وبن عجلان وغيرهم بذلك في التمهيد
349

وذكرنا هناك أيضا حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال اقتلوا الأسودين في الصلاة الحية والعقرب (1)
وحديث عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي والباب عليه مغلق فجئت واستفتحت فمشى ففتح لي ورجع إلى مصلاه (2)
وقال أحمد بن حنبل ذكرت أن الباب كان في القبلة
قال أبو عمر كانت صلاته تلك في بيته نافلة
وذكرت أيضا في التمهيد حديث أنس قال كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شدة الحر فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن وجهه في الأرض يبسط ثوبه ويسجد عليه (3)
وهذا كله يدل على أن العمل القليل في الصلاة مباح
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما سمع وهو في الصلاة بكاء الطفل فتجوز في صلاته وخفف وقرأ بالسورة القصيرة (4)
وقد ذكرنا الخبر بذلك في التمهيد وكان رؤوفا رحيما بالصبيان وغيرهم
382 وأما حديثه بعد في هذا الباب عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يتعاقبون (5) فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار
350

ويجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادي فيقولون تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون
ففيه من الفقه شهود الملائكة للصلاة والأظهر أن ذلك في الجماعات ويحتمل الجماعات وغيرها والله أعلم
ومعنى يتعاقبون تأتي طائفة بإثر طائفة
وإنما يكون التعاقب بين طائفتين أو بين رجلين مرة هذا ومرة هذا
ومنه قولهم الأمير يعقب الجيوش والبعوث أن يرسل هؤلاء وقتا شهرا أو شهورا وهؤلاء مثل ذلك بعدهم ليجهز أولئك فهذا هو التعاقب
ومعنى الحديث أن ملائكة النهار تنزل في صلاة الصبح فتحصي على بني آدم ويعرج الذين باتوا فيكم ذلك الوقت أي يصعدون وكل من صعد في شيء فقد عرج ولذلك قيل للدرج العرج فإذا كانت صلاة العصر نزلت ملائكة الليل فأحصوا على بني آدم وعرجت ملائكة النهار ويتعاقبون هكذا أبدا
وفي الحديث أنهم يجتمعون في صلاة العصر وصلاة الصبح الفجر وهو أكمل معنى من الحديث الذي روي أنهم يجتمعون في صلاة الفجر خاصة وأظن من مال إلى هذه الرواية احتج بقول الله عز وجل " وقرءان الفجر إن قرءان الفجر كان مشهودا " [الإسراء 78] لأن أهل العلم قالوا في تأويل هذه الآية تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار وليس في هذا دفع لاجتماعهم في صلاة العصر لأن المسكوت عنه قد يكون في معنى المذكور ويكون بخلافه
وقد بان في حديث مالك هذا وهو من أثبتها أنهم يجتمون في صلاة العصر أيضا وهي زيادة لها معنى قصر عنه من لم يأت به من الرواة وقد يحتمل أن يكون ذكر "
وقرءان الفجر " [الإسراء 78] من أجل الجهر بالقراءة فيها لأن العصر لا تظهر فيها القراءة ومعنى وقرآن الفجر أي قراءة الفجر
وقد زدنا معنى هذا الحديث بيانا في التمهيد والحمد لله
وفي قوله أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون ولم يذكروا سائر الأعمال دليل على فضل المصلين من هذه الأمة وأن الصلاة أفضل الأعمال
383 وحديثه بعد في هذا الباب عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة
351

زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله قال مروا أبا بكر فليصل للناس فقالت عائشة إن أبا بكر يا رسول الله إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء فمر عمر فليصل للناس قال مروا أبا بكر فليصل للناس قالت عائشة فقلت لحفصة قولي له إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء فمر عمر فليصل للناس ففعلت حفصة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكن لأنتن صواحب يوسف (1) مروا أبا بكر فليصل للناس فقالت حفصة لعائشة ما كنت لأصيب منك خيرا
ففيه من الفقه أن القوم إذا اجتمعوا للصلاة فأحقهم وأولاهم بالإمامة فيها أفضلهم وأفقههم لأن أبا بكر قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة بجماعة أصحابه
ومعلوم أنه كان منهم من هو أقرأ منه ولا سيما أبي بن كعب وسالم مولى أبي حذيفة وبن مسعود وزيد
فهذه مسألة اختلف الفقهاء فيها
فقال مالك يؤم القوم أعلمهم إذا كانت حالته حسنة وللمسن حق
قيل له فأكثرهم قرآنا قال لا قد يقرأ القرآن من لا يكون فيه خير
وقال الثوري يؤمهم أقرؤهم فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن استووا فأسنهم
وقال الأوزاعي يؤمهم أفقههم في دين الله
وقال أبو حنيفة يؤمهم أقرؤهم لكتاب الله وأعلمهم بالسنة فإن استووا في العلم والقراءة فأكثرهم سنا فإن استووا في السن والقراءة والفقه فأورعهم
وقال محمد بن الحسن وغيره إنما قيل في الحديث أقرؤهم لأنهم أسلموا
352

رجالا فتفقهوا فيما علموا من الكتاب والسنة وأما اليوم فيعلمون القرآن وهم صبيان لا فقه لهم
وقد قال الليث بن سعد يؤمهم أفضلهم وخيرهم ثم أقرؤهم ثم أسنهم إذا استووا
وقال الشافعي يؤمهم أقرأهم وأفقههم فإن لم يجتمع ذلك قدم أفقههم إذا كان يقرأ ما يكتفي به في صلاته وإن قدم أقرأهم إذا كان يعلم ما يلزم في الصلاة فحسن
وقال الأثرم قلت لأحمد بن حنبل رجلان أحدهما أفضل من صاحبه والآخر أقرأ منه
فقال حديث أبي مسعود يؤم القوم أقرؤهم (1)
ثم قال ألا ترى أن سالما مولى أبي حذيفة كان مع خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم عمرو أبو سلمة بن عبد الأسد فكان يؤمهم لأنه جمع القرآن
فقلت له حديث النبي صلى الله عليه وسلم مروا أبا بكر فليصل بالناس هو خلاف حديث أبي مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم يؤم القوم أقرؤهم قال إنما قوله عليه السلام مروا أبا بكر فليصل بالناس أراد الخلافة وكان لأبي بكر فضل بين على غيره وإنما الأمر في الإمامة إلى القراءة وأما قصة أبي بكر فإنما أراد بها الخلافة
قال أبو عمر معلوم أن الصلاة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت إليه لا إلى غيره وهو الإمام المقتدى به ولم يكن لأحد أن يتقدم إليها بحضرته فلما مرض واستخلف أبا بكر عليها والصحابة متوافرون ووجوه قريش وسائر المهاجرين وكبار الأنصار حضور وقال لهم مروا أبا بكر يصلي بالناس استدلوا بذلك على أن أبا
353

بكر كان أحق الناس بالخلافة بعده صلى الله عليه وسلم فارتضوا لإقامة دنياهم وأمانتهم من ارتضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم لدينهم
ولم يمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم والله أعلم من أن يصرح بخلافة أبي بكر رضي الله عنه إلا أنه كان لا ينظر في دين الله بهواه ولا يشرع فيه إلا بما يوحى إليه ولم يوح إليه في الخلافة شيء
وكان لا يتقدم بين يدي ربه في شيء إلا أنه كان يحب أن يكون أبو بكر الخليفة بعده فأراهم بتقديمه إياه إلى الصلاة موضع اختياره وأراد به
فعرف المسلمون ذلك منه فبايعوا أبا بكر بعده فنفعهم الله به وبارك لهم فيه فقاتل أهل الردة وقام بأمر الله وعدل في الرعية وقسم بالتسوية وسار سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفاه الله عز وجل
وقد رويت في هذا الباب آثار تدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علم أن أبا بكر الخليفة بعده ولكنه لم يؤمر بالاستخلاف لتكون شورى والله أعلم
منها حديث حذيفة عنه عليه السلام أنه قال اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر (1)
ومنها حديث جبير بن مطعم أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن شيء فأمرها أن ترجع فقالت يا رسول الله إن رجعت ولم أجدك كأنها تعني الموت قال فائت أبا بكر (2)
وقال بن مسعود كان رجوع الأنصار يوم سقيفة بني ساعدة لكلام قاله عمر بن الخطاب أنشدكم الله هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن يصلي بالناس قالوا نعم قال فأيكم تطيب نفسه أن ينزعه عن مقامه الذي أقامه فيه رسول الله قالوا كلنا لا تطيب نفسه بذلك
وقد ذكرنا هذه الآثار كلها بأسانيدها في التمهيد وذكرنا الحجة لخلافته وإمامته هناك من الكتاب والسنة
واستوفينا القول في فضائله في كتاب الصحابة والحمد لله
354

وأما قول عائشة إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء ففيه دليل على أن البكاء في الصلاة لا يقطعها
وذكر بن المبارك عن حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي وبجوفه أزيز (1) كأزيز المرجل (2) يعني من البكاء (3)
والبكاء الذي لا يقطع الصلاة ما كان من خوف الله تعالى أو غلبه حزن لا يملكه [ضعفا] أو عبثا ولا فهم منه شيء من حروف الكلام
وأما قوله إنكن لأنتن صواحب يوسف فإنه أراد النساء وأنهن يسعين أبدا إلى صرف الحق واتباع الهوى وأنهن لم يزلن فتنة يدعون إلى الباطل ويصدون عن الحق في الأغلب
وقد روي في غير هذا الحديث في النساء هن صواحب يوسف وداود وجريج
وقد قال صلى الله عليه وسلم في النساء إن منهن مائلات عن الحق مميلات لأزواجهن
وقال ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء (4)
وخرج كلامه هذا منه صلى الله عليه وسلم على جهة الغضب على أزواجه وهن فاضلات وأراد جنس النساء غيرهن والله أعلم
وفي هذا الحديث أيضا من قول حفصة لعائشة ما كنت لأصيب منك خيرا قط ما يدل على ضيق صدور بني آدم بما يؤذيهم وأن المكترث ربما قال قولا عاما يحمله عليه الحرج لأنه معلوم أنها كانت لا تعدم من عائشة خيرا وأنها تصيب منها الخير لا الشر
وإذا كان مثل هذا في السلف الصالح فمن دونهم أحرى أن يعذر في مثله وبالله التوفيق
355

وقد روى عبد الرزاق (1) عن معمر عن الزهري عن حمزة بن عبد الله بن عمر عن عائشة قالت والله ما كانت مراجعتي للنبي صلى الله عليه وسلم إذ قال مروا أبا بكر أن يصلي بالناس إلا كراهية أن يتشاءم الناس بأول رجل يقوم مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون ذلك الرجل أبي
384 مالك عن بن شهاب عن عطاء بن يزيد عن عبيد الله بن عدي بن الخيار أنه قال بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس بين ظهراني أصحابه إذ جاءه رجل فساره فلم يدر ما ساره به حتى جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يستأذن في قتل رجل من المنافقين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جهر أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فقال الرجل بلى ولا شهادة له قال أليس يصلي قال بلى ولا صلاة له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك الذين نهاني الله عنهم
قد ذكرنا في التمهيد من وصله من أصحاب مالك وأسنده ومن أسنده أيضا من أصحاب بن شهاب واختلافهم فيه عليه وذكرنا طرقه واختلاف ألفاظ ناقليه كل ذلك في التمهيد والحمد لله
وفيه من الفقه إباحة المناجاة والتسار مع الواحد دون الجماعة وإنما المكروه أن يتناجى الاثنان فما فوقهما دون الواحد فإن ذلك يحزنه وأما مناجاة الاثنين دون الجماعة فلا بأس بذلك بدليل هذا الحديث وغيره
ويحتمل أن يستدل بهذا الحديث على أن الرجل الرئيس المحتاج إلى رأيه ونفعه جائز أن يناجيه كل من جاءه في حاجته
وفيه أنه جائز للرجل أن يظهر الحديث الذي يناجيه به صاحبه إذا لم يكن في ذلك ضرر على المناجي أو كان ما يحتاج أهل المجلس إلى علمه
وفيه أن من أظهر الشهادة بان لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله حقنت دمه وحرمته إلا أن يأتي بما يوجب إراقته لما فرض الله عليه من الحق المبيح لقتل النفس المحرم قتلها
قال الله عز وجل * (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) * [الإسراء 33]
وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أليس يشهد أن لا إله إلا الله دليل على أن الذي
356

يشهد بالشهادة ولا يصلي لا تمنع الشهادة من أراقة دمه إذا لم يصل وأبي من إقامة الصلاة إذا دعي إليها
وقد تقدمت أحكام تارك الصلاة وتنازع العلماء فيها في هذا الكتاب
وفيه دليل على من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وصلى لم يجز قتله إلا أن يرتد عن دينه أو يكون محصنا فيزني أو يسعى في الأرض بالفساد ويقطع السبيل ويحارب الناس على أموالهم ونحو هذا وإذا لم يجز قتل من يصلي جاز قتل من لا يصلي
وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك الذين نهاني الله عنهم رد لقول القائل له بلى ولا صلاة بلى ولا شهادة له لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثبت له الشهادة والصلاة ثم أخبر أن الله عز وجل نهاه عن قتل من هذه صفته وأنه لا يكلف أكثر من أن يقر طاهرا ويصلي طاهرا وحسابه على الله فإن كان ذلك صادقا من قلبه يبتغي به وجه الله دخل الجنة ومن خادع بها فهو منافق في الدرك الأسفل من النار ولا يجوز قتله مع إظهاره الشهادة ويأتي القول في أحكام الزنديق بما للعلماء في ذلك بعد إن شاء الله
والرجل الذي سار رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث هو عتبان بن مالك والرجل الذي جرى فيه هذا القول هو مالك بن الدخشم
وقد أوضحنا ذلك أيضا بالآثار المتواترة في التمهيد وفي بعضها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبعض من قال فيه أنه منافق لا يحب الله ورسوله وما نرى مودته
ونصحته إلا للمنافقين لا تقل ذلك فقد قال لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله
واختلف الفقهاء في استتابة الزنديق المشهود عليه بالكفر والتعطيل وهو مقر بالإيمان مظهر له جاحد لما شهد به عليه
فقال مالك وأصحابه يقتل الزنادقة ولا يستتابون
وسئل مالك عن الزندقة فقال ما كان عليه المنافقون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من إظهار الإيمان وكتمان الكفر هو الزندقة عندنا اليوم
قيل لمالك فلم يقتل الزنديق ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقتل المنافقين وقد عرفهم فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قتلهم لعلمه فيهم وهم يظهرون الإيمان لكان ذلك ذريعة إلى أن يقول الناس قتلهم للضغائن والعداوة أو لما شاء الله غير ذلك فيمتنع الناس من الدخول في الإسلام
357

هذا معنى قول مالك
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك أنه قال لا يتحدث الناس أني أقتل أصحابي
وقد احتج عبد الملك بن الماجشون في قول الزنديق لقول الله عز وجل " لئن لم ينته المنفقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجارونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا " [الأحزاب 60 61] يقول إن الشأن فيهم ان يقتلوا حيث وجدوا ولم يذكر استتابه فمن لم ينته عما كان عليه المنافقون في عمر النبي صلى الله عليه وسلم قتل والله أعلم
وبن القاسم يورث ورثة الزنديق منه وهم مسلمون وهو تحصيل مذهب مالك
والحجة له أن الزنديق مظهر لدين الإسلام والشهادة عليه أنه يسر الكفر لا توجب القطع على علم ما شهد به الشهود والأصل أن مال كل ميت أو مقتول لورثته إلا أن يصح أنهم على دين سوى دينه وراعى في ذلك الاختلاف في استتابته
ومعلوم أنه لو استتيب لثبت على قوله أنه مسلم فلهذا كله لم ير نقل المال عن ورثته
وأما بن نافع فجعل ميراثه فيئا لجماعة المسلمين وكلاهما يروي ذلك عن مالك
ووجه رواية بن نافع أنه لم يقتل أحدا ولا لمحاربته وإنما قتل للكفر والدم أعظم حرمة من المال والمال تبع له يفيض على أصله وبالله التوفيق
واختلف قول أبي حنيفة وأبي يوسف في الزنديق فقالا مرة يستتاب ومرة لا يستتاب ويقتل دون استتابة
وقد روى أبو يوسف عن أبي حنيفة اقتلوا الزنديق فإن توبته لا تعرف وقاله أبو يوسف
وقال الشافعي يستتاب الزنديق كما يستتاب المرتد طاهرا فإن لم يتب قتل
قال ولو شهد شاهدان على رجل بالردة فأنكر قتل فإن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسوله وتبرأ من كل دين خالف الإسلام لم يكشف عن غيره
واحتج بقصة المنافقين وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقتلهم بشهادة ولا بعلمه وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الشهادة تعصم الدم والمال لقوله صلى الله عليه وسلم فإذا شهدوا أن لا إله إلا
358

الله وأني رسول الله عصموا مني دماءهم وأموالهم وحسابهم على الله (1) وكلهم مع علمه بهم فيما أظهروا إلى يوم تبلى السرائر ويمتاز المؤمن من الكافر
وقد أجمعوا أن الزنديق إذا أظهر الزندقة يستتاب كغير الزنديق
ودل قوله عصموا مني دماءهم على أن من أهل القبلة من يشهد بها غير مخلص وأنها تحقن دمه وحسابه على الله
وأجمعوا أن أحكام الدنيا على الظاهر وإلى الله عز وجل السرائر
وقال الأثرم قلت لأحمد بن حنبل يستتاب الزنديق
قال ما أدري
قلت إن أهل المدينة يقولون يقتل ولا يستتاب
فقال نعم يقولون ذلك ثم قال من أي شيء يستتاب وهو لا يظهر الكفر هو يظهر الإيمان
وقد أفردت لحكم المنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحكامهم في مناكحتهم لبنات المسلمين الصالحين المؤمنين كتابا أتيت فيه على معاني المنافقين وكيف أقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على مناكحه بنات المؤمنين وكيف الحكم فيهم عند السلف والخلف بما فيه الشفاء من هذا المعنى والحمد لله
385 مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد
وقد أتينا به متصلا مسندا في التمهيد
ولم ينفرد به مالك كما زعم بعض الناس
قال البزار لم يتابع أحد مالكا على هذا الحديث إلا عمر بن محمد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب عن زيد بن أسلم
359

قال وليس بمحفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه رواه عن زيد عن عطاء عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال أبو عمر عمر بن محمد ثقة روى عنه الثوري وجماعة
وليس فيه حكم أكثر من التحذير أن يصلي إلى قبره وأن يتخذ مسجدا وفي ذلك أمر بأن لا يعبد إلا الله وحده وإذا صنع من ذلك في قبره فسائر آثاره أحرى بذلك
وقد كره مالك وغيره من أهل العلم طلب موضع الشجرة التي بويع تحتها بيعة الرضوان وذلك والله أعلم مخالفة لما سلكه اليهود والنصارى في مثل ذلك
386 مالك عن بن شهاب عن محمود بن الربيع أن عتبان بن مالك كان يؤم قومه وهو أعمى وأنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنها تكون الظلمة والمطر وأنا رجل ضرير البصر فصل يا رسول الله في بيتي مكانا أتخذه مصلى فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أين تحب أن أصلي فأشار له إلى مكان من البيت فصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم
هكذا قال فيه يحيى بن يحيى عن مالك عن بن شهاب عن محمود بن لبيد وهو من الغلط والوهم الشديد ولم يتابعه أحد من رواه الموطأ ولا غيرهم على ذلك وإنما رواه بن شهاب عن محمود بن الربيع لم يختلف عليه أصحابه في ذلك فهو حديث محمود بن الربيع محفوظ لا محمود بن لبيد
وفيه جواز إمامه الزائر إذا أذن له المزور لأن السنة الثابتة في حديث أبي مسعود الأنصاري لا يؤمن أحد في سلطانه ولا بيته ولا يقعد على تكرمته إلا بإذنه (1)
رواه شعبة والأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن أوس بن ضمعج عن أبي مسعود
360

وعن جماعة من السلف أنهم قالوا صاحب البيت أعلم بعورة بيته فلا يقعد الزائر إلا حيث يشار إليه من البيت
وفيه من الفقه إجازة إمامة الأعمى ولا أعلمهم يختلفون فيه
وفيه أن من تخلف عن الجماعة أن يجمع بأهله وجلسائه ولم يتخلف عتبان بن مالك عن رسول الله إلا لعذر ومحال أن يتخلف عليه مؤمن إلا لعذر صلى الله عليه وسلم وكذلك الجماعة لا يجوز التخلف عنها لغير جماعة إلا لعذر فإن تخلف لعذر فلا حرج وإن تخلف لغير عذر فقد بخس نفسه حظها في فضل صلاة الجماعة وصلاته ماضية مجزئة عنه
وفي هذا الحديث دليل على جواز التخلف عن الجماعة عمدا وهو أيضا معارض للحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا رخصة في التخلف عنها لمن سمع النداء
وقد روي أن عتبان بن مالك هذا هو الذي قيل له أتسمع النداء قال نعم قال ما أجد لك رخصة (1)
وفي حديث مالك هذا ما يعارض ذلك الحديث وقد مضى في هذا المعنى ما فيه شفاء والحمد لله ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم ألا صلوا في الرحال (2) وقد مضى هذا المعنى مجودا والحمد لله
وفيه جواز إخبار الإنسان عن نفسه بعاهة نزلت به وليس ذلك شكوى منه بربه لقوله وأنا رجل ضرير البصر
وفيه التبرك بالمواضع التي صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ووطئها وقام عليها
وأدخل مالك هذا الحديث بإثر الذي قبله والله أعلم ليبين لك أن معنى هذا الحديث مخالف للذي قبله
والتبرك والتأسي بأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم إيمان وتصديق وحب في الله ورسوله
361

وفي هذا الحديث أيضا ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من حسن الخلق وجميل الأدب في إجابته كل من دعاه إلى ما دعاه إليه ما لم يكن أثما
387 وأما حديثه في هذا الباب عن بن شهاب عن عباد بن تميم عن عمه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستلقيا في المسجد واضعا إحدى رجليه على الأخرى
فإنني أظن والله أعلم أن السبب الموجب لإدخال مالك هذا الحديث في موطئه ما بأيدي العلماء من النهي عن مثل هذا المعنى
وذلك أن الليث به سعد وبن جريج وحماد بن سلمة رووا عن أبي الزبير عن جابر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضع الرجل إحدى رجليه على الأخرى وهو مستلق على ظهره (1)
وروى محمد بن مسلم الطائفي عن عمرو بن دينار عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يضع الرجل إحدى رجليه على الأخرى ويستلقي
فيرى والله أعلم أن مالكا بلغه هذا الحديث وكان عنده عن بن شهاب عن عباد بن تميم خلاف ذلك يحدث به على وجه الرفع والمعارضة
388 ثم أردفه في موطئه بما رواه عن بن شهاب عن سعيد بن المسيب أن أبا بكر وعمر كانا يفعلان ذلك
وكأنه ذهب إلى أن نهيه عن ذلك منسوخ بفعله
واستدل على نسخه بعمل الخليفتين بعده وهما لا يجوز أن يخفى عليهما ذلك النسخ في ذلك وغيره من المنسوخ في سائر سننه صلى الله عليه وسلم
362

وأقل أحوال الأحاديث المتعارضة في هذا الباب أن تكون متعارضة فتسقط وترجع إلى الأصل والأصل الإباحة حتى يرد الحظر ولا يثبت حكما على مسلم إلا بدليل معارض له والله أعلم
389 مالك عن يحيى بن سعيد أن عبد الله بن مسعود قال لإنسان إنك في زمان كثير فقهاؤه قليل قراؤه تحفظ فيه حدود القرآن وتضيع حروفه قليل من يسأل كثير من يعطي يطيلون فيه الصلاة ويقصرون الخطبة يبدون أعمالهم قبل أهوائهم وسيأتي على الناس زمان [قليل فقهاؤه كثير قراؤه يحفظ فيه حروف القرآن وتضيع حدوده كثير من يسأل قليل من يعطي يطيلون فيه الخطبة ويقصرون الصلاة يبدون فيه أهواءهم قبل أعمالهم]
فإن هذا الحديث قد روي عن بن مسعود من وجوه متصلة حسان متواترة
وفيه من الفقه مدح زمانه لكثرة الفقهاء فيه وقلة القراء وزمانه هذا هو القرن الممدوح على لسان النبي صلى الله عليه وسلم
وفيه دليل على أن كثرة القراء للقرآن دليل على تغير الزمان وذمه لذلك
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر منافقي أمتي قراؤها من حديث عقبة بن عامر وغيره
وقال مالك رحمه الله قد يقرأ القرآن من لا خير فيه والعيان في هذا الزمان على صحة معنى هذا الحديث كالبرهان
وفيه دليل أن تضييع حروف القرآن ليس به بأس لأنه قد مدح الزمان الذي تضيع فيه حروفه وذم الزمان الذي يحفظ فيه حروف القرآن وتضيع حدوده
وفيه أن كثرة السؤال مذموم وأن كثرة السائلين وقلة المعطين لا يكون إلا في زمن مذموم وبضد ذلك مدح قلة السؤال وكثرة العطاء
وفيه أن طول الصلاة محمود ممدوح عليه صاحبه وأما من أم جماعة فقد أوضحنا السنة في إمامه الجماعة فيما تقدم من أبواب هذا الكتاب والحمد لله
وإذا كان من أتى الصلاة على ما ينبغي فيها محمودا عليها فبضد ذلك ذم من لم يتمها ومن لم يأت بها على كمالها مذموم على ذلك وقد جاء فيه الوعيد الشديد
وأما قصر الخطبة فسنة مسنونة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بذلك ويفعله
363

وفي حديث عمار بن ياسر أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقصر الخطبة وكان يخطب بكلمات طيبات قليلات وقد كره التشدق والتفيهق
وأهل العلم يكرهون من المواعظ ما ينسي بعضه بعضا لطوله ويستحبون من ذلك ما وقف عليه السامع الموعوظ فاعتبره بعد حفظه له وذلك لا يكون إلا مع القلة
وبن مسعود هذا هو القائل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا (1)
وأما تبدأة العمل الصالح على الهوى فهو النور والهدى وآفة العقل الهوى فمن علا على هواه عقله فقد نجا
390 مالك عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أنه قال بلغني أن أول ما ينظر فيه من عمل الصلاة فإن قبلت منه نظر في سائر عمله وإن لم تقبل منه لم ينظر في شيء من عمله
فهذا المعنى قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه قد ذكرناها في التمهيد ومثله لا يكون رأيا وإنما يكون توقيفا
فمن ذلك حديث تميم الداري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته (2)
رواه حماد بن سلمة عن داود بن أبي هند عن زرارة بن أبي أوفى عن تميم
وحديث أبي هريرة رواه أبو الحسن البصري عن أنس بن حكيم الضبي
364

قال قال أبو هريرة إذا أتيت أهلك فأخبرهم أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أول ما يحاسب به العبد المسلم الصلاة المكتوبة فإن أتمها وإلا قيل انظروا هل له من تطوع فإن كان له تطوع أكملت الفريضة من تطوعه ثم يفعل بسائر الأعمال المفروضة مثل ذلك (1)
هذه رواية علي بن زيد ويونس بن عبيد عن الحسن
وقد ذكرنا طرقه في التمهيد
وهذا عندي معناه فيمن سها عن فريضة ونسيها ولم يذكرها إلى أن مات
وأما من ترك صلاة مكتوبة عامدا أو نسيها ثم ذكرها فلم يقمها فهذا لا يكون له فريضة من تطوع أبدا والله أعلم لأن ترك الصلاة عمدا من الكبائر لا يكفرها إلا الإتيان بها لمن كان قادرا عليها [هي] توبته لا يجزئه غير ذلك
وقد حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا أبان بن يزيد قال حدثنا قتادة عن الحسن عن أنس بن حكيم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة يحاسب بصلاته فإن صلحت فقد أفلح وأنجح وإن فسدت فقد خاب وخسر (2)
391 مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت كان أحب العمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يدوم عليه صاحبه
قد مضى القول في معناه فيما تقدم من هذا الكتاب عند ذكر حديث الحولاء بنت تويت في باب صلاة الليل
392 مالك أنه بلغه عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال كان
365

رجلان أخوان فهلك أحدهما قبل أن يهلك صاحبه بأربعين ليلة فذكرت فضيلة الأول عند رسول الله فقال ألم يكن الآخر مسلما قالوا بلى يا رسول الله وكان لا بأس به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدريكم ما بلغت به صلاته بعده إنما مثل الصلاة كمثل نهر غمر (1) عذب بباب أحدكم يقتحم فيه كل يوم خمس مرات فما ترون ذلك يبقى من درنه (2) فإنكم لا تدرون ما بلغت به صلاته
وقد ذكرنا في التمهيد أن قصة الأخوين لا يعرفها أهل العلم بالحديث من حديث سعد بن أبي وقاص
وقال أبو بكر أحمد بن عمرو البزار لا نعرف قصة الأخوين من حديث سعد بن أبي وقاص بوجه من الوجوه
ولم يعرف البزار حديث بن وهب عن مخرمة بن بكير عن أبيه عن عامر بن سعد عن أبيه بذلك رواه بن وهب هكذا بهذا الإسناد مثل حديث مالك سواء وقد يمكن أن يكون مالك أخذه من كتاب بكير والله أعلم أو أخبره به مخرمة ابنه عنه وهو مع ذلك حديث انفرد به بن وهب لم يروه بهذا الإسناد غيره وإنما تحفظ فيه قصة الأخوين من حديث طلحة بن عبيد الله ومن حديث عبيد بن مالك صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن حديث بن وهب عن مخرمة عن أبيه عن عامر بن سعد عن أبيه أقوى من
بعض الأسانيد عن هؤلاء
وأما آخر هذا الحديث مثل الصلوات الخمس كمثل نهر الحديث فهو محفوظ من حديث أبي هريرة وحديث جابر بن عبد الله وحديث أبي سعيد الخدري من طرق صحاح
ويروي أيضا مثل الصلوات الخمس من حديث عامر بن سعد عن أبان بن عثمان عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم
وقد ذكرنا الأسانيد والطرق لهذه الأحاديث كلها في التمهيد والحمد لله
وفي هذا الحديث من الفقه أن الصلوات الخمس ترفع بها الدرجات وتمحى بها السيئات وقد مضى هذا المعنى مجودا من حديث العلاء في باب انتظار الصلاة والمشي إليها
366

وبلغني أن أبا زرعة الرازي قال خطر ببالي تقصيري وتقصير أكثر الناس في الأعمال من الصيام والحج والجهاد والصلة فكبر ذلك علي فرأيت ليلة في منامي كان آتيا أتاني فضرب بين كتفي قال قد أكثرت في العبادة وأي عبادة أفضل من الصلوات الخمس في جماعة
وأما النهر الغمر فهو الكثير الماء والدرن الوسخ
ويدل هذا الحديث والله أعلم على أن العذب من الماء أشد إنقاء للدرن كما أن الكثير أشد إنقاء من اليسير
وهذا مثل ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم للمصلي يخبر بأن صلاته تكفر عنه سيئاته وهذا محمول عندنا على اجتناب الكبائر
وقد أوضحنا هذا المعنى في غير موضع من كتابنا هذا والرواية المحفوظة في الموطأ وغيره يبقي بالياء
393 مالك عن عطاء بن يسار أنه كان إذا مر عليه بعض من يبيع في المسجد دعاه فسأله ما معك وما تريد فإذا أخبره أنه يريد بيعه قال عليك بسوق الدنيا وإنما هذا سوق الآخرة
ففيه أن ذلك الزمان كان فيه من عوام أهله من يبيع ويشتري في المسجد ولكنه كان فيه من ينكر ذلك وكان عطاء بن يسار منهم ولا يزال الناس بخير ما أنكر المنكر فيهم ولم يتواطؤوا عليه فإن تواطؤوا عليه هلكوا
وكان عطاء بن يسار فاضلا قاضيا واعظا من حملة العلم ورواة الثقات
وأما قوله في المسجد أنه سوق الآخرة فمأخوذ من قوله عز وجل " تجرة لن تبور " [فاطر 29] وهي أعمال البر الزاكية ولا عمل أفضل من الصلاة وانتظارها ولزوم المساجد من أجلها
حدثني عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا مطر بن محمد الأسدي الكوفي قال حدثنا عمرو بن محمد الناقد قال حدثنا عبد العزيز بن محمد عن يزيد بن خصيفة عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم الرجل يبيع ويشتري في المسجد فقولوا لا أربح الله تجارتك وإذا رأيتم
367

الرجل ينشد الضالة في المسجد فقولوا لا ردها الله عليك (1)
وقد ذكر الله تعالى المساجد بأنها بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه وأن يسبح له فيها بالغدو والآصال فلهذا بنيت فينبغي أن تنزه عن كل ما لم تبن له
394 مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بنى رحبة في ناحية المسجد تسمى البطيحاء وقال من كان يريد أن يلغط (2) أو ينشد شعرا أو يرفع صوته فليخرج إلى هذه الرحبة
هذا الخبر عند القعنبي ومطرف وأبي مصعب عن مالك عن أبي النضر عن سالم بن عبد الله عن بن عمر أن عمر بن الخطاب بنى رحبة في المسجد الحديث ورواه طائفة كما رواه يحيى
فقد عارض هذا الخبر بعض الناس بحديث أبي هريرة أن حسان بن ثابت لما أنكر عليه عمر إنشاده الشعر في المسجد قال قد كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك فسكت عمر
وهذا محمله عندي أن يكون الشعر الذي ينشد في المسجد ما ليس فيه منكر من القول ولا زور وحسبك ما ينشد على رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأما ما كان فيه من الفخر بالآباء الكفار والتشبيب بالنساء وذكرهن على رؤوس الملأ وشعر يكون فيه شيء من الخنا فهذا كله لا يجوز في المسجد ولا في غيره والمسجد أولى بالتنزيه من غيره
والشعر كلامه موزون فحسنه حسن وقبيحه قبيح وقبيحه لا يزيده الوزن معنى
وقد قال صلى الله عليه وسلم إن من الشعر لحكمة (3)
وروى الليث بن سعد قال حدثني بن العجلان عن عمرو بن شعيب عن
368

أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن تتناشد الأشعار في المسجد وعن البيع والشراء في المسجد (1)
ذكره أبو داود وغيره
حدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال حدثنا أبو صالح قال حدثنا الليث فذكره بإسناده
وعلى ما ذكرنا ترتيب الآثار في إنشاد الأشعار في المسجد وبالله توفيقنا إلا أن الشعر وإن كان حسنا فلا ينبغي أن يكون إنشاده في المسجد إلا غبا لأن إنشاد حسان كذلك
كان وأما الشعر القبيح وما لا حكمة فيه ولا علم فينبغي أن تنزه المساجد عن إنشاده فيها والقول في رفع الصوت يعني التلاوة أو ما يفيد علم الدين وفي اللفظ كالقول في إنشاد الشعر الذي لا خير فيه
((25 باب جامع الترغيب في الصلاة))
395 مالك عن عمه أبي سهيل بن مالك عن أبيه أنه سمع طلحة بن عبيد الله يقول جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس يسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول حتى دنى فإذا هو يسأل عن الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس صلوات في اليوم والليلة [قال هل علي غيرهن قال لا إلا أن تطوع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وصيام شهر رمضان قال هل علي غيره قال لا إلا أن تطوع قال وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة فقال هل علي غيرها قال لا إلا أن تطوع قال فأدبر الرجل وهو يقول والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفلح الرجل إن صدق]
ورواه إسماعيل بن جعفر عن أبي سهيل عن أبيه عن طلحة أن أعرابيا جاء إلى رسول صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس فقال يا رسول الله ماذا فرض الله علي من الصلاة قال
369

الصلوات الخمس إلا أن تطوع قال فأخبرني بما افترض الله علي من الصيام قال صيام شهر رمضان إلا أن تطوع قال أخبرني بما افترض الله علي من الزكاة فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام فقال والذي أكرمك لا أتطوع شيئا ولا أنقص مما فرض الله علي شيئا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفلح والله إن صدق أو دخل الجنة والله إن صدق
قد ذكرنا في التمهيد أن قوله في هذا الحديث وأبيه منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم
وذكرنا إسناده عن إسماعيل بن جعفر من طرق
وهذا الأعرابي النجدي هو ضمام بن ثعلبة السعدي من بني سعد بن بكر روى حديثه بن عباس وأبو هريرة وأنس بمعان متفقة وألفاظ متقاربة كلها أكمل من حديث طلحة هذا وقد ذكرناها بطرقها في التمهيد وفيها ذكر الحج وليس ذلك في الحديث من رواية مالك وفي رواية إسماعيل بن جعفر فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام وشرائع الإسلام فيها الحج لا شك فيه
وفي هذا الحديث ما يدل على أن وصف الإنسان ببعض ما فيه من خلقته وإن لم تكن محمودة فليس بغيبة إذا لم يقصد الواصف عيبه
وفيها أيضا من الفقه ألا فرض من الصلوات إلا خمس وفي ذلك رد قول من زعم أن الوتر واجب
وممن ذهب إلى هذا أبو حنيفة وأصحابه لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الله زادكم صلاة إلى صلاتكم وهي الوتر (1)
وهذا لا حجة فيه لأنه يحتمل أن يكون زادنا في أعمالنا التي نؤجر عليها فضيلة ونافلة بقوله زادكم وزاد لكم ولم يقل زاد عليكم وما لنا هو خلاف لما علينا
ويدل على ذلك قول الله عز وجل " حفظوا على الصلوات والصلاة الوسطى " [البقرة 238] ولو كانت ستا لم تكن فيهن وسطا
370

ودليل آخر وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر في سفره على راحلته وكان يصلي الفريضة بالأرض
وقد مضى هذا المعنى في بابه من هذا الكتاب
والآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن الصلوات خمس كثيرة
منها حديث عبادة خمس صلوات كتبهن الله على العباد
ومنها حديث أبي هريرة وغيره الصلوات الخمس كمثل نهر الحديث
ومنها حديث عوف بن مالك قال بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصلوات الخمس الحديث
ومنها حديث بن عباس في وفد عبد القيس وفيه ذكر الصلوات الخمس
وقال علي رضي الله عنه الوتر ليس بحتم كالصلاة المكتوبة ولكنها سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقد ذكرنا الخبر عنه بذلك فيها سلف من هذا الكتاب وطرقا عنه في التمهيد
وفي هذا الحديث أيضا من الفقه أن لا فرض من الصيام إلا شهر رمضان وهذا أمر مجتمع عليه
وفيه أن الزكاة فريضة وهو أمر أيضا لا اختلاف في جملته لكن في تفصيله اختلاف كثير سيأتي في أبوابه من هذا الكتاب إن شاء الله
وليس في حديث طلحة بن عبيد الله ذكر الحج وذكره بن عباس وأبو هريرة وأنس في حديث ضمام بن ثعلبة
وقد ذكرناه بطرقه في التمهيد
وأما قوله في حديث مالك فإذا هو يسأل عن الإسلام وفي رواية إسماعيل بن جعفر فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام فإن الإسلام بني على خمس رواه بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان
وقد ذكرنا خبر بن عمر هذا في التمهيد
والعلماء يجمعون على أن أعمدة الدين وأركانه التي بني عليها خمس على ما في حديث بن عمر هذا وهو الدين عند الله الإسلام
371

وسيأتي القول في الإيمان والإسلام وما لعلماء الأمة في ذلك في المذاهب والتنازع في موضعه من هذا الكتاب وذلك قوله صلى الله عليه وسلم الحياء من الإيمان (1) إن شاء الله
ولا أعلم بهذا المعنى حديثا يخالف حديث بن عمر بني الإسلام على خمس إلا ما جاء عن بن عباس أنه قال عرى الإسلام ثلاث بني الإسلام عليها من ترك منها واحدة فهو حلال الدم شهادة أن لا إله إلا الله والصلاة وصوم رمضان
ثم قال بن عباس تجده كثير المال ولا يزكي فلا نراه بذلك كافرا ولا يحل بذلك دمه وتجده كثير المال ولا يحج فلا يحل بذلك دمه ولا نراه بذلك كافرا
حدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن بن علي العامري قال حدثنا محمد بن القاسم بن شعبان قال حدثنا علي بن سعيد قال حدثنا أبو رجاء سعيد بن جعفر البخاري قال حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال حدثنا حماد بن زيد قال حدثنا عمرو بن مالك البكري عن أبي الجوزاء عن بن عباس قال حماد ولا أظنه إلا رفعه قال عرى الإسلام فذكره
وجاء عن حذيفة أنه قال الإسلام ثمانية أسهم الشهادة سهم والصلاة سهم والزكاة سهم وحج البيت سهم وصوم رمضان سهم والجهاد سهم والأمر بالمعروف سهم والنهي عن المنكر سهم وقد خاب من لا سهل له
رواه شعبة والثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن صلة بن زفر عن حذيفة
وأما فرض الجهاد وتقسيمه على التعيين والكفاية فسيأتي في موضعه إن شاء الله
وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن كان واجبا فإنه ليس يجري مجرى الخمس التي عليها بني الإسلام لقول الله عز وجل " يا أيها الذين ءامنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " [المائدة 105] ولقوله صلى الله عليه وسلم إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك
372

وروي عن بن مسعود جماعة من الصحابة أن تأويل هذه الآية إذا اختلفت القلوب في آخر الزمان ألبس الناس شيعا وأذيق بعضهم بأس بعض وكان الهوى متبعا والشح مطاعا وأعجب ذو الرأي برأيه
وذكر الدارقطني قال حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن أحمد بن حماد العسكري وقال حدثنا عيسى بن ذكويه قال حدثنا الخليل بن يزيد بمكة قال حدثنا الزبير بن عيسى أبو الحميدي عن هاشم بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت قيل يا رسول الله متى لا نأمر بالمعروف ولا ننهي عن المنكر قال إذا كان البخل في كباركم والعلم في رذالكم والإدهان في خياركم والملك في صغاركم
وقد ذكرت هذا الحديث من طرق في كتاب جامع بيان العلم والحمد لله
وروي عن سعيد بن جبير ومجاهد وطائفة أنهم قالوا في قول الله تعالى " يا أيها الذين ءامنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " [المائدة 105] قالوا أقبلوا على أنفسكم لا يضركم من ضل من غير أهل دينكم إذا أدوا الجزية
قال أبو عمر فلهذا قلنا إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن كان فرضا على قدر الطاقة فليس يجري مجرى الخمسة المذكورة في حديث بن عمر لأنها ما لا خلاف في وجوب جملتها
وقال من ذهب من أصحابنا وغيرهم إلى أن الحج على الفور لم يكن الحج مفترضا في حين سؤال هذا الأعرابي النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام وشرائعه وهذا لا معنى له لأن الأعرابي هو ضمام بن ثعلبة من بني سعد بن بكر وفي خبره من رواية بن عباس وأبي هريرة وأنس ذكر الحج وكان قدومه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما زعم أهل السير سنة خمس من الهجرة وليس من قصر عن حفظ الحج في ذلك الخبر بحجة على من حفظه
وقد اختلف في هذه المسألة أصحاب مالك وأصحاب الشافعي وأصحاب أبي حنيفة على قولين أحدهما على الفور والآخر على التراخي
وسنبين أقوالهم ووجوهها في كتاب الحج إن شاء الله
وفي قوله عليه السلام لا إلا أن تطوع ندب إلى التطوع كأنه قال ما عليك فرض إلا الخمس ولكن إن تطوعت فهو خير لك وكذلك الصيام والحج والعمرة والجهاد
وفي فضائل ذلك كله ما يضيق الكتاب عن مثله
373

وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم له أفلح إن صدق بعد قوله لا أزيد على ذلك ولا أنقص منه دليل على أن من أدى فرض الله واجتنب محارم الله عليه من الكبائر فهو في الجنة لأن الصغائر قد وعد الله غفرانها باجتناب الكبائر ووعد عباده المؤمنين إذا آمنوا به وصدقوا المرسلين وأدوا ما افترض الله عليهم واجتنبوا كبائر ما ينهون عنه أن لهم الجنة
قال الله تعالى " إن تجنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما والله لا يخلف الميعاد " [النساء 31 آل عمران 3]
أتى رجل إلى سلمان الفارسي رضي الله عنه فقال له يا أبا عبد الله أشكو إليك أني لا أقدر على قيام الليل فقال له سلمان يا أخي لا تعصي الله بالنهار تستعين على القيام بالليل
وكان عمر بن عبد العزيز يقول في خطبته ألا إن أفضل الفضائل أداء الفرائض واجتناب المحارم
وأما قوله صلى الله عليه وسلم أفلح إن صدق فمعناه فاز بالبقاء الدائم في الخير والنعيم وهي الجنة لا يبيد نعيمها
والفلاح والبقاء في كلام العرب وهو معنى قول المؤذن حي على الصلاة حي على الفلاح
قال الأضبط بن قريع
(لكل ضيق من الأمور سعة
* والمسى والصبح لا فلاح معه (1)) أي لا بقاء معه
(لو كان حي مدرك الفلاح
* أدركه ملاعب الرماح) وقال لبيد
(أعقلي إن كنت لما تعقلي
* فلقد أفلح من كان عقل)
396 مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
374

قال يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم (1) إذا هو نام ثلاث عقد يضرب مكان كل عقدة عليه عليك ليل طويل فارقد (فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة فإن توضأ انحلت عقدة فإن صلى انحلت عقدة فأصبح نشيطا طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان) الحديث
القافية مؤخر الرأس وهو القذال وقافية كل شيء آخره ومنه قيل في أسماء النبي صلى الله عليه وسلم المقفى لأنه آخر الأنبياء ومنها أخذت قوافي الشعر لأنها أواخر الأبيات
وأما عقد الشيطان على قافية رأس بن آدم إذا رقد فلا يوصل إلى كيفية ذلك وأظنه
كناية عن جنس الشيطان وتثبيطه للإنسان على قيام الليل وعمل البر
وقيل إنها كعقد السحر من قول الله تعالى " النفثت في العقد " [الفلق 4]
وفي هذا الحديث دليل على أن ذكر الله تعالى يطرد به الشيطان بالتلاوة والذكر والأذان مجتمع عليه معلوم
ويروى في آخر هذا الحديث انحلت عقدتان كاللتين قبلهما ويروى عقدة
ورواية يحيى انحلت عقدة على لفظ الواحدة
وقد زعم قوم أن قوله في هذا الحديث أصبح خبيث النفس كسلان معارضة لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة وغيرها لا يقولن أحدكم خبثت نفسي وليقل لقست نفسي
وليس في هذا شيء من المعارضة وإنما في حديث عائشة كراهية لإضافة المرء إلى نفسه لفظه الخبث
كما روي عنه إذ سئل عن العقيقة فقال لا أحب العقوق وكأنه كره الاسم وقال لينسك أحدكم عن ابنه
375

وسيأتي القول في هذا الحديث ولفظه في كتاب العقيقة إن شاء الله
وحديث أبي هريرة فيه الإخبار عن حال نفس من لم يقم إلى صلاته وضيعها حتى خرج وقتها والله أعلم
وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من الصلاة فلم ير عليا فأقبل إلى بيته فألقاه نائما فنبهه وأهله وعاتبهما فقال له علي يا رسول الله إنما أرواحنا بيد الله إذا نمنا يرسلها إذا شاء فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما وهو يقول " وكان الإنسن أكثر شيء جدلا (1) * [الكهف 54]
قال أبو عمر أما من كانت عادته القيام إلى صلاته المكتوبة أو إلى نافلته من الليل فغلبته عينه فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه يكتب له أجر صلاته ونومه صدقة عليه
وقد قال الله عز وجل * (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى) * [الزمر 42]
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن قبض الله أرواحنا ولو شاء لردها إلينا في حين غير هذا (2)
وفي هذا كله القدر البين والمخرج الواسع لمن غلبه نومه عن صلاته
وقال له بلال أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك فلم ينكر عليه
ولم يبق بعد هذا من معنى هذا الباب إلا أنه ندب في قيام الليل وإلى الاستغفار بالأسحار وأقل أحواله أن يكون ندبا إلى أن يطلع الفجر على المؤمن إلا وقد ذكر الله وتأهب بالوضوء للصلاة
376

((10 كتاب العيدين))
((1 باب العمل في غسل العيدين والنداء فيهما والإقامة))
لم يذكر مالك رحمه الله في هذا الباب حديثا مسندا ولا مرفوعا ولا مقطوعا وإنما ذكر فيه
397 أنه سمع غير واحد من علمائهم يقولون لم يكن في الفطر والأضحى نداء ولا إقامة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم
قال مالك وتلك السنة التي لا اختلاف فيها عندنا
398 وذكر عن نافع عن بن عمر أنه كان يغتسل يوم الفطر قبل أن يغدو إلى المصلى
فدل على أنه لم يكن عنده في هذا الباب في النداء والإقامة في العيدين حديث مسند ولا مرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان لذكره على شرطه في أول كتابه والله أعلم
وأما غسله للعيدين فمستحب عند جماعة علماء المدينة
كان بن عمر وسعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله وعبيد الله بن عبد الله يغتسلون ويأمرون بالغسل للعيدين
وروي ذلك عن جماعة من علماء أهل الحجاز والعراق والشام منهم علي بن
377

أبي طالب وعبد الله بن عباس وعلقمة والحسن وقتادة ومحمد بن سيرين ومجاهد ومكحول
واتفق الفقهاء على أنه حسن لمن فعله والطيب يجري عندهم منه ومن جمعهما فهو أفضل
وليس غسل العيدين كغسل الجمعة آكد في سبيل السنة
وقد مضى القول في غسل الجمعة في موضعه من هذا الكتاب
وكذلك يستحب العلماء الاغتسال لدخول مكة وللإحرام والوقوف بعرفة ولكل مجمع ومشهد إلا أن الطيب لا سبيل إليه لمن قد أحرم
قال أبو عمر إني لأعجب من رواية أيوب السختياني عن نافع قال ما رأيت عبد الله بن عمر اغتسل للعيد قط كان يبيت بالمسجد ليلة الفطر ثم يغدو منه إذا صلى الصبح إلى المصلى
ذكره عبد الرزاق عن معمر عن أيوب
قال عبد الرزاق وأخبرنا مالك عن نافع أن بن عمر كان يغتسل يوم الفطر قبل أن يغدو
قال عبد الرزاق وأنا أفعله
قال وأخبرني بن جريج قال أخبرني موسى بن عقبة عن نافع عن بن عمر مثله وزاد ويتطيب
وأما النداء والإقامة في العيدين فلا خلاف بين فقهاء الأمصار في أنه لا أذان ولا إقامة في العيدين ولا في شيء من الصلوات المسنونات ولا في شيء من النوافل في التطوع ولا أذان إلا في المكتوبات فهو ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه والتابعين وجماعة فقهاء المسلمين
فمن ذلك حديث عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله وبن عباس قالا لم يكن يؤذن يوم الفطر ولا يوم الأضحى ولا يقام
قال أبو عمر إنما قالا ذلك لأن بني أمية أحدثوا الأذان ولم يكن يعرفونه قبل
قال جابر شهدت النبي صلى الله عليه وسلم صلى العيد بغير أذان ولا إقامة
378

وروي ذلك عن جابر من وجوه
وكذلك حديث بن عباس مثله أيضا
وقد ذكرنا كثيرا منها في التمهيد
وروى الشعبي عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم العيد بغير أذان ولا إقامة
وذكر وكيع عن سفيان عن عبد الرحمن بن عابس عن بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم يوم عيد عند دار كثير بن الصلت بغير أذان ولا إقامة وصلى قبل الخطبة
وكذلك كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي يفعلون يصلون العيدين بغير أذان ولا إقامة لا خلاف عنهم في ذلك
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا مروان بن معاوية عن عيسى بن المغيرة قال قلت لأبي وائل أكانوا يؤذنون في الأضحى والفطر قال لا
قال وحدثنا وكيع عن إسرائيل عن جابر عن عامر والحكم قالا الأذان يوم الأضحى والفطر بدعة
قال وحدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن زائدة عن سماك قال رأيت المغيرة بن شعبة والضحاك وزيادا يصلون يوم ا لفطر والأضحى بلا أذان ولا إقامة
قال أبو عمر كان هذا بالحجاز والعراق معلوما مجتمعا عليه قبل أن يحدث معاوية الأذان في العيدين وكان أمراؤه وعماله يفعلون ذلك حيث كانوا
قال وحدثنا وكيع عن هشام عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال أول من أحدث الأذان في العيدين معاوية
قال وحدثنا بن إدريس عن حصين قال أول من أذن في العيد زياد
قال وحدثنا يحيى بن سعيد عن بن جريج عن عطاء بن يسار أن بن الزبير سأل بن عباس وكان الذي بينهما حسنا يومئذ فقال لا تؤذن ولا تقم فلما ساء الذي بينهما أذن وأقام
379

قال وحدثنا عبد الوهاب الثقفي عن أيوب عن محمد بن سيرين قال الأذان في العيد محدث
((2 باب الأمر بالصلاة قبل الخطبة في العيدين))
399 مالك عن بن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي يوم الفطر ويوم الأضحى قبل الخطبة
400 مالك وأنه بلغه أن أبا بكر وعمر كانا يفعلان ذلك
401 وعن بن شهاب عن أبي عبيد مولى بن أزهر قال شهدنا العيد مع عمر بن الخطاب فصلى ثم انصرف فخطب الناس فقال إن هذين يومان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامهما يوم فطركم من صيامكم والآخر يوم تأكلون فيه من نسككم (1)
وفيه عن عثمان وعلي أن كلا منهما صلى ثم انصرف فخطب
ورواه معمر عن بن شهاب عن أبي عبيد أنه شهد العيد مع عمر بن الخطاب فصلى قبل أن يخطب بلا أذان ولا إقامة ثم خطب وذكر الحديث
ولم يذكر مالك في هذا الحديث بلا أذان ولا إقامة وقد أوضحنا في التمهيد معاني هذا الحديث
فأما حديث بن شهاب المرسل فيتصل معناه ويستند من وجوه من حديث بن عباس
380

وحديث جابر بن عبد الله وحديث بن عمر وحديث البراء وحديث جندب بن عبد الله كلهم رووا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي ثم يخطب في العيدين وقد ذكرناها في الحديث الصحيح والأسانيد في التمهيد
حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي قال حدثني أبي قال حدثنا عبد الله بن يونس قال حدثنا بقي قال حدثنا أبو بكر قال حدثنا عبدة بن سليمان وأبو أسامة عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يصلون العيدين قبل الخطبة (1)
قال وحدثنا وكيع عن سفيان عن بن جريج عن الحسن بن مسلم عن طاوس عن بن عباس قال شهدت العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر فبدأوا بالصلاة قبل الخطبة (2)
قال وحدثنا بن عيينة عن الزهري عن أبي عبيد مولى بن أزهر قال شهدت العيد مع عمر بن الخطاب فبدأ بالصلاة قبل الخطبة قال ثم شهدنا العيد مع عثمان فبدأ بالصلاة قبل الخطبة قال وشهدت العيد مع علي فبدأ بالصلاة قبل الخطبة
قال وحدثنا بن إدريس عن حصين عن ميسرة بن جميلة قال شهدت العيد مع علي فلما صلى خطب قال وكان عثمان يفعله
قال وحدثنا أبو خالد الأحمر عن حميد عن أنس قال كانت الصلاة في العيدين قبل الخطبة
فهذا هو الصحيح الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الخلفاء الراشدين المهديين بعده أنهم كانوا يصلون قبل الخطبة في العيدين بلا أذان ولا إقامة
وعلى هذا فتوى جماعة الفقهاء بالحجاز والعراق وهو مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم والثوري والأوزاعي والحسن بن حي وعبيد الله بن الحسن وعثمان البتي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبي ثور وأبي عبيدة
381

وداود والطبري كلهم لا يرون في صلاة العيدين أذانا ولا إقامة ويصلون قبل الخطبة
قال أبو عمر قد اختلف في أول من خطب قبل الصلاة فقيل عثمان بن عفان وهو الصحيح إن شاء الله عن عثمان لما حدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا الخشني قال حدثنا بن أبي عمر قال حدثنا سفيان عن يحيى بن سعيد عن يوسف بن عبد الله بن سلام قال كانت الصلاة يوم العيد قبل الخطبة فلما كان عثمان بن عفان كثر الناس فقدم الخطبة قبل الصلاة وأراد ألا يفترق الناس وأن يجتمعوا
فإن قيل قد روى مالك وغيره عن بن شهاب عن أبي عبيد مولى بن أزهر أنه قال شهدت العيد مع عثمان بن عفان فجاء فصلى ثم انصرف فخطب فقال إن اجتمع لكم في هذا اليوم عيدان الحديث
قيل له الحديثان صحيحان ويصحح معناهما أن عثمان صلى ست سنين أو سبعا كما في رواية مالك ثم قدم الخطبة على ما في حديث يحيى بن سعيد وكذلك فعل في إتمام الصلاة في السفر بعد قصرها
ومن الرواية عن عثمان أنه أول من قدم الخطبة قبل الصلاة ما رواه حماد بن سلمة عن حميد عن أنس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يصلون يوم العيد ثم يخطبون فلما كان عثمان ورأى الناس يجيئون بعد الصلاة قال لو حبسناهم بالخطبة فخطب ثم صلى (1)
وذكر عبد الرزاق عن بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن يوسف بن عبد الله بن سلام قال أول من بدأ بالخطبة قبل الصلاة عثمان بن عفان
قال عبد الرزاق وأخبرنا بن جريج قال قال بن شهاب أول من بدأ بالخطبة قبل الصلاة معاوية
قال عبد الرزاق وأخبرنا معمر بلغني أن أول من خطب ثم صلى معاوية
وقد بلغني أيضا أن عثمان فعل ذلك وكان لا يدرك عامتهم الصلاة فبدأ بالخطبة حتى يجتمع الناس
382

قال أبو عمر قد روى بن نافع عن مالك أنه قال أول من قدم الخطبة في العيدين قبل الصلاة عثمان بن عفان
قال مالك والسنة أن تقدم الصلاة قبل الخطبة وبذلك عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان صدرا من خلافته
قال أبو عمر أما قول من قال أول من قدم الخطبة مروان فإنما أراد بالمدينة وهو عامل عليها لمعاوية
ويدل على ذلك قول مروان لأبي سعيد الخدري إذ أنكر ذلك عليه قد ترك ما هنالك يا أبا سعيد
وقد ذكرنا الآثار بذلك كله في التمهيد
وذكرنا هناك اسم أبو عبيد ومن قال فيه مولى بن أزهر ومن قال فيه مولى عبد الرحمن بن عوف
والصحيح في الأذان في العيدين قول سعيد بن المسيب وبن شهاب وهما من أعلم الناس بالفقه وإماما الناس معاوية أول من فعل ذلك وإنما مروان وزياد من أمرائه
وقول محمد بن سيرين إن أول من فعل ذلك زياد يعني عندهم بالبصرة كقول من قال أول من فعل ذلك مروان يعني بالمدينة
وروى الليث قال حدثني هشام عن سعد عن عياض بن عبد الله بن سعد أنه حدثه أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول خرجت مع مروان يوما إلى المصلى ويده في يدي فأراد أن يرقى المنبر قبل أن يصلي فجذبت بيده فقلت صله قبل الخطبة فقال مروان هذا أمر قد ترك يا أبا سعيد إنا لو فعلنا ما تقول ذهب الناس وتركونا وقد ترك ما تعلم فقلت إذا لا تجدون خيرا مما أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبدأ بالصلاة في هذا اليوم
وأما قول بن عمر في حديث مالك عن بن شهاب عن أبي عبيد في هذا الباب أن هذين يومان نهى رسول الله عن صومهما يوم فطركم من صياتكم والآخر يوم تأكلون فيه من نسككم
فلا خلاف بين العلماء في أن صيام يوم الفطر ويوم الأضحى لا يجوز لهذا الحديث وما كان مثله لا لناذر صومهما ولا لمتطوع ولا لقاض فيهما أياما من رمضان
383

وإنما اختلف العلماء في صيام أيام التشريق للمتمتع إذا لم يجد هديا ولم يصم قبل يوم عرفة على ما نذكره عنهم في موضعه من كتاب الحج وكتاب الصيام إن شاء الله
وفيه دليل على أن الضحايا نسك وأن الأكل مباح مندوب إليه وكذلك هدي التطوع إذا بلغ محله قال الله عز وجل * (فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير) * [الحج 28] و * (القانع والمعتر) * [الحج 36]
وأما قول عثمان في هذا الحديث قد اجتمع لكم في يومكم هذا عيدان يعني الجمعة والعيد فمن أحب من أهل العالية أن ينتظر الجمعة فلينتظرها ومن أحب أن يرجع فقد أذنت له
وقد روي عن علي بن أبي طالب معنى ما روي عن عثمان في ذلك
ذكر علي بن المديني عن يحيى بن سعيد عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عيدين اجتمعا على عهد علي فخطبهم وقال إن هذا يوم اجتمع فيه عيدان ونحن نصليهما جميعا ولكم رخصة أيها الناس فمن شاء جاء ومن شاء قعد
وذكر علي بن المديني وبن أبي شيبة جميعا عن حفص بن غياث قال حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه قال اجتمع عيدان على عهد علي رضي الله عنه فصلى بهم العيد ثم قال إنا مجمعون من شاء أن يشهد فليشهد اللفظ لابن أبي شيبة
وذكر عبد الرزاق عن الثوري عن عبد الأعلى عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي أنه قال في يوم جمعة وعيد من أراد أن يجمع فليجمع ومن أراد أن يجلس فليجلس
قال أبو عمر ذهب مالك رحمه الله في إذن عثمان رضي الله عنه فيما ذهب لأهل العوالي إلى أنه عنده غيره معمول به
ذكر بن القاسم عنه أنه قال ليس عليه العمل
وذلك أنه كان لا يري الجمعة لازمة لمن كان من المدينة على ثلاثة أميال والعوالي عندهم أكثرها كذلك فمن هنا لم ير العمل على إذن عثمان ورأى أنه جائز له خلافه باجتهاده إلى رؤى الجماعة العاملين بالمدينة بما ذهب إليه في ذلك
وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي وأكثر أهل العلم إن إذن عثمان كان لمن لا تلزمه الجمعة من أهل العوالي لأن الجمعة لا تجب إلا على أهل المصر عند الكوفيين
384

وأما الشافعي فتجب عنده على من سمع النداء من خارج المصر
ولا يختلف العلماء في وجوب الجمعة على من كان بالمصر بالغا من الرجال الأحرار سمع النداء أو لم يسمعه
قال أبو عمر وقد روي في هذا الباب عن بن الزبير وعطاء قول منكر أنكره فقهاء الأمصار ولم يقل به أحد منهم
وذلك أن عبد الرزاق روى عن بن جريج قال قال عطاء إن اجتمع يوم الجمعة ويوم الفطر في يوم واحد فليجمعهما يصلي ركعتين فقط ولا يصلي بعدها حتى العصر
قال بن جريج ثم أخبرنا عند ذلك قال اجتمع يوم فطر ويوم جمعة في يوم واحد في زمن بن الزبير فقال بن الزبير عيدان اجتمعا في يوم واحد فجمعهما جميعا صلى ركعتين بكرة صلاة الفطر ثم لم يزد عليها حتى صلى العصر
وروى سعيد بن المسيب عن قتادة قال سمعت عطاء يقول اجتمع عيدان على عهد بن الزبير فصلى العيد ثم لم يخرج إلى العصر
قال أبو عمر أما فعل بن الزبير وما نقله عطاء من ذلك وأفتى به على أنه قد اختلف عنه فلا وجه فيه عند جماعة الفقهاء وهو عندهم خطأ إن كان على ظاهره لأن الفرض من صلاة الجمعة لا يسقط بإقامة السنة في العيد عند أحد من أهل العلم
وقد روى فيه قوم أن صلاته التي صلاها لجماعة ضحى يوم العيد نوى بها صلاة الجمعة على مذهب من رأى أن وقت صلاة العيد ووقت الجمعة واحد
وقد أوضحنا فساد قول من ذهب إلى ذلك في باب المواقيت
وتأول آخرون أنه لم يخرج إليهم لأن صلاها في أهله ظهرا أربعا
وهذا لا دليل فيه في الخبر الوارد بهذه القصة عنه
وعلى أي حال كان فهو عند جماعة العلماء خطأ وليس على الأصل المأخوذ به
والأصل في ذلك ما ذكره علي بن المديني قال حدثني يحيى بن سعيد قال حدثنا سفيان سمع عبد العزيز بن رفيع قال حدثني ذكوان أبو صالح أن عيدين اجتمعا على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم صلاة العيد وقال إنكم قد أصبتم ذكرا وخبرا ونحن مجمعون إن شاء الله فمن شاء منكم أن يجمع فليجمع ومن شاء أن يجلس فليجلس
385

وقد روي حدث عبد العزيز بن رفيع مسندا وإن كان بن المديني قال إن المرسل فيه عن عبد العزيز حديث شريف فالمسند ذكره أبو داود
قال أبو عمر قال حدثنا محمد بن المصلي وعمرو بن حفص قالا حدثنا بقية قال حدثنا شعبة عن المغيرة الضبي عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال قد اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنا مجمعون (1)
وأسنده أيضا زياد بن عبد الله عن عبد العزيز بن رفيع حدثناه عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إبراهيم بن إسحاق النيسابوري قال حدثنا إبراهيم بن دينار قال حدثنا زياد بن عبد الله بن الطفيل عن أبي هريرة قال حدثنا عبد العزيز بن رفيع عن أبي صالح عن أبي هريرة قال اجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم عيد ويوم جمعة فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا يوم قد اجتمع لكم فيه عيدان عيدكم هذا والجمعة وإني مجمع فمن أحب أن يشهد الجمعة منكم فليشهدها فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بالناس
وحدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن كثير قال حدثنا إسرائيل قال حدثنا عثمان بن المغيرة عن إياس بن أبي رملة الشامي قال شهدت معاوية وهو يسأل زيد بن أرقم هل شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيدين اجتمعا في يوم واحد قال نعم قال فكيف صنع قال صلى العيد ثم رخص في الجمعة فقال من شاء أن يصلي فليصل (2)
وقال علي بن المديني في هذا الباب غير ما حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد جيد وذكر هذا الحديث عن أبي داود الطيالسي عن إسرائيل بإسناده مثله
قال أبو عمر ليس في شيء من آثار هذا الباب ما ذكرناه منها وما سكتنا عنه أن صلاة الجمعة لم يقمها الأئمة في ذلك اليوم وإنما فيها أنهم أقاموها بعد إذنهم المذكور عنهم وذلك عندنا لمن قصد العيدين غير أهل المصر والله أعلم
ذكر بن المديني عن جرير بن عبد الحميد أنه حدثه عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه عن حبيب بن سالم عن النعمان بن بشير قال كان رسول الله
386

صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية وإذا اجتمع الجمعة والعيد قرأ بهما في الصلاتين جميعا (1)
قال أبو عمر هذه الآثار كلها مرسلها ومسندها ليس في شيء منها أنه لم يصل بعد صلاة العيد شيئا إلا صلاة العصر
[وقد روي عن جماعة من التابعين منهم أبو البحتري الطائي والشعبي والنخعي وأبو ميسرة عمرو بن شرحبيل والحسن البصري وأبو إدريس الخولاني
وهذه مسألة مثبتة عند الفقهاء على أصولهم فيمن تجب عليه الجمعة من الأحرار البالغين
فقال بن عمر وأبو هريرة وأنس بن مالك والحسن البصري ونافع مولى بن عمر تجب الجمعة على كل من كان بالمصر وخارجا عنه ممن إذا شهد الجمعة أمكنه الانصراف إلى أهله فآواه الليل إلى أهله
وبهذا قال الحكم بن عيينة وعطاء بن أبي رباح والأوزاعي وأبو ثور
وروي معنى هذا القول عن معاذ قال ما كتبناه بإسناده في التمهيد ومثله عن معاوية بن أبي سفيان أنه كان يأمر به
وقال ربيعة ومحمد بن المنكدر وإنما تجب الجمعة على من كان على أربعة أميال
وذكر معمر عن هشام بن عروة بن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص قالت كان أبي من المدينة على ستة أميال أو ثمانية فربما شهد الجمعة وربما لم يشهدها
وقال الزهري ينزل إليها من ستة أميال
وروي عن ربيعة أيضا أنه قال إنما تجب الجمعة على من إذا سمع النداء وخرج من بيته أدرك الصلاة
وقال مالك والليث تجب الجمعة على أهل المصر على من كان منه على ثلاثة أميال
وقال الشافعي تجب الجمعة على من كان بالمصر وكذلك كل من يسمع النداء ممن كان خارج المصر
387

وبه قال أحمد وداود
وهو قول عبد الله بن عمرو بن العاص وبن المسيب
وقال أبو حنيفة على كل من كان بالمصر وليست على من كان خارج المصر يسمع النداء أو لم يسمعه
وقد روي عن علي أنه لا جمعة ولا شريق يعني العيد إلا في المصر الجامع
وقال أحمد بن حنبل هو غير صحيح عن علي
قال أبو عمر هذا قول مالك والشافعي في هذا الباب بمعنى واحد لأن الصوت الندي قد يسمع من ثلاثة أميال
وقد ذكره بن عبدوس عن علي بن زياد عن مالك قال عزيمة الجمعة على من كان بموضع يسمع منه النداء وذلك ثلاثة أميال ومن كان أبعد فهو في سعة إلا أن يرغب في شهودها
وهذا أحسن الأقاويل في هذه المسألة وأصحها والله أعلم
وأما قول بن عبيد ثم شهدت العيد مع علي بن أبي طالب وعثمان محصور فجاء يصلي ثم انصرف فخطب فإن العيد إذا كان من السنة أن تقام الصلاة فيه دون إمام فالجمعة أحرى بذلك لأن صلاة الجمعة وصلاة العيد مما يقيمه السلطان للعامة
وقد اختلف العلماء في إقامة الجمعة بغير سلطان]
قال مالك رحمه الله لله عز وجل في أرضه على عباده فرائض لا يسقطها موت الوالي يعني الجمعة
وهو قول الطبري إن الجمعة تجب إقامتها بغير سلطان كسائر صلوات الجماعة
وقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد لا تجزئ الجمعة إذا لم يكن سلطان
وهو قول الأوزاعي في رواية عنه
والجمعة عند هؤلاء كالحدود لا يقيمها إلا السلطان
وقد روي عن محمد بن الحسن أن أهل مصر لو مات واليهم لجاز لهم أن يقدموا رجلا يصلي بهم الجمعة حتى يقدم عليهم وال
388

وقال أحمد بن حنبل يصلون بإذن الوالي
وقال دواد الجمعة لا تفتقر إلى وال ولا إلى إمام ولا إلى خطبة ولا إلى مكان ويجوز للمنفرد عنده إذا لم يجد من يجمع معه أن يصلي ركعتين وتكون جمعة
قال ولا يصلي لعيد إلا ركعتين في وقت الظهر يوم الجمعة
وقول داود هذا خلاف قول جميع فقهاء الأمصار لأنهم أجمعوا أن من شرط الجمعة الإمام إلا فيما يفجأهم موت الإمام فيه وأن من شرطها الجماعة عند جمهورهم
وجمهورهم أيضا يقول لا تكون إلا بخطبة واختلافهم في الوالي والمكان اختلاف كثير والله المستعان
قال أبو عمر لم يختلفوا أن الجمعة يقيمها السلطان وأن ذلك إليه سنة مسنونة وإنما اختلفوا عند نزول ما ذكرنا من موت الإمام أو قتله أو عزله والجمعة قد حانت
فذهب أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي إلى أنهم يصلون ظهرا أربعا
وقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور يصلي بهم بعضهم بخطبة ويجزئهم
وذكر أبو بكر الأثرم قال حدثنا العباس بن عبد العظيم أنه سأل أبا عبد الله أحمد بن حنبل قال قلت فإن لم يكن إمام أترى أن يصلي وراء من جمع بالناس وصلى ركعتين فقال أليس قد صلى علي بن أبي طالب وعثمان محصورا وقد ذكرنا في التمهيد من طرق أبي قتادة وعبيد الله بن عدي بن الخيار لعثمان رضي الله عنه وهو محصور أنت إمام العامة ويصلي بنا إمام فتنة قال صليا خلفه فإن الصلاة أحسن ما صنع الناس فإذا أحسنوا فأحسن معهم وإن أساؤوا فاجتنب إساءتهم
وكان بن وضاح يقول إن الذي عنى به إمام فتنة هو عبد الرحمن بن عديس البلوي وهو الذي اختلف على عثمان بأهل مصر وكان ممن شهد بيعة الرضوان تحت الشجرة بالحديبية
والوجه عندي في قوله إمام فتنة أي إمام في فتنة لأن الجماعات والأعياد نظامها وتمامها الإقامة
389

وقد صلى بالناس في حين حصار عثمان جماعة من الفضلاء الجلة منهم أبو أيوب الأنصاري وطلحة وسهل بن حنيف وأبو أمامة بن سهل وغيرهم وصلى بهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه صلاة العيد فقط
وقال يحيى بن آدم صلى بهم رجل بعد رجل
وذكر الحسن الخولاني قال حدثنا أبو حسن المسيب بن واضح قال سمعت بن المبارك يقول ما صلى علي بالناس حين حوصر عثمان إلا صلاة العيد وحدها فقط
وفي التمهيد من هذا المعنى زيادات وبالله التوفيق
وذكر الخطيب البغدادي في تاريخه الكبير أخبرنا به شيخنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن عنه سماعا منه قال حدثنا الحسن بن علي قال حدثنا إسماعيل بن عيسى قال حدثنا إسحاق بن بشر قال حدثنا الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن ثعلبة بن يزيد الحماني قال لم يزل طلحة يصلي بالناس وعثمان محصور أربعين ليلة حتى إذا كان يوم النحر صلى علي بالناس والله أعلم
((3 باب الأمر بالأكل قبل الغدو في العيد))
402 ذكر فيه مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يأكل يوم الفطر قبل أن يغدو
403 وعن بن شهاب عن سعيد بن المسيب أنه قال كان الناس يؤمرون بالأكل يوم الفطر قبل الغدو
قال مالك لا أرى ذلك على الناس في الأضحى
قال أبو عمر قول مالك لا أرى ذلك على الناس في الأضحى يدل على أن الأكل في الفطر عنده مؤكد يجري مجرى السنن المندوب إليها التي يحمل الناس عليها وأنه في الأضحى من شاء فعله ومن شاء لم يفعله وليس بسنة في الأضحى ولا بدعة وغيره يستحب أن لا يأكل يوم الأضحى حتى يأكل من أضحيته ولو من كبدها
390

حدثنا سعيد قال حدثنا قاسم قال حدثنا محمد قال حدثنا أبو بكر قال حدثنا أحمد بن عبد الملك بن واقد عن عبيد الله بن عمر عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يأكل يوم الفطر قبل أن يخرج إلى المصلى
حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بن وضاح قال حدثنا أبو بكر قال حدثنا هشيم قال حدثنا محمد بن إسحاق عن حفص بن عبيد الله بن أنس عن أنس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر يوم الفطر على تمرات ثم يغدو (1)
وذكر في المصنف قال حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي قال أطعم يوم الفطر قبل أن تخرج إلى المصلى
قال وحدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن حجاج عن عطاء عن بن عباس قال إن من السنة أن لا تخرج يوم الفطر حتى تطعم وأن تخرج صدقة الفطر قبل الصلاة
قال وحدثنا بن إدريس عن الأعمش عن المنهار عن عبد الله بن الحارث عن بن عباس قال كل ولو تمرة
قال وحدثنا معاوية بن هشام قال حدثنا بن أبي ذئب عن يوسف عن السائب بن يزيد قال مضت السنة أن يأكل قبل أن يغدو يوم الفطر
قال وأخبرنا هشيم قال أخبرنا مغيرة عن الشعبي قال إن من السنة أن تطعم يوم الفطر قبل أن تغدو وأن تؤخر الطعام يوم النحر حتى ترجع
وذكر فيه عن معاوية بن سويد بن مقرن وصفوان بن محرز وبن سيرين وعروة بن الزبير وعبد الله بن شداد والشعبي وبن أبي ليلى والأسود بن يزيد وأم الدرداء وعمر بن عبد العزيز ومجاهد وتميم بن سلمة وإبراهيم وأبي مجلز أنهم كانوا يأكلون ويأمرون بالأكل يوم الفطر قبل الغدو إلى المصلى ويندبون إلى ذلك ولو تمرة أو لعقة عسل ونحو هذا
ولم يذكر فيه عن أحد رخصة إلا عن بن عمر وعن إبراهيم إن شاء أكل وإن شاء لم يأكل
391

وحسبك بقول سعيد بن المسيب كان الناس يؤمرون بالأكل يوم الفطر قبل الغدو إلى المصلى
حدثنا خلف بن قاسم قال حدثنا عبد الله بن جعفر بن الورد قال حدثنا أبو علاقة هذا محمد بن عمرو بن خالد بن فروخ التميمي قال حدثنا أبي قال حدثنا زهير بن معاوية قال حدثنا أبو إسحاق عن الحارث عن علي قال من السنة أن يمشي الرجل إلى المصلى وأن يطعم يوم الفطر قبل أن يغدو إلى المصلى
حدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا الخشني قال حدثنا بن أبي عمر قال حدثنا سفيان عن بن جريج عن عطاء قال سمعت بن عباس يقول لا يغدو أحد يوم الفطر حتى يطعم
قال عطاء إني لآكل من طرف الرقاقة من قبل أن أغدو
وذكر الشافعي قال حدثنا إبراهيم بن سعد عن بن شهاب عن بن المسيب قال كان المسلمون يأكلون يوم الفطر قبل المصلى ولا يفعلون ذلك يوم النحر
قال الشافعي فإن لم يطعم أمرناه بذلك في طريقه إلى المصلى إن أمكنه فإن لم يفعل فلا شيء عليه
قال ولا نأمره بذلك يوم الأضحى فإن فعل فلا بأس
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا إسماعيل بن علية عن يحيى بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق قال أتيت صفوان بن محرز يوم فطر فقعدت على بابه حتى خرج إلي فقال لي كالمعتذر إنه كان يؤمر في هذا اليوم أن يصيب الرجل من غذائه قبل أن يغدو وإني أصبت شيئا فذلك الذي حبسني
وأما الأضحى فإنه لا يأخذ غذاءه حتى يرجع
قال وحدثنا وكيع عن عمران عن أبي مجلز قال أصب شيئا قبل أن تغدو
قال وحدثنا وكيع عن شعبة عن الحكم عن عبد الله بن شداد أنه مر على بقال يوم عيد فأخذ منه فأكلها
قال وحدثنا هشيم عن مغيرة عن إبراهيم قال بلغه أن تميم بن سلمة خرج يوم فطر ومعه صاحب له فقال لصاحبه هل طعمت شيئا فقال لا فمشى تميم إلى بقال فسأله تمرة فأعطاها صاحبه فأكلها فقال إبراهيم ممشاه إلى رجل يسأله أشد علي من تركه الطعام لو تركه
392

وذكر عبد الرزاق عن بن جريج قال أخبرني عطاء أنه سمع عبد الله بن عباس يقول إن استطعتم ألا يغدو أحدكم يوم الفطر حتى يطعم فليفعل
قال عطاء فلم أدع ذلك منذ سمعته من بن عباس
قال قلت لعطاء من أين أخذه بن عباس قال أظن سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم
وعن معمر قال كان الزهري يأكل يوم الفطر قبل أن يغدو ولا يأكل يوم النحر
وعن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم قال كانوا يستحبون أن يأكلوا يوم الفطر قبل أن يخرجوا إلى المصلى
قال أبو عمر على هذا جماعة الفقهاء
((4 باب ما جاء في التكبير والقراءة في صلاة العيدين))
404 مالك عن ضمرة بن سعيد عن عبيد الله بن عبد الله بن عيينة أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ به في الأضحى والفطر فقال كان يقرأ ب * (ق والقرآن المجيد) * [ق 1] و * (اقتربت الساعة وانشق القمر) * [القمر 1]
قد تكلمنا على إسناد هذا الحديث في التمهيد
وقد يجوز أن يكون سؤال عمر لأبي واقد ليعلم إن كان حفظ ذلك أم لا
ومعلوم أن شهادة عمر للنبي صلى الله عليه وسلم وملازمته له وأنه كان من يلونه في الصلاة ويلازمونه في الحضر والسفر ويستحيل أن لا يعلم ما كان رسول اله صلى
الله عليه وسلم يقرأ به في العيد
ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العيد بسور شتى لا يفضل في قراءته في ذلك سورة تعمد إليها لا يتعداها
وأكثر ما روي وتواترت به طرق الأحاديث كان يقرأ في العيدين ب * (سبح اسم ربك) * و " هل أتك حديث الغشية * (1)
393

روي هذا عنه من حديث النعمان بن بشير وحديث سمرة بن جندب وحديث بن عباس وحديث أنس وهي كلها عند بن أبي شيبة وعبد الرزاق وقد ذكرتها في التمهيد
وما أعلم أنه روي عنه أنه قرأ فيها ب ق واقتربت في حديث مالك هذا إلا ما رواه بن عيينة عن بن طاوس وإبراهيم بن ميسرة عن طاوس مرسلا بذلك
وقد روى بن عيينة حديث ضمرة بن سعيد عن ضمرة كما رواه مالك سواء
وليس عند الفقهاء في القراءة شيء لا يتعدى وكلهم يستحب ما روي وأكثرهم على استحباب قراءة * (سبح اسم ربك الأعلى) * و " هل أتك حديث الغشية " لتواتر الروايات بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم
وقد ذكر بن أبي شيبة قال حدثنا هشيم وبن إدريس عن أشعث عن كردوس عن عبد الله بن مسعود أن الوليد بن عقبة أرسل إليه ما يقرأ به في العيدين فقال تقرأ بفاتحة الكتاب وسورة من المفصل زاد فيه هشيم ليس من قصارها ولا من طوالها
قال وحدثنا معتمر عن محمد عن أنس أن أبا بكر قرأ في يوم عيد بالبقرة حتى رأيت الشيخ يميل من طول القيام
قال وحدثنا حسين بن علي عن زائدة عن عبد الملك بن عمير قال حدثت عن عمر أنه كان يقرأ في العيد ب * (سبح اسم ربك الأعلى) * و " هل أتك حديث الغشية "
قال أبو عمر هذا المستحب عند جمهور العلماء ولا يوقتون في ذلك شيئا وبالله التوفيق
405 مالك عن نافع مولى بن عمر أنه قال شهدت الأضحى والفطر مع أبي هريرة فكبر في الركعة الأولى بسبع تكبيرات قبل القراءات وفي الآخرة خمسا قبل القراءات
394

قال مالك وهو الأمر عندنا
قال أبو عمر معلوم أن هذا وما كان مثله لا يكون رأيا لأنه لا فرق من جهة الرأي والاجتهاد بين سبع في هذا وأربع ولا يكون إلا توقيفا ممن يجب التسليم له
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كبر في صلاة العيدين سبعا في الركعة الأولى وخمسا في الثانية (1) من طرق كثيرة حسان منها حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
ومن حديث جابر بن عبد الله رواه بن لهيعة عن [أبي] الزبير عن جابر
ومن حديث عائشة رواه أبو الأسود محمد بن عبد الرحمن عن عروة عن عائشة ورواه عقيل وعبد الرحمن بن مسافر عن بن شهاب عن عروة عن عائشة
ومن حديث عمرو بن عوف المزني رواه كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده
ومن حديث بن عمر رواه عبد الله بن عامر الأسلمي عن نافع عن بن عمر
وحديث أبي واقد الليثي كلها عن النبي صلى الله عليه وسلم
وفي حديث عبد الله بن عمر وقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم التكبير في الفطر سبع في الأولى وخمس في الآخرة والقراءة بعدها في كلتيهما
وبهذا قال مالك والشافعي وأصحابهما والليث بن سعد
إلا أن مالكا قال سبعا في الأولى بتكبيرة الإحرام على ظاهر الحديث سبعا في الأولى ولو لم تكن تكبيرة الافتتاح في السبع لقيل كبر ثمانيا وستا والله أعلم
وقال الشافعي سوى تكبيرة الإحرام جعل القصد في الحديث إلى تكبير العيد دون شيء من التكبير المعهود في الصلاة لأن تكبير الصلاة معلوم أنه لم يقصد إليه في هذا الحديث
وقد روي أيضا ما قاله الشافعي في حديث نافع هذا
395

رواه عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي قال حدثنا أيوب عن نافع قال كان أبو هريرة يكبر في العيدين ثنتي عشرة تكبيرة في الأولى وخمسا في الآخرة سوى تكبيرة الإحرام وتكبيرة الركوع وكان يكبر إذا ركع وإذا رفع
واتفقا على أن الخمس تكبيرات في الركعة الثانية غير تكبيرة القيام
وقال أحمد بن حنبل وأبو ثور كقول مالك سبع بتكبيرة الإحرام في الأولى وخمس في الثانية سوى تكبيرة القيام
إلا أن أحمد لا يوالي بين التكبير ويجعل بين كل تكبيرتين ثناء على الله وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
وقول أبي ثور في القراءات كقول مالك والشافعي سواء بعد التكبير فيهما
وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه التكبير في العيدين خمس في الأولى وأربع في الثانية بتكبيرة الافتتاح والركوع فهي ثلاث تكبيرات سوى تكبيرة الافتتاح والركوع في الأولى وثلاث تكبيرات في الثانية سوى تكبيرة القيام وتكبيرة الركوع يحرم في الأولى ويستفتح ثم يكبر ثلاث تكبيرات يرفع فيها يديه ثم يقرأ أم القرآن وسورة ثم يكبر ولا يرفع يديه ويسجد فإذا قام الثانية كبر ولم يرفع يديه وقرأ بفاتحة الكتاب وسورة ثم كبر ثلاث تكبيرات يرفع فيها يديه ثم يكبر أخرى يركع بها ولا يرفع يديه فيها ويوالي بين القراءتين
قال أبو عمر لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب إلا ما ذهب إليه مالك والشافعي في السبع والخمس
وجاء عن الصحابة في ذلك اختلاف كثير
وروي عن بن عباس ثلاث عشرة تكبيرة سبع في الأولى وست في الثانية
وروي عنه أنه قال إن شئت كبر تسعا وإن شئت إحدى عشرة وإن شئت ثلاث عشرة
ومذهب الكوفيين ثابت عن بن مسعود أنه كان يعلمهم التكبير في العيدين تسع تكبيرات خمس في الأولى وأربع في الثانية ويوالي بين القراءتين (1)
وعن حذيفة وأبي موسى مثله
396

