الكتاب: شرح نهج البلاغة
المؤلف: ابن أبي الحديد
الجزء: ٢
الوفاة: ٦٥٦
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ القسم العام
تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٣٧٨ - ١٩٥٩ م
المطبعة:
الناشر: دار إحياء الكتب العربية - عيسى البابي الحلبي وشركاه
ردمك:
ملاحظات: مؤسسة مطبوعاتي إسماعيليان

شرح نهج البلاغة لابن لابن أبي
الحديد
لابن أبي الحديد
بتحقيق
محمد أبو الفضل إبراهيم
الجزء الثاني
دار احياء الكتب العربية
عيسى البابي الحلبي وشركاه
1

جميع الحقوق المحفوظة الطبعة الأولى
[1378 ه‍ - 1959 م]
شرح نهج البلاغة لابن لابن أبي
الحديد
لابن أبي الحديد
(586 - 656) تحقيق
محمد أبو الفضل إبراهيم
2

بسم الله الرحمن الرحيم
(بعث معاوية بسر بن أرطاة إلى الحجاز واليمن)
فاما خبر بسر بن أرطاة العامري، من بنى عامر بن لؤي بن غالب، وبعث معاوية
له ليغير على اعمال أمير المؤمنين عليه السلام، وما عمله من سفك الدماء واخذ الأموال،
فقد ذكر أرباب السير ان الذي هاج معاوية على تسريح بسر بن أرطاة - ويقال ابن أبي
أرطاة - إلى الحجاز واليمن، ان قوما بصنعاء كانوا من شيعة عثمان، يعظمون قتله،
لم يكن لهم نظام ولا رأس، فبايعوا لعلي عليه السلام على ما في أنفسهم، وعامل علي عليه
السلام على صنعاء يومئذ عبيد الله بن عباس (1) وعامله على الجند سعيد بن نمران (2)
فلما اختلف الناس على علي عليه السلام بالعراق، وقتل محمد بن لابن أبي
بكر بمصر،
وكثرت غارات أهل الشام، تكلموا ودعوا إلى الطلب بدم عثمان، فبلغ ذلك عبيد الله
ابن عباس، فأرسل إلى ناس من وجوههم، فقال: ما هذا الذي بلغني عنكم؟ قالوا: انا
لم نزل ننكر قتل عثمان، ونرى مجاهدة من سعى عليه. فحبسهم، فكتبوا إلى من بالجند
من أصحابهم، فثاروا بسعيد بن نمران، فأخرجوه من الجند، وأظهروا أمرهم، وخرج
إليهم من كان بصنعاء، وانضم إليهم كل من كان على رأيهم، ولحق بهم قوم لم يكونوا
على رأيهم، إرادة أن يمنعوا الصدقة، والتقى عبيد الله بن عباس وسعيد بن نمران، ومعهما
شيعة علي عليه السلام، فقال أبن عباس لابن نمران: والله لقد اجتمع هؤلاء، وانهم لنا

(1) عبيد الله بن العباس، كان أصغر من أخيه عبد الله بسنة، رأى النبي صلى الله عليه وسلم وسمع
منه، وحفظ عنه. الاستيعاب 404.
(2) سعيد بن نمران الهمداني، كان كاتبا لعلي، وأدرك من حياة النبي عليه السلام أعواما. الاستيعاب
542.
3

لمقاربون، وان قاتلناهم لا نعلم على من تكون الدائرة، فهلم لنكتب إلى أمير المؤمنين
عليه السلام (1) بخبرهم وقدحهم، وبمنزلهم الذي هم به.
فكتب إلى أمير المؤمنين عليه السلام (1):
اما بعد، فانا نخبر أمير المؤمنين عليه السلام أن شيعة عثمان وثبوا بنا، وأظهروا
ان معاوية قد شيد امره، واتسق له أكثر الناس، وانا سرنا إليهم بشيعة أمير المؤمنين
ومن كان على طاعته، وأن ذلك أحمشهم (2) والبهم، فعبئوا (3) لنا، وتداعوا علينا
من كل أوب، ونصرهم علينا من لم يكن له رأى فيهم، إرادة أن يمنع حق الله المفروض
عليه. وليس يمنعنا من مناجزتهم إلا انتظار أمر أمير المؤمنين، أدام الله عزه وأيده،
وقضى له بالأقدار الصالحة في جميع أموره، والسلام.
فلما وصل كتابهما، ساء عليا عليه السلام وأغضبه، وكتب إليهما:
من علي أمير المؤمنين إلى عبيد الله بن العباس وسعيد بن نمران: سلام الله عليكما،
فإني احمد إليكما الله الذي لا إله الا هو. أما بعد، فإنه أتاني كتا بكما تذكران فيه
خروج هذه الخارجة، وتعظمان من شانها صغيرا، وتكثران من عددها قليلا، وقد علمت
أن نخب أفئدتكما، وصغر أنفسكما، وشتات رأيكما، وسوء تدبيركما، هو الذي أفسد عليكما
من لم يكن عليكما فاسدا، وجزاء عليكما من كان عن لقائكما جبانا، فإذا قدم رسولي
عليكما، فامضيا إلى القوم حتى تقرءا عليهم كتابي إليهم، وتدعواهم إلى حظهم وتقوى ربهم،
فان أجابوا حمدنا الله وقبلناهم، وان حاربوا استعنا بالله عليهم ونابذناهم على سواء، أن الله لا يحب الخائنين.
قالوا: وقال علي عليه السلام ليزيد بن قيس الأرحبي: ا لا ترى إلى ما صنع قومك!

(1) (1 - 1) ساقط من أ.
(2) أحمشهم: هاجمهم وأغضبهم *.
(3) ب: (فتعبوا) تصحيف.
4

فقال: أن ظني يا أمير المؤمنين بقومي لحسن في طاعتك، فان شئت خرجت إليهم
فكفيتهم، وأن شئت كتبت إليهم فتنظر ما يجيبونك. فكتب علي عليه السلام
إليهم (1):
من عبد الله على أمير المؤمنين، إلى من شاق وغدر من أهل الجند وصنعاء. اما بعد، فإني احمد الله الذي لا إله الا هو، الذي لا يعقب له حكم، ولا يرد له قضاء، ولا يرد بأسه
عن القوم المجرمين.
وقد بلغني تجرؤكم وشقاقكم وإعراضكم عن دينكم، بعد الطاعة واعطاء البيعة،
فسالت أهل الدين الخالص، والورع الصادق، واللب الراجح عن بدء محرككم،
وما نويتم به، وما أحمشكم له، فحدثت عن ذلك بما لم أر لكم في شئ منه عذرا مبينا،
ولا مقالا جميلا، ولا حجه ظاهرة، فإذا اتاكم رسولي فتفرقوا وانصرفوا إلى رحالكم أعف
عنكم، واصفح عن جاهلكم، واحفظ قاصيكم، واعمل فيكم بحكم الكتاب. فإن لم
تفعلوا، فاستعدوا لقدوم جيش جم الفرسان، عظيم الأركان، يقصد لمن طغى وعصى (2)،
فتطحنوا كطحن الرحى، فمن أحسن فلنفسه، ومن أساء فعليها، وما ربك بظلام للعبيد.
ووجه الكتاب مع رجل من همدان، فقدم عليهم بالكتاب فلم يجيبوه إلى خير،
فقال لهم: انى تركت أمير المؤمنين يريد ان يوجه إليكم يزيد بن قيس الأرحبي، في جيش
كثيف، فلم يمنعه الا انتظار جوابكم. فقالوا: نحن سامعون مطيعون، ان عزل عنا هذين
الرجلين: عبيد الله وسعيدا.
فرجع الهمداني من عندهم إلى علي عليه السلام فأخبره خبر القوم.
قالوا: وكتبت تلك العصابة حين جاءها كتاب علي عليه السلام إلى معاوية يخبرونه،
وكتبوا في كتابهم:
معاوي الا تسرع السير نحونا نبايع عليا أو يزيد اليمانيا.

(1) ساقطة من ب.
(2) ساقطة من ا.
5

فلما قدم كتابهم، دعا بسر بن لابن أبي
أرطاة، وكان قاسي القلب فظا سفاكا للدماء،
لا رأفة عنده ولا رحمه، فأمره ان يأخذ طريق الحجاز والمدينة ومكة حتى ينتهى
إلى اليمن، وقال له: لا تنزل على بلد أهله على طاعة على الا بسطت عليهم لسانك،
حتى يروا انهم لا نجاء لهم، وانك محيط بهم. ثم اكفف عنهم، وادعهم إلى البيعة لي، فمن لابن أبي
فاقتله، واقتل شيعة على حيث كانوا.
* * *
وروى إبراهيم بن هلال الثقفي في كتاب،، الغارات،، عن يزيد بن جابر
الأزدي، قال:
سمعت عبد الرحمن بن مسعده الفزاري يحدث في خلافة عبد الملك، قال: لما دخلت
سنه أربعين، تحدث الناس بالشام ان عليا عليه السلام يستنفر الناس بالعراق
فلا ينفرون معه، وتذاكروا ان قد اختلفت أهواؤهم، ووقعت الفرقة بينهم، قال: فقمت
في نفر من أهل الشام إلى الوليد بن عقبة، فقلنا له: ان الناس لا يشكون في اختلاف
الناس على علي عليه السلام بالعراق، فادخل إلى صاحبك فمره فليسر بنا إليهم قبل
ان يجتمعوا بعد تفرقهم، أو يصلح لصاحبهم ما قد فسد عليه من
امره. فقال: بلى، لقد قاولته في ذلك وراجعته وعاتبته، حتى لقد برم بي، واستثقل طلعتي، وأيم الله
على ذلك ما ادع ان أبلغه ما مشيتم (1) إلى فيه.
فدخل عليه فخبره بمجيئنا إليه، ومقالتنا له، فأذن لنا، فدخلنا عليه، فقال: ما هذا
الخبر الذي جاءني به عنكم الوليد؟ فقلنا: هذا خبر في الناس سائر، فشمر للحرب،
وناهض الأعداء، واهتبل الفرصة، واغتنم الغرة، فإنك لا تدري متى تقدر على عدوك
على مثل حالهم التي هم عليها، وان تسير إلى عدوك أعز لك من أن يسيروا إليك. واعلم

(1) أ: (ما شئتم)
6

والله انه لولا تفرق الناس على صاحبك لقد نهض إليك. فقال لنا: ما استغنى عن رأيكم
ومشورتكم، ومتى احتج إلى ذلك منكم أدعكم. ان هؤلاء الذين تذكرون تفرقهم
على صاحبهم، واختلاف أهوائهم، لم يبلغ ذلك عندي بهم ان أكون أطمع في استئصالهم
واجتياحهم، وان أسير إليهم مخاطرا بجندي، لا أدري على تكون الدائرة أم لي!
فإياكم واستبطائي، فإني آخذ بهم في وجه هو أرفق بكم، وأبلغ في هلكتهم.
قد شننت عليهم الغارات من كل جانب، فخيلي مرة بالجزيرة، ومرة بالحجاز، قد فتح
الله فيما بين ذلك مصر، فأعز بفتحها ولينا، وأذل به عدونا، فأشراف أهل العراق
لما يرون من حسن صنيع الله لنا، يأتوننا على قلائصهم في كل أيام، وهذا مما
يزيدكم الله به وينقصهم، ويقويكم ويضعفهم، ويعزكم ويذلهم، فاصبروا ولا تعجلوا،
فإني لو رأيت فرصتي لاهتبلتها.
فخرجنا من عنده ونحن نعرف الفصل فيما ذكر، فجلسنا ناحية، وبعث معاوية
عند خروجنا من عنده إلى بسر بن لابن أبي
أرطاة، فبعثه في ثلاثة آلاف، وقال: سر حتى
تمر بالمدينة، فاطرد الناس، واخف من مررت به، وانهب أموال كل من أصبت له
مالا، ممن لم يكن دخل في طاعتنا، فإذا دخلت المدينة، فأرهم انك تريد أنفسهم، وأخبرهم انه لا براءة لهم عندك ولا عذر، حتى إذا ظنوا انك موقع بهم فاكفف عنهم،
ثم سر حتى تدخل مكة، ولا تعرض فيها لأحد، وارهب الناس عنك فيما بين المدينة
ومكة، واجعلها شردا، حتى تأتى صنعاء والجند، فان لنا بهما شيعة، وقد
جاءني كتابهم..
فخرج بسر في ذلك البعث، حتى أتى دير مروان، فعرضهم فسقط منهم أربعمائة،
فمضى في الفين وستمائة، فقال الوليد بن عقبة: أشرنا على معاوية برأينا ان يسير
7

إلى الكوفة فبعث الجيش إلى المدينة، فمثلنا ومثله، كما قال الأول: * أريها السها وتريني القمر (1) *
فبلغ ذلك معاوية، فغضب وقال: والله لقد هممت بمساءة هذا الأحمق الذي لا يحسن
التدبير، ولا يدرى سياسة الأمور. ثم كف عنه.
* * *
قلت الوليد كان لشدة بغضه عليا عليه السلام القديم التالد، لا يرى الأناة
في حربه، ولا يستصلح الغارات على أطراف بلاده، ولا يشفى غيظه، ولا يبرد حزازات
قلبه الا باستئصاله نفسه بالجيوش، وتسييرها إلى دار ملكه، وسرير خلافته، وهي الكوفة،
وأن يكون معاوية بنفسه هو الذي يسير بالجيوش إليه، ليكون ذلك أبلغ في هلاك
علي عليه السلام، واجتثاث أصل سلطانه، ومعاوية كان يرى غير هذا الرأي، ويعلم
ان السير بالجيش للقاء علي عليه السلام خطر عظيم، فاقتضت المصلحة عنده، وما يغلب
على ظنه من حسن التدبير، ان يثبت بمركزه بالشام في جمهور جيشه، ويسرب الغارات
على اعمال علي عليه السلام وبلاده، فتجوس خلال الديار وتضعفها، فإذا أضعفتها أضعفت
بيضة ملك علي عليه السلام، لان ضعف الأطراف يوجب ضعف البيضة، وإذا أضعفت
البيضة كان على بلوغ ارادته، والمسير حينئذ - ان استصوب المسير - أقدر.
ولا يلام الوليد على ما في نفسه، فان عليا عليه السلام قتل أباه عقبة بن لابن أبي
معيط
صبرا (2) يوم بدر وسمى الفاسق (3) بعد ذلك في القرآن، لنزاع وقع بينه وبينه،

(1) السها: كويكب صغير خفي الضوء في بنات نعش الكبرى، والناس يمتحنون به أبصارهم. والمثل
في اللسان 19: 123.
(2) القتل صبرا: أن يحبس الانسان ويرمى حتى يموت.
(3) يشير إلى ما ذكروه من سبب نزول قوله تعالى في سورة الحجرات (يا أيها الذين آمنوا إن
جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا)، وانظر الإصابة 6: 631 وأسباب النزول، للواحدي 291.
8

ثم جلد الحد في خلافة عثمان، وعزله عن الكوفة، وكان عاملها، وببعض هذا
عند العرب أرباب الدين والتقى تستحل المحارم، وتستباح الدماء، ولا تبقى مراقبة
في شفاء الغيظ لدين ولا لعقاب ولا لثواب، فكيف الوليد المشتمل على ا لفسوق
والفجور، مجاهرا بذلك! وكان من المؤلفة قلوبهم، مطعونا في دينه (1) مرميا بالإلحاد
والزندقة!
* * *
قال إبراهيم بن هلال: روى عوانة عن الكلبي ولوط بن يحيى، ان بسرا لما أسقط
من أسقط من جيشه، سار بمن تخلف معه، وكانوا إذا وردوا ماء أخذوا إبل أهل
ذلك الماء فركبوها، وقادوا خيولهم حتى يردوا الماء الآخر، فيردون تلك الإبل، ويركبون
إبل هؤلاء، فلم يزل يصنع ذلك حتى قرب إلى المدينة.
قال: وقد روى أن قضاعة استقبلتهم ينحرون لهم الجزر، حتى دخلوا المدينة. قال:
فدخلوها، وعامل علي عليه السلام عليها أبو أيوب الأنصاري، صاحب منزل رسول الله صلى الله عليه وآله، فخرج عنها هاربا، ودخل بسر المدينة، فخطب الناس وشتمهم
وتهددهم يومئذ وتوعدهم، وقال: شاهت الوجوه! ان الله تعالى: (ضرب الله مثلا
قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها...) (2) الآية، وقد أوقع الله تعالى ذلك
المثل بكم وجعلكم أهله، كان بلدكم مهاجر النبي صلى الله عليه ومنزله، وفيه قبره ومنازل
الخلفاء من بعده، فلم تشكروا نعمة ربكم، ولم ترعوا حق نبيكم، وقتل خليفة الله
بين أظهركم، فكنتم بين قاتل وخاذل، ومتربص وشامت، ان كانت للمؤمنين قلتم:
ا لم نكن معكم! وإن كان للكافرين نصيب قلتم: ا لم نستحوذ عليكم ونمنعكم من

(1) ا: (نسبه).
(2) سورة النحل 112، وبقيتها: (من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها
الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون).
9

المؤمنين! ثم شتم الأنصار، فقال: يا معشر اليهود وأبناء العبيد، بنى زريق وبنى النجار
وبنى سالم وبنى عبد الأشهل، اما والله لأوقعن بكم وقعة تشفى غليل صدور المؤمنين
وآل عثمان. اما والله لأدعنكم أحاديث كالأمم السالفة (1).
فتهددهم حتى خاف الناس ان يوقع بهم، ففزعوا إلى حويطب بن عبد العزى - ويقال انه زوج أمه - فصعد إليه المنبر، فناشده، وقال: عترتك وأنصار رسول الله، وليسوا
بقتله عثمان، فلم يزل به حتى سكن، ودعا الناس إلى بيعة معاوية فبايعوه. ونزل فأحرق
دورا كثيره، منها دار زرارة بن حرون، أحد بنى عمرو بن عوف، ودار رفاعة بن رافع
الزرقي، ودار لابن أبي
أيوب الأنصاري، وتفقد جابر بن عبد الله، فقال: ما لي لا أرى جابرا!
يا بنى سلمة، لا أمان لكم عندي، أو تأتوني بجابر! فعاذ جابر بأم سلمة رضي الله عنها،
فأرسلت إلى بسر بن أرطاة، فقال: لا أؤمنه حتى يبايع، فقالت له أم سلمة: اذهب
فبايع، وقالت لابنها عمر، اذهب فبايع، فذهبا فبايعاه (2).
قال إبراهيم: وروى الوليد بن كثير عن وهب بن كيسان، قال: سمعت جابر
ابن عبد الله الأنصاري يقول: لما خفت بسرا وتواريت عنه، قال لقومي: لا أمان لكم
عندي حتى يحضر جابر، فأتوني، وقالوا: ننشدك الله لما انطلقت معنا فبايعت،
فحقنت دمك ودماء قومك، فإنك ان لم تفعل قتلت مقاتلينا، وسبيت ذرارينا.
فاستنظرتهم الليل، فلما أمسيت دخلت على أم سلمة فأخبرتها الخبر، فقالت: يا بنى، انطلق
فبايع، احقن دمك ودماء قومك، فإني قد أمرت ابن أخي ان يذهب فيبايع،
وإني لأعلم انها بيعة ضلالة.

(1) تاريخ الطبري 6: 80، مع اختلاف في تفصيل الخبر.
(2) في تاريخ الطبري: (فقال لها: ماذا ترين؟ إني قد خشيت أن أقتل، وهذه بيعة ضلالة، فقالت:
أرى أن تبايع، فإني قد أمرت ابني عمر بن أبي سلمة أن يبايع، وأمرت ختني عبد الله بن زمعة...)..
10

قال إبراهيم: فأقام بسر بالمدينة أياما ثم قال لهم: انى قد عفوت عنكم: وان
لم تكونوا لذلك باهل، ما قوم قتل امامهم بين ظهرانيهم باهل ان يكف عنهم العذاب، و
لئن نالكم العفو منى في الدنيا، انى لأرجو الا تنالكم رحمة الله عز وجل في الآخرة،
وقد استخلفت عليكم أبا هريرة، فإياكم وخلافة. ثم خرج إلى مكة.
قال إبراهيم: روى الوليد بن هشام، قال: اقبل بسر، فدخل المدينة، فصعد
منبر الرسول صلى الله عليه وآله، ثم قال: يا أهل المدينة، خضبتم لحاكم وقتلتم عثمان
مخضوبا، والله لا ادع في المسجد مخضوبا إلا قتلته، ثم قال لأصحابه: خذوا بأبواب المسجد
وهو يريد ان يستعرضهم. فقام إليه عبد الله بن الزبير وأبو قيس أحد بنى عامر بن لؤي،
فطلبا إليه حتى كف عنهم، وخرج إلى مكة، فلما قرب منها هرب قثم بن العباس -
وكان عامل علي عليه السلام - ودخلها بسر، فشتم أهل مكة وأنهبهم. ثم خرج عنها
واستعمل عليها شيبة بن عثمان.
* * *
قال إبراهيم: وقد روى عوانة عن الكلبي ان بسرا لما خرج من المدينة إلى مكة
قتل في طريقه رجالا، واخذ أموالا، وبلغ أهل مكة خبره، فتنحى عنها عامه أهلها،
وتراضي الناس بشيبة بن عثمان أميرا لما خرج قثم بن العباس عنها، وخرج إلى بسر قوم من
قريش، فتلقوه، فشتمهم، ثم قال: اما والله لو تركت ورأيي فيكم لتركتكم وما فيكم
روح تمشى على الأرض، فقالوا: ننشدك الله في أهلك وعترتك! فسكت ثم دخل وطاف
بالبيت، وصلى ركعتين، ثم خطبهم، فقال:
الحمد لله الذي أعز دعوتنا، وجمع ألفتنا، وأذل (1) عدونا بالقتل والتشريد، هذا ابن
أبي طالب بناحية العراق في ضنك وضيق، قد ابتلاه الله بخطيئته، وأسلمه بجريرته،

(1) ا: (خذل).
11

فتفرق عنه أصحابه ناقمين عليه، وولى الامر معاوية الطالب بدم عثمان، فبايعوا ولا تجعلوا
على أنفسكم سبيلا. فبايعوا.
وتفقد سعيد بن العاص فطلبه فلم يجده، وأقام أياما ثم خطبهم فقال:
يا أهل مكة، انى قد صفحت عنكم، فإياكم والخلاف، فوالله ان فعلتم لأقصدن منكم
إلى التي تبير أصل، وتحرب المال، وتخرب الديار.
ثم خرج إلى الطائف، فكتب إليه المغيرة ن شعبه حين خرج من مكة إليها:
اما بعد، فقد بلغني مسيرك إلى الحجاز، ونزولك مكة، وشدتك على المريب،
وعفوك عن المسئ، وإكرامك لأولي النهى، فحمدت رأيك في ذلك، فدم على صالح
ما كنت عليه، فان الله عزو جل لن يزيد بالخير أهله الا خيرا، جعلنا الله وإياك من
الامرين بالمعروف، والقاصدين إلى الحق، والذاكرين الله كثيرا.
قال: ووجه رجلا من قريش إلى تباله: وبها قوم من شيعة علي عليه السلام، وأمره
بقتلهم، فأخذهم، وكلم فيهم وقيل له: هؤلاء قومك، فكف عنهم حتى نأتيك بكتاب
من بسر بأمانهم، فحبسهم. وخرج منيع الباهلي من عندهم إلى بسر وهو بالطائف، يستشفع
إليه فيهم، فتحمل عليه بقوم من الطائف، فكلموه فيهم، وسألوه الكتاب بإطلاقهم،
فوعدهم ومطلهم بالكتاب حتى ظن أنه قد قتلهم القرشي المبعوث لقتلهم، وان كتابه
لا يصل إليهم حتى يقتلوا، ثم كتب لهم، فأتى منيع منزله، وكان قد نزل على امرأة
بالطائف ورحله عندها، فلم يجدها في منزلها، فوطئ على ناقته بردائه، وركب فسار يوم
الجمعة وليلة السبت لم ينزل عن راحلته قط، فأتاهم ضحوة، وقد اخرج القوم ليقتلوا،
واستبطئ كتاب بسر فيهم، فقدم رجل منهم فضربه رجل من أهل الشام، فانقطع
سيفه، فقال الشاميون بعضهم لبعض: شمسوا سيوفكم حتى تلين فهزوها. وتبصر منيع
12

الباهلي بريق السيوف، فألمع بثوبه، فقال القوم: هذا راكب عنده خير، فكفوا، وقام
به بعيره فنزل عنه، وجاء على رجليه يشد فدفع الكتاب إليهم فأطلقوا، وكان الرجل
المقدم - الذي ضرب بالسيف فانكسر السيف - أخاه.
* * *
قال إبراهيم: وروى علي بن مجاهد، عن ابن إسحاق، ان أهل مكة لما بلغهم ما صنع
بسر، خافوه وهربوا، فخرج بنا عبيد الله بن العباس، وهما سليمان وداود، وأمهما جويرية
ابنه خالد بن قرظ الكنانية، وتكنى أم حكيم، وهم حلفاء بنى زهره، وهما غلامان مع
أهل مكة، فأضلوهما عند بئر ميمون بن ا لحضرمي - وميمون هذا هو أخو العلاء بن - الحضرمي وهجم عليهما بسر، فأخذهما وذبحهما،
قالت أمهما (1):
هامن أحس بابني اللذين هما * كالدرتين تشظى عنهما الصدف (2)
هامن أحس بابني اللذين هما * سمعي وقلبي فقلبي اليوم مختطف
هامن أحس بابني اللذين هما * مخ العظام فمخي اليوم مزدهف (3)
نبئت بسرا وما صدقت ما زعموا * من قولهم ومن الإفك الذي اقترفوا
أنحى على ودجى ابني مرهفة * مشحوذة، وكذاك الاثم يقترف (4)
من دل والهة حرى مسلبة (5) * على صبيين ضلا إذ مضى السلف (6)

(1) الأبيات في الكامل - بشرح المرصفي 8: 158، وهي أيضا مع الخبر في الأغاني 15: 45
(طبعة الساسي)
(2) الكامل والأغاني: (يا من أحسن بني) وتشظى: تفرق.
(3) مزدهف: ذهب به.
(4) الكامل: (على ودجى طفلي) وبعد هذا البيت في رواية الأغاني:
حتى لقيت رجالا من أرومته * شم الأنوف لهم في قومهم شرف
فالآن ألعن بسرا حق لعنته * هذا لعمر أبي بسر هو السرف
(5) الكامل: (مفجعة)، والأغاني: (مولهة).
(6) الكامل: (على صبيين غابا) والأغاني: (إذ غدا السلف).
13

وقد روى أن اسمهما قثم، وعبد الرحمن. وروى أنهما ضلا في أخوالهما من بنى كنانة.
وروى أن بسرا إنما قتلهما باليمن، وأنهما ذبحا على درج صنعاء.
* * *
وروى عبد الملك بن نوفل بن مساحق عن أبيه، ان بسرا لما دخل الطائف، وقد كلمه
المغيرة قال له: لقد صدقتني ونصحتني، فبات بها وخرج منها، وشيعة المغيرة ساعة، ثم
ودعه وانصرف عنه، فخرج حتى مر ببني كنانة، وفيهم ابنا عبيد الله بن العباس وأمهما.
فلما انتهى بسر إليهم، طلبهما، فدخل رجل من بنى كنانة - وكان أبوهما أوصاه بهما - فاخذ
السيف من بيته وخرج، فقال له بسر: ثكلتك أمك! والله ما كنا أردنا قتلك، فلم،
عرضت نفسك للقتل! قال: اقتل دون جارى أعذر لي عند الله والناس. ثم شد على
أصحاب بسر بالسيف حاسرا، وهو يرتجز:
آليت لا يمنع حافات الدار * ولا يموت مصلتا دون الجار (1)
* الا فتى أروع غير غدار *
فضارب بسيفه حتى قتل، ثم قدم الغلامان فقتلا، فخرج نسوة من بني كنانة، فقالت
امرأة منهن: هذه الرجال يقتلها، فما بال الولدان! والله ما كانوا يقتلون في جاهلية ولا
اسلام، والله ان سلطانا لا يشتد الا بقتل الزرع الضعيف والشيخ الكبير ورفع الرحمة،
وقطع الأرحام، لسلطان سوء. فقال بسر: والله لهممت ان أضع فيكن السيف، قالت:
والله انه لأحب إلى أن فعلت!
* * *
قال إبراهيم: وخرج بسر من الطائف، فأتى نجران، فقتل عبد الله بن عبد المدان
وابنه مالكا - وكان عبد الله هذا صهرا لعبيد الله بن العباس - ثم جمعهم وقام فيهم، وقال:

(1) المصلت: المضروب بالسيف.
14

يا أهل نجران، يا معشر النصارى واخوان القرود: اما والله ان بلغني عنكم ما أكره
لأعودن عليكم بالتي تقطع النسل، وتهلك الحرث، وتخرب الديار!
وتهددهم طويلا، ثم سار حتى أرحب، فقتل أبا كرب - وكان يتشيع - ويقال انه
سيد من كان بالبادية من همدان، فقدمه فقتله.
وأتى صنعاء وقد خرج عنها عبيد الله بن العباس، وسعيد بن نمران، وقد استخلف
عبيد الله عليها عمرو بن أراكة الثقفي، فمنع بسرا من دخولها وقاتله، فقتله بسر، ودخل
صنعاء، فقتل منها قوما، واتاه وفد مأرب فقتلهم، فلم ينج منهم الا رجل واحد، ورجع
إلى قومه، فقال لهم: (أنعى قتلانا، شيوخا وشبانا).
قال إبراهيم: وهذه الأبيات المشهورة عبد الله بن أراكة الثقفي، يرثي بها ابنه عمرا (1):
لعمري لقد أردى ابن أرطاة فارسا * بصنعاء كالليث الهزبر لابن أبي
الاجر (2)
تعز فإن كان البكا رد هالكا * على أحد فاجهد بكاك على عمرو (3)
ولا تبك ميتا بعد ميت أجنه * على وعباس وآل لابن أبي
بكر.
قال: وروى نمير بن وعلة، عن أبي وداك (4)، قال: كنت عند علي عليه السلام، لما
قدم عليه سعيد بن نمران الكوفة، فعتب عليه وعلى عبيد الله الا يكونا قاتلا بسرا

(1) الأبيات في الكامل - بشرح المرصفي 8: 157، وقبلها في روايته:
لعمري لئن أتبعت عينك ما مضى * به الدهر أوساق الحمام إلى القبر
لتستنفدن ماء الشؤون بأسره * ولو كنت تمريهن من ثبج البحر
(2) في الكامل: (أبي أجر)، وأجر: جمع جرو، وهو هنا اسم لولد الأسد، ويجمع على أجراء أيضا.
(3) رواية الكامل
تبين فإن كان البكا رد هالكا * على أهله فاشدد بكاك على عمرو
(4) هو جبر بن نوف الهمداني، أبو الوداك، بفتح الواو وتشديد الدال التقريب 41
15

فقال سعيد: قد والله قاتلت، ولكن ابن عباس خذلني وأبى ان يقاتل، ولقد خلوت به
حين دنا منا بسر، فقلت ان ابن عمك لا يرضى منى ومنك بدون الجد في قتالهم، قال:
لا والله ما لنا بهم طاقة ولا يدان، فقمت في الناس، فحمدت الله ثم قلت: يا أهل اليمن من
كان في طاعتنا وعلى بيعة أمير المؤمنين عليه السلام فإلى إلى. فأجابني منهم عصابة، فاستقدمت
بهم، فقاتلت قتالا ضعيفا، وتفرق الناس عنى وانصرفت.
قال: ثم خرج بسر من صنعاء، فأتى أهل جيشان (1). - وهم شيعة - لعلي عليه السلام، فقاتلهم
وقاتلوه فهزمهم وقتلهم قتلا ذريعا، ثم رجع إلى صنعاء، فقتل بها مائة شيخ من أبناء فارس،
لان ابني عبيد الله بن العباس كانا مستترين في بيت امرأة من أبنائهم، تعرف بابنه بزرج.
وقال الكلبي وأبو مخنف، فندب علي عليه السلام أصحابه لبعث سرية في أثر بسر،
فتثاقلوا، وأجابه جارية بن قدامة السعدي، فبعثه في الفين، فشخص إلى البصرة، ثم اخذ
طريق الحجاز حتى قدم اليمن، وسال عن بسر فقيل: اخذ في بلاد بنى تميم، فقال:
اخذ في ديار قوم يمنعون أنفسهم. وبلغ بسرا مسير جارية، فانحدر إلى اليمامة، واخذ
جاريه بن قدامة السير، ما يلتفت إلى مدينة مر بها ولا أهل حصن، ولا يعرج على شئ
الا ان يرمل (2) بعض أصحابه من الزاد، فيأمر أصحابه بمواساته أو يسقط بعير رجل، أو تحفى
دابته، فيأمر أصحابه بان يعقبوه، حتى انتهوا إلى ارض اليمن، فهربت شيعة عثمان حتى لحقوا
بالجبال، واتبعهم شيعة علي عليه السلام، وتداعت عليهم من كل جانب، وأصابوا منهم،
وصمد (3) نحو بسر، وبسر بين يديه يفر من جهة إلى جهة أخرى، حتى أخرجه من اعمال
علي عليه السلام كلها.
فلما فعل به ذلك، أقام جارية بحرس نحوا من شهر، حتى استراح وأراح أصحابه، ووثب
الناس ببسر في طريقه لما انصرف من بين يدي جارية، لسوء سيرته وفظاظته وظلمه
وغشمه، وأصاب بنو تميم ثقلا من ثقله في بلاده. وصحبه إلى معاوية ليبايعه على الطاعة ابن مجاعة

(1) جيشان: مخلاف باليمن،
مالي لحج وغربي بلاد يافع.
(2) يقال: أرمل القوم، إذا نفذ زادهم.
(3) صمد: قصد.
16

رئيس اليمامة، فلما وصل بسر إلى معاوية قال: يا أمير المؤمنين، هذا ابن مجاعة قد أتيتك به فاقتله، فقال معاوية: تركته لم تقتله، ثم جئتني به فقلت: اقتله! لا لعمري لا اقتله. ثم
بايعه ووصله، وأعاده إلى قومه.
وقال بسر احمد الله يا أمير المؤمنين انى سرت في هذا الجيش اقتل عدوك ذاهبا جائيا
لم ينكب رجل منهم نكبة، فقال معاوية: الله قد فعل ذلك لا أنت.
وكان الذي قتل بسر في وجهه ذلك ثلاثين ألفا، وحرق قوما بالنار، فقال يزيد
ابن مفرغ:
تعلق من أسماء ماس قد تعلقا * ومثل الذي لاقى من الشوق أرقا (1)
سقى هزم الإرعاد منبعج الكلى * منازلها من مسرقان فسرقا
إلى الشرف الأعلى إلى رامهرمز * إلى قريات الشيخ من نهر أربقا
إلى دشت بارين إلى الشط كله * إلى مجمع السلان من بطن دورقا
إلى حيث يرفأ من دجيل سفينة * إلى مجمع النهرين حيث تفرقا
إلى حيث سار المرء بسر بجيشه * فقتل بسر ما استطاع وحرقا
* * *
وروى أبو الحسن المدائني، قال: اجتمع عبيد الله بن العباس وبسر بن أرطاة يوما
عند معاوية بعد صلح الحسن عليه السلام، فقال له ابن عباس، أنت أمرت اللعين السيئ
الفدم ان يقتل ابني؟ فقال: ما أمرته بذلك، ولوددت انه لم يكن قتلهما، فغضب بسر
ونزع سيفه، فألقاه، وقال لمعاوية، اقبض سيفك، قلدتنيه وأمرتني ان أخبط به الناس
ففعلت، حتى إذا بلغت ما أردت قلت لم أهو ولم آمر. فقال: خذ سيفك إليك، فلعمري

(1) وردت هذه الأبيات في الأغاني 17: 48 (ساسي)، ومعجم ما استعجم 2: 1225 - 1226
ومعجم البلدان 8: 52، مع اختلاف في الرواية وعدد الأبيات وترتيبها.
17

انك ضعيف مائق حين تلقي السيف بين يدي رجل من بنى عبد مناف، قد قتلت
أمس ابنيه. فقال له عبيد الله: ا تحسبني يا معاوية قاتلا بسرا بأحد ابني! هو أحقر وألام من
ذلك ولكني والله لا أرى لي مقنعا ولا أدرك ثارا الا ان أصيب بهما يزيد وعبد الله.
فتبسم معاوية وقال: وما ذنب معاوية وابني معاوية! والله ما علمت ولا أمرت،
ولا رضيت ولا هويت. واحتملها منه لشرفه وسؤدده.
قال: ودعا علي عليه السلام على بسر فقال: اللهم ان بسرا باع دينه بالدنيا، وانتهك
محارمك، وكانت طاعة مخلوق فاجر آثر عنده مما عندك. اللهم فلا تمته حتى تسلبه
عقله، ولا توجب له رحمتك ولا ساعة من نهار، اللهم العن بسرا وعمرا ومعاوية وليحل
عليهم غضبك، ولتنزل بهم نقمتك وليصبهم بأسك ورجزك الذي لا ترده عن القوم
المجرمين.
فلم يلبث بسر بعد ذلك الا يسيرا حتى وسوس وذهب عقله، فكان يهذي
بالسيف، ويقول: اعطوني سيفا اقتل به، لا يزال يردد ذلك حتى اتخذ له سيف من
خشب، وكانوا يدنون منه المرفقة، فلا يزال يضربها حتى يغشى عليه، فلبث كذلك إلى أن
مات.
قلت: كان مسلم بن عقبة ليزيد وما عمل بالمدينة في وقعة الحرة، كما كان بسر
لمعاوية وما عمل في الحجاز واليمن، ومن أشبه أباه فما ظلم!
نبني كما كانت أوائلنا * تبنى ونفعل مثل ما فعلوا
18

ومن خطبته له عليه السلام:
الأصل:
ان الله بعث محمدا صلى الله عليه نذيرا للعالمين، وأمينا على التنزيل،
وأنتم معشر العرب على شر دين وفي شر دار، منيخون بين حجارة خشن،
وحيات صم، تشربون الكدر، وتأكلون الجشب، وتسفكون دماءكم،
تقطعون أرحامكم، الأصنام فيكم منصوبة، والآثام بكم معصوبة.
* * *
الشرح:
يجوز أن يعني بقوله: (بين حجارة خشن وحيات صم) الحقيقة لا المجاز ز، وذلك
أن البادية بالحجاز ونجد وتهامة وغيرها من ارض العرب ذات حياة وحجار خشن،
وقد يعنى بالحجارة الخشن الجبال أيضا، أو الأصنام، فيكون داخلا في قسم الحقيقة
إذا فرضناه مرادا، ويكون المعنى بذلك وصف ما كانوا عليه من البؤس وشظف العيشة
وسوء الاختيار في العبادة، فأبدلهم الله تعالى بذلك الريف (1) ولين المهاد وعبادة من
يستحق العبادة.
ويجوز أن يعني به المجاز، وهو الأحسن، يقال للأعداء حياة. والحية الصماء أدهى
من التي ليست بصماء، لأنها لا تنزجر بالصوت. ويقال للعدو أيضا: إنه لحجر خشن المس إذا كان ألد الخصام.
والجشب من الطعام الغليظ الخشن.