وروي عن علي رضي الله عنه أنه كبر في الفطر إحدى عشرة ستا في الأولى وخمسا في الآخرة
وهذا يشبه مذهب مالك في ذلك وكبر في الأضحى خمسا ثلاثا في الأولى واثنتين في الثانية ويوالي بين القراءتين
وروي عن أبي موسى وحذيفة التكبير في العيدين أربعا كتكبير الجنازة وبعضهم يرفع حديث أبي موسى إلى النبي صلى الله عليه وسلم
وقال الكوفيون هذا كقولنا إلا أن الأربع كانت سوى تكبيرة الافتتاح
ذكر أبو بكر قال حدثنا هشيم عن بن عون عن مكحول قال أخبرني من شهد سعيد بن العاص أرسل إلى أربعة من أصحاب الشجرة فسألهم عن التكبير في العيدين فقالوا ثماني تكبيرات
قال بن عون فذكرت ذلك لابن سيرين فقال صدق ولكنه أغفل تكبير فاتحة الصلاة
قال أبو عمر قول مالك وأهل المدينة في هذا الباب روي عن جماعة سلف أهل الحجاز وحسبك بقول مالك هذا لا من عندنا
وروي قول الثوري وأبي حنيفة عن جماعة من سلف أهل العراق من الصحابة والتابعين ولم يرو عن أحد منهم أنه فرق بين تكبير الفطر والأضحى إلا عن علي وحده رضي الله عنه وليس الإسناد عنه بالقوي
والذي أقول في هذا الباب أن الاختلاف في الأذان وأنه كله مباح لا حرج في شيء منه وكل أخذه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخذوا الوضوء واحدة واثنتين وثلاثا والقراءات في الصلوات وعدد ركعات قيام الليل الاختلاف عنه صلى الله عليه وسلم في ذلك اختلاف إباحة وتوسعة
والذي أختاره في ذلك قول مالك والشافعي وبالله التوفيق
وأما قول مالك في هذا الباب في رجل وجد الناس يوم العيد قد انصرفوا من الصلاة أنه لا يرى عليه صلاة في المصلى ولا في بيته فإن صلى فحسن ويكبر سبعا وخمسا قبل القراءات فإنما قال ذلك لأن سنة العيد أن تكون في جماعة ومن فاتته لم يقضها لأن القضاء لا يجب إلا في المكتوبات
وقال في غير الموطأ من سماع أشهب وبن وهب إن أدركهم في تشهد العيد أحرم وجلس ثم قام إذا سلم الإمام يقضي صلاة العيد كما صلاها الإمام وإن أدرك
397

أحد الركعين قضى الأخرى يكبر فيها سبعا كما فاته وإن صلوا قبل أن يصل إليهم أتى الخطبة فاستمعها
قال وليس قضاء صلاة العيد بواجب لمن فاتته إلا أن يشاء
وقول الأوزاعي في ذلك كله كقول مالك إلا أنه قال يكبر خمسا لأنها آخر صلاته
وقال الشافعي من فاتته صلاة العيد ووجد الإمام يخطب جلس فإذا فرغ الإمام صلى صلاة العيد كما صلاها الإمام حيث أمكنه
قال ومن تركها كرهت له ذلك ولا شيء عليه
وقول أبي ثور مثله
وقال أبو حنيفة وأصحابه من فاتته صلاة الإمام فإن شاء صلى وإن شاء لم يصل ومن صلى فعل كفعل الإمام على ما وصفنا عنهم
وقال أبو حنيفة أيضا والثوري من فاتته صلاة العيد صلى ركعتين أو أربعا ليس فيهن تكبير وأربع أحب إلي فإن لم يصل فلا بأس ومن فاتته ركعة كبر فيها ما كبر إمامه عند الثوري
وقول الليث في هذا الباب كقول مالك وهو قول عبيد الله بن الحسن
((5 باب ترك الصلاة قبل العيدين وبعدهما))
406 مالك عن نافع عن بن عمر أنه لم يكن يصلي يوم الفطر قبل الصلاة ولا بعدها
قال أبو عمر يعني في المصلى
407 وذكر مالك فيه عن سعيد بن المسيب ما نذكره في باب الغدو إلى المصلى وانتظار الخطبة
398

((6 وذكر في باب الرخصة في الصلاة قبل العيدين وبعدهما))
408 عن عبد الرحمن بن القاسم إن أباه كان يصلي قبل أن يغدو إلى المصلى أربع تكبيرات
409 وعن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يصلي يوم الفطر قبل الصلاة في المسجد
فترجم الباب الأول بترك الصلاة والثاني بالرخصة وليست الرخصة في الباب الثاني من الباب الأول في شيء لأن الصلاة في المسجد قبل الغدو إلى المصلى ليست من باب الصلاة في المصلى وإنما اختلفوا في الصلاة في المصلى فذهب أهل المدينة إلى أن لا يصلي أحد في المصلى قبل صلاة العيد ولا بعدها
وأحمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل في المصلى قبل صلاة العيد ولا بعدها فسائر الناس كذلك
وذهب الكوفيون والأوزاعي إلى أن لا يصلي أحد في المصلى قبل الصلاة ويصلي بعدها إن شاء
وقال الثوري يصلي بعدها أربعا لا يفصل بينهن
وذهب البصريون إلى إباحة الصلاة في المصلى قبل الصلاة وبعدها
وهو قول الشافعي قال يصلي قبل الجمعة وبعدها وبه قال داود ولكل واحد منهم سلف فيها ذهب إليه من الصحابة والتابعين
وروى أشهب وبن وهب عن مالك إذا صلوا صلاة العيد في المطر في المسجد أو عذر فلا بأس أن يتنفل بعدها ولا ينتفل قبلها
وروى بن القاسم عن مالك أن التنفل في المسجد قبلها وبعدها جائز
قال أبو عمر الصلاة فعل خير فلا يجب المنع منها إلا بدليل لا معارض له فيه وقد أجمعوا أن يوم العيد كغيره في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها فالواجب أن يكون كغيره في الإباحة وبالله التوفيق
والركوع والسجود في المسجد ليس بواجب فكيف في المصلى ومن فعله فقد أحسن
وقد مضى هذا المعنى مجودا في هذا الكتاب والحمد لله
399

((7 باب غدو الإمام في العيدين وانتظار الخطبة))
قوله في هذا الباب وقول غيره من فقهاء الأمصار سواء كله متقارب المعنى
وزاد الشافعي ليس الإمام في ذلك كالناس أما الناس فأحب أن يتقدموا حين ينصرفوا من الصبح وأما الإمام فيغدو إلى العيد قدر ما يرى في المصلى وقد برزت الشمس
قال ويؤخر الفطر ويعجل الأضحى ومن صلى قبل طلوع الشمس أعاد
وهذا كله مروي معناه عن مالك وهو قول سائر العلماء
409 م ذكر مالك في الباب قبل هذا أنه بلغه أن سعيد بن المسيب كان يغدو إلى المصلى بعد أن يصلي الصبح قبل طلوع الشمس
وذكر أبو بكر قال حدثنا بن علية عن أيوب عن نافع قال كان بن عمر يصلي الصبح في المسجد ثم يغدو كما هو إلى المصلى
قال أبو عمر فعل بن عمر وسعيد بن المسيب خلاف فعل القاسم وعروة لأنهما كانا يركعان في المسجد ثم يغدوان إلى المصلى والركوع لا يكون حتى تبيض الشمس لا يكون بأثر صلاة الصبح
وذكر أبو بكر قال حدثنا حاتم بن إسماعيل عن عبد الرحمن بن حرملة أنه كان ينصرف مع سعيد بن المسيب من الصبح حتى يسلم الإمام في يوم عيد حتى يأتي المصلي عند دار كثير بن الصلت فيجلس عند المصراعين
وعن أبي عبد الرحمن السلمي وعبد الله بن معقل وإبراهيم النخعي وأبي مجلز مثل فعل سعيد بن المسيب
وعن أبي جعفر محمد بن علي وعطاء بن أبي رباح والشعبي وإبراهيم أيضا في رواية مثل فعل القاسم وعروة
وعن رافع بن خديج مثله
وكل ذلك مباح لا حرج في شيء منه ولكل وجه وفضل
وأما قول مالك في آخر هذا الباب فيمن صلى مع الإمام صلاة العيد أنه لا ينصرف حتى يسمع الخطبة فعليه جماعة الفقهاء كما ذكرنا عنهم فيما مضى من تقديم الصلاة على الخطبة والحمد لله
400

((11 كتاب صلاة الخوف))
((1 باب صلاة الخوف))
410 ذكر فيه مالك عن زيد بن رومان عن صالح بن خوات عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع (1) [صلاة الخوف أن طائفة صفت معه وصفت طائفة وجاه العدو فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائما وأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم]
411 وحديثه عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد عن صالح بن خوات الأنصاري عن سهل بن أبي حثمة بمعنى واحد في صلاة الخوف إلا أن في حديث يزيد بن رومان وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم ثم سلم
وفي حديث يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد ثم يقبل الآخرون الذين لم يصلوا فيكبرون وراء الإمام فيركع بهم ويسجد ثم يسلم فيقومون فيركعون لأنفسهم الركعة الباقية ثم يسلمون
401

وهذا ما بين الحديثين من الاختلاف
وكان مالك يقول بحديثه عن يزيد بن رومان أن الإمام ينتظر تمام الطائفة الثانية ويسلم بهم وهو قول الشافعي واختياره ثم رجع مالك عن ذلك إلى حديث يحيى بن سعيد عن القاسم أن الإمام يسلم إذا أكمل صلاته ويقوم من وراءه فيأتون بركعة ويسلمون
وقد زاد بن القاسم في الموطأ في آخر حديث يحيى بن سعيد وقال مالك هذا الحديث أحب إلي
قال أحمد بن خالد وبه قال جماعة أصحاب مالك إلا أشهب فإنه أخذ بحديث بن عمر في صلاة الخوف
ومن حجة مالك في اختياره حديث القاسم بن محمد القياس على سائر الصلوات في أن الإمام ليس له أن ينتظر أحدا سبقه بشيء وأن السنة المجتمع عليها أن يقضي المأمومون ما سبقوا به بعد سلام الإمام
وقول أبي ثور في ذلك كقول مالك سواء لحديث القاسم عن صالح بن خوات عن سهل بن أبي حثمة
وقال الشافعي حديث يزيد بن رومان عن صالح بن خوات مسند والمصير إليه أولى من حديث القاسم لأنه موقوف
قال وهو أشبه الأحاديث في صلاة الخوف بظاهر كتاب الله عز وجل
ومن حجته أن الله عز وجل ذكر استفتاح الإمام ببعضهم لقوله * (فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم) * [النساء 102] وذكر انصراف الطائفتين والإمام من الصلاة معا بقوله * (فإذا قضيتم الصلاة) * [النساء 103] ذلك للجميع لا للبعض ولم يذكر أن على واحد منهم قضاء
قال وفي الآية دليل على أن الطائفة الثانية لا تدخل في الصلاة إلا بانصراف الأولى لقوله " ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا النساء 102]
وفي قوله فليصلوا معك دليل على أن الطائفة الثانية تنصرف ولم يبق عليها من الصلاة شيء يفعله بعد الإمام
هذا كله نزع به بعض أصحاب الشافعي بالاحتجاج له على الكوفيين وغيرهم
ولم يختلف قول مالك والشافعي وأبي ثور أن الإمام إذا قرأ في الركعة الثانية بأم القرآن وسورة قبل أن تأتي الطائفة الأخرى ثم أتته فركع بها حين دخلت معه قبل
402

أن يقرأ شيئا أنه يجزئهم إلا أن الشافعي قال إن أدركوا معهم ما يمكنهم فيه قراءة فاتحة الكتاب فلا يجزئهم إلا أن يقرؤها
وقول أحمد بن حنبل في صلاة الخوف كقول الشافعي سواء على حديث سهل بن أبي حثمة
ورواية يزيد بن رومان هو المختار عند أحمد
وكان لا يعيب من فعل شيئا من الأوجه المروية في صلاة الخوف
قال ولكني أختار حديث سهل بن أبي حثمة لأنه أنكى للعدو
وقال الأثرم قلت له حديث سهل بن أبي حثمة تستعمله والعدو مستقبل القبلة وغير مستقبلها قال نعم هذا أنكى لهم لأنه يصلي بطائفة ثم يذهبون ثم يصلي بأخرى ثم يذهبون
واختار داود بن علي وأصحابه أيضا حديث سهل بن أبي حثمة من رواية يزيد بن رومان وغيره عن صالح بن خوات عن سهل بن أبي حثمة كذلك رواه شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن صالح بن خوات عنه سهل بن أبي حثمة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث يزيد بن رومان عن صالح بن خوات وكذلك رواه معاذ بن معاذ عن شعبة
وأما أبو حنيفة وأصحابه إلا أبا يوسف فإنهم ذهبوا إلى ما رواه الثوري وشريك وزائدة وبن فضيل عن خصيف عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بطائفة وطائفة مستقبلوا العدو صلى بالذين وراءه ركعة وسجدتين وانصرفوا ولم يسلموا فوقفوا بإزاء العدو ثم جاء الآخرون فقاموا مقامهم فصلى بهم ركعة ثم سلم فقام هؤلاء فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا وذهبوا فقاموا مقام أولئك مستقبلي القبلة ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا
وروى أبو الأسود عن عروة بن الزبير عن مروان عن أبي هريرة قال صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف فذكر مثل حديث بن مسعود سواء
واضطرب قول الثوري في هذا الباب على حسب ما ذكرته عنه في التمهيد
412 وأما حديث مالك في هذا الباب عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا
403

سئل عن صلاة الخوف قال يتقدم الإمام وطائفة من الناس فيصلي بهم ركعة وتكون طائفة منهم بينه وبين العدو ولم يصلوا فإذا صلى الذين معه ركعة استأخروا مكان الذين لم يصلوا ولا يسلمون ويتقدم الذين لم يصلوا فيصلون معه ركعة ثم ينصرف الإمام وقد صلى ركعتين فتقوم كل واحدة من الطائفتين فيصلون لأنفسهم ركعة بعد أن ينصرف الإمام فتكون كل واحدة من الطائفتين قد صلوا ركعتين فإن كان خوفا أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم أو ركبانا مستقبلي القبلة أو غير مستقبلهما
قال مالك قال نافع لا أرى عبد الله بن عمر حدثه إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
هكذا روى مالك هذا الحديث عن نافع على الشك في رفعه ورواه عن نافع جماعة لم يشكوا في رفعه
وممن رواه مرفوعا عن نافع عن بن عمر عن النبي من غير شك بن أبي ذئب وموسى بن عقبة وأيوب بن موسى
وكذلك رواه الزهري عن سالم عن بن عمر عن النبي
وكذلك رواه خالد بن معدان عن بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم
وقد ذكرنا أحاديثهم عنه بالأسانيد من طرق في التمهيد
وذكرنا من روى مثل ذلك في صلاة الخوف عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث بن عباس وأبي موسى وأبي هريرة في التمهيد أيضا
وقال بحديث بن عمر هذا ومن كان مثله من الفقهاء جماعة منهم الأوزاعي وإليه ذهب أشهب بن عبد العزيز صاحب مالك
وكان أحمد بن حنبل ومحمد بن جرير الطبري وطائفة من أصحاب الشافعي يذهبون إلى جواز العمل بكل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف وهي ستة أوجه قد ذكرناها كلها من طرق في التمهيد وذكرنا من ذهب إليها من العلماء
أحدها حديث بن عمر ومن تابعه
404

والثاني حديث سهل بن أبي حثمة ومن تابعه
والثالث حديث بن مسعود ومن تابعه
وقد ذكرنا ها هنا القائلين بها من الفقهاء مثله على حسب ما ذكرناه في التمهيد
ومن القائلين به بن أبي ليلى والثوري أيضا في تخييره وقال به غيرهما من الفقهاء من أصحابنا وأصحاب الشافعي إذا كان العدو في القبلة
والخامس حديث حذيفة وما كان مثله على ما هو مذكور في التمهيد وهو أحد الأوجه الثلاثة التي خير الثوري فيها رحمه الله
السادس من حديث أبي بكرة وحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى بكل طائفة من الطائفتين ركعتين فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربعا ولأصحابه ركعتين ركعتين
وكذلك كان يفتي الحسن البصري وهو قول يجيزه كل من أجاز اختلاف نية المأموم والإمام في الصلاة وأجاز لمن صلى في بيته أن يؤم في تلك الصلاة
وهو مذهب الأوزاعي والشافعي وبن علية وأحمد بن حنبل وداود
ولا معنى لقول من قال إن حديث أبي بكرة وحديث جابر كان في الحضر لأن فيه سلامه في كل ركعتين منها وقد ذكرناهما بأحسن أسانيدهما في التمهيد
وهما ثابتان من جهة النقل عند أهل العلم به وغيره محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى صلاة الخوف في الحضر ومعلوم أن صلاة الخوف إنما وضعت على أخف ما يمكن وأحوطه للمسلمين وهذا من أحوط وجوه [صلاة] الخوف
وقد حكى المزني عن الشافعي قال ولو صلى بكل طائفة ركعتين ثم سلم وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين وسلم كان جائزا
قال وهكذا صلى النبي صلى الله عليه وسلم ببطن نخل
واختار هذا الوجه بعض أصحاب داود
قال أبو عمر الحجة لمن قال بحديث بن عمر في هذا الباب أنه حديث ورد بنقل أئمة أهل المدينة وهم الحجة في النقل على من خالفهم ولأنه أشبه بالأصول لأن الطائفة الأولى والثانية لم يقصوا الركعة إلا بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة وهو المعروف من سنته المجتمع عليها من سائر الصلوات وأما صلاة الطائفة الأولى ركعتهما قبل أن يصليهما إمامها فهو مخالف للسنة المجتمع عليها في سائر الصلوات وخلاف لقوله إنما جعل الإمام ليؤتم به
405

وقد روى الثقات حديث صالح بن خوات على معنى حديث بن عمر فصار حديث سهل بن أبي حثمة مختلفا فيه ولم يختلف في حديث بن عمر إلا بما جاء من شك مالك في رفعه وشكه في ذلك مردود إلى يقين سائر من رواه بغير شك والشك لا يلتفت إليه واليقين معمول عليه والرواية التي رويت في حديث سهل بن أبي حثمة بمعنى حديث بن عمر رواها يحيى القطان عن شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن صالح بن خوات عن سهل بن أبي حثمة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة الخوف فذكر مثل حديث بن عمر وقد ذكرناه بإسناده في التمهيد
وقالت طائفة من أهل العلم منهم أبو يوسف وبن علية لا تصلى صلاة الخوف بعد النبي صلى الله عليه وسلم بإمام واحد وإنما تصلى بعده بإمامين يصلى كل واحد منهما بطائفة ركعتين
واحتجوا بقول الله عز وجل * (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك) * [النساء 102]
قالوا فإذا لم يكن فيهم النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ذلك لهم لأنه صلى الله عليه وسلم ليس كغيره في ذلك ولم يكن من أصحابه من يؤثر بنصيبه فيه غيره وكلهم كان يحب أن يأتم به ويصلي خلفه وليس أحد بعده يقوم بالفضل مقامه والناس بعده تستوي أحوال أهل الفضل منهم أو تتقارب
وليس بالناس حاجة إلى إمام واحد عند الخوف بل يصلي بطائفة من شاؤوا وتحترس الأخرى فإذا فرغت صلى بالناس منهم من يقدمونه كذلك
هذه جملة من احتج به من ذهب مذهب أبي يوسف في ذلك
ومن الحجة عليه لسائر العلماء إجماعهم على أن قول الله عز وجل * (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم) * [التوبة 103] ينوب فيها منابه ويقوم فيها مقامه الخلفاء والأمراء بعده
وكذلك قوله تعالى * (وإذا كنت فيهم) * [النساء 102]
ومن الدليل على أن ما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم دخلت فيه أمته قول الله عز وجل " فلما قضى زيد منها وطرا زوجنكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزوج أدعيائهم " [الأحزاب 37] ومثله " وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم " [الأنعام 68] هو المخاطب صلى الله عليه وسلم وأمته داخلة في ذلك ومثله كثير
وأما مراعاة القبلة للخائف في الصلاة فساقطة عند أهل المدينة والشافعي إذا
406

اشتد خوفه كما يسقط عنه النزول إلى الأرض لقوله عز وجل * (فإن خفتم فرجالا أو ركبانا) * [البقرة 239]
قال بن عمر مستقبل القبلة وغير مستقبلها وهذا لا يجوز لمصلي الفرض في غير الخوف
قال قول بن عمر هذا ذهب جماعة من أهل الفقه منهم مالك والشافعي قالا يصلي المسافر الخائف على قدر طاقته مستقبل القبلة وغيره مستقبلها
وبذلك قال أهل الظاهر لعموم قوله * (فإن خفتم) *
وقال بن أبي ليلى وأبو حنيفة وأصحابه لا يصلي الخائف إلا إلى القبلة ولا يصلي أحد في حال المسابقة
وقول الثوري في هذه المسألة نحو قول مالك
ومن قول مالك والثوري أنه إن لم يقدر على الركوع والسجود فإنه يصلي قائما ويومئ إيماء يجعل السجود أخفض من الركوع
وقال الأوزاعي إذا كان القوم مواجهي العدو وصلى بهم إمامهم صلاة الخوف فإن شغلهم القتال صلوا فرادى فإن اشتد القتال صلوا رجالا وركبانا إيماء حيث كانت وجوههم فإن لم يقدروا تركوا الصلاة حتى يأمنوا
وقد زدنا هذا الباب إيضاحا بالمسائل عن العلماء في التمهيد
وأحسن الناس صفة لحال الخوف الذي لا يجوز فيه الصلاة إلا بالأرض إلى القبلة وتحرس أحد الطائفتين فيه الأخرى ولحال شدة الخوف الذي يجوز فيه الصلاة راكبا وراجلا مستقبل القبلة وغير مستقبلها الشافعي رحمه الله في كتابه فإنه قد وصف الحالتين صفة بينة واضحة وقد أوردنا ذلك عنه وعن غيره في التمهيد والحمد لله
413 وأما حديث مالك في هذا الباب عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه قال ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر يوم الخندق حتى غربت الشمس
407

فقد احتج بهذا من ذهب إلى أن صلاة الخوف تؤخر إذا لم يستطع عليها على وجهها إلى وقت الأمن والاستطاعة
وهذا قول جماعة من فقهاء أهل الشام شذوا عن الجمهور الذين هم الحجة على من خالفهم
وقد بان فساد ما ذهبوا إليه بالحديث الثابت أن يوم الخندق قبل صلاة الخوف وقبل نزول الآية فيه
حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد قال حدثنا الميمون بن حمزة قال حدثنا أحمد بن محمد بن سلامة قال حدثنا إسماعيل بن يحيى المدني قال حدثنا الشافعي قال أخبرنا أحمد بن إسماعيل بن أبي فديك عن بن أبي ذئب
وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إبراهيم بن عبد الرحيم قال حدثنا عمار بن عبد الجبار الخرساني قال أخبرنا بن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه قال حبسنا يوم الخندق عن الصلاة حتى كان هوي من الليل حتى كفينا وذلك قول الله عز وجل * (وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا) * [الأحزاب 25] قال فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأقام فصلى الظهر كما كان يصليها في وقتها ثم أقام العصر فصلاها كذلك ثم أقام المغرب فصلاها كذلك ثم أقام العشاء فصلاها كذلك أيضا وذلك قبل أن ينزل في صلاة الخوف (فرجالا أو ركبانا) [البقرة 239] (1)
ومعنى الحديثين سواء
وأخبرنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال حدثنا هناد بن السري عن هشيم عن أبي الزبير عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود قال قال عبد الله إن المشركين شغلوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات في الخندق فأمر بلالا فأذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ثم أقام فصلى المغرب ثم أقام فصلى العشاء
هكذا قال هشيم في هذا الحديث فأذن ثم أقام فصلى الظهر فذكر الأذان للظهر وحدها
وكذلك رواه أبو بكر بن أبي شيبة عن هشيم سواء وخالفه هشام الدستوائي
408

فرواه عن أبي الزبير بإسناده وقال فيه فأمر بلالا فأقام فصلى الظهر ولم يذكر أذانا للظهر ولا لغيرها وإنما ذكر الإقامة فيها وحدها
ومعلوم أن الظهر والعصر والمغرب فوائت وأن العشاء صليت في وقتها
وقد مضى القول في صدر هذا الكتاب في هذه المسألة وذكرنا اختلاف العلماء في الأذان للفوائت من الصلاة هناك فلا معنى لإعادته هنا
وروى هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سليمة عن جابر قال جعل عمر بن الخطاب يسب كفار قريش يوم الخندق ويقول يا رسول الله والله ما صليت العصر حتى غربت الشمس أو كادت تغيب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما صليتها فنزلنا معه إلى بطحان فتوضأ للصلاة وتوضأنا معه فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب (1)
ففي هذا الحديث حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما شغل يؤمئذ عن صلاة العصر
وفي حديث أبي سعيد وبن مسعود أنه شغل يومئذ عن أربع صلوات الظهر والعصر والمغرب والعشاء
وفي مرسل سعيد بن المسيب أنه شغل يومئذ عن الظهر والعصر فالله أعلم أن ذلك كان
وقد يحتمل أن يكون ذلك كله صحيحا لأنهم حوصروا في الخندق وشغلوا بالأحزاب أياما
ومثل حديث جابر في ذلك حديث علي وهو حديث ثابت من طرق عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر حتى غربت الشمس ملأ الله بطونهم وقلوبهم أو بيوتهم نارا (2)
وممن رواه عن علي يحيى بن الخزاز وشيتر بن شكل وزر بن حبيش والحارث الهمداني
وقد ذكرناه من طرق في باب زيد بن أسلم من التمهيد
409

((12 كتاب صلاة الكسوف))
((1 باب العمل في صلاة الكسوف))
414 ذكر فيه مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت خسفت الشمس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس فقام فأطال القيام [ثم ركع فأطال الركوع ثم قام فأطال القيام وهو دون القيام الأول ثم ركع فأطال الركوع وهو دون الركوع الأول ثم رفع فسجد ثم فعل في الركعة الآخرة مثل ذلك ثم انصرف وقد تجلت الشمس فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وتصدقوا ثم قال يا أمة محمد والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا]
415 وكذلك حديثه عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عباس أنه قال خسفت الشمس فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه فقام
410

قياما طويلا نحوا من سورة البقرة قال ثم ركع ركوعا طويلا ثم رفع فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ثم سجد ثم قام قياما طويلا وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ثم رفع فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ثم سجد ثم انصرف وقد تجلت الشمس فقال إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله قالوا يا رسول الله رأيناك تناولت شيئا في مقامك هذا ثم رأيناك تكعكعت (1) فقال إني رأيت الجنة فتناولت منها عنقودا ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا ورأيت النار فلم أر كاليوم منظرا قط أفظع ورأيت أكثر أهلما النساء قالوا لم يا رسول الله قال لكفرهن قيل أيكفرن بالله قال ويكفرن العشير (2) ويكفرن الإحسان (3) لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئا قالت ما رأيت منك خيرا قط
416 وعن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن يهودية جاءت تسألها فقالت أعاذك الله من عذاب القبر فسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم أيعذب الناس في قبورهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عائذا بالله من ذلك ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة مركبا فخسفت الشمس فرجع ضحى فمر بين ظهراني الحجر (4) ثم قام يصلي وقام الناس وراءه فقام قياما طويلا ثم ركع ركوعا طويلا
ثم رفع فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون
411

الركوع الأول ثم رفع فسجد ثم قام قياما طويلا وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ثم رفع فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ثم رفع ثم سجد ثم انصرف فقال ما شاء الله أن يقول ثم أمرهم أن يتعوذوا من عذاب القبر
وكذلك رواه بن شهاب عن عمرة عن عائشة
وهذه الأحاديث من أصح ما يروى في صلاة الكسوف عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت الآثار في صلاة الكسوف عنه كثيرة مختلفة وقد ذكرنا كثيرا منها في التمهيد
فأما أحاديث مالك في هذا الباب فعلى ما ذكرنا تضمنت ركعتين في كل ركعة ركوعان
وبذلك يقول مالك والشافعي وأصحابهما وجمهور أهل الحجاز
وبه قال الليث بن سعد وأحمد بن حنبل وأبو ثور
وقوله في الحديث وهو دون القيام الأول في القيام الثاني من الركعة الأولى فليس فيه ما يحتاج إلى تفسير وكذلك الركوع الثاني في الركعة الأولى دون الركوع الأول فيها ليس في ذلك ما يحتمل تأويلا
وأما قوله في قيام الركعة الثانية وهو دون القيام الأول فيحتمل أن يكون أراد دون الأول في الركعة الأولى فتكون الركعة الأولى قيامها وحده أطول من قيام سائر الصلوات وكذلك ركوعها الأول يحتمل أن يكون دون الأول فيها وكذلك ركوعها الثاني دون الركوع الأول فيها وأي ذلك كان فلا حرج فيه إن شاء الله
وقد زدنا هذا المعنى بيانا في التمهيد
وفيما ذكرنا بعد في القراءة عن مالك والشافعي ما يبين مذهبهما في ذلك
وقال مالك لم أسمع أن السجود يطول في صلاة الكسوف وهو مذهب الشافعي
ورأت فرقة من أهل الحديث تطويل السجود ورواية عن بن عمر
وقال الكوفيون منهم أبو حنيفة والثوري والحسن بن حي صلاة الكسوف كهيئة صلاتنا ركعتان نحو صلاة الصبح ثم الدعاء حتى ينجلي
وهو قول إبراهيم النخعي
وروى محمد قول الكوفيين في صلاة الكسوف عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي بكرة وسمرة بن جندب وعبد الله بن عمر والنعمان بن بشير وقبيصة الهلالي وعبد الرحمن بن سمرة
412

وقد ذكرنا بعضها في التمهيد وهي آثار مشهورة صحاح إلا أن المصير إلى زيادة من حفظ [أولى]
فإن قيل إنه قد روي في صلاة الكسوف عشر ركعات في ركعة وثماني ركعات في ركعة وست ركعات في ركعة وأربع ركعات في ركعة فهلا صرت إلى زيادة من زاد في ذلك قيل له تلك آثار معلولة ضعيفة قد ذكرنا عللها في التمهيد
ومن أحسن حديث ذهب إليه الكوفيون حديث أبي قلابة عن النعمان بن بشير قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكسوف نحو صلاتكم يركع ويسجد ركعتين ركعتين ويسأل حتى تجلت (1)
رواه أيوب السختياني وعاصم الأحول عن أبي قلابة
وقال قبيصة الهلالي عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا انكسفت الشمس أو القمر فصلوا كأحدث صلاة صليتموها مكتوبة (2)
وقد ذكرنا الأسانيد بذلك في التمهيد
وإنما يصير كل عالم إلى ما روى عن شيوخه ورأى عليه أهل بلده وقد يجوز أن يكون ذلك اختلافا بإباحة وتوسعة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الكسوف مرارا فحكى كل ما رأى كل صادق قد جعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كالنجوم فكلهم في النقل من اقتدى به اهتدى
وقد تكلمنا على معنى هذا الحديث في كتاب بيان العلم بما فيه بيان إن شاء الله
وأما ظن من ظن من الكوفيين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن ركوعه ركوعتين في ركعة إلا لرفعه رأسه إلى السماء ليعلم هل تجلت الشمس أم لا فليس ذلك بشيء لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل صلاة الكسوف في صحراء قط فيما علمت وإنما صلاها في المسجد وذلك معلوم منصوص عليه في الآثار الصحاح
وقد ذكر بن أبي شيبة قال حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي عن
413

حسن بن صالح عن عيسى بن أبي عروة قال كسفت الشمس أو القمر فقال الشعبي عليكم بالمسجد فإنه من السنة
وأجمع العلماء على أن صلاة الكسوف ليس فيها أذان ولا إقامة إلا أن الشافعي قال لو نادى مناد لصلاة ليخرج الناس إلى المسجد لم يكن بذلك بأس
واختلفوا في القراءة في صلاة الكسوف فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة والليث بن سعد القراءة فيها سرا
وفي حديث بن عباس في هذا الباب قوله نحو من سورة البقرة دليل على أن القراءة كانت سرا
وروى سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف قال فقام لنا كأطول ما قام بنا قط لا نسمع له صوتا
وروى محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة وعبد الله بن أبي سلمة عن عروة عن عائشة قالت كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج فصلى بالناس فقام فأطال القيام فحزرت أنه قرأ سورة البقرة وساق الحديث قال وسجد سجدتين ثم قام فحزرت قراءته أنه قرأ سورة آل عمران (1)
وقد روي عن بن عباس أنه قال في صلاة الكسوف كنت جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما سمعت منه حرفا (2)
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال صلاة النهار عجماء
وقد روي عن علي رضي الله عنه أنهم حزروا قراءته بالروم ويسن أو العنكبوت
والذي استحب مالك والشافعي أن يقرأ في الأولى بالبقرة وفي الثانية بآل عمران وفي الثالثة بقدر مائة وخمسين آية من البقرة وفي الرابعة بقدر خمسين آية من البقرة وفي كل واحدة أم القرآن
وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن يجهر بالقراءة في صلاة الكسوف
ورووا عن علي بن أبي طالب أنه جهر
ذكره وكيع قال حدثنا سفيان عن الشيباني عن الحكم عن حنش الكناني أن عليا جهر بالقراءة في الكسوف
414

قال وكيع وحدثنا يزيد بن إبراهيم عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في كسوف ركعتين فقرأ في إحداهما بالنجم
قال وكيع وحدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع عن الماجشون قال سمعت أبان بن عثمان قرأ في الكسوف * (سأل سائل) * [المعارج 1]
قال أبو بكر حدثنا حميد بن عبد الرحمن عن حسن بن صالح عن عبد الله بن عيسى قال صلى بنا عبد الرحمن بن أبي ليلى حين انكسف القمر مثل صلاتنا هذه في رمضان
فقرأ في أول ركعة ب يس
ورووا عن زيد بن أرقم والبراء بن عازب وعبد الله بن يزيد الخطمي أنهم جهروا بالقراءة في الكسوف
وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه واحتجا بحديث سفيان بن حسين عن الزهري عن عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر بالقراءة في صلاة كسوف الشمس
وسفيان بن حسين ليس بالقوى
وقد تابعه على ذلك عن الزهري عبد الرحمن بن نمر وسليمان بن كثير
وكلهم لين الحديث في الزهري
وقد تقدم حديث بن إسحاق عن هشام بن عروة وعبد الله بن أبي سلمة عن عروة عن عائشة بما يعارض حديث سفيان بن حسين ومن تابعه ويدفعه
ومن حجة من قال بالجهر في صلاة الكسوف إجماع العلماء على أن كل صلاة سنتها أن تصلى في جماعة من الصلوات المسنونات فسنتها الجهر كالعيدين والاستسقاء قالوا فكذلك الكسوف
قال الطبري إن شاء جهر في صلاة الكسوف وإن شاء أسر وإن شاء قرأ في كل ركعة مرتين وركع فيها ركوعين وإن شاء أربع قراءات وركع أربع ركعات وإن شاء ثلاث ركعات في كل ركعة وإن شاء ركعتين كصلاة النافلة
قال أبو عمر أحسن أبو جعفر رحمه الله
واختلف الفقهاء أيضا في وقت صلاة الكسوف وهل تصلى في كل النهار أم لا فروى بن وهب عن مالك قال لا تصلى الكسوف إلا في حين تجوز فيه الصلاة النافلة فإن كسفت في غير حين صلاة لم يصلوا فإن جاز وقت الصلاة ولم تنجل صلوا فإن تجلت قبل ذلك لم يصلوا
415

وروى بن القاسم عنه قال لا أرى أن تصلى الكسوف بعد الزوال وإنما سنتها أن تصلى ضحى إلى الزوال
وقال الليث بن سعد تصلى الكسوف نصف النهار لأن نصف النهار لا يكاد يثبت لسرعة الشمس
قال الليث حججت سنة ثلاث عشرة ومائة وعلى الموسم سليمان بن هشام وبمكة عطاء بن أبي رباح وبن أبي مليكة وبن شهاب وعكرمة بن خالد وعمرو بن شعيب وقتادة وأيوب بن موسى وإسماعيل بن أمية فكسفت الشمس بعد العصر فقاموا قياما يدعون الله في المسجد فقلت لأيوب بن موسى ما لهم لا يصلون فقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم في الكسوف فقال النهي جاء في الصلاة بعد العصر فلذلك لا يصلون والنهي يقطع الأمر
وقال أبو حنيفة وأصحابه والطبري لا تصلى صلاة الكسوف في الأوقات المنهي عنها
وقال الشافعي تصلى صلاة الكسوف في كل وقت نصف النهار وبعد العصر وهو قول أبي ثور
وحجتهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينه عن الصلاة بعد العصر والصبح إلا عن النافلة المبتدأة لا عن المكتوبات ولا عن الصلوات المسنونات
وقد تقدم هذا المعنى واضحا في باب الأوقات
وقال إسحاق تصلى صلاة الكسوف في كل وقت إلا في حين طلوع الشمس وغروبها
وقال إسحاق في صلاة الكسوف إن شاء أربع ركعات في ركعتين وإن شاء ست ركعات في ركعتين كل ذلك مؤتلف يصدق بعضه بعضا لأنه إنما كان يزيد في الركوع إذا لم ير الشمس قد تجلت فإذا تجلت سجد
قال ولا يزاد على هذه الركعات لأنه لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أكثر من ذلك
واختلفوا أيضا في صلاة كسوف القمر
فقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما لا يجمع في صلاة كسوف القمر ولكن يصلي الناس أفرادا ركعتين ركعتين كسائر الصلوات
والحجة لهم قوله صلى الله عليه وسلم صلاة المرء في بيته أفضل إلا المكتوبة (1) وخص صلاة
416

كسوف الشمس بالجمع لها ولم يفعل ذلك في صلاة القمر فخرجت صلاة كسوف الشمس بدليلها وما ورد من التوقيت فيها وبقيت صلاة القمر على أصل ما عليه النوافل
وقال الليث بن سعد لا يجمع في صلاة القمر ولكن الصلاة فيها كهيئة الصلاة في كسوف الشمس
وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة ذكره بن وهب عنه وقال ذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا رأيتم ذلك فادعوا إلى الصلاة
وقال الشافعي أصحابه وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود والطبري وسائر أهل الحديث في كسوف القمر كهي في كسوف الشمس سواء
وهو قول الحسن وإبراهيم وعطاء
وحجتهم في ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله عز وجل
قال الشافعي رحمه الله فكان الذكر الذي فزع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عند كسوف الشمس هي الصلاة المذكورة فكذلك خسوف القمر تجمع الصلاة لخسوفه كهي عند كسوف الشمس لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جمع بينهما في الذكر وقال صلى الله عليه وسلم إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت
أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فصلوا وادعوا وفي حديث آخر فصلوا حتى يكشف ما بكم وفي حديث آخر فافزعوا إلى الصلاة
وقد عرفنا كيف الصلاة عند إحداهما فكان دليلا على الصلاة عند الأخرى
قال أبو عمر روي عن عثمان بن عفان وبن عباس أنهما صليا في [خسوف] القمر جماعة ركعتين في كل ركعة ركوعان مثل قول الشافعي
واختلفوا أيضا في الخطبة بعد صلاة الكسوف
فقال الشافعي ومن اتبعه وهو قول إسحاق والطبري يخطب بعد الصلاة في الكسوف كالعيدين والاستسقاء
واحتج الشافعي بحديث مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في حديث الكسوف وفيه ثم انصرف وقد تجلت الشمس فخطب الناس فحمد الله
417

وأثنى عليه ثم قال إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته الحديث وبه احتج كل من رأى الخطبة في الكسوف
وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما لا خطبة في كسوف الشمس
واحتج بعضهم في ذلك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خطب الناس لأنهم قالوا إن الشمس كسفت لموت إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم فلذلك خطبهم يعرفهم أن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته
وكان مالك والشافعي لا يريان الصلاة عند الزلزلة ولا عند الظلمة والريح الشديد
ورآها جماعة من أهل العلم منهم أحمد وإسحاق وأبو ثور
وروي عن بن عباس أنه صلى في الزلزلة
وقال بن مسعود إذا سمعتم هادا من السماء فافزعوا إلى الصلاة
وقال أبو حنيفة من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج
قال أبو عمر لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه صحيح أن الزلزلة كانت في عصره ولا صحت عنه فيها سنة وقد كانت أول ما كانت في الإسلام على عهد عمر فأنكرها وقال أحدثتم والله لئن عادت لأخرجن من بين أظهركم
رواه بن عيينة عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن صفية قالت زلزلت المدينة على عهد عمر حتى اصطكت السور فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال ما أسرع ما أحدثتم والله لئن عادت لأخرجن من بين أظهركم
وروى حماد بن سلمة عن عبد الله بن الحارث قال زلزلت الأرض بالبصرة فقال بن عباس والله ما أدري أزلزلت الأرض أم بي أرض فقام بالناس فصلى مثل صلاة الكسوف
وأما قوله صلى الله عليه وسلم في حديث مالك رأيناك تكعكعت فمعناه عند أهل اللغة احتبست وتأخرت
وقال الفقهاء معناه تقهقرت
والمعنى واحد متقارب
وقال متمم بن نويرة
(ولكنني أمضي على ذاك مقدما
* إذا بعض من لاقى الرجال تكعكعا
418

وأما قوله صلى الله عليه وسلم إني رأيت الجنة ورأيت النار فإن الآثار في رؤيته لهما كثيرة وقد رآهما مرارا على ما جاءت عنه الآثار عنه صلى الله عليه وسلم وعند الله علم كيفية رؤيته لهما
فيمكن أن يتمثلا له فينظر إليهما بعيني وجهه كما مثل له بيت المقدس حين كذبه الكفار في الإسراء فنظر إليه وجعل يخبرهم عنه
وممكن أن يكون ذلك برؤية القلب قال الله عز وجل " وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين " [الأنعام 75]
واختلف أهل التفسير في تأويل ذلك
فقال مجاهد فرجت له السماوات فنظر إلى ما فيهن حتى انتهى بصره إلى العرش وفرجت له الأرضون السبع فنظر إلى ما فيهن
ذكره حجاج عن بن جريج قال أخبرني القاسم بن أبي بزة عن مجاهد
وذكر معمر عن قتادة قال ملكوت السماوات الشمس والقمر والنجوم وملكوت الأرض الجبال والشجر والبحار
والظاهر في حديث مالك في هذا الباب أنه رأى الجنة والنار رؤية عين والله أعلم وتناول من الجنة عنقودا على حسب ما جاء في الحديث ويؤيد ذلك قوله فلم أر كاليوم منظرا قط وحق النظر إذا أطلقوا الرؤية إلا أن يتعدى بهما رؤية العين إلا بدليل لا يحتمل تأويلا
وفي ذلك دليل أيضا على أن الجنة والنار مخلوقتان
وقد أوردنا في التمهيد من الآثار الدالة على ذلك الشاهدة به ما فيه كفاية
وأما قوله اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها المساكين واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء فإنه قد روي عنه صلى الله عليه وسلم هذا المعنى من وجوه شتى متواترة
منها حديث أسامة بن زيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قمت على باب الجنة فإذا عامة من دخلها المساكين وإذا أصحاب الجد محبوسون إلا أصحاب النار فقد أمر بهم إلى النار وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء (1)
وهذا أثبت ما يروى من الآثار
419

وقد ذكرنا إسناده في التمهيد
وأما قوله قالوا لم يا رسول الله قال بكفرهن قيل أيكفرن بالله قال ويكفرن العشير ويكفرن الإحسان
فهكذا رواية يحيى ويكفرن العشير بالواو والمحفوظ فيه عن مالك من رواية بن القاسم والقعنبي وبن وهب وعامة رواة الموطأ قال يكفرن العشير بغير واو وهو الصحيح في الرواية والظاهر من المعنى
وأما رواية يحيى فالوجه فيها والله أعلم أن يكون السائل لما قال أيكفرن بالله لم يجبه على قوله ذلك جوابا مكشوفا لإحاطة العلم أن من النساء من يكفرن بالله كما من الرجال من يكفر بالله فكأنه قال ومع إيمانهن بالله يكفرن العشير والإحسان ولم يجاوبه عن كفرهن بالله لأنه قصد إلى غير ذلك
ألا ترى قوله للنساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار (1)
وقد ذكرنا الحديث بذلك في التمهيد
وأما قوله يكفرن العشير ويكفرن الإحسان فالعشير في هذا الموضع عند أهل العلم الزوج
والمعنى عندهم في ذلك كفر النساء لحسن معاشرة الزوج ثم عطف على ذلك كفرهن بالإحسان جملة في الزوج وغيره
وقال أهل اللغة الخليط من المعاشرة والمخالطة
ومنه قول الله عز وجل * (لبئس المولى ولبئس العشير) * [الحج 13]
قال الشاعر
(فتلك التي لم يشكها في خليفة
* عشير وهل يشكو الكريم عشير) وقال آخر
(سلا هل قلاني من عشير صحبته
* وهل ذم رحلي في الرفاق دخيل) وقد ذكرنا في التمهيد من طرق قوله صلى الله عليه وسلم لا ينظر الله عز وجل إلى امرأة لا تعرف حق زوجها ولا شكره وهي لا تستغني عنه
420

والأحاديث في هذا المعنى كثيرة
وأما قوله صلى الله عليه وسلم في حديث يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة عائذا بالله من عذاب القبر فكثيرا ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ من عذاب الله ومن فتنة القبر وأهل السنة والجماعة مصدقون بفتنة القبر وعذاب القبر لتوافر الأخبار بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم
وقد أثبتنا منها في التمهيد بما فيه شفاء والحمد لله
وأما قوله خسفت الشمس فالخسوف عند أهل اللغة ذهاب لونها
وأما الكسوف فتغير لونها
قالوا يقال بئر خسيف إذا ذهب ماؤها وفلان كاسف اللون أي متغير اللون إلى الصفرة
وقد قيل الكسوف والخسوف بمعنى واحد
((2 باب ما جاء في صلاة الكسوف))
417 ذكر فيه مالك عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر الصديق أنها قالت أتيت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين خسفت الشمس فإذا الناس قيام يصلون وإذا هي قائمة تصلي فقلت ما للناس فأشارت بيدها نحو السماء وقالت سبحان الله فقلت آية فأشارت برأصها أن نعم [قالت فقمت حتى تجلاني (1) الغشي وجعلت أصب فوق رأسي الماء فحمد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأثنى عليه ثم قال ما من شيء كنت لم أره إلا قد رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار ولقد أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور مثل أو قريبا من فتنة الدجال (لا أدري أيتهما قالت أسماء) يؤتى أحدكم فيقال له ما علمك بهذا الرجل فأما المؤمن أو الموقن (لا أدري أي ذلك قالت أسماء) فيقول هو محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى فأجبنا وآمنا واتبعنا فيقال له نم صالحا قد علمنا إن كنت لمؤمنا وأما المنافق أو المرتاب (لا أدري أيتهما قالت أسماء) فيقول لا
421

أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته]
فيه من الفقه أن كسوف الشمس يصلى له وقد تقدم بيان ذلك والحمد لله
وفيه أن الشمس إذا كسفت بأقل شيء منها وجبت الصلاة لذلك على سنتها
ألا ترى إلى قول أسماء ما للناس وأشارت لها عائشة بيدها نحو السماء فلو كان كسوفا بينا ما خفي عن أسماء ولا غيرها حتى تحتاج أن يشار إلى السماء وقد استدل على هذا الحديث بعض أصحابنا في سر القراءة في صلاة الكسوف
وفيه أن المصلي إذا كلم أشار وسبح ولم يتكلم لأن الكلام ممنوع منه في الصلاة
وفيه أن النساء يسبحن إذا نابهن شيء في الصلاة
وذلك حجة لمالك على من قال إن سنتهن التصفيق
وقد مضى قوله صلى الله عليه وسلم من نابه شيء في صلاته فليسبح فإنما التصفيق للنساء (1)
وقوله صلى الله عليه وسلم التسبيح للرجال والتصفيق للنساء (2) في بابه من هذا الكتاب
وفيه أن إشارة المصلي برأسه وبيده لا بأس بها
وأما قولها فقمت حتى تجلاني الغشي بمعنى أنها قامت حتى غشي عليها
وفي ذلك دليل على طول القيام في صلاة الكسوف
وأما قوله فحمد الله وأثنى عليه فذلك كان بعد الفراغ من الصلاة
وقد تقدم في الباب قبل هذا اختلاف الفقهاء في الخطبة بعد صلاة الكسوف
ومضى القول في رؤيته للجنة والنار بما يغني عن إعادته
422

وأما قوله إنكم تفتنون في قبوركم فإنه أراد فتنة الملكين منكر ونكير حين يسألان العبد من ربك وما دينك ومن نبيك فالآثار بذلك متواترة وأهل السنة والجماعة وهم أهل الحديث والرأي في أحكام شرائع الإسلام كلهم مجمعون على الإيمان والتصديق بذلك إلا أنهم لا يتكلفون فيه شيئا ولا ينكره إلا أهل البدع
روى شعبة عن علقمة بن مرثد عن سعد بن عبيدة عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى " يثبت الله الذين ءامنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الأخرة " [إبراهيم 27] قال في القبر إذا سئل من ربك وما دينك ومن نبيك ورواه الأعمش عن سعد بن عبيدة عن البراء موقوفا
وفي الحديث الطويل حديث الأعمش ويونس بن جناب عن بن عمر وعن زاذان عن البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم صفة المؤمن من يعاد روحه إلى جسده وأنه يسمع خفق نعال أصحابه إذا ولوا عنه ويدخل عليه ملكان فيقولان له ما دينك فيقول الإسلام فيقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل فيقول وأي رجل فيقولان محمد فيقول أشهد أنه رسول الله فينهرانه ويقولان له ما يدريك فيقول إني قرأت كتاب الله فصدقت به وآمنت قال فهي آخر فتنة تعرض على المؤمن وذلك قول الله عز وجل " يثبت الله الذين ءامنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الأخرة * (1) [إبراهيم 27] وذكر الحديث
وفيه في المنافق فينهرانه انتهارا شديدا ويقولان من ربك وما دينك ومن نبيك فيقول لا أدري فيقولان لا دريت ولا تليت (2) وساق تمام الخبر
وقد ذكرناه في التمهيد إلى آثار ثابتة صحاح وردت بمعناه والآثار الواردة أيضا بأن اليهود تعذب في قبورها
423

كل ذلك ذكرناه هناك وأوضحنا الفرق بين عذاب القبر وفتنة القبر وأن الفتنة للمؤمن والعذاب للمنافق والكافر وأوردنا فيه من الآثار ما بان به ذلك والحمد لله
وللفتنة وجوه في اللغة مذكورة هناك أيضا
وفي قوله في حديث مالك مثل أو قرب من فتنة الدجال على أنهم كانوا يراعون الألفاظ في الحديث المسند وقد أفردنا لهذا المعنى بابا في كتاب بيان العلم وفضله وذكرنا اختلاف العلماء في ذلك
وأما مالك فكان لا يجيز الإخبار بالمعاني في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن قدر على الإتيان بالألفاظ
روى الحارث بن مسكين عن يوسف بن عمرو عن بن وهب قال سمعت مالكا سئل عن المسائل إذا كان المعنى واحدا والكلام مختلفا فقال لا بأس به إلا الأحاديث التي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأما قوله وأما المنافق والمرتاب فإنما هو شك من المحدث
وكذلك قالت فاطمة بنت المنذر لا أدري أي ذلك قالت أسماء
والمنافق كافر أظهر الإيمان واعتقد الكفر والمرتاب الشاك
424

((13 كتاب صلاة الاستسقاء))
((1 باب العمل في الاستسقاء))
418 مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه سمع عباد بن تميم يقول سمعت عبد الله بن زيد المازني يقول خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى فاستسقى وحول رداءه حين استقبل القبلة
هكذا روى مالك هذا الحديث بهذا الإسناد وهذا اللفظ لم يذكر فيه الصلاة لم يختلف رواة الموطأ في ذلك عليه فيما علمت إلا أن إسحاق بن عيسى روى هذا الحديث عن مالك فزاد فيه إن رسول ا لله صلى الله عليه وسلم بدأ بالاستسقاء في الصلاة قبل الخطبة ولم يقل حول رداءه
ذكره النسائي في مسند حديث مالك عن زكريا بن يحيى عن مروان بن عبد الله عن إسحاق ولم يقل ذلك عنه أحد فيما علمت غيره
ورواه سفيان بن عيينة عن عبد الله بن أبي بكر فذكر فيه الصلاة
ورواه بن شهاب وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عباد بن تميم عن عمه عبد ا لله بن زيد عن عاصم الأنصاري المازني وذكرا فيه الصلاة
وقد ذكرنا الأحاديث بذلك من طرق في التمهيد
وليس في تقصير من قصر عن ذكر الصلاة حجة على من ذكرها والحجة في
425

قول من أثبت وحفظ ومن أحسن الناس سياقة لهذا الحديث الزهري
حدثنا عبد الله بن محمد قال أخبرنا محمد بن بكير قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن الزهري عن عباد بن تميم عن عمه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يستسقي فاستقبل القبلة فصلى بهم ركعتين جهر فيهما بالقراءة وحول رداءه ورفع يديه واستسقى واستقبل القبلة
وحدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بن وضاح قال حدثنا أبو بكر قال حدثنا يزيد بن هارون عن بن أبي ذئب عن الزهري عن عباد بن تميم عن عمه قال شهدت النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي فاستقبل القبلة وولى ظهره الناس وحول رداءه وصلى ركعتين وجهر بالقراءة
أخبرنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا سفيان عن عبد الله بن أبي بكر عن عباد بن تميم عن عمه أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى وصلى ركعتين وقلب رداءه
وأخبرنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا عمرو بن علي قال حدثنا يحيى بن سعيد وهو ا لقطان عن يحيى بن سعيد وهو الأنصاري عن أبي بكر بن محمد بن عباد بن تميم عن عمه عبد الله بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يستسقي فصلى ركعتين واستقبل القبلة
وقال أبو عمر أجمع العلماء على أن الخروج للاستسقاء والبروز عن المصر والقرية إلى الله عز وجل بالدعاء والضراعة في نزول الغيث عند احتياجه سنة مسنونة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعملها الخلفاء بعده
واختلفوا في الاستسقاء في الصلاة
فقال أبو حنيفة ليس في الاستسقاء صلاة ولكن يخرج الإمام بالناس ويدعون الله عز وجل
وروي ذلك عن طائفة من التابعين منهم إبراهيم النخعي وغيره
ذكر أبو بكر قال حدثنا جرير بن المغيرة عن أسلم العجلي قال خرج أناس يستسقون وخرج إبراهيم معهم فلما فرغوا قاموا يصلون فرجع إبراهيم ولم يصل معهم
426

وحجتهم حديث مالك وما كان مثله لم يذكروا فيه الصلاة
منها ما ذكره أبو بكر قال حدثنا يعلى بن عبيد عن يحيى بن سعيد عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى يستسقي فلما دعا يستقبل القبلة وحول رداءه لم يذكر صلاة مثل حديث مالك سواء
واحتجوا أيضا بأن عمر بن الخطاب خرج يستسقي فلم يصل
ذكره أبو بكر قال حدثنا وكيع عن عيسى بن حفص بن عاصم عن عطاء بن أبي مروان الأسلمي عن أبيه قال خرجنا مع عمر بن الخطاب نستسقي فما زاد على استسقاء
وقال حدثنا وكيع عن مطرف بن طريف عن الشعبي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج يستسقي فصعد المنبر فقال استغفروا الله ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا واستغفروا ربكم إنه كان غفارا ثم نزل فقالوا يا أمير المؤمنين لو استسقيت فقال لقد طلبته بمجاديح السماء (1) الذي ينزل فيها القطر
وروى سفيان بن عيينة قال حدثنا مطرف بن طريف عن الشعبي أن عمر خرج يستسقي بالناس فلم يزد على الاستغفار حتى رجع فقالوا ما رأيناك استسقيت فقال عمر لقد طلبت المطر بمجاديح السماء التي ينزل بها القطر ثم قرأ * (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا) * [نوح 10 11]
قال أبو عمر ليس في هذا الحديث عن عمر أنه لم يصل ولا أنه لم ير الصلاة وإنما فيه صفة الدعاء في الاستسقاء وليس من لم يشهر حجة على من شهر وحفظ وقد روي عن عمر أنه خطب في الاستسقاء قبل الصلاة
وقال أبو يوسف ومحمد ومالك والشافعي وسائر فقهاء الأمصار صلاة الاستسقاء سنة ركعتان يجهر فيهما بالقراءة
وقال الليث بن سعد الخطبة في الاستسقاء قبل الصلاة
وقاله مالك ثم رجع عنه إلى أن الخطبة بعد الصلاة كالعيدين وعليه جماعة الفقهاء
427

وقال مالك والشافعي يخطب الإمام بعد الصلاة خطبتين يفصل بينهما بالجلوس
وقال أبو يوسف ومحمد يخطب خطبة واحدة
وقال عبد الرحمن بن مهدي يخطب خطبة خفيفة يعظهم ويحثهم على الخير
وقال الطبري إن شاء خطب واحدة وإن شاء اثنتين
وقال الشافعي والطبري يكبر في صلاة الاستسقاء كما يكبر في صلاة العيد
وهو قول بن عباس وسعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم
وقال داود إن شاء كبر كما يكبر في العيدين وإن شاء كبر تكبيرة واحدة كما يكبر في سائر الصلوات تكبيرة واحدة للافتتاح
وقد روى عن أحمد بن حنبل مثل قول الشافعي
وحجة من قال التكبير فيها كالتكبير في صلاة العيد حديث بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فيها ركعتين كما يصلي في العيد (1)
وقد ذكرناه بإسناده وتمام ألفاظه في التمهيد
وليس عندي فيه حجة من جهة الإسناد ولا من جهة المعنى لأنه يمكن أن يكون التشبيه فيه بصلاة العيدين من جهة الخطبة إلا أن بن عباس رواه وعمل بالتكبير كصلاة العيد بمعنى ما روى وقد تابعه من ذكرنا معه
وقال الشافعي ومالك وأصحابهما يحول الإمام رداءه عند فراغه من الخطبة يجعل اليمين على الشمال وما على الشمال على اليمين ويحول الناس أرديتهم إذا حول الإمام رداءه كما حول الإمام
هذا قول الشافعي بالعراق وقال بمصر ينكس الإمام رداءه فيجعل أعلاه أسفله ويجعل ما منه على منكبه الأيمن على منكبه الأيسر
428

قال وإن جعل ما على يمينه على يساره ولم ينكبه أجزأه
وقال الليث بن سعد يحول الإمام رداءه ولا يحول أرديتهم وهو قول محمد بن الحسن وكذلك قال أبو يوسف إلا أنه قال يحوله الإمام إذا مضى صدر من الخطبة
وقال الشافعي يحول رداءه وهو مستقبل القبلة في الخطبة الثانية عند فراغه منها أو قرب ذلك ويحول الناس
قال أبو عمر قوله في الحديث وحول رداءه يقتضي ما عليه جمهور الفقهاء من تحويل ما على اليمين منه على الشمال
وقد روي ذلك منصوصا عن النبي صلى الله عليه وسلم
أخبرنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان قال حدثنا يحيى بن سعيد والمسعودي عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عباد بن تميم عن عمه عبد الله بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج إلى المصلى يستسقي فاستقبل القبلة وقلب رداءه وصلى ركعتين (1) وزاد المسعودي قلت لأبي بكر أجعل الشمال على اليمين أم جعل أعلاه أسفله قال بل جعل الشمال على اليمين واليمين على الشمال
وأما الذي ذهب إليه الشافعي فإنما يوجد في حديث عمارة بن غزية عن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد قال استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه خميصة له سوداء فأراد أن يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها فلما ثقلت عليه قلبها على عاتقه (2)
ففي هذا الحديث دليل على أن الخميصة لو لم تثقل عليه لنكسها وجعل أعلاها أسفلها
ذكره الشافعي عن الدراوردي عن عمارة بن غزية
وذكره أبو داود عن قتيبة بن سعيد عن الدراوردي
ولا أعلم خلافا أن الإمام يحول رداءه وهو قائم ويحول الناس وهم جلوس
والخروج إلى الاستسقاء وقت خروج الناس إلى العيد عند جماعة العلماء إلا أبا
429

بكر بن محمد بن عمرو بن حزم فإنه قال الخروج إليها عند زوال الشمس
واختلف العلماء في خروج أهل الذمة إلى الاستسقاء فأجاز ذلك بعضهم وممن أجازه مالك وبن شهاب ومكحول
وقال بن المبارك إن خرجوا عزل بهم عن مصلى المسلمين
وقال إسحاق لا يؤمروا بالخروج إلا ينهوا عنه
وكرهت طائفة من أهل العلم خروجهم إلى الاستسقاء منهم أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما
قال الشافعي فإن خرجوا متميزين لم أمنعهم
وقال محمد بن الحسن لا يتقرب إلى الله عز وجل ويرجى ما عنده من الخير بدعاء أهل الكفر
وكلهم كره خروج النساء الشواب إلى الاستسقاء ورخصوا في خروج العجائز
ولم يختلفوا في الجهر في صلاة الاستسقاء
وقال مالك لا بأس أن يستسقى في العام الواحد مرة أو مرتين إذا احتاجوا إلى ذلك
وقال الشافعي إن لم يسقوا ذلك أحببت أن يتابع الاستسقاء ثلاثة أيام يصنع في كل منها كما صنع في الأول
وقال إسحاق لا يخرجون إلى الجبان إلا مرة واحدة ولكن يجتمعون في مساجدهم فإذا فزعوا من الصلاة ذكروا الله عز وجل ودعوا أو يدعو الإمام يوم الجمعة على المنبر ويؤمن الناس
((2 باب ما جاء في الاستسقاء))
419 ذكر فيه عن يحيى بن سعيد عن عمرو بن شعيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اللهم اسق عبادك وبهيمتك وانشر رحمتك وأحي بلدك الميت
قد ذكرنا معنى هذا الحديث متصلا في التمهيد
وإنما فيه ضرب من الدعاء في الاستسقاء والدعاء في ذلك كثير مختلف
430

الألفاظ متفق المعاني في الرغبة والضراعة إلى الله عز وجل في فضله وغوث عباده برحمته
وإنما ذكر مالك هذا الباب بعد الذي قبله لأنه أفرد الأول بسنة الاستسقاء من الصلاة وغيرها على حسب ما أوردنا فيه وأفرد هذا بمعنى الدعاء لأن الاستسقاء هو طلب الماء من الله تعالى والدعاء إليه فيه
ومن أحسن ما روي في ذلك حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعا في الاستسقاء فقال اللهم اسقينا غيثا مغيثا مريئا مريعا نافعا غير ضار عاجلا غير آجل قال فأطبقت عليهم السماء (1)
وحديث بن عباس قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله لقد جئتك من عند قوم ما يتزود لهم راع ولا يخطر لهم فحل فصعد المنبر فحمد الله ثم قال اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريعا مريئا طبقا غدقا عاجلا غير رائت ثم نزل فما يأتيه أحد من وجه من الوجوه إلا قال قد أحييتنا
وقد ذكرنا أسانيد هذين الحديثين في التمهيد
وروى بن لهيعة عن عقيل عن بن شهاب عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قضى صلاته في الاستسقاء استقبل القوم بوجهه وقلب رداءه ثم جثى على ركبتيه ورفع يديه وكبر تكبيرة قبل أن يستسقي ثم قال اللهم اسقنا وأغثنا الله اسقنا غيثا مغيثا رحبا ربيعا وجدا طبقا غدقا مغدقا مريعا عاما هنيئا مريئا مربعا وابلا شاملا مسبلا نجلا دائما دررا نافعا غير ضار عاجلا غير رائث تحيي به البلاد وتغيث به العباد وتجعله بلاغا للحاضر منا والباد اللهم أنزل علينا في أرضنا زينتها وسكنها وأنزل علينا من السماء ماء طهورا تحيي به بلدا ميتا وأناسي كثيرا
وروى سفيان بن عيينة عن عمر بن سعيد أخي سفيان بن منصور بن المعتمر عن سالم بن أبي الجعد قال قام رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنك دعوت على مضر بالسنة فما يغط لهم بعير فقال صلى الله عليه وسلم اللهم اسقنا غيثا مغيثا هنيئا مريعا طيعا مجللا عاجلا غير رائت نافعا غير ضار فما مضى ذلك اليوم حتى مطروا فما مضت السابعة حتى أعطنوا في العشب
431

420 وأما حديث مالك عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أنس قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هلكت المواشي (1) [وتقطعت السبل (2) فادعوا الله فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة قال فجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله تهدمت البيوت (3) وانقطعت السبل (4) وهلكت المواشي (5) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم ظهور الجبال (6) والآكام (7) وبطون الأودية (8) ومنابت الشجر (9) قال فانجابت عن المدينة انجياب الثوب] (10)
فقد روي عن أنس من وجوه كثيرة بمعان متفاوتة حسان قد ذكرنا بعضها في التمهيد
ومن أكملها معنى وأحسنها ألفاظا وسياقه حديث مسلم الملائي عن أنس قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله لقد أتيناك وما لنا بعير يثط ولا صبي يصطبح وأنشد
(أتيناك والعذراء يدمى لبانها
* وقد شغلت أم الصبي عن الطفل
432

(وألقى بكفيه الفتى استكانة
* من الجوع ضعفا ما يمر وما يحلي)
(ولا شيء مما يأكل الناس عندنا
* سوى الحنظل العامي والعلهز الفسل)
(وليس لنا إلا إليك فرارنا
* وأين فرار الناس إلا إلى الرسل) قال صاحب العين العلهز اسم للنرجس ويقال للياسمين
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يجر رداءه حتى صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ورفع يديه إلى السماء فقال اللهم اسقنا غيثا مريعا غدقا طبقا عاجلا غير رائت نافعا
غير ضار تملأ به الضرع وتنبت به الزرع وتحيي به الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون
قال فما رد رسول الله يديه إلى نحره حتى التقت السماء بأرواقها وجاء أهل البطانة يضجون يا رسول الله الغرق الغرق فرفع يده إلى السماء وقال اللهم حوالينا ولا علينا فانجاب السحاب عن المدينة حتى أحدق بها كالإكليل فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ثم قال لله أبو طالب لو كان حيا قرت عيناه من الذي ينشدنا قوله فقام علي بن أبي طالب فقال يا رسول الله كأنك أردت قوله
(وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
* ثمال اليتامى عصمة للأرامل (1))
يلوذ به الهلاك من آل هاشم
* فهم في نعمة وفواضل)
(كذبتم وبيت الله يبزى محمد
* ولما نقاتل دونه ونناضل)
(ونسلمه حتى نصرع حوله
* ونذهل عن أبنائنا والحلائل) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل فقام رجل من كنانة فقال
(لك الحمد ممن شكر
* سقينا بوجه النبي المطر (2)) فذكر الأبيات على حسب ما كتبتها في التمهيد
433

وقد روى حديث أنس هذا عنه ثابت البناني وحميد الطويل وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ليس في حديث واحد شيء من الشعر وإنما هي على نحو حديث مالك
وروى الليث بن سعد هذا الحديث عن سعيد المقبري عن شريك بن أبي نمر عن أنس قال بينا نحن في المسجد يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب قام رجل فقال يا رسول الله تقطعت السبل وهلكت الأموال وأجدبت البلاد فادع الله أن يسقينا فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه حذاء وجهه وقال اللهم اسقنا وذكر نحو حديث مالك إلا أنه قال حوالينا ولا علينا ولكن الجبال ومنابت الشجر فتفرق السحاب فما نرى منه شيئا (1)
وأما قوله في حديث مالك والآكام فهي الكدى والجبال من التراب وهي جمع أكمه مثل رقبة ورقاب وعتبة وعتاب وقد تجمع على آكام مثل آجام
ومنابت الشجر مواضع المرعى حيث ترعى البهائم
وانجياب الثوب انقطاع الثوب يعني الخلق يقول صارت السحابة قطعا وانكشفت عن المدينة كما ينكشف الثوب عن الشيء يكون عليه
وفي الحديث أيضا ما يدل على الدعاء في الاستصحاء عند نوال الغيث كما يستسقى عند احتباسه
وينبغي لمن استصحا أن لا يدعو في رفع الغيث جملة [ولكن] اقتداء بالنبي عليه السلام وما أدب به أمته في ذلك بقوله اللهم حوالينا ولا علينا ثم بين ذلك بقوله منابت الشجر وبطون الأودية يعني حيث لا يخشى هدم بيت ولا هلاك حيوان ولا نبات
وروينا من وجوه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خرج يستسقي فخرج معه العباس فقال اللهم إنا نتقرب إليك بعم نبيك ونستشفع به فاحفظ فينا نبيك كما حفظت الغلامين لصلاح أبيهما وأتيناك مستغفرين مستشفعين ثم أقبل على الناس فقال * (استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا) * إلى قوله " أنهرا " [نوح 10 21] ثم قام العباس وعيناه تنضحان فطال عمر (2) ثم قال اللهم أنت
434

الراعي لا تهمل الضالة (1) ولا تدع الكسير (2) بدار مضيعة (3) فقد ضرع (4) الصغير ورق الكبير (5) وارتفعت إليك الشكوى (6) وأنت تعلم السر وأخفى (7) اللهم فأغثهم (8) بغياثك من قبل أن يقنطوا (9) فيهلكوا فلا ييئس من روح الله (10) إلا القوم الكافرون فنشأت (11) طريرة (12) من سحاب فقال الناس ترون ترون ثم تلاءمت (13) واستتمت (14) ومشت فيها ريح ثم هدت (15) ودرت (16) فوالله ما برحوا حتى اعتقلوا الحذاء (17) وقلصوا المآزر (18) وطفق (19) الناس بالعباس يمسحون أركانه (20) ويقولون هنيئا لك يا أبا الفضل
أخبرنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا الخشني قال حدثنا أحمد بن أبي عمر قال حدثنا بن عيينة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التيمي عن سعيد بن المسيب قال حدثنا من حضر مع عمر بن الخطاب فقال للعباس بن عبد المطلب ماذا بقي من نوء الثريا فقال العباس العلماء يزعمون أنها تعترض في الأفق بعد سقوطها سبعا قال فما مضت سابعة حتى مطروا
وأما قول مالك فيمن فاتته صلاة الاستسقاء وأدرك الخطبة إن شاء صلاها في بيته
435

وإن شاء في المسجد وإن شاء ترك فلأن السنن [لا] تقضى لزاما فتشبه الفرائض وهي فعل خير يخرج من قضاها
((3 باب الاستمطار بالنجوم))
421 مالك عن صالح بن كيسان عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن زيد بن خالد الجهني أنه قال صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل [فلما انصرف أقبل على الناس فقال أتدرون ماذا قال ربكم قالوا الله ورسوله أعلم قال قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي
فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا (1) فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب]
الحديبية موضع معروف في آخر الجبل وأول الحرم وفيه كان الصلح بين قريش وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه كانت بيعة الرضوان تحت الشجرة
وأما قوله على إثر سماء فإنه يعني بالسماء المطر والغيث وهي استعارة حسنة معروفة للعرب
قال حسان بن ثابت
(عفت ذات الأصابع فالجواء
* إلى عذراء منزلها خلاء (2))
ديار من بني الحسحاس قفر
* تعفيها الروامس والسماء) يعني ماء السماء
وقال غيره فأفرط في المجاز وفي الاستعارة
(إذا نزل السماء بأرض قوم
* رعيناه وإن كانوا غضابا
436

وأما قوله صلى الله عليه وسلم حاكيا عن الله عز وجل أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فمعناه عندي على وجهين
(أحدهما) أن القائل مطرنا بنوء كذا أي بسقوط نجم كذا أو بطلوع نجم كذا إن كان يعتقد أن النوء هو المنزل للمطر والخالق له والمنشئ للسحاب من دون الله فهذا كافر كفرا صريحا ينقل عن الملة وإن كان من أهلها استتيب فإن رجع إلى ذلك إلى الإيمان بالله وحده وإلا قتل إلى النار
وإن كان أراد أن الله عز وجل جعل النوء علامة للمطر ووقتا له وسببا من أسبابه كما تحيى بالأرض الماء بعد موتها وينبت به الزرع ويفعل به ما يشاء من خليفته فهذا مؤمن لا كافر ويلزمه مع هذا أن يعلم أن نزول الماء لحكمة الله تعالى ورحمته وقدرته لا بغير ذلك لأنه مرة ينزله بالنوء ومرة بغير نوء كيف يشاء لا إله إلا هو
والذي أحب لكل مؤمن أن يقول كما قال أبو هريرة
مطرنا بفضل الله ورحمته ويتلو الآية إن شاء
روى بن عيينة عن عمرو بن دينار عن بن عباس في قوله عز وجل * (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) * [الواقعة 82] قال ذلك في الأنواء وهو قول جماعة أهل التفسير للقرآن
وروى سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا في بعض أسفاره يقول مطرنا ببعض عثانين الأسد وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبت بل هو سقيا الله عز وجل ورزقه
قال سفيان عثانين الأسد الذراع والجبهة
وروي عن الحسن البصري أنه سمع رجلا يقول طلع سهيل وبرد الليل فكره ذلك وقال إن سهيلا لم يكن قط بحر ولا برد
وكره مالك أن يقول الرجل للغيم والسحابة ما أخلفها للمطر
وهذا من قول مالك مع روايتيه إذا أنشأت بحرية (1) يدل على أن القوم
437

احتاطوا فمنعوا الناس من الكلام بما فيه أدنى متعلق من أمر الجاهلية بقولهم مطرنا بنوء كذا وكذا على ما فسرناه والله أعلم
وقال الشافعي في كتابه المبسوط في حديث النبي صلى الله عليه وسلم حاكيا عن الله عز وجل أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر الحديث
قال هذا كلام عربي محتمل المعاني
وكان صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم وإنما تكلم بهذا الكلام زمن الحديبية بين ظهراني قوم مؤمنين ومشركين فالمؤمن يقول مطرنا بفضل الله ورحمته وذلك إيمان بالله لأنه لا يمطر ولا يعطي ولا يمنع إلا الله وحده لا النوء لأن النوء مخلوق لا يملك لنفسه شيئا ولا لغيره وإنما هو وقت
ومن قال مطرنا بنوء كذا يريد في وقت كذا فهو كقوله مطرنا في شهر كذا وهذا لا يكون كفرا
ومن قال بقول أهل الشرك من الجاهلية الذين كانوا يضيفون المطر إلى النوء أنه أمطره فهذا كفر يخرج من ملة الإسلام
والذي أحب أن يقول الإنسان مطرنا في وقت كذا ولا يقول بنوء كذا وإن كان النوء هو الوقت
قال أبو عمر النوء في كلام العرب واحد أنواء النجوم
وبعضهم يجعله الطالع وأكثرهم يجعله الساقط
وقد سمى منازل القمر كلها أنواء وهي ثمان وعشرون منزلة قد أفردت لذكرها جزءا وقد ذكروا الناس كثيرا
وقد أوضحنا القول في الأنواء في التمهيد
وأما قوله صلى الله عليه وسلم في حديث بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عتاب بن حنين عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لو أمسك الله
القطر على عباده خمس سنين ثم أرسله لأصبحت طائفة من الناس به كافرين يقول مطرنا بنوء المجدح (1) فمعناه كمعنى حديث مالك هذا
وأما المجدح فإن الخليل زعم أنه نجم كانت العرب تزعم أنها تمطر
فيقال أرسلت السماء بمجادح الغيث
438

ويقال مجدح ومجدح بالكسر والضم
حدثنا أحمد بن محمد بن أحمد قال حدثنا أحمد بن الفضل قال حدثنا أحمد بن الحسن قال قال حدثنا يحيى بن معين قال حدثنا يحيى بن زكريا عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ثلاث لن يزلن في أمتي] التفاخر بالأنساب والنياحة والأنواء
يعني النياحة على الموتى والاستمطار بالنجوم
422 وأما حديثه في هذا الباب أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا أنشأت بحرية (1) ثم تشاءمت (2) فتلك عين غديقة (3)
هذا الحديث لا أعرفه بوجه من الوجوه في غير الموطأ ومن ذكره إنما ذكره عن مالك في الموطأ إلا ما ذكره الشافعي في كتاب الاستسقاء عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى عن إسحاق بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا أنشأت بحرية ثم استحالت شامية فهو أمطر لها
وبن أبي يحيى مطعون عليه متروك
وإسحاق بن عبد الله هو بن أبي فروة ضعيف أيضا متروك الحديث
وهذا الحديث لا يحتج به أحد من أهل العلم بالحديث لأنه ليس له إسناد
وقال الشافعي في حديثه هذا بحرية (بالنصب)
كأنه يقول إذا ظهرت السحاب بحرية من ناحية البحر
ومعنى نشأت ظهرت وارتفعت يقال أنشأ فلان يقول كذا إذا ابتدأ قوله وأظهره بعد سكوت وكذلك قولهم أنشأ فلان حائط نخل
ومنه قول الله عز وجل " وله الجوار المنشئات في البحر كالأعلم " [الرحمن 24] أي السفن الظاهرة في البحر كالجبال الظاهر في الأرض
439

وقد قيل أنشأت تمطر أي ابتدأت
ومنه قيل للشاعر أنشأ يقول
وإنما سمى السحابة بحرية لظهورها من ناحية البحر
يقول (إذا طلعت سحابة من ناحية البحر) وناحية البحر بالمدينة الغرب (ثم تشاءمت) أي أخذت نحو الشام والشام من المدينة في ناحية الشمال
يقول إذا مالت السحابة الظاهرة من جهة الغرب إلى الشمال وهو عندنا البحرية ولا تميل كذلك إلا بالريح النكباء التي بين الغرب والجنوب هي القبلة فإنها يكون ماؤها غدقا يعني غزيرا معينا لأن الجنوب تسوقها وتستدرها وهذا معروف عند العرب وغيرهم
قال الكميت
(مرته الجنوب فلما اكفهر
* رحلت عزاليه الشمأل (1)) وأما قوله فتلك عين فالعين مطر أيام لا يقلع
كذلك قال أهل العلم باللغة والخبر
قالوا والعين أيضا ناحية القبلة
والعرب تقول مطرنا بالعين ومن العين إذا كان السحاب ناشئا من ناحية القبلة
وقد قيل إن العين ماء عن يمين قبلة العراق
وغديقة تصغير غدقة والغدقة الكثيرة الماء
قال الله عز وجل * (ماء غدقا) * [الجن 16]
قال كثير
(وتغدق أعداد به ومشارب
*) يقول يكثر المطر عليه
وأعداد جمع عد وهو الماء الغزير وقد يكون التصغير هنا أريد به التعظيم كما قال عمر في بن مسعود كنيف ملئ علما
وقيل إن قول بن عمر كان لصغر قد بن مسعود ولطافة جسمه
440

وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا خرج على العادة المعهودة من حكم الله وفضله لأنه يعلم نزول الغيث حقيقة بشيء من الأشياء قبل ظهور السحاب
وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث بن عمر الخمس التي لا يعلمها إلا الله تعالى وقال * (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام) *
[لقمان 43] (1)
وقد قيل إن هذا الحديث أريد به أن السحابة تحمل الماء من البحر
واحتج قائل هذا بقول أبي ذؤيب الهذلي
(شربن بماء البحر ثم ترفعت
* متى لجج خضر لهن نشيج (2)) وقال الأصمعي الباء في قوله بماء البحر للتبعيض
والذي قدمت لك هو قول أهل العلم والدين وكيف كانت الحال فلا ينزل الغيث من حيث نزل ولا ينشئ السحاب ولا يرسل الرياح إلا الله وحده لا شريك له
441

((14 كتاب القبلة))
((1 باب النهي عن استقبال القبلة والإنسان على حاجة))
((2 باب الرخصة في استقبال القبلة لبول أو غائط))
424 ذكر فيه عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن رافع بن إسحاق مولى لآل الشفاء وكان يقال له مولى أبي طلحة أنه سمع أبا أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمصر يقول والله ما أدري كيف أصنع بهذه الكرابيس (1) وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب أحدكم الغائط أو البول فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها (2) بفرجه
425 وعن نافع عن رجل من الأنصار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تستقبل القبلة لغائط أو بول
قد ذكرنا في التمهيد ما يجب من القول في إسناد هذا الحديث والذي قبله ومع ذلك فهما حديثان ثابتان عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يختلف في ثبوتهما لأنهما رويا من وجوه كثيرة صحاح دون علة وإنما اختلف الفقهاء في نسخهما أو تخصيصهما على ما نوضحه هنا إن شاء الله
وفي حديث أبي أيوب من الفقه استعمال عموم الخطاب على من سمعه في
442

السنة والكتاب لأن أبا أيوب سمع النهي عن استقبال القبلة واستدبارها بالبول والغائط واستعمل ذلك مطلقا عاما في البيوت وغيرها إذ لم يحضر شيء من ذلك في الحديث
ألا ترى أن رواية بن شهاب لهذا الحديث عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي أيوب الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها
قال أبو أيوب فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت قبل القبلة فننحرف ونستغفر الله تعالى (1)
وهذا يجب على كل من بلغه شيء أن يسعمله على عمومه حتى يثبت عنده ما يختص به أو ينسخه
واختلف العلماء في هذه المسألة قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري وهو قول أحمد بن حنبل وأبي ثور لا يجوز استقبال القبلة لغائط أو بول في الصحارى ولا في البيوت ولا في موضع من المواضع
واحتج أحمد وجماعة منهم بحديث أبي أيوب هذا وما كان مثله
وقالوا أبو أيوب أعلم بما روى وقد رواه معه جماعة من ا لصحابة منهم بن مسعود وسهل بن حنيف وأبو هريرة وسلمان وعبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي كلهم روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن استقبال القبلة ببول أو غائط
ورد أحمد بن حنبل حديث جابر وحديث عائشة الواردين عن النبي صلى الله عليه وسلم بالرخصة في هذا الباب وسنذكرهما فيه بعد إن شاء الله
وقال مالك والشافعي وأصحابهما وهو قول بن المبارك وإسحاق بن راهويه أما في الصحارى فلا يجوز استقبال القبلة ولا استدبارها للغائط ولا البول وأما في البيوت فذلك جائز لا بأس به لحديث بن عمر لقد ارتقيت على ظهر بيت
443

لنا فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستقبل القبلة هكذا رواه بن عجلان عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه عن بن عمر
426 ورواه مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان عن بن عمر فقال فيه رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على لبنتين (1) مستقبل بيت المقدس لحاجته
وهكذا [رواه] عبد الوهاب الثقفي ورواه سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد بلفظ حديث مالك ومعناه
ورواه عبيد الله بن عمر عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه عن بن عمر فقال فيه فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا على حاجته مستقبل بيت المقدس مستدبر الكعبة
وقال فيه حفص بن غياث عن عمرو بن سعيد عن محمد بن يحيى عن عمه عن بن عمر متوجها نحو القبلة لم يقل الكعبة ولا بيت المقدس
وقال أحمد بن حنبل في حديث بن عمر هذا إنما نسخ فيه استقبال بيت المقدس واستدباره بالغائط والبول
قال هذا الذي لا أشك فيه وأنا أشك في الكعبة
قال أبو عمر قد قال في حديث بن عمر من لا مدفع لأحد في نقله وهو عبيد الله بن عمر عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان عن بن عمر مستقبل بيت
المقدس مستدبر الكعبة فدل على أن النهي إنما أريد به الصحارى لا البيوت لما في ذلك من الضيق والحرج وما جعل الله في الدين من حرج ومعلوم أن بيت المقدس إنما ذكر في وقت كونه والله أعلم قبلة فالقبلة
444

البيت الحرام كذلك فكيف وفي نقل الثقات الحفاظ مستقبل بيت المقدس مستدبر الكعبة فجاء بالوجهين جميعا
وقد روى حماد بن سلمة وغيره عن خالد بن الصلت عن عراك بن مالك عن عائشة قالت ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم أن قوما يكرهون أن يستقبلوا بفروجهم القبلة فقال فعلوها استقبلوا بمقعدي القبلة (1)
وهذا واضح من خصوص البيوت ومعلوم أن المقاعد لا تكون إلا في البيوت فدل على أن الصحاري عليها حرج النهي خاصة والله أعلم
وقد ذكرنا أسانيد أحاديث هذا الباب كلها في التمهيد
وقد روى مروان الأصفر عن بن عمر أنه رآه أناخ راحلته مستقبل بيت المقدس ثم جلس يبول إليها فقلت يا أبا عبد الرحمن أليس قد نهي عن هذا فقال إنما نهي عن ذلك في الفضاء وإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس (2)
وروى وكيع وعبيد الله بن موسى عن عيسى بن أبي عيسى الخياط وهو عيسى بن ميسرة قال قلت للشعبي إن أبا هريرة يقول لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها وقال بن عمر كانت مني التفاتة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في كنيفه مستقبل القبلة
فقال الشعبي صدق أبو هريرة وصدق بن عمر قول أبي هريرة في البرية وقول بن عمر في الكنيف قال الشعبي فأما كنفكم هذه فلا قبلة لها
هذا حديث وكيع وقد ذكرنا في التمهيد حديث أبي هريرة مسندا وحديث بن عمر من رواية عيسى الحناط (3)
وقالت طائفة من أهل العلم منهم داود ومن اتبعه وهو قول عروة بن الزبير جائز استقبال القبلة للبول والغائط في الصحارى والبيوت
واحتجوا بحديث جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن استقبال القبلة واستدبارها بالبول والغائط قال ثم رأيته بعد ذلك يستقبل القبلة ببوله قبل موته بعام
445