(1) الريف: أرض فيها زرع وخصب وسعة في المأكل و المشرب.
19

وقال أبو البختري وهب بن وهب القاضي: كنت عند الرشيد يوما، واستدعى
ماء مبردا بالثلج، فلم يوجد في الخزانة ثلج، فاعتذر إليه بذلك، واحضر إليه ماء غير مثلوج،
فضرب وجه الغلام بالكوز، واستشاط غضبا، فقلت له: أقول يا أمير المؤمنين وانا آمن!
فقال: قل، قلت: يا أمير المؤمنين قد رأيت ما كان من الغير بالأمس - يعنى زوال دولة بنى أمية - والدنيا غير دائمة ولا موثوق بها، والحزم الا تعود نفسك الترفه والنعمة، بل
تأكل اللين والجشب، وتلبس الناعم والخشن، وتشرب الحار والقار. فنفحني بيده، وقال:
لا والله، لا اذهب إلى ما تذهب إليه، بل البس النعمة ما لبستني، فإذا نابت نوبة الدهر
عدت إلى نصاب غير حوار (1).
. وقوله: (والآثام بكم معصوبة) استعارة، كأنها مشدودة إليهم.
وعنى بقوله: (تسفكون دماءكم وتقطعون أرحامكم) ما كانوا عليه في الجاهلية من الغارات والحروب. الأصل: ومنها:
فنظرت فإذا ليس لي معين الا أهل بيتي، فضننت بهم عن الموت،
وأغضيت على القذى، وشربت على الشجى، وصبرت على اخذ الكظم، وعلى أمر
من طعم العلقم.
* * *

(1) الحوار، كسحاب: النقصان والكساد.
20

الشرح:
الكظم، بفتح الظاء: مخرج النفس، والجمع أكظام. وضننت، بالكسر: بخلت.
وأغضيت على كذا: غضضت طرفي، والشجى: ما يعترض في الحلق. (حديث السقيفة)
اختلفت الروايات في قصة السقيفة، فالذي تقوله الشيعة - وقد قال قوم من المحدثين
بعضه ورووا كثيرا منه - ان عليا عليه السلام امتنع من البيعة حتى اخرج كرها، وان
الزبير بن العوام امتنع من البيعة وقال: لا أبايع الا عليا عليه السلام، وكذلك أبو سفيان
ابن حرب، وخالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس، والعباس بن عبد المطلب
وبنوه، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وجميع بني هاشم، وقالوا: ان الزبير
شهر سيفه، فلما جاء عمر ومعه جماعة من الأنصار وغيرهم، قال في جملة ما قال: خذوا
سيف هذا فاضربوا به الحجر. ويقال: انه اخذ السيف من يد الزبير فضرب به حجرا
فكسره، وساقهم كلهم بين يديه إلى لابن أبي
بكر، فحملهم على بيعته ولم يتخلف الا علي عليه
السلام وحده، فإنه اعتصم ببيت فاطمة عليها السلام، فتحاموا اخراجه منه قسرا، وقامت
فاطمة عليها السلام إلى باب البيت فأسمعت من جاء يطلبه، فتفرقوا وعلموا انه بمفرده
لا يضر شيئا، فتركوه. وقيل: انهم أخرجوه فيمن اخرج وحمل إلى لابن أبي
بكر فبايعه. وقد روى أبو جعفر
محمد بن جرير الطبري كثيرا من هذا (1).
فاما حديث التحريق وما جرى مجراه من الأمور الفظيعة، وقول من قال إنهم أخذوا
عليا عليه السلام يقاد بعمامته والناس حوله، فامر بعيد، والشيعة تنفرد به على أن جماعة
من أهل الحديث قد رووا نحوه، وسنذكر ذلك.

(1) تاريخ الطبري 3: 199 وما بعدها
21

وقال أبو جعفر: ان الأنصار لما فاتها ما طلبت من الخلافة، قالت - أو قال بعضها:
لا نبايع الا عليا. وذكر نحو هذا علي بن عبد الكريم المعروف بابن الأثير الموصلي
في تاريخه (1)
فاما قوله: (لم يكن لي معين الا أهل بيتي فضننت بهم عن الموت) فقول ما زال
علي عليه السلام يقوله، ولقد قاله عقيب وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله، قال:
لو وجدت أربعين ذوي عزم!
ذكر ذلك نصر بن مزاحم في كتاب،، صفين،،، وذكره كثير من
أرباب السيرة.
واما الذي يقوله جمهور المحدثين وأعيانهم، فإنه عليه السلام امتنع من البيعة ستة
أشهر، ولزم بيته فلم يبايع حتى ماتت فاطمة عليها السلام، فلما ماتت بايع طوعا.
وفي صحيحي مسلم والبخاري: كانت وجوه الناس إليه وفاطمة باقية بعد فلما ماتت
فاطمة عليها السلام انصرفت وجوه الناس عنه، وخرج من بيته فبايع أبا بكر، وكانت
مده بقائها بعد أبيها عليه السلام ستة أشهر (2)
وروى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ، (3) عن ابن عباس رضي الله عنه
قال: قال لي عبد الرحمن بن عوف، وقد حججنا مع عمر (3) شهدت اليوم أمير المؤمنين عليه السلام بمنى، وقال له رجل (4): انى سمعت فلانا يقول: لو قد مات عمر لبايعت
فلانا، فقال عمر (5): انى لقائم العشية في الناس أحذرهم هؤلاء الرهط الذين يريدون أن

(1) الكامل 2: 220 وما بعدها.
(2) صحيح البخاري بسنده عن عائشة في كتاب المغازي 3: 55، وصحيح مسلم بسنده أيضا عن عائشة،
في كتاب الجهاد والسير 3: 138.
(3 - 3) صدر الخبر في الطبري: (عن ابن عباس، قال كنت أقرى عبد الرحمن بن عوف، قال: فحج
عمر وحججنا معه، قال: فإني لفي منزل بمعنى إذ جاءني عبد الرحمن بن عوف فقال: شهدت).
(4) الطبري: (وقام إليه رجل فقال).
(5) الطبري: (فقال أمير المؤمنين).
22

يغتصبوا الناس أمرهم. قال عبد الرحمن: فقلت يا أمير المؤمنين، ان الموسم يجمع رعاع
الناس وغوغاءهم، (1) وهم الذين يقربون من مجلسك ويغلبون عليه، وأخاف ان تقول مقالة
لا يعونها ولا يحفظونها فيطيروا بها 1) ولكن أمهل حتى تقدم المدينة (2) وتخلص بأصحاب
رسول الله، فتقول (ما قلت متمكنا) (3)، فيسمعوا (4) مقالتك. فقال: والله لأقومن بها
أول مقام أقومه بالمدينة.
قال ابن عباس: (5 فلما قدمناها هجرت يوم الجمعة لحديث 5) عبد الرحمن، فلما جلس (6 عمر
على المنبر حمد الله وأثنى عليه ثم قال 6) بعد أن ذكر الرجم وحد الزنا: انه بلغني ان قائلا
منكم يقول: لو مات أمير المؤمنين بايعت فلانا، فلا يغرن أمرا ان يقول: ان بيعة لابن أبي
بكر
كانت فلتة، فلقد كانت كذلك، ولكن (7) الله وقى شرها، وليس فيكم من تقطع
إليه الأعناق كأبي بكر، وانه كان من خبرنا حين توفى رسول الله صلى الله عليه. أن عليا
والزبير تخلفا عنا في بيت فاطمة ومن معهما، وتخلفت عنا الأنصار، واجتمع المهاجرون
إلى لابن أبي
بكر، فقلت له: انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار، فانطلقنا نحوهم، فلقينا رجلان
صالحان من الأنصار قد شهدا بدرا: أحدهما عويم بن ساعدة، والثاني معن بن عدي،
فقالا لنا: ارجعوا فاقضوا امركم بينكم (8) فأتينا الأنصار، وهم مجتمعون في سقيفة

(1 - 1) عبارة الطبري: (وإنهم الذين يغلبون مجلسهم، وإني لخائف إن قلت اليوم مقالة ألا يعوها ولا
يحفظوها، ولا يضعوها على مواضعها، وأن يطيروا بها كل مطير).
(2) الطبري: (دار الهجرة والسنة).
(3) تكملة في تاريخ الطبري.
(4) الطبري: (فيعوا). (5 - 5) الطبري: (فلما قدمنا المدينة وجاء يوم الجمعة هجرت للحديث الذي حدثنيه عبد الرحمن
فوجدت سعيد بن زيد قد سبقني بالتهجير، فجلست).
(6 - 6) عبارة الطبري: (فوجدت سعيد بن زيد قد سبقني بالتهجير، فجلست إلى جنبه عند المنبر،
ركبتي إلى ركبته، فلما زالت الشمس لم يلبث عمر أن خرج، فقلت لسعيد وهو مقبل: ليقولن أمير المؤمنين
اليوم على هذا المنبر مقالة لم تقل قبله، فغضب وقال: فأي مقالة يقول لم تقل قبله! فلما جلس عمر على المنبر
أذن المؤذنون، فلما قضي المؤذن أذانه قام عمر، فحمد الله وأثنى عليه وقال...)
(7) الطبري: (غير أن).
(8) بعدها من الطبري: (فقلنا والله لنأتينهم).
23

بنى ساعدة، وبين أظهرهم رجل مزمل، فقلت: من هذا؟ (1 قالوا: سعد بن عبادة وجع 1)
فقام رجل منهم، فحمد الله وأثنى عليه، فقال اما بعد، فنحن الأنصار، وكتيبة الاسلام
وأنتم يا معشر قريش رهط نبينا، قد دفت إلينا دافة من قومكم (2) فإذا أنتم تريدون
ان تغصبون الامر.
فلما سكت، (3 وكنت قد زورت في نفسي مقالة أقولها بين يدي أبي بكر 3)،
فلما ذهبت أتكلم، قال أبو بكر: على رسلك! فقام فحمد الله وأثنى عليه، فما ترك شيئا كنت
زورت في نفسي الا جاء به أو بأحسن منه، وقال: يا معشر الأنصار انكم
لا تذكرون فضلا الا وأنتم له أهل، وان العرب لا تعرف هذا الامر الا لقريش،
أوسط العرب دارا ونسبا، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين.
وأخذ بيدي ويد لابن أبي
عبيدة بن الجراح - والله ما كرهت من كلامه غيرها،
إن كنت لأقدم فتضرب عنقي فيما لا يقربني إلى إثم، أحب إلى من أن أؤمر على قوم
فيهم أبو بكر.
فلما قضى أبو بكر كلامه، قام رجل (5) من الأنصار، فقال: انا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب (6)، منا أمير ومنكم أمير.

(1 - 1) * عبارة الطبري (فقلت: ما شأنه؟ قالوا: وجع).
(2) الدافة: الجماعة من الناس تقبل من بلد إلى بلد.
(3 - 3) الطبري: " قال فلما رأيتهم يريدون ان يختزلونا من أصلنا ويعصبونا الأمر، وقد كنت زورت في
نفس مقالة أقدمها بين يدي لابن أبي
بكر ".
(4) زورت في نفسي كلاما، أي هيأت وأصلحت، والتزوير: إصلاح الشئ.
(5) هو الحباب بن المنذر الخزرجي، ذكره الزمخشري في الفائق 1: 181، وأورد كلامه.
(6) الجذيل في الأصل: تصغير الجذل، وهو عود ينصب للإبل الجربى تستشفى بالاحتكاك به. والمحكك:
الذي كثر به الاحتكاك حتى صار مملسا. والعذيق: تصغير العذق وهو النخلة. والمرجب: المدعوم
بالرجبة، وهي خشبة ذات شعبتين، وذلك إذا كثر وطال حمله والمعني أنى ذو رأي يشفى بالاستضاءة به
كثيرا في مثل هذه الحادثة وأنا في كثرة التجارب والعلم بموارد الأحوال فيها وفي أمثالها ومصادرها
كالنخلة الكثيرة الحمل. الفائق 1: 181، 182.
24

وارتفعت الأصوات واللغط، فلما خفت الاختلاف، قلت لأبي بكر: ابسط يدك
أبايعك فبسط يده فبايعته وبايعه الناس، ثم نزونا على سعد بن عبادة، فقال قائلهم:
قتلتم سعدا! فقلت: اقتلوه قتله الله، وانا والله ما وجدنا أمرا هو أقوى من بيعة لابن أبي
بكر،
خشيت ان فارقت القوم ولم تكن بيعة، ان يحدثوا بعدنا بيعة، فاما ان نبايعهم على
ما لا نرضى أو نخالفهم فيكون فساد.
هذا حديث متفق عليه من أهل السيرة وقد وردت الروايات فيه بزيادات.
روى المدائني قال: لما اخذ أبو بكر بيد عمر وأبى عبيدة وقال للناس: قد رضيت لكم
أحد هذين الرجلين، قال أبو عبيدة لعمر: أمدد يدك نبايعك، فقال عمر: ما لك في
الاسلام فهة (1) غيرها. أتقول هذا وأبو بكر حاضر! (2) ثم قال للناس: أيكم يطيب نفسا
أن يتقدم قدمين قدمهما رسول الله صلى الله عليه للصلاة؟ رضيك رسول الله صلى الله عليه
لديننا، أفلا نرضاك لدنيانا! ثم مد يده إلى لابن أبي
بكر فبايعه.
وهذه الرواية هي التي ذكرها قاضى القضاة رحمه الله تعالى في كتاب،، المغني،،.
وقال الواقدي في روايته في حكاية كلام عمر: والله لان أقدم فانحر كما ينحر البعير،
أحب إلى من أن أتقدم على لابن أبي
بكر.
وقال شيخنا أبو القاسم البلخي: قال شيخنا أبو عثمان الجاحظ: إن الرجل الذي قال:
لو قد مات عمر لبايعت فلانا، عمار بن ياسر، قال: لو قد مات عمر لبايعت عليا عليه
السلام فهذا القول هو الذي هاج عمر ان خطب بما خطب به.
وقال غيره من أهل الحديث إنما كان المعزوم على بيعته لو مات عمر طلحة
ابن عبيد الله.

(1) الفهة: السقطة والجهلة ونحوها.
(2) في رواية اللسان (أتبايعني وفيكم الصديق ثاني اثنين!).
25

فأما حديث الفلتة، فقد كان سبق من عمر ان قال: ان بيعة لابن أبي
بكر كانت فلتة
وقى الله شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه.
وهذا الخبر الذي ذكرناه عن ابن عباس وعبد الرحمن بن عوف فيه حديث الفلتة ولكنه منسوق على ما قاله أولا، ألا تراه يقول: فلا يغرن أمرا ان يقول: ان بيعة لابن أبي
بكر
كانت فلتة، فلقد كانت كذلك، فهذا يشعر بأنه قد كان قال من قبل: ان بيعة لابن أبي
بكر
كانت فلتة. وقد أكثر الناس في حديث الفلتة، وذكرها شيوخنا المتكلمون، فقال شيخنا
أبو علي رحمه الله تعالى: الفلتة ليست الزلة والخطيئة، بل هي البغتة وما وقع فجأة من غير
روية ولا مشاورة، واستشهد بقول الشاعر:
من يأمن الحدثان بعد صبيرة القرشي ماتا (1)
سبقت منيته المشيب وكان ميتته افتلاتا. يعنى بغتة.
وقال شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى، ذكر الرياشي أن العرب تسمى آخر يوم
من شوال فلتة من حيث إن كل من لم يدرك ثأره فيه فاته، لأنهم كانوا إذا دخلوا
في الأشهر الحرم لا يطلبون الثأر، وذو القعدة من الأشهر الحرم، فسموا ذلك اليوم فلتة
لأنهم إذا أدركوا فيه ثارهم، فقد أدركوا ما كان يفوتهم. فأراد عمر أن بيعة لابن أبي
بكر تداركها
بعد أن كادت تفوت.
وقوله (وقى الله شرها) دليل على تصويب البيعة، لان المراد بذلك أن الله تعالى
دفع شر الاختلاف فيها.

(1) البيان في الكامل 3. 61 - بشرح المرصفي.
26

فاما قوله: (فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه) فالمراد من عاد إلى أن يبايع من غير مشاورة
ولا عدد يثبت صحة البيعة به، ولا ضرورة داعية إلى البيعة ثم بسط يده على المسلمين
يدخلهم في البيعة قهرا فاقتلوه (1).
قال قاضى القضاة رحمه الله تعالى: وهل يشك أحد في تعظيم عمر لأبي بكر وطاعته
إياه ومعلوم ضرورة من حال عمر إعظامه له، والقول بإمامته والرضا بالبيعة والثناء عليه،
فكيف يجوز ان يترك ما يعلم ضرورة، لقول محتمل ذي وجوه وتأويلات! وكيف يجوز
أن تحمل هذه اللفظة من عمر على الذم والتخطئة وسوء القول!
واعلم أن هذه اللفظة من عمر مناسبة للفظات كثيرة كان يقولها بمقتضى ما جبله الله تعالى
عليه من غلظ الطينة وجفاء الطبيعة: ولا حيلة له فيها، لأنه مجبول عليها لا يستطيع تغييرها،
ولا ريب عندنا أنه كان يتعاطى أن يتلطف، وأن يخرج ألفاظه مخارج حسنة لطيفة، فينزع به الطبع الجاسي، والغريزة الغليظة إلى أمثال هذه اللفظات، ولا يقصد بها سوءا،
ولا يريد بها ذما ولا تخطئة، كما قدمنا من قبل في اللفظة (2) التي قالها في مرض رسول الله
صلى الله عليه وآله، وكاللفظات (3) التي قالها عام الحديبية وغير ذلك والله تعالى لا يجازى
المكلف الا بما نواه، ولقد كانت نيته من أطهر النيات وأخلصها لله سبحانه وللمسلمين.
ومن أنصف علم أن هذا الكلام حق، وانه يغنى عن تأويل شيخنا لابن أبي
على.
ونحن من بعد نذكر ما قاله المرتضى رحمه الله تعالى في كتاب،، الشافي،، (4)
لما تكلم في هذا الموضع، قال: أما ما ادعى من العلم الضروري برضا عمر ببيعة لابن أبي
بكر
وإمامته فالمعلوم ضرورة بلا شبهة أنه كان راضيا بإمامته، وليس كل من رضى شيئا

(1) نقلة المرتضى في الشافي 241.
(2) الجزء الأول ص 161.
(3) انظر سيرة ابن هشام 3: 365.
(4) كتاب الشافي في الإمامة والنقص على كتاب المغني للقاضي عبد الجبار، وقد اختصره أبو جعفر محمد
ابن الحسن الطوسي المتوفي سنة 460، وطبع الكتاب والمختصر في العجم سنة 1301 في جزأين.
27

كان متدينا به، معتقدا لصوابه، فان كثيرا من الناس يرضون بأشياء من حيث كانت
دافعة لما هو أضر منها، وان كانوا لا يرونها صوابا، ولو ملكوا الاختيار لاختاروا
غيرها، وقد علمنا أن معاوية كان راضيا ببيعة يزيد وولاية (1) العهد له من بعده، ولم يكن
متدينا بذلك ومعتقدا صحته، وإنما رضى عمر ببيعة لابن أبي
بكر، من حيث كانت حاجزة
عن بيعة أمير المؤمنين عليه السلام، ولو ملك الاختيار لكان مصير الامر إليه (2)
أسر في نفسه، وأقر لعينه، وان ادعى ان المعلوم ضرورة تدين عمر بامامة لابن أبي
بكر،
وأنه أولى بالإمامة منه، فهذا مدفوع أشد دفع، مع أنه قد كان يبدر من عمر (3) في وقت
بعد آخر ما يدل على ما أوردناه، روى الهيثم (4) بن عدي من عبد الله بن عياش
الهمداني (5) عن سعيد بن جبير، قال: ذكر أبو بكر وعمر عند عبد الله بن عمر، فقال
رجل: كانا والله شمسي هذه الأمة ونوريها، فقال ابن عمر: وما يدريك؟ قال الرجل:
أوليس قد ائتلفا! قال ابن عمر: بل اختلفا لو كنتم تعلمون! أشهد أنى كنت عند أبي
يوما، قد امرني أن أحبس الناس عنه، فاستأذن عليه عبد الرحمن بن أبي بكر فقال عمر:
دويبة سوء، ولهو خير من أبيه، فأوحشني ذلك منه، فقلت: يا أبت، عبد الرحمن
خير من أبيه! فقال: ومن ليس بخير من أبيه لا أم لك! ائذن لعبد الرحمن، فدخل عليه
فكلمه في الحطيئة الشاعر أن يرضى عنه، وقد كان عمر حبسه في شعر قاله، فقال عمر: ان في الحطيئة أودا (6) فدعني أقومه بطول حبسه، فألح عليه عبد الرحمن وأبى عمر،

(1) الشافي: (وولايته)
(2) * الشافي: (آثر) *
(3) الشافي: (منه - أعني عمر).
(4) هو الهيثم بن عدي الطائي المنبجي الكوفي، كان أخباريا روي عن هشام بن عروة وعبد الله بن
عياش ومجالد، قال بن عدي: إنما هو صاحب اخبار. وقال ابن المدني: هو أوثق من الواقدي ولا
أرضاه في شئ. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال أبو نعيم: يوجد في حديث المناكير توفي سنة
206، لسان الميزان 4: 210.
(5) في الأصول والشافي: (عباس)، تصحيف، وهو عبد الله بن عياش بن عبد الله الهمداني
الكوفي، كان راوية للاخبار والآداب، ويقع في اخباره المناكير. مات سنة 158، لسان الميزان 3: 322.
(6) الشافي: (إن الحطيئة لبذئ)
28

فخرج عبد الرحمن، فأقبل على لابن أبي
وقال: أفي غفلة أنت إلى يومك هذا عما كان من تقدم
أحيمق بنى تميم على وظلمه لي! فقلت: لا علم لي بما كان من ذلك، قال: يا بنى
فما عسيت أن تعلم؟ فقلت: والله لهو أحب إلى الناس من ضياء أبصارهم، قال: ان ذلك
لكذلك على رغم أبيك وسخطه، قلت: يا أبت، أفلا تجلى عن فعله (1) بموقف في الناس
تبين ذلك لهم؟ قال: وكيف لي بذلك مع ما ذكرت انه أحب إلى الناس من ضياء
أبصارهم! اذن يرضخ (2) رأس أبيك بالجندل. قال ابن عمر: ثم تجاسر والله فجسر،
فما دارت الجمعة حتى قام خطيبا في الناس، فقال: أيها الناس، إن بيعة لابن أبي
بكر كانت فلتة
وقى الله شرها فمن دعاكم إلى مثلها فاقتلوه.
وروى الهيثم بن عدي، عن مجالد (3) بن سعيد، قال: غدوت يوما إلى الشعبي وأنا أريد
أن أساله عن شئ بلغني عن ابن مسعود أنه كان يقوله، فأتيته وهو في مسجد حيه
وفي المسجد قوم ينتظرونه، فخرج فتعرفت إليه، وقلت: أصلحك الله! كان ابن مسعود
يقول: ما كنت محدثا قوما حديثا لا تبلغه عقولهم الا كان لبعضهم فتنة، قال: نعم،
كان ابن مسعود يقول ذلك، وكان ابن عباس يقوله أيضا - وكان عند ابن عباس دفائن علم
يعطيها أهلها، ويصرفها عن غيرهم - فبينا نحن كذلك إذ أقبل رجل من الأزد، فجلس إلينا،
فأخذنا في ذكر لابن أبي
بكر وعمر، فضحك الشعبي وقال: لقد كان في صدر عمر ضب (4)
على لابن أبي
بكر، فقال الأزدي: والله ما رأينا ولا سمعنا برجل قط كان أسلس قيادا لرجل،

(1) الشافي: (أفلا تحكي عن فعله).
(2) الرضخ: كسر الرأس بالحجر.
(3) هو مجالد بن سعيد بن عمير الهمداني الكوفي. قال البخاري: كان يحيي بن سعيد يضعفه، وكان ابن مهدي
لا يروى عنه، وكان أحمد بن حنبل لا يراه شيئا. وقال ابن معين: ضعيف واهي الحديث، مات
سند 144. تهذيب التهذيب 10: 36.
(4) الضب: الحقد والعداوة، وجمعه ضباب، قال الشاعر:
فما زالت رقاك تسل ضغني * وتخرج من مكامنها ضبابي
29

ولا أقول فيه بالجميل من عمر في أبي بكر، فأقبل على الشعبي وقال: هذا مما سألت عنه،
ثم أقبل على الرجل وقال: يا أخا الأزد، فكيف تصنع بالفلتة التي وقى الله شرها! أترى
عدوا يقول في عدو يريد ان يهدم ما بنى لنفسه في الناس أكثر من قول عمر في لابن أبي
بكر،
فقال الرجل: سبحان الله! أنت تقول ذلك يا أبا عمرو! فقال الشعبي: انا أقوله، قاله عمر
ابن الخطاب على رؤس الاشهاد، فلمه أو دع. فنهض الرجل مغضبا وهو يهمهم
في الكلام بشئ لم أفهمه، قال مجالد: فقلت للشعبي: ما أحسب هذا الرجل الا سينقل
عنك هذا الكلام إلى الناس ويبثه فيهم! قال: اذن والله لا أحفل به، وشئ
لم يحفل به عمر حين قام على رؤس الاشهاد من المهاجرين والأنصار أحفل به انا!
أذيعوه أنتم عنى أيضا ما بدا لكم.
وروى شريك بن عبد الله النخعي (1)، عن محمد بن عمرو بن مره عن أبيه عن عبد الله
بن سلمة، عن أبي موسى الأشعري، قال: حججت مع عمر، فلما نزلنا وعظم الناس
خرجت من رحلي أريده، فلقيني المغيرة بن شعبة، فرافقني، ثم قال: أين تريد؟ فقلت:
أمير المؤمنين، فهل لك؟ قال: نعم فانطلقنا نريد رحل عمر، فإنا لفي طريقنا إذ ذكرنا
تولى عمر وقيامه بما هو فيه، وحياطته على الاسلام، ونهوضه بما قبله من ذلك، ثم
خرجنا إلى ذكر لابن أبي
بكر، فقلت للمغيرة: يا لك الخير! لقد كان أبو بكر مسددا في عمر،
لكأنه ينظر إلى قيامه من بعده، وجده واجتهاده وغنائه في الاسلام فقال المغيرة: لقد
كان ذلك، وإن كان قوم كرهوا ولاية عمر ليزووها عنه، وما كان لهم في ذلك من حظ،
فقلت له: لا أبا لك! ومن القوم الذين كرهوا ذلك لعمر؟ فقال المغيرة: لله أنت! كأنك

(1) هو شريك بن عبد الله بن أبي شريك النخعي أبو عبد الله الكوفي، قال ابن معين: شريك
صدوق ثقة الا انه إذا خالف فغيره أحب إلينا منه. وقال ابن المبارك: شريك اعلم بحديث الكوفيين
من الثورة. وقال الجوزجاني شريك سئ الحفظ مضطرب الحديث مائل. مات سنة 177. تهذيب
التهذيب 4: 335.
30

لا تعرف هذا الحي من قريش وما خصوا به من الحسد! فوالله لو كان هذا الحسد يدرك
بحساب لكان لقريش تسعة أعشاره، وللناس كلهم عشر، فقلت: مه يا مغيرة فإن قريشا
بانت بفضلها على الناس. فلم نزل في مثل ذلك حتى انتهينا إلى رحل عمر فلم نجده،
فسألنا عنه فقيل: قد خرج آنفا، فمضينا نقفو أثره، حتى دخلنا المسجد، فإذا عمر يطوف
بالبيت، فطفنا معه، فلما فرغ دخل بيني وبين المغيرة، فتوكأ على المغيرة وقال: من أين
جئتما؟ فقلنا: خرجنا نريدك يا أمير المؤمنين، فأتينا رحلك فقيل لنا: خرج إلى المسجد،
فاتبعناك. فقال: اتبعكما الخير، ثم نظر المغيرة إلى وتبسم، فرمقه عمر، فقال: مم تبسمت
أيها العبد! فقال من حديث كنت أنا وأبو موسى فيه آنفا في طريقنا إليك، قال:
وما ذاك الحديث؟ فقصصنا عليه الخبر حتى بلغنا ذكر حسد قريش، وذكر من أراد
صرف لابن أبي
بكر عن استخلاف عمر، فتنفس الصعداء ثم قال: ثكلتك أمك يا مغيرة!
وما تسعة أعشار الحسد! بل وتسعة أعشار العشر، وفي الناس كلهم عشر العشر، بل
وقريش شركاؤهم أيضا فيه! وسكت مليا وهو يتهادى بيننا، ثم قال: ألا أخبركما بأحسد
قريش كلها؟ قلنا: بلى يا أمير المؤمنين، قال: وعليكما ثيابكما، قلنا: نعم، قال: وكيف
بذلك وأنتما ملبسان ثيابكما؟ قلنا يا أمير المؤمنين، وما بال الثياب؟ قال: خوف الإذاعة
منها، قلنا له: أتخاف الإذاعة من الثياب أنت، وأنت من ملبس الثياب أخوف! وما الثياب
أردت! قال: هو ذاك، ثم انطلق وانطلقنا معه حتى انتهينا إلى رحله، فخلى أيدينا من
يده، ثم قال: لا تريما، ودخل فقلت للمغيرة: لا أبا لك! لقد أثرنا بكلامنا معه، وما كنا
فيه وما نراه حبسنا إلا ليذاكرنا إياها، قال، فإنا لكذلك إذ أخرج إذنه إلينا، فقال:
ادخلا، فدخلنا فوجدناه مستلقيا على برذعة برحل، فلما رآنا تمثل بقول كعب بن زهير:
لا تفش سرك الا عند ذي ثقة * أولى وأفضل ما استودعت أسرارا (1)

(1) ملحق ديوانه 257، وغرر الخصائص 181
31

صدرا رحيبا وقلبا واسعا قمنا * ألا تخاف متى أودعت إظهارا (1)
فعلمنا أنه يريد أن نضمن له كتمان حديثه، فقلت أنا له: يا أمير المؤمنين، ألزمنا وخصنا
وصلنا، قال: بما ذا يا أخا الأشعريين؟ فقلت: بإفشاء سرك وإن تشركنا في همتك فنعم
المستشاران نحن لك. قال: إنكما كذلك، فاسألا عما بدا لكما، ثم قام إلى الباب ليعلقه،
فإذا الاذن الذي أذن لنا عليه في الحجرة فقال: امض عنا لا أم لك: فخرج وأغلق الباب
خلفه، ثم اقبل علينا، فجلس معنا، وقال: سلا تخبرا، قلنا نريد أن يخبرنا أمير المؤمنين
بأحسد قريش: الذي لم يأمن ثيابنا على ذكره لنا، فقال: سألتما عن معضلة، وسأخبركما فليكن
عندكما في ذمة منيعة وحرز ما بقيت، فإذا مت فشأنكما وما شئتما من إظهار أو كتمان.
قلنا: فإن لك عندنا ذلك، قال أبو موسى: وأنا أقول في نفسي: ما يريد إلا الذين كرهوا
استخلاف لابن أبي
بكر له كطلحة وغيره، فإنهم قالوا لأبي بكر: أتستخلف علينا فظا غليظا:
وإذا هو يذهب إلى غير ما في نفسي، فعاد إلى التنفس، ثم قال: من تريانه؟ قلنا: والله
ما ندري إلا ظنا! قال: وما تظنان؟ قلنا: عساك تريد القوم الذين أرادوا أبا بكر على
صرف هذا الامر عنك، قال: كلا والله! بل كان أبو بكر أعق، وهو الذي سألتما عنه،
كان والله أحسد قريش كلها، ثم أطرق طويلا، فنظر المغيرة إلى ونظرت إليه، وأطرقنا مليا
لإطراقه، وطال السكوت منا ومنه، حتى ظننا أنه قد ندم على ما بدا منه، ثم قال: وا لهفاه
على ضئيل بنى تيم بن مرة! لقد تقدمني ظالما، وخرج إلي منها آثما، فقال المغيرة:
أما تقدمه عليك يا أمير المؤمنين ظالما فقد عرفناه، كيف خرج إليك منها آثما قال: ذاك
لأنه لم يخرج إلى منها إلا بعد يأس منها، أما والله لو كنت أطعت يزيد بن الخطاب
وأصحابه لم يتلمظ من حلاوتها بشئ أبدا، ولكني قدمت وأخرت، وصعدت وصوبت،
ونقضت وأبرمت، فلم أجد إلا الاغضاء على ما نشب به منها، والتلهف على نفسي،
وأملت إنابته ورجوعه، فوالله ما فعل حتى نغر بها بشما.