وقد ذكرت إسناد هذا الحديث في التمهيد
قالوا فهذا يبين أن نهيه في ذلك منسوخ وأقل أحوال الآثار في ذلك أن تتعارض فتسقط وأصل الأمور الإباحة حتى يثبت الحظر بما لا معارض له
هذا ما نزع به من ذهب مذهب داود وليس حديث جابر الذي عولوا عليه في النسخ مما يحتج به عند أهل العلم بالنقل ولا مما يعتمد على مثله والله أعلم
وقد أوضحنا هذا المعنى في التمهيد والحمد لله
وكان مجاهد وإبراهيم النخعي ومحمد بن سيرين يكرهون أن تستدبر إحدى القبلتين أو تستقبل لغائط أو بول الكعبة وبيت المقدس
وهؤلاء غاب عنهم وخفي عليهم ما علمه غيرهم وبالله التوفيق
قال أبو عمر من الدليل على أن نهيه صلى الله عليه وسلم استقبال القبلة بالبول والغائط إنما عنى به الصحارى والفضاء والفيافي دون كنف البيوت
قوله في حديث عائشة استقبلوا بمقعد القبلة والمقعد لا يكون إلا في البيوت
ومثل هذا حديث بن عمر كان منه بالمدينة رآه على سطح أشرف عليه منه فرآه على لبنتين يقضي حاجته إلى ناحية القبلة
ويدل أيضا على ذلك أن متبرز القوم إنما كان أكثره في الصحراء وخارجا من البيوت
ألا ترى أن ما جاء في حديث الإفك من قول عائشة (رحمها الله) وكانت بيوتنا لا مراحيض لها وإنما أمرنا أمر العرب الأول تعني البعد في البراز
وقال بعض أصحابنا إنما وقع النهي عن الصحارى لأن الملائكة تصلي في الصحارى
وأما قوله في الحديث كيف أصنع بهذه الكرابيس فهي المراحيض واحدها كرباس مثل سربال وسرابيل
وقد قيل إن الكرابيس مراحيض العرب وأما مراحيض البيوت فإنما يقال لها الكنف
446

وفي قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها بفرجه دليل على أن القبل يسمى فرجا وأن الدبر أيضا يسمى فرجا
واختلف الذين رأوا الوضوء من مس الفرج في مس الدبر على ما قد ذكرناه في موضعه والحمد لله
والذي نقول به إنه لما احتمل لفظ الفرج الوجهين كان المبين للمراد منه والقاضي فيه صلى الله عليه وسلم مس ذكره
وأما قوله في الحديث لعلك من الذين يسجدون على أوراكهم فإنه يعني الذي يسجد ولا يرتفع عن الأرض لاصقا بها
وقد مضى القول فيما يجزئ من السجود والركوع في مواضع من هذا الكتاب
(منها) حديث رفاعة بن رافع وأبي هريرة بمعنى واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للرجل الذي أمره أن يعيد صلاته وعلمه الفرائض فيها ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا (1) الحديث
وحديث البراء بن عازب في وصفه لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وكان يقعد بين السجدتين حتى نقول قد أوهم (2)
وحديث البراء أيضا قال رمقت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة فكان قيامه من الركوع وركوعه وقيامه من السجود وسجوده سواء أو قريبا من السواء (3)
أخرجهما أبو داود وغيره
447

وحدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا حفص بن عمرو النمري قال حدثنا شعبة عن سليمان عن عمارة بن عمير عن أبي مسعود البدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تجزئ صلاة رجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود
((3 باب النهي عن البصاق في القبلة))
427 ذكر فيه مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر
428 وعن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى بصاقا زاد في حديث هشام أو مخاطا أو نخامة في جدار القبلة فحكه ثم أقبل على الناس فقال إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قبل وجهه فإن الله تبارك وتعالى قبل وجهه إذا صلى
قال أبو عمر أما حكه صلى الله عليه وسلم البصاق من القبلة ففيه دليل على تنزيه المساجد من كل ما يستقدر ويستسمج وإن كان طاهرا لأن البصاق طاهر ولو كان نجسا لأمر بغسل أثره
ويدلك على طهارته حديث حذيفة وحديث أبي سعيد (1) وحديث أبي
448

هريرة (1) وحديث أنس (2) وكلها قد ذكرتها في التمهيد بمعنى واحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أباح للمصلي أن يبصق ويتنخم في ثوبه وعن يساره ولو كان نجسا ما أباح له حمله في ثوبه
ولا أعلم كلاما في طهارة البصاق إلا شيئا روي عن سلمان الجمهور على خلافه والسنن الثابتة وردت برده
وفي حك البصاق من المسجد تنزيهه عن أين يؤكل فيه مثل البلوط لقشره والزبيب لعجمه وكل ما له دسم وودك وتلويث وما له حب وتبن ونحو ذلك مما يكنسه المرء من بيته
وإذا كان ذلك فالنجاسة أحرى أن لا يقرب المسجد شيء منها
وقد ذكرنا في التمهيد حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب (3)
والبصاق ما خرج من الفم وفيه لغتان بصاق وبزاق ويكتب بالسين كما يكتب بالصاد والزاي
والنخامة ما خرج من الحلق
والمخاط ما خرج من الأنف
وليس شيء من ذلك نجس ولكن المساجد واجب تنزيهها عن كل ما تستقذره النفس
وأما قوله فإن الله قبل وجهه إذا صلى فكلام خرج على شأن تعظيم القبلة وإكرامها كما قال طاوس أكرموا قبلة الله عن أن تستقبل للغائط والبول
449

حدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري قال حدثنا حميد عن أنس قال رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة في المسجد فشق عليه حتى عرفنا ذلك في وجهه فحكه وقال إن أحدكم إذا قام إلى الصلاة فإنما يناجي ربه وإنما ربه بينه وبين قبلته فليبصق إذا بصق عن يساره أو تحت قدمه (1)
وقال صلى الله عليه وسلم البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها (2)
وقد ذكرنا إسناده في التمهيد
وفي هذا دليل على أن للمصلي أن يبصق وهو في الصلاة إذا لم يبصق قبل وجهه ولا عن يمينه ولا يقطع ذلك صلاته ولا يعيدها
وفي ذلك دليل على أن النفخ في الصلاة لا يضرها إذا لم يقصد به صاحبه اللعب والعبث لأن البصاق لا يسلم من شيء من النفخ والتنحنح مثل النفخ إذا لم يكن جوابا ولا أريد به معنى الكلام ولا العبث ولا اللعب
واختلف الفقهاء في هذا المعنى
فكان مالك يكره النفخ في الصلاة فإن فعله فاعل لا يقطع صلاته
ذكره بن وهب عن مالك
وذكره بن خواز بنداذ قال قال مالك التنحنح والنفخ في الصلاة لا يقطع الصلاة
رواه بن عبد الحكم قال قال بن القاسم التنحنح والنفخ في الصلاة يقطع الصلاة
قال الشافعي كل ما لا يفهم منه حروف الهجاء فليس بكلام ولا يقطع الصلاة إلا الكلام المفهوم
وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن إن كان النفخ يسمع فهو بمنزلة الكلام يقطع الصلاة
450

وقال أبو يوسف لا يقطع الصلاة إلا أن يريد التأفيف ثم رجع فقال صلاته تامة
وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه لا إعادة على من نفخ في الصلاة
والنفخ مع ذلك مكروه عندهما إلا أن يكون تأوها من ذكر النار وخوف الله تعالى إذا مر بذلك في القرآن
وقد زدنا هذا بيانا في التمهيد
((4 باب ما جاء في القبلة))
429 ذكر فيه عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أنه قال بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة
قال أبو عمر أكثر الرواة رووا فاستقبلوها على لفظ الخبر وقد رواها بعضهم على لفظ الأمر
ومن روى هذا الحديث عن مالك عن نافع عن بن عمر فقد أخطأ فيه وإنما هو لمالك عن عبد الله بن دينار في جميع الموطآت وجماعة الرواة عنه
وفيه دليل على قبول خبر الواحد والعمل به وإيجاب الحكم بما صح منه لأن الصحابة رضي الله عنهم قد استعملوا خبره وقضوا به وتركوا قبلة كانوا عليها لخبر الواحد العدل ولم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك عليهم
وحسبك بمثل هذا سنة وعملا من خير القرون وفي حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم
والمخبر الذي أخبر خير القرون أهل قباء هو عباد بن بشر الأنصاري
قد ذكرنا الخبر بذلك في التمهيد
وفيه أن القرآن كان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا بعد شيء وفي حال بعد
451

حال على حسب الحاجة إليه حتى أكمل الله دينه وقبض رسوله صلى الله عليه وسلم وإنما أنزل القرآن جملة واحدة ليلة القدر إلى سماء الدنيا ثم كان ينزل به جبريل نجما بعد نجم وحينا بعد حين
وقال عكرمة وجماعة في قوله تعالى " فلا أقسم بموقع النجوم " [الواقعة 75] قالوا القرآن نزل جملة واحدة فوضع بمواقع النجوم فجعل جبريل ينزل بالآية والآيتين
وقد زدنا هذا المعنى بيانا في التمهيد
وقال الله عز وجل " إنا أنزلنه في ليلة القدر وما أدرك ما ليلة القدر " [القدر 1 2] يعني القرآن
قال بن عباس وغيره إلى سماء الدنيا
وقال عز وجل " وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة وحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلنه ترتيلا " [الفرقان 32]
وفيه أن الصلاة كانت إلى غير الكعبة ولا خلاف بين علماء الأمة أنها كانت إلى بيت المقدس وكذلك في الآثار عن علماء السلف أشهر وأعرف من أن يحتاج إلى إيراده هنا
قال الله عز وجل " سيقول السفهاء من الناس ما ولهم عن قبلتهم التي كانوا عليها " [البقرة 142] واختلفوا في السفهاء هنا فقيل المنافقون وقيل اليهود
وقال الله عز وجل " قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضها " [البقرة 144]
وفي ذلك دليل على أن في أحكام الله تعالى ناسخا ومنسوخا وهو ما لا اختلاف فيه بين العلماء الذين هم الحجة على من خالفهم
وقد أوردنا من الآثار في التمهيد ما فيه كفاية في معنى هذه الآية
وقد أجمع العلماء على أن أول ما نسخ من القرآن شأن القبلة وأجمعوا على أن ذلك كان بالمدينة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما صرف عن الصلاة إلى بيت المقدس وأمر بالصلاة إلى الكعبة بالمدينة
واختلفوا في صلاته بمكة قبل الهجرة حين فرضت الصلاة عليه
فقالت طائفة كانت صلاته إلى بيت المقدس من حين فرضت الصلاة عليه بمكة
452

إلى أن قدم المدينة ثم بالمدينة ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا على حسب اختلاف الرواية في ذلك
حدثنا خلف بن قاسم قال حدثنا وجيه بن الحسن قال حدثنا بكار بن قتيبة قال حدثنا يحيى بن حماد قال حدثنا أبو عوانة عن الأعمش عن مجاهد عن بن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي نحو بيت المقدس وهو بمكة والكعبة بين يديه وبعد ما هاجر إلى المدينة ستة عشر شهرا ثم صرف إلى الكعبة
وقال آخرون إنما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما افترضت الصلاة عليه إلى الكعبة طول مقامه بمكة ثم لما قدم المدينة صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا وقيل سبعة عشر شهرا وقيل ثمانية عشر شهرا ثم صرفه الله تعالى إلى الكعبة
ذكر سنيد عن حجاج عن بن جريج قال قال بن عباس صلى أول ما صلى إلى الكعبة ثم صرف عنها إلى بيت المقدس فصلت الأنصار نحو بيت المقدس قبل موته صلى الله عليه وسلم ثلاث حجج وصلى بعد قدومه ستة عشر شهرا ثم وجهه الله تعالى إلى الكعبة البيت الحرام وذكر وكيع عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا وكان يحب أن يحول إلى الكعبة فأنزل الله تعالى " قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضها " [البقرة 144] فوجه نحو الكعبة وكان يحب ذلك (1)
قال أبو عمر ظاهر هذا الحديث يدل على أنه لما قدم المدينة صلى إلى بيت المقدس لا قبل ذلك والله أعلم
وكذلك حديث علي بن أبي طلحة عن بن عباس قال كان أول ما نسخ الله تعالى من القرآن القبلة وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود أمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرا
453

وذلك كما حدثناه سعيد بن نصر وأحمد بن قاسم وعبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال حدثنا عبد الله بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن بن عباس قال أول ما نسخ الله تعالى من القرآن القبلة وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود أمره الله أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرا وكان صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم وكان يدعو الله فينظر إليها فأنزل الله تعالى " قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضها فول وجهك شطر المسجد الحرام " [البقرة 144] فارتاب من ذلك اليهود وقالوا " ما ولهم عن قبلتهم التي كانوا عليها " [البقرة 142] فأنزل الله عز وجل * (قل لله المشرق والمغرب) * [البقرة 142] وقال * (فأينما تولوا فثم وجه الله) * [البقرة 115] وقال الله تعالى * (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه) * [البقرة 143] (1)
قال بن عباس وليميز أهل اليقين من أهل الشك والريبة
قال الله تعالى * (وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله) * [البقرة 143] يعني تحويلها على أهل الشرك لا على المصدقين بما أنزل الله تعالى
حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا أحمد بن سلمان النجار ببغداد قال حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث قال حدثنا أحمد بن محمد قال حدثنا آدم بن أبي إياس قال حدثنا أبو جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله عز وجل " وإن الذين أوتوا الكتب ليعلمون أنه الحق من ربهم " [البقرة 144] يقول إن الكعبة البيت الحرام قبلة إبراهيم والأنبياء (صلى الله عليهم) ولكنهم تركوها عمدا
وقال في قوله * (وإن فريقا منهم ليكتمون الحق) * [البقرة 146] يقول يكتمون صفة محمد صلى الله عليه وسلم ويكتمون أيضا أن القبلة هي الكعبة البيت الحرام
ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم * (فلا تكونن من الممترين) * [البقرة 147] يقول لا تكن في شك يا محمد أن الكعبة هي قبلتك وكانت قبلة الأنبياء
وبهذا الإسناد عن أبي العالية أن موسى (عليه السلام) كان يصلي عند الصخرة ويستقبل البيت الحرام وكانت الكعبة قبلته وكانت الصخرة بين يديه فقال يهودي
454

بيني وبينك مسجد صالح النبي (عليه السلام) قال أبو العالية فإني صليت في مسجد صالح وقبلته الكعبة
وأخبرني أبو العالية أنه رأى مسجد ذي القرنين وقبلته إلى الكعبة
وقد تقدم ما يدل على صحة هذا القول وأن القبلة كانت قبلة إبراهيم وإسماعيل وكل ما دان بدين إبراهيم وإليها صلى النبي (عليه السلام) مذ فرضت عليه الصلاة حتى هاجر إلى المدينة وذلك واضح بين فيما تقدم في صدر كتاب الصلاة من هذا الديوان
وأجمع العلماء على أن القبلة التي أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم وعباده بالتوجه نحوها في صلاتهم هي الكعبة البيت الحرام بمكة
قال الله عز وجل * (فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) * [البقرة 150]
وأجمعوا على أنه فرض واجب على من عاينها وشاهدها استقبالها بعينها وأنه إن ترك استقبالها وهو معاين لها فلا صلاة له
أجمعوا أن على من غاب عنها بعد أو قرب أن يتوجه في صلاته نحوها بما قدر عليه من الاستدلال على جهتها من النجوم والجبال والرياح وغيرها
وأجمعوا أن من صلى من غير اجتهاد ولا طلب للقبلة ثم بان له أنه لم يستقبل جهتها في صلاته أن صلاته فاسدة كمن صلى بغير طهارة يعيدها في الوقت وغيره
وفي هذا المعنى حكم من صلى إلى غير القبلة في مسجد يمكنه فيه طلب القبلة وعلمها ووجودها بالمحراب وشبهه ولم يفعل وصلى إلى غيرها
واختلفوا فيمن غابت عليه القبلة فصلى مجتهدا كما أمر ثم بان له بعد ما فرغ من الصلاة أنه قد أخطأ القبلة بأن استدبرها أو شرق أو غرب ثم بان له ذلك وهو في الصلاة
فجملة قول مالك وأصحابه أن من صلى مجتهدا على قدر طاقته طالبا للقبلة باجتهاده يؤم ناحيتها إذا خفت عليه ثم بان له بعد صلاته أنه قد استدبرها أو شرق أو غرب جدا فإنه يعيد صلاته في الوقت فإن خرج الوقت فلا إعادة عليه
والوقت في ذلك للظهر والعصر ما لم تصفر الشمس
وقد روي عن مالك ما لم تغرب الشمس وفي المغرب والعشاء ما لم ينفجر الصبح وفي صلاة الصبح ما لم تطلع الشمس
455

وقد روي عنه ما لم تسفر جدا
ووجه الإعادة في الوقت استدراك الكمال وذلك استحباب مؤكد عندهم
فإن علم في الصلاة أنه استدبرها أو شرق أو غرب قطع وابتدأ وإن لم يشرق ولم يغرب ولكنه انحرف انحرافا يسيرا فإنه ينحرف إلى القبلة إذا علم ويتمادى ويجزئه ولا شيء عليه
وقال أشهب سئل مالك عن من صلى إلى غير القبلة فقال إن كان انحرف انحرافا شديدا فإن عليه إعادة ما كان في الوقت
وقال الأوزاعي من تحرى فأخطأ القبلة أعاد ما كان في الوقت ولا يعيد بعد الوقت
وقال الثوري إذا صليت لغير القبلة فقد أجزأك إذا لم تعمد ذلك وإن كنت صليت بعد صلاتك لغير القبلة ثم عرفت القبلة بعد فاستقبل القبلة بقية صلاتك واحتسب بما صليت
وقال المزني عن الشافعي إذا صلى إلى الشرق ثم رأى القبلة إلى الغرب استأنف وإن شرق أو غرب منحرفا ورأى أنه منحرف وتلك جهة واحدة فإن عليه أن ينحرف ويعتد بما مضى
وذكر الربيع عن الشافعي قال ولو دخل في الصلاة على اجتهاده ثم رأى القبلة في غير الناحية التي صلى إليها فإن كان مشرقا أو مغربا لم يعتد بما مضى من صلاته [وسلم] واستقبل الصلاة على ما بان له واستيقنه وإن رأى أنه انحرف لم يلغ شيئا من صلاته لأن الانحراف للمجتهد ليس فيه يقين خطأ وإنما هو اجتهاد لم يرجع منه إلى يقين وإنما رجع إلى اجتهاد شك
وقال أبو حنيفة وأصحابه من تحرى القبلة فأخطأ ثم بان له ذلك فلا إعادة عليه في وقت ولا في غيره
قالوا وله أن يتحرى القبلة إذا لم يكن على يقين من علم جهتها
قالوا ولو صلى قوم على اجتهاد ثم بان لهم بعد ركعة أنهم أخطأوا القبلة صرفوا وجوههم فيما بقي من صلاتهم إلى القبلة وصلاتهم تامة وكذلك لو أتموا ثم علموا بعد لم يعيدوا
وقال الطبري من تحرى فأخطأ القبلة أعاد أبدا إذا استدبرها
وهو أحد قولي الشافعي
456

قال أبو عمر قد أوضحنا معنى اختلافهم والوجه المختار منه في التمهيد والحمد لله
وقول الثوري أشبه بظاهر الحديث هذا الباب والله الموفق للصواب
430 وأما حديثه عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه قال صلى رسول الله بعد أن قدم المدينة ستة عشر شهرا نحو بيت المقدس ثم حولت القبلة قبل بدر بشهرين
فقد مضى في هذا الباب معناه مسندا وفي التمهيد كثير من طرقه
وفيه دليل على أن العلم بأيام الإسلام وتاريخ ذلك والوقوف عليه من العلم الحسن المندوب إليه ولا غنى للعلماء عنه
وأجمع أهل السير أن القبلة حولت سنة اثنتين من الهجرة وأصح ما روي في ذلك ما ذكره مالك عن يحيى بن سعيد مسندا عن سعيد بن المسيب (حديثه هذا)
وكذلك قال بن إسحاق قال صرفت القبلة في رجب بعد سبعة عشر شهرا
كذا قال بن إسحاق سبعة عشر شهرا
وروي مثل ذلك من حديث البراء بن عازب إلا أنه اختلف فيه فبعضهم يقول ستة عشر أو سبعة عشر شهرا وقد قيل فيه ثمانية عشر شهرا
ورواه شعبة عن أبي إسحاق عن البراء قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا بعد قدومه المدينة
وهو الأصح والأكثر على ما قاله سعيد بن المسيب (رحمه الله)
وفي هذه المسألة قولان شاذان (أحدهما) ما رواه أبو عاصم النبيل عن عثمان بن سعيد الكاتب عن أنس قال صرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيت المقدس بعد تسعة أشهر أو عشرة
والثاني ما رواه أشعث عن الحسن قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس سنتين ثم حلوت القبلة
وأما حديث مالك في هذا الباب
457

431 عن نافع أن عمر بن الخطاب قال ما بين المشرق والمغرب قبلة
إذا توجه قبل البيت
فقد وصله عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر قال قال عمر ما بين المشرق والمغرب قبلة
وكذلك قال عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس ومحمد بن الحنفية
وقد ذكرنا الأسانيد عنهم كذلك في التمهيد
وذكرنا حديثا مرفوعا هناك من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما بين المشرق والمغرب قبلة (1)
معناه إذا توجه قبل البيت كما قال عمر في رواية مالك
وقال الأثرم سألت أحمد بن حنبل عن قول عمر ما بين المشرق والمغرب قبلة فقال هذا في كل البلدان إلا مكة عند البيت فإنه إن زال عنه بشيء وإن قل فقد ترك القبلة
قال وليس كذلك قبلة البلدان
ثم قال هذا المشرق وأشار بيده وهذا المغرب وأشار بيده وما بينهما قبلة
قلت له فصلاة من صلى بينهما جائزة
قال نعم وينبغي أن يتحرى الوسط
قال أبو عبد الله قد كنا نحن وأهل بغداد نصلي نتيامن قليلا ثم حرفت القبلة منذ سنين يسيرة
قال أبو عمر تفسير قول أحمد بن حنبل هذا في كل البلدان يريد أن البلدان كلها لأهلها من السعة في قبلتهم مثل ما لمن كانت قبلته بالمدينة الجنوب التي تقع لهم فيها الكعبة فيستقبلون جهتها ويتسعون يمينا وشمالا فيها ما بين المشرق والمغرب يجعلون المغرب عن أيمانهم والمشرق عن يسارهم
وكذلك يكون لأهل اليمن من السعة في قبلتهم مثل ما لأهل المدينة ما بين المشرق والمغرب إذا توجهوا أيضا قبل البيت إلا أنهم يجعلون المشرق عن أيمانهم
458

والمغرب عن يسارهم وكذلك أهل العراق وخراسان لهم من السعة في استقبال القبلة ما بين الجنوب والشمال مثل ما كان لأهل المدينة من السعة فيما بين المشرق والمغرب
وكذا هذا العراق على ضد ذلك أيضا
وإنما تضيق القبلة كل الضيق على أهل المسجد الحرام وهي لأهل مكة أوسع قليلا ثم هي لأهل الحرم أوسع قليلا ثم هي لأهل الآفاق من السعة على حسب ما ذكرنا
قال أحمد بن خالد قول عمر بن الخطاب ما بين المشرق والمغرب قبلة قاله بالمدينة فمن كانت قبلته مثل قبلة المدينة فهو في سعة ما بين المشرق والمغرب ولسائر البلدان من السعة في القبلة مثل ذلك في الجنوب والشمال ونحو ذلك
هذا معنى قوله وهو صحيح لا مدفع له ولا خلاف بين أهل العلم فيه
((5 باب ما جاء في المسجد النبي صلى الله عليه وسلم 432 ذكر فيه مالك حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام))
ورواه عن زيد بن رباح وعبيد الله بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله سلمان الأغر عن أبي هريرة
وهو حديث رواه عن أبي هريرة [جماعة] وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة قد ذكرت كثيرا منها في التمهيد
وأجمعوا على صحته واختلفوا في تأويله فكان عبد الله بن نافع الزبيري صاحب مالك في ما روى يحيى بن يحيى عنه أنه سأله عن معنى هذا الحديث فقال معناه أن الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الصلاة في سائر المساجد بألف صلاة إلا المسجد الحرام فإن الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الصلاة فيه بدون ألف صلاة
459

وهذا التأويل على بعده ومخالفة أكثر أهل العلم له فيه لاحظ له في اللسان العربي لأنه لا يقوم في اللسان إلا بقرينة وبيان ولا بيان ولا دليل لمن تأول تأويل بن نافع يشهد له
وأهل العربية يقولون إذا قلت اليمن أفضل من جميع البلاد بألف درجة إلا العراق جاز أن يكون العراق مساويا لليمن وفاضلا ومفضولا فإذا كان مساويا فقد علم مقدار فضله وإذا كان فاضلا أو مفضولا فمطلق في الفضل لا يعلم كم مقدار المفاضلة بينهما إلا بقرينة ودليل على عدة درجات فإن أيده على تلك أو ناقضة عنه فيحتاج إلى الإتيان بها
قال أبو عمر قد علمنا أنه لم يحمل بن نافع على ما تأوله في حديث النبي صلى الله عليه وسلم صلاة في مسجدي هذا إلا ما كان يذهب إليه هو وشيخه مالك من تفضيل المدينة على مكة وتفضيل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم على المسجد الحرام
وتفضيل المدينة على مكة أو مكة على المدينة مسألة قد اختلف فيها أهل العلم
وذكر أبو يحيى زكريا بن يحيى الساجي قال اختلف الناس في تفضيل مكة على المدينة
فقال مالك وكثير من المدنيين المدينة أفضل من مكة
وقال الشافعي مكة خير البقاع
وهو قول عطاء بن أبي رباح والمكيين وأهل الكوفة أجمعين
قال واختلف أهل البصرة في ذلك فطائفة قالوا مكة وطائفة قالوا المدينة
وقال عامة أهل الأثر الصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمائة صلاة ومن الصلاة في سائر المساجد بمائة ألف صلاة والصلاة في مسجد الرسول أفضل من سائر المساجد بألف صلاة
قد أوضحنا المعنى في تأويل عبد الله بن نافع وذكرنا ما نزعت إليه الفرق من الآثار في هذه المسألة إذ لا مدخل فيها للنظر إنما تعرف الفضائل في مثل ذلك بالتوقيف لا بالاستنباط والاجتهاد وأتينا بما روينا في ذلك مبسوطا في التمهيد والحمد لله
وأحسن حديث روي في ذلك ما رواه حماد بن زيد وغيره عن حبيب المعلم عن عطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن الزبير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة في
460

مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة (1)
وقد ذكرنا إسناده من طرق في التمهيد
وقال بن أبي خيثمة سمعت يحيى بن معين يقول حبيب المعلم ثقة
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل سمعت أبي يقول حبيب المعلم ثقة
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل ما أصح حديثه
وسئل أبو زرعة الرازي عن حبيب المعلم فقال بصري ثقة
قال أبو عمر سائر الإسناد لا يحتاج إلى القول فيه
وقد روي من حديث بن عمر وحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث بن الزبير هذا سواء
وقد ذكرت الطرق بذلك في التمهيد
وذكر البزار قال حدثنا إبراهيم بن جميل قال حدثنا محمد بن يزيد بن شداد قال حدثنا سعيد بن سالم القداح قال حدثنا سعيد بن بشر عن إسماعيل بن عبيد الله عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره مائة ألف صلاة وفي مسجدي ألف صلاة وفي مسجد بيت المقدس خمس مائة صلاة (2)
قال أبو بكر البزار هذا حديث حسن
حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بن وضاح قال حدثنا حامد بن يحيى وأحمد بن سلمة بن الضحاك قالا حدثنا سفيان بن عيينة قال حدثنا الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام (3)
قال سفيان فيرون أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ومن مائة ألف صلاة في غيره
461

قال بن وضاح حدثنا أحمد بن عمر بن السرح قال سمعت بن وهب يقول ما رأيت أعلم بتفسير هذا الحديث من سفيان بن عيينة
قال أبو عمر من جعل قول بن عيينة حجة في تأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم أوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة (1)
أنه مالك بن أنس وقوله أيضا كانوا يرونه مالك بن أنس
وقوله يلزمه أن يجعل قوله فيرون أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فإنها تفضله بمائة صلاة حجة أيضا في هذا وهذا شيء لا ينفك منه منصف
وقد روينا عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وأبي الدرداء وجابر بن عبد الله أنهم كانوا يفضلون مكة ومسجدها وإذا لم يكن بد من التقليد فهم أولى أن يقلدوا من غيرهم الذين جاؤوا بعدهم
وقد ذكرنا الأسانيد عنهم بذلك في التمهيد
وذكر عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال صلاة في المسجد الحرام خير من مائة صلاة في مسجد المدينة
قال معمر وقد سمعت أيوب يحدث عن أبي العالية عن عبد الله بن الزبير مثل قول قتادة
وقال عبد الله بن حبيب عن مطرف وعن أصبغ عن بن وهب أنهما كانا يذهبان إلى تفضيل الصلاة في المسجد الحرام على الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم
فهؤلاء أصحاب مالك قد اختلفوا في ذلك وبالله التوفيق
433 وأما قوله صلى الله عليه وسلم ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة
462

فذكره مالك في هذا الباب من طريقين أحدهما خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي هريرة أو أبي سعيد [الخدري] على الشك
434 والثاني عن عبد الله بن أبي بكر عن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد المازني
وفي حديث خبيب زيادة ومنبري على حوضي
واختلف العلماء في تأويل قوله (عليه السلام) ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة فقال منهم قائلون ترفع تلك البقعة يوم القيامة فتجعل روضة من الجنة وقال آخرون هذا على المجاز
قال أبو عمر يعنون أنه لما كان جلوسه وجلوس الناس إليه يتعلمون القرآن والدين والإيمان هنالك شبه [ذلك] الموضع بالروضة لكريم ما يجتنى فيها وأضافها إلى الجنة كما قال عليه الصلاة والسلام الجنة تحت ظلال السيوف (1) يعني أنه عمل يدخل المسلم الجنة
وكما جاء في الحديث الأم باب من أبواب الجنة يريد أن برها يقود المسلم إلى الجنة
ومثل هذا معلوم من لسان العرب
وقد استدلت طائفة من أصحابنا بهذا الحديث على أن المدينة أفضل من مكة وركبوا عليه قوله صلى الله عليه وسلم موضع سوط من الجنة خير من الدنيا وما فيها
463

وخالفهم آخرون فقالوا لا يدخل هذا الحديث في تفضيل المدينة وإنما ورد تزهيدا في الدنيا وترغيبا في الآخرة وإعلاما بأن اليسير من الجنة خير من الدنيا وما فيها
ومعلوم أن موضع ربع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها والذي فيها
والذي أقول به في هذا الباب أن البقاع أرض الله وخلقه فلا يجوز أن يفضل منها شيء على شيء إلا بتوقيف من يجب التسليم له بنقل لا مدفع فيه ولا تأويل
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة ما يغني عن قول كل قائل ويقطع الخلاف فيها
وذلك ما رواه يونس بن يزيد وعقيل بن خالد وعبد الرحمن بن مسافر وشعيب بن أبي حمزة وصالح بن كيسان كلهم عن بن شهاب عن أبي سلمة عن عبد الله بن عدي بن الحمراء أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف بالحزورة في سوق مكة وهو يقول والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلي ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت (1)
ورواه معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة فوهم فيه إذ جعله لأبي سلمة عن أبي هريرة وخالفه أصحاب بن شهاب فجعلوا الحديث لأبي سلمة عن عبد الله بن عدي بن الحمراء
وقد قال محمد بن يحيى الذهلي يمكن أن يكون الحديث لأبي سلمة عن أبي هريرة وبن عدي بن الحمراء معا
قال أبو عمر هو حديث حسن صحيح ثابت عند جماعة أهل العلم بالحديث ولم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه صحيح شيء يعارضه
وقد روى محمد بن الحسن بن زبالة وهو متروك الحديث مجمع على ترك الاحتجاج بحديثه وقد انفرد بهذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حين خروجه من مكة اللهم إنك أخرجتني من أحب البقاع إلي فسكني أحب البقاع إليك
وهذا حديث لا يصح عند أهل العلم بالحديث ولا يختلفون في نكارته ووضعه
وقد ذكر بن وهب في جامعه قال حدثنا مالك بن أنس أن آدم لما أهبط إلى
464

الأرض بالهند قال يا رب هذه الأرض أحب إليك أن تعبد فيها قال بل مكة
فسار آدم حتى أتى مكة فوجد عندها ملائكة يطوفون بالبيت فيعبدون الله تعالى
فقالوا مرحبا يا آدم يا أبا البشر إنا ننتظرك ها هنا منذ ألفي سنة
وقد زدنا هذا المعنى بيانا في التمهيد بالآثار والأسانيد
وحسبك بمكة أن فيها بيت الله الذي رضي لعباده على الحط لأوزارهم وغفران ذنوبهم أن يقصدوه مرة واحدة في أعمارهم ولم يقبل من أحد صلاة إلا باستقبال جهته بصلاته إذا كان عالما بالجهة قادرا على التوجه إليها فهي قبلة أهل دينه أحياء وأمواتا والآثار عن السلف في فضائل مكة كثيرة جدا وبالله التوفيق
وأما قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ومنبري على حوضي فزعم بعض أهل الكلام في معاني الآثار أنه أراد والله أعلم أن له منبرا يوم القيامة على حوضه صلى الله عليه وسلم كأنه قال ولي أيضا على حوضي أدعو الناس إلى الحوض عليه لأن منبره ذلك على حوضه
وقال آخرون يحتمل أن يكون الله تعالى يعيد ذلك المنبر بعينه فيكون يومئذ على حوضه والقول الأول أولى والله أعلم
وقد ذكرنا الآثار المتواترة في الحوض في كتاب التمهيد والحمد لله
((6 باب ما جاء في خروج النساء إلى المساجد))
435 ذكر فيه مالك أنه بلغه عن عبد الله بن عمر أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تمنعوا إماء الله مساجد الله
وهذا الحديث قد رواه عن بن عمر جماعة منهم سالم ونافع وحبيب بن أبي ثابت ومجاهد وبلال بن عبد الله بن عمرو وقد ذكرنا الطرق بذلك في التمهيد
[وممن رواه عن نافع عن بن عمر أيوب وعبيد الله بن عمر
ومن رواة هذا الحديث من يقول فيه إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها
465

ومنهم من يقول فيه ائذنوا للنساء إلى المساجد بالليل فخص الليل بالإذن في ذلك دون النهار
وقد أوردنا الأحاديث في ذلك باختلاف ألفاظ الناقلين لها في التمهيد]
وفي هذا الحديث [من الفقه] جواز خروج المرأة إلى المسجد لشهود الجماعة ومن خص الليل لصلاة العشاء بخروجهن قال إنها زيادة حافظ يجب أن تمتثل
وفي معنى الإذن لها في شهود العشاء وغيرها دليل على أن كل مباح وفضل حكمه بحكمه في ذلك وفي خروجهم إليه مثل زيارة الآباء والأمهات وذوي المحارم من القرابات وما كان مثله لأن الخروج إلى المسجد ليس بواجب على النساء لأنه قد جاء أن صلاتهن في بيوتهن خير لهن (1) فما ندبن إليه من صلات الرحم أحرى بذلك وأولى فإذا لم يكن للرجل أن يمنع امرأته المسجد إذا استأذنته في الخروج إليه كان أوجب عليه وأوكد أن لا يمنعها من خروجها إلى الحج في جماعة النساء وإن لم يكن لها ذو محرم
وسنبين هذه المسألة عند قوله صلى الله عليه وسلم لا يحل (2) لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر يوما وليلة إلا ومعها زوجها أو ذو محرم منها ونذكر اختلاف الفقهاء في المحرم هل هو من السبيل إلى الحج أم لا هناك إن شاء الله
436 وقد ذكر مالك في هذا الباب أيضا أنه بلغه عن بسر بن سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا شهدت إحداكن صلاة العشاء فلا تمسن طيبا
وهذا الحديث حديث مشهور مسند صحيح رواه بكير بن الأشج وبن شهاب عن بسر بن سعيد عن زينب الثقفية امرأة بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم
466

وقد روي من حديث أبي هريرة أيضا ولفظ حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ولتخرجن تفلات (1) د
وفي رواية أخرى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أيما امرأة تبخرت فلا تشهد معنا العشاء الآخرة (2)
وقد ذكرنا الأسانيد لذلك كله في التمهيد وأوضحنا هناك معاني هذه الألفاظ التي لم يروها مالك رحمه الله في نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة إذا خرجت إلى المسجد أن تمس طيبا
وقوله في غير هذا الحديث ولتخرجن تفلات والمتفلة المتغيرة الريح بغير الطيب وقد شرحنا معنى هذه اللفظة بشواهدها من الشعر في التمهيد
وفيه دليل على أنه لا يجوز للمرأة أن تتطيب في غير بيتها بطيب على حال من الأحوال وإذا تطيبت في بيتها فلا تخرج
ولما كان الأصل ألا تخرج امرأة إلا تفلة وكان الوقت المعروف لتطيب النساء للرجال إنما هو بالليل لأن الليل يجمع بين الرجل وامرأته لإقباله من مصرفه إلى بيته ليسكن إلى أهله في ليله فتطيب امرأته قيل لهن من تطيب منكن قبل شهود العشاء فلا تشهد العشاء
437 وذكر في هذا الباب عن يحيى بن سعيد عن عائكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل امرأة عمر بن الخطاب أنها كانت تستأذن عمر بن الخطاب إلى المسجد فيسكت فتقول والله لأخرجن إلا أن تمنعني فلا يمنعها
وقد ذكرنا في التمهيد حديث عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر قال كانت امرأة تشهد صلاة الصبح والعشاء في جماعة فقيل لها لم تخرجين وقد تعلمين أن عمر يكره ذلك ويغار فقالت وما يمنعه أن ينهاني قالوا يمنعه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تمنعوا إماء الله مساجد الله
467

وهذا يفسر حديث مالك ويبين الوجه الذي لم يمنعها منه عمر من أجله مع كراهته لخروجها
وعاتكة هذه كانت تحت عبد الله بن أبي بكر الصديق فقتل عنها يوم الطائف ثم تزوجها زيد بن الخطاب فقتل عنها في اليمامة ثم تزوجها عمر فقتل رضي الله عنه ثم تزوجها الزبير وعرض له معها خبر طريف في خروجها إلى المسجد وقد ذكرنا خبرها مستوعبا في بابها في كتاب النساء من كتاب الصحابة
وفي هذا الباب أيضا لمالك 438 عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن المساجد كما منعه نساء بني إسرائيل
قال يحيى بن سعيد فقلت لعمرة أو منع نساء بني إسرائيل المساجد قالت نعم
وفي هذا الحديث بيان شهود النساء المساجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه
ألا ترى إلى حديث عائشة أيضا إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي الصبح فينصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس (1)
وهذا مما لا خلاف فيه وفيه أن أحوال الناس تغيرت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء ورجالا
وروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال ما نفضنا أيدينا من تراب قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دفناه حتى تغيرت قلوبنا
ولا بأس عند أهل العلم بشهود المتجالات من النساء الجماعات والجمعات من الصلوات ويكرهون ذلك للشواب
468

وقد روى [حبيب] بن أبي ثابت عن بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تمنعوا نساءكم المساجد وبيوتهن خير لهن
وروت عائشة وبن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال صلاة المرأة في بيتها خير من صلاتها في دارها وصلاتها في دارها خير لها من صلاتها وراء ذلك هذا لفظ حديث عائشة
وحديث بن مسعود وصلاتها في بيتها خير من صلاتها في دارها وصلاتها في مخدعها خير من صلاتها في بيتها
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال صلاة المرأة في مخدعها خير وأعظم لأجرها من صلاتها في بيتها ولأن تصلي في بيتها أعظم لأجرها من أن تصلي في دارها ولأن تصلي في مسجد قومها أعظم لأجرها من أن تصلي في مسجد الجماعة ولأن تصلي في مسجد الجماعة أعظم لأجرها من الخروج يوم الخروج
وقد ذكرنا [أسانيد] هذه الأحاديث كلها في التمهيد
وأما أقاويل [الفقهاء في] هذه الأحاديث في هذا [الباب]
فقال مالك لا يمنع النساء الخروج إلى المساجد فإذا كان الاستسقاء والعيد فلا أرى بأسا أن تخرج كل امرأة متجالة
هذه رواية بن القاسم عنه
وروى عنه أشهب قال تخرج المرأة المتجالة إلى المسجد ولا تكثر التردد وتخرج الشابة مرة بعد مرة وكذلك في الجنائز يختلف في ذلك أمر العجوز والشابة في جنائز أهلها وأقاربها
وقال الثوري ليس للمرأة خير من بيتها وإن كانت عجوزا
قال الثوري قال عبد الله بن مسعود المرأة عورة وأقرب ما تكون إلى الله في قعر بيتها فإذا خرجت استشرقها الشيطان
وقال الثوري أكره للنساء الخروج إلى العيدين
وقال بن المبارك أكره اليوم للنساء الخروج في العيدين فإن أبت المرأة إلا أن تخرج فليأذن لها زوجها
وذكر محمد بن الحسن عن أبي يوسف عن أبي حنيفة قال كان النساء يرخص لهن في الخروج إلى العيد فأما اليوم فإني أكرهه وأكره لهن شهود الجمعة
469

والصلاة المكتوبة بالجماعة وأرخص للعجوز الكبيرة أن تشهد العشاء والفجر فأما غير ذلك فلا
وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه قال خروج النساء في العيدين حسن ولم يكن يرى خروجهن في غير ذلك مكتوبة ولغيرها
وقال أبو يوسف لا بأس أن تخرج العجوز في الصلوات كلها وأكره ذلك للشابة
وقد زدنا هذا الباب بيانا بالآثار في التمهيد والحمد لله
حدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا المعلى بن منصور قال حدثنا عبد العزيز بن محمد عن أبي اليمان عن شداد بن عمرو بن حماس عن أبيه عن حمزة بن أبي أسيد عن أبيه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خارج من المسجد واختلط النساء بالرجال فقال لا تحققن الطريق عليكن بحافات الطريق قال فلقد رأيت المرأة تلصق بالجدار فيتعلق الشيء من الجدار بثوبها فيشقه من شدة لصوقه به (1)
حدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا إبراهيم بن إسحاق النيسابوري قال حدثنا إسماعيل بن عيسى العطار قال حدثنا سوار بن مصعب عن عطية العوفي عن بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس للنساء نصيب في الخروج وليس لهن نصيب من الطريق إلا في جوانب الطريق
والله الموفق للصواب
470

((15 كتاب القرآن))
((1 باب الأمر بالوضوء لمن مس القرآن))
439 ذكر فيه عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم أن لا يمس القرآن إلا طاهر
قد بين مالك معنى هذا الحديث عنده ومذهبه فيه وفي قول الله تعالى * (لا يمسه إلا المطهرون) * [الواقعة 79] بيانا حسنا في الموطأ
وهذا الحديث لم يتجاوز به مالك عبد الله بن أبي بكر
ورواه معمر عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه قال في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم ألا يمس القرآن إلا على طهر
وذكره بن المبارك وعبد الرزاق عن معمر
ورواه سليمان بن داود عن الزهري عن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن في السنن والفرائض والديات ألا يمس القرآن إلا طاهر
وكتاب عمرو بن حزم هذا قد تلقاه العلماء بالقبول والعمل وهو عندهم أشهر وأظهر من الإسناد الواحد المتصل
471