(1) الديوان: (لم تخش منه لما أودعت)
32

قال المغيرة: فما منعك منها يا أمير المؤمنين، وقد عرضك لها يوم السقيفة بدعائك
إليها، ثم أنت الان تنقم وتتأسف، قال: ثكلتك أمك يا مغيرة! إني كنت لأعدك (1) من
دهاه العرب، كأنك كنت غائبا عما هناك! إن الرجل ماكرني فماكرته، وألفاني أحذر
من قطاة، إنه لما رأى شغف الناس به، وإقبالهم بوجوههم عليه، أيقن أنهم لا يريدون به
بدلا، فأحب لما رأى من حرص الناس عليه، وميلهم إليه، أن يعلم ما عندي، وهل
تنازعني نفسي إليها! وأحب أن يبلوني بأطماعي فيها، والتعريض لي بها وقد علم وعلمت
لو قبلت ما عرضه على، لم يجب الناس إلى ذلك، فألفاني قائما على أخمصي مستوفزا حذرا
ولو أجبته إلى قبولها لم يسلم الناس إلى ذلك، واختباها ضغنا على في قلبه، ولم آمن غائلته ولو
بعد حين: مع ما بدا لي من كراهة الناس لي: أما سمعت نداءهم من كل ناحية عند عرضها
على: لا نريد سواك يا أبا بكر، أنت لها! فرددتها إليه عند ذلك، فلقد رأيته التمع وجهه
لذلك سرورا. ولقد عاتبني مرة على كلام بلغه عنى، وذلك لما قدم عليه بالأشعث أسيرا،
فمن عليه وأطلقه، وزوجه أخته أم فروة، فقلت للأشعث وهو قاعد بين يديه: يا عدو الله
أكفرت بعد إسلامك، وارتددت ناكصا على عقبيك! فنظر إلى نظرا علمت أنه يريد
أن يكلمني بكلام في نفسه، ثم لقيني بعد ذلك في سكك المدينة، فقال لي: أنت صاحب
الكلام يا بن الخطاب؟ فقلت: نعم يا عدو الله، ولك عندي شر من ذلك، فقال: بئس
الجزاء هذا لي منك! قلت: وعلام تريد مني حسن الجزاء؟ قال: لأنفتي لك من اتباع
هذا الرجل، والله ما جرأني على الخلاف عليه إلا تقدمه عليك، وتخلفك عنها، ولو كنت
صاحبها لما رأيت مني خلافا عليك. قلت: لقد كان ذلك، فما تأمر الان؟ قال: انه ليس
بوقت أمر بل وقت صبر، ومضى ومضيت. ولقى الأشعث الزبرقان بن بدر فذكر له
ما جرى بيني وبينه، فنقل ذلك إلى لابن أبي
بكر، فأرسل إلى بعتاب مؤلم فأرسلت إليه: أما والله

(1) ب (أعدك).
33

لتكفن أو لأقولن كلمة بالغة بي وبك في الناس، تحملها الركبان حيث ساروا وإن شئت
استدمنا ما نحن فيه عفوا، فقال: بل نستديمه، وانها لصائرة إليك بعد أيام، فظننت أنه
لا يأتي عليه جمعة حتى يردها على، فتغافل، والله ما ذكرني بعد ذلك حرفا حتى هلك.
ولقد مد في أمدها عاضا على نواجذه حتى حضره الموت، وأيس منها فكان منه ما رأيتما،
فاكتما ما قلت لكما عن الناس كافة وعن بني هاشم خاصة، وليكن منكما بحيث أمرتكما،
قوما إذا شئتما على بركة الله. فقمنا ونحن نعجب من قوله، فوالله ما أفشينا سره حتى هلك (1)
قال المرتضى: وليس في طعن عمر على لابن أبي
بكر ما يؤدى إلى فساد خلافته، إذ له أن يثبت
إمامه نفسه بالاجماع، لا بنص لابن أبي
بكر عليه. وأما الفلتة فإنها وان كانت محتملة للبغتة كما قاله أبو علي رحمه الله تعالى، إلا أن قوله: (وقى الله شرها). يخصصها بأن مخرجها مخرج الذم.
وكذلك قوله: (فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه) وقوله: المراد وقى الله شر الاختلاف فيها، عدول
عن الظاهر، لان الشر في الكلام مضاف إليها دون غيرها، وأبعد من هذا التأويل
قوله إن المراد من عاد إلى مثلها من غير ضرورة وأكره المسلمين عليها، فاقتلوه، لان
ما جرى هذا المجرى لا يكون مثلا لبيعة لابن أبي
بكر عندهم، لان كل ذلك ما جرى فيها على
مذاهبهم، وقد كان يجب على هذا أن يقول: فمن عاد إلى خلافها فاقتلوه.
وليس له أن يقول: إنما أراد بالمثل وجها واحدا، وهو وقوعها من غير مشاورة لان ذلك
إنما تم في أبي بكر خاصة بظهور أمره. اشتهار فضله. ولأنهم بادروا إلى العقد خوفا من الفتنة،
وذلك لأنه غير منكر أن يتفق من ظهور فضل غير لابن أبي
بكر، واشتهار أمره وخوف الفتنة
ما اتفق لأبي بكر فلا يستحق قتلا ولا ذما، على أن قوله: (مثلها) يقتضي وقوعها على
الوجه الذي وقعت عليه، فكيف يكون ما وقع من غير مشاورة لضرورة داعية وأسباب
موجبة مثلا لما وقع بلا مشاورة، ومن غير ضرورة ولا أسباب! والذي رواه عن أهل اللغة

(1) كتاب الشافي 241 - 244
34

من أن آخر يوم من شوال يسمى فلتة من حيث إن من لم يدرك فيه الثأر، فإنه قول لا نعرفه،
والذي نعرفه انهم يسمون الليلة التي ينقضي بها آخر الأشهر الحرم ويتم، فلتة، وهي آخر
ليلة من ليالي الشهر، لأنه ربما رأى الهلال قوم لتسع وعشرين ولم يبصره الباقون، فيغير
هؤلاء على أولئك وهم غارون (1)، فلهذا سميت تلك الليلة فلتة. على أنا قد بينا أن مجموع
الكلام يقتضي ما ذكرناه من المعنى، لو سلم له ما رواه عن أهل اللغة في احتمال هذه اللفظة.
قال: وقد ذكر صاحب كتاب،، العين،، أن الفلتة الامر الذي يقع على غير
إحكام، فقد صح أنها موضوعة في اللغة لهذا، وإن جاز الا تختص به، بل تكون
لفظة مشتركة.
وبعد، فلو كان عمر لم يرد بقوله توهين بيعة لابن أبي
بكر، بل أراد ما ظنه المخالفون
لكان ذلك عائدا عليه بالنقص، لأنه وضع كلامه في غير موضعه، وأراد شيئا فعبر
عن خلافة، فليس يخرج هذا الخبر من أن يكون طعنا على لابن أبي
بكر، إلا بان يكون طعنا
على عمر (2)
* * *
واعلم أنه لا يبعد ان يقال: إن الرضا والسخط، والحب والبغض، وما شاكل ذلك،
من الأخلاق النفسانية وإن كانت أمورا باطنه، فإنها قد تعلم ويضطر الحاضرون
إلى حصولها بقرائن أحوال تفيدهم العلم الضروري، كما يعلم خوف الخائف وسرور المبتهج.
وقد يكون الانسان عاشقا لآخر فيعلم المخالطون لهما ضرورة أنه يعشقه، لما يشاهدونه من
قرائن الأحوال، وكذلك يعلم من قرائن أحوال العابد المجتهد في العبادة، وصوم الهواجر
وملازمة الأوراد، وسهر الليل، انه يتدين بذلك. فغير منكر أن يقول قاضي القضاة رحمه الله

(1) غارون: غافلون.
(2) كتاب الشافي 244 مع اختصار وتصرف.
35

تعالى: إن المعلوم ضرورة من حال عمر تعظيم لابن أبي
بكر ورضاه بخلافته وتدينه بذلك، فالذي
اعترضه رحمه الله تعالى به غير وارد عليه.
وأما الاخبار التي رواها عن عمر فأخبار غريبة، ما رأيناها في الكتب المدونة،
وما وقفنا عليها إلا من كتاب المرتضى، وكتاب آخر يعرف بكتاب،، المسترشد،، (1)
لمحمد بن جرير الطبري، وليس هو محمد بن جرير صاحب،، التاريخ،، بل هو من رجال
الشيعة وأظن أن أمه من بنى جرير من مدينة آمل طبرستان، وبنو جرير الآمليون
شيعة مستهترون بالتشيع، فنسب إلى أخواله، ويدل على ذلك شعر مروي له وهو:
بآمل مولدي وبنو جرير * فأخوالي ويحكى المرء خاله (2)
فمن يك رافضيا عن أبيه * فإني رافضي عن كلاله.
وأنت تعلم حال الاخبار الغريبة، التي لا توجد في الكتب المدونة كيف هي؟
فاما إنكاره ما ذكره شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى من أن الفلتة هي آخر يوم من شوال،
وقوله: إنا لا نعرفه، فليس الامر كذلك، بل هو تفسير صحيح، ذكره الجوهري في كتاب
،، الصحاح،، قال: الفلتة آخر ليلة من كل شهر، ويقال هي آخر يوم من الشهر
الذي بعده الشهر الحرام، وهذا يدل على أن آخر يوم من شوال يسمى فلتة
وكذلك آخر يوم من جمادي الآخرة، وإنما التفسير الذي ذكره المرتضى غير معروف
عند أهل اللغة.
واما ما ذكره من إفساد حمل الفلتة في الخبر على هذه الوجوه المتأولة، فجيد، إلا أن
الانصاف أن عمر لم يخرج الكلام مخرج الذم لأمر لابن أبي
بكر، وإنما أراد باللفظة محض
حقيقتها في اللغة ذكر صاحب،، الصحاح،، أن الفلتة الامر الذي يعمل فجأة من

(1) كتاب المسترشد في الإمامة، طبع في النجف وفي الأصول: (المسترشد) وهو خطأ، راجع النجاشي 266.
(2) نسبهما ياقوت في معجم البلدان (1: 63) إلى أبي بكر الخوارزمي، وظن أنه قالها في خاله الطبري
المؤرخ، وحققه محمد باقر، وذكر أن الامر اشتبه على ياقوت. وانظر روضات الجنان 673.
36

غير تردد ولا تدبر، وهكذا كانت بيعة لابن أبي
بكر، لان الامر لم يكن فيها شورى
بين المسلمين، وإنما وقعت بغتة لم تمحص فيها الآراء، ولم يتناظر فيها الرجال، وكانت
كالشئ المستلب المنتهب، وكان عمر يخاف أن يموت عن غير وصية أو يقتل قتلا فيبايع
أحد من المسلمين بغتة كبيعة لابن أبي
بكر، فخطب بما خطب به، وقال معتذرا: ألا إنه ليس
فيكم من تقطع إليه الأعناق كأبي بكر!
وأيضا قول المرتضى قد سبق من ظهور فضل غير لابن أبي
بكر، وخوف الفتنة مثل
ما اتفق لأبي بكر، فلا يستحق القتل، فان لقائل أن يقول: إن عمر لم يخاطب بهذا
إلا أهل عصره وكان هو رحمه الله يذهب إلى أنه ليس فيهم كأبي بكر، ولا من يحتمل له
أن يبايع فلتة، كما احتمل ذلك لأبي بكر، فإن اتفق أن يكون في عصر آخر بعد عصره
من يظهر فضله، ويكون في زمانه كأبي بكر في زمانه، فهو غير داخل في نهى
عمر وتحريمه.
واعلم (1) ان الشيعة لم تسلم لعمر أن بيعة لابن أبي
بكر كانت فلتة، قال محمد بن
هانئ المغربي:
ولكن أمرا كان أبرم بينهم وإن قال قوم فلتة غير مبرم (2)
وقال آخر:
زعموها فلتة فاجئة * لا ورب البيت والركن المشيد
إنما كانت أمورا نسجت * بينهم أسبابها نسج البرود
* * *
وروى أبو جعفر أيضا في (3) التاريخ أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما قبض
اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة، وأخرجوا سعد بن عبادة، ليولوه الخلافة، وكان

(1) ب: (قلت).
(2) ديوانه 689 (طبع المعارف)
(3) تاريخ الطبري 3: 207 وما بعدها مع اختصار وتصرف.
37

مريضا، فخطبهم ودعاهم إلى إعطائه الرياسة والخلافة، فأجابوه، ثم ترادوا الكلام فقالوا: فإن
أبى المهاجرون، وقالوا: نحن أولياؤه وعترته! فقال قوم من الأنصار: نقول منا أمير ومنكم
أمير فقال سعد: فهذا أول الوهن! وسمع عمر الخبر فأتى منزل رسول الله صلى الله عليه
وآله، وفيه أبو بكر، فأرسل إليه أن اخرج إلى، فأرسل إني مشغول فأرسل إليه عمر أن
اخرج، فقد حدث أمر لا بد أن تحضره، فخرج فأعلمه الخبر، فمضيا مسرعين نحوهم،
ومعهما أبو عبيدة، فتكلم أبو بكر، فذكر قرب المهاجرين من رسول الله صلى الله عليه
وأنهم أولياؤه وعترته، ثم قال: نحن الامراء وأنتم الوزراء، لا نفتات عليكم بمشورة، ولا
نقضي دونكم الأمور.
فقام الحباب بن المنذر بن الجموح، فقال:
يا معشر الأنصار، املكوا عليكم أمركم، فان الناس في ظلكم، ولن يجترئ مجترئ
على خلافكم، ولا يصدر أحد إلا عن رأيكم. أنتم أهل العزة والمنعة، وأولو العدد
والكثرة، وذوو البأس والنجدة، وإنما ينظر الناس ما تصنعون، فلا تختلفوا فتفسد عليكم
أموركم فإن لابن أبي
هؤلاء إلا ما سمعتم، فمنا أمير ومنهم أمير.
فقال عمر: هيهات! لا يجتمع سيفان في غمد، والله لا ترضى العرب أن تؤمركم
ونبيها من غيركم، ولا تمتنع العرب أن تولى أمرها من كانت النبوة منهم، من ينازعنا
سلطان محمد، ونحن أولياؤه وعشيرته!
فقال الحباب بن المنذر:
يا معشر الأنصار، املكوا أيديكم، ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه، فيذهبوا
بنصيبكم من هذا الامر، فإن أبوا عليكم فأجلوهم من هذه البلاد، فأنتم أحق بهذا الامر
منهم، فإنه بأسيافكم دان الناس بهذا الدين، أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب،
38

أنا أبو شبل في عريسة الأسد، والله إن شئتم لنعيدنها جذعة.
فقال عمر: إذن يقتلك الله، قال: بل إياك يقتل.
فقال أبو عبيدة: يا معشر الأنصار، إنكم أول من نصر، فلا تكونوا أول من
بدل وغير.
فقام بشير بن سعد، والد النعمان بن بشير فقال: يا معشر الأنصار، ألا إن محمدا من
قريش، وقومه أولى به، وأيم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الامر.
فقال أبو بكر: هذا عمر وأبو عبيدة بايعوا أيهما شئتم، فقالا: والله لا نتولى هذا الامر عليك وأنت أفضل المهاجرين، وخليفة رسول الله صلى الله عليه في الصلاة، وهي
أفضل الدين، ابسط يدك، فلما بسط يده ليبايعاه، سبقهما إليه بشير بن سعد فبايعه،
فناداه الحباب بن المنذر: يا بشير، عققت (1) عقاق أنفست على ابن عمك الامارة (2)!
فقال أسيد بن حضير (3) رئيس الأوس لأصحابه: والله لئن لم تبايعوا ليكونن
للخزرج عليكم الفضيلة أبدا، فقاموا فبايعوا أبا بكر.
فانكسر على سعد بن عبادة والخزرج ما اجتمعوا عليه، وأقبل الناس يبايعون أبا بكر
من كل جانب، ثم حمل سعد بن عبادة إلى داره، فبقي أياما، وأرسل إليه أبو بكر
ليبايع، فقال: لا والله - حتى أرميكم بما في كنانتي، وأخضب سنان رمحي، وأضرب
بسيفي ما أطاعني وأقاتلكم بأهل بيتي ومن تبعني، ولو اجتمع معكم الجن والإنس
ما بايعتكم حتى أعرض على ربى.
فقال عمر لا تدعه حتى يبايع، فقال، بشير بن سعد: إنه قد لج، وليس بمبايع لكم

(1) عفاق: مبنية على الكسر، مثل حذام
(2) بعده كما في التاريخ: (فقال: لا والله، ولكني كرهت أن أنازع قوما حقا جعله الله لهم.
(3) في الطبري: (ولما رأت الأوس ما صنع بشير بن سعد وما تدعوا إليه قريش، وما تطلب الخزرج
من تأمير سعيد بن عبادة، فقال بعضهم لبعض، وفيهم أسيد بن حضير...) ثم ذكر كلام أسيد.
39

حتى يقتل، وليس بمقتول حتى يقتل معه أهله وطائفة من عشيرته، ولا يضركم تركه،
إنما هو رجل واحد، فتركوه. وجاءت أسلم فبايعت، فقوى بهم جانب لابن أبي
بكر، وبايعه الناس.
وفي كتب غريب الحديث في تتمة كلام عمر: فأيما رجل بايع رجلا بغير مشورة من
الناس فلا يؤمر واحد منهما تغرة أن يقتلا (1) قالوا: غرر تغريرا وتغرة، كما قالوا: حلل
تحليلا وتحلة، وعلل تعليلا وتعلة وانتصب (تغرة) هاهنا لأنه مفعول له، ومعنى لكلام
أنه إذا بايع واحد لآخر بغتة عن غير شورى، فلا يؤمر واحد منهما، لأنهما قد غررا بأنفسهما
تغرة وعرضاهما لان تقتلا.
وروى جميع أصحاب السيرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله، لما توفى كان أبو بكر
في منزله (2) بالسنح، فقام عمر بن الخطاب فقال: ما مات رسول الله صلى الله عليه،
ولا يموت حتى يظهر دينه على الدين كله، وليرجعن فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم ممن
أرجف بموته، لا أسمع رجلا يقول: مات رسول الله إلا ضربته بسيفي. فجاء أبو بكر
وكشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله، وقال: بأبي وأمي! طبت حيا وميتا
والله لا يذيقك الله الموتتين أبدا ثم خرج والناس حول عمر، وهو يقول لهم: إنه لم يمت،
ويحلف، فقال له: أيها الحالف، على رسلك! ثم قال: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات
ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله تعالى (انك ميت وانهم ميتون)، (3) وقال: (أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) (4) قال عمر: فوالله

(1) النهاية لابن الأثير 3: 156.
(2) السنح، بالضم ثم السكون: إحدى محال المدينة، كان بها منزل أبي بكر، وهي بني الحارث
ابن الخزرج بعوالي المدينة.
(3) سورة الزمر 30.
(4) سورة آل عمران 144.
40

ما ملك نفسي حيث سمعتها أن سقطت إلى الأرض، علمت أن رسول الله صلى الله
عليه قد مات.
وقد تكلمت الشيعة في هذا الموضع، وقالوا: إنه بلغ من قلة علمه أنه لم يعلم أن الموت
يجوز على رسول الله صلى الله عليه وآله، وانه أسوة الأنبياء في ذلك وقال: لما تلا أبو بكر
الآيات، أيقنت الان بوفاته، كأني لم أسمع هذه الآية، فلو كان يحفظ القرآن أو يتفكر فيه،
ما قال ذلك، ومن هذه حاله لا يجوز أن يكون إماما.
وأجاب قاضى القضاة رحمه الله تعالى في،، المغني،، (1) عن هذا فقال: إن عمر لم يمنع
من جواز موته عليه السلام، ولا نفى كونه ممكنا، ولكنه تأول في ذلك قوله تعالى:
(هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله) (2) وقال:
كيف يموت ولم يظهر صلوات الله عليه على الدين كله؟ فقال أبو بكر، إذا ظهر دينه فقد
ظهر هو، وسيظهر دينه بعد وفاته.
فحمل عمر قوله تعالى: (أفإن مات) على تأخر الموت، لا على نفيه بالكلية قال
ولا يجب فيمن ذهل عن بعض احكام القرآن، الا يحفظ القرآن لان الامر لو كان كذلك
لوجب ألا يحفظ القرآن إلا من عرف جميع أحكامه، على أن حفظ جميع القرآن غير
واجب، ولا يقدح الاخلال به في الفضل (3).
واعترض المرتضى رحمه الله تعالى في كتاب،، الشافي،، هذا الكلام، فقال: لا يخلو
خلاف عمر في وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله من أن يكون على سبيل الانكار لموته
على كل حال والاعتقاد أن (4) الموت لا يجوز عليه على كل وجه، أو يكون منكرا لموته في

(1) المغني للقاضي عبد الجبار، في أصول الدين ومنه نسخة مصورة في دار الكتب المصرية، عن مكتبة صنعاء.
(2) سورة التوبة 33.
(3) نقله المرتضى في الشافي 252 ص مع اختلاف في الروايتين.
(4) ب: (لان)، والأصوب ما أثبته من أ.
41

تلك الحال من حيث لم يظهر على الدين كله، فإن كان الأول فهو مما لا يجوز خلاف عاقل فيه،
والعلم بجواز الموت على جميع البشر ضروري، وليس يحتاج في حصول هذا العلم إلى تلاوة
الآيات التي تلاها أبو بكر. وإن كان الثاني، فأول ما فيه أن هذا الاختلاف لا يليق بما
احتج به أبو بكر عليه من قوله: (انك ميت)، لان عمر لم ينكر على هذا الوجه جواز
الموت عليه وصحته، وإنما خالف في وقته. فكان يجب أن يقول لأبي بكر: وأي حجه في
هذه الآيات على! فاني لم أمنع جواز موته، وإنما منعت وقوع موته الان، وجوزته في
المستقبل، والآيات إنما تدل على جواز الموت فقط، لا على تخصيصه بحال معينه.
وبعد، فكيف دخلت هذه الشبهة البعيدة على عمر من بين سائر الخلق! ومن أين
زعم أنه سيعود فيقطع أيدي رجال وأرجلهم! وكيف لم يحصل له من اليقين لما رأى من الواعية (1) وكآبة الخلق وإغلاق الباب وصراخ النساء ما يدفع به ذلك الوهم والشبهة البعيدة
فلم يحتج إلى موقف.
وبعد، فيجب إن كانت هذه شبهته أن يقول في مرض النبي صلى الله عليه وآله -
وقد رأى جزع أهله وخوفهم عليه الموت، وقول أسامة صاحب الجيش: لم أكن لأرحل
وأنت هكذا وأسأل عنك الركب، يا هؤلاء لا تخافوا ولا تجزعوا، ولا تخف أنت يا أسامة
فان رسول الله صلى الله عليه لا يموت الان لأنه لم يظهر على الدين كله.
وبعد، فليس هذا من أحكام الكتاب التي يعذر من لا يعرفها على ما ظن
المعتذر له (2).
ونحن نقول: إن عمر كان أجل قدرا من أن يعتقد ما ظهر عنه في هذه الواقعة،

(1) الواعية: الصراخ على الميت.
(2) الشافي 252.
42

ولكنه لما علم أن رسول الله صلى الله عليه وآله قد مات، خاف من وقوع فتنة في الإمامة،
وتقلب أقوام عليها، اما من الأنصار أو غيرهم، وخاف أيضا من حدوث ردة، ورجوع
عن الاسلام، فإنه كان ضعيفا بعد لم يتمكن، وخاف من ترات تشن، ودماء تراق،
فإن أكثر العرب كان موتورا في حياه رسول الله صلى الله عليه وآله لقتل من قتل أصحابه
منهم، وفي مثل ذلك الحال تنتهز الفرصة، وتهتبل الغرة، فاقتضت المصلحة عنده تسكين
الناس بأن أظهر ما أظهره من كون رسول الله صلى الله عليه وآله لم يمت، وأوقع تلك
الشبهة في قلوبهم، فكسر بها شرة كثير منهم، وظنوها حقا، فثناهم بذلك عن حادث
يحدثونه، تخيلا منهم أن رسول الله صلى الله عليه وآله ما مات، وإنما غاب كما غاب موسى
عن قومه، وهكذا كان عمر يقول لهم: إنه قد غاب عنكم كما غاب موسى عن قومه،
وليعودن فليقطعن أيدي قوم أرجفوا بموته.
ومثل هذا الكلام يقع في الوهم، فيصد عن كثير من العزم، ألا ترى أن الملك إذا
مات في مدينة وقع فيها في أكثر الامر نهب وفساد وتحريق، وكل من في نفسه حقد على
آخر بلغ منه غرضه، إما بقتل أو جرح أو نهب مال، إلى أن تتمهد قاعدة الملك الذي
يلي بعده، فإذا كان في المدينة وزير حازم الرأي، كتم موت الملك، وسجن قوما ممن
أرجف نداء بموته، وأقام فيهم السياسة، وأشاع أن الملك حي، وأن أوامره وكتبه نافذة،
ولا يزال يلزم ذلك الناموس إلى أن يمهد قاعدة الملك الوالي بعده، وكذلك عمر أظهر
ما أظهر حراسة للدين والدولة، إلى أن جاء أبو بكر وكان غائبا بالسنح، وهو منزل بعيد عن المدينة، فلما اجتمع بأبي بكر قوى به جأشه، واشتد به أزره، وعظم طاعة الناس له
وميلهم إليه، فسكت حينئذ عن تلك الدعوى التي كان ادعاها، لأنه قد أمن بحضور أبى
بكر من خطب يحدث، أو فساد يتجدد، وكان أبو بكر محببا إلى الناس، لا سيما المهاجرين.
43

يجوز عند الشيعة وعند أصحابنا أيضا أن يقول الانسان كلاما ظاهر الكذب على جهة
المعاريض، فلا وصمة على عمر إذا كان حلف أن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يمت، ولا
وصمة عليه في قوله بعد حضور لابن أبي
بكر وتلاوة ما تلا، كأني لم أسمعها، أو قد تيقنت الان
وفاته صلى الله عليه، لأنه أراد بهذا القول الأخير تشييد القول الأول، وكان هو الصواب،
وكان من سيئ الرأي وقبيحه أن يقول: إنما قلته تسكينا لكم، ولم أقله عن اعتقاد، فالذي بدأ به حسن وصواب، والذي ختم به أحسن وأصوب.
وروى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب،، السقيفة،، عن عمر بن
شبة عن محمد بن منصور، عن جعفر بن سليمان، عن مالك بن دينار، قال: كان النبي صلى الله
عليه وآله قد بعث أبا سفيان ساعيا (1) فرجع من سعايته، وقد مات رسول الله صلى الله
عليه وآله، فلقيه قوم فسألهم، فقالوا: مات رسول الله صلى الله عليه، فقال: من ولى بعده؟ قيل: أبو بكر، قال: أبو فضيل! قالوا: نعم، قال: فما فعل المستضعفان: على
والعباس! أما والذي نفسي بيده لأرفعن لهما من أعضادهما.
قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز وذكر الراوي - وهو جعفر بن سليمان - أن أبا سفيان
قال شيئا آخر لم تحفظه الرواة فلما قدم المدينة قال: إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا الدم!
قال: فكلم عمر أبا بكر، فقال: إن أبا سفيان قد قدم، وإنا لا نأمن شره، فدع له
ما في يده، فتركه فرضى.
وروى أحمد بن عبد العزيز أن أبا سفيان، قال لما بويع عثمان: كان هذا الامر في تيم،
وأنى لتيم هذا الامر! ثم صار إلى عدى فأبعد وأبعد، ثم رجعت إلى منازلها، واستقر الامر
قراره، فتلقفوها تلقف الكرة.

(1) السعاية: مباشرة أعمال الصدقات.
44

قال أحمد بن عبد العزيز: وحدثني المغيرة بن محمد المهبلي قال: ذاكرت إسماعيل
ابن إسحاق القاضي بهذا الحديث، وأن أبا سفيان قال لعثمان: بأبي أنت! أنفق
ولا تكن كأبي حجر، وتداولوها يا بنى أمية تداول الولدان الكرة، فوالله ما من جنة
ولا نار وكان الزبير حاضرا، فقال عثمان لأبي سفيان: أعزب، فقال: يا بنى أهاهنا أحد!
قال الزبير: نعم والله لا كتمتها عليك. قال: فقال إسماعيل: هذا باطل. قلت: وكيف ذلك؟
قال: ما أنكر هذا من لابن أبي
سفيان، ولكن أنكر أن يكون سمعه عثمان، ولم يضرب عنقه.
وروى أحمد بن عبد العزيز، قال: جاء أبو سفيان إلى علي عليه السلام، فقال:
وليتم على هذا الامر أذل بيت في قريش، اما والله لئن شئت لأملأنها الضرورة
إلى ملازمة المجلس إلى أن تقوض الناس واحدا فواحدا، فلما لم يبق إلا غلمانه وحجابه،
دعا بالطعام، فلما أكلنا وغسل يديه وانصرف عنه أكثر على أبي فضيل
خيلا ورجلا، فقال علي عليه السلام: طالما غششت الاسلام وأهله فما ضررتهم شيئا!
لا حاجة لنا إلى خيلك ورجلك، لولا أنا رأينا أبا بكر لها أهلا ما تركناه.
وروى أحمد بن عبد العزيز، قال: لما بويع لأبي بكر كان الزبير و المقداد يختلفان
في جماعة من الناس إلى علي، وهو في بيت فاطمة، فيتشاورون ويتراجعون أمورهم، فخرج عمر
حتى دخل على فاطمة عليها السلام، وقال: يا بنت رسول الله، ما من أحد من الخلق أحب إلينا
من أبيك، وما من أحد أحب إلينا منك بعد أبيك، وأيم الله ما ذاك بما نعي أن اجتمع
هؤلاء النفر عندك ان آمر بتحريق البيت عليهم. فلما خرج عمر جاءوها، فقالت:
تعلمون أن عمر جاءني، وحلف لي بالله إن عدتم ليحرقن عليكم البيت، وأيم الله ليمضين
لما حلف له. فانصرفوا عنا راشدين. فلم يرجعوا إلى بيتها، وذهبوا فبايعوا لأبي بكر
* * *
وروى أحمد - وروى المبرد في " الكامل " صدر هذا الخبر (1) عن عبد الرحمن

(1) والخبر أيضا في تاريخ الطبري: (3: 234) وما بعدها.
45

ابن عوف، قال: دخلت على أبي بكر أعوده في مرضه الذي مات فيه، فسلمت، وسألته:
كيف به؟ فاستوى جالسا، فقلت: لقد أصبحت بحمد الله بارئا، فقال: أما إني
على ما ترى لوجع، وجعلتم لي معشر المهاجرين شغلا مع وجعي، وجعلت لكم عهدا مني
من بعدي، واخترت لكم خيركم في نفسي، فكلكم ورم (1) لذلك أنفه رجاء أن يكون
الامر له، ورأيتم الدنيا قد أقبلت، والله لتتخذن ستور الحرير ونضائد الديباج (2)،
وتألمون ضجائع الصوف الأذربي (3)، كأن أحدكم على حسك (4) السعدان. والله لان
يقدم أحدكم فتضرب عنقه في غير حد لخير له من أن يسبح في غمرة لدنيا، وإنكم غدا
لأول ضال بالناس يجورون عن الطريق يمينا وشمالا، يا هادي الطريق، إنما هو
البجر أو الفجر (5). فقال له عبد الرحمن: لا تكثر على ما بك فيهيضك (6)، والله ما أردت
إلا خيرا (7)، وإن صاحبك لذو خير، وما الناس إلا رجلان: رجل رأى ما رأيت،
فلا خلاف عليك منه، ورجل رأى غير ذلك، وإنما يشير عليك برأيه. فسكن وسكت
هنيهة. فقال عبد الرحمن: ما أرى بك بأسا والحمد لله، فلا تأس على الدنيا، فوالله
إن علمناك إلا صالحا مصلحا. فقال: أما إني لا آسى إلا على ثلاث فعلتهن، وددت
أني لم أفعلهن، وثلاث لم أفعلهن وددت أني فعلتهن، وثلاث وددت أني سألت رسول الله ص عنهن:
فأما الثلاث التي فعلتها ووددت أني لم أكن فعلتها، فوددت أني لم أكن كشفت

(1) ورم أنفه: أي إمت لا من ذلك غضبا.
(2) نضائد الديباج: واحدتها نضيدة، وهي الوسادة وما ينضد من المتاع.
(3) الأذربي: منسوب إلى أذربيجان.
(4) السعدان: نبت كثير الحسك تأكله الإبل فتسمن عليه.
(5) قال في الكامل: " وقوله: والله هو الفجر أو البجر، يقول: إن انتظرت حتى يضئ لك الفجر
الطريق أبصرت قصدك، وإن خبطت الظلماء وركبت العشواء هجما بك على المكروه.
(6) يهيضك، أي ينعتك ويؤذيك، وأصله في العظم إذا كسر بعد الجبور فإنه يكون أشد وجعا.
(7) هذه آخر رواية المبرد - مع تصرف كثير في العبارة، في الكامل 1: 54، 55 - بشرح المرصفي.
46

عن بيت فاطمة وتركته ولو أغلق على حرب، ووددت أني يوم سقيفة بني ساعدة كنت
قذفت الامر في عنق أحد الرجلين: عمر أو أبي عبيدة، فكان أميرا وكنت وزيرا،
ووددت أني إذ أتيت بالفجاءة (1) لم أكن أحرقته، وكنت قتلته بالحديد أو أطلقته.
وأما الثلاث التي تركتها ووددت أني فعلتها، فوددت أني يوم أتيت
بالأشعث كنت
ضربت عنقه، فإنه يخيل إلي أنه لا يرى شرا إلا أعان عليه، ووددت أني حيث وجهت
خالدا إلى أهل الردة أقمت بذي القصة، فإن ظفر المسلمون وإلا كنت ردءا لهم، ووددت
حيث وجهت خالدا إلى الشام كنت وجهت عمر إلى العراق، فأكون قد بسطت كلتا يدي
اليمين والشمال في سبيل الله.
وأما الثلاث اللواتي وددت أني كنت سالت رسول الله ص عنهن: فوددت
أني سألته فيمن هذا الامر، فكنا لا ننازعه أهله، (ووددت أني كنت سألته هل للأنصار
في هذا الامر نصيب) (2) ووددت أني سألته عن ميراث العمة وابنة الأخت، فإن في
نفسي منهما حاجة.
ومن كتاب معاوية المشهور إلى علي ع: وأعهدك أمس تحمل قعيدة بيتك ليلا على حمار، ويداك في يدي ابنيك الحسن
والحسين يوم بويع أبو بكر الصديق، فلم تدع أحدا من أهل بدر والسوابق إلا دعوتهم
إلى نفسك، ومشيت إليهم بامرأتك، وأدليت إليهم بابنيك، واستنصرتهم على صاحب
رسول الله، فلم يجبك منهم إلا أربعة أو خمسة، ولعمري لو كنت محقا لأجابوك، ولكنك
ادعيت باطلا، وقلت ما لا يعرف، ورمت ما لا يدرك، ومهما نسيت فلا أنسى قولك
لأبي سفيان، لما حركك وهيجك: لو وجدت أربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم،
فما يوم المسلمين منك بواحد، ولا بغيك على الخلفاء بطريف ولا مستبدع.

(1) هو إياس بن عبد الله بن عبد يا ليل السلمي، وكان قد استعرض الناس يقتلهم ويأخذ أموالهم، فأمر
أبي بكر بإحراقه. وانظر تفصيل الخبر في الطبري 3: 234.
(2) زيادة من الطبري يقتضيها السياق.
47

وسنذكر تمام هذا الكتاب وأوله عند انتهائنا إلى كتب على ع.
وروى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري عن أبي المنذر وهشام بن محمد بن السائب
عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: كان بين العباس وعلي مباعدة، فلقي
ابن عباس عليا، فقال: إن كان لك في النظر إلى عمك حاجه فأته، وما أراك تلقاه
بعدها، فوجم (1) لها وقال: تقدمني واستأذن، فتقدمته واستأذنت له، فأذن فدخل، فاعتنق
كل واحد منهما صاحبه، وأقبل علي ع على يده ورجله يقبلهما، ويقول:
يا عم، إرض عني رضي الله عنك، قال: قد رضيت عنك.
ثم قال: يا بن أخي، قد أشرت عليك بأشياء ثلاثة فلم تقبل، ورأيت في عاقبتها ما كرهت،
وها أنا ذا أشير عليك برأي رابع، فإن قبلته، وإلا نالك ما نالك مما كان قبله. قال:
وما ذاك يا عم؟ قال: أشرت عليك في مرض رسول الله ص أن تسأله، فإن
كان الامر فينا أعطاناه، وإن كان في غيرنا أوصى بنا. فقلت: أخشى إن منعناه لا يعطيناه أحد
بعده (1)، فمضت تلك. فلما قبض رسول الله ص، أتانا أبو سفيان بن حرب تلك
الساعة فدعوناك إلى أن نبايعك، وقلت لك: إبسط يدك أبايعك ويبايعك هذا الشيخ، فإنا
إن بايعناك لم يختلف عليك أحد من بني عبد مناف، وإذا بايعك بنو عبد مناف لم يختلف عليك
أحد (2) من قريش، وإذا بايعتك قريش لم يختلف عليك أحد من العرب، فقلت: لنا بجهاز
رسول الله ص شغل، وهذا الامر فليس نخشى عليه، فلم نلبث أن سمعنا التكبير
من سقيفة بني ساعده، فقلت: يا عم، ما هذا؟ قلت: ما دعوناك إليه، فأبيت! قلت:
سبحان الله! أو يكون هذا! قلت: نعم. قلت: أفلا يرد؟ قلت لك: وهل رد مثل هذا
قط! ثم أشرت عليك حين طعن عمر فقلت: لا تدخل نفسك في الشورى، فإنك إن
اعتزلتهم قدموك، وإن ساويتهم تقدموك، فدخلت معهم، فكان ما رأيت.

(1) ساقطة من ب.
(2) ب: قرشي.
48

ثم أنا الآن أشير عليك برأي رابع، فإن قبلته وإلا نالك ما نالك مما كان قبله. إني
أرى أن هذا الرجل - يعنى عثمان - قد أخذ في أمور، والله لكأني بالعرب قد سارت
إليه حتى ينحر في بيته كما ينحر الجمل، والله إن كان ذلك وأنت بالمدينة ألزمك الناس به،
وإذا كان ذلك لم تنل من الامر شيئا إلا من بعد شر لا خير معه.
قال عبد الله بن عباس: فلما كان يوم الجمل عرضت له - وقد قتل طلحة، وقد أكثر
أهل الكوفة في سبه وغمصه - فقال على ع: أما والله لئن قالوا ذلك، لقد كان كما
قال أخو جعفي (1):
فتى كان يدنيه الغنى من صديقه * إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر
ثم قال: والله لكأن عمي كان ينظر من وراء ستر رقيق، والله ما نلت من هذا
الامر شيئا إلا بعد شر لا خير معه.
وروى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز، عن حباب بن يزيد، عن جرير بن المغيرة أن
سلمان والزبير والأنصار كان هواهم أن يبايعوا عليا ع بعد النبي ص
، فلما بويع أبو بكر، قال سلمان: أصبتم الخبرة وأخطأتم المعدن.
قال أبو بكر: وأخبرنا أبو زيد عمر بن شبة، قال: حدثنا علي بن أبي هاشم، قال:
حدثنا عمرو بن ثابت، عن حبيب بن أبي ثابت، قال: قال سلمان يومئذ: أصبتم ذا السن منكم وأخطأتم أهل بيت نبيكم، لو جعلتموها فيهم ما اختلف عليكم اثنان،
ولأكلتموها رغدا. قال أبو بكر: وأخبرنا عمر بن شبة، قال: حدثني محمد بن يحيي، قال: حدثنا غسان

(1) هو سلمة بن يزيد بن مشجعة الجعفي، من كلمة له يرثي فيها أخاه لأمه قيس بن سلمة. أمالي القالي 2: 73
49

ابن عبد الحميد، قال: لما أكثر الناس في تخلف علي ع عن بيعة أبي بكر، واشتد
أبو بكر وعمر عليه في ذلك، خرجت أم مسطح بن أثاثة، فوقفت عند القبر، وقالت:
كانت أمور وأنباء وهنبثة * لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب (1)
إنا فقدناك فقد الأرض وابلها * واختل قومك فاشهدهم ولا تغب (2)
قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز: وأخبرنا أبو زيد عمر بن شبة، قال: حدثنا إبراهيم
ابن المنذر عن ابن وهب عن ابن لهيعة عن أبي الأسود، قال: غضب رجال من المهاجرين
في بيعة أبي بكر بغير مشورة، وغضب علي والزبير، فدخلا بيت فاطمة ع، معهما
السلاح، فجاء عمر في عصابة، منهم أسيد بن حضير وسلمة بن سلامة بن وقش، وهما من بني
عبد الأشهل، فصاحت فاطمة ع، وناشدتهم الله. فأخذوا سيفي علي والزبير،
فضربوا بهما الجدار حتى كسروهما، ثم أخرجهما عمر يسوقهما حتى بايعا، ثم قام أبو بكر
فخطب الناس، واعتذر إليهم، وقال: إن بيعتي كانت فلتة وقى الله شرها، وخشيت الفتنة،
وأيم الله ما حرصت عليها يوما قط، ولقد قلدت أمرا عظيما ما لي به طاقة ولا يدان،
ولوددت أن أقوى الناس عليه مكاني. وجعل يعتذر إليهم، فقبل المهاجرون عذره.
وقال علي والزبير: ما غضبنا إلا في المشورة، وإنا لنرى أبا بكر أحق الناس بها، إنه
لصاحب الغار، وإنا لنعرف له سنة، ولقد أمره رسول الله ص بالصلاة
بالناس وهو حي.
قال أبو بكر - وقد روى بإسناد آخر ذكره: أن ثابت بن قيس بن شماس كان
مع الجماعة الذين حضروا مع عمر في بيت فاطمة ع، وثابت هذا أخو بني الحارث
ابن الخزرج.

(1) الهنبثة، واحدة الهنابث، وهي الأمور الشدائد المختلفة، والبيتان في اللسان (3: 20)، وذكر
أنه جاء في حديث أن فاطمة قالتهما بعد موت الرسول ص، وذكر أيضا أنه ورد هذا الشعر في
حديث آخر، قال: لما قبض رسول الله ص خرجت صفية تلمع بثوبها وتقول البيتين ".
(2) اللسان: " فاختل ".
50

وروى أيضا أن محمد بن مسلمة كان معهم، وأن محمدا هو الذي كسر سيف الزبير.
قال أبو بكر: وحدثني يعقوب بن شيبة، عن أحمد بن أيوب، عن إبراهيم بن سعد، عن
ابن إسحاق، عن الزهري، عن عبد الله بن عباس، قال: خرج علي ع على الناس من عند رسول الله ص في مرضه، فقال له الناس: كيف أصبح رسول الله
ص يا أبا حسن؟ قال: أصبح بحمد الله بارئا، قال: فأخذ العباس بيد علي، ثم
قال: يا علي، أنت عبد العصا بعد ثلاث، أحلف لقد رأيت الموت في وجهه - وإني
لأعرف الموت في وجوه بني عبد المطلب - فانطلق إلى رسول الله ص فاذكر
له هذا الامر، إن كان فينا أعلمنا، وإن كان في غيرنا أوصى بنا، فقال
لا أفعل، والله
إن منعناه اليوم لا يؤتيناه الناس بعده. قال: فتوفى رسول الله ذلك اليوم.
وقال أبو بكر: حدثني المغيرة بن محمد المهلبي من حفظه، وعمر بن شبة من كتابه بإسناد
رفعه إلى أبي سعيد الخدري، قال: سمعت البراء بن عازب يقول: لم أزل لبني هاشم
محبا، فلما قبض رسول الله ص تخوفت أن تتمالأ قريش على إخراج هذا الامر
عن بني هاشم، فأخذني ما يأخذ الواله العجول.
ثم ذكر ما قد ذكرناه نحن في أول هذا الكتاب في شرح قوله ع:
" أما والله لقد تقمصها فلان " وزاد فيه في هذه الرواية: فمكثت أكابد ما في نفسي، فلما
كان بليل، خرجت إلى المسجد، فلما صرت فيه تذكرت أني كنت أسمع همهمه رسول الله
ص بالقرآن، فامتنعت من مكاني، فخرجت إلى الفضاء فضاء بني بياضة
وأجد نفرا يتناجون، فلما دنوت منهم سكتوا فانصرفت عنهم، فعرفوني وما أعرفهم،
فدعوني إليهم، فأتيتهم، فأجد المقداد بن الأسود وعبادة بن الصامت، وسلمان الفارسي،
وأبا ذر، وحذيفة، وأبا الهيثم بن التيهان، وإذا حذيفة يقول لهم: والله ليكونن ما أخبرتكم
51

به، والله ما كذبت ولا كذبت، وإذا القوم يريدون أن يعيدوا الامر شورى بين
المهاجرين.
ثم قال: ائتوا أبي بن كعب، فقد علم كما علمت. قال: فانطلقنا إلى أبي فضربنا
عليه بابه، حتى صار خلف الباب، فقال: من أنتم؟ فكلمه المقداد، فقال: ما حاجتكم؟
فقال له: إفتح عليك بابك، فإن الامر أعظم من أن يجري من وراء حجاب، قال: ما أنا بفاتح بابي، وقد عرفت ما جئتم له، كأنكم أردتم النظر في هذا العقد. فقلنا: نعم، فقال: أفيكم حذيفة؟ فقلنا: نعم، قال، فالقول ما قال، وبالله ما أفتح (1) عني بابي حتى تجري
على ما هي جارية، ولما يكون بعدها شر منها، وإلى الله المشتكى.
قال: وبلغ الخبر أبا بكر وعمر، فأرسلا إلى أبي عبيدة والمغيرة بن شعبة، فسألاهما
عن الرأي، فقال المغيرة: أن تلقوا العباس فتجعلوا له في هذا الامر نصيبا فيكون له
ولعقبه فتقطعوا به من ناحية علي، ويكون لكم حجة عند الناس على علي، إذا مال
معكم العباس.
فانطلقوا حتى دخلوا على العباس في الليلة الثانية من وفاة رسول الله ص.
ثم ذكر خطبة أبي بكر وكلام عمر وما أجابهما العباس به، وقد ذكرناه فيما تقدم من هذا الكتاب في الجزء الأول.
وروى أبو بكر، قال: أخبرنا أحمد بن إسحاق بن صالح، قال: حدثنا عبد الله بن عمر،
عن حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، قال: لما توفي النبي ص
اجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة، فأتاهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة، فقال: الحباب

(1) ب: " ما يفتح ".
52

ابن المنذر: منا أمير ومنكم أمير، إنا والله ما ننفس (1) هذا الامر عليكم أيها الرهط، ولكنا
نخاف أن يليه بعدكم من قتلنا أبناءهم وآباءهم وإخوانهم. فقال عمر بن الخطاب: إذا كان ذلك قمت إن استطعت. فتكلم أبو بكر فقال: نحن الامراء وأنتم الوزراء، والامر
بيننا نصفان كشق الأبلمة (2). فبويع، وكان أول من بايعه بشير بن سعد والد النعمان
ابن بشير.
فلما اجتمع الناس على أبي بكر قسم قسما (3) بين نساء المهاجرين والأنصار، فبعث
إلى امرأة من بني عدي بن النجار قسمها مع زيد بن ثابت، فقالت: ما هذا؟ قال: قسم قسمه أبو بكر للنساء، قالت: أتراشونني عن ديني! والله لا أقبل منه شيئا!
فردته عليه.
قلت: قرأت هذا الخبر على أبي جعفر يحيى بن محمد العلوي الحسيني المعروف
بابن أبي زيد نقيب البصرة رحمه الله تعالى في سنة عشر وستمائة من كتاب السقيفة لأحمد
ابن عبد العزيز الجوهري، قال: لقد صدقت فراسة الحباب، فإن الذي خافه وقع يوم
الحرة، وأخذ من الأنصار ثأر المشركين يوم بدر. ثم قال لي رحمه الله تعالى: ومن هذا
خاف أيضا رسول الله ص على ذريته وأهله، فإنه كان ع
قد وتر الناس، وعلم أنه إن مات وترك ابنته وولدها سوقة ورعية تحت أيدي الولاة، كانوا
بعرض خطر عظيم فما زال يقرر لابن عمه قاعدة الامر بعده، حفظا لدمه ودماء أهل بيته،
فإنهم إذا كانوا ولاة الامر كانت دماؤهم أقرب إلى الصيانة والعصمة، مما إذا كانوا سوقة
تحت يد وال من غيرهم، فلم يساعده القضاء والقدر، وكان من الامر ما كان. ثم أفضى
أمر ذريته فيما بعد إلى ما قد علمت.

(1) ننفس: نحسد.
(2) في اللسان: (14: 320) وفي حديث السقيفة: " الامر بيننا وبينكم كقد الأبلمة " والأبلمة بضم
الهمزة واللام وفتحهما وكسرهما: خوصة المقل، وهمزتها زائدة، يقول: نحن وإياكم في الحكم سواء،
لا فضل لأمير على مأمور، كالخوصة إذا شقت اثنتين متساويتين.
(3) القسم هنا: العطاء.
53

قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز: حدثني يعقوب بن شيبة باسناد رفعه إلى طلحة
ابن مصرف قال: قلت لهذيل بن شرحبيل: إن الناس يقولون: إن رسول الله
ص
أوصى إلى علي ع فقال: أبو بكر يتأمر على وصى رسول الله ص!
ود أبو بكر أنه وجد من رسول الله ص عهدا فخزم أنفه.
قلت: هذا الحديث قد خرجه الشيخان: محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج
القشيري في صحيحيهما عن طلحة بن مصرف قال: سألت عبد الله بن أبي أوفى: أوصى (1) رسول الله ص؟
قال: لا قلت: فكيف كتب على المسلمين الوصية (2)؟ أو كيف أمر بالوصية ولم يوص (3)؟
قال أوصى بكتاب الله (4). قال طلحة: ثم قال: أبن أوفى: ما كان أبو بكر
يتأمر على وصي رسول الله ص ود أبو بكر: أنه وجد من رسول الله ص عهدا فخزم أنفه بخزامة.
وروى الشيخان في الصحيحين عن عائشة أنه ذكر عندها أن رسول الله ص
أوصى قالت: ومتى أوصى؟ ومن يقول ذلك؟ قيل: إنهم يقولون قالت: من يقوله؟
لقد دعا بطست ليبول وانه بين سحري ونحري فانخنث (5) في صدري فمات
وما شعرت (6).
وفي الصحيحين أيضا خرجاه معا عن ابن عباس أنه كان يقول: يوم الخميس
وما يوم الخميس! ثم بكى حتى بل دمعه الحصى فقلنا: يا بن عباس وما يوم الخميس؟

(1) لفظ مسلم: " هل أوصى؟ ".
(2) لفظ مسلم: " فلم كتب على المسلمين الوصية؟ ".
(3) لفظ مسلم: " أو فلم أمر بالوصية؟ ".
(4) صحيح مسلم 3: 1256.
(5) انخنث: مال وسقط.
(6) لفظ مسلم 3: 1257 بسنده عن الأسود بن يزيد: " ذكروا عند عائشة أن عليا كان وصيا فقالت: متى أوصى إليه؟ فقد كنت مسندته إلى صدري - أو قالت حجري - فدعا بالطست فلقد انخنث في حجري وما شعرت أنه مات فمتى أوصى إليه؟ ".
54

قال: اشتد برسول الله ص وجعه فقال: إئتوني بكتاب أكتبه لكم (1)
لا تضلوا بعدي أبدا. فتنازعوا فقال: إنه لا ينبغي عندي تنازع فقال قائل: ما شأنه؟
أهجر؟ استفهموه. فذهبوا يعيدون عليه فقال: دعوني والذي إنا فيه خير من الذي
أنتم فيه ثم أمر بثلاثة أشياء فقال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا
الوفد بنحو ما كنت أجيزهم. وسئل ابن عباس عن الثالثة فقال: إما ألا يكون تكلم بها
وإما أن يكون قالها فنسيت (2).
وفي الصحيحين أيضا خرجاه معا عن ابن عباس رحمه الله تعالى قال: لما احتضر (3)
رسول الله ص وفي البيت رجال منهم عمر بن الخطاب قال النبي ص:
هلم أكتب لكم كتابا لا تضلون بعده فقال عمر: إن رسول الله ص: قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله. فاختلف القوم واختصموا فمنهم
من يقول: قربوا إليه يكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده ومنهم من يقول: القول ما قاله
عمر فلما أكثروا اللغو والاختلاف عنده ع قال لهم: قوموا فقاموا فكان
ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله ص وبين أن
يكتب لكم (4) ذلك الكتاب (5).
قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري: وحدثني أحمد بن إسحاق بن صالح
قال: حدثني عبد الله بن عمر بن معاذ عن ابن عون قال: حدثني رجل من زريق

(1) لفظ مسلم: " إئتوني أكتب لكم كتابا ".
(2) لفظ مسلم: " قال: وسكت عن الثالثة أو قال: " فأنسيتها " والحديث قي صحيحه 3:
1257 - 1258.
(3) لفظ مسلم: " حضر " وهما بمعنى حضره الموت.
(4) لفظ مسلم: " لهم ".
(5) صحيح مسلم 3: 1259.
55

أن عمر كان يومئذ - قال: يعني يوم بويع أبو بكر - محتجزا (1) يهرول بين يدي أبي بكر
ويقول: ألا إن الناس قد بايعوا أبا بكر قال: فجاء أبو بكر حتى جلس على منبر رسول
الله ص فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
أما بعد فإني وليتكم ولست بخيركم ولكنه نزل القرآن وسنت السنن وعلمنا
فتعلمنا أن أكيس الكيس التقى وأحمق الحمق الفجور وأن أقواكم عندي الضعيف
حتى آخذ له بالحق وأضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق. أيها الناس إنما أنا
متبع ولست بمبتدع إذا أحسنت فأعينوني وإذا زغت فقوموني.
قال أبو بكر: وحدثني أبو زيد عمر بن شبة قال: حدثنا أحمد بن معاوية قال:
حدثني النضر بن شميل قال: حدثنا محمد بن عمرو عن سلمة بن عبد الرحمن قال:
لما جلس أبو بكر على المنبر كان علي ع والزبير وناس من بني هاشم في بيت
فاطمة فجاء عمر إليهم فقال: ولذي نفسي بيده لتخرجن إلى البيعة أو لأحرقن
البيت عليكم! فخرج الزبير مصلتا سيفه فاعتنقه رجل من الأنصار وزياد بن لبيد فدق به
فبدر السيف فصاح به أبو بكر وهو على المنبر: اضرب به الحجر قال أبو عمرو بن حماس:
فلقد رأيت الحجر فيه تلك الضربة ويقال: هذه ضربة سيف الزبير.
ثم قال أبو بكر: دعوهم فسيأتي الله بهم قال: فخرجوا إليه بعد ذلك فبايعوه.
قال أبو بكر: وقد روي في رواية أخرى أن سعد بن أبي وقاص كان معهم في بيت
فاطمة ع والمقداد بن الأسود أيضا وأنهم اجتمعوا على أن يبايعوا عليا ع
فأتاهم عمر ليحرق عليهم البيت فخرج إليه الزبير بالسيف وخرجت فاطمة
ع تبكي وتصيح فنهنهت من الناس وقالوا: ليس عندنا معصية ولا خلاف
في خير اجتمع عليه الناس وإنما اجتمعنا لنؤلف القرآن في مصحف واحد. ثم بايعوا
أبا بكر فاستمر الامر واطمأن الناس.

(1) يقال: احتجز بالإزار إذا شده على وسطه.
56

قال أبو بكر: وحدثنا أبو زيد عمر بن شبة قال: أخبرنا أبو بكر الباهلي قال:
حدثنا إسماعيل بن مجالد عن الشعبي قال: سأل أبو بكر فقال: أين الزبير؟ فقيل:
عند علي وقد تقلد سيفه فقال: فقم يا عمر قم يا خالد بن الوليد انطلقا حتى تأتياني بهما
فانطلقا فدخل عمر وقام خالد على باب البيت من خارج فقال عمر للزبير: ما هذا السيف؟
فقال: نبايع عليا فاخترطه عمر فضرب به حجرا فكسره ثم اخذ بيد الزبير فأقامه
ثم دفعه وقال: يا خالد دونكه فأمسكه ثم قال لعلي: قم فبايع لأبي بكر فتلكأ
واحتبس فأخذ بيده وقال: قم فأبى أن يقوم، فحمله ودفعه كما دفع الزبير، فأخرجه،
ورأت فاطمة ما صنع بهما، فقامت على باب الحجرة، وقالت: يا أبا بكر، ما أسرع ما أغرتم
على أهل بيت رسول الله! والله لا أكلم عمر حتى ألقى الله. قال: فمشى إليها أبو بكر
بعد ذلك وشفع لعمر، وطلب إليها فرضيت عنه.
قال أبو بكر: وحدثنا أبو زيد، قال: حدثنا محمد بن حاتم، قال: حدثنا الحرامي
قال: حدثنا الحسين بن زيد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: مر عمر
بعلي وعنده ابن عباس بفناء داره، فسلم فسألاه: أين تريد؟ فقال: ما لي بينبع، قال علي:
أفلا نصل جناحك ونقوم معك؟ فقال: بلى، فقال لابن عباس: قم معه، قال: فشبك: أصابعه في أصابعي، ومضى حتى إذا خلفنا البقيع، قال: يا بن عباس أما والله. أن كان
صاحبك هذا أولى الناس بالامر بعد وفاة رسول الله إلا أنا خفناه على اثنتين. قال ابن عباس: فجاء بمنطق لم أجد بدا معه من مسألته عنه، فقلت: يا أمير المؤمنين، ما هما؟
قال: خشيناه على حداثة سنه وحبه بني عبد المطلب.
قال أبو بكر: وحدثني أبو زيد، قال: حدثنا هارون بن عمر، بإسناد رفعه
إلى ابن عباس رحمه الله تعالى، قال: تفرق الناس ليلة الجابية (1) عن عمر، فسار

(1) الجابية: قرية من اعمال دمشق، ذكر ياقوت أن عمر خطب فيه خطبته المشهورة.
57

كل واحد مع إلفه، ثم صادفت عمر تلك الليلة في مسيرنا، فحادثته، فشكى إلي تخلف علي
عنه. فقلت: ألم يعتذر إليك؟ قال: بلى، فقلت: هو ما اعتذر به، قال: يا بن عباس،
إن أول من ريثكم عن هذا الامر أبو بكر، إن قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة
والنبوة، قلت: لم ذاك يا أمير المؤمنين؟ ألم ننلهم خيرا؟ قال: بلى، ولكنهم لو فعلوا لكنتم عليهم جحفا جحفا (1).
قال أبو بكر: وأخبرنا أبو زيد، قال: حدثنا عبد العزيز بن الخطاب، قال: حدثنا
علي بن هشام، مرفوعا إلى عاصم بن عمرو بن قتادة، قال: لقي علي ع عمر،
فقال له علي ع: أنشدك الله! هل أستخلفك رسول الله ص؟ قال: لا،
قال: فكيف تصنع أنت وصاحبك؟ قال: أما صاحبي فقد مضى لسبيله، وأما أنا فسأخلعها
من عنقي إلى عنقك، فقال: جدع الله أنف من ينقذك منها! لا ولكن جعلني الله علما،
فإذا قمت فمن خالفني ضل.
قال أبو بكر: وأخبرنا أبو زيد، عن هارون بن عمر، عن محمد بن سعيد بن الفضل
عن أبيه، عن الحارث بن كعب، عن عبد الله بن أبي أوفى الخزاعي، قال: كان خالد
ابن سعيد بن العاص من عمال رسول الله ص على اليمن، فلما قبض رسول الله
ص جاء المدينة، وقد بايع الناس أبا بكر، فاحتبس عن أبي بكر فلم يبايعه
أياما، وقد بايع الناس، وأتى بني هاشم، فقال: أنتم الظهر والبطن والشعار دون الدثار (2)،
والعصا دون اللحا (3)، فإذا رضيتم رضينا، وإذا أسخطتم سخطنا. حدثوني إن كنتم
قد بايعتم هذا الرجل! قالوا: نعم، قال:

(1) جحفا، جحفا، أي فخرا فخرا وشرفا شرفا. النهاية لابن الأثير 1: 145.
(2) الشعار: ما يلي شعر الجسد، وهو تحت الدثار.
(3) اللحاء: ما على العصا من قشرها، يمد ويقصر، وفي خطبة الحجاج: لألحونكم لحو العصا.
58

فأنا أرضى وأبايع إذا بايعتم. أما والله يا بني هاشم، إنكم الطوال الشجر الطيب الثمر. ثم إنه
بايع أبا بكر، وبلغت أبا بكر فلم يحفل بها، واضطغنها عليه عمر، فلما ولاه أبو بكر الجند
الذي استنفر إلى الشام قال له عمر: أتولى خالدا وقد حبس عليك بيعته، وقال لبني هاشم
ما قال! وقد جاء بورق من اليمن وعبيد وحبشان ودروع ورماح! ما أرى أن توليه،
وما آمن خلافه فانصرف عنه أبو بكر، وولى أبا عبيدة بن الجراح، ويزيد بن أبي سفيان
وشرحبيل بن حسنه.
واعلم أن الآثار والاخبار في هذا الباب كثيرة جدا، ومن تأملها وأنصف، علم أنه لم
يكن هناك نص صريح ومقطوع به لا تختلجه الشكوك ولا تتطرق إليه الاحتمالات، كما
تزعم الامامية فإنهم يقولون إن الرسول ص نص على أمير المؤمنين ع
نصا صريحا جليا ليس بنص يوم (1) الغدير، ولا خبر المنزلة (2)، ولا ما شابههما من الأخبار الواردة
من طرق العامة وغيرها، بل نص عليه بالخلافة وبإمرة المؤمنين، وأمر المسلمين أن
يسلموا عليه بذلك، فسلموا عليه بها، وصرح لهم في كثير من المقامات بأنه خليفة عليهم من
بعده، وأمرهم بالسمع والطاعة له. ولا ريب أن المنصف إذا سمع ما جرى لهم بعد وفاة رسول
الله ص، يعلم قطعا أنه لم يكن هذا النص، ولكن قد سبق إلى النفوس
والعقول أنه قد كان هناك تعريض وتلويح، وكناية وقول غير صريح، وحكم غير مبتوت،
ولعله ص كان يصده عن التصريح بذلك أمر يعلمه، ومصلحة يراعيها، أو
وقوف، مع إذن الله تعالى في ذلك.
فأما امتناع على ع من البيعة حتى أخرج على الوجه الذي اخرج عليه فقد

(1) هو غدير خم، موضع بين مكة والمدينة، نقل المحب الطبري في الرياض النضرة (2: 169) أن
الرسول ع قال يوم غدير خم: " من كنت مولاه فعلي مولاه ".
(2) يشير إلى حديث: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ".
59

ذكره المحدثون ورواه أهل السير. وقد ذكرنا ما قاله الجوهري في هذا الباب، وهو من رجال
الحديث ومن الثقات المأمونين، وقد ذكر غيره من هذا النحو ما لا يحصى كثرة.
فأما الأمور الشنيعة المستهجنة التي تذكرها الشيعة من إرسال قنفذ إلى بيت فاطمة
ع، وإنه ضربها بالسوط فصار في عضدها كالدملج وبقي أثره إلى أن ماتت،
وأن عمر أضغطها بين الباب والجدار، فصاحت: يا أبتاه يا رسول الله! وألقت جنينا ميتا،
وجعل في عنق على ع حبل يقاد به وهو يعتل، وفاطمة خلفه تصرخ ونادى
بالويل والثبور، وابناه حسن وحسين معهما يبكيان. وأن عليا لما أحضر سلموه البيعة
فامتنع، فتهدد بالقتل، فقال: إذن تقتلون عبد الله وأخا رسول الله! فقالوا: أما عبد الله
فنعم! وأما أخو رسول الله فلا. وأنه طعن فيهم في أوجههم بالنفاق، وسطر صحيفة الغدر
التي اجتمعوا عليها، وبأنهم أرادوا أن ينفروا ناقة رسول الله ص ليلة العقبة،
فكله لا أصل له عند أصحابنا، ولا يثبته أحد منهم، ولا رواه أهل الحديث، ولا يعرفونه،
وإنما هو شئ تنفرد الشيعة بنقله.
* الأصل:
ومنها:
ولم يبايع حتى شرط ان يؤتيه على البيعة ثمنا، فلا ظفرت يد البائع.
وخزيت أمانة المبتاع! فخذوا للحرب أهبتها، وأعدوا لها عدتها، فقد شب لظاها،
وعلا سناها. واستشعروا الصبر، فإنه أدعى إلى النص.
* الشرح:
هذا فصل من كلام يذكر فيه ع عمرو بن العاص. وقوله: " فلا ظفرت
يد البائع "، يعني معاوية. وقوله: " وخزيت أمانة المبتاع "، يعني عمرا، وخزيت، أي
60

خسرت وهانت. وفي أكثر النسخ " فلا ظفرت يد المبايع "، وبميم المفاعلة، والظاهر ما رويناه.
وفي بعض النسخ " فإنه أحزم للنصر "، من حزمت الشئ إذا شددته، كأنه يشد
النصر ويوثقه. والرواية التي ذكرناها أحسن.
والأهبة: العدة. وشب لظاها استعارة، وأصله صعود طرف النار الأعلى. والسنا بالقصر:
الضوء. واستشعروا الصبر: اتخذوه شعارا، والشعار: ما يلي الجسد من الثياب، وهو ألزم
الثياب للجسد، يقول: لازموا الصبر كما يلزم الانسان ثوبه الذي يلي جلده لا بد له منه،
وقد يستغنى عن غيره من الثياب.
(أمر عمرو بن العاص)
لما نزل علي ع الكوفة بعد فراغه من أمر البصرة، كتب إلى معاوية كتابا
يدعوه إلى البيعة، أرسل فيه جرير بن عبد الله البجلي. فقدم عليه به الشام. فقرأه واغتم
بما فيه، وذهبت به أفكاره كل مذهب، وطاول جريرا بالجواب عن الكتاب، حتى كلم
قوما من أهل الشام في الطلب بدم عثمان، فأجابوه ووثقوا له، وأحب الزيادة في
الاستظهار فاستشار بأخيه عتبة بن أبي سفيان، فقال له: استعن بعمرو بن العاص، فإنه
من قد علمت في دهائه ورأيه، وقد اعتزل عثمان في حياته، وهو لأمرك أشد اعتزالا، ألا
أن يثمن له دينه فسيبيعك، فإنه صاحب دنيا.
فكتب إليه معاوية:
أما بعد فإنه كان من أمر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك، وقد سقط إلينا مروان بن
الحكم في نفر من (1) أهل البصرة، وقدم علينا جرير بن عبد الله في بيعة علي، و قد حبست نفسي عليك، (2) فأقبل أذاكرك أمورا لا تعدم صلاح مغبتها، إن شاء الله (3)

(1) في كتاب صفين: " في رافضة أهل البصرة ".
(2 - 3) في صفين: " حتى تأتيني، أقبل أذاكرك أمرا ".
61

فلما قدم الكتاب على عمرو استشار ابنيه: عبد الله بن عمرو، ومحمد بن عمرو، فقال
لهما: ما تريان؟ فقال عبد الله: أرى أن رسول الله ص قبض وهو عنك
راض، والخليفتان من بعده، وقتل عثمان وأنت عنه غائب، فقر في منزلك، فلست مجعولا
خليفة، ولا تزيد على (1) أن تكون حاشية لمعاوية على دنيا قليله أوشكتما أن تهلكا،
فتستويا (2) في عقابها. وقال محمد: أرى أنك شيخ قريش، وصاحب أمرها، وإن تصرم
هذا الامر وأنت فيه غافل (3)، تصاغر أمرك، فالحق بجماعة أهل الشام، وكن يدا من
أيديها، طالبا بدم عثمان، فإنه سيقوم بذلك بنو أمية (4).
فقال عمرو: أما أنت يا عبد الله، فأمرتني بما هو خير لي في ديني، وأنت يا محمد فأمرتني
بما هو خير لي في دنياي، وأنا ناظر، فلما جنه الليل رفع صوته وأهله يسمعون (5)، فقال: تطاول ليلي بالهموم الطوارق * وخوف التي تجلو وجوه العوائق (6)
وإن ابن هند سألني أن أزوره * وتلك التي فيها بنات البوائق (7)
أتاه جرير من علي بخطة * أمرت عليه العيش ذات مضائق
فإن نال مني ما يؤمل رده * وإن لم ينله ذل ذل المطابق (8)
فوالله ما أدري وما كنت هكذا * أكون ومهما قادني فهو سابقي
أخادعه إن الخداع دنية * أم أعطيه من نفسي نصيحة وامق

(1) في كتاب صفين والإمامة والسياسة 158: " ولا تريد أن تكون ".
(2) كذا في أ، والإمامة والسياسة، وفي ب: " فتسويا "، وفي كتاب صفين " أوشك أن تهلك
فتشقى فيها ".
(3) في صفين والإمامة والسياسة: " غافل "
(4) في الإمامة والسياسة: " فإنك به تستميل بني أمية ".
(5) كتاب صفين: " ينظرون ".
(6) في صفين: " وخول التي تجلو "، والعوائق: جمع عائق، وهي الشابة.
(7) البوائق: جمع بائقة، وهي الداهية، وفي صفين: " سائلي أن أزوره ".
(8) المطابقة: المشي في الفيد.
62

أم أقعد في بيتي وفي ذاك راحة * لشيخ يخاف الموت في كل شارق (1)
وقد قال عبد الله قولا تعلقت * به النفس إن لم تقتطعني عوائقي (2)
وخالفه فيه أخوه محمد * وإني لصلب العود عند الحقائق (3)
فقال عبد الله: رحل الشيخ (4). ودعا عمرو غلامه وردان، وكان داهيا ماردا، فقال:
ارحل يا وردان، ثم قال: أحطط يا وردان ثم قال: ارحل يا وردان. أحطط يا وردان.
فقال له وردان: خلطت أبا عبد الله! أما إنك إن شئت أنبأتك بما في قلبك، قال: هات
ويحك! قال: اعتركت الدنيا والآخرة على قلبك، فقلت: علي معه الآخرة في غير دنيا،
وفي الآخرة عوض من الدنيا، ومعاوية معه الدنيا بغير آخرة، وليس في الدنيا عوض من
الآخرة، وأنت (5) واقف بينهما، قال: قاتلك الله! ما أخطأت ما في قلبي، فما ترى
يا وردان؟ قال: أرى أن تقيم في بيتك، فإن ظهر أهل الدين عشت في عفو (6) دينهم،
وإن ظهر أهل الدنيا لم يستغنوا عنك. قال: الآن لما أشهرت العرب سيري إلى معاوية (7)!
فارتحل وهو يقول:
يا قاتل الله وردانا وقدحته * أبدى لعمرك ما في النفس وردان (8)
لما تعرضت الدنيا عرضت لها * بحرص نفسي وفي الأطباع إدهان
نفس تعف وأخرى الحرص يغلبها * والمرء يأكل تبنا وهو غرثان
أما علي فدين ليس يشركه * دنيا وذاك له دنيا وسلطان

(1) في صفين: " أو أقعد ".
(2) في صفين: " إن لم يعتقلني ".
(3) الحقائق: ما يجب على المرء حمايته من عرض أو مال.
(4) في صفين: " ترحل ".
(5) في صفين: " فأنت ".
(6) عفو دينهم، أي فضل دينهم.
(7) في الإمامة والسياسة: " الآن حين شهرتني العرب بمسيري إلى معاوية ".
(8) في صفين: " ومزحته ".
63

فاخترت من طمعي دنيا على بصر * وما معي بالذي أختار برهان
إني لأعرف ما فيها وأبصره * وفي أيضا لما أهواه ألوان
لكن نفسي تحب العيش في شرف * وليس يرضى بذل العيش انسان
فسار حتى قدم على معاوية، وعرف حاجة معاوية إليه، فباعده من نفسه، وكايد كل
واحد منهما صاحبه.
فقال له معاوية يوم دخل عليه: أبا عبد الله، طرقتنا في ليلتنا ثلاثة أخبار ليس فيها ورد
ولا صدر، قال: وما ذاك؟ قال: منها أن محمد بن أبي حذيفة كسر سجن مصر فخرج
هو وأصحابه، وهو من آفات هذا الدين. ومنها أن قيصر زحف بجماعة الروم ليغلب على
الشام. ومنها أن عليا نزل الكوفة، وتهيأ للمسير إلينا.
فقال عمرو: ليس كل ما ذكرت عظيما، أما ابن أبي حذيفة، فما يتعاظمك من رجل
خرج في أشباهه أن تبعث إليه رجلا يقتله أو يأتيك به، وإن قاتل لم يضرك (1).
وأما قيصر فأهد له الوصائف وآنية الذهب والفضة، وسله الموادعة فإنه إليها سريع. وأما علي
فلا والله يا معاوية، ما يسوي العرب (2) بينك وبينه في شئ من الأشياء، وإن له في
الحرب لحظا ما هو لأحد من قريش، وإنه لصاحب ما هو فيه إلا أن تظلمه. هكذا في رواية
نصر بن مزاحم عن محمد بن عبيد الله (3).
وروى نصر (4) أيضا عن عمر بن سعد قال: قال: معاوية لعمرو: يا أبا عبد الله، إني أدعوك
إلى جهاد هذا الرجل الذي عصى الله وشق عصا المسلمين، وقتل الخليفة وأظهر الفتنة، وفرق

(1) في وقعة صفين: " وإن فاتك لا يضرك " وفي الإمامة والسياسة: " وإن يقتل فلا يضرك ".
(2) كذا في أ، وصفين، وفي ب: " ما يسوي العرب ".
(3) وقعة صفين 39 - 40، وفي ب: " عبد الله "، وصوابه من أ.
(4) وقعة صفين 42 - 52.
64

الجماعة وقطع الرحم، فقال عمرو: من هو؟ قال: علي قال: والله يا معاوية ما أنت وعلي
بحملي (1) بعير، ليس لك (2) هجرته ولا سابقته، ولا صحبته ولا جهاده، ولا فقهه ولا علمه.
(3) ووالله إن له مع ذلك لحظا في الحرب ليس لأحد غيره، ولكني قد تعودت من الله
تعالى إحسانا وبلاء جميلا (3)، فما تجعل لي إن شايعتك على حربه، وأنت تعلم ما فيه من
الغرر والخطر؟ قال: حكمك، فقال: مصر طعمة. فتلكأ عليه معاوية.
قال نصر: وفي حديث غير عمر بن سعد: فقال له معاوية: يا أبا عبد الله، إني أكره
لك أن تتحدث العرب عنك أنك إنما دخلت في هذا الامر لغرض الدنيا، قال عمرو: دعني عنك، فقال معاوية: إني لو شئت أن أمنيك وأخدعك لفعلت، قال عمرو: لا، لعمر
الله ما مثلي يخدع، لأنا (4) أكيس من ذلك، قال معاوية: أدن مني أسارك، فدنا منه
عمرو ليساره، فعض معاوية أذنه، وقال: هذه خدعة! هل ترى في البيت أحدا ليس
غيري وغيرك!
قلت: قال شيخنا أبو القاسم البلخي رحمه الله تعالى: قول عمرو له: " دعني عنك "
كناية عن الالحاد، بل تصريح به، أي دع هذا الكلام لا أصل له، فإن اعتقاد الآخرة.
أنها لا تباع بعرض الدنيا من الخرافات.
وقال رحمه الله تعالى: وما زال عمرو بن العاص ملحدا، ما تردد قط في الالحاد
والزندقة، وكان معاوية مثله، ويكفي من تلاعبهما بالاسلام حديث السرار المروي، وأن
معاوية عض أذن عمرو، أين هذا من سيرة عمرو؟ وأين هذا من أخلاق علي ع،
وشدته في ذات الله، وهما مع ذلك يعيبانه بالدعابة!