وأجمع فقهاء الأمصار الذين تدور عليهم الفتوى وعلى أصحابهم بأن المصحف لا يمسه إلا الطاهر
وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم والثوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي ثور وأبي عبيد وهؤلاء أئمة الرأي والحديث في أعصارهم
وروى ذلك عن سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وطاوس والحسن والشعبي والقاسم بن محمد وعطاء وهؤلاء من أئمة التابعين بالمدينة ومكة واليمن والكوفة والبصرة
قال إسحاق بن راهويه لا يقرأ أحد في المصحف إلا وهو متوضئ وليس ذلك لقول الله عز وجل * (لا يمسه إلا المطهرون) * [الواقعة 79]
ولكن لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمس القرآن إلا طاهر
وهذا كقول مالك ومعنى ما في الموطأ
وقال الشافعي والأوزاعي وأبو ثور وأحمد لا يمس المصحف الجنب ولا الحائض ولا غير المتوضئ
وقال مالك لا يحمله بعلاقته (1) ولا على وسادة إلا وهو طاهر
قال ولا بأس أن يحمله في التابوت والخرج والغرارة من ليس على وضوء
قال أبو عمر يريد أن يكون المصحف في وعاء قد جمع أشياء منها المصحف وحده في أي شيء كان وقصد إليه حامله وهو غير طاهر لم يجز
وقد كره جماعة من علماء التابعين مس الدراهم التي فيها ذكر الله على غير وضوء منهم القاسم بن محمد والشعبي وعطاء فهؤلاء لا شك أشد كراهة أن يمس المصحف غير المتوضئ
وقد روي عن عطاء أنه لا بأس أن تحمل الحائض المصحف بعلاقته
وأما الحكم بن عتيبة وحماد بن أبي سليمان فلم يختلف عنهما في إجازة حمل المصحف بعلاقته لمن ليس على طهارة
472

وقولهما عندي شذوذ عن الجمهور وما أعلم أحدا تابعهما عليه إلا داود بن علي ومن تابعه
[قال داود لا بأس أن يمس المصحف والدنانير والدراهم التي فيها اسم الله الجنب والحائض]
قال داود ومعنى قوله عز وجل * (لا يمسه إلا المطهرون) * [الواقعة 79] هم الملائكة ودفع حديث عمرو بن حزم في أن لا يمس القرآن إلا طاهر بأنه مرسل غير متصل وعارضه بقول النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن ليس بنجس (1)
وقد بينا وجه النقل في حديث عمرو بن حزم وأن الجمهور عليه وهم لا يجوز عليهم تحريف تأويل ولا تلقي ما [لا] يصح بقبول وبما عليه الجمهور في ذلك أقول وبالله التوفيق
((2 باب الرخصة في قراءة القرآن على غير وضوء))
440 مالك عن أيوب بن أبي تميمة السختياني عن محمد بن سيرين أن عمر بن الخطاب كان في قوم وهم يقرؤون القرآن فذهب لحاجته ثم رجع وهو يقرأ القرآن فقال له رجل يا أمير المؤمنين أتقرأ القرآن ولست على وضوء فقال له عمر من أفتاك بهذا أمسيلمة
وفي هذا الحديث جواز قراءة القرآن طاهرا في غير المصحف لمن ليس على وضوء إن لم يكن جنبا
وعلى هذا جماعة أهل العلم لا يختلفون فيه إلا من شذ عن جماعتهم ممن هو محجوج بهم وحسبك بعمر في جماعة الصحابة وهم السلف الصالح
والسنن بذلك أيضا ثابتة فمنها حديث مالك عن مخرمة بن سليمان عن
473

كريب مولى بن عباس عن بن عباس في حديث صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل وفيه فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من نومه فجلس ومسح النوم عن وجهه ثم قرأ العشر الآيات من سورة آل عمران ثم قام إلى شن معلقة فتوضأ مها (1) وذكر تمام الحديث
وهذا نص في قراءة القرآن طاهرا على غير وضوء
وحديث علي بن أبي طالب قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحجبه عن تلاوة القرآن شيء إلا الجنابة (2)
وقد شذ داود عن الجماعة بإجازة قراءة القرآن للجنب وقال في حديث علي إنه ليس قول النبي صلى الله عليه وسلم
وهذا اعتراض مردود عند جماعة أهل العلم بالآثار والفقه لأن عليا لم يقله عنه حتى علمه منه ويلزمه على هذا أن يرد قول بن عمر قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجن وقول عمر رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا ومثله قول الصاحب نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل كذا ونحو هذا ومثل هذا كثير
حدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان عن مسعر وشعبة وبن أبي ليلى عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يحجبه عن تلاوة القرآن إلا أن يكون جنبا (3)
ورواه الأعمش عن عمرو بن مرة مثله
وقال عبد الله بن مالك الغافقي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا كنت جنبا لم أصل ولم أقرأ حتى أغتسل
474

ومعلوم أنه لو جاز له أن يقرأ لصلى
وأما الرجل المخاطب لعمر القائل له أتقرأ ولست على وضوء فهو رجل من بني حنيفة ممن كان آمن بمسيملة ثم تاب وآمن بالله ورسوله ويقال إنه الذي قتل زيد بن الخطاب باليمامة فكان عمر لذلك يستثقله ويبغضه وقد قال قوم إنه أبو مريم الحنفي وأبى ذلك آخرون لأن أبا مريم قد ولاه عمر بعض ولاياته [والله أعلم]
[وأما مسيلمة الحنفي كذاب اليمامة الذي ادعى النبوة فاسمه بن اليمامة بن حبيب يكنى أبا هارون ومسيلمة لقب]
((3 باب ما جاء في تحزيب القرآن))
441 ذكر فيه عن داود بن الحصين عن الأعرج عن عبد الرحمن بن عبد القارئ أن عمر بن الخطاب قال من فاته حزبه من الليل فقرأه حين تزول الشمس إلى صلاة الظهر فإنه لم يفته أو كأنه أدركه
هكذا هذا الحديث في الموطأ عن داود بن الحصين وهو عندهم وهم من داود والله أعلم لأن المحفوظ من حديث بن شهاب عن السائب بن يزيد وعبيد الله بن عبد الله عن عبد الرحمن بن عبد القارئ عن عمر بن الخطاب قال من نام عن حزبه فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل
ومن أصحاب بن شهاب من يرويه عنه بإسناده عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم
وهذا عند أهل العلم أولى بالصواب من حديث داود من حصين حين جعله من زوال الشمس إلى صلاة الظهر لأن ضيق ذلك الوقت لا يدرك فيه المرء حزبه من الليل ورب رجل حزبه نصف وثلث وربع نحو ذلك
وقد كان عثمان وتميم الداري وعلقمة وغيرهم يقرؤون القرآن كله في ركعة
وكان سعيد بن جبير وجماعة يختمون القرآن مرتين وأكثر في ليلة
475

وقد ذكرنا هذا المعنى مجودا عن العلماء في كتاب البيان عن تلاوة القرآن والحمد لله
والذي في حديث بن شهاب من صلاة الفجر إلى صلاة الظهر أوسع وقتا وبن شهاب أتقن حفظا وأثبت نقلا
وفي الحديث فضل بيان صلاة الليل على صلاة النهار وقيام الليل من أفضل نوافل البر وأعمال الخير
وكان السلف يقومون الليل بالقرآن ويندبون إليه والآثار بذلك كثيرة عنهم
وفي فضل التهجد وأخبار المتهجدين كتب وأبواب للمصنفين هي أشهر عند العلماء وأكثر من أن تجمع ها هنا
وحسبك بقول الله عز وجل " يا أيها المزمل قم اليل إلا قليلا كل كل كل " [المزمل 1 2] أمر فيها بقيام الليل وترتيل القرآن
وهذه الآية إن كانت منسوخة بالصلوات الخمس وبقوله جل وعز " علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن " [المزمل 20] فإن التهجد به مندوب إليه محمود فاعله عليه
قالت عائشة (رضي الله عنها) كان بين نزول أول سورة المزمل وبين آخرها حول كامل قام فيه المسلمون حتى شق عليهم فأنزل الله تعالى التخفيف عنهم في آخر السورة (1)
وقال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم " ومن اليل فتهجد به نافلة لك " [الإسراء 79]
وقد قال بعض التابعين وهو عبيدة السلماني قيام الليل فرض ولو كقدر حلب شاة لقوله عز وجل " فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن " [المزمل 20]
وهذا قول لم يتابع عليه قائله والذي عليه جماعة العلماء أن قيام الليل نافلة وفضيلة
442 وذكر مالك في هذا الباب أيضا عن يحيى بن سعيد أنه قال كنت أنا ومحمد بن يحيى بن حبان جالسين فدعا محمد رجلا فقال أخبرني بالذي سمعت من أبيك فقال الرجل أخبرني أبي أنه أتى زيد بن ثابت فقال
476

له كيف ترى في قراءة القرآن في سبع فقال زيد حسن ولأن أقرأه في نصف أو عشر أحب إلي وسلني لم ذاك قال فإني أسألك قال زيد لكي أتدبره وأقف عليه
وهذا الحديث رواه بن المبارك عن يحيى بن سعيد أنه أخبره قال سمعت رجلا يحدث عن أبيه أنه سأل زيد بن ثابت عن قراءة القرآن في سبع فقال لأن أقرأه في عشرين أو في نصف شهر أحب إلي من أن أقرأه في سبع واسألني لم ذلك [لكي] أقف عليه وأتدبر
ورواه يزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد بمثل معناه
ورواه النضر بن شميل عن شعبة عن عبد ربه ويحيى بن سعيد عن رجل ثان من أهل المدينة عن أبيه عن زيد بن ثابت بمثل ذلك كلهم قال عشرين أو نصف شهر
وكذلك رواه بن وهب وبن بكير وبن القاسم عن مالك وأظن يحيى وهم في قوله أو عشر والله أعلم
وتشهد لصحة قول بن ثابت قول الله عز وجل " كتب أنزلنه إليك مبرك لدبروا ءايته " [ص 29]
وقال * (ورتل القرآن ترتيلا) * [المزمل 4]
وقال " وقرءانا فرقته لتقرأه على الناس على مكث " [الإسراء 106]
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من قرأ القرآن في أقل من ثلاث فلم يفقهه (1)
رواه عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم
وقالت عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يختم القرآن في أقل من ثلاث
وأما أحاديث عبد الله بن عمرو فأكثرها أنه قال له اقرأه في سبع ولا تزد على ذلك
477

وقد أفردنا لهذا المعنى كتابا أسميناه كتاب البيان عن تلاوة القرآن واستوعبنا فيه القول والآثار في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ومعنى الهذ (1) والترتيل والحدر (2) وأي ذلك أفضل والقول في قراءة القرآن بالألحان ومن كره ذلك ومن أجازه وما روي في صوت داود صلى الله عليه وسلم وما جاء من هذه المعاني فيه شفاء في معناه والحمد لله
أخبرنا محمد بن عبد الملك قال أخبرنا أحمد بن محمد بن زياد الأعرابي قال حدثنا الحسن بن محمد الزعفراني قال حدثنا بن علية عن أيوب عن أبي حمزة قال قلت لابن عباس إني سريع القراءة إني أقرأ القرآن في ثلاث قال لأن أقرأ سورة البقرة في ليلة أدبرها وأرتلها أحب إلي من أن أقرأ القرآن كله أهذه كما تقول
حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا جعفر بن محمد الصائغ قال حدثنا عاصم بن علي قال حدثنا شعبة عن أبي حمزة قال قلت لابن عباس أقرأ القرآن في كل ليلة وأكثر ظني اني قلت مرتين
فقال لأن أقرأ سورة واحدة أحب إلي فإن كنت لابد فاعلا فاقرأ ما تسمعه أذناك ويفقهه قلبك
أخبرنا عبد الوارث بن سفيان وسعيد بن نصر وأحمد بن قاسم وأحمد بن محمد قالوا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين قال حدثنا سفيان بن عيينة عن عبيد المكتب قال سئل مجاهد عن رجلين قرأ أحدهما البقرة وقرأ الآخر البقرة وآل عمران فكان ركوعهما وسجودهما [واحدا وجلوسهما] سواء أيهما أفضل فقال الذي قرأ البقرة ثم قرأ " وقرءانا فرقنه لتقرأه على الناس على مكث ونزلنه تنزيلا " [الإسراء 106]
وذكر سنيد عن وكيع عن بن وهب قال سمعت محمد بن كعب القرظي يقول لأن أقرأ * (إذا زلزلت) * و * (القارعة) * [سورتي الزلزلة والقارعة] في ليلة أرددهما وأتفكر فيهما أحب إلي من أن أبيت أهذ القرآن
وقال أبو معشر عن محمد بن كعب القرطبي فإن قراءة عشر آيات تتفكر فيها خير من مائة تهذها
478

ومن أراد أن يقف على فضائل الهذ وفضائل الترتيل وأيهما أفضل نظر في كتابنا كتاب البيان عن تلاوة القرآن
((4 باب ما جاء في القرآن))
443 ذكر فيه عن بن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القارئ أنه قال سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها فكدت أن أعجل عليه (1) ثم أمهلته حتى انصرف (2) ثم لببته بردائه (3) فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله (4) ثم قال اقرأ يا هشام فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا أنزلت ثم قال لي اقرأ فقرأتها فقال هكذا أنزلت إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه
وهذا الحديث قد تكلمنا على إسناده وأشبعنا القول في معانيه واجتلبنا ما لعلماء السلف والخلف فيه واستوعبنا ذلك كله في التمهيد ونذكر فيه ها هنا ما فيه دلالة كافية إن شاء الله روى هذا الحديث معمر ويونس وعقيل وشعيب بن أبي حمزة وبن أخي بن شهاب عن عروة عن المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن عبد القارئ جميعا سمعا عمر بن الخطاب بمعنى حديث مالك إلا أن معمرا قال فيه عن عمر فقلت يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها وأنت أقرأتني سورة الفرقان
فبان في رواية معمر أن الخلاف بين هشام وعمر كان في حروف من السورة
479

وهذا تفسير لرواية مالك لأن ظاهرها في قوله يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأها يقتضي عموم السورة كلها وليس كذلك
وقد ظهر الخصوص برواية معمر ومن تابعه في ذلك
ومعلوم عند الجميع أن القرآن لا يجوز في حروفه كلها ولا في سورة منه واحدة أن تقرأ حروفها كلها على سبعة أوجه بل لا توجد في القرآن كلمة تقرأ على سبعة أوجه إلا قليلا من كثير مثل * (ربنا باعد بين أسفارنا) * [سبأ 19] و " وعبد الطغوت " [المائدة 60] و " إن البقر تشبه علينا " [البقرة 70] و * (بعذاب بئيس) * [الأعراف 165]
ونحو ذلك وهو يسير في جنب غيره من القرآن
وقد اختلف العلماء وأهل اللغة في معنى قوله صلى الله عليه وسلم نزل القرآن على سبعة أحرف اختلافا كثيرا تقصيناه في التمهيد ونورد منه ها هنا عيونها إن شاء الله
قال الخليل بن أحمد معنى قوله سبعة أحرف سبع قراءات قال والحرف ها هنا القراءات
وقال غيره هي سبعة أنحاء كل نحو منها جزء من أجزاء القرآن خلاف غيره من أنحائه
ذهبوا إلى أن الأحرف أنواع وأصناف فمنها زاجر ومنها أمر ومنها [حلال ومنها حرام] ومنها محكم ومنها متشابه ومنها أمثال وغيره
واحتجوا بحديث من حديث بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى ما ذكروا وهو حديث لا يحتج بمثله لضعفه عند أهل العلم بالحديث وقد ذكرته في التمهيد وذكرت العلة فيه
وقد اعترض فيه من جهة النظر قوم من أهل العلم منهم أحمد بن أبي عمران وأبو جعفر الطحاوي وغيرهما وقالوا محال أن يكون الحرف كله حراما لا ما سواه وحلالا لا ما سواه وآمرا لا ناهيا وزاجرا لا مبيحا وامتثالا كله
وقال آخرون هي سبع لغات مفترقات في القرآن على لغة العرب كلها يمنها ونزارها لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجهل شيئا منها وكان قد أتى جوامع الكلم
وإلى هذا ذهب أبو عبيد القاسم بن سلام في تأويل هذا الحديث قال يكون الحرف منها بلغة قبيلة والثاني بلغة قبيلة أخرى والثالث بلغة قبيلة ثالثة هكذا إلى السبعة
480

قال وقد يكون بعض الأحياء أسعد بها من بعض واحتج بقول عثمان واكتبوه بلغة قريش فإنه أكثر ما نزل بلسانهم
وقد روي عن عمر أن القرآن نزل بلغة قريش كقول عثمان (رضي الله عنهما)
حدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال إبراهيم بن سعد عن الزهري عن أنس بن مالك عن عمر أنه قال إنما نزل يعني القرآن بلسان قريش
وعن بن عباس نزل القرآن بلغة الكعبين كعب قريش وكعب خزاعة قيل له وكيف ذلك قال كانت دارهم واحدة
قال أبو عبيد يعني أن خزاعة جيران قريش
حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا صالح بن نصر بن مالك الخزاعي قال مر بي شعبة بن الحجاج فقال لي يا خزاعي ألا أحدثك حديثا في قومك حدثنا قتادة عن أبي الأسود الديلي قال نزل القرآن بلغة الكعبين كعب بن عمرو وكعب بن لؤي
قال وحدثنا صالح قال حدثنا هشيم قال حدثنا بن أبي عروبة عن قتادة عن بن عباس قال نزل القرآن بلسان قريش ولسان خزاعة وذلك أن الدار واحدة
وقال آخرون هذه اللغات السبع كلها في مضر منها لقريش ومنها لكنانة ومنها لأسد ومنها لهذيل ومنها لنمر ومنها لضبة ومنها لقيس ومنها لطابخة
قالوا فهذه مضر تستوعب سبع لغات وتزيد على ذلك
واحتجوا بقول عثمان نزل القرآن بلسان مضر
وأنكر آخرون أن تكون لغة مضر كلها في القرآن لأن منها شداد لا يجوز أن يقرأ عليها القرآن مثل كشكشة قيس وعنعنة تميم
وقد ذكرناها بالشواهد عليها في التمهيد
وروى الأعمش عن أبي صالح عن بن عباس قال أنزل القرآن على سبعة أحرف صار منها في عجز هوازن خمسة
قال أبو حاتم عجز هوازن ثقيف وبنو سعد بن بكر وبنو جشم وبنو نصر بن معاوية
481

قال أبو حاتم خص هؤلاء دون ربيعة وسائر العرب لقرب جوارهم من مولد النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان ربيعة ومضر أخوين
قال وأحب الألفاظ واللغات إلينا أن نقرأ بها لغات قريش ثم أدناهم من بطون مضر
وقال الكلبي في قول النبي صلى الله عليه وسلم أنزل القرآن على سبعة أحرف
قال خمسة منها لهوازن واثنان لسائر الناس
وقال قائلون لا يجوز أن يكون معنى السبعة الأحرف سبع لغات لأن العرب لا ينكر بعضها على بعض لغته لأن عمر بن الخطاب قرشي عدوي وهشام بن حكيم بن حزام قرشي أسدي ولغتهما واحدة ومحال أن تنكر على أحد لغته وكيف تنكر على امرئ لغة قد جبل عليها ومحال أيضا أن يقرئ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا بغير لغته
وقالوا إنما معنى السبعة الأحرف سبعة أوجه من المعاني المتفقة المتقاربة بألفاظ مختلفة نحو أقبل وتعال وهلم وعجل وأسرع وأنظر وأخر وأمهل
وذلك بين في قراءة أبي بن كعب * (انظرونا) * * (انظرونا نقتبس من نوركم) * [وأخرونا وأنسونا نقتبس من نوركم] [الحديد 13] فهذه كلمات كلها متفق مفهومها مختلف مسموعها وعلى هذا القول أكثر أهل العلم في معنى السبعة الأحرف
وأما الآثار المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب فهي محتملة التأويل وقد ذكرناها في التمهيد مسندة
منها حديث أبي بن كعب وحديث بن مسعود وحديث أبي الجهيم وحديث أبي بكرة وحديث أبي هريرة وحديث علي بن أبي طالب (رضوان الله عليهم)
وأكثرها طرقا وتواترا حديث أبي بن كعب
ولحديث بن مسعود وأبي هريرة طرق أيضا كثيرة كلها محتملة للتأويل قد نزع بها جماعة من العلماء وليس فيها شيء يرفع الإشكال ومن أراد الوقوف عليها نظر في التمهيد إليها
ذكر أبو عبيد عن عبد الله بن صالح عن الليث بن سعد عن عقيل ويونس عن بن شهاب في الأحرف السبعة قال هي في الأمر الواحد الذي لا اختلاف فيه
وذكر عبد الرزاق عن معمر قال قال الزهري إنما هذه الأحرف في الأمر الواحد ليس يختلف في حلال ولا حرام
482

وروى الأعمش عن أبي وائل عن بن مسعود قال إني سمعت القراءة فرأيتهم متقاربين فاقرؤوا كما علمتم وإياكم والتنطع والاختلاف فإنما هو كقول أحدكم هلم وتعال
وروى ورقاء عن أبي نجيح عن مجاهد عن بن عباس عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ " للذين ءامنوا انظرونا " [الحديد 13] (للذين آمنوا أمهلونا للذين آمنوا أخرونا للذين آمنوا ارقبونا)
وبهذا الإسناد عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ * (كلما أضاء لهم مشوا فيه) * [البقرة 20] (مروا فيه سعوا فيه)
كل هذه الحروف كان يقرؤها أبي بن كعب
فهذا معنى السبعة الأحرف المذكورة في الأحاديث عند جمهور أهل الفقه والحديث ومصحف عثمان (رضي الله عنه) الذي بأيدي الناس هو منها حرف واحد
ذكر بن أبي داود قال حدثنا أبو الطاهر قال سألت سفيان بن عيينة عن اختلاف قراءات المدنيين والعراقيين اليوم هل تدخل في الأحرف السبعة فقال لا إنما السبعة الأحرف كقولك أقبل هلم تعالى أي ذلك قلت أجزأك
قال أبو الطاهر وقاله بن وهب وبه قال محمد بن جرير الطبري
قال أبو جعفر الطحاوي في ذلك كلاما ذكرته عنه في التمهيد مختصرة أن الأحرف السبعة إنما كانت في وقت خاص لضرورة دعت إلى ذلك لأن كل [ذي] لغة كان يشق عليه أن يتحول عن لغته ثم لما كثر الناس والكتاب ارتفعت تلك الضرورة فارتفع حكم الأحرف السبعة وعاد ما يقرأ به إلا حرف واحد
واحتج بحديث أبي بن كعب وحديث عمر مع هشام بن حكيم وما يشبهها قد ذكرتها وأمثالها في التمهيد
وقال بعض المتأخرين من أهل العلم باللغة والقرآن ومعانيه تدبرت وجوه الاختلاف في القراءة الأولى يعني الأحرف السبعة فوجدتها سبعة أنحاء
منها ما تتغير حركته ولا يزول معناه ولا صورته مثل " هن أطهر لكم " [هود 78] و (أطهر لكم) * (ويضيق صدري) * [الشعراء 13] و (يضيق) ونحو هذا
ومنها ما يتغير معناه ويزول الإعراب ولا تتغير صورته مثل قوله " ربنا بعد بين أسفارنا " [سبأ 19] (ربنا باعد بين أسفارنا
483

ومنها ما يتغير معناه من الحروف واختلافها ولا تتغير صورته مثل قوله * (إلى العظام كيف ننشزها) * و (ننشرها) [البقرة 259]
ومنها ما تتغير صورته ولا يتغير معناه كقولك * (كالعهن المنفوش) * و (كالصوف) [القارعة 5]
ومنها ما تتغير صورته ومعناه مثل قوله " وطلع منضود " و (طلح منضود) [الواقعة 29]
ومنها بالتقديم والتأخير مثل * (وجاءت سكرة الموت بالحق) * [ق 19] و (جاءت سكرة الحق بالموت)
ومنها بالزيادة والنقصان مثل * (تسع وتسعون نعجة) * [ص 23] و [(تسع وتسعون نعجة) أنثى]
قال أبو عمر قد ذكرت في التمهيد أمثلة كثيرة لما ذكر هذا القائل في كل وجه من الوجوه السبعة
وذكرت من قرأ بذلك كله من السلف بمثل قوله في الزيادة (نعجة أنثى) قوله " وأما الغلم فكان أبواه مؤمنين " [الكهف 80] وقوله " فإن الله من بعد إكرههن غفور رحيم " [النور 33] وهو كثير
والذي أقول به إن جمع عثمان (رضي الله عنه) في جماعة الصحابة (رضوان الله عليهم) القرآن على حرف واحد بكتابة زيد بن ثابت إنما حملهم على ذلك ما اختلف فيه أهل العراق وأهل الشام حين اجتمعوا في بعض المغازي فخطأت كل طائفة منهم الأخرى فيما خالفتها فيه من قراءتها وصوبت ما تعلم من ذلك وكان أهل العراق قد أخذوا عن بن مسعود وأهل الشام قد أخذوا عن غيره من الصحابة فخاف الصحابة (رحمهم الله) من ذلك الاختلاف لما كان عندهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم من النهي عن الاختلاف في القرآن وأن المراء فيه كفر
وقد كانت عامة أهل العراق وعامة أهل الشام هموا بأن يكفر بعضهم بعضا تصويبا لما عنده وإنكارا لما عند غيره فاتفق رأي الصحابة وعثمان (رضوان الله عليهم) على أن يجمع لهم القرآن على حرف واحد من تلك السبعة الأحرف إذ صح عندهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال كلها شاف كاف (1) فاكتفوا (رحمهم الله) بحرف واحد
484

منها فأمر عثمان زيد بن ثابت ذلك فأملاه على من كتبه ممن أمره عثمان بذلك على ما هو مذكور في غير موضع
وأخبار جمع عثمان المصحف كثيرة وقد ذكرنا في التمهيد منها طرفا
وأما جمع أبي بكر للقرآن فهو أول من جمع ما بين اللوحين
وجمع علي بن أبي طالب للقرآن أيضا عند موت النبي صلى الله عليه وسلم وولاية أبي بكر فإنما كل ذلك على حسب الحروف السبعة لا كجمع عثمان على حرف واحد حرف زيد بن ثابت وهو الذي بأيدي الناس بين لوحي المصحف اليوم
وفي التمهيد بيان ما وصفنا عن أبي بكر وعن علي (رضي الله عنهما) بالآثار الواردة بذلك
حدثنا خلف بن القاسم قال حدثنا أبو الطاهر محمد بن أحمد بمصر قال حدثنا أبو بكر جعفر بن محمد المشقاصي الفريابي القاضي قال حدثنا أبو جعفر النفيلي قال قرأت على معقل بن عبيد الله عن عكرمة عن سعيد بن جبير عن بن عباس عن أبي بن كعب قال أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة بينا أنا في المسجد إذ سمعت رجلا يقرؤها بخلاف قراءتي فقلت من أقرأك هذه السورة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت لا تفارقني حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيناه فقلت يا رسول الله إن هذا قد خالف قراءتي في هذه السورة التي علمتني فقال اقرأ يا أبي فقرأت فقال أحسنت وقال للآخر اقرأ فقرأ بخلاف قراءتي فقال له أحسنت ثم قال يا أبي إنه أنزل على سبعة أحرف كلها شاف كاف قال فما اختلج في صدري شيء من القرآن
روى قتادة عن يحيى بن يعمر عن سليمان بن صرد عن أبي بن كعب قال قرأ أبي آية وقرأ بن مسعود خلافها وقرأ رجل آخر خلافهما فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث وفيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم كلكم محسن [مجمل] إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ليس منها إلا شاف كاف وذكر تمام الخبر
485

وذكر بن وهب في كتاب الترغيب من جامعه قال قيل لمالك أترى أن نقرأ بمثل ما قرأ به عمر بن الخطاب فامضوا إلى ذكر الله بدلا من قوله * (فاسعوا إلى ذكر الله) * [الجمعة 9] فقال ذلك جائز قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل القرآن على سبعة أحرف فاقرؤ منها ما تيسر
وقال مالك لا أرى باختلافهم في مثل هذا بأسا قال وقد كان الناس ولهم مصاحف والستة الذين أوصى إليهم عمر بن الخطاب كانت لهم مصاحف
قال بن وهب وسألت مالكا عن مصحف عثمان فقال ذهب
قال أبو عمر قراءة عمر فامضوا إلى ذكر الله [الجمعة 9] هي قراءة بن مسعود
وهذه الرواية عن مالك خلاف رواية بن القاسم وخلاف ما عليه جماعة الفقهاء أنه لا يقرأ في الصلاة بغير ما في مصحف عثمان بأيدي الناس فلذلك قال مالك الذي في رواية أصحابه عنه غير بن وهب أنه لا يقرأ بحرف بن مسعود لأنه خلاف ما في مصحف عثمان
روى عيسى عن بن القاسم في المصحف بقراءة بن مسعود قال أرى أن يمنع الناس من بيعه ويضرب من قرأ به ويمنع من ذلك
قال أبو عمر الذي عليه جماعة الأمصار من أهل الأثر والرأي أنه لا يجوز لأحد أن يقرأ في صلاته نافلة كانت أو مكتوبة بغير ما في المصحف المجتمع عليه سواء كانت القراءة مخالفة له منسوبة لابن مسعود أو إلى أبي أو إلى بن عباس أو إلى أبي بكر أو عمر أو مسندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم
وجائز عند جميعهم القراءة بذلك كله في غير الصلاة وروايته والاستشهاد به على معنى القرآن ويجري عندهم مجرى خبر الواحد في السنن لا يقطع على عينه ولا يشهد به على الله تعالى كما يقطع على المصحف الذي عند جماعة الناس من المسلمين عامتهم وخاصتهم مصحف عثمان وهو المصحف الذي يقطع به ويشهد على الله عز وجل وبالله التوفيق
قال أبو عمر قد ذكرنا في التمهيد ما في سورة الفرقان من اختلاف القراءات عن السلف والخلف لأن حديث مالك ورد بذكر سورة الفرقان خاصة فذكرنا ما فيها من اختلاف حروفها مستوعبا بذلك والحمد لله
وفي هذا الحديث ما يدل على أن في جبلة الإنسان وطبعه وإن كان فاضلا
486

أن ينكر ما يعرف خلافه وإن جهل ما أنكر من ذلك لأن الذي بيده من ذلك علم يقين فلا يزول عنه إلى غير إلا بمثله من العلم واليقين وكذلك لا يسوغ خلافه إلا بمثل ذلك
وفيه بيان ما كان عليه عمر (رضي الله عنه) من أنه لا يراعي في ذات الله قريبا ولا بعيد ولا عدوا ولا صديقا وقد كان شديد التفضيل لهشام بن حكيم بن حزام (رضي الله عنه) ولكنه إذ سمع منه ما أنكره لم يسامحه حتى عرف موضع الصواب فيه وكان لا يخاف في الله لومة لائم
ذكر وهب عن مالك قال كان عمر إذا خشي وقوع أمر قال أما ما بقيت أنا وهشام بن حكيم فلا
وفيه بيان استعمالهم لمعنى الآية العامة لهم ولمن بعدهم وهي قوله عز وجل " فإن تنزعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول " [النساء 59] يعني إن كان حيا فإن مات فإلى سنته كذا قال أهل العلم بالتأويل والله الموفق للصواب
وبعد هذا في هذا الباب من الموطأ حديث 444 مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة (2) إن عاهد عليها أمسكها (3) وإن أطلقها (4) ذهبت (5)
في هذا الحديث الحض على درس القرآن وتعاهده والمواظبة على تلاوته والتحذير من نسيانه بعد حفظه
وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم من حديث سعد بن عبادة أنه قال من تعلم القرآن ثم نسيه لقي الله يوم القيامة أجذم
487

قال أبو عمر ومن حديث أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضت علي أجور أمتي حتى يخرجها الرجل من المسجد وعرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذئبا أعظم من سورة من القرآن أو آية من القرآن أوتيها رجل ثم نسيها (1)
وحديث بن مسعود أنه كان يقول تعاهدوا القرآن فإنه أشد تفصيا (2) من صدور الرجال من النعم من عقلها (3)
قال وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بئس ما لأحدكم أن يقول نسيت آية كيت وكيت بل هو نسي (4)
وقد ذكرت هذه الأحاديث وغيرها في التمهيد بأسانيدها
وفي حديث بن مسعود هذا كراهة قول الرجل نسيت وإباحة قوله أنسيت
قال الله عز وجل " وما أنسنيه إلا الشيطان " [الكهف 63]
وأما حديث الموطأ إني لأنسى أو أنسى (5) فإنما هو شك من المحدث في أي اللفظتين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه حديث لا يوجد في غير الموطأ مقطوعا ولا غير مقطوع
وقد كان بن عيينة يذهب في أن النسيان الذي يستحق عليه صاحبه اللوم ويضاف إليه فيه الإثم هو الترك للعمل به
ومعلوم أن النسيان في كلام العرب الترك
قال الله عز وجل * (فلما نسوا ما ذكروا به) * [الأنعام 44] أي تركوا
وقال * (نسوا الله فنسيهم) * [التوبة 67] أي تركوا طاعة الله فترك رحمتهم
ونحو ذلك حدثني سعيد بن نصر وإبراهيم بن شاكر قالا
488

حدثنا عبد الله بن عثمان قال حدثنا سعد بن معاذ قال حدثنا بن أبي مريم قال حدثنا نعيم بن حماد قال سمعت سفيان بن عيينة يقول في معنى ما جاء من الأحاديث في نسيان القرآن قال هو ترك العمل بما فيه قال الله تعالى " اليوم ننسكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا " [الجاثية 34]
وليس من اشتهى حفظه وتفلت منه بناس له إذا كان يحلل حلاله ويحرم حرامه
قال ولو كان كذلك ما نسي النبي صلى الله عليه وسلم شيئا منه قال الله عز وجل * (سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله) * [الأعلى 6 7]
وقد نسي رسول الله صلى الله عليه وسلم منه أشياء وقال ذكرني هذا آية أنسيتها (1)
قال سفيان ولو كان كما يقول هؤلاء الجهال ما أنسى الله نبيه منه شيئا
445 وأما حديثه بعد هذا عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن الحارث بن هشام سأل رسول الله كيف يأتيك الوحي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحيانا يأتيني في مثل صلصلة (2) الجرس (3) وهو أشده علي فيفصم عني (4) وقد وعيت (5) ما قال وأحيانا يتمثل (6) لي الملك (7) رجلا فيكلمني فأعي ما يقول قالت عائشة ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد (8) عرقا
489

في هذا الحديث ما يبين به أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسأله أصحابه عن معاني دينهم وغير دينهم وأنه صلى الله عليه وسلم كان يجيبهم يصبر لهم ويعلمهم وكانت طائفة منهم تسأل وطائفة تحفظ وكلهم أدى وبلغ ما علم ولم يكتم حتى أكمل الله دينه والحمد لله
وكتاب الله أصح شاهد في ذلك يقول الله عز وجل " يسئلونك عن الخمر والميسر " [البقرة 219] و " ويسئلونك عن اليتمى " [البقرة 220] و " يسئلونك ماذا ينفقون " [البقرة 215] وهو كثير في القرآن
وفي هذا الحديث نوعان أو ثلاثة من أنواع نزول الوحي
وقد ورد في غير ما حديث من نزول الوحي أنواع حتى الرؤيا الصالحة جعلها صلى الله عليه وسلم جزءا من [أجزاء] النبوة (1) ولكنه أراد بهذا الحديث نزول ما يتلى والله أعلم
وقد روى حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن بن عباس قال كان الوحي إذا نزل سمعت الملائكة صوتا كإمرار السلسلة على الصفا (2)
وفي حديث يوم حنين أنهم سمعوا صلصلة بين السماء والأرض كإمرار الحديد على الطست (3)
وقالت عائشة كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة كان يرى الرؤيا فتأتي كأنها فلق الصبح
490

وقد كان صلى الله عليه وسلم يبدي له جبريل بين السماء والأرض وذلك بين في حديث جابر بن عبد الله (1)
وأحيانا يأتيه جبريل في هيئة إنسان فيكلمه مشافهة كما يكلم المرء أخاه
491

وذلك بين في حديث عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمر في الإيمان والإسلام وحديثه حين جاءه جبريل في صفة دحية الكلبي (1)
وفي حديث عمر بن الخطاب ويعلى بن أمية إذا نزل عليه الوحي يحمر وجهه ويغط غطيط البكر وينفخ (2)
إلى ضروب كثيرة لست أحصيها وقد ذكرنا في ذلك آثارا كثيرة متفرقة في التمهيد
وروى بن وهب عن يونس بن يزيد عن بن شهاب أنه سئل عن هذه الآية " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من ورائ حجاب أو يرسل رسولا فيوحى بإذنه ما يشاء إنه على حكيم " [الشورة 51]
قال ترى هذه الآية تعم من أوحى الله إليه من البشر كلهم
والكلام كلام الله الذي كلم به موسى (عليه السلام) من وراء حجاب
والوحي ما يوحي الله إلى النبي من أنبيائه فيثبت الله ما أراد من الوحي في قلب النبي فيتكلم به النبي فيكتبه فهو كلام الله ووحيه
ومنه ما يكون بين الله ورسله لا يكلم به أحد من الأنبياء أحدا من الناس ولكنه يكون سر غيب بين الله وبين رسله
ومنه ما يتكلم به الأنبياء ولا يكتمونه أحدا ولا يؤمرون بكتمانه ولكنهم يحدثون به الناس حديثا ويبينون لهم أن الله عز وجل أمرهم أن يبينوه للناس ويبلغوهم إياه
ومن الوحي ما يرسل الله من يشاء من ملائكته فيوحيه وحيا في قلوب من يشاء من أنبيائه ورسله
وقد بين في كتابه أنه كان يرسل جبريل إلى محمد (عليهما السلام) فقال في كتابه * (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك) * [البقرة
492

وقال عز وجل * (وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين) * [الشعراء 192 195]
وروي عن مجاهد في قوله عز وجل * (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا) * قال أن ينفث في نفسه " أو من ورائ حجاب " قال موسى حين كلمة الله * (أو يرسل رسولا) * قال جبريل إلى محمد وأشباهه من الرسل (صلوات الله عليهم أجمعين) [الشورى 51]
أما قوله في هذا الحديث صلصلة الجرس فإنه أراد في مثل صوت الجرس
والصلصلة الصوت يقال صلصلة الطست وصلصلة الجرس وصلصلة الفخار
وأما قوله فيفصم عني فمعناه ينفرج عني ويذهب عني
ويقال فصم بمعنى ذهب
وقيل فصم كما يفصم الخلخال إذا فتحته يتخرجه من الرجل
وكل عقدة حللتها فقد فصمتها
قال الله عز وجل * (فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها) * [البقرة 256] وانفصام العروة أن تنفك عن موضعها
وأصل الفصم عند العرب أن تفك الخلخال ولا تبين كسرة فإذا كسرته فقد قصمته (بالقاف)
قال ذو الرمة
(كأنه دملج من فضة نبة
* في ملعب من جواري الحي مفصوم (1))
446 وأما حديثه عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال أنزلت * (عبس وتولى) * في عبد الله بن أم مكتوم [جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول يا محمد استدنيني (2) وعند النبي صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعرض
493

عنه ويقبل على الآخر ويقول يا فلان هل ترى بما أقول بأسا فيقول لا والدماء (1) ما أرى بما تقول بأسا (2) فأنزلت * (عبس وتولى أن جاءه الأعمى) *]
فقد ذكرنا من أسنده في غير الموطأ
ذكرنا بن أم مكتوم والاختلاف في اسمه في كتاب الصحابة ورفعنا هناك في نسبه وذكرنا عيونا من خبره وهو قرشي عامري من بني عامر بن لؤي
ورواه بن جريج عن هشام بن عروة عن أبيه بمثل حديث مالك سواء
ففي هذا الحديث دليل على أن علم السيرة وما ارتبط بها من علم نزول القرآن متى نزل وفيمن نزل والمكي منه والمدني وما أشبه ذلك من جنس التاريخ في مثل ذلك علم حسن ينبغي الوقوف عليه والعناية به والميل بالهمة إليه
وفيه أيضا ما كان عليه بن أم مكتوم من الحرص على القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم والسماع منه والأخذ عنه
وأما الرجل الذي قيل فيه من عظماء المشركين فقيل هو أبي بن خلف الجمحي وقيل عتبة وشيبة ابنا ربيعة
ذكر عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال جاء بن أم مكتوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يكلم يومئذ أبي بن خلف فأعرض عنه فنزلت * (عبس وتولى أن جاءه الأعمى) * [عبس 1 2] فكان بعد ذلك يكرمه
وقد ذكرت في التمهيد حديثا مسندا عن مسروق قال دخلت على عائشة وعندها رجل مكفوف تقطع له الأترج وتطعمه إياها بالعسل فقلت من هذا يا أم المؤمنين فقالت هذا بن أم مكتوم الذي عاتب الله فيه نبيه صلى الله عليه وسلم أتى النبي (عليه السلام) وعنده عتبة وشيبة فأقبل عليهما فنزلت * (عبس وتولى أن جاءه الأعمى) * وقالت عائشة لو كتم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي شيئا لكتم هذا
وذكر حجاج عن (بن) جريج قال قال بن عباس جاءه بن أم مكتوم وعنده رجال من قريش فقال له علمني ما علمك الله فأعرض عنه وعبس في وجهه وأقبل على القوم يدعوهم إلى الإسلام فنزلت * (عبس وتولى أن جاءه الأعمى) * [عبس 1 2] فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نظر إليه بعد ذلك مقبلا بسط رداءه حتى
494

يجلسه عليه وكان إذا خرج من المدينة استخلفه يصلي بالناس حتى يرجع
وقد زدنا هذا الباب بيانا في التمهيد
وأما قوله في حديث مالك هذا لا والدماء فإن الرواية اختلفت عن مالك في ذلك فمنهم من يرويه عنه والدماء بكسر الدال ومنهم من يرويه بضمها فمن ضمها أراد الأصنام التي كانوا يعبدون ويعظمون واحدتها دمية ومن رواها بكسر الدال أراد دماء الهدايا التي كانوا يذبحون لآلهتهم
قال الشاعر [وهو توبة بن الحمير]
(علي دماء البدن إن كان بعلها
* يرى لي ذنبا غير أني أزورها (1)) وقال آخر
(أما ودماء المزجيات إلى منى
* لقد كفرت أسماء غير كفور)
447 وأما حديثه في هذا الباب عن زيد بن أسلم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره وعمر بن الخطاب يسير معه ليلا فسأله عمر عن شيء فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه فقال عمر ثكلتك أمك (2) عمر نزرت (3) رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك قال عمر فحركت بعيري حتى إذا كنت أمام الناس وخشيت أن ينزل في قرآن فما نشبت (4) أن سمعت صارخا يصرخ بي قال فقلت لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن قال فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه فقال لقد أنزلت علي هذه الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ثم قرأ * (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) * [الفتح 1]
قد ذكرنا في التمهيد من قال فيه عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر فأسنده
وفيه من وجوه العلم إباحة المشي على الدواب بالليل وهذا محمول عند أهل
495