(1) في كتاب صفين: " بعكمي بعير "، والعكمان: عدلان يشدان على جانبي الهودج.
(2) في صفين: " مالك هجرته ".
(3 - 3) وقعة صفين: " والله إن له مع ذلك حدا وجدا، وحظا وحظوة، وبلاء من الله حسنا ".
(4) كذا في ب، ج، وفي أ: " لأني ".
65

قال نصر فأنشأ عمرو يقول:
معاوي لا أعطيك ديني ولم أنل * به منك دنيا فانظرن كيف تصنع
فإن تعطني مصرا فأربح بصفقة * أخذت بها شيخا يضر وينفع (1)
وما الدين والدنيا سواء وإنني * لآخذ ما تعطي ورأسي مقنع
ولكنني أغضي الجفون وإنني * لأخدع نفسي، والمخادع يخدع
وأعطيك أمرا فيه للملك قوة * وألفي به إن زلت النعل أصرع (2)
وتمنعني مصرا وليست برغبة * وإني بذا الممنوع قدما لمولع.
قال شيخنا أبو عثمان الجاحظ: كانت مصر في نفس عمرو بن العاص، لأنه هو الذي
فتحها في سنة تسع عشرة من الهجرة في خلافة عمر، فكان لعظمها في نفسه وجلالتها
في صدره، وما قد عرفه من أموالها وسعة الدنيا، لا يستعظم أن يجعلها ثمنا من دينه، وهذا
معنى قوله:
* وإني بذا الممنوع قدما لمولع *
قال نصر: فقال له معاوية: يا أبا عبد الله، أما تعلم أن مصر مثل العراق! قال: بلى،
ولكنها إنما تكون لي إذا كانت لك، وإنما تكون لك إذا غلبت عليا على العراق.
قال: وقد كان أهل مصر بعثوا بطاعتهم إلى علي ع.
فلما حضر عتبة بن أبي سفيان قال لمعاوية: أما ترضى أن تشتري عمرا بمصر

(1) هذا البيت ورد في كتاب صفين، ولم يرد في الأصول.
(2) في كتاب صفين: * وإني به إن زلت النعل أضرع *
66

إن هي صفت لك! ليتك لا تغلب على الشام. فقال معاوية: يا عتبة، بت عندنا الليلة، فلما
جن الليل على عتبة رفع صوته ليسمع معاوية وقال:
أيها المانع سيفا لم يهز * إنما ملت على خز وقز
إنما أنت خروف ماثل * بين ضرعين وصوف لم يجز
أعط عمرا إن عمرا تارك * دينه اليوم لدنيا لم تحز
يا لك الخير فخذ من دره * شخبه الأول وابعد ما غرز
واسحب الذيل وبادر فوقها (1) * وانتهزها إن عمرا ينتهز
أعطه مصرا وزده مثلها * إنما مصر لمن عز فبز
واترك الحرص عليها ضلة * واشبب النار لمقرور يكز (2)
إن مصرا لعلي أو لنا * يغلب اليوم عليها من عجز
قال: فلما سمع معاوية قول عتبة، أرسل إلى عمرو فأعطاه مصر، فقال عمرو: لي الله
عليك بذلك شاهد! قال: نعم، لك الله علي بذلك إن فتح الله علينا الكوفة، فقال عمرو:
" والله على ما نقول وكيل " (3).
فخرج عمرو من عنده، فقال له إبناه: ما صنعت؟ قال: أعطانا مصر طعمة، قالا:
وما مصر في ملك العرب! قال: لا أشبع الله بطونكما إن لم تشبعكما (مصر) (4).
قال: (5) وكتب معاوية له بمصر كتابه، وكتب (5): " على الا ينقض شرط طاعة "،
فكتب عمرو: " على الا تنقض طاعة شرطا " فكايد كل واحد منهما صاحبه.
قلت: قد ذكر هذا اللفظ على ألا تنقض طاعة شرطا ". فكايد كل واحد منهما صاحبه.
قلت: قد ذكر هذا اللفظ أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في كتابه " الكامل "

(1) الفوق هنا: الطريق الأول.
(2) الكزاز: داء يأخذ من شدة البرد، وتعتري منه رعدة.
(3) سورة القصص 28.
(4) من كتاب وقعة صفين.
(5 - 5) في كتاب وقعة صفين: " فأعطاه إياها، وكتب له كتابا، وكتب معاوية ".
67

ولم يفسره (1)، وتفسيره أن معاوية قال للكاتب: " أكتب على ألا ينقض شرط طاعة "
يريد أخذ إقرار عمرو له أنه قد بايعه على الطاعة بيعة مطلقة غير مشروطة بشئ، وهذه
مكايدة له لأنه لو كتب ذلك لكان لمعاوية أن يرجع في إعطائه مصر ولم يكن لعمرو
أن يرجع عن طاعته، ويحتج عليه برجوعه عن إعطائه مصر، لان مقتضى المشارطة
المذكورة أن طاعة معاوية واجبة عليه مطلقا سواء أكانت مصر مسلمة إليه أم لا.
فلما انتبه عمرو إلى هذه المكيدة منع الكاتب من أن يكتب ذلك، وقال: بل
أكتب:
" على ألا تنقض طاعة شرطا " يريد أخذ إقرار معاوية له بأنه إذا كان أطاعه لا تنقض
طاعته إياه ما شارطه عليه من تسليم مصر إليه. وهذا أيضا مكايدة من عمرو لمعاوية ومنع له
من أن يغدر بما أعطاه من مصر.
قال نصر: وكان لعمرو بن العاص ابن عم من بني سهم، أريب (2)، فلما جاء عمرو
بالكتاب مسرورا عجب الفتى وقال: ألا تخبرني يا عمرو بأي رأي تعيش في قريش!
أعطيت دينك وتمنيت دنيا غيرك! أترى أهل مصر - وهم قتلة عثمان - يدفعونها إلى معاوية
وعلي حي! وأتراها إن صارت لمعاوية لا يأخذها بالحرف الذي قدمة في الكتاب؟ فقال
عمرو: يا بن أخي إن الامر لله دون علي ومعاوية، فقال الفتى:
ألا يا هند أخت بني زياد * رمي عمرو بداهية البلاد (3)
رمي عمرو بأعور عبشمي * بعيد القعر مخشي الكياد (4)
له خدع يحار العقل منها * مزخرفة صوائد للفؤاد
فشرط في الكتاب عليه حرفا * يناديه بخدعته المنادي

(1) الكامل 3: 210 - بشرح المرصفي.
(2) في كتاب صفين: " وكان مع عمرو ابن عم له، فتى شاب، وكان داهية حليما "، وفي كتاب الإمامة والسياسة 160 " وكان مع عمرو بن العاص ابن أخ له جاءه من مصر ". وهو ما يناسب ما يجئ بعد.
(3) كتاب صفين: " دهى عمرو ".
(4) يريد أنه يخشى كيده.
68

وأثبت مثله عمرو عليه * كلا المرأين حية بطن وادي
ألا يا عمرو ما أحرزت مصرا * ولا ملت الغداة إلى الرشاد
أبعت الدين بالدنيا خسارا * فأنت بذاك من شر العباد
فلو كنت الغداة أخذت مصرا * ولكن دونها خرط القتاد
وفدت إلى معاوية بن حرب * فكنت بها كوافد قوم عاد
وأعطيت الذي أعطيت منها * بطرس فيه نضح من مداد
ألم تعرف أبا حسن عليا * وما نالت يداه من الأعادي
عدلت به معاوية بن حرب * فيا بعد البياض من السواد!
ويا بعد الأصابع من سهيل * ويا بعد الصلاح من الفساد!
أتأمن أن تدال على خدب * يحث الخيل بالأسل الحداد (1)
ينادي بالنزال وأنت منه * قريب فانظرن من ذا تعادي
فقال عمرو: يا بن أخي لو كنت عند علي لوسعني ولكني الآن عند معاوية (2). قال
الفتى: إنك لو لم ترد معاوية لم يردك، ولكنك تريد دنياه وهو يريد دينك.
وبلغ
معاوية قول الفتى فطلبه فهرب فلحق بعلي ع فحدثه أمره فسر به وقربه.
قال: وغضب مروان وقال ما بالي لا أشتري (كما اشتري عمرو) (3)؟ فقال معاوية:
إنما يشترى الرجال لك. فلما بلغ عليا ع ما صنع معاوية قال:
يا عجبا لقد سمعت منكرا * كذبا على الله يشيب الشعرا
يسترق السمع ويعشي البصرا * ما كان يرضى أحمد لو أخبرا (4)

(1) الخدب: الضخم. وتناء: ترفع.
(2) كذا في ج وكتاب صفين وفي أ، ب: " ولكني الآن عنده ".
(3) تكملة من كتاب صفين.
(4) صفين: " لو خبرا ".
69

أن يقرنوا وصيه والأبترا * شاني الرسول واللعين الا خزرا (1)
كلاهما في جنده قد عسكرا * قد باع هذا دينه فأفجرا
من ذا بدنيا بيعه قد خسرا * بملك مصر أن أصاب الظفرا!
إني إذا الموت دنا وحضرا * شمرت ثوبي ودعوت قنبرا (2)
قدم لوائي لا تؤخر حذرا * لا يدفع الحذار ما قد قدرا
لما رأيت الموت موتا أحمرا * عبأت همدان وعبوا حميرا
حي يمان يعظمون الخطرا * قرن إذا ناطح قرنا كسرا
قل لابن حرب لا تدب الخمرا * أرود قليلا أبد منك الضجرا (3)
لا تحسبني يا بن هند غمرا * لو وسل بنا بدرا معا وخيبرا (4)
يوم جعلناكم ببدر جزرا * لو أن عندي يا بن هند جعفرا
أو حمزة القرم الهمام الأزهرا * رأت قريش نجم ليل ظهرا.
قال نصر: فلما كتب الكتاب (6)، قال معاوية لعمرو: ما ترى الآن؟ قال:
أمض الرأي الأول. فبعث مالك بن هبيرة الكندي في طلب محمد بن أبي حذيفة فأدركه
فقتله، وبعث إلى قيصر بالهدايا فوادعه، ثم قال: ما ترى في علي؟ قال: (أرى فيه

(1) الأخزر: الذي ينظر بمؤخرة عينه.
(2) قنبر مولى علي.
(3) الخمر: ما واراك من الشجر والجبال ونحوها، والدبيب: المشي على هينة، يقال للرجل إذا ختل
صاحبه: هو يدب له الضراء ويمشي له الخمر، والإرواد: الامهال.
(4) الغمر: من لم يجرب الأمور.
(5) الجزر: اللحم الذي تأكله السباع، وفي كتاب صفين:
* كانت قريشا يوم بدر جزرا *
وبعده
* إذ وردوا الامر فذموا الصدرا *
(6) في كتاب صفين: " لما بات عمرو عند معاوية وأصبح أعطاه مصر طعمة له، وكتب له بها كتابا ".
70

خيرا) (1)، إنه قد أتاك في طلب البيعة خير أهل العراق، ومن عند خير الناس في أنفس
الناس ودعواك أهل الشام إلى رد هذه البيعة خطر شديد، ورأس أهل
الشام شرحبيل بن السمط الكندي وهو عدو لجرير المرسل إليك، فابعث إليه ووطن له
ثقاتك فليفشوا في الناس أن عليا قتل عثمان، وليكونوا أهل رضا عند شرحبيل
فإنها كلمة جامعة لك أهل الشام على ما تحب وإن تعلقت بقلب شرحبيل لم تخرج منه
بشئ أبدا.
فكتب إلى شرحبيل: إن جرير بن عبد الله قدم علينا من عند علي بن أبي طالب
بأمر مفظع، فاقدم.
ودعا معاوية يزيد بن أسد، وبسر بن أرطاة، وعمرو بن سفيان، ومخارق بن الحارث
الزبيدي، وحمزة بن مالك، وحابس بن سعد الطائي، وهؤلاء رؤوس قحطان واليمن وكانوا
ثقات معاوية وخاصته وبني عم شرحبيل بن السمط
فأمرهم أن يلقوه ويخبروه أن عليا قتل
عثمان، فلما قدم كتاب معاوية على شرحبيل وهو بحمص استشار أهل اليمن فاختلفوا عليه
فقام إليه عبد الرحمن بن غنم الأزدي وهو صاحب معاذ بن جبل وختنه وكان أفقه أهل
الشام فقال: يا شرحبيل بن السمط، إن الله لم يزل يزيدك خيرا منذ هاجرت إلى اليوم
وإنه لا ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من الناس، وإن الله لا يغير ما بقوم حتى
يغيروا ما بأنفسهم. إنه قد ألقي إلى معاوية أن عليا قتل عثمان (2) ولهذا يريدك فإن كان قتله
فقد بايعه المهاجرون والأنصار وهم الحكام على الناس وإن لم يكن قتله فعلام تصدق
معاوية عليه! لا تهلكن نفسك وقومك، فإن كرهت أن يذهب بحظها جرير فسر إلى
علي فبايعه عن (3) شامك وقومك. فأبى شرحبيل إلا أن يسير إلى معاوية فكتب إليه
عياض الثمالي - وكان ناسكا:

(1) من كتاب صفين.
(2) في كتاب صفين: " إنه قد ألقي إلينا قتل عثمان، وأن عليا فتل عثمان ".
(3) صفين: " على شامك وقومك ".
71

يا شرح يا بن السمط إنك بالغ * بود علي ما تريد من الامر (1)
ويا شرح إن الشام شامك ما بها * سواك فدع عنك المضلل من فهر (2)
فإن ابن هند ناصب لك خدعة * تكون علينا مثل راغية البكر (3)
فإن نال ما يرجو بنا كان ملكنا * هنيئا له والحرب قاصمة الظهر
فلا تبغين حرب العراق فإنها * تحرم أطهار النساء من الذعر
وإن عليا خير من وطئ الثرى * من الهاشميين المداريك للوتر (4)
له في رقاب الناس عهد وذمة * كعهد أبي حفص وعهد أبي بكر
فبايع ولا ترجع على العقب كافرا * أعيذك بالله العزيز من الكفر!
ولا تسمعن قول الطغاة فإنهم * يريدون أن يلقوك في لجة البحر
وما ذا عليهم أن تطاعن دونهم * عليا بأطراف المثقفة السمر
فإن غلبوا كانوا علينا أئمة * وكنا بحمد الله من ولد الطهر
وإن غلبوا لم يصل بالخطب غيرنا * وكان علي حربنا آخر الدهر
يهون على عليا لؤي بن غالب * دماء بني قحطان في ملكهم تجري
فدع عنك عثمان بن عفان إنما * لك الخبر لا تدري بأنك لا تدري
على أي حال كان مصرع جنبه * فلا تسمعن قول الأعيور أو عمرو
قال: فلما قدم شرحبيل على معاوية أمر الناس أن يتلقوه ويعظموه فلما

(1) شرح: مرخم شرحبيل.
(2) صفين: " فدع عنك المضلل ".
(3) راغية البكر: يريد رغاء البكر، فوضع راغية موضع المصدر، يشير إلى ما كان من رغاء بكر
ثمود، رغا فيهم فأهلكوا، فضربته العرب مثلا في الشؤم وأكثرت فيه. أنظر الكامل للمبرد 1: 22 - بشرح المرصفي.
(4) الوتر: الثأر والذحل.
72

دخل على معاوية تكلم معاوية فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا شرحبيل، إن جرير
ابن عبد الله قدم علينا يدعونا إلى بيعة علي وعلي خير الناس لولا أنه قتل عثمان بن
عفان وقد حبست نفسي عليك وإنما أنا رجل من أهل الشام أرضى ما رضوا
وأكره ما كرهوا.
فقال شرحبيل: أخرج فأنظر. فلقيه هؤلاء النفر الموطئون له، فكلهم أخبره (1) أن
عليا قتل عثمان فرجع مغضبا إلى معاوية فقال: يا معاوية لابن أبي
الناس الا أن عليا قتل
عثمان والله ان بايعت له لنخرجنك من شامنا أو لنقتلنك. فقال معاوية: ما كنت
لأخالف عليكم، ما أنا إلا رجل من أهل الشام. قال فرد هذا الرجل إلى صاحبه إذن.
فعرف معاوية أن شرحبيل قد نفذت بصيرته في حرب أهل العراق وأن الشام كله مع
شرحبيل وكتب إلى علي ع ما سنورده فيما بعد إن شاء الله تعالى.

(1) كتاب صفين: " يخبره ".
73

(27)
ومن خطبة له ع:
الأصل:
أما بعد فإن الجهاد أبواب الجنة، فتحه الله لخاصة أوليائه، وهو
لباس التقوى، ودرع الله الحصينة، وجنته الوثيقة. فمن تركه رغبة عنه ألبسه
الله ثوب الذل، وشمله البلاء، وديث بالصغار والقماءة، وضرب على قلبه
بالإسهاب، وأديل الحق منه بتضييع الجهاد، وسيم الخسف، ومنع النصف.
ألا وإني قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلا ونهارا، وسرا وإعلانا
وقلت لكم: أغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غزي قوم قط في عقر دارهم
إلا ذلوا فتواكلتم وتخاذلتم حتى شنت عليكم الغارات، وملكت
عليكم الأوطان.
(1) وهذا أخو غامد قد وردت خيله الأنبار، وقد قتل حسان بن حسان البكري،
وأزال خيلكم عن مسالحها، ولقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة
المسلمة، والأخرى المعاهدة، فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورعثها ما تمتنع
منه إلا بالاسترجاع والاسترحام. ثم انصرفوا وافرين، ما نال رجل منهم كلم،
ولا أريق لهم دم، فلو أن امرأ مسلما مات من بعد هذا أسفا ما كان به ملوما،
بل كان به
عندي جديرا!
فيا عجبا! عجبا والله يميت القلب، ويجلب الهم، من اجتماع هؤلاء القوم على
باطلهم، وتفرقكم عن حقكم! فقبحا لكم وترحا، حين صرتم غرضا يرمى، يغار

(1) ج: " فهذا ". مخطوطة النهج: " هذا ".
74

عليكم ولا تغيرون، وتغزون ولا تغزون، ويعصى الله وترضون!
فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحر، قلتم: هذه حمارة القيظ، أمهلنا
يسبخ عنا الحر، وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء، قلتم: هذه صبارة القر،
أمهلنا ينسلخ عنا البرد، كل هذا فرارا من الحر والقر، فإذا كنتم من الحر والقر
تفرون فأنتم والله من السيف أفر!
يا أشباه الرجال ولا رجال، حلوم الأطفال، وعقول ربات الحجال، لوددت
أنى لم أركم ولم أعرفكم معرفة - والله - جرت ندما وأعقبت سدما. قاتلكم
الله! لقد ملأتم قلبي قيحا، وشحنتم صدري غيظا، وجرعتموني نغب التهمام
أنفاسا، وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان، حتى لقد قالت قريش: إن
ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب. لله أبوهم! وهل أحد منهم
أشد لها مراسا وأقدم فيها مقاما، مني! لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين وها أنا ذا
قد ذرفت على الستين! ولكن لا رأي لمن لا يطاع!
* * *
الشرح
هذه الخطبة من مشاهير خطبه ع، قد ذكرها كثير من الناس، ورواها
أبو العباس المبرد في أول " الكامل "، (1) وأسقط من هذه الرواية ألفاظا وزاد فيها
ألفاظا، وقال في أولها:
" إنه انتهى إلى علي ع أن خيلا وردت الأنبار لمعاوية فقتلوا عاملا له

(1) الكامل 1: 104 - 107 - بشرح المرصفي، يرويها عن عبيد الله بن حفص التيمي المعروف
بابن عائشة.
75

يقال له حسان بن حسان، فخرج مغضبا يجر رداءه (1) حتى أتى النخيلة (2) واتبعه الناس
فرقى رباوة (3) من الأرض، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه ص،
ثم قال: أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله الذل
وسيما الخسف ".
وقال في شرح ذلك: قوله: " وسيما الخسف "، هكذا حدثونا به وأظنه " سيم الخسف "،
من قوله تعالى: " يسومونكم سوء العذاب " (4).
وقال: فإن نصرنا ما سمعناه، " فسيما الخسف " (5)، تأويله علامة الخسف، قال الله
تعالى: " سيماهم في وجوههم " (6)، وقال: " يعرف المجرمون بسيماهم " (7) وسيما
مقصور، وفي معناه " سيمياء " ممدود، قال الشاعر
غلام رماه الله بالحسن يافعا * له سيمياء لا تشق على البصر.
ونحن نقول: إن السماع الذي حكاه أبو العباس غير مرضى والصحيح ما يتضمنه
" نهج البلاغة " وهو " سيم الخسف " فعل ما لم يسم فاعله، و " الخسف " منصوب
لأنه مفعول، وتأويله أولي الخسف وكلف إياه والخسف: الذل والمشقة.
وأيضا فإن في " نهج البلاغة " لا يمكن أن يكون إلا كما اخترناه، لأنه بين أفعال
متعددة بنيت للمفعول به، وهي: " ديث " و " ضرب " و " أديل " و " منع "،

(1) في الكامل: " توبة ".
(2) النخيلة: اسم موضع خارج الكوفة.
(3) الرباوة: اسم لكل ما ارتفع من الأرض، كالربة والربوة والرابية.
(4) سورة البقرة 49.
(5) كذا في الأصول، وعبارة الكامل فيما لدينا من نسخة: " ومعنى قوله: " سيما الخسف "، تأويله
علامة، هذا أصل هذا ".
(6) سورة الفتح 29.
(7) سورة الرحمن 41.
(8) في زيادات الكامل: " هو ابن عنقاء الفزاري في عميلة الفزاري "، وذكر بعده:
كأن الثريا علقت في جبينه * وفي أنفه الشعرى وفي جيده القمر
76

ولا يمكن أن يكون ما بين هذه الأفعال ومعطوفا عليها إلا مثلها، ولا يجوز
أن يكون اسما.
وأما قوله ع: " وهو لباس التقوى " فهو لفظة مأخوذة من الكتاب العزيز
قال الله سبحانه: " قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس
التقوى " (1).
والجنة ما يجتن به، أي يستتر، كالدرع والحجفة.
وتركه رغبه عنه أي زهدا فيه، رغبت عن كذا ضد رغبت في كذا.
وديث بالصغار، أي ذلل، بعير مديث أي مذلل، ومنه الديوث: الذي
لا غيرة له كأنه قد ذلل حتى صار كذلك.
والصغار: الذل والضيم.
والقماء، بالمد: مصدر قمؤ الرجل قماء وقماءة، أي صار قميئا وهو الصغير الذليل فأما قمأ بفتح الميم فمعناه سمن ومصدره القموء والقموءة.
وروى الراوندي: وديث بالصغار والقما، بالقصر وهو غير معروف.
وقوله ع: " وضرب على قلبه بالإسهاب "، فالاسهاب هاهنا هو ذهاب العقل
ويمكن أن يكون من الإسهاب الذي هو كثرة الكلام كأنه عوقب بأن يكثر كلامه
فيما لا
فائدة تحته.
قوله: " وأديل الحق منه بتضييع الجهاد "، قد يظن ظان (2) أنه يريد ع:
وأديل الحق منه بأن أضيع جهاده، كالياءات المتقدمة، وهي قوله: " وديث بالصغار "،
و " ضرب على قلبه بالإسهاب ".

(1) سورة الأعراف 26.
(2) ب، ج: " فلان "، وما أثبته عن أ.
77

وليس كما ظن، بل المراد: وأديل الحق منه لأجل تضييعه الجهاد، فالباء هاهنا
للسببية كقوله تعالى: " ذلك جزيناهم ببغيهم " (1).
والنصف: الانصاف. وعقر دارهم بالضم: أصل دارهم، والعقر: الأصل، ومنه
العقار للنخل كأنه أصل المال. وتواكلتم، من وكلت الامر إليك ووكلته إلى
أي لم يتوله أحد منا ولكن أحال به كل واحد على الآخر، ومنه رجل وكل،
أي عاجز يكل أمره إلى غيره، وكذلك وكله.
وتخاذلتم، من الخذلان.
وشنت عليكم الغارات: فرقت، وما كان من ذلك متفرقا، نحو إرسال الماء
على الوجه دفعة بعد دفعة، فهو بالشين المعجمة، وما كان إرسالا غير متفرق فهو بالسين
المهملة، ويجوز شن الغارة وأشنها.
والمسالح: جمع مسلحة وهي كالثغر والمرقب، وفي الحديث: " كان أدنى مسالح فارس
إلى العرب العذيب " (2). والمعاهدة: ذات العهد وهي الذمية. والحجل: الخلخال،
ومن هذا قيل للفرس محجل، وسمي القيد حجلا لأنه يكون مكان الخلخال. ورعثها: شنوفها، جمع رعاث بكسر الراء، ورعاث: جمع رعثة، فالأول مثل خمار وخمر والثاني
مثل جفنة وجفان. والقلب: جمع قلب وهو السوار المصمت. والاسترجاع، قوله:
" إنا لله وإنا إليه راجعون " (3). والاسترحام: أن تناشده الرحم. وانصرفوا وافرين،
أي تامين، وفر الشئ نفسه أي تم فهو وافر، ووفرت الشئ، متعد: أي أتممته.
وفي رواية المبرد " موفورين "، قال: من الوفر أي لم ينل أحد منهم بأن يرزأ (4) في بدن أو مال.

(1) سورة الأنعام 146.
(2) ذكره ابن الأثير في النهاية 2: 174.
(3) سورة البقرة 156.
(4) لم يرزأ، من الرزء وهو المصيبة.
78

وفي رواية المبرد أيضا: " فتواكلتم وتخاذلتم، وثقل عليكم قولي، واتخذتموه وراءكم
ظهريا "، قال: أي رميتم به وراء ظهوركم، أي لم تلتفتوا إليه، يقال في المثل: لا تجعل
حاجتي منك بظهر، أي لا تطرحها غير ناظر إليها، قال الفرزدق:
تميم بن مر لا تكونن حاجتي * بظهر ولا يعيا عليك جوابها (1)
والكلم: الجراح. وفي رواية المبرد أيضا: " مات من دون هذا أسفا " والأسف:
التحسر. وفي رواية المبرد أيضا: " من تضافر هؤلاء القوم على باطلهم " أي من تعاونهم
وتظاهرهم. وفي رواية المبرد أيضا: " وفشلكم عن حقكم "، الفشل: الجبن والنكول
عن الشئ: فقبحا لكم وترحا، دعاء بأن ينحيهم الله عن الخير وأن يخزيهم ويسوءهم.
والغرض: الهدف. وحمارة القيظ، بتشديد الراء: شدة حره. ويسبخ عنا الحر أي
يخف، وفي الحديث أن عائشة أكثرت من الدعاء على سارق سرق منها شيئا، فقال لها
النبي ص: " لا تسبخي عنه بدعائك ".
وصبارة الشتاء بتشديد الراء: شدة برده، ولم يرو المبرد هذه اللفظة وروى: " إذا
قلت لكم اغزوهم في الشتاء قلتم هذا أوان قر وصر، وإن قلت لكم اغزوهم في الصيف
قلتم هذه حمارة القيظ أنظرنا ينصرم عنا الحر ".
الصر: شدة البرد، قال تعالى: " كمثل ريح فيها صر " (2).
ولم يرو المبرد " حلوم الأطفال " وروى عوضها " يا طغام الأحلام " وقال: الطغام:
من لا معرفة عنده، ومنه قولهم: " طغام أهل الشام ".
وربات الحجال: النساء، والحجال جمع حجلة، وهي بيت يزين بالستور والثياب والأسرة.