العلم على من لا يمشي بها نهارا أو من يمشي بها نهارا بعض المشي ويستعمل في ذلك [الرفق عند حاجته إلى المشي بالليل لأنها عجم لا تخبر عن حالها وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم] بالرفق بها والإحسان إليها
وفيه أن العالم إذا سئل عما لا يريد الجواب فيه إن سكت ولا يجيب ب نعم ولا ب لا ورب كلام جوابه السكوت
وفيه من الأدب أن سكوت العالم عن الجواب يوجب على المتعلم ترك الإلحاح عليه
وفيه الندم على إيذاء العالم والإلحاح عليه خوف غضبه وحرمان فائدته في المستقبل وقل ما أغضب أحد عالما إلا حرم الفائدة منه
قال أبو سلمة بن عبد الرحمن لو رفقت بابن عباس لاستخرجت منه علما
وقالوا كان أبو سلمة يماري بن عباس فحرم بذلك علما كثيرا
وفيه ما كان عليه عمر (رضي الله عنه) من التقوى وخوف الله تعالى لأنه خشي أن يكون عاصيا لسؤاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبه والمعلوم أن سكوت العالم عن الجواب [مع] علمه به دليل على كراهة ذلك السؤال
وفيه ما يدل على أن السكوت عن السائل يعز عليه وهذا موجود في طبائع الناس ولهذا أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر يؤنسه
وفي ذلك ما يدل على منزلة عمر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضعه من قلبه
وفيه أن غفران الذنوب خير للمؤمنين مما طلعت عليه الشمس لو أعطي ذلك وذلك تحقير منه صلى الله عليه وسلم بالدنيا وتعظيم للآخرة وهكذا ينبغي للعالم أن يحقر ما حقر الله ويعظم ما عظم الله
وإذا كان غفران الذنوب كما وصف فمعلوم [أنه] (عليه الصلاة والسلام) لم يكفر عنه إلا الصغائر لأنه لا يأتي كبيرة أبدا لا هو ولا أحد من الأنبياء لأنهم معصومون
من الكبائر صلوات الله عليهم
والسفر المذكور في هذا الحديث الذي نزلت فيه سورة الفتح هو منصرفة من خيبر وقيل من الحديبية
واختلفوا في قوله * (فتحا مبينا) * [الفتح 1] فقال قوم خيبر وقال آخرون الحديبية منحره ومحلقه
وقد ذكرنا أقوالهم في تفسير الآية في التمهيد
496

وأما قوله في الحديث نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بن وهب معناه أكرهت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسألة أي أتيته بما يكره
وقال بن حبيب ألححت وكررت السؤال وأبرمت رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقال بن قتيبة نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي ألححت عليه قال ومنه قولهم أعطى عطاء غير منزور أي بغير إلحاح وأنشد
(فخذ عفو ما آتاك لا تنزرنه
* فعند بلوغ الكدر رنق المشارب (1)) وقد ذكر حبيب عن مالك قال نزرت راجعت
وقال الأخفش نزرت البئر إذا أكثرت الإسقاء منها حتى يقل ماؤها يقال بئر نزور أي قليلة الماء وكذلك دمع نزور
ومعناه أنه سأله حتى قطع عليه كلامه فتبرم به
وفي إدخال مالك (رحمه الله) هذا الحديث في باب ما جاء في القرآن دليل على أنه أراد التعريف بأن القرآن كان ينزل على النبي (عليه السلام) على قدر الحاجة وما يعرض له مع أصحابه وقد أخبر الله تعالى أنه لم ينزل عليه القرآن جملة واحدة وقد أوضحنا هذا المعنى في ما مضى
448 وأما حديثه عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي سعيد
قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يخرج فيكم (2) قوم تحقرون (3) صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم وأعمالكم مع أعمالهم يقرؤون القرآن ولا يجاوز حناجرهم (4) يمرقون من الدين (5) مروق السهم من الرمية (6) تنظر في
497

النصل (1) فلا ترى شيئا وتنظر في القدح (2) فلا ترى شيئا وتنظر في الريش فلا ترى شيئا وتتمارى (3) في الفوق (4) الحديث على ما في الموطأ
وهو حديث مسند صحيح يروى من وجوه كثار صحاح ثابتة بمعان متقاربة وإن اختلف بعض ألفاظها وقد ذكرت كثيرا منها في التمهيد
فأول ما في حديث مالك هذا من المعاني أن الخوارج على الصحابة (رضي الله عنهم) إنما قيل لهم خوارج لقوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه يخرج فيكم ومعنى قوله فيكم أي عليكم كما قال تعالى * (في جذوع النخل) * [طه 71] أي عليكم كما قال تعالى * (جذوع النخل) *
وكان خروجهم ومروقهم في زمن الصحابة فسموا الخوارج وسموا المارقة بقوله في هذا الحديث يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية
وبقوله (عليه السلام) تقتتل طائفتان من أمتي تمرق منهما مارقة تقتلها أولى الطائفتين بالحق (5) فهذا أصل ما سميت به الخوارج والمارقة
ثم استمر خروجهم على السلاطين فأكدوا الاسم ثم افترقوا فرقا لها أسماء منهم الإباضية أتباع عبد الله بن إباض
والأزارقة أتباع نافع بن الأزرق
والصفرية أتباع النعمان زياد بن الأصفر
وأتباع نجدة الحروري يقال لهم النجدات ولم يقل فيهم النجدية وما أظن ذلك والله أعلم إلا ليفرق بين ما انتسب إلى بلاد نجد وبينهم
وفرق سواها يطول ذكرها وليس هذا موضعه وهم يتسمون بالشراة (6) ولا يسميهم بذلك غيرهم بل أسماؤهم التي ذكرناها عنهم مشهورة في الأخبار والأشعار
قال عبد الله بن قيس الرقيات
498

(ألا طرقت من آل بثنة طارقة
* على أنها معشوقة الدل عاشقة (1))
(تبيت وأرض السوس بيني وبينها
* وسولاف رستاق خمته الأزارقة)
(إذا نحن شئنا صادفتنا عصابة
* حرورية أضحت من الدين مارقه) والحرورية منسوبة إلى حروراء خرج فيه أولهم على علي رضي الله عنه فقاتلهم بالنهروان وأظهره الله عليهم فقتل منهم ألوفا وهم قوم استحلوا بما تأولوا من كتاب الله (عز وجل) دماء المسلمين وكفروهم بالذنوب وحملوا عليهم السيف وخالفوا جماعتهم فأوجبوا الصلاة على الحائض ولم يروا على الزاني المحصن الرجم ولم يوجبوا عليه إلا الحد مائة ولم يطهرهم عند أنفسهم إلا الماء الجاري أو الكثير المستبحر إلى أشياء يطول ذكرها قد أتينا على ذكر أكثرها في غير هذا الموضع فمرقوا من الدين بما أحدثوا فيه مروق السهم من الرمية كما قال
وقد ذكرنا في التمهيد الحكم فيهم عند العلماء
روى بن وهب وغيره عن سفيان بن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد قال ذكرت الخوارج واجتهادهم يعني في الصلاة والصيام وتلاوة القرآن عند بن عباس فقال ليسوا بأشد
اجتهادا من اليهود والنصارى ثم هم يضلون
وأما قوله يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم فمعناه أنهم لم ينتفعوا بقراءته إذ تأولوه على غير سبيل السنة المبينة له وإنما حملهم على جهل السنة ومعاداتها وتكفيرهم السلف ومن سلك سبيلهم وردهم لشهاداتهم ورواياتهم تأولوا القرآن بآرائهم فضلوا وأضلوا فلم ينتفعوا به ولا حصلوا من تلاوته إلا على ما يحصل عليه الماضغ الذي يبلع ولا يجاوز ما في فيه من الطعام حنجرته
وأما قوله يمرقون من الدين فالمروق الخروج السريع كما يخرج السهم من الرمية والرمية الطريدة من الصيد المرمية مثل المقتولة والقتيلة
قال الشاعر
(النفس موقوفة والموت غايتها
* نصب الرمية للأحداث ترميها) وقال أبو عبيد كما يخرج السهم من الرمية قال يقول خرج السهم ولم يتميز بشيء كما خرج هؤلاء من الإسلام ولم يتمسكوا منه بشيء
وقال غيره قوله في الحديث ويتمارى في الفرق في الفرق دليل على الشك في
499

خروجهم جملة على الإسلام لأن التماري الشك فإذا وقع الشك في خروجهم لم يقطع عليهم بالخروج الكلي من الإسلام
واحتج من ذهب هذا المذهب بلفظة رويت في بعض الأحاديث الواردة فيهم وفي قوله صلى الله عليه وسلم يخرج فيكم قوم من أمتي فلو صحت هذه اللفظة [كانت] شهادة منه (عليه السلام) أنهم من أمته
حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بكر بن حماد قال حدثنا مسدد قال حدثنا مجالد قال حدثنا أبو الوداك واسمه جبر بن نوف قال سمعت أبا سعيد الخدري يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج قوم من أمتي عند فرقة أو قال عند اختلاف من الناس يقرؤون القرآن كأحسن ما يقرأه الناس ويرعونه كأحسن ما يرعاه الناس يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية يرمي الرجل الصيد فينفذ الفرث والدم فيأخذ السهم فيتمارى أصابه شيء أم لا [هم] شر الخلق والخليقة تقتلهم أولى الطائفتين بالله أو أقرب الطائفتين إلى الله (1)
قال بعض العلماء في هذا الحديث معنى قوله يخرج قوم من أمتي أي في دعواهم
قال أبو عمر أكثر طرق الأحاديث عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب إنما فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تلتقي من أمتي فئتان أو تقتتل من أمتي فئتان فبينا هم كذلك إذ مرقت مارقة بينهما يقتلها أولى الطائفتين بالحق (2)
وقد ذكرنا طرق هذا الحديث في التمهيد
قال الأخفش شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم مروقهم من الدين برمية الرامي الشديد الساعد الذي رمى الرمية فأنفذها سهمة وقع في جانب منها وخرج من الجانب الآخر لشدة رميته فلم يتعلق بالسهم دم ولا فرث وكأن الرامي أخذ السهم فنظر في نصله وهو الحديدة التي في السهم فلم ير شيئا من دم ولا فرث ثم نظر في القدح والقدح عود السهم فلم ير شيئا ونظر في الريش فلم ير شيئا
وقوله يتمارى في الفوق أي يشك إن كان أصاب الدم الفوق أم لا
والفوق هو الشيء الذي يدخل فيه الوتر قال يقول فكما يخرج السهم نقيا من الدم لم يتعلق به منه شيء فكذلك يخرج هؤلاء من الدين يعني الخوارج
500

ذكر عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع قيل قل لابن عمر إن نجدة الحروري يقول إنك كافر وأراد قتل مولاك إذ لم يقل إنك كافر فقال بن عمر والله ما كفرت منذ أسلمت
قال نافع وكان بن عمر حين خرج نجدة يرى قتاله
قال عبد الرزاق وأخبرنا معمر عن بن طاوس عن أبيه أنه كان يحرض على قتال الحرورية
وذكر بن وهب عن عمر بن الحارث عن بكير بن الأشج أنه [سأل] نافعا كيف كان رأي بن عمر في الخوارج فقال كان يقول هم شرار الخلق انطلقوا إلى آيات أنزلت في الكفار فجعلوها في المؤمنين
وقد ذكرنا في التمهيد رواية جماعة عن علي (رضي الله عنه) أنه سئل عن أهل النهروان أكفارهم قال من الكفر فروا قيل فهم منافقون فقال إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا قيل فما هم قال قوم ضل سعيهم وعموا عن الحق وهم بغوا علينا فقاتلناهم فنصرنا الله عليهم
وذكر نعيم بن حماد عن وكيع عن مسعر عن عامر بن شقيق عن أبي وائل عن علي (رضي الله عنه) قال لم نقاتل أهل النهروان على الشرك
وعن وكيع عن أبي خالد عن حكيم بن جابر عن علي مثله
وقد ذكرنا أقاويل الفقهاء [في قتال] الخوارج وأهل البغي والحكم فيهم بعد ذكر سيرة علي (رضي الله عنه) فيهم وفي غيرهم ممن قاتله في حين قتاله لهم مبسوطة في التمهيد والحمد لله
وفي هذا الحديث نص على أن القرآن قد يقرؤه من لا دين له ولا خير فيه ولا يجاوز لسانه وقد مضى هذا المعنى عند قول بن مسعود وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه كثير قراؤه تحفظ فيه حروف القرآن وتضيع حدوده (1)
وذكرنا هناك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر منافقي أمتي قراؤها (2) وحسبك بما ترى من تضييع حدود القرآن وكثرة تلاوته في زماننا هذا بالأمصار وغيرها مع فسق أهلها والله أسأله العصمة والتوفيق والرحمة فذلك منه لا شريك له
501

449 وأما حديث مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عمر مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها
فهو من قول بن مسعود رضي الله عنه إنك في زمان كثير فقهاؤه قليل قراؤه إنه كان يتعلمها بأحكامها ومعانيها وأخبارها فكذلك طال مكثه فيها
ومعلوم أن من الناس من يتعذر عليه حفظ القرآن ويفتح له في غيره
وكان بن عمر فاضلا وقد حفظ القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في جماعة منهم عثمان وعلي وأبي بن كعب وبن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهم
((5 باب ما جاء في سجود القرآن))
450 ذكر فيه مالك عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قرأ لهم * (إذا السماء انشقت) * فسجد فيها فلما انصرف أخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها
وهذا حديث طرقه عن أبي هريرة كثيرة صحاح كلها قد ذكرنا في التمهيد كثيرا منها
ومنها ما رواه أبو داود الطيالسي قال حدثنا قرة بن خالد قال حدثنا محمد بن سيرين قال حدثنا أبو هريرة قال سجد أبو بكر وعمر (رضي الله عنهما) في * (إذا السماء انشقت) * [الانشقاق 1] و * (اقرأ باسم ربك الذي خلق) * [العلق 1] ومن هو خير منهما
وذكره النسائي عن إسحاق بن راهويه عن المعتمر عن قرة عن أبي بكر عن أبي هريرة مثله سواء وتابع بن سيرين على زيادة * (اقرأ باسم ربك) * [العلق 1]
وفي هذا الحديث عن أبي هريرة أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعطاء بن ميناء والأعرج
502

وروى الثوري عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود قال رأيت عمر وعبد الله يسجدان في * (إذا السماء انشقت) *
والثوري عن عاصم عن زر عن علي (رضي الله عنه) قال العزائم أربع * (ألم تنزيل) * السجدة و * (حم) * السجدة والنجم و * (اقرأ باسم ربك الذي خلق) *
والثوري ومعمر عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي مثله
وسليمان بن مسلم بن جماز الزهري عن أبي جعفر يزيد بن القعقاع القارئ أنه أخبره أنه رأى أبا هريرة يسجد في * (اقرأ باسم ربك الذي خلق) *
وفي الموطأ عند جماعة من رواته عن مالك أنه بلغه عن عمر بن عبد العزيز قال لمحمد بن قيس القاضي اخرج إلى الناس فمرهم أن يسجدوا في * (إذا السماء انشقت) *
فهذه مسألة فيها الحديث الصحيح المسند وعمل ا لخلفاء الراشدين وجماعتي الصحابة والتابعين وذلك نقيض السجود في المفصل
451 وروى مالك عن بن شهاب عن الأعرج أن عمر سجد في * (والنجم) *
وقد روى بن وهب عن مالك إجازة ذلك وقال لا بأس به
وهو قول الثوري وأبي حنيفة والشافعي وإسحاق وأبي ثور وأحمد بن حنبل وداود
وروي ذلك عن أبي بكر وعمر وعلي وبن مسعود وعمار وأبي هريرة وبن عمر على اختلاف عنه وعمر بن عبد العزيز وجماعة من التابعين
ورواه بن القاسم وجمهور من أصحاب مالك عن مالك وهو الذي ذهب إليه في موطئه أن لا سجود في المفصل
وهو قول أكثر أصحابه وطائفة من المدينة وقول بن عمر وبن عباس وأبي بن كعب
وبه قال سعيد بن المسيب والحسن البصري وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وطاوس وعطاء وأيوب كل هؤلاء يقولون ليس في المفصل سجود بالأسانيد الصحاح عنهم
503

وقال يحيى بن سعيد الأنصاري أدركت القراء لا يسجدون في شيء من المفصل
وروى يحيى بن يحيى في الموطأ قال قال مالك الأمر عندنا أن عزائم سجود القرآن إحدى عشرة سجدة ليس في المفصل منها شيء
ورواية يحيى هذه عن مالك في الموطأ الأمر (المجتمع عليه) عندنا
كذلك رواه بن القاسم والشعبي وبن بكير والشافعي (رحمه الله) عن مالك في الموطأ
وإنما قلت إن رواية يحيى صاحبنا [أصح و] أولى من رواية غيره لأن الاختلاف في عزائم سجود القرآن بين السلف والخلف بالمدينة معروف عند العلماء بها وبغيرها ورواية يحيى متأخرة عن مالك وهو آخر من روى عنه وشهد موته بالمدينة ويحتمل أن يكون قوله المجتمع عليه أراد به أنه لم يجتمع على ما سوى الإحدى عشرة سجدة كما اجتمع عليها
تأول هذا بن الجهم وهو حسن
ذكر عبد الرزاق عن بن جريج قال أخبرني عكرمة بن خالد أن سعيد بن جبير أخبره أنه سمع بن عباس وبن عمر يعدان كم في القرآن من سجدة فقالا الأعراف والرعد [والنخل] وبنو إسرائيل ومريم والحج أولها والفرقان وطس وآلم تنزيل وص وحم السجدة إحدى عشرة سجدة قالا وليس في المفصل منها شيء
هذه رواية سعيد بن جبير عن بن عباس
وروى أبو حمزة الضبعي مثله
وروى عطاء عنه أنه لا يسجد في (ص)
ذكر عبد الرزاق عن بن جريج عن عطاء أنه عد سجود القرآن عشرا
ومن حجة من لم ير السجود في المفصل حديث الليث عن بن الهاد عن أبي سلمة أنه قال لأبي هريرة حين سجد بهم في * (إذا السماء انشقت) * [الانشقاق 1] لقد سجدت في سجدة ما رأيت الناس يسجدون فيها
504

قالوا هذا دليل على أن السجود في * (إذا السماء انشقت) * كان الناس قد تركوه وجرى العمل بتركه
وحجة من خالفه رأى الحجة في السنة لا فيما خالفها ورأى من خالفها محجوج بها
ومن حجة من لم ير السجود في المفصل حديث مطر الوراق عن عكرمة عن بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة (1)
وهذا حديث منكر لأن أبا هريرة لم يصحبه إلا بالمدينة وقد رآه يسجد في * (إذا السماء انشقت) * و * (اقرأ باسم ربك) * [العلق 1] وحديث مطر لم يروه عنه إلا أبو قدامة وليس بشيء
واحتج أيضا من لم ير السجود في المفصل بحديث
عطاء بن يسار عن زيد بن ثابت قال قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم * (والنجم) * [النجم 1] فلم يسجد فيها (2)
وهذا لا حجة فيه لأن السجود ليس بواجب عندنا ومن شاء سجد ومن شاء ترك على أن زيدا كان القارئ ولم يسجد فلذلك لم يسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقد روى عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد في * (والنجم) *
452 وذكر مالك في هذا الباب أيضا عن نافع مولى بن عمر أن رجلا من أهل مصر أخبره أن عمر بن الخطاب قرأ سورة الحج فسجد فيها سجدتين
ثم قال إن هذه السورة فضلت بسجدتين
453 وعن عبد الله بن دينار أنه قال رأيت عبد الله بن عمر يسجد في سورة الحج سجدتين
505

وهذه السجدة الثانية من الحج اختلف فيها الخلف والسلف وأجمعوا على أن الأولى من الحج يسجد فيها
وقال الطحاوي كل سجدة جاءت بلفظ الخبر فلم يختلفوا في أنه يسجد فيها واختلفوا فيها جاءت بلفظ الأمر
وأما اختلافهم في السجدة الآخرة من الحج فقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما ليس في الحج سجدة إلا واحدة وهي الأولى
وروي ذلك عن سعيد بن جبير والحسن البصري وجابر بن زيد
واختلف فيها عن بن عباس
وقال الشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود والطبري في الحج سجدتان
وهو قول عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر وأبي الدرداء وأبي موسى الأشعري وعبد الله بن عباس على اختلاف عنه وأبي عبد الرحمن السلمي وأبي العالية الرياحي
وقال أبو إسحاق السبيعي أدركت الناس منذ سبعين سنة يسجدون في الحج سجدتين
وقال الأثرم سمعت أحمد بن حنبل يسأل كم في الحج من سجدة فقال سجدتان قيل له حدث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحج سجدتان قال نعم
رواه بن لهيعة عن مشرح عن عقبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحج سجدتان ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما (1)
يريد فلا يقرأهما إلا وهو طاهر
قال وهذا يؤكد قول عمر وبن عمر وبن عباس أنهم قالوا فضلت سورة الحج بسجدتين
وذكر عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع أن عمر وبن عمر كان يسجدان في الحج سجدتين
506

قال وقال بن عمر لو سجدت فيها واحدة كانت السجدة الآخرة أحب إلي
واختلفوا في سجدة (ص)
فذهب مالك والثوري وأبو حنيفة إلى أن فيها سجودا
وروي ذلك عن عمر وبن عمر وعثمان وجماعة من التابعين
وبه قال إسحاق وأحمد وأبو ثور
واختلف في ذلك عن بن عباس
وذهب الشافعي إلى أن لا سجود في (ص) وهو قول بن مسعود وعلقمة
وذكر عبد الرزاق عن الثوري عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال قال عبد الله بن مسعود إنما هي توبة نبي ذكرت وكان لا يسجد فيها [يعني (ص)]
وقال بن عباس ليست سجدة (ص) من عزائم السجود وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها
وقد ذكرنا الآثار المسندة وغيرها في سجدة (ص) في التمهيد
واختلفوا في جملة سجود القرآن
ذهب مالك وأصحابه إلى أنها إحدى عشرة سجدة ليس في المفصل منها شيء
وروي ذلك عن عمر وبن عباس (على اختلاف عنه) وقد ذكرنا في هذا الباب من قال ذلك
وقال أبو حنيفة وأصحابه أربع عشرة سجدة فيها الأولى من الحج
وقال الشافعي أربع عشرة سجدة ليس فيها سجدة * (ص) * فإنها سجدة شكر
وفي الحج عنده سجدتان
وقال أبو ثور أربع عشرة سجدة فيها الثانية من الحج وسجدة (ص) وأسقط سجدة النجم
وقال أحمد وإسحاق خمس عشر سجدة في الحج سجدتان وسجدة (ص)
وهو قول بن وهب ورواه عن مالك
وقال الطبري خمس عشرة سجدة
ويدخل في السجدة بتكبير ويخرج منها بتسليم
وقال الليث بن سعد يستحب أن يسجد في القرآن كله في المفصل وغيره
507

واختلفوا في سجود التلاوة
فقال أبو حنيفة وأصحابه هو واجب
وقال مالك والشافعي والأوزاعي والليث هو مسنون وليس بواجب
454 وذكر مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن عمر بن الخطاب قرأ سجدة وهو على المنبر يوم الجمعة فنزل وسجد وسجد الناس معه ثم قرأها الجمعة الأخرى فتهيأ الناس للسجود فقال على رسلكم إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء فلم يسجد ومنعهم أن يسجدوا
وذكر عبد الرزاق عن بن جريج قال أخبرني بن [أبي] مليكة عن عثمان بن عبد الرحمن عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير أنه حضر عمر بن الخطاب يوم جمعة فقرأ على المنبر سورة النحل حتى إذا جاء السجدة سجد وسجد الناس معه حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأها حتى إذا جاء السجدة قال يا أيها الناس إنا نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب وأحسن ومن لم يسجد فلا إثم عليه وقال ولم يسجد عمر
قال وأخبرنا بن جريج عن نافع عن بن عمر قال لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء
قال أبو عمر هذا عمر وبن عمر ولا مخالف لهما من الصحابة فلا وجه لقول من أوجب سجود التلاوة فرضا لأن الله لم يوجبه ولا رسوله ولا اتفق العلماء على وجوبه والفرائض لا تثبت إلا من الوجوه التي ذكرنا أو ما كان في معناها وبالله توفيقنا
وقال مالك ليس العمل على أن ينزل الإمام إذا قرأ السجدة على المنبر فيسجد
وقال الشافعي لا بأس بذلك
قال أبو عمر يحتمل قول مالك على أنه أراد يلزمه النزول للسجود لأن عمر مرة سجد ومرة لم يسجد
وأما قوله لا ينبغي لأحد يقرأ من سجود القرآن شيئا بعد صلاة الصبح ولا بعد صلاة العصر وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع
508

الشمس وعن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس والسجدة من الصلاة
فقول صحيح وحجة واضحة
وأما اختلافهم في سجود التلاوة بعد الصبح وبعد العصر فقد ذكرنا ما ذكره مالك في الموطأ
وقال بن القاسم عنه سجد في هذين الوقتين ما لم تتغير الشمس أو يسفر فإذا أسفر أو اصفرت الشمس لم يسجد وهذه الرواية قياس على مذهبه في صلاة الجنائز
وقال الثوري في قوله مثل قول مالك في الموطأ
وكان أبو حنيفة لا يسجد عند الطلوع ولا عند الزوال ولا عند الغروب ويسجدها بعد العصر وبعد الفجر
قال أبو عمر وهكذا مذهبه في الصلاة على الجنائز
وقال زفر إن سجد عند طلوع الشمس أو غروبها أو عند استوائها أجزأه إذا تلاها في ذلك الوقت
وقال الأوزاعي والليث والحسن بن صالح لا يسجد في الأوقات التي تكره الصلاة فيها
وقال الشافعي جائز أن يسجد بعد الصبح وبعد العصر
وأما قوله لا يسجد الرجل والمرأة إلا وهما طاهران فإجماع من الفقهاء أنه لا يسجد أحد سجدة تلاوة إلا على طهارة
وسئل مالك (رحمه الله) عنه امرأة قرأت سجدة ورجل معها يسمع أعليه أن يسجد معها قال مالك ليس عليه أن يسجد معها إنما تجب السجدة على القوم يكونون مع الرجل فيأتمون به فيقرأ السجدة فيسجدون معه
وليس على من سمع سجدة من إنسان يقرؤها ليس له بإمام أن يسجد تلك السجدة
قال أبو عمر معنى قوله إنه لا يصلح عنده أن يكون إماما في سجود التلاوة ويؤتم به فيها فيسجد معه بسجوده إلا من يصلح أن يكون إماما في الصلاة ولا تؤم المرأة والغلام عنده في الصلاة
وهذه مسألة اختلف فيها الفقهاء فقول مالك ما ذكره في موطئه
وقال بن القاسم عنه إذا قرأ السجدة من لا يكون إماما من رجل أو امرأة أو
509

صبي وأنت تسمعه فليس عليك السجود سجد أم لا إلا أن تكون جلست إليه
قال أبو عمر يعني وكان ممن يصلح أن يؤتم به
وقال أبو حنيفة وأصحابه يسجد سجود التلاوة السامع لها من رجل أو امرأة
وقال الثوري في الرجل يسمع السجدة من المرأة قال يقرؤها هو ويسجد يعني ولا يسجد لتلاوتها
وقال الليث من سمع السجدة من غلام سجدها
وذكر البويطي عن الشافعي قال إن سمع رجلا يقرأ في الصلاة سجدة فإن كان جالسا إليه يستمع قراءته فسجد فليجسد معه قال وإن لم يسجد وأحب المستمع أن يسجد فليسجد
قال أبو عمر أصل هذا الباب عند العلماء قوله تعالى " إذا تتلى عليهم ءايت الرحمن خروا سجدا وبكيا مريم 58] وقوله تعالى " قل ءامنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا " [الإسراء 107]
قال أبو عمر قول مالك وجمهور الفقهاء أن الساجد سجدة التلاوة يكبر إذا سجد وإذا رفع منها واختلف قول مالك إذا كان في غير الصلاة
((6 باب ما جاء في قراءة "
* (قل هو الله أحد) * و " تبرك الذي بيده الملك "
455 ذكر فيه مالك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة عن أبيه عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رجلا يقرأ * (قل هو الله أحد) * يرددها (1)
فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له وكأن الرجل يتقالها (2) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن
قال أبو عمر لم يتجاوز مالك (رحمه الله) بإسناد هذا الحديث أبا سعيد
510

الخدري وقد رواه قوم من الثقات أيضا عن أبي سعيد الخدري عن أخيه لأمه قتادة بن النعمان الظفري عن النبي صلى الله عليه وسلم
وقد روي عن مالك أيضا كذلك
وقد ذكرنا الأسانيد بذلك في التمهيد
وروي أن القارئ له الذي كان يتقالها (يعني يراها قليلا) هو قتادة بن النعمان نفسه والإسناد بذلك مذكور في التمهيد
وقد اختلف الفقهاء في معنى هذا الحديث فقال قوم إنه لما سمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم يرددها ويكثر ترداد قراءتها إما لأنه لم يحفظ غيرها وإما لما جاءه من فضلها وبركتها وأنه لم يزل يرددها حتى بلغ تردادها بالكلمات والحروف والآيات ثلث القرآن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها لتعدل له ثلث القرآن يعني على هذا الوجه لما كان من تكراره لها
وهذا تأويل فيه بعد عن ظاهر الحديث والله أعلم
وقال آخرون بل ذلك لما تضمنت سورة * (قل هو الله أحد) * من [التوحيد] والإخلاص والتنزيه لله تعالى عن الأنداد والأولاد
قال قتادة هي سورة خالصة لله ليس فيها شيء من أمر الدنيا والآخرة
وقال إن الله أسس السماوات السبع والأرضين السبع على هذه السورة * (قل هو الله أحد) *
قالوا فلهذا كله وما كان مثله كان ذلك الفضل فيها لتاليها
وهذا وجه حسن من التأويل إلا أنه لا يقال في غيرها من آيات القرآن المضمنات من التوحيد والإخلاص ما في * (قل هو الله أحد) * أنها تعدل ثلث القرآن ولو كانت
العلة ما ذكر لزم ذلك في مثلها حيث كانت من القرآن كقوله * (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) * [البقرة 255] و " لا إله إلا هو الرحمن الرحيم البقرة 163]
وكآخر سورة الحشر وما كان مثل ذلك
وخالفت طائفة معنى الحديث في " قل هو الله أحد " تعدل ثلث القرآن أن الله تعالى جعل القرآن ثلاثة أجزاء فجعل " قل هو الله أحد " منها جزءا [واحدا] وزعموا أن تلك الأجزاء على ثلاثة معان أحدها القصص والأخبار والثاني الشرائع والحلال والحرام والثالث صفاته تبارك اسمه
وفي سورة " قل هو الله أحد " صفاته فلذلك تعدل ثلث القرآن
511

واعتلوا بحديث قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة اليعمري عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة قالوا نحن أعجز من ذلك وأضعف قال إن الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء فجعل * (قل هو الله أحد) * جزءا من أجزاء القرآن (1)
قال أبو عمر ليس في هذا الحديث حجة لما ذكروه ولا فرق بين ثلاثة أجزاء وثلاثة أثلاث أو ثلاثة سهام لأن ذلك كله معناه واحد وقد وجدنا في خاتمة سورة الحشر وغيرها من صفات الله أكثر مما في * (قل هو الله أحد) * ولم يأت في شيء منها أنها تعدل ثلث القرآن كما جاء في * (قل هو الله أحد) * ولما لم تعدل * (قل هو الله أحد) * في كلماتها ولا في حروفها إلا أنها تعدل في الثواب لمن تلاها ثلث القرآن وهذا هو الذي يشهد له ظاهر الحديث وهو الذي يفر منه من خاف (واقعة) تفضيل القرآن بعضه على بعض وليس فيما يعطي الله عبده من الثواب على عمل يعمله ما يدل على فصل ذلك العمل في نفسه بل هو فضله (عز وجل) يؤتيه من يشاء من عباده على ما يشاء من عباداته تفضلا منه على من يشاء منهم وقد قال الله (عز وجل) * ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها " [البقرة 106]
ولم يختلف العلماء بتأويل القرآن أنها خير لعبادة المؤمنين التالين لها والعاملين بها إما بتخفيف عنهم وإما بشفاء صدورهم بالقتال لعدوهم لأنها في ذاتها أفضل من غيرها فكذلك * (قل هو الله أحد) * خير لنا لأن الله يتفضل على تاليها من الثواب بما شاء ولسنا نقول في ذاتها أفضل من غيرها لأن القرآن عندنا كلام الله وصفة من صفاته ولا يدخل التفاضل في صفاته لدخول النقص في المفضول منها
هذا كله قد قاله أهل السنة والرأي والحديث على أني أقول إن السكوت في هذه المسألة وما كان مثلها أفضل من الكلام فيها وأسلم
حدثنا عبيد بن محمد قال حدثنا سلمة بن المعلى قال حدثنا عبد الله بن الجارود قال حدثنا إسحاق بن منصور قال قلت لأحمد بن حنبل قوله صلى الله عليه وسلم * (قل هو الله أحد) * تعدل ثلث القرآن ما وجهه فلم يقم لي فيها على أمر بين
قال وقال لي إسحاق بن راهويه معناه أن الله (عز وجل) لما فضل كلامه على سائر الكلام جعل لبعضه أيضا فضلا من الثواب لمن قرأه تحريضا منه على تعليمه
512

لأن من قرأ * (قل هو الله أحد) * ثلاث مرات كمن قرأ القرآن كله هذا لا يستقيم ولو قرأ * (قل هو الله أحد) * مائتي مرة
قال أبو عمر هذان عالمان بالسنن وإمامان في السنة ما قاما ولا قعدا في هذه المسألة
وقد أجمع أهل العلم بالسنن والفقه وهم أهل السنة عن الكف عن الجدال والمناظرة فيما سبيلهم اعتقاده بالأفئدة مما ليس تحته عمل وعلى الإيمان بمتشابه القرآن والتسليم له ولما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث الصفات كلها وما كان في معناها وإنما يبيحون المناظرة في الحلال والحرام وما كان في سائر الأحكام يجب العمل بها
حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا مصعب بن عبد الله قال سمعت مالك يقول إن أهل بلدنا يكرهون الجدال والكلام والبحث والنظر إلا فيما تحته عمل وأما ما سبيله الإيمان به واعتقاده والتسليم له فلا يرون فيه جدالا ولا مناظرة
هذا معنى قوله
أخبرنا محمد بن خليفة قال حدثنا محمد بن الحسين البغدادي بمكة قال حدثنا أحمد بن محمد بن زياد الأعرابي قال حدثنا عمر بن مدرك القاضي قال حدثنا هيثم بن خارجة قال حدثنا الوليد بن مسلم قال سألت الأوزاعي والثوري ومالك بن أنس والليث بن سعد عن الأحاديث التي فيها الصفات فكلهم قال أمروها كما جاءت بلا تفسير
وقال أحمد بن حنبل يسلم بها كما جاءت فقد تلقاها العلماء بالقبول
حدثنا أحمد بن فتح بن عبد الله قال حدثنا محمد بن عبد الله بن زكريا النيسابوري قال حدثنا أبو عبد الله محمد بن علي بن سهل المروزي قال حدثنا الحسين بن الحسن النرسي قال حدثنا سليم بن منصور بن عمار قال كتب بشر المريسي إلى أبي (رحمه الله) أخبرني عن القرآن أخالق أم مخلوق فكتب إليه أبي بسم الله الرحمن الرحيم عافانا الله وإياك من كل فتنة وجعلنا وإياك من أهل السنة ومن لا يرغب بدينه عن الجماعة فإنه إن يفعل فأولى بها نعمة وإلا يفعل فهي الهلكة وليس لأحد على الله بعد المرسلين حجة ونحن نرى أن الكلام في القرآن بدعة يتشارك فيها السائل والمجيب تعاطي السائل ما ليس له وتكلف المجيب ما ليس عليه ولا أعلم خالقا إلا الله والقرآن كلام الله فانته أنت
513

والمختلفون فيه إلى ما سماه الله به تكن من المهتدين ولا تسم القرآن باسم من عندك فتكون من الهالكين جعلنا الله وإياك من الذين يخشونه بالغيب وهم من ا لساعة مشفقون والسلام
456 وأما حديث مالك عن عبيد الله بن عبد الرحمن عن عبيد بن حنين مولى آل زيد بن الخطاب أنه قال سمعت أبا هريرة يقول أقبلت مع رسول الله فسمع رجلا يقرأ * (قل هو الله أحد) * فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبت فسألته ماذا يا رسول الله فقال الجنة وذكر الحديث إلى آخره
ففيه فضيلة بينة وجليلة في قراءة * (قل هو الله أحد) * وممكن أن يكون ذلك الرجل وجبت له الجنة بتلاوتها مع أعمال البر غيرها وممكن أن يكون ذلك خاصة لها
وقد ذكرت الاختلاف في اسم شيخ مالك هذا في التمهيد
وروى سفيان بن عيينة عن مسعر عن مجاهد التيمي عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فسمع رجلا يقرأ * (قل هو الله أحد) * فقال أما هذا فقد غفر له وسمع رجلا يقرأ " قل يا أيها الكافرون " فقال هذا قد بريء من الشرك
وفي فضائل * (قل هو الله أحد) * حديث أنس بن مالك وغيره
457 وأما حديث مالك عن بن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أنه أخبره أن * (قل هو الله أحد) * تعدل ثلث القرآن وأن تبارك الذي بيده الملك تجادل عن صاحبها
فقد ذكرنا الآثار المسندة في * (قل هو الله أحد) * أنها تعدل ثلث القرآن من طرق في التمهيد
وذكرنا هناك الحديث المسند بأن " تبرك الذي بيده الملك " [الملك 1] تجادل عن صاحبها
ومعناه عندي والله أعلم أن كثرة قراءته لها ترفع عنه غضب الرب يوم تأتي
514

كل نفس تجادل عن نفسها فقامت له مقام المجادلة والله أعلم
((7 باب ما جاء في ذكر الله تبارك وتعالى))
458 مالك عن سمي مولى أبي بكر عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب (1) [وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكان له حرزا (2) من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل عملا أكثر من ذلك]
وذكر الحديث
459 وبهذا الإسناد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر
460 مالك عن أبي عبيد مولى سليمان بن عبد الملك عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي هريرة أنه قال من سبح دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين [وحمده ثلاثا وثلاثين وكبره ثلاثا وثلاثين فتلك تسع وتسعون وقال تمام المائة لا أله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عفرت له خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر
515

وذكر الحديث موقوفا على أبي هريرة لم يرفعه وقد ذكرت طرقه مرفوعا في التمهيد
وليس في شيء من هذه الأحاديث ما يحتاج إلى شرح ولا إلى قول وإنما هي من فضائل الذكر ظاهرة معانيها
461 مالك عن عمارة بن صياد عن سعيد بن المسيب أنه سمعه يقول في " والبقيت الصالحات " إنها قول العبد (الله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله)
قال أبو عمر على مثل قول سعيد بن المسيب في " والبقيت الصالحات " [الكهف 46] أكثر أهل العلم قالوا ذلك في تأويل قول الله تعالى " والبقيت الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا " [الكهف 46]
وروى بن جريج عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن نافع بن سرجس مولى بن سباع أنه سأل عبد الله بن عمر عن " والبقيت الصالحات " فقال لا إله إلا الله والله أكبر والحمد لله وسبحان الله ولا حول ولا قوة إلا بالله
وقال بن جريج وقال عطاء بن أبي رباح مثل ذلك
وقال عطاء الخرساني عن بن عباس قال هي الأعمال الصالحة وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر
وكان مسروق يقول " والبقيت الصالحات " هن الصلوات وهن الحسنات يذهبن السيئات
وروى معمر عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال لأن أذكر الله من بكرة إلى الليل أحب إلي أن أحمل على الجهاد في سبيل الله من بكرة إلى الليل
462 وأما قول أبي الدرداء في هذا الباب وقول معاذ بن جبل فيه فهما غاية ونهاية في فضائل الذكر
516

وقد روي ذلك مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم
أخبرنا يحيى بن يوسف قال حدثنا يوسف بن يعقوب قال حدثنا أبو ذر محمد بن إبراهيم قال حدثنا أبو عيسى الترمذي قال حدثنا الحسين بن حريث قال حدثنا الفضل بن موسى عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند عن زياد مولى بن عياش عن أبي بحرية عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وذكر الحديث على ما في الموطأ
قال وقال أبو عبد الرحمن معاذ بن جبل ما عمل بن آدم من عمل أنجى له من عذاب الله من ذكر الله
حدثنا سعيد وعبد الوارث قالا حدثنا قاسم قال حدثنا محمد قال حدثنا أبو بكر قال حدثنا أبو خالد الأحمر قال حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري عن أبي الزبير عن طاوس عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما عمل بن آدم من عمل أنجى له من عذاب الله من ذكره قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا أن تضرب بسيفك حتى ينقطع ثم تضرب بسيفك حتى ينقطع
قال أبو عمر صدر مالك (رحمه الله) هذا الباب بالأحاديث المرفوعة ليعرف بها الناظر في كتابه ما الذكر ثم أتبعها بفضائل الذكر وفضائل الذكر كثيرة جدا لا يحيط بها كتاب وحسبك أنه أكبر من الصلاة قال الله عز وجل * (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر) * [العنكبوت 45]
روى إسرائيل عن الثوري عن أبي مالك في قوله * (ولذكر الله أكبر) * قال ذكر الله العبد في الصلاة أكبر من الصلاة ومعنى ذكر الله العبد مأخوذ من النبي (عليه السلام) حاكيا عن الله تعالى إن ذكرني وحده العبد ذكرته وحدي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه وأكرم
ذكر سنيد عن جرير عن عطاء بن السائب عن عبد الله بن ربيعة عن بن عباس قال ذكر الله إياكم إذا ذكرتموه أكبر من ذكركم إياه
قال سنيد وحدثني أبو شميلة عن جابر عن أبي حمزة عن عامر الشعبي عن أبي قرة عن سلمان مثله
قال وحدثنا جرير عن منصور عن هلال بن يساف عن أبي عبيدة قال
517

التسبيح والتحميد والتكبير أحب إلى الله (عز وجل) من عددها دنانير ينفقها العبد في سبيل الله
قال وحدثنا المسيب عن عوف عن الحسن بن مسعود فذكر معناه
قال وحدثنا هشيم قال أخبرنا يعلى بن عطاء عن بشر بن عاصم عن عبد الله بن عمرو قال [ذكر الله بالغداة والعشي خير من حطم السيوف في سبيل الله وإعطاء المال سخاء
463 وذكر مالك في هذا الباب حديث رفاعة بن رافع عن النبي] صلى الله عليه وسلم وفيه قوله لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أولا
فيه من الفقه أن الإمام يقول سمع الله لمن حمده والمأموم يقول ربنا ولك الحمد لا يقول سمع الله لمن حمده وقد أوضحنا اختلاف العلماء في هذا المعنى فيما تقدم من هذا الكتاب
وفيه أن الذكر كله بالتحميد والتهليل والتكبير وسائر التمجيد لله تعالى ليس بكلام تفسد به الصلاة وكيف يفسدها رفع الصوت به أو لم يرفع وهو مندوب إليه فيها كما لا يجوز لأحد أن يتكلم بكلام الناس وإن لم يرفع صوته به فكذلك لا يضره رفع الصوت بالذكر
يدلك على ذلك حديث معاوية بن الحكم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التهليل والتكبير وقراءة القرآن
518