(1) اللسان 6: 195، ورواية الديوان 95:
تميم بن زيد لا تهونن حاجتي * لديك، ولا يعيا علي جوابها
وبهذه الرواية لا شاهد فيه لهذا الموضع.
(2) سورة آل عمران 117
79

والسدم: الحزن والغيظ. والقيح ما يكون في القرحة من صديدها. وشحنتم:
ملأتم. والنغب: جمع نغبة وهي الجرعة.
والتهمام، بفتح التاء: الهم وكذلك كل " تفعال " كالترداد والتكرار
والتجوال إلا التبيان والتلقاء فإنهما بالكسر.
وأنفاسا أي جرعة بعد جرعة، يقال: اكرع في الاناء نفسين أو ثلاثة.
وذرفت على الستين، أي زدت. ورواها المبرد: " نيفت ".
وروى المبرد في آخرها: فقام إليه رجل ومعه أخوه فقال: يا أمير المؤمنين إني وأخي
هذا، كما قال الله تعالى: " رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي " (1)، فمرنا بأمرك فوالله
لننتهين إليه ولو حال بيننا وبينه جمر الغضا وشوك القتاد. فدعا لهما بخير وقال: وأين تقعان
مما أريد؟ ثم نزل.
(استطراد بذكر كلام لابن نباتة في الجهاد)
واعلم أن التحريض على الجهاد والحض عليه قد قال فيه الناس فأكثروا وكلهم
أخذوا من كلام أمير المؤمنين ع، فمن جيد ذلك ما قاله ابن نباتة (2) الخطيب.
أيها الناس، إلى كم تسمعون الذكر فلا تعون! وإلى كم تقرعون بالزجر فلا تقلعون!
كأن أسماعكم تمج ودائع الوعظ وكأن قلوبكم بها استكبار عن الحفظ، وعدوكم يعمل

(1) سورة المائدة 25.
(2) هو أبو يحيى عبد الرحيم بن محمد بن إسماعيل الفارقي، كان خطيب حلب، وبها اجتمع مع أبي
الطيب المتنبي في خدمة سيف الدولة، وكان سيف الدولة كثير الغزوات، فكثرت خطبه في الجهاد ليحض
الناس على نصر سيف الدولة، توفي سنة 374. ونباتة، بضم النون وفتح الباء. ابن خلكان 1: 283 -
284.
80

في دياركم عمله، ويبلغ بتخلفكم عن جهاده أمله، وصرخ بهم الشيطان إلى باطله فأجابوه
وندبكم الرحمن إلى حقه فخالفتموه، وهذه البهائم تناضل عن ذمارها، وهذه الطير
تموت حمية دون أوكارها، بلا كتاب أنزل عليها، ولا رسول أرسل إليها. وأنتم أهل
العقول والأفهام، وأهل الشرائع والاحكام تندون من عدوكم نديد الإبل،
وتدرعون له مدارع العجز والفشل، وأنتم والله أولى بالغزو إليهم، وأحرى بالمغار
عليهم لأنكم أمناء الله على كتابه، والمصدقون بعقابه وثوابه، خصكم الله بالنجدة والبأس،
وجعلكم خير أمه أخرجت للناس، فأين حمية الايمان؟ وأين بصيرة الإيقان؟ وأين
الاشفاق من لهب النيران؟ وأين الثقة بضمان الرحمن؟ فقد قال الله عز وجل في القرآن:
" بلى إن تصبروا وتتقوا " (1)، فاشترط عليكم التقوى والصبر، وضمن لكم المعونة
والنصر، أفتتهمونه في ضمانه؟ أم تشكون في عدله وإحسانه؟ فسابقوا رحمكم الله إلى
الجهاد بقلوب نقية، ونفوس أبية، وأعمال رضية، ووجوه مضية، وخذوا بعزائم التشمير،
واكشفوا عن رءوسكم عار التقصير، وهبوا نفوسكم لمن هو أملك بها منكم، ولا تركنوا
إلى الجزع فإنه لا يدفع الموت عنكم، " لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم
إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا " (2). فالجهاد
الجهاد أيها الموقنون، والظفر الظفر أيها الصابرون! والجنة الجنة أيها الراغبون! والنار النار
أيها الراهبون! فإن الجهاد أثبت قواعد الايمان، وأوسع أبواب الرضوان، وأرفع درجات
الجنان، وإن من ناصح الله لبين منزلتين مرغوب فيهما، مجمع على تفضيلهما: أما السعادة
بالظفر في العاجل، وأما الفوز بالشهادة في الآجل، وأكره المنزلتين إليكم أعظمهما نعمة

. (1) سورة آل عمران 125.
(2) سورة آل عمران.
81

عليكم فانصروا الله فإن نصره حرز من الهلكات حريز، " ولينصرن الله من ينصره
إن الله لقوي عزيز " (1).
هذا آخر خطبة ابن نباتة، فانظر إليها وإلى خطبته ع بعين الانصاف، تجدها
بالنسبة إليها كمخنث بالنسبة إلى فحل، أو كسيف من رصاص بالإضافة إلى سيف من حديد
وانظر ما عليها من أثر التوليد وشين التكلف وفجاجة كثير من الألفاظ، ألا ترى
إلى فجاجة قوله: " كأن أسماعكم تمج ودائع الوعظ وكأن قلوبكم بها استكبار عن الحفظ "!
وكذلك ليس يخفى نزول قوله: " تندون من عدوكم نديد الإبل، وتدرعون له مدارع
العجز والفشل ".
وفيها كثير من هذا الجنس، إذا تأمله الخبير عرفه، ومع هذا فهي مسروقة من
كلام أمير المؤمنين ع، ألا ترى أن قوله ع: " أما بعد فإن الجهاد
باب من أبواب الجنة "، قد سرقه ابن نباتة، فقال: " فإن الجهاد أثبت قواعد الايمان،
وأوسع أبواب الرضوان، وأرفع درجات الجنان "! وقوله ع: " من اجتماع هؤلاء
على باطلهم وتفرقكم عن حقكم "، سرقه أيضا، فقال: " صرخ بهم الشيطان إلى باطله
فأجابوه، وندبكم الرحمن إلى حقه فخالفتموه ". وقوله ع: " قد دعوتكم إلى قتال
هؤلاء القوم... " إلى آخره، سرقه أيضا، فقال: " كم تسمعون الذكر فلا تعون، وتقرعون
بالزجر فلا تقلعون "! وقوله ع " حتى شنت عليكم الغارات وملكت عليكم
الأوطان " سرقه أيضا، وقال: " وعدوكم يعمل في دياركم عمله، ويبلغ بتخلفكم عن جهاده
أمله ". وأما باقي خطبة ابن نباتة فمسروق من خطب لأمير المؤمنين ع أخر،
سيأتي ذكرها.
* * *

. (1) سورة الحج 40.
82

واعلم أني أضرب لك مثلا تتخذه دستورا في كلام أمير المؤمنين ع، وكلام
الكتاب والخطباء بعده كابن نباتة والصابئ وغيرهما، انظر نسبة شعر أبي تمام والبحتري
وأبي نؤاس ومسلم، إلى شعر امرئ القيس والنابغة وزهير والأعشى، هل إذا تأملت أشعار
هؤلاء وأشعار هؤلاء، تجد نفسك حاكمة بتساوي القبيلين أو بتفضيل أبي نؤاس وأصحابه
عليهم؟ ما أظن أن ذلك مما تقوله أنت ولا قاله غيرك، ولا يقوله إلا من لا يعرف علم
البيان، وماهية
الفصاحة، وكنه البلاغة، وفضيلة المطبوع على المصنوع، ومزية المتقدم على
المتأخر، فإذا أقررت من نفسك بالفرق والفضل، وعرفت فضل الفاضل، ونقص الناقص،
فاعلم أن نسبة كلام أمير المؤمنين ع إلى هؤلاء هذه النسبة، بل أظهر، لأنك تجد
في شعر امرئ القيس وأصحابه من التعجرف والكلام الحوشي، واللفظ الغريب المستكره
شيئا كثيرا، ولا تجد من ذلك في كلام أمير المؤمنين ع شيئا، وأكثر فساد
الكلام ونزوله إنما هو باستعمال ذلك.
فإن شئت أن تزداد استبصارا، فانظر القرآن العزيز - واعلم أن الناس قد اتفقوا على
أنه في أعلى طبقات الفصاحة - وتأمله تأملا شافيا، وانظر إلى ما خص به من مزية الفصاحة
والبعد عن التقعير والتقعيب (1) والكلام الوحشي الغريب، وانظر كلام أمير المؤمنين ع
فإنك تجده مشتقا من ألفاظه، ومقتضبا من معانيه ومذاهبه، ومحذوا به حذوه،
ومسلوكا به في منهاجه، فهو وإن لم يكن نظيرا ولا ندا يصلح أن يقال إنه ليس بعده كلام
أفصح منه ولا أجزل، ولا أعلى ولا أفخم ولا أنبل، إلا أن يكون كلام ابن عمه ع
وهذا أمر لا يعلمه إلا من ثبتت له قدم راسخة في علم هذه الصناعة، وليس كل الناس
يصلح لانتقاد الجوهر، بل ولا لانتقاد الذهب، ولكل صناعة أهل، ولكل عمل رجال.
* * *
ومن خطب ابن نباتة التي يحرض فيها على الجهاد:

(1) التقعير: التعمق في الكلام والتشدق به، ومثله التقعيب.
83

" ألا وإن الجهاد كنز وفر الله منه أقسامكم، وحرز طهر الله به أجسامكم، وعز أظهر
الله به إسلامكم، فإن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم، فانفروا رحمكم الله جميعا وثبات (1)،
وشنوا على أعدائكم الغارات، وتمسكوا بعصم الاقدام ومعاقل الثبات، وأخلصوا في جهاد
عدوكم حقائق النيات، فإنه والله ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا، ولا قعدوا عن صون
ديارهم إلا اضمحلوا. واعلموا أنه لا يصلح الجهاد بغير اجتهاد، كما لا يصلح السفر بغير زاد،
فقدموا مجاهدة القلوب، قبل مشاهدة الحروب، ومغالبة الأهواء قبل محاربة الأعداء،
وبادروا بإصلاح السرائر، فإنها من أنفس العدد والذخائر، واعتاضوا من حياة لا بد من
فنائها، بالحياة التي لا ريب في بقائها، وكونوا ممن أطاع الله وشمر في مرضاته، وسابقوا
بالجهاد إلى تملك جناته، فإن للجنة بابا حدوده تطهير الأعمال، وتشييده إنفاق الأموال،
وساحته زحف الرجال، وطريقه غمغمة الابطال، ومفتاحه الثبات في معترك القتال،
ومدخله من مشرعة الصوارم والنبال ".
فلينظر الناظر في هذا الكلام، فإنه وإن كان قد أخذ من صناعة البديع بنصيب،
إلا أنه في حضيض الأرض وكلام أمير المؤمنين ع في أوج السماء، فإنه لا ينكر
لزومه فيه لما لا يلزمه اقتدارا وقوة وكتابة، نحو قوله: " كنز " فإن بإزاء " حرز "
و " عز "، وقوله: " مشاهدة " بإزاء قوله: " مجاهدة "، و " مغالبة " بإزاء " محاربة "،
و " حدوده " بإزاء " تشييده "، لكن مثله بالقياس إلى كلام أمير المؤمنين ع
كدار مبنية من اللبن والطين، مموهة الجدران بالنقوش والتصاوير، مزخرفة بالذهب من فوق
الجص والإسفيداج (2)، بالقياس إلى دار مبنية بالصخر الأصم الصلد، المسبوك بينه عمد
الرصاص والنحاس المذاب، وهي مكشوفة غير مموهة ولا مزخرفة. فإن بين هاتين الدارين
بونا بعيدا، وفرقا عظيما. وانظر قوله: " ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا "، كيف تصيح
من بين الخطبة صياحا، وتنادي على نفسها نداء فصيحا، وتعلم سامعها أنها ليست من المعدن

(1) ثبات: جماعة بعد جماعة.
(2) الاسفيداج: رماد الرصاص.
84

الذي خرج باقي الكلام منه، ولا من الخاطر الذي صدر ذلك السجع عنه، ولعمر الله، لقد
جملت الخطبة وحسنتها وزانتها، وما مثلها فيها إلا كآية من الكتاب العزيز يتمثل بها في
رسالة أو خطبة، فإنها تكون كاللؤلؤة المضيئة تزهر وتنير، وتقوم بنفسها، وتكتسي الرسالة
بها رونقا، وتكتسب بها ديباجة.
وإذا أردت تحقيق ذلك، فانظر إلى السجعة الثانية التي تكلفها ليوازنها بها، وهي
قوله: " ولا قعدوا عن صون ديارهم إلا اضمحلوا "، فإنك إذا نظرت إليها وجدت عليها من
التكلف والغثاثة ما يقوي عندك صدق ما قلته لك.
على أن في كلام ابن نباتة في هذا الفصل ما ليس بجيد، وهو قوله: " وحرز طهر الله
به أجسامكم " فإنه لا يقال في الحرز إنه يطهر الأجسام، ولو قال عوض " طهر ": حصن الله
به أجسامكم، لكان أليق، لكنه أراد أن يقول: " طهر " ليكون بإزاء " وفر " وبإزاء
" أظهر "، فأداه حب التقابل إلى ما ليس بجيد.
(غارة سفيان بن عوف الغامدي على الأنبار)
فأما أخو غامد الذي وردت خيله الأنبار، فهو سفيان بن عوف بن المغفل الغامدي
وغامد قبيلة من اليمن، وهي من الأزد، أزد شنوءة، واسم غامد عمر بن عبد الله بن كعب بن
الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد. وسمى غامدا لأنه كان
بين قومه شر فأصلحه وتغمدهم بذلك.
روى إبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال الثقفي (1) في كتاب " الغارات " عن أبي
الكنود، قال: حدثني سفيان بن عوف الغامدي، قال: دعاني معاوية، فقال: إني
باعثك في جيش كثيف، ذي أداة وجلادة، فالزم لي جانب الفرات، حتى تمر بهيت (2)

(1) إبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال بن عاصم بن سعد الثقفي، من علماء أصبهان، ذكره أبو نعيم
في تاريخه وقال: كان غاليا في الرفض، مات سنة 280. لسان الميزان 1: 102.
(2) هيت: بلد على الفرات فوق الأنبار.
85

فتقطعها، فإن وجدت بها جندا فأغر عليهم، وإلا فامض حتى تغير على الأنبار، فإن لم تجد
بها جندا فامض حتى توغل في المدائن. ثم أقبل إلي واتق أن تقرب الكوفة. واعلم أنك
إن أغرت على أهل الأنبار وأهل المدائن فكأنك أغرت على الكوفة. إن هذه الغارات
يا سفيان على أهل العراق ترعب قلوبهم، وتفرح كل من له فينا هوى منهم، وتدعو إلينا
كل من خاف الدوائر، فاقتل من لقيته ممن ليس هو على مثل رأيك، وأخرب كل
ما مررت به من القرى، واحرب الأموال، فإن حرب الأموال شبيه بالقتل، وهو
أوجع للقلب.
قال: فخرجت من عنده فعسكرت، وقام معاوية في الناس فخطبهم، فقال: أيها
الناس، انتدبوا (1) مع سفيان بن عوف، فإنه وجه عظيم فيه أجر، سريعة فيه أوبتكم إن
شاء الله. ثم نزل.
قال: فوالذي لا إله غيره ما مرت ثالثة حتى خرجت في ستة آلاف، ثم لزمت
شاطئ الفرات، فأغذذت السير حتى أمر بهيت، فبلغهم أني قد غشيتهم فقطعوا الفرات
فمررت بها وما بها عريب، (2) كأنها لم تحلل قط، فوطئتها حتى أمر بصندوداء (3)، ففروا
فلم ألق بها أحدا، فأمضي حتى أفتتح الأنبار، وقد نذروا بي، فخرج صاحب المسلحة
إلي، فوقف لي فلم أقدم عليه حتى أخذت غلمانا من أهل القرية، فقلت لهم: أخبروني، كم
بالأنبار من أصحاب علي ع؟ قالوا: عدة رجال المسلحة خمسمائة، ولكنهم قد
تبددوا ورجعوا إلى الكوفة، ولا ندري الذي يكون فيها، قد يكون مائتي رجل، فنزلت
فكتبت أصحابي كتائب، ثم أخذت أبعثهم إليه كتيبة بعد كتيبة، فيقاتلهم والله ويصبر
لهم، ويطاردهم ويطاردونه في الأزقة، فلما رأيت ذلك أنزلت إليهم نحوا من مائتين،

(1) انتدبوا: خفوا للقتال.
(2) عريب: أحد.
(3) صندوداء: قرية كانت في غربي الفرات فوق الأنبار.
86

وأتبعتهم الخيل، فلما حملت عليهم الخيل وأمامها الرجال تمشي، لم يكن شئ حتى تفرقوا
وقتل صاحبهم في نحو من ثلاثين رجلا، وحملنا ما كان في الأنبار من الأموال، ثم
انصرفت، فوالله ما غزوت غزاة كانت أسلم ولا أقر للعيون، ولا أسر للنفوس منها.
وبلغني والله أنها أرعبت الناس، فلما عدت إلى معاوية، حدثته الحديث على وجهه، فقال:
كنت عند ظني بك، لا تنزل في بلد من بلداني إلا قضيت فيه مثل ما يقضي فيه أميره،
وإن أحببت توليته وليتك، وليس لأحد من خلق الله عليك أمر دوني.
قال: فوالله ما لبثنا إلا يسيرا، حتى رأيت رجال أهل العراق يأتوننا على الإبل هرابا
من عسكر علي ع.
قال إبراهيم: كان اسم عامل علي ع على مسلحة الأنبار أشرس بن
حسان البكري.
* * *
وروى إبراهيم عن عبد الله بن قيس، عن حبيب بن عفيف، قال كنت مع أشرس بن
حسان البكري بالأنبار على مسلحتها، إذ صبحنا سفيان بن عوف في كتائب تلمع الابصار
منها، فهالونا والله، وعلمنا إذ رأيناهم أنه ليس لنا طاقة بهم ولا يد، فخرج إليهم صاحبنا
وقد تفرقنا فلم يلقهم نصفنا، وأيم الله لقد قاتلناهم فأحسنا قتالهم، حتى كرهونا، ثم نزل
صاحبنا وهو يتلو قوله تعالى: " فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا
تبديلا " (1). ثم قال لنا: من كان لا يريد لقاء الله، ولا يطيب نفسا بالموت، فليخرج عن
القرية ما دمنا نقاتلهم، فإن قتالنا إياهم شاغل لهم عن طلب هارب، ومن أراد ما عند الله
فما عند الله خير للأبرار. ثم نزل في ثلاثين رجلا، فهممت بالنزول معه، ثم أبت نفسي
واستقدم هو وأصحابه، فقاتلوا حتى قتلوا رحمهم الله، وانصرفنا نحن منهزمين.

(1) سورة الأحزاب 23.
87

قال إبراهيم: وقدم (1) علج من أهل الأنبار على علي ع، فأخبره الخبر، فصعد
المنبر فخطب الناس، وقال:
إن أخاكم البكري قد أصيب بالأنبار، وهو معتز لا يخاف ما كان، واختار ما عند الله
على الدنيا، فانتدبوا إليهم حتى تلاقوهم، فإن أصبتم منهم طرفا أنكلتموهم عن العراق
أبدا ما بقوا.
ثم سكت عنهم رجاء أن يجيبوه أو يتكلم منهم متكلم، فلم ينبس أحد منهم
بكلمة، فلما رأى صمتهم نزل، وخرج يمشي راجلا حتى أتى النخيلة، والناس يمشون
خلفه حتى أحاط به قوم من أشرافهم، فقالوا: ارجع يا أمير المؤمنين ونحن نكفيك،
فقال: ما تكفونني ولا تكفون أنفسكم. فلم يزالوا به حتى صرفوه إلى منزله، فرجع وهو
واجم كئيب، ودعا سعيد بن قيس الهمداني، فبعثه من النخيلة في ثمانية آلاف، وذلك أنه
أخبر أن القوم جاءوا في جمع كثيف.
فخرج سعيد بن قيس على شاطئ الفرات في طلب سفيان بن عوف، حتى إذا بلغ
عانات (2)، سرح أمامه هانئ بن الخطاب الهمداني، فاتبع آثارهم حتى دخل أداني أرض قنسرين وقد فاتوه، فانصرف.
قال: ولبث علي ع ترى فيه الكآبة والحزن حتى قدم عليه سعيد بن قيس،
وكان تلك الأيام عليلا، فلم يقو على القيام في الناس بما يريده من القول، فجلس بباب
السدة التي تصل إلى المسجد، ومعه إبناه حسن وحسين ع، وعبد الله بن جعفر،
ودعا سعدا مولاه، فدفع إليه الكتاب، وأمره أن يقرأه على الناس، فقام سعد بحيث
يستمع علي ع صوته، ويسمع ما يرد الناس عليه، ثم قرأ هذه الخطبة التي نحن
في شرحها.
* * *

(1) العلج: الرجل من كفار العجم.
(2) عانات: بلد بين الرقة وهيت قريبة من الأنبار.
88

وذكر أن القائم إليه، العارض نفسه عليه جندب بن عفيف الأزدي، هو وابن أخ له
يقال له: عبد الرحمن بن عبد الله بن عفيف.
قال: ثم أمر الحارث الأعور الهمداني، فنادى في الناس: أين من يشتري نفسه لربه
ويبيع دنياه بآخرته؟ أصبحوا غدا بالرحبة إن شاء الله، ولا يحضر إلا صادق النية في السير
معنا، والجهاد لعدونا. فأصبح وليس بالرحبة إلا دون ثلاثمائة، فلما عرضهم قال: لو كانوا
ألفا كان لي فيهم رأي.
وأتاه قوم يعتذرون، فقال: " وجاء المعذرون " (1)، وتخلف المكذبون، ومكث
أياما باديا حزنه شديد الكآبة، ثم جمع الناس فخطبهم فقال: أما بعد أيها الناس، فوالله
لأهل مصركم في الأمصار أكثر من الأنصار في العرب، وما كانوا يوم أعطوا رسول الله
ص أن يمنعوه ومن معه من المهاجرين حتى يبلغ رسالات ربه إلا قبيلتين،
قريبا مولدهما، ما هما بأقدم العرب ميلادا، ولا بأكثرهم عددا. فلما آووا النبي ص
وأصحابه، ونصروا الله ودينه، رمتهم العرب عن قوس واحدة، فتحالفت عليهم اليهود،
وغزتهم القبائل قبيلة بعد قبيلة، فتجردوا لنصرة دين الله، وقطعوا ما بينهم وبين العرب من
الحبائل، وما بينهم وبين اليهود من الحلف، ونصبوا لأهل نجد وتهامة وأهل مكة واليمامة،
وأهل الحزن والسهل، وأقاموا قناة الدين، وصبروا تحت حماس الجلاد، حتى دانت لرسول
الله ص العرب، ورأي منهم قرة العين قبل أن يقبضه الله عز وجل إليه، وأنتم اليوم
في الناس أكثر من أولئك ذلك الزمان في العرب.
فقام إليه رجل آدم طوال، فقال: ما أنت بمحمد، ولا نحن بأولئك الذين

(1) سورة التوبة.
89

ذكرت، فقال ع: أحسن سمعا تحسن إجابة! ثكلتكم الثواكل! ما تزيدونني
إلا غما هل! أخبرتكم أني محمد، وأنكم الأنصار! إنما ضربت لكم مثلا، وإنما أرجو
أن تتأسوا بهم.
ثم قام رجل آخر، فقال: ما أحوج أمير المؤمنين اليوم وأصحابه إلى أصحاب النهروان.
ثم تكلم الناس من كل ناحية ولغطوا، وقام رجل منهم فقال بأعلى صوته: استبان
فقد الأشتر على أهل العراق! أشهد لو كان حيا لقل اللغط، ولعلم كل امرئ ما يقول.
فقال علي ع: هبلتكم الهوابل! أنا أوجب عليكم حقا من الأشتر، وهل
للأشتر عليكم من الحق إلا حق المسلم على المسلم!
فقام حجر بن عدي الكندي وسعيد بن قيس الهمداني، فقالا لا يسوءك الله يا أمير
المؤمنين، مرنا بأمرك نتبعه، فوالله ما نعظم جزعا على أموالنا إن نفدت، ولا على عشائرنا
إن قتلت في طاعتك. فقال: تجهزوا للمسير إلى عدونا.
فلما دخل منزله ودخل عليه وجوه أصحابه، قال لهم: أشيروا على برجل صليب
ناصح، يحشر الناس من السواد. فقال له سعيد بن قيس: يا أمير المؤمنين، أشير عليك
بالناصح الأريب الشجاع الصليب معقل بن قيس التميمي، قال: نعم.
ثم دعاه فوجهه، فسار فلم يقدم حتى أصيب أمير المؤمنين ع
90

(28)
ومن خطبة له ع:
الأصل:
أما بعد فإن الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع، وإن الآخرة قد أقبلت
وأشرفت باطلاع (1) ألا وإن اليوم المضمار، وغدا السباق، والسبقة الجنة،
والغاية النار.
أفلا تائب من خطيئته قبل منيته! ألا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه!
ألا وإنكم في أيام أمل، من ورائه أجل، فمن عمل في أيام أمله قبل
حضور أجله، فقد نفعه عمله، ولم يضرره أجله. ومن قصر في أيام أمله قبل
حضور أجله، فقد خسر عمله، وضره أجله.
ألا فاعملوا في الرغبة، كما تعملون في الرهبة.
ألا وإني لم أر كالجنة نام طالبها، ولا كالنار نام هاربها.
ألا وإنه من لا ينفعه الحق، يضره الباطل، ومن لا يستقيم به الهدى، يجر به
الضلال إلى الردى.
ألا وإنكم قد أمرتم بالظعن، ودللتم على الزاد، وإن أخوف
ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الامل، فتزودوا في الدنيا من الدنيا ما تحرزون
به أنفسكم غدا.
* * *

(1) أ: " على اطلاع ".
91

قال الرضي رحمه الله:
وأقول: إنه لو كان كلام يأخذ بالأعناق إلى الزهد في الدنيا، ويضطر إلى
عمل الآخرة لكان هذا الكلام. لو كان كلام يأخذ بالأعناق إلى الزهد في الدنيا، ويضطر إلى
عمل الآخرة لكان هذا الكلام. وكفى به قاطعا لعلائق الآمال، وقادحا زناد
الاتعاظ والانزجار. ومن أعجبه قوله ع: " ألا وإن اليوم المضمار وغدا
السباق، والسبقة الجنة والغاية النار "، فإن فيه مع فخامة اللفظ، وعظم قدر المعنى،
وصادق التمثيل وواقع التشبيه، سرا عجيبا، ومعنى لطيفا، وهو قوله ع
" والسبقة الجنة والغاية النار "، فخالف بين اللفظين لاختلاف المعنيين،
ولم يقل السبقة النار كما قال: " السبقة الجنة " لان الاستباق إنما
يكون إلى أمر محبوب وغرض مطلوب، وهذه صفة الجنة، وليس هذا المعنى
موجودا في النار، نعوذ بالله منها! فلم يجز أن يقول: " والسبقة النار " بل قال:
" والغاية النار "، لان الغاية قد ينتهى إليها من لا يسره الانتهاء إليها، ومن يسره
ذلك فصلح أن يعبر بها عن الامرين معا، فهي في هذا الموضع كالمصير والمال،
قال الله تعالى: " فتمتعوا فإن مصيركم إلى النار "، ولا يجوز في هذا الموضع
أن يقال: فإن " سبقتكم (بسكون الباء) إلى النار ". فتأمل ذلك فباطنه عجيب،
وغوره بعيد لطيف، وكذلك أكثر كلامه ع.
وفي بعض النسخ، وقد جاء في رواية أخرى " والسبقة الجنة (1) " بضم السين،
والسبقة عندهم: اسم لما يجعل للسابق، إذا سبق من مال أو عرض، والمعنيان
متقاربان، لان ذلك لا يكون جزاء على فعل الامر المذموم، وإنما يكون جزاء
على فعل الامر المحمود
* * *

(1) وهي رواية مخطوطة النهج.
92

الشرح:
آذنت: أعلمت. والمضمار، منصوب، لأنه اسم " إن ". واليوم ظرف، وموضعه
رفع، لأنه خبر " إن "، وظرف الزمان يجوز أن يكون خبرا عن الحدث، والمضمار:
حدث، وهو الزمان الذي تضمر فيه الخيل للسباق، والضمر: الهزال وخفة اللحم. وإعراب
قوله: " وغدا السباق "، على هذا الوجه أيضا.
ويجوز الرفع في الموضعين على أن تجعلهما خبران بأنفسهما.
وقوله ع: " ألا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه " أخذه ابن نباتة مصالة (1)،
فقال في بعض خطبه: " ألا عامل لنفسه قبل حلول رمسه ".
قوله: " ألا فاعملوا في الرغبة "، يقول: لا ريب أن أحدكم إذا مسه الضر
من مرض شديد، أو خوف مقلق، من عدو قاهر، فإنه يكون شديد الاخلاص والعبادة
وهذه حال من يخاف الغرق في سفينة تتلاعب بها الأمواج، فهو ع أمر بأن يكون
المكلف عاملا أيام عدم الخوف
مثل عمله وإخلاصه، وانقطاعه إلى الله أيام
هذه العوارض.
قوله: " لم أر كالجنة نام طالبها "، يقول: إن من أعجب العجائب من يؤمن بالجنة
كيف يطلبها وينام!، ومن أعجب العجائب من يوقن بالنار، كيف لا يهرب منها وينام!
أي لا ينبغي أن ينام طالب هذه ولا الهارب من هذه.
وقد فسر الرضى رحمه الله تعالى معنى قوله: " والسبقة الجنة ".
(نبذ من أقوال الصالحين والحكماء)
ونحن نورد في هذا الفصل نكتا من مواعظ الصالحين يرحمهم الله، تناسب هذا المأخذ.
فمما يؤثر عن أبي حازم الأعرج - كان في أيام بني أمية - قوله لعمر بن عبد العزيز،

(1) المصالة في الأصل: ما قطر من الجرة ونحوها، وكذلك ما سال من ماء الأقط.
93

وقد قال له: يا أبا حازم، إني أخاف الله مما قد دخلت فيه، فقال: لست أخاف عليك أن
تخاف، وإنما أخاف عليك ألا تخاف.
وقيل له: كيف يكون الناس يوم القيامة؟ قال: أما العاصي فآبق قدم به على مولاه،
وأما المطيع فغائب قدم على أهله.
ومن كلامه: إنما بيني وبين الملوك يوم واحد، أما أمس فلا يجدون لذته، ولا أجد شدته،
وأما غدا فإني وإياهم منه على خطر، وإنما هو اليوم، فما عسى أن يكون!
ومن كلامه، إذا تتابعت عليك نعم ربك وأنت تعصيه فاحذره.
وقال له سليمان بن عبد الملك: عظني، فقال عظم ربك أن يراك حيث نهاك،
أو يفقدك حيث أمرك.
وقيل له: ما مالك؟ قال: شيئان لا عدم بي معهما: الرضى عن الله، والغنى
عن الناس.
ومن كلامه، عجبا لقوم يعملون لدار يرحلون عنها كل يوم مرحلة، ويتركون أن
يعملوا لدار يرحلون إليها كل يوم مرحلة!
ومن كلامه: إن عوفينا من شر ما أعطانا، لم يضرنا فقد ما زوي عنا.
ومن كلامه: نحن لا نريد أن نموت حتى نتوب، ونحن لا نتوب حتى نموت.
ولما ثقل عبد الملك رأى غسالا يلوي بيده ثوبا، فقال: وددت أني كنت غسالا
مثل هذا، أعيش بما أكتسب يوما فيوما، فذكر ذلك لأبي حازم، فقال: الحمد لله
الذي جعلهم عند الموت يتمنون ما نحن فيه، ولا نتمنى عند الموت ما هم فيه.
* * *
ومن كلام غيره من الصالحين: دخل سالم بن عبد الله بن عمر على هشام بن عبد الملك
94

في الكعبة، فكلمه هشام، ثم قال له: سل حاجتك قال: معاذ الله أن أسأل في بيت
الله غير الله.
وقيل لرابعة القيسية: لو كلمت أهلك أن يشتروا لك خادما يكفيك مؤنة بيتك!
قالت: إني لأستحي أن أسال الدنيا من يملكها، فكيف من لا يملكها!
وقال بكر بن عبد الله: أطفئوا نار الغضب بذكر نار جهنم.
عامر بن عبد القيس: الدنيا والدة للموت، ناقضة للمبرم، مرتجعة للعطية،
وكل من فيها يجري إلى ما لا يدري، وكل مستقر فيها غير راض بها، وذلك شهيد
على أنها ليست بدار قرار.
باع عتبة بن عبد الله بن مسعود أرضا له بثمانين ألفا، فتصدق بها، فقيل له:
لو جعلت هذا المال أو بعضه ذخرا لولدك! قال: بل أجعل هذا المال ذخرا لي، وأجعل الله
تعالى ذخرا لولدي.
رأى إياس بن قتادة شيبة في لحيته، فقال: أرى الموت يطلبني، وأراني لا أفوته.
فلزم بيته وترك الاكتساب. فقال له أهله: تموت هزالا، قال: لان أموت مؤمنا مهزولا
أحب إلي من أعيش منافقا سمينا.
بكر بن عبد الله المزني: ما الدنيا ليت شعري! أما ما مضى منها فحلم، وأما
ما بقي فأماني!
مورق العجلي: خير من العجب بالطاعة ألا تأتي بالطاعة.
ومن كلامه ضاحك: معترف بذنبه، خير من باك مدل على ربه.
ومن كلامه: أوحى الله إلى الدنيا: من خدمني فاخدميه، ومن خدمك فاستخدميه.
95

قيل لرابعة: هل عملت عملا ترين أنه يقبل منك؟ قالت إن كان فخوفي
أن يرد على.
نظر حبيب إلى مالك بن دينار، وهو يقسم صدقته علانية، فقال يا أخي، إن
الكنوز لتستر، فما بال هذا يجهر به!
قال عمرو بن عبيد للمنصور: إن الله أعطاك الدنيا بأسرها، فاشتر نفسك منه ببعضها،
وإن هذا الذي أصبح اليوم في يدك، لو كان مما يبقى على الناس لبقي في يد من كان
قبلك، ولم يصر إليك، فاحذر ليلة تمخض بيوم لا ترى بعده إلا يوم القيامة. فبكى
المنصور، وقال: يا أبا عثمان، سل حاجة، قال: حاجتي ألا تعطيني حتى أسألك،
ولا تدعني حتى أجيئك، قال: إذن لا نلتقي أبدا، قال: فذاك أريد.
كان يقال: الدنيا جاهلة، ومن جهلها، أنها لا تعطي أحدا ما يستحقه، إما أن
تزيده، وإما أن تنقصه.
قيل لخالد بن صفوان: من أبلغ الناس؟ قال: الحسن لقوله: فضح الموت الدنيا.
قيل لبعض الزهاد: كيف سخط نفسك على الدنيا؟ قال: أيقنت إني خارج منها
كرها، فأحببت أن أخرج منها طوعا.
مر إبراهيم بن أدهم بباب أبي جعفر المنصور، فنظر السلاح والحرس، فقال:
المريب خائف.
قيل لزاهد: ما أصبرك على الوحدة! قال: كلا، أنا أجالس ربي، إذا شئت
أن يناجيني قرأت كتابه، وإذا شئت أن أناجيه صليت.
كان يقال: خف الله لقدرته عليك: واستحي منه لقربه منك.
96

قال الرشيد (1) للفضيل بن عياض: ما أزهدك! قال: أنت يا هارون
أزهد مني، لأني زهدت في دنيا فانية، وزهدت في آخرة باقية.
وقال الفضيل: يا ربي، إني لأستحي أن أقول: توكلت عليك، لو توكلت عليك
ما خفت إلا منك، ولا رجوت إلا إياك.
عوتب بعض الزهاد على كثرة التصدق بماله، فقال: لو أراد رجل أن ينتقل من دار
إلى دار، ما أظنه كان يترك في الدار الأولى شيئا!
قال بعض الملوك لبعض الزهاد: ما لك لا تغشى بابي، وأنت عبدي! قال: لو علمت
أيها الملك، لعلمت أنك عبد عبدي، لأني أملك الهوى، والهوى يملكك.
دخل متظلم على سليمان بن عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين، أذكر يوم الاذان،
قال: وما يوم الاذان؟ قال: اليوم الذي قال تعالى فيه: " فأذن مؤذن بينهم أن لعنة
الله على الظالمين " (2)، فبكى سليمان وأزال ظلامته.
سئل الفضيل بن عياض عن الزهد، فقال: يجمعه حرفان في كتاب الله: " لكيلا
تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم " (3).
كتب يحيى بن خالد من الحبس إلى الرشيد: ما يمر يوم من نعيمك إلا ويمر يوم
من بؤسي، وكلاهما إلى نفاد.
قيل لحاتم الأصم: علام بنيت أمرك؟ قال: على أربع خصال: علمت أن رزقي
لا يأكله غيري فلم أهتم به، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به، وعلمت
أن الموت يأتيني بغتة فأنا أبادره، وعلمت أني بعين الله في كل حال فاستحييت منه.

(1) ب: " قال بعض الملوك "، وما أتيته من أ، ج.
(2) سورة الأعراف 44.
(3) سورة الحديد 23.
97

نظر بعض الصالحين إلى رجل يفحش في قوله، فقال: يا هذا إنما تملي على حافظيك
كتابا إلى ربك، فانظر ما تودعه.
كان يقال: مثل الدنيا والآخرة مثل ضرتين لبعل واحد، إن أرضى هذه أسخط الأخرى.
قيل لبعضهم: ما مثل الدنيا؟ قال هي أقل من أن يكون لها مثل.
دخل لص على بعض الزهاد الصالحين، فلم ير في داره شيئا، فقال له: يا هذا،
أين متاعك؟ قال: حولته إلى الدار الأخرى.
قيل للربيع بن خيثم: يا ربيع، ما نراك تذم أحدا! فقال: ما أنا عن نفسي براض،
فأتحول من ذمي إلى ذم الناس، إن الناس خافوا الله على ذنوب العباد وأمنوه
على ذنوبهم.
قال عيسى بن موسى لأبي شيبة القاضي: لم لا تأتينا؟ قال: إن قربتني فتنتني، وإن
أقصيتني أحزنتني، وليس عندي ما أخافك عليه، ولا عندك ما أرجوك له.
من كلام بعض الزهاد: تأمل ذا الغنى، ما أشد نصبه، وأقل راحته، وأخس من
ماله حظه، وأشد من الأيام حذره! هو بين سلطان يتهضمه، وعدو يبغي عليه، وحقوق
تلزمه، وأكفاء يحسدونه، وولد يود فراقه، قد بعث عليه غناه من سلطانه العنت، ومن
أكفائه الحسد، ومن أعدائه البغي، ومن ذوي الحقوق الذم، ومن الولد الملالة.
ومن كلام سفيان الثوري: يا بن آدم، جوارحك سلاح الله عليك، بأيها
شاء قتلك.
ميمون بن مهران في قوله تعالى: " ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون " (1)،
قال: إنها لتعزية للمظلوم، ووعيد للظالم.

(1) سورة إبراهيم 42.
98

دخل عبد الوارث بن سعيد على مريض يعوده، فقال له: ما نمت منذ أربعين ليله،
فقال: يا هذا، أحصيت ليالي البلاء، فهل أحصيت ليالي الرخاء!
بعضهم: وا عجباه لمن يفرح بالدنيا، فإنما هي عقوبة ذنب!
ابن السماك: خف الله حتى كأنك لم تطعه قط، وارجه حتى كأنك لم تعصه قط.
بعضهم: العلماء أطباء هذا الخلق، والدنيا داء هذا الخلق، فإذا كان الطبيب يطلب
الداء فمتى يبرئ غيره.
قيل لمحمد بن واسع: فلان زاهد، قال: وما قدر الدنيا حتى يحمد من يزهد فيها؟
رئي عبد الله بن المبارك واقفا بين مقبرة ومزبلة، فقيل له: ما أوقفك؟ قال
أنا بين
كنزين من كنوز الدنيا فيهما عبرة: هذا كنز الأموال، وهذا كنز الرجال.
قيل لبعضهم: أتعبت نفسك، فقال: راحتها أطلب.
دخل الإسكندر مدينة فتحها، فسأل عمن بقي من أولاد الملوك بها، فقيل: رجل يسكن
المقابر، فدعا به، فقال: ما دعاك إلى لزوم هذه المقابر؟ فقال: أحببت أن أميز بين عظام
الملوك، وعظام عبيدهم، فوجدتها سواء. فقال: هل لك أن تتبعني فأحيي شرفك وشرف
آبائك، إن كانت لك همة! قال: همتي عظيمة، قال: وما همتك؟ قال: حياة لا موت
معها، وشباب لا هرم معه، وغنى لا فقر معه، وسرور لا مكروه معه، فقال: ليس هذا
عندي، قال: فدعني التمسه ممن هو عنده.
مات ابن لعمر بن ذر، فقال: لقد شغلني الحزن لك يا بني عن الحزن عليك.
كان يقال: من هوان الدنيا على الله ألا يعصى إلا فيها، ولا ينال ما عنده
إلا بتركها.
ومن كلام عبد الله بن شداد: أرى دواعي الموت لا تقلع، وأرى من مضى لا يرجع،
99

فلا تزهدن في معروف، فإن الدهر ذو صروف. كم من راغب قد كان مرغوبا إليه! والزمان
ذو ألوان، من يصحب الزمان ير الهوان، وإن غلبت يوما على المال فلا تغلبن على الحيلة
على كل حال، وكن أحسن ما تكون في الظاهر حالا، أقل ما تكون في الباطن مآلا.
كان يقال: إن مما يعجل الله تعالى عقوبته: الأمانة تخان، والاحسان يكفر، والرحم
تقطع، والبغي على الناس.
الربيع بن خيثم: لو كانت الذنوب تفوح روائحها لم يجلس أحد إلى أحد.
قيل لبعضهم: كيف أصبحت؟ قال: آسفا على أمسي، كارها ليومي، متهما لغدي.
وقيل لآخر: لم تركت الدنيا؟ قال: أنفت من قليلها، وأنف مني كثيرها. وهذا كما
قال بعضهم، وقد قيل له: لم لا تقول الشعر؟ قال: يأباني جيده، وآبي رديئه.
بعض الصالحين: لو أنزل الله تعالى كتابا: إني معذب رجلا واحدا خفت أن أكونه،
أو إنه راحم رجلا واحدا، لرجوت أن أكونه.
مطرف بن الشخير: خير الأمور أوساطها، وشر السير الحقحقة (1). وهذا الكلام قد
روي مرفوعا.
يحيى بن معاذ: إن لله عليك نعمتين: في السراء التذكر، وفي الضراء التصبر،
فكن في السراء عبدا شكورا، وفي الضراء حرا صبورا.
دخل ابن السماك على الرشيد، فقال له: عظني، ثم دعا بماء ليشربه، فقال له: ناشدتك
الله لو منعك الله من شربه ما كنت فاعلا؟ قال: كنت أفتديه بنصف ملكي، قال: فاشربه،
فلما شرب، قال: ناشدتك الله! لو منعك الله من خروجه ما كنت فاعلا؟ قال: كنت أفتديه
بنصف ملكي، قال: إن ملكا يفتدى به شربة ماء، لخليق ألا ينافس عليه.
قال المنصور لعمرو بن عبيد رحمه الله تعالى: عظني، قال: بما رأيت أم بما سمعت؟

(1) الحقحقة: أرفع السير وأتعبه للظهر.
100

قال: بما رأيت، قال: رأيت عمر بن عبد العزيز، وقد مات، فخلف أحد عشر ابنا،
وبلغت تركته سبعة عشر دينارا، كفن منها بخمسة دنانير، واشتري موضع قبره بدينارين،
وأصاب كل واحد من ولده دون الدينار. ثم رأيت هشام بن عبد الملك، وقد مات
وخلف عشرة ذكور، فأصاب كل واحد من ولده الف ألف دينار. ورأيت رجلا من ولد
عمر بن عبد العزيز، قد حمل في يوم واحد على مائة فرس في سبيل الله، ورأيت رجلا من
ولد هشام، يسأل الناس ليتصدقوا عليه.
حسان بن أبي سنان: ما شئ أهون من ورع؟ إذا رابك شئ فدعه.
مورق العجلي: لقد سألت الله حاجة أربعين سنة، ما قضاها ولا يئست منها، قيل:
وما هي؟ قال: ترك ما لا يعنيني.
قتادة: إن الله ليعطي العبد على نية الآخرة ما يسأله من الدنيا، ولا يعطيه على نية
الدنيا إلا الدنيا.
من كلام محمد بن واسع: ليس في النار عذاب أشد على أهلها من علمهم بأنه ليس
لكربهم تنفيس، ولا لضيقتهم ترفيه، ولا لعذابهم غاية، وليس في الجنة نعيم أبلغ من
علم أهلها بأن ذلك الملك لا يزول عنهم.
قال بعض الملوك لبعض الزهاد: أذمم لي الدنيا، قال: أيها الملك، هي الآخذة لما
تعطي، المورثة بعد ذلك الندم، السالبة ما تكسو، المورثة بعد ذلك الفضوح، تسد
بالأراذل مكان الأفاضل وبالعجزة مكان الحزمة، تجد في كل من كل خلفا، وترضى
بكل من كل بدلا، تسكن دار كل قرن قرنا، وتطعم سؤر كل قوم قوما.
ومن كلام الحجاج - وكان مع غشمه وإلحاده واعظا بليغا مفوها - خطب فقال: اللهم
أرني الغي غيا فأتجنبه، وأرني الهدى هدى فأتبعه، ولا تكلني إلى نفسي فأضل
101

ضلالا بعيدا، والله ما أحب أن ما مضى من الدنيا بعمامتي هذه، ولما بقي منها أشبه بما
مضى من الماء بالماء.
وقال مالك بن دينار: غدوت إلى الجمعة، فجلست قريبا من المنبر، فصعد الحجاج، فسمعته
يقول: امرؤ زور عمله، امرؤ حاسب نفسه، امرؤ فكر فيما يقرؤه في صحيفته، ويراه
في ميزانه، امرؤ كان عند قلبه زاجر، وعند همه آمر، امرؤ أخذ بعنان قلبه، كما يأخذ الرجل
بخطام جمله، فإن قاده إلى طاعة الله تبعه، وإن قاده إلى معصية الله كفه، إننا والله ما خلقنا
للفناء، وإنما خلقنا للبقاء، وإنما ننتقل من دار إلى دار.
وخطب يوما، فقال: إن الله أمرنا بطلب الآخرة، وكفانا مئونة الدنيا، فليته
كفانا مئونة الآخرة، وأمرنا بطلب الدنيا. فقال الحسن: ضالة المؤمن خرجت من
قلب المنافق.
ومن الكلام المنسوب إليه - وأكثر الناس يروونه عن أمير المؤمنين ع: أيها الناس، اقدعوا هذه الأنفس، فإنها أسأل شئ إذا أعطيت، وأبخل لشئ إذا
سئلت، فرحم الله امرأ جعل لنفسه خطاما وزماما، فقادها بخطامها إلى طاعة الله،
وعطفها بزمامها عن معصية الله، فإني رأيت الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على
عذاب الله.
ومن كلامه: إن امرأ أتت عليه ساعة من عمره لم يذكر فيها ربه، ويستغفر
من ذنبه، ويفكر في معاده، لجدير أن يطول حزنه، ويتضاعف أسفه. إن الله كتب
على الدنيا الفناء، وعلى الآخرة البقاء، فلا بقاء لما كتب عليه الفناء، ولا فناء لما كتب
عليه البقاء، فلا يغرنكم شاهد الدنيا عن غائب الآخرة، واقهروا طول الامل
بقصر الاجل.
102

ونقلت من " أمالي " أبي أحمد العسكري رحمه الله تعالى، قال: خطب الحجاج
يوما، فقال: أيها الناس، قد أصبحتم في أجل منقوص، وعمل محفوظ. رب دائب
مضيع وساع لغيره. والموت في أعقابكم، والنار بين أيديكم، والجنة أمامكم، خذوا من
أنفسكم لأنفسكم، ومن غناكم لفقركم، ومما في أيديكم لما بين أيديكم، فكأن ما قد
مضى من الدنيا لم يكن، وكأن الأموات لم يكونوا أحياء، وكل ما ترونه فإنه ذاهب.
هذه شمس عاد وثمود وقرون كثيرة بين ذلك، هذه الشمس التي طلعت على التبابعة
والأكاسرة وخزائنهم السائرة بين أيديهم وقصورهم المشيدة، ثم طلعت على قبورهم!
أين الملوك الأولون! أين الجبابرة المتكبرون! المحاسب الله، والصراط منصوب، وجهنم
تزفر وتتوقد، وأهل الجنة ينعمون، في روضة يحبرون، جعلنا الله وإياكم من الذين،
" إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا " (1).
قال: فكان الحسن رحمه الله تعالى يقول: ألا تعجبون من هذا الفاجر، يرقى
عتبات المنبر فيتكلم بكلام الأنبياء، وينزل فيفتك فتك الجبارين! يوافق الله في قوله،
ويخالفه في فعله!
(استطراد بلاغي في الكلام على المقابلة)
وأما ما ذكره الرضي رحمه الله تعالى من المقابلة بين السبقة والغاية، فنكتة جيده
من علم البيان، ونحن نذكر فيها أبحاثا نافعة، فنقول:
إما أن مقابل الشئ ضده أو ما ليس بضده.
فالأول كالسواد والبياض، وهو قسمان: أحدهما: مقابله في اللفظ والمعنى.

(1) سورة الفرقان 73.
103

والثاني: مقابله في المعنى لا في اللفظ.
أما الأول، فكقوله تعالى: " فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا " (1)، فالضحك
ضد البكاء، والقليل ضد الكثير. وكذلك قوله تعالى: " لكيلا تأسوا على ما فاتكم
ولا تفرحوا بما آتاكم " (2). ومن كلام النبي ص: " خير المال عين
ساهرة لعين نائمة ". ومن كلام أمير المؤمنين ع لعثمان: إن الحق ثقيل مرئ،
وإن الباطل خفيف وبئ، وأنت رجل إن صدقت سخطت، وإن كذبت رضيت.
وكذلك قوله ع لما قالت الخوارج: لا حكم إلا لله: " كلمة حق أريد بها باطل ".
وقال الحجاج لسعيد بن جبير لما أراد قتله: ما اسمك؟ فقال: سعيد بن جبير، فقال:
بل شقي بن كسير.
* * *
وقال ابن الأثير في كتابه المسمى ب‍ " المثل السائر ": إن هذا النوع من المقابلة
غير مختص بلغه العرب، فإنه لما مات قباذ أحد ملوك الفرس قال وزيره:
حركنا بسكونه.
وفي أول كتاب الفصول لبقراط في الطب: العمر قصير والصناعة طويلة، وهذا الكتاب
على لغة اليونان (3).
قلت: أي حاجة به إلى هذا التكلف! وهل هذه الدعوى من الأمور التي يجوز
إن يعتري الشك والشبهة فيها، ليأتي بحكاية مواضع من غير كلام العرب يحتج بها! أليس
كل قبيلة وكل أمة لها لغة تختص بها! أليس الألفاظ دلالات على ما في الأنفس

(1) سورة التوبة 82.
(2) سورة الحديد 23.
(3) المثل السائر 2: 280، من فصل عقده للتناسب بين المعاني.
104

من المعاني! فإذا خطر في النفس كلام يتضمن أمرين ضدين فلا بد لصاحب ذلك الخاطر -
سواء أكان عربيا أو فارسيا أو زنجيا أو حبشيا - أن ينطق بلفظ يدل على تلك المعاني المتضادة،
وهذا أمر يعم العقلاء كلهم، على أن تلك اللفظة التي قالها، ما قيلت في موت قباذ،
وإنما قيلت في موت الإسكندر، لما تكلمت الحكماء وهم حول تابوته بما تكلموا به
من الحكم.
* * *
ومما جاء من هذا القسم من المقابلة في الكتاب العزيز قوله تعالى في صفة الواقعة: " خافضة رافعة " (1)، لأنها تخفض العاصين، وترفع المطيعين.
وقوله تعالى: " فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من
قبله العذاب " (2).
وقوله: " أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين (3).
ومن هذا الباب قول النبي ص للأنصار: " إنكم لتكثرون عند
الفزع وتقلون عند الطمع ".
ومما جاء من ذلك في الشعر قول الفرزدق يهجو قبيله جرير:
يستيقظون إلى نهيق حميرهم * وتنام أعينهم عن الأوتار (4)
وقال آخر:
فلا الجود يفني المال والجد مقبل * ولا البخل يبقي المال والجد مدبر (5)

(1) سورة الواقعة 3.
(2) سورة الحديد 13.
(3) سورة المائدة 54.
(4) ديوانه: 45، وروايته: " إلى نهاق حميرهم ".
(5) في المثل السائر 2 283 من غير نسبة.
105

وقال أبو تمام:
ما إن ترى الأحساب بيضا وضحا * إلا بحيث ترى المنايا سودا (1).
(وكذلك قال من هذه القصيدة أيضا) (2):
شرف على أولى الزمان وإنما * خلق المناسب ما يكون جديدا (3).
وإما القسم الثاني من القسم الأول، وهو مقابلة الشئ بضده بالمعنى لا باللفظ،
فكقول المقنع الكندي:
لهم جل مالي إن تتابع لي غنى * وإن قل مالي لا أكلفهم رفدا (4).
فقوله: " إن تتابع لي غنى " في قوة قوله: " إن كثر مالي "، والكثرة ضد القلة،
فهو إذن مقابل بالمعنى لا باللفظ بعينه.
ومن هذا الباب قول البحتري:
تقيض لي من حيث لا أعلم النوى * ويسري إلي الشوق من حيث أعلم (5).
فقوله: " لا أعلم " ليس ضدا لقوله: " أعلم "، لكنه نقيض له، وفي قوة قوله:
" أجهل "، والجهل ضد العلم.
ومن لطيف ما وقعت المقابلة به من هذا النوع قول أبي تمام:
بها الوحش إلا أن هاتا أوانس * قنا الخط إلا أن تلك ذوابل (6)

(1) ديوانه 1: 423.
(2) تكملة من كتاب المثل السائر.
(3) ديوانه 1: 419.
(4) ديوان الحماسة - بشرح المرزوقي 2: 1180.
(5) ديوانه 3: 116، قال الصولي في شرحه يقول: هن كبقر الوحش في تهاديهن وحسن عيونهن،
وهن كقنا الخط في القد، إلا أن القنا ذوابل، وهن طراء، وقيل للقنا: ذوابل، لأنها تلين عند الطعن
فلا تنكسر.
106

فقابل بين " هاتا " وبين " تلك "، وهي مقابلة معنوية لا لفظية، لان " هاتا "
للحاضرة، و " تلك " للغائبة، والحضور ضد الغيبة.
وإما مقابلة الشئ لما ليس بضده، فإما أن يكون مثلا أو مخالفا.
والأول على ضربين: مقابلة المفرد بالمفرد، ومقابلة الجملة بالجملة.
مثال مقابلة المفرد بالمفرد قوله تعالى: " نسوا الله فأنساهم أنفسهم " (1)، وقوله:
" ومكروا مكرا ومكرنا مكرا " (2)، هكذا قال نصر الله بن الأثير.
قال: وهذا مراعى في القرآن الكريم إذا كان جوابا كما تقدم من الآيتين، وكقوله:
" وجزاء سيئة سيئة مثلها " (3)، وقوله: " من كفر فعليه كفره " (4).
قال: وقد كان يجوز إن يقول: " من كفر فعليه ذنبه "، لكن الأحسن هو إعادة
اللفظ، فأما إذا كان غير جواب لم تلزم فيه هذه المراعاة اللفظية، بل قد تقابل اللفظة بلفظة
تفيد معناها، وإن لم تكن هي بعينها، نحو قوله تعالى: " ووفيت كل نفس ما عملت
وهو أعلم بما يفعلون " (5)، فقال: " يفعلون " ولم يقل " يعملون ".
وكذلك قوله تعالى: " ففزع منهم قالوا لا تخف " (6)، ولم يقل: " قالوا
لا تفزع ".
وكذلك قوله تعالى: " إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم
تستهزئون " (7)، ولم يقل: " كنتم تخوضون وتلعبون ".

(1) سورة الحشر 19.
(2) سورة النمل 50.
(3) سورة الشورى 40.
(4) سورة الروم 44.
(5) سورة الزمر 70.
(6) سورة ص 22.
(7) سورة التوبة 65.
107

قال: ونحو ذلك من الأبيات الشعرية قول أبي تمام:
بسط الرجاء لنا برغم نوائب * كثرت بهن مصارع الآمال (1)
فقال: " الآمال " عوض " الرجاء " قال أبو الطيب:
إني لأعلم واللبيب خبير * أن الحياة - وإن حرصت - غرور (2)
فقال: " خبير " ولم يقل: " عليم ".
قال: وإنما حسن ذلك، لأنه ليس بجواب، وإنما هو كلام مبتدأ.
قلت: الصحيح أن هذه الآيات، وهي قوله تعالى: " نسوا الله فأنساهم أنفسهم "
وما شابهها ليست من باب المقابلة التي نحن في ذكرها، وأنها نوع آخر، ولو سميت:
المماثلة أو المكافأة لكان أولى، والدليل على ذلك أن هذا الرجل حد المقابلة في أول الباب
الذي ذكر هذا البحث فيه، فقال: إنها ضد التجنيس، لان التجنيس أن يكون اللفظ
واحدا مختلف المعنى، وهذه لا بد أن تتضمن معنيين ضدين، وإن كان التضاد مأخوذا في
حدها، فقد خرجت هذه الآيات من باب المقابلة، وكانت نوعا آخر.
وأيضا فإن قوله تعالى: " ومكروا مكرا ومكرنا مكرا " ليس من سلك
الآيات الأخرى، لأنه بالواو، والآيات الأخرى، بالفاء، والفاء جواب، والواو ليست بجواب.
وأيضا فإنا إذا تأملنا القرآن العزيز لم نجد ما ذكره هذا الرجل مطردا، قال تعالى:
" أما من استغنى. فأنت له تصدى. وما عليك ألا يزكى. وأما من جاءك يسعى. وهو
يخشى. فأنت عنه تلهى) (3)، فلم يقل في الثانية: " وأما من جاءك يسعى. وهو فقير ".
وقال تعالى: " فأما من أعطى واتقى. وصدق بالحسنى. فسنيسره لليسرى. وأما من

(1) ديوانه 3: 151.
(2) ديوانه 2: 128.
(3) سورة عبس 5 - 10.
108

بخل واستغنى. وكذب بالحسنى. فسنيسره للعسرى " (1)، فقابل بين " أعطى " و " بخل "
ولم يقابل بين " اتقى " و " استغنى "، ومثل هذا في القرآن العزيز كثير، وأكثر
من الكثير.
وقد بان الآن أن التقسيم الأول فاسد، وأنه لا مقابلة إلا بين الأضداد وما يجري مجراها.
وأما مقابلة الجملة بالجملة في تقابل المتماثلين، فإنه إذا كانت إحداهما في معنى الأخرى
وقعت المقابلة، والأغلب أن تقابل الجملة الماضية بالماضية، والمستقبلة بالمستقبلة.
وقد تقابل الجملة الماضية بالمستقبلة، فمن ذلك قوله تعالى: " قل إن ضللت فإنما أضل
على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي " (2)، فإن هذا تقابل من جهة المعنى، لأنه لو
كان من جهة اللفظ لقال: " وإن اهتديت فإنما أهتدي لها ".
ووجه التقابل المعنوي هو أن كل ما على النفس فهو بها، أعني كل ما هو عليها وبال
وضرر فهو منها وبسببها، لأنها الامارة بالسوء، وكل ما لها مما
ينفعها فهو بهداية ربها
وتوفيقه لها.
ومن ذلك قوله تعالى: " ألم يروا إنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار
مبصرا " (3)، فإنه لم يراع التقابل اللفظي، ولو راعاه لقال: والنهار ليبصروا فيه، وإنما
المراعاة لجانب المعنى، لان معنى " مبصرا " ليبصروا فيه طرق التقلب في الحاجات.
وأما مقابلة المخالف، فهو على وجهين:
أحدهما: أن يكون بين المقابل والمقابل نوع مناسبة وتقابل، كقول القائل:
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة * ومن إساءة أهل السوء إحسانا.

(1) سورة الليل 5 - 10.
(2) سورة سبأ 50.
(3) سورة النمل 86.
(4) لأنيف بن قريط العنبري من أبيات في ديوان الحماسة - بشرح المرزوقي 1: 22.
109

فقابل الظلم بالمغفرة، وهي مخالفة له، ليست مثله ولا ضده، وإنما الظلم ضد العدل،
إلا أنه لما كانت المغفرة قريبة من العدل حسنت المقابلة بينها وبين الظلم، ونحو هذا قوله
تعالى: " أشداء على الكفار رحماء بينهم " (1)، فإن الرحمة ليست ضدا للشدة، وإنما
ضد الشدة اللين، إلا أنه لما كانت الرحمة سببا للين حسنت المقابلة بينها وبين الشدة.
وكذلك قوله تعالى: " إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا " (2)،
فإن المصيبة أخص من السيئة، فالتقابل هاهنا من جهة العموم والخصوص.
الوجه الثاني: ما كان بين المقابل والمقابل بعد، وذلك مما لا يحسن استعماله، كقول
امرأة من العرب لابنها، وقد تزوج بامرأة غير محمودة:
تربص بها الأيام عل صروفها * سترمي بها في جاحم متسعر (3)
فكم من كريم قد مناه إلهه * بمذمومة الأخلاق واسعه الحر.
ف‍ " مذمومة " ليست في مقابلة " واسعة "، ولو كانت قالت: " بضيقة الأخلاق "، كانت
المقابلة صحيحة، والشعر مستقيما. وكذلك قول المتنبي:
لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها * سرور محب أو مساءة مجرم! (4)
فالمقابلة الصحيحة بين المحب والمبغض، لا بين المحب والمجرم.
قلت: إن لقائل أن يقول: هلا قلت في هذا ما قلت في السيئة والمصيبة! ألست
القائل إن: التقابل حسن بين المصيبة والسيئة، لكنه تقابل العموم والخصوص! وهذا
الموضع مثله أيضا، لان كل مبغض لك مجرم إليك، لان مجرد البغضة جرم، ففيهما
عموم وخصوص.
بل لقائل أن يقول: كل مجرم مبغض، وكل مبغض مجرم، وهذا صحيح مطرد.

(1) سورة الفتح 29.
(2) سورة التوبة 50.
(3) من أبيات نسبها أبو تمام في الحماسة إلى أم القحيف. شرح التبريزي (4: 34) والجاحم: النار
الشديدة التأجج.
(4) ديوانه 4: 141.
110

(29)
الأصل:
من خطبة له ع:
أيها الناس، المجتمعة أبدانهم، المختلفة أهواؤهم كلامكم يوهي الصم
الصلاب، وفعلكم يطمع فيكم الأعداء.
تقولون في المجالس: كيت وكيت، فإذا جاء القتال قلتم: حيدي حياد!
ما عزت دعوة من دعاكم، ولا استراح قلب من قاساكم، أعاليل بأضاليل،
دفاع ذي الدين المطول. لا يمنع الضيم الذليل، ولا يدرك الحق إلا بالجد.
أي دار بعد داركم تمنعون! ومع أي إمام بعدي تقاتلون! المغرور والله من
غررتموه، ومن فاز بكم فقد فاز والله بالسهم الأخيب، ومن رمى بكم فقد
رمى بأفوق ناصل.
أصبحت والله لا أصدق قولكم، ولا أطمع في نصركم، ولا أوعد
العدو بكم.
ما بالكم؟ ما دواؤكم؟ ما طبكم؟ القوم رجال أمثالكم.
أقولا بغير علم! وغفلة من غير ورع! وطمعا في غير حق!
* * *
الشرح
حيدي حياد، كلمة يقولها الهارب الفار، وهي نظيرة قولهم: " فيحي فياح " (1)،

(1) في اللسان: فياح مثل قطام: اسم للغارة، وكان يقال للغارة في الجاهلية: فيحي فياح، وذلك إذا
دفعت الخيل المغيرة فاتسعت.
111

أي اتسعي، وصمي صمام، للداهية (1). وأصلها من حاد عن الشئ، أي انحرف،
وحياد، مبنية على الكسر، وكذلك ما كان من بابها، نحو قولهم: بدار، أي ليأخذ
كل واحد قرنه. وقولهم: خراج في لعبة للصبيان، أي اخرجوا.
والباء في قوله: " بأضاليل " متعلقة ب‍ " أعاليل " نفسها، أي يتعللون بالأضاليل
التي لا جدوى لها.
والسهم الأفوق: المكسور الفوق، وهو مدخل الوتر. والناصل: الذي لا نصل
فيه يخاطبهم، فيقول لهم: أبدانكم مجتمعة وأهواؤكم مختلفة، متكلمون بما هو في الشدة
والقوة يوهي الجبال الصم الصلبة، وعند الحرب يظهر أن ذلك الكلام لم يكن له ثمرة.
تقولون في المجالس: كيت وكيت، أي سنفعل وسنفعل، وكيت وكيت كناية
عن الحديث، كما كنى بفلان عن العلم، ولا تستعمل إلا مكرره، وهما مخففان من " كيه "
وقد استعملت على الأصل، وهي مبنية على الفتح. وقد روى أئمة العربية فيها
الضم والكسر أيضا.
فإذا جاء القتال فررتم وقلتم الفرار الفرار.
ثم أخذ في الشكوى، فقال: من دعاكم لم تعز دعوته، ومن قاساكم لم يسترح قلبه.
دأبكم التعلل بالأمور الباطلة، والأماني الكاذبة. وسألتموني الارجاء وتأخر الحرب
كمن يمطل بدين لازم له. والضيم لا يدفعه الذليل، ولا يدرك الحق إلا بالجد فيه
والاجتهاد وعدم الانكماش.
وباقي الفصل ظاهر المعنى.

(1) صمي صمام، أي زيدي.
112

وقوله: " القوم رجال أمثالكم " مثل قول الشاعر:
قاتلوا القوم يا خزاع ولا * يدخلكم من قتالهم فشل
القوم أمثالكم لهم شعر * في الرأس لا ينشرون إن قتلوا.
* * *
وهذه الخطبة خطب بها أمير المؤمنين ع في غارة الضحاك بن قيس، ونحن نقص ها هنا:
(غارة الضحاك بن قيس ونتف من أخباره)
روى إبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال الثقفي في كتاب " الغارات " قال:
كانت غارة الضحاك بن قيس بعد الحكمين، وقبل قتال النهروان، وذلك أن معاوية
لما بلغه أن عليا ع بعد واقعة الحكمين تحمل إليه مقبلا، هاله ذلك، فخرج
من دمشق معسكرا، وبعث إلى كور الشام، فصاح بها (1): إن عليا قد سار إليكم. وكتب
إليهم نسخة واحدة، فقرئت على الناس.
أما بعد، فإنا كنا كتبنا كتابا بيننا وبين علي، وشرطنا فيه شروطا، وحكمنا رجلين
يحكمان علينا وعليه بحكم الكتاب لا يعدوانه، وجعلنا عهد الله وميثاقه على من نكث
العهد ولم يمض الحكم، وإن حكمي الذي كنت حكمته أثبتني، وإن حكمه خلعه،
وقد أقبل إليكم ظالما، " فمن نكث فإنما ينكث على نفسه " (2)، تجهزوا للحرب
بأحسن الجهاز، وأعدوا آله القتال، وأقبلوا خفافا وثقالا يسرنا الله وإياكم لصالح الأعمال!

(1) ب: " فيها ".
(2) سورة الفتح 10.
113

فاجتمع إليه الناس من كل كوره (1) وأرادوا المسير إلى صفين، فاستشارهم، وقال:
إن عليا قد خرج من الكوفة، وعهد العاهد به أنه فارق النخيلة (2).
فقال حبيب بن مسلمة: فإني أرى أن نخرج حتى ننزل منزلنا الذي كنا فيه، فإنه منزل
مبارك، وقد متعنا الله به وأعطانا من عدونا فيه النصف.
وقال عمرو بن العاص: إني أرى لك أن تسير بالجنود حتى توغلها في سلطانهم من أرض
الجزيرة، فإن ذلك أقوى لجندك، وأذل لأهل حربك. فقال معاوية: والله إني لأعرف
أن الذي تقول كما تقول، ولكن الناس لا يطيقون ذلك. قال عمرو: إنها أرض رفيقة،
فقال معاوية: إن جهد الناس أن يبلغوا منزلهم الذي كانوا به - يعني صفين.
فمكثوا يجيلون الرأي يومين أو ثلاثة، حتى قدمت عليهم عيونهم: أن عليا اختلف
عليه أصحابه ففارقته منهم فرقة أنكرت أمر الحكومة، وأنه قد رجع عنكم إليهم.
فكبر الناس سرورا لانصرافه عنهم، وما ألقى الله عز وجل من الخلاف بينهم. فلم يزل
معاوية معسكرا في مكانه، منتظرا لما يكون من علي وأصحابه، وهل يقبل بالناس أم لا؟
فما برح حتى جاء الخبر أن عليا قد قتل أولئك الخوارج، وأنه أراد بعد قتلهم أن يقبل
بالناس، وأنهم استنظروه ودافعوه، فسر بذلك هو ومن قبله من الناس.
قال: وروى ابن أبي سيف (3)، عن يزيد بن يزيد بن جابر، عن عبد الرحمن بن مسعدة
الفزاري قال: جاءنا كتاب عمارة بن عقبة بن أبي معيط، وكان بالكوفة مقيما،
ونحن معسكرون مع معاوية، نتخوف أن يفرغ علي من الخوارج ثم يقبل إلينا، ونحن
نقول: إن أقبل إلينا كان أفضل المكان الذي نستقبله به، المكان الذي لقيناه فيه
العام الماضي. فكان في كتاب عمارة بن عقبة: أما بعد: فإن عليا خرج عليه قراء

(1) الكورة: كل صقع يشتمل على عدة قرى، ولا بد لتلك القرى من قصبة أو مدينة أو نهر، يجمع
اسمها. معجم البلدان 1: 36.
(2) النخيلة: موضع قرب الكوفة.
(3) كذا في أ، ج، وفي ب: " سفيان ".
114

أصحابه ونساكهم، فخرج إليهم فقتلهم، وقد فسد عليه جنده وأهل مصره، ووقعت بينهم
العداوة، وتفرقوا أشد الفرقة، وأحببت إعلامك لتحمد الله والسلام.
قال عبد الرحمن بن مسعدة: فقرأه معاوية على وجه أخيه عتبة، وعلى الوليد
بن عقبة، وعلى أبي الأعور السلمي، ثم نظر إلى أخيه عتبة وإلى الوليد بن عقبة، وقال
للوليد: لقد رضي أخوك أن يكون لنا عينا. فضحك الوليد وقال: إن في ذلك
أيضا لنفعا.
وروى أبو جعفر الطبري قال: كان عمارة مقيما بالكوفة بعد قتل عثمان، لم يهجه
علي ع ولم يذعره، وكان يكتب إلى معاوية بالاخبار سرا.
ومن شعر الوليد لأخيه عمارة يحرضه:
إن يك ظني في عمارة صادقا * ينم ثم لا يطلب بذحل ولا وتر (1)
يبيت وأوتار ابن عفان عنده * مخيمة بين الخورنق فالقصر
تمشى رخي البال مستشزر القوى * كأنك لم تسمع بقتل أبي عمرو (2)
ألا إن خير الناس بعد ثلاثة * قتيل التجيبي الذي جاء من مصر (3)
قال: فأجابه الفضل بن العباس بن عبد المطلب:
أتطلب ثأرا لست منه ولا له * وما لابن ذكوان الصفوري والوتر (4)

(1) تاريخ الطبري 5: 151، مع اختلاف في الرواية وترتيب الأبيات. والوتر والذحل: الثأر.
(2) لم يذكره في الطبري، ومستشزر القوى: مستحكم، وأصله في الحبل المفتول.
(3) التجيبي، هو كنانة بن بشر بن عتاب الرياحي، أحد قتلة عثمان، قال الطبري: " ضرب كنانة بن
بشر جبينه ومقدم رأسه بعمود حديد، فخر لجبينه " (6: 132).
(4) الطبري:
* وأين ابن ذكوان الصفوري من عمرو *
115

كما افتخرت بنت الحمار بأمها * وتنسى أباها إذ تسامى أولو الفخر (1)
ألا إن خير الناس بعد نبيهم * وصي النبي المصطفى عند ذي الذكر (2)
وأول من صلى وصنو نبيه * وأول من أردى الغواة لدى بدر (3)
أما معنى قوله: " وما لابن ذكوان الصفوري "، فإن الوليد هو ابن عقبة
بن أبي معيط بن أبي عمرو، واسمه ذكوان بن أمية بن عبد شمس. وقد ذكر جماعة
من النسابين أن ذكوان كان مولى لأمية بن عبد شمس،
فتبناه وكناه أبا عمرو،
فبنوه موال وليسوا من بني أمية لصلبه. والصفوري: منسوب إلى صفورية قرية
من قرى الروم.
* * *
قال إبراهيم بن هلال الثقفي: فعند ذلك دعا معاوية الضحاك بن قيس الفهري،
وقال له: سر حتى تمر بناحية الكوفة وترتفع عنها ما استطعت، فمن وجدته من
الاعراب في طاعة علي ع فأغر عليه، وإن وجدت له مسلحة (4) أو خيلا
فأغر عليها، وإذا أصبحت في بلدة فأمس في أخرى، وجدت له مسلحة (4) أو خيلا
فأغر عليها، وإذا أصبحت في بلدة فأمس في أخرى، ولا تقيمن لخيل بلغك أنها
قد سرحت إليك لتلقاها فتقاتلها. فسرحه فيما بين ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف.
فأقبل الضحاك، فنهب الأموال وقتل من لقي من الاعراب، حتى مر بالثعلبية (5)

(1) رواية الطبري:
كما اتصلت بنت الحمار بأمها * وتنسى أباها إذ تسامى أولي الفخر
(2) الطبري: " بعد محمد ".
(3) بعده في الطبري:
فلو رأت الأنصار ظلم ابن عمكم * لكانوا له من ظلمه حاضري النصر
كفى ذاك عيبا أن يشيروا بقتله * وأن يسلموه للأحابيش من مصر
(4) المسلحة هنا: القوم ذوو سلاح.
(5) الثعلبية: من منازل طريق مكة إلى الكوفة.
116

فأغار على الحاج، فأخذ أمتعتهم، ثم أقبل فلقي عمرو بن عميس بن مسعود الذهلي، وهو
ابن أخي عبد الله بن مسعود، صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله، فقتله في طريق الحاج
عند القطقطانة (1). وقتل معه ناسا من أصحابه.
قال: فروى إبراهيم بن مبارك البجلي عن أبيه، عن بكر بن عيسى، عن أبي روق،
قال: حدثني أبي، قال: سمعت عليا عليه السلام، وقد خرج إلى الناس، وهو يقول
على المنبر:
يا أهل الكوفة، اخرجوا إلى العبد الصالح عمرو بن عميس، وإلى جيوش لكم
قد أصيب منهم طرف، اخرجوا فقاتلوا عدوكم، وامنعوا حريمكم إن كنتم فاعلين.
فردوا عليه ردا ضعيفا، ورأي منهم عجزا وفشلا، فقال: والله لوددت أن لي
بكل ثمانية منكم رجلا منهم! ويحكم اخرجوا معي، ثم فروا عني ما بدا لكم، فوالله
ما أكره لقاء ربي على نيتي وبصيرتي، وفي ذلك روح لي عظيم، وفرج من مناجاتكم
ومقاساتكم. ثم نزل.
فخرج يمشي حتى بلغ الغريين، ثم دعا حجر بن عدي الكندي، فعقد له على
أربعة آلاف.
وروى محمد بن يعقوب الكليني، قال: استصرخ أمير المؤمنين عليه السلام الناس عقيب
غارة الضحاك بن قيس الفهري على أطراف أعماله، فتقاعدوا عنه، فخطبهم، فقال: ما عزت
دعوة من دعاكم، ولا استراح قلب من قاساكم... الفصل إلى آخره.
* * *
قال إبراهيم الثقفي: فخرج حجر بن عدي حتى مر بالسماوة - وهي أرض كلب -

(1) القطقطانة: بالضم ثم السكون: موضع قرب الكوفة من جهة البرية بالطف.
117

فلقي بها امرأ القيس بن عدي بن أوس بن جابر بن كعب بن عليم الكلبي - وهم أصهار
الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام - فكانوا أدلاءه في الطريق وعلى المياه
فلم يزل مغذا في أثر الضحاك، حتى لقيه بناحية تدمر، فواقعه فاقتتلوا ساعة، فقتل من
أصحاب الضحاك تسعة عشر رجلا، وقتل من أصحاب حجر رجلان، وحجز الليل بينهم. فمضى الضحاك، فلما أصبحوا لم يجدوا له ولأصحابه أثرا. وكان الضحاك يقول بعد: أنا ابن قيس، أنا أبو أنيس! أنا قاتل عمرو بن عميس.
* * *
قال: وكتب في أثر هذه الوقعة عقيل بن أبي طالب إلى أخيه أمير المؤمنين عليه
السلام، حين بلغه خذلان أهل الكوفة وتقاعدهم به:
لعبد الله علي أمير المؤمنين عليه السلام. من عقيل بن أبي طالب. سلام عليك،
فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإن الله حارسك من كل سوء،
وعاصمك من كل مكروه، وعلى كل حال، إني قد خرجت إلى مكة معتمرا، فلقيت
عبد الله بن سعد بن أبي سرح في نحو من أربعين شابا من أبناء الطلقاء، فعرفت
المنكر في وجوههم، فقلت: إلى أين يا أبناء الشانئين! أبمعاوية تلحقون! عداوة والله
منكم قديما غير مستنكرة، تر يدون بها إطفاء نور الله، وتبديل أمره. فأسمعني القوم
وأسمعتهم، فلما قدمت مكة، سمعت أهلها يتحدثون أن الضحاك بن قيس أغار على الحيرة، فاحتمل من أموالها ما شاء، ثم انكفأ راجعا سالما. فأف لحياة في دهر جرأ عليك الضحاك!
وما الضحاك! فقع بقرقر (1)! وقد توهمت حيث بلغني ذلك أن شيعتك و أنصارك خذلوك،
فاكتب إلى يا بن أمي برأيك فإن كنت الموت تريد، تحملت إليك ببني أخيك،

(1) القرقر: المستوية، والفقع: ضرب من أردأ الكمأة، يقال للرجل الذليل: هو فقع قرقر،
لان الدواب تنجله بأرجلها.
118

وولد أبيك، فعشنا معك ما عشت، ومتنا معك إذا مت، فوالله ما أحب أن أبقى في الدنيا
بعدك فواقا.
وأقسم بالأعز الاجل، إن عيشا نعيشه بعدك في الحياة لغير هنئ ولا مرئ ولا نجيع،
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
* * *
فكتب إليه عليه السلام: من عبد الله علي أمير المؤمنين: إلى عقيل
بن أبي طالب. سلام الله عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد:
كلانا الله وإياك كلاءة من يخشاه بالغيب، إنه حميد مجيد. قد وصل إلي كتابك
مع عبد الرحمن بن عبيد الأزدي، تذكر فيه أنك لقيت عبد الله بن سعد بن أبي سرح
مقبلا من قديد (1) في نحو من أربعين فارسا من أبناء الطلقاء، متوجهين إلى جهة الغرب، وإن ابن أبي سرح طالما كاد الله ورسوله وكتابه، وصد عن سبيله وبغاها عوجا، فدع
ابن أبي سرح، ودع عنك قريشا، وخلهم وتركاضهم في الضلال، وتجوالهم في الشقاق.
ألا وإن العرب قد أجمعت على حرب أخيك اليوم إجماعها على حرب رسول الله صلى الله
عليه وآله قبل اليوم، فأصبحوا قد جهلوا حقه، وجحدوا فضله، وبادروه العداوة، ونصبوا
له الحرب، وجهدوا عليه كل الجهد، وجروا إليه جيش الأحزاب. اللهم فاجز قريشا عني
الجوازي (2)! فقد قطعت رحمي، وتظاهرت علي، ودفعتني عن حقي، وسلبتني سلطان
ابن أمي، وسلمت ذلك إلى من ليس مثلي في قرابتي من الرسول، وسابقتي في الاسلام!
إلا أن يدعي مدع ما لا أعرفه، ولا أظن الله يعرفه، والحمد لله على كل حال.
فأما ما ذكرته من غارة الضحاك على أهل الحيرة، فهو أقل وأزل من أن يلم بها

(1) قديد: موضع قرب مكة.
(2) الجوازي: جمع جازية، وهي المكافأة على الشئ.
119

أو يدنو منها، ولكنه قد كان أقبل في جريدة خيل، على السماوة، حتى مر بواقصة (1)
وشراف (2) والقطقطانة، مما والى ذلك الصقع، فوجهت إليه جندا كثيفا من المسلمين،
فلما بلغه ذلك فر هاربا، فأتبعوه فلحقوه ببعض الطريق وقد أمعن، وكان ذلك حين
طفلت (3) الشمس للإياب، فتناوشوا القتال قليلا كلا ولا (4)، فلم يصبر لوقع المشرفية (5)، وولى هاربا، وقتل من أصحابه بضعة عشر رجلا، ونجا جريضا (6) بعد ما أخذ منه بالمخنق،
فلأيا بلأى ما نجا. فأما ما سألتني أن أكتب لك برأيي فيما أنا فيه، فإن رأيي جهاد
المحلين حتى ألقى الله، لا يزيدني كثرة الناس معي عزة، ولا تفرقهم عني وحشة، لأنني محق
والله مع المحق، ووالله ما أكره الموت على الحق، وما الخير كله إلا بعد الموت لمن كان محقا.
وأما ما عرضت به من مسيرك إلي ببنيك وبنى أبيك فلا حاجة لي في ذلك، فأقم
راشدا محمودا، فوالله ما أحب أن تهلكوا معي إن هلكت، ولا تحسبن ابن أمك
- ولو أسلمه الناس - متخشعا ولا متضرعا إنه لكما قال أخو بني سليم (7):
فإن تسأليني كيف أنت فإنني * صبور على ريب الزمان صليب
يعز علي أن تري بي كآبة * فيشمت عاد أو يساء حبيب.
* * *
قال إبراهيم بن هلال الثقفي: وذكر محمد بن مخنف أنه سمع الضحاك بن قيس
بعد ذلك بزمان يخطب على منبر الكوفة، وقد كان بلغه أن قوما من أهلها يشتمون عثمان

(1) واقصة: منزل في طريق مكة.
(2) إشراف، بفتح أوله: موضع قريب من واقصة في طريق مكة أيضا.
(3) طفلت الشمس: مالت إلى الغروب.
(4) قال في اللسان: العرب إذا أرادوا تقليل مدة فعل قالوا: كان فعله كلا، وربما كرروا فقالوا:
كلا ولا (20: 375).
(5) المشرفية: السيوف، منسوبة إلى مشارف الشام، قرى من أرض العرب تدنو من الريف.
(6) جريضا: مجهودا يكاد يقضي.
(7) هو صخر بن الشريد السلمي.
120

ويبرأون منه، فسمعته يقول: بلغني أن رجالا منكم ضلالا يشتمون أئمة الهدى،
ويعيبون أسلافنا الصالحين، أما والذي ليس له ند ولا شريك، لئن لم تنتهوا عما يبلغني
عنكم، لأضعن فيكم سيف زياد، ثم لا تجدونني ضعيف السورة (1)، ولا كليل الشفرة.
أما إني لصاحبكم الذي أغرت على بلادكم، فكنت أول من غزاها في الاسلام، وشرب
من ماء الثعلبية ومن شاطئ الفرات، أعاقب من شئت، وأعفو عمن شئت، لقد ذعرت
المخدرات (2) في خدورهن، وإن كانت المرأة ليبكي ابنها فلا ترهبه ولا تسكته إلا بذكر اسمي.
فاتقوا الله يا أهل العراق، أنا الضحاك بن قيس، أنا أبو أنيس، أنا قاتل عمرو بن عميس!
فقام إليه عبد الرحمن بن عبيد، فقال: صدق الأمير وأحسن القول، ما أعرفنا والله
بما ذكرت! ولقد لقيناك بغربي تدمر، فوجدناك شجاعا مجربا صبورا. ثم جلس،
وقال: أيفخر علينا بما صنع ببلادنا أول ما قدم. وأيم الله لأذكرنه أبغض مواطنه إليه.
قال: فسكت الضحاك قليلا، وكأنه خزي واستحيا، ثم قال: نعم كان ذلك اليوم! فاخذه
بكلام ثقيل، ثم نزل.
قال محمد بن مخنف: فقلت لعبد الرحمن بن عبيد - أو قيل له: لقد اجترأت حين
تذكره هذا اليوم، وتخبره أنك كنت فيمن لقيه! فقال: لن يصيبنا إلا ما كتب
الله لنا.
قال: وسأل الضحاك عبد الرحمن بن عبيد حين قدم الكوفة، فقال: لقد رأيت
منكم بغربي تدمر رجلا ما كنت أرى أن في الناس مثله، حمل علينا، فما كذب حتى
ضرب الكتيبة التي أنا فيها، فلما ذهب ليولي حملت عليه، فطعنته، فوقع ثم قام

(1) السورة: الشدة.
(2) المخدرة: المرأة في الخدر، وهو ستر يمد في ناحية البيت.
121

فلم يضره شيئا، ثم لم يلبث أن حمل علينا في الكتيبة التي أنا فيها، فصرع رجلا
ثم ذهب لينصرف، فحملت عليه فضربته على رأسه بالسيف، فخيل إلي أن سيفي
قد ثبت في عظم رأسه، فضربني، فوالله ما صنع سيفه شيئا، ثم ذهب فظننت
إنه لن يعود، فوالله ما راعني إلا وقد عصب رأسه بعمامة، ثم أقبل نحونا فقلت: ثكلتك
أمك! أما نهتك الأوليان عن الاقدام علينا؟ قال: إنهما لم تنهياني، إنما أحتسب هذا في
سبيل الله. ثم حمل ليطعنني، فطعنته وحمل أصحابه علينا، فانفصلنا، وحال الليل بيننا،
فقال له عبد الرحمن: هذا يوم شهده هذا - يعني ربيعة بن ماجد - وهو فارس الحي،
وما أظنه يخفى أمر هذا الرجل، فقال له: أتعرفه؟ قال: نعم، قال: من هو؟ قال: أنا، قال:
فأرني الضربة التي برأسك، فأراه فإذا هي ضربة قد برت العظم منكرة، فقال له: فما
رأيك اليوم؟ أهو كرأيك يومئذ! قال: رأيي اليوم رأي الجماعة، قال: فما عليكم
من بأس، أنتم آمنون ما لم تظهروا خلافا، ولكن العجب كيف نجوت من زياد لم يقتلك
فيمن قتل، أو يسيرك فيمن سير! فقال: أما التسيير فقد سيرني، وأما القتل فقد
عافانا الله منه!
* * *
قال إبراهيم الثقفي: وأصاب الضحاك في هربه من حجر عطش شديد، وذلك لان
الجمل الذي كان عليه ماؤه ضل فعطش، وخفق برأسه خفقتين لنعاس أصابه، فترك الطريق
وانتبه، وليس معه إلا نفر يسير من أصحابه، وليس منهم أحد معه ماء، فبعث رجالا منهم
في جانب يلتمسون الماء ولا أنيس، فكان الضحاك بعد ذلك يحكي، قال: فرأيت جادة
فلزمتها، فسمعت قائلا يقول:
دعاني الهوى فازددت شوقا وربما * دعاني الهوى من ساعة فأجيب
وأرقني بعد المنام وربما * أرقت لساري الهم حين يئوب
122

فإن أك قد أحببتكم ورأيتكم * فإني بداري عامر لغريب (1)
قال: وأشرف علي رجل فقلت: يا عبد الله، أسقني ماء، فقال: لا والله، حتى تعطيني
ثمنه، قلت: وما ثمنه! قال: ديتك، قلت: أما ترى عليك من الحق أن تقري الضيف،
فتطعمه وتسقيه! قال: ربما فعلنا وربما بخلنا، قال: فقلت: والله ما أراك فعلت خيرا قط،
أسقني، قال: ما أطيق، قلت: فإني أحسن إليك وأكسوك، قال: لا والله لا أنقص شربة
من مائة دينار، فقلت له: ويحك! اسقني، فقال: ويحك! أعطني، قلت: لا والله ما هي
معي، ولكنك تسقيني، ثم تنطلق معي أعطيكها، قال: لا والله، قلت: اسقني وأرهنك
فرسي حتى أوفيكها، قال: نعم، ثم خرج بين يدي واتبعته، فأشرفنا على أخبية وناس
على ماء، فقال لي: مكانك حتى آتيك، فقلت: بل أجئ معك، قال: وساءه حيث
رأيت الناس والماء، فذهب يشتد حتى دخل بيتا، ثم جاء بماء في إناء، فقال: اشرب، فقلت:
لا حاجة لي فيه، ثم دنوت من القوم، فقلت: أسقوني ماء، فقال شيخ لابنته: اسقيه،
فقامت ابنته فجاءت بماء ولبن، فقال ذلك الرجل: نجيتك من العطش، وتذهب بحقي! والله لا أفارقك حتى أستوفي منك حقي، فقلت: إجلس حتى أوفيك. فجلس، فنزلت
فأخذت الماء واللبن من يد الفتاة، فشربت واجتمع إلي أهل الماء، فقلت لهم: هذا
ألام الناس! فعل بي كذا وكذا! وهذا الشيخ خير منه وأسدى، استسقيته فلم يكلمني
وأمر ابنته فسقتني، وهو الآن يلزمني بمائة دينار. فشتمه أهل الحي، ووقعوا به، ولم يكن
بأسرع من أن لحقني قوم من أصحابي، فسلموا علي بالإمرة، فارتاب الرجل وجزع،
وذهب يريد أن يقوم، فقلت: والله لا تبرح حتى أوفيك المائة، فجلس ما يدري ما الذي
أريد به! فلما كثر جندي عندي سرحت إلي ثقلي (2)، فأتيت به، ثم أمرت بالرجل فجلد
مائة جلده، ودعوت الشيخ وابنته فأمرت لهما بمائة دينار وكسوتهما، وكسوت أهل الماء

(1) داري: واد لبني عامر. القاموس.
(2) الثقل: متاع المسافر.
123

ثوبا ثوبا، وحرمته. فقال: أهل الماء: كان أيها الأمير أهلا لذلك، وكنت لما أتيت من
خير أهلا.
فلما رجعت إلى معاوية، وحدثته عجب، وقال: لقد رأيت في سفرك هذا عجبا.
ويذكر أهل النسب أن قيسا أبا الضحاك بن قيس كان يبيع عسب الفحول (1)
في الجاهلية
* * *
ورووا أن عقيلا رحمه الله تعالى، قدم على أمير المؤمنين، فوجده جالسا في صحن المسجد
بالكوفة، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته - وكان عقيل قد كف
بصره - فقال: وعليك السلام يا أبا يزيد، ثم التفت إلى ابنه الحسن عليه السلام، فقال:
قم فأنزل عمك، فقام فأنزله، ثم عاد فقال: اذهب فاشتر لعمك قميصا جديدا، ورداء
جديدا، وإزارا جديدا، ونعلا جديدا، فذهب فاشترى له، فغدا عقيل على علي عليه السلام
في الثياب، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، قال: وعليك السلام يا أبا يزيد، قال:
يا أمير المؤمنين، ما أراك أصبت من الدنيا شيئا، وإني لا ترضى نفسي من خلافتك بما
رضيت به لنفسك، فقال: يا أبا يزيد، يخرج عطائي فأدفعه إليك.
فلما ارتحل عن أمير المؤمنين عليه السلام أتى معاوية فنصبت له كراسيه، وأجلس
جلساءه حوله، فلما ورد عليه أمر له بمائة ألف فقبضها، ثم غدا عليه يوما بعد ذلك، وبعد وفاة
أمير المؤمنين علي عليه السلام، وبيعة الحسن لمعاوية، وجلساء معاوية حوله، فقال: يا أبا يزيد،
أخبرني عن عسكري وعسكر أخيك، فقد وردت عليهما، قال: أخبرك، مررت والله

(1) العسب هنا: ماء الفحل.
124

بعسكر أخي، فإذا ليل كليل رسول الله صلى الله عليه وآله، ونهار كنهار رسول الله صلى
الله عليه وآله، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وآله ليس في القوم، ما رأيت إلا مصليا،
ولا سمعت إلا قارئا. ومررت بعسكرك، فاستقبلني قوم من المنافقين ممن نفر برسول الله
ليلة العقبة، ثم قال: من هذا عن يمينك يا معاوية؟ قال: هذا عمرو بن العاص، قال: هذا
الذي اختصم فيه ستة نفر، فغلب عليه جزار قريش: فمن الآخر؟ قال: الضحاك بن قيس
الفهري قال: أما والله لقد كان أبوه جيد الاخذ لعسب التيوس، فمن هذا الآخر؟ قال أبو موسى
الأشعري، قال: هذا ابن السراقة، فلما رأى معاوية أنه قد أغضب جلساءه، علم أنه
إن استخبره عن نفسه، قال فيه سوءا، فأحب أن يسأله ليقول فيه ما يعلمه من السوء، فيذهب
بذلك غضب جلسائه، قال: يا أبا يزيد، فما تقول في؟ قال: دعني من هذا! قال: لتقولن،
قال: أتعرف حمامة؟ قال: ومن حمامة يا أبا يزيد؟ قال: قد أخبرتك، ثم قام فمضى،
فأرسل معاوية إلى النسابة، فدعاه، فقال: من حمامة؟ قال ولي الأمان! قال: نعم، قال:
حمامة جدتك أم أبي سفيان، كانت بغيا في الجاهلية صاحبة راية، فقال معاوية لجلسائه:
قد ساويتكم وزدت عليكم فلا تغضبوا.
125

(30)
ومن خطبة له عليه السلام في معنى قتل عثمان:
الأصل:
لو أمرت به لكنت قاتلا، أو نهيت عنه لكنت ناصرا، غير أن من نصره
لا يستطيع أن يقول: خذله من أنا خير منه، ومن خذله لا يستطيع أن يقول:
نصره من هو خير مني. وأنا جامع لكم أمره، استأثر فأساء الأثرة، وجزعتم
فأسأتم الجزع، ولله حكم واقع في المستأثر والجازع.
* * *
الشرح:
هذا الكلام بظاهره يقتضي أنه ما أمر بقتله، ولا نهى عنه، فيكون دمه عنده في
حكم الأمور المباحة التي لا يؤمر بها، ولا ينهى عنها. غير أنه لا يجوز أن يحمل الكلام
على ظاهره، لما ثبت من عصمة دم عثمان. وأيضا فقد ثبت في السير والاخبار أنه كان عليه
السلام ينهى الناس عن قتله، فإذن يجب أن يحمل لفظ النهي على المنع كما يقال: الأمير
ينهى عن نهب أموال الرعية، أي يمنع، وحينئذ يستقيم الكلام لأنه عليه السلام ما أمر
بقتله ولا منع عن قتله، وإنما كان ينهى عنه باللسان ولا يمنع عنه باليد.
فإن قيل: فالنهي عن المنكر واجب، فهلا منع من قتله باليد؟
قيل: إنما يجب المنع باليد عن المنكر إذا كان حسنا، وإنما يكون الانكار حسنا
126

إذا لم يغلب على ظن الناهي عن المنكر أن نهيه لا يؤثر، فإن غلب على ظنه أن نهيه
لا يؤثر، قبح إنكار المنكر، لأنه إن كان الغرض تعريف فاعل القبيح قبح
ما أقدم عليه، فذلك حاصل من دون الانكار وإن كان الغرض ألا يقع المنكر،
فذلك غير حاصل، لأنه قد غلب على ظنه أن نهيه وإنكاره لا يؤثر، ولذلك
لا يحسن من الانسان الانكار على أصحاب المآصر (1) ما هم عليه من أخذ المكوس،
لما غلب على الظن أن الانكار لا يؤثر، وهذا يقتضي أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام
قد غلب على ظنه أن إنكاره لا يؤثر، فلذلك لم ينكر.
ولأجل اشتباه هذا الكلام على السامعين، قال كعب بن جعيل، شاعر أهل الشام
الأبيات التي منها (2):
أرى الشام تكره أهل العراق * وأهل العراق لهم كارهونا (3)
وكل لصاحبه مبغض * يرى كل ما كان من ذاك دينا
إذا ما رمونا رميناهم * ودناهم مثل ما يقرضونا (4)
وقالوا علي إمام لنا * فقلنا رضينا ابن هند رضينا
وقالوا نرى أن تدينوا لنا * فقلنا ألا لا نرى أن ندينا (5)
ومن دون ذلك خرط القتاد * وطعن وضرب يقر العيونا (6)

(1) المآصر: المواضع المعدة لحبس المارة عن المسير لاخذ العشور.
(2) الأبيات في وقعة صفين 62، 64، وأورد المبرد في الكامل (4 - 212 - بشرح المرصفي)
الستة الأبيات الأولى منها، وقال: " وفي آخر هذا الشعر ذم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه أمسكنا
عن ذكره ".
(3) وقعة صفين " والكامل ": " ملك العراق ".
(4) دناهم: من الدين، وهو القرض: ويقرضونا، حذفت النون من غير ناصب ولا جازم، وهو جائز
في العربية، وانظر خزانة الأدب (3: 525 - 526).
(5) هذه رواية ابن أبي الحديد، وهو توافق رواية المبرد، وفي صفين:
وقلنا نرى أن تدينوا لنا * فقالوا لنا لا نرى أن ندينا
(6) قال المبرد: " وأحسن الروايتين: يفض الشئونا ".
127

وكل يسر بما عنده * يرى غث ما في يديه سمينا
وما في علي لمستعتب * مقال سوى ضمه المحدثينا
وإيثاره اليوم أهل الذنوب * ورفع القصاص عن القاتلينا
إذا سيل عنه حذا شبهة * وعمى الجواب على السائلينا (1)
فليس براض ولا ساخط * ولا في النهاة ولا الآمرينا
ولا هو ساء ولا سره * ولا بد من بعض ذا أن يكونا
وهذا شعر خبيث منكر، ومقصد عميق، وما قال هذا الشعر إلا بعد أن نقل إلى
أهل الشام كلام كثير لأمير المؤمنين عليه السلام في عثمان يجري هذا المجرى، نحو
قوله: ما سرني ولا ساءني. وقيل له: أرضيت بقتله؟ فقال: لم أرض، فقيل له: أسخطت
قتله؟ فقال: لم أسخط. وقوله تارة: الله قتله وأنا معه، وقوله تارة أخرى: ما قتلت عثمان
ولا مالأت في قتله. وقوله تارة أخرى: كنت رجلا من المسلمين أوردت إذ أوردوا،
وأصدرت إذ أصدروا.
ولكل شئ من كلامه إذا صح عنه تأويل يعرفه أولو الألباب.
فأما قوله: " غير أن من نصره "، فكلام معناه أن خاذليه كانوا خيرا من
ناصريه، لان الذين نصروه كان أكثرهم فساقا، كمروان بن الحكم وأضرابه، وخذله
المهاجرون والأنصار.
فأما قوله: " وأنا جامع لكم أمره... " إلى آخر الفصل، فمعناه أنه فعل ما لا يجوز،
وفعلتم ما لا يجوز، أما هو فاستأثر فأساء الأثرة، أي استبد بالأمور فأساء في الاستبداد، وأما
أنتم فجزعتم مما فعل أي حزنتم فأسأتم الجزع، لأنكم قتلتموه، وقد كان الواجب عليه أن

(1) حذا: أعطى، وفي صفين: " حدا "، أي ساق.
128

يرجع عن استئثاره، وكان الواجب عليكم ألا تجعلوا جزاءه عما أذنب القتل، بل الخلع
والحبس وترتيب غيره في الإمامة.
ثم قال: ولله حكم سيحكم به فيه وفيكم.
(اضطراب الامر على عثمان ثم أخبار مقتله)
ويجب أن نذكر في هذا الموضع ابتداء اضطراب الامر على عثمان إلى إن قتل.
وأصح ما ذكر في ذلك ما أورده أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في " التاريخ " (1).
وخلاصة ذلك أن عثمان أحدث أحداثا مشهورة نقمها الناس عليه، من تأمير بني
أمية، ولا سيما الفساق منهم وأرباب السفه وقلة الدين، وإخراج مال الفئ إليهم،
وما جرى في أمر عمار وأبي ذر وعبد الله بن مسعود، وغير ذلك من الأمور التي جرت في
أواخر خلافته. ثم اتفق أن الوليد بن عقبة لما كان عامله على الكوفة وشهد عليه بشرب
الخمر، صرفه وولى سعيد بن العاص مكانه، فقدم سيعد الكوفة، واستخلص من أهلها
قوما يسمرون عنده، فقال سعيد يوما: إن السواد بستان لقريش وبني أمية. فقال الأشتر
النخعي: وتزعم أن السواد الذي أفاءه الله على المسلمين بأسيافنا بستان لك ولقومك!
فقال صاحب شرطته: أترد على الأمير مقالته! وأغلظ له، فقال الأشتر لمن كان حوله من
النخع وغيرهم من أشراف الكوفة: ألا تسمعون! فوثبوا عليه بحضرة سعيد فوطئوه
وطأ عنيفا، وجروا برجله، فغلظ ذلك على سعيد، وأبعد سماره فلم يأذن بعد لهم، فجعلوا
يشتمون سعيدا في مجالسهم، ثم تعدوا ذلك إلى شتم عثمان، واجتمع إليهم ناس كثير،
حتى غلظ أمرهم، فكتب سعيد إلى عثمان في أمرهم، فكتب إليه أن يسيرهم إلى الشام،
لئلا يفسدوا أهل الكوفة، وكتب إلى معاوية وهو والي الشام: إن نفرا من أهل الكوفة

(1) في حوادث 33 - 35، مع تصرف واختصار في جميع ما أورده في هذا الفصل.
129

قد هموا بإثارة الفتنة، وقد سيرتهم إليك، فانههم، فإن آنست منهم رشدا فأحسن إليهم،
وارددهم إلى بلادهم.
فلما قدموا على معاوية - وكانوا: الأشتر، ومالك بن كعب الأرحبي، والأسود بن
يزيد النخعي، وعلقمة بن قيس النخعي، وصعصعة بن صوحان العبدي، وغيرهم - جمعهم
يوما، وقال لهم: إنكم قوم من العرب، ذوو أسنان وألسنة، وقد أدركتم بالاسلام شرفا،
وغلبتم الأمم، وحويتم مواريثهم، وقد بلغني أنكم ذممتم قريشا، ونقمتم على الولاة فيها،
ولولا قريش لكنتم أذلة، إن أئمتكم لكم جنة، فلا تفرقوا عن جنتكم، إن أئمتكم
ليصبرون لكم على الجور، ويحتملون منكم (1) العقاب، والله لتنتهن أو ليبتلينكم الله بمن
يسومكم الخسف، ولا يحمدكم على الصبر، ثم تكونون شركاءهم فيما جررتم على الرعية في حياتكم، وبعد وفاتكم.
فقال له صعصعة بن صوحان: أما قريش فإنها لم تكن أكثر العرب ولا أمنعها
في الجاهلية، وإن غيرها من العرب لأكثر منها كان وامنع.
فقال معاوية: إنك لخطيب القوم، ولا أرى لك عقلا، وقد عرفتكم الآن، وعلمت
أن الذي أغراكم قلة العقول. أعظم عليكم أمر الاسلام فتذكرني الجاهلية! أخزى الله
قوما عظموا أمركم! إفقهوا عني ولا أظنكم تفقهون، إن قريشا لم تعز في جاهلية ولا
إسلام إلا بالله وحده، لم تكن بأكثر العرب ولا أشدها، ولكنهم كانوا أكرمهم
أحسابا، وأمحضهم (2) أنسابا، وأكملهم مروءة، ولم يمتنعوا في الجاهلية - والناس يأكل
بعضهم بعضا - إلا بالله، فبوأهم حرما آمنا يتخطف الناس من حولهم. هل تعرفون عربا
أو عجما، أو سودا أو حمرا إلا وقد أصابهم الدهر في بلدهم وحرمهم، إلا ما كان من قريش،
فإنه لم يردهم أحد من الناس بكيد إلا جعل الله خده الأسفل، حتى أراد الله تعالى أن
يستنقذ من أكرمه باتباع دينه من هوان الدنيا، وسوء مرد الآخرة، فارتضى لذلك خير

(1) كذا في أ، ج، وفي ب: " فيكم ".
(2) يقال: عربي محض، أي خالص النسب.
130

خلقه، ثم ارتضى له أصحابا، وكان خيارهم قريشا. ثم بنى هذا الملك عليهم، وجعل هذه
الخلافة فيهم، فلا يصلح الامر إلا بهم، وقد كان الله يحوطهم في الجاهلية وهم على كفرهم،
أفتراه لا يحوطهم وهم على دينه! أف لك ولأصحابك! أما أنت يا صعصعة، فإن قريتك شر
القرى! أنتنها نبتا، وأعمقها واديا، وألأمها جيرانا، وأعرفها بالشر، لم يسكنها شريف
قط ولا وضيع إلا سب بها، نزاع الأمم وعبيد فارس. وأنت شر قومك! أحين أبرزك
الاسلام، وخلطك بالناس، أقبلت تبغي دين الله عوجا، وتنزع إلى الغواية! إنه لن
يضر ذلك قريشا ولا يضعهم، ولا يمنعهم من تأدية ما عليهم، إن الشيطان عنكم لغير
غافل، قد عرفكم بالشر، فأغراكم بالناس، وهو صارعكم، وإنكم لا تدركون بالشر
أمرا إلا فتح عليكم شر منه وأخزى. قد أذنت لكم فاذهبوا حيث شئتم، لا ينفع الله
بكم أحدا أبدا ولا يضره، ولستم برجال منفعة ولا مضرة، فإن أردتم النجاة، فالزموا
جماعتكم ولا تبطرنكم النعمة، فإن البطر لا يجر خيرا. اذهبوا حيث شئتم، فسأكتب
إلى أمير المؤمنين فيكم.
وكتب إلى عثمان:
إنه قدم علي قوم ليست لهم عقول ولا أديان، أضجرهم العدل، لا يريدون الله بشئ،
ولا يتكلمون بحجة، إنما همهم الفتنة، والله مبتليهم ثم فاضحهم، وليسوا بالذين نخاف
نكايتهم، وليسوا الأكثر ممن له شغب ونكير.
ثم أخرجهم من الشام (1).
* * *
وروى أبو الحسن المدائني: أنه كان لهم مع معاوية بالشام مجالس طالت فيها المحاورات
والمخاطبات بينهم، وأن معاوية قال لهم في جملة ما قاله: إن قريشا قد عرفت أن أبا سفيان

(1) تاريخ الطبري 5: 87 - 88.
131

كان أكرمها وابن أكرمها، إلا ما جعل الله لنبيه صلى الله عليه، فإنه انتجبه (1)
وأكرمه، ولو أن أبا سفيان ولد الناس كلهم لكانوا حلماء (2).
فقال له صعصعة بن صوحان: كذبت! قد ولدهم خير من أبي سفيان! من خلقه الله
بيده، ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا له، فكان فيهم البر والفاجر،
والكيس والأحمق (3).
* * *
قال: ومن المجالس التي دارت بينهم، أن معاوية قال لهم: أيها القوم ردوا خيرا
أو اسكتوا، وتفكروا وانظروا فيما ينفعكم والمسلمين، فاطلبوه وأطيعوني.
فقال له صعصعة: لست بأهل ذلك! ولا كرامة لك أن تطاع في معصية الله.
فقال: إن أول كلام ابتدأت به أن أمرتكم بتقوى الله وطاعة رسوله، وأن تعتصموا
بحبل الله جميعا ولا تفرقوا (4).
فقالوا: بل أمرت بالفرقة وخلاف ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله.
فقال: إن كنت فعلت فإني الآن أتوب، وآمركم بتقوى الله وطاعته، ولزوم
الجماعة، وأن توقروا أئمتكم وتطيعوهم.
فقال صعصعة: إن كنت تبت فإنا نأمرك أن تعتزل عملك (5)، فإن في المسلمين من
هو أحق به منك، ممن كان أبوه أحسن أثرا في الاسلام من أبيك، وهو أحسن قدما في
الاسلام منك.
فقال معاوية: إن لي في الاسلام لقدما، وإن كان غيري أحسن قدما مني، لكنه

(1) انتجبه: اصطفاه واختاره، وفي الطبري: " انتخبه ".
(2) عبارة الطبري: " ولو ولد الناس لم يلد إلا حازما ".
(3) الطبري 5: 89.
(4) في الأصول: " فقال " وصوابه من الطبري.
(5) كذا في أ، ج، وفي ب: " أمرك ".
132

ليس في زماني أحد أقوى على ما أنا فيه مني، ولقد رأى عمر بن الخطاب ذلك، فلو كان
غيري أقوى مني لم يكن عند عمر هوادة لي ولا لغيري، ولم أحدث (1) ما ينبغي له أن أعتزل
عملي، فلو رأى ذلك أمير المؤمنين لكتب إلي (بخط يده) (2) فاعتزلت عمله، فمهلا
فإن في دون ما أنتم فيه ما يأمر فيه الشيطان وينهى. ولعمري لو كانت الأمور تقضى
على رأيكم و أهوائكم، ما استقام الامر لأهل الاسلام يوما ولا ليلة، فعاودوا الخير وقولوه،
فإن الله ذو سطوات، وإني خائف عليكم أن تتابعوا إلى مطاوعة الشيطان ومعصية الرحمن.
فيحلكم ذلك دار الهون في العاجل والآجل.
فوثبوا على معاوية فأخذوا برأسه ولحيته، فقال: مه إن هذه ليست بأرض الكوفة،
والله لو رأى أهل الشام ما صنعتم بي (وأنا إمامهم) (2) ما ملكت أن أنهاهم عنكم حتى
يقتلوكم، فلعمري إن صنيعكم يشبه بعضه بعضا.
ثم قام من عندهم، وكتب إلى عثمان في أمرهم (3)، فكتب إليه إن ردهم إلى سعيد
بن العاص بالكوفة. فردهم، فأطلقوا ألسنتهم في ذمه وذم عثمان وعيبهما. فكتب إليه عثمان
أن يسيرهم إلى حمص، إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فسيرهم إليها (4).
* * *

(1) ب. " ولا حدث ".
(2) من الطبري.
(3) ذكر الطبري كتاب معاوية إلى عثمان، وهذا نصه: " بسم الله الرحمن الرحيم. لعبد الله عثمان أمير
المؤمنين من معاوية بن أبي سفيان، أما بعد، يا أمير المؤمنين، فإنك بعثت إلي أقواما يتكلمون بألسنة
الشياطين وما يملون عليهم، ويأتون الناس - زعموا - من قبل القرآن، فيشبهون على الناس، وليس كل
الناس يعلم ما يريدون، وإنما يريدون فرقة، ويقربون فتنة، قد أثقلهم الاسلام وأضجرهم، وتمكنت
رقى الشيطان من قلوبهم: فقد أفسدوا كثيرا من الناس ممن كانوا بين ظهرانيهم من أهل الكوفة، ولست
آمن إن أقاموا وسط أهل الشام أن يغروهم بسحرهم وفجورهم، فارددهم إلى مصرهم، فلتكن دارهم في
مصرهم الذي نجم فيه نفاقهم، والسلام ".
(4) الطبري 5: 89 - 90.
133

وروى الواقدي، قال: لما سير بالنفر الذين طردهم عثمان عن الكوفة إلى حمص - وهم:
الأشتر، وثابت بن قيس الهمداني، وكميل بن زياد النخعي، وزيد بن صوحان، وأخوه
صعصعة، وجندب (1) بن زهير الغامدي، وجندب (1) بن كعب الأزدي، وعروة بن الجعد،
وعمرو بن الحمق الخزاعي، وابن الكواء - جمعهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، بعد أن
أنزلهم أياما، وفرض لهم طعاما، ثم قال لهم: يا بني الشيطان، لا مرحبا بكم ولا أهلا، قد رجع
الشيطان محسورا، وأنتم بعد في بساط ضلالكم وغيكم! جزى الله عبد الرحمن إن لم يؤذكم!
يا معشر من لا أدري أعرب هم أم عجم! أتراكم تقولون لي ما قلتم لمعاوية! أنا ابن خالد
بن الوليد! أنا ابن من عجمته العاجمات، أنا ابن فاقئ عين الردة، والله يا بن صوحان
لأطيرن بك طيرة بعيدة المهوى، إن بلغني أن أحدا ممن معي دق أنفك فأقنعت