فأطلق أنواع الذكر في الصلاة ولهذا قلنا إن المأموم إذا رفع صوته ب ربنا لك الحمد لا يضره ذلك
وقد خالفنا في ذلك بعض المتأخرين من أصحابنا دون دليل ولا برهان والله المستعان
أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن وعبد الرحمن بن عبد الله بن خالد قالا أخبرنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال حدثنا هشام بن عبد الملك الطيالسي قال حدثنا عبيد الله بن إياد بن لقيط قال حدثنا أبي إياد بن لقيط عن عبد الله بن سعيد عن عبد الله بن أبي أوفى قال جاء رجل ونحن في الصف خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الله أكبر كبيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا قال فرفع المسلمون رؤوسهم واستنكروا الرجل وقالوا (يعني في أنفسهم) من هذا الذي يرفع صوته فوق صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من هذا العالي الصوت فقيل هذا يا رسول الله فقال والله لقد رأيت كلاما يصعد إلى السماء حتى فتحت له فدخل فيها
وهذا في معنى حديث مالك وفيه الحجة لما وصفنا وبالله توفيقنا
((8 - باب ما جاء في الدعاء))
464 ذكر فيه عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لكل نبي دعوة يدعو بها فأريد أن أختبئ دعوتي (1) شفاعة لأمتي في الآخرة
فذكرنا كثيرا من طرق هذا الحديث في التمهيد وذكرنا أنه عند مالك أيضا عن بن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
ومعناه عندنا أن كل نبي قد أعطي أمنية يتمنى بها وسؤالا يسأله ويدعو فيه على نحو هذا الوجه فيعطاه
519

لا وجه لهذا الحديث عندي غير هذا لأنه معلوم أن لكل نبي دعوات مستجابات ولغير الأنبياء أيضا دعوات مستجابات وما يكاد أحد من أهل الإيمان ولا من المظلومين من كان يخلو من إجابة دعوته إذا شاء ربه
قال الله عز وجل * (فيكشف ما تدعون إليه إن شاء) * [الأنعام 41]
وقال صلى الله عليه وسلم ما من داع إلا كان بين أحد ثلاث إما يستجاب له فيما دعا به وإما يدخر له مثله وإما أن يكفر عنه
وقال دعوة المظلوم لا ترد ولو كانت من كافر
وقال في الساعة التي في يوم الجمعة إنه لا يسأل فيها عبد ربه شيئا إلا أعطاه
وقال في الدعاء بين الأذان والإقامة وعند الصف في سبيل الله وعند نزول الغيث إنها أوقات يرجى فيها إجابة الدعاء
وهذا المعنى كثير جدا ولذلك ذهبنا في تأويل حديث هذا الباب إلى ما وصفنا ومحال أن لا يكون نبينا صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأنبياء يجاب من دعائه إلا في دعوة واحدة هذا ما لا يظنه ذو لب إن شاء الله
حدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدثنا حجاج بن منهال قال حدثنا معتمر قال سمعت أبي يحدث عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن لكل نبي قد سأل سؤالا أو قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن لكل نبي دعوة قد دعا بها يستجاب فيها فاختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة
وفي هذا الحديث إثبات الشفاعة وهو ركن من أركان اعتقاد أهل السنة وهم مجمعون أن تأويل قول الله عز وجل * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) * [الإسراء 79] المقام المحمود هو شفاعته صلى الله عليه وسلم في المذنبين من أمته ولا أعلم في هذا مخالفا إلا شيئا رويته عن مجاهد ذكرته في التمهيد وقد روي عنه خلافه على ما عليه الجماعة فصار إجماعا منهم والحمد لله
وقد ذكرت في التمهيد كثيرا من أقاويل الصحابة والتابعين بذلك وذكرت من أحاديث الشفاعة ما فيه كفاية والأحاديث فيه متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم صحاح ثابتة
وذكرنا أيضا في التمهيد حديث بن عمر وحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم
520

أنه قال شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي يوم القيامة (1)
وقال جابر من لم يكن من أهل الكبائر فما له والشفاعة
وقال بن عمر ما زلنا نمسك على الاستغفار لأهل الكبائر حتى نزلت * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * [النساء 116]
وقال صلى الله عليه وسلم أخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي
وقد ذكرنا الأسانيد بذلك في التمهيد
وهذا الأصل الذي ينازعنا فيه أهل البدع والنكبة التي عول أهل العلم والسنة والحق عليها وفي هذا الباب والحمد لله الموفق لهم إلى الصواب
465 وأما حديثه عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول اللهم فالق الإصباح وجاعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا اقض عني الدين وأغنني من الفقر وأمتعني بسمعي وبصري وقوتي في سبيلك
فقد أسندناه من طرق في التمهيد
وأما قوله فالق الإصباح فمعناه فالق الصبح عن النهار كما يفلق الحب عن النوى عن النبات والفلق فلق الصبح
وقوله جاعل الليل سكنا قول الله عز وجل * (لتسكنوا فيه) * [يونس 67]
وقوله والشمس والقمر حسبانا فروي عن عكرمة وقتادة والضحاك أنهم قالوا يدوران في حساب يجريان فيه إلى غايته
وقال مجاهد وكمثل قوله تعالى * (كل في فلك يسبحون) * [الأنبياء 33] ومثل قوله * (الشمس والقمر بحسبان) * [الرحمن 1] قال كحسبان الرحا
وقال أبو مالك عليهما حساب وآجال كآجال الناس فإذا جاء أجلهما هلكا
وقال أهل العربية حسبان بمعنى حساب أي جعلهما يجريان بحساب معلوم
قالوا وقد يكون حسبان جمع حساب مثل شهاب وشهبان
وأما قوله اقض عني الدين فمعناه ديون الناس ويدخل مع ذلك ما لله عليه من فرض أن يعينه على ذلك كله
521

وقال صلى الله عليه وسلم دين الله أحق أن يقضى (1)
وروي عنه صلى الله عليه وسلم من وجوه أنه كان [يستعيذ بالله من غلبة الدين وغلبة الرجال (2)
وهذا الأظهر فيه من دين بني آدم]
وكان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من المأثم والمغرم (3)
ويستعيذ بالله من الفقر والفاقة والذلة (4)
وكان يدعو الله إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى (5)
وأما قوله أغنني من الفقر مع قوله (عليه السلام) اللهم أحيني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين ولا تجعلني جبارا شقيا (6) فإن هذا الفقر هو الذي لا @ 523 @
يدرك معه القوة والكفاف ولا يستقر معه في النفس غنى لأن الغنى عنده صلى الله عليه وسلم غنى النفس
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة أنه قال ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس (1)
وقد جعله الله (عز وجل) غنيا وعدده عليه فيما عدده من نعمة فقال * (ووجدك عائلا فأغنى) * [الضحى 8] ولم يكن غناه صلى الله عليه وسلم أكثر من إيجاد قوت سنة لنفسه وعياله وكان الغنى كله في قلبه ثقة بربه وسكونا إلى أن الرزق مقسوم يأتيه منه ما قدر له
وكذلك قال (عليه السلام) لعبد الله بن مسعود يا عبد الله لا يكثر همك ما يقدر يكن وما يقدر يأتيك
وقال إن روح القدس نفث في روعي فقال لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب خذوا ما حل ودعوا ما حرم (2)
فغنى النفس يعين على هذا كله وغنى المؤمن الكفاية وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا (3) ولم يرد بهم إلا الذي هو أفضل لهم
وقال ما قل وكفى خير مما كثر وألهى (4)
وقال أبو حازم إذا كان ما يكفيك لا يغنيك فليس في الدنيا شيء يغنيك
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من فقر مسرف وغنى مطغ (5)
وفي هذا دليل بين أن الغنى والفقر طرفان وغايتان مذمومتان
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر
522

والكلام في هذا يتسع جدا والآثار فيه كثيرة وربما كان في ظواهر أكثرها تعارض وعلى هذا التخريج تتقارب معانيها
وقد أوضحنا هذا المعنى في الفقر والغنى بالآثار المرفوعة وبما روي فيه عن علماء السلف في تفضيل الغنى وحمد الفقر في كتاب بيان العلم ما فيه كفاية لمن تدبره
وليس في قول الله تعالى ذكره حاكيا عن موسى صلى الله عليه وسلم * (رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير) * [القصص 24] تفضيل الغنى على الفقر لأن جميع خلقه يفتقرون إلى رحمته ولا غنى لهم عن رزقه فمن أعطاه الله الكفاية فقد تمت له منه العناية ومن أتاه الله من رزقه سعة فواجب شكره عليه وحمده كما يجب الصبر على من امتحن بالقلة والفقر لأن الفرائض وحقوق المال ونوافل الخير تتوجه إلى ذي الغنى ومؤنة ذلك ساقطة عن الفقير والقيام بها فضل عظيم والصبر على الفقر والرضا به ثواب جسيم
قال الله (عز وجل) * إنما يوفى الصبرون أجرهم بغير حساب " [الزمر 10]
وقد قال الحكماء خير الأمور أوساطها
فالزيادة الكثيرة على القوت والكفاية ذميمة ولا تؤمن فتنتها والتقصير عن الكفاف محنة وبلية لا يا من صاحبها فتنتها أيضا ولا سيما صاحب العيال
وروي عن بن عمر (رضي الله عنهما) أنه سئل عن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء (1) فقال جهد البلاء كثرة العيال وقلة المال
وأما قوله وأمتعني بسمعي وبصري فالسمع والبصر من نعم الله العظام على
524

عبده وعلى جميع خلقه ونعم الله واجب استدامتها بالشكر والدعاء والحمد والثناء
وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم ما يعارض هذا ظاهره وليس بمعارض له وهو قوله (عليه السلام) حاكيا عن ربه إذا أخذت كريمتي عبدي فصبر واحتسب لم يكن له جزاء إلا الجنة (1)
وهذا من العزاء والحض على الصبر عند البلاء
وقال مطرف بن الشخير لأن أعافى وأشكر أحب إلي من أن أبتلى وأصبر
وفي الاقتناع بالصبر قوة على كثير من أعمال [البر منها تلاوة القرآن في المصحف وما لا يحصى لمن زينه الله بالتقوى وفي السمع مثل ذلك من التنعم بسماع] الذكر وسماع ما يسر
وقوله وقوتي في سبيلك فإنه يروى وقوني في سبيلك ويروى وقوتي وهو الأكثر عند الرواة ومعناه القوة على العمل بطاعتك والشكر لنعمتك
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يسأل الله العافية والمعافة في الدنيا والآخرة
والغنى عندهم من العافية لأنها اسم جامع لكل خير
والدعاء رأس العبادة والله يحب أن يسأل وقد أمر أن يسأل من فضله لقوله عز وجل " وسئلوا الله من فضله " [النساء 32]
466 وأما قوله عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقل أحدكم إذا دعا اللهم اغفر لي إن شئت [اللهم ارحمني إن شئت ليعزم المسألة فإنه لا مكره له]
فإنه ينبغي للسائل الراغب إلى الله تعالى أن لا يقول في دعائه إن شئت وعليه أن يعزم في مسألته ومناشدته ربه ويضرع إليه فإنه لا مكره له ولا يخيب من دعاه
467 وكذلك حديث مالك عن بن شهاب عن أبي عبيد مولى بن
525

أزهر عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يستجاب لأحدكم ما لم يعجل
فيقول قد دعوت فلم يستجب لي
يقتضي الإلحاح على الله في المسألة وأن لا ييأس الداعي من الإجابة ولا يسأم الرغبة فإنه يستجاب له أو يكفر عنه من سيئاته أو يدخر له فإن الدعاء عبادة
قال الله تعالى * (ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) * [غافر 60]
فسمى الدعاء عبادة ومن أدمن قرع الباب يوشك أن يفتح له ولا يمل الله (عز وجل) من العطاء حتى يمل العبد من الدعاء ومن عجل وتبرم فنفسه ظلم
روينا عن مروان العجلي أنه قال سألت ربي عشرين سنة في حاجة فما قضاها حتى الآن وأنا أدعوه فيها ولا أيأس من قضائها
468 - أما حديثه عن بن شهاب عن أبي عبد الله الأغر وعن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له
فهو حديث ثابت عند أهل العلم بالحديث وطرقه كثيرة صحاح بألفاظ متقاربة ومعنى واحد
من أحسن الألفاظ في هذا الحديث وأفقرها من سوء التأويل ما حدثنا محمد بن إبراهيم حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا إبراهيم بن يعقوب قال أخبرنا عمر بن حفص بن غياث قال حدثنا أبي قال حدثنا الأعمش قال حدثنا أبو إسحاق السبيعي قال حدثنا أبو مسلم الأغر قال سمعت أبا هريرة وأبا سعيد يقولان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى يمهل
526

حتى يمضي شطر الليل الأول ثم يأمر مناديا ينادي هل من داع فيستجاب له هل من مستغفر يغفر له هل من سائل يعطى (1)
وقد ذكرنا أبا عبد الله الأغر وأبا مسلم الأغر في كتاب الكنى بما ينبغي من ذكرهما
وقد روى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة منهم رفاعة الجهني وعبد الله بن مسعود وعبادة بن الصامت وجبير بن مطعم وفي بعضها شطر الليل وفي بعضها ثلث الليل الأول وأصحها ثلث الليل الآخر وهو حديث بن شهاب هذا
حدثناه محمد بن خليفة قال حدثنا محمد بن الحسن قال حدثنا البغوي قال حدثنا أبو الربيع الزهراني قال حدثنا فليح بن سليمان عن الزهري عن أبي سلمة وأبي عبد الله الأغر صاحب أبي هريرة أنهما سمعا أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل ربنا عز وجل حين يبقى ثلث الليل الآخر إلى سماء الدنيا كل ليلة فيقول من يسألني فأعطيه ومن يدعوني فأستجيب له ومن يستغفرني أغفر له
فلذلك كانوا يستحبون صلاة آخر الليل على أوله
وحدثنا محمد بن خليفة قال حدثنا محمد بن الحسين قال حدثنا عبد الله بن صالح البخاري قال حدثنا محمد بن سليمان لوين قال حدثنا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ينزل الرب في كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجب له من يستغفرني فأغفر له حتى يطلع الفجر
فكذلك كانوا يستحبون آخر الليل
قال أبو عمر هذا عندي من كلام بن شهاب أو أبي سلمة والله أعلم
وفي هذا الحديث دليل على أن الله عز وجل في السماء على العرش من فوق سبع سماوات وعلمه في كل مكان كما قالت الجماعة أهل السنة أهل الفقه والأثر
وحجتهم ظواهر القرآن في قوله * (الرحمن على العرش استوى) * [طه 5]
كما قال " لتستوا على ظهوره " [الزخرف 13]
وقوله * (واستوت على الجودي) * [هود
527

و * (استويت أنت ومن معك على الفلك) * [المؤمنون 28]
قال الله عز وجل * (ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي) * [السجدة 4]
وقال * (ثم استوى إلى السماء وهي دخان) * [فصلت 11]
(فأوردتهم ماء بفيفاء قفره
* وقد حلق النجم اليماني فاستوى)
وقال عز وجل " أأمنتم من في السماء " [الملك 16] على السماء
كما قال * (في جذوع النخل) * [طه 71] أي عليها
وقال * (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه) * [السجدة 5]
وقال * (ذي المعارج) * والعروج الصعود
وهذه الآيات كلها واضحات في إبطال قول المعتزلة وقد أوضحنا فساد ما ادعوه من المجاز فيها في التمهيد وذكرنا الحجة عليهم بما حضرنا من الأثر من وجوه النظر هناك بباب فيه كتاب مفرد والحمد لله
ومحال أن يكون من قال عن الله ما هو في كتابه منصوص مشبها إذا لم يكيف شيئا وأقر أنه ليس كمثله شيء
ومن الحجة فيما ذهبت إليه الجماعة أن الموحدين من العرب والعجم إذا كربهم أمر أو دهمهم غمر أو نزلت بهم شدة رفعوا أيديهم إلى السماء يستغيثون ربهم ليكشف ما نزل بهم ولا يشيرون بشيء من ذلك إلى الأرض
ولولا أن موسى (عليه السلام) قال لهم إلهي في السماء ما قال فرعون " يهمن بن لي صرحا لعلى أبلغ الأسبب أسبب السماوات فأطلع إلى إله موسى " [غافر 36 37]
وهذا أمية بن أبي الصلت وهو ممن قرأ الكتب التوراة والإنجيل والزبور
وكان من وجوه العرب يقول في شعره
(فسبحان من لا يقدر الخلق قدره
* ومن هو فوق العرش فرد موحد (1))
(ملك على عرش السماء مهيمن
* لعزته تعنو الوجوه وتسجد) وفيه يقول في وصف الملائكة
(وساجدهم لا يرفع الدهر رأسه
* يعظم ربا فوقه ويمجده) وسئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن قول الله عز وجل * (الرحمن على العرش استوى) * [طه 5] قال استواؤهم حق معلوم وكيفيته مجهولة
528

وقد روي عن عبد الله بن نافع عن مالك نحو ذلك قال سئل مالك عن قول الله (عز وجل) * (الرحمن على العرش استوى) * كيف استوى فقال استواؤه معلوم وكيفيته مجهولة وسؤالك عن هذا بدعة وأراك رجل سوء
وروى حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن بن مسعود قال الله فوق العرش لا يخفى عليه [شيء] من أعمالكم
وسئل سفيان الثوري عن قوله (عز وجل) * (وهو معكم أين ما كنتم) * [الحديد 4] قال علمه
وقال بن المبارك الرب (تبارك وتعالى) على السماء السابعة على العرش
وقد ذكرنا الأسانيد عن هؤلاء وغيرهم بهذا المعنى في التمهيد
وأما قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ينزل ربنا الذي عليه أهل العلم من أهل السنة والحق والإيمان بمثل هذا وشبهه من القرآن والسنن دون كيفية فيقولون ينزل ولا يقولون كيف النزول ولا يقولون كيف الاستواء ولا كيف المجيء في قوله (عز وجل) * (وجاء ربك والملك صفا صفا) * [الفجر 22] ولا كيف التجلي في قوله * (فلما تجلى ربه للجبل) * [الأعراف 143]
حدثنا محمد بن خليفة قال حدثنا محمد بن الحسين قال حدثنا عمر بن أيوب السفطي قال حدثنا أبو معمر القطيعي قال قال عباد بن العوام قدم علينا شريك واسط فقلنا له إن عندنا قوما ينكرون هذه الأحاديث (أن الله (عز وجل) ينزل إلى سماء الدنيا كل ليلة) فقال إنما جاءنا بهذه الأحاديث من جاءنا بالسنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة والزكاة والصيام والحج وإنما عرفنا الله (عز وجل) بهذه الأحاديث
وحدثنا محمد بن خليفة قال حدثنا محمد بن الحسين قال حدثنا الحسن بن [علي] الجصاص وأبو سعيد قالا حدثنا الربيع بن سليمان قال قال الشافعي ليس في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اتباعها ولا نعترض عليه بكيف ولا يسع عالما فيما ثبت من السنة إلا التسليم لأن الله قد فرض اتباعها
وقد قال قوم إنه ينزل أمره وتنزل رحمته ونعمته وهذا ليس بشيء لأن أمره بما شاء من رحمته ونقمته ينزل بالليل والنهار بلا توقيت ثلث الليل ولا غيره
ولو صح ما روي في ذلك عن مالك كان معناه أن الأغلب من استجابة دعاء من دعاه من عباده في رحمته وعفوه يكون ذلك الوقت
529

وقد روي من حديث أبي ذر أنه قال يا رسول الله أي الليل أسمع قال جوف الليل الغابر (1)
وقد قالت فرقة منتسبة إلى السنة إنه ينزل بذاته وهذا قول مهجور لأنه تعالى ذكره ليس بمحل للحركات ولا فيه شيء من علامات المخلوقات
قال أبو عمر لم يزل الصالحون يرغبون في الدعاء والاستغفار بالأسحار لهذا الحديث وما كان مثله ولقوله تعالى " والمستغفرين بالأسحار [آل عمران 17]
روى محارب بن دثار عن عمه قال كنت آتي المسجد في السحر فأمر بدار عبد الله بن مسعود [فأسمعه يقول] اللهم أمرتني فأطعت ودعوتني فأجبت وهذا السحر فاغفر لي فلقيت بن مسعود فقلت له كلمات سمعتك تقولهن في السحر فقال إن يعقوب أخر بنيه إلى السحر حين قال لهم " سوف أستغفر لكم ربى " [يوسف 98]
وروى حماد بن سلمة عن الجريري أن داود (عليه السلام " سأل جبريل (عليه السلام) أي الليل أسمع فقال لا أدري غير أن العرش يهتز بي في السحر
469 وأما حديثه عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي أن عائشة أم المؤمنين قالت كنت نائمة إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم ففقدته من الليل فلمسته بيدي فوضعت يدي على قدميه وهو ساجد يقول أعوذ برضاك من سخطك [وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك كما أثنيت على نفسك]
فقد ذكرنا في التمهيد من أسند هذا الحديث ووصله
وهو حديث متصل صحيح رواه أبو هريرة عن عائشة ورواه عروة عن عائشة
وقد ذكرنا ذلك كله في التمهيد إلا أن الرواة يقولون فوقعت يدي على قدميه
وفي هذا الحديث من الفقه عند أصحابنا دليل على أن اللمس باليد لا ينقض الطهارة إذا لم يكن لغير شهوة
530

وهذه مسألة قد اختلف العلماء فيها وقد ذكرناها في باب الملامسة من الطهارة في هذا الكتاب
وتحصيل مذهب مالك عند أصحابه أن اللامس والملموس سواء في وجوب الوضوء على من التذ منهما وللشافعي في الملموس قولان آخرهما أن عليه الوضوء والآخر أن لا وضوء عليه لحديث عائشة هذا قولها فوقعت يدي على قدميه ولم تقل إنه توضأ ولا قطع الصلاة وهو قول داود ولم يختلف قول الشافعي أن الملامس تنتقض طهارته إذا لمس امرأة التذ أو لم يلتذ وأهل القرآن على أن الملامسة الجماع لا ما دونه
وقد ذكرنا اختلاف السلف والخلف في موضعها من هذا الكتاب والحمد لله
وأما قوله في هذا الحديث وأعوذ بك منك فهو في معنى قوله أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك
وأما قوله لا أحصي ثناء عليك فإن مالكا قال لي ذلك يقول لم أحصر نعمتك وإحسانك والثناء بها عليك وإن اجتهدت في الثنا
ففي قوله أنت كما أثنيت على نفسك دليل على أنه لا يبلغ في وصفه إلى وصف نفسه ومن وصفه بغير ما وصف به نفسه فقد قال بغير علم فإنه ليس كمثله شيء ولا يشبهه شيء وهو خالق كل شيء وهو بكل شيء عليم
470 وأما حديثه عن زياد بن أبي زياد عن طلحة بن عبيد الله بن كريز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي (لا إله إلا الله وحده لا شريك له)
فقد ذكرناه مسندا ومرسلا في التمهيد وذكرنا أيضا ما كان في معناه والحمد لله
وفيه تفضيل الدعاء بعضه على بعض وتفضيل الأيام بعضها على بعض ولا يعرف شيء من ذلك إلا بتوقيف فقد ثبت في يوم الجمعة ويوم عاشوراء ويوم عرفة ما هو مذكور في كتابنا هذا في مواضعه ومعروف أيضا في غيره وجاء الاستدلال بهذا الحديث على أن دعاء عرفة مجاب كله في الأغلب إن شاء الله إلا للمعتدين في الدعاء بما لا يرضى الله
531

وقد اختلف العلماء في الذكر فقال منها قائلون أفضل الكلام لا إله إلا الله واحتجوا بهذا الحديث وما كان مثله فإنها كلمة التقوى
وقال آخرون أفضل الذكر الحمد لله رب العالمين ففيه معنى الشكر والثناء وفيه من الإخلاص ما في لا إله إلا الله وأن الله افتتح به كلامه وختم به وأنه آخر دعوى أهل الجنة
ودون كل فرقة مما قالت من ذلك أحاديث كثيرة قد أوردنا أكثرها في التمهيد
وهي كلها آثار مسندات حسان وهي مسألة توقيف لا يدخل فيها الرأي فلابد فيها من الآثار والذكر كله عند العلماء دعاء
حدثنا خلف بن قاسم قال حدثنا الحسن بن رشيق قال حدثنا علي بن سعيد الرازي قال حدثنا بن أبي عمر قال حدثنا سفيان بن عيينة قال قال لي عبد العزيز بن عمر كنت أتمنى أن ألقى الزهري فرأيته في النوم بعد موته فقلت يا أبا بكر هل من دعوة قال نعم لا إله إلا الله وحده لا شريك له توكلت على الحي الذي لا يموت اللهم إني أسألك أن تعيذني وذريتي من الشيطان الرجيم
وروى حسين بن حسن المروزي عن سفيان بن عيينة أنه سأله ما أكثر ما كان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة فقال لا إله إلا الله وسبحان الله والحمد لله والله أكبر
قال سفيان وهذا ذكر وليس بدعاء
ثم قال سفيان أما علمت قول الله (عز وجل) حيث قال إذا شغل عبدي ثناؤه علي عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين
قال قلت نعم أنت حدثتني بذلك يا أبا محمد عن منصور عن مالك بن الحارث وحدثني به عبد الرحمن بن مهدي عن الثوري عن منصور عن مالك بن الحارث قال فهذا تفسيره
ثم قال ما علمت قول أمية بن أبي الصلت حين أتى بن جدعان
(أأطلب حاجتي أم قد كفاني
* حياؤك إن شيمتك الحياء)
(إذا أثنى عليك المرء يوما
* كفاه من تعرضك الثناء) قال سفيان هذا مخلوق حين ينسب إلى الاكتفاء بالثناء عليه عن مسألة فكيف بالخالق (عز وجل) وذكر أبو الحسن الدارقطني في المؤتلف والمختلف له قال حدثنا القاضي
532

المحاملي قال حدثنا يوسف بن موسى القطان قال حدثنا عثمان بن عمر التيمي (تيم الرباب) قال حدثنا صفوان بن أبي الصهباء عن بكر بن عتيق [عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقول الله تعالى من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين
قال أبو الحسن وقد روى الثوري عن بكر بن عتيق هذا] أخبرنا أحمد بن محمد بن أحمد قال حدثنا أحمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جرير قال حدثنا محمد بن المثنى قال حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال حدثنا سفيان عن داود بن أبي هند عن محمد بن سيرين قال كانوا يرجون في ذلك الموطن (يعني بعرفة) حتى للحمل في بطن أمه
471 وأما حديثه في هذا الباب عن أبي الزبير المكي عن طاوس اليماني عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن يقول اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات
ففيه الإقرار بعذاب جهنم أعاذنا الله منها والإقرار بعذاب القبر وفتنته وتعليم الدعاء بالاستعاذة من ذلك كله ومن فتن الدنيا والآخرة فتنة المحيا والممات
وقد مضى القول في عذاب القبر وما عليه أهل العلم والسنة في ذلك
وفيه الإقرار بخروج المسيح الدجال والأحاديث في ذلك كثيرة جدا وسيأتي ذكر كثير منها في كتاب الجامع وهناك يذكر اشتقاق اسم المسيح الدجال والمسيح بن مريم صلى
الله عليه وسلم والمعنى في ذلك كله إن شاء الله تعالى
ولما كانت الساعة آتية لا محالة وكان وقتها مغيبا عنا والخبر الصادق أنها تأتينا بغتة وكان من أشراطها خروج الدجال أمرنا بالتعوذ من فتنته وهي فتنة عظيمة لمن أدركته وخذله الله ولم يعصمه
وأما فتن المحيا فكثيرة جدا في الأهل والمال والدين أجارنا الله من مضلات الفتن
533

وفتنة الممات تكون عند معاينة الموت وتكون في القبر ثبتنا الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة فكم ممن يفتن عن دينه في حين الموت ختم الله لنا بالإيمان وفي أفضل ما يزكو معه من الأعمال
وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم ما قد ذكرناه بإسناده في التمهيد أنه قال الناس خلقوا طبقات فمنهم من يولد مؤمنا ويحيى مؤمنا ويموت مؤمنا ومنهم من يولد كافرا ويحيى كافرا ويموت كافرا ومنهم من يولد كافرا ويحيى كافرا ويموت مؤمنا ومنهم من يولد مؤمنا ويحيى مؤمنا ويموت كافرا (1)
فواجب على كل مؤمن ذي لب أن يتعوذ بالله من فتنة المحيا والممات
فهذا إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم يقول * (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) * [إبراهيم 35]
ويوسف صلى الله عليه وسلم يقول " فاطر السماوات والأرض أنت ولى في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصلحين " [يوسف 101]
وكان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا أردت بالناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون
فما يامن الفتنة بعد الأنبياء إلا من خذله الله
472 وأما حديث مالك بالإسناد المتقدم عن أبي الزبير المكي عن طاوس اليماني عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل يقول اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض [ولك الحمد أنت قيام السماوات والأرض ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن أنت الحق وقولك الحق ووعدك ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق والساعة حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك
534

خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وأخرت وأسررت وأعلنت أنت إلهي لا إله إلا أنت]
فليس فيه معنى يشكل وفيه تعظيم الله والثناء عليه وتحميده وتمجيده والإيمان به والخضوع له والاعتراف بربوبيته والتوكل عليه والإنابة إليه والإقرار بالجنة والنار وقيام الساعة
والدعاء بما كان يدعو به رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يمتثل ويرغب فيه ففيه الأسوة الحسنة والهدى المستقيم
وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني وهو مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فما ظنك بمن سواه في الحاجة إلى الدعاء بالمغفرة وإنما بعث معلما صلى الله عليه وسلم 473 - وأما حديثه في هذا الباب أيضا عن عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عتيك أنه قال جاءنا عبد الله بن عمر في بني معاوية وهي قرية من قرى الأنصار فقال هل تدرون أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجدكم هذا فقلت له نعم وأشرت له إلى ناحية منه فقال هل تدري ما الثلاث التي دعا بهن فيه فقلت نعم قال فأخبرني بهم فقلت دعا بأن لا يظهر عليهم عدوا من غيرهم ولا يهلكهم بالسنين فأعطيهما ودعا بأن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعها قال صدقت
قال بن عمر فلن يزال الهرج إلى يوم القيامة
هكذا روى يحيى هذا الحديث عن مالك عن عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عتيك أنه قال جاءنا عبد الله بن عمر ليس بين شيخ مالك وبين عبد الله بن عمر في إسناده أحد
وتابعه على ذلك بن وهب وبن بكير ومعن بن عيسى
وكذلك رواه إسماعيل ومعن بن إسحاق عن القعنبي عن مالك عن عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عتيك أنه قال جاءنا عبد الله بن عمر إلا أنه قال
535

فيه هل تدري أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل تدرون وكذلك قال غيرهم تدرون
وفي رواية أحمد بن خالد عن علي بن عبد العزيز عن القعنبي في هذا الحديث قال قرأت على مالك عن عبد الله بن جابر بن عتيك عن جابر بن عتيك
وهكذا رواه سحنون عن بن القاسم عن مالك
وظن بن وضاح أن رواية يحيى عنه غلط فرد روايته عن يحيى عن مالك إلى ما رواه عن سحنون وعن بن القاسم عن مالك عن عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عتيك عن جابر بن عتيك فغلط وأتى بذلك بما لا يرضاه العلماء من حمل رواية على أخرى
وأما حديث مالك في كتاب الجنائز في باب البكاء على الميت فما أعلم أنهم اختلفوا فيه على مالك بل كلهم رواه عن مالك عن عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عتيك عن عتيك بن الحارث بن عتيك
حديث الشهداء سبعة سوى القتيل في سبيل الله
هكذا هو عند يحيى وجماعة من رواة الموطأ في كتاب الجنائز وليس عند القعنبي في كتاب الجنائز وهو عنده في كتاب الجهاد
وفي حديث مالك في هذا الباب من وجوه العلم طرح العالم المسألة على من دونه ليعلم ما في ذلك عنده ثم يصدقه إذا أصاب
وفيه تفسير لقول النبي صلى الله عليه وسلم لكل نبي دعوة أن معناه ما تقدم في هذا الكتاب ذكره ألا ترى أنه قد أجيبت دعوته ألا تهلك أمته بالسنين (يعني جميعهم) وألا يسلط عليهم عدوا من غيرهم يعني يستأصل جمعهم ولم يجب دعوته في أن لا يلقي بأسهم بينهم
وفيه ما كان عليه بن عمر من الرغبة والتبرك باتباع حركات رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتداء به وتأسيا بحركاته ومواضع صلاته طمعا في أن تجاب دعوته في ذلك الموضع
وفيه دليل على أن الفتن لا تزال ولا تنقطع ولا تعدم في هذه الأمة حتى تقوم الساعة
وقول بن عمر صدقت فلن يزال الهرج فالهرج القتل
536

قال بن الرقيان
(ليت شعري أأول الهرج هذا
* أم زمان يكون من غير هرج (1))
وقد ذكرنا في التمهيد ما حضرنا ذكره من الآثار في معنى حديث مالك هذا وما للعلماء في تأويل قول الله عز وجل * (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض) * [الأنعام 65] وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قول الله عز وجل * (أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض) * [الأنعام 65] هذه أهون ثم قال فلن يزال الهرج إلى يوم القيامة
وذكرت أيضا في التمهيد حديث جابر قال دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد الفتح ثلاثة أيام يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء فاستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين فعرف البشر في وجهه
قال جابر فما نزل بي أمر يهمني إلا توخيت تلك الساعة فأعرف الإجابة 474 - وأما قول زيد بن أسلم ما من داع يدعو إلا كان بين إحدى ثلاث إما أن يستجاب له وإما أن يدخر له وإما أن يكفر عنه
فقد ذكرناه مسندا عن النبي صلى الله عليه وسلم في التمهيد ومن الإسناد فيه ما
حدثناه أحمد بن محمد قال حدثنا أحمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جرير قال حدثنا محمد بن موسى الحرشي قال حدثنا جعفر بن سليمان قال حدثنا علي بن علي الرفاعي عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن دعوة المسلم لا ترد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم إما أن تعجل له في الدنيا وإما أن تدخل له في الآخرة وإما أن يصرف عنه من السوء بقدر ما دعاه
ورواه بن أبي شيبة عن أبي أسامة عن علي بن علي مثل إسناده مثله
قال أبو عمر هذا الحديث مخرج في التفسير المسند في قول الله عز وجل * (ادعوني أستجب لكم) * [غافر 60] فهذا كله استجابة
وقد قالوا إن الله عز وجل لا تنقضي حكمته فكذلك لا تقع الإجابة في
537

كل دعوة قال الله تعالى " ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن " [المؤمنون 71]
وفي الحديث المأثور إن الله عز وجل ليبتلي العبد وهو يحبه ليسمع تضرعه
((9 باب العمل في الدعاء))
475 ذكر فيه مالك عن عبد الله بن دينار قال رآني عبد الله بن عمر وأنا أدعو وأشير بأصبعين أصبع من كل يد فنهاني (1)
قال أبو عمر هذا مأخوذ من فعل النبي صلى الله عليه وسلم إذ مر بسعد وهو يدعو في صلاته ويشير بأصبعيه جميعا فنهاه عن ذلك وقال أحد أحد
حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد قال حدثنا محمد بن معاوية بن عبد الرحمن قال حدثنا أحمد بن شعيب بن محمد النسوي قال أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك قال حدثنا أبو معاوية قال حدثنا الأعمش عن أبي صالح [عن سعد قال مر علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أدعو بأصبعي فقال أحد أحد وأشار بالسبابة (2)
ورواه بن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي هريرة] أن رجلا كان يدعو بأصبعيه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد أحد (3)
والسنة أن يشير الداعي إذا أشار بأصبعه السبابة وحدها
476 وكذلك قول سعيد بن المسيب في هذا الباب إن الرجل ليرفع بدعاء ولده من بعده مرفوع أيضا إلى النبي صلى الله عليه وسلم
قرأت على أحمد بن محمد بن أحمد قال حدثنا أحمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جرير قال حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني قال حدثنا يونس بن محمد قال حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم عن أبي صالح عن أبي
538

هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله ليرفع العبد الدرجة فيقول يا رب أنى لي هذه الدرجة فيقول باستغفار ابنك لك
477 وأما حديثه عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال في هذه الآية * (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا) * [الإسراء 110] أنها نزلت في الدعاء
فقد قال بقول عروة جماعة وقد روته جماعة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة منهم بن المبارك وعيسى بن يونس
وفي هذه المسألة أقوال نذكرها إن شاء الله
فمن ذلك ما في سماع زيد بن عبد الرحمن بن مالك أنه سمعه يقول وقد سئل عن الله تعالى * (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها) * [الإسراء 110] فقال أحسن ما سمعت في ذلك أنه عنى به أن لا يجهر بقراءته في صلاة النهار لأنها عجماء ولا يخافت بقراءته في صلاة الليل والصبح من النهار إلا أنه يجهر بها
وفي هذا أيضا نص عن مالك أن الصبح من النهار وهو الحق الذي لا ريب فيه والحمد لله
وأما الذين قالوا بقول عروة في هذه الآية أنها نزلت في الدعاء والمسألة فمنهم إبراهيم النخعي ومجاهد
وقال الحسن في قوله * (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها) * قال لا تصلها رياء ولا تتركها حياء
وفي رواية أخرى عنه لا تحسن علانيتها ولا تسئ سريرتها
وقال آخرون كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بقراءته فينتفع به المسلمون ويسمعونه ويأخذونه وكان الكفار يؤذونه مخافة لأن لا يسمع أحد قراءته فنزلت * (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها) * [الإسراء 110]
وممن قال ذلك قتادة
وروى الأعمش عن سعيد بن جبير عن بن عباس نحو ذلك قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع صوته بالقرآن وكان المشركون إذا سمعوا صوتا شتموا القرآن ومن جاء به فخفض النبي صلى الله عليه وسلم صوته بذلك فأنزل الله * (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها) * [الإسراء 110]
فسمى القراءة ها هنا صلاة لأنها بها تقوم الصلاة
539

وقد روى شريك عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير في قوله * (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها) * قال نزلت في بسم الله الرحمن الرحيم كان المشركون إذا سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر بها هزؤوا منه وكان مسيلمة يسمى الرحمن قالوا يذكر إله اليمامة فنزلت " ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها [الإسراء 110]
وقال بن سيرين كان أبو بكر الصديق (رضي الله عنه " يخافت بالقراءة في صلاة الليل وكان عمر رضي الله عنه يجهر ويرفع صوته فنزلت هذه الآية
وقال الحسن في قوله * (وابتغ بين ذلك سبيلا) * [الإسراء 110] قال تكون سريرتك موافقة لعلانيتك
وأما قول مالك لا بأس بالدعاء في الصلاة المكتوبة فهو أمر مجمع عليه إذا لم يكن الدعاء يشبه كلام الناس وأهل الحجاز يجيزون الدعاء فيها بكل ما ليس بمأثم من أمور الدين والدنيا
وللكلام على المخالفين في ذلك موضع غير هذا
478 وأما حديثه أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وإذا أدرت (أردت) في الناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون
فليس في فعل الخيرات ما يحتاج إلى تفسير أكثر من أنها الأعمال التي يرضاها الله ويحمد فاعلها عليها ويعظم أجره وكذلك المجازات أيضا على ترك المنكرات إذا قصد بتركها رضا الله عنه
وقد روي من حديث أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة
والمسكين ها هنا المتواضع كله الذي لا جبروت فيه ولا كبر الهين اللين السهل القريب وليس بالسائل لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كره السؤال ونهى عنه وحرمه على من يجد ما يغديه ويعشيه
وقد أوضحنا ذلك في التمهيد وإنما المعنى في المسكين ها هنا المتواضع الذي لا جبروت فيه ولا نحوه ولا كبر ولا بطر ولا [تجبر] ولا أشر
540

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة سوداء أبت أن تزول له عن الطريق دعوها فإنها جبارة
ولقد أحسن أبو العتاهية حيث قال
(إذا أردت شريف الناس كلهم
* فانظر إلى ملك في زي مسكين)
(ذاك الذي عظمت في الله رغبته
* وذاك يصلح للدنيا وللدين) وقال صلى الله عليه وسلم يحشر الجبارون المتكبرون يوم القيامة في صور الذر يطأهم الناس بأقدامهم (1)
وقد تقدم سائر معنى هذا الحديث
479 وأما حديثه أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما من داع يدعو إلى هدى إلا كان له مثل أجر من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا وما من داع يدعو إلى ضلالة إلا كان عليه مثل أوزارهم لا ينقض ذلك من أوزارهم شيئا
فقد ذكرناه بمعناه متصلا مسندا من طرق عن النبي صلى الله عليه وسلم في التمهيد
وهو يقتضي أن الإنسان يؤجر فيما كان منه من سنة صالحة ويؤزر في ضد ذلك
وقال عكرمة وعطاء وغيرهما لقوله عز وجل * (علمت نفس ما قدمت وأخرت) * [الانفطار 5] قالوا ما قدمت من خير يعمل به بعدها وما أخرت من شر يعمل به
بعدها
وهذا الحديث من أفضل ما روي في تعليم الخير ونشر العلم من أفضل أعمال البر وتعليم الشر في الوزر مثل ذلك
وقد تأول قتادة من هذا الحديث قول الله عز وجل * (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم) * [العنكبوت 13]
وتأول عطاء بن أبي رباح في مثل ذلك قول الله عز وجل * (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب) * [البقرة 166] قال تبرأ رؤساؤهم وقادتهم وسادتهم من الذي اتبعوهم
541

480 وأما قول بن عمر اللهم اجعلني من أئمة المتقين
فهو عندي مأخوذ من قول الله عز وجل * (واجعلنا للمتقين إماما) * [الفرقان 74]
وفي هذا الأسوة الحسنة أن تكون همة المؤمن تدعوه إلى أن يكون إماما في الخير وإذا كان إماما في الخير كان له أجره وأجر من عمل بما علمه وائتم به فيما علمه وأجزاه عنه
حدثنا أبو القاسم خلف بن قاسم قال حدثنا أبو يوسف يعقوب بن مسدد بن يعقوب قال حدثني أبي قال حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي قال حدثنا عبيد الله بن عمرو عن عبد الكريم الجزري عن زياد بن أبي مريم عن عبد الله بن مسعود في قوله * (علمت نفس ما قدمت وأخرت) * [الانفطار 5] قال ما أخرت من سنة صالحة يعمل بها من بعده فله مثل أجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء وما أخرت من سنة سيئة يعمل بها من بعده فإن عليه مثل وزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء
وأما دعاء بن عمر أن يجعله الله من أئمة المتقين فإن معلم الخير يستغفر له حتى الحوت في البحر
وقد أوضحنا هذا المعنى في كتاب بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله والحمد لله
481 وليس في قول أبي الدرداء حين قيامه في جوف الليل الليل نامت العيون وغارت النجوم وأنت الحي القيوم
أكثر من اعتباره في خلق الله عز وجل وتعظيم الله بما هو أهله وأنه الذي لا تدركه سنة ولا نوم ولا تغير ولا تحول كما تصنع النجوم التي تسير مسيرها وتعود عودها فتكون مرة بادية ظاهرة ومرة غائبة غائرة مسخرة لما خلقت له وخالقها الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم الدائم والقائم على كل نفس بما كسبت لا إله إلا هو رب السماوات السبع ورب العرش العظيم وهو حسبي ونعم الوكيل
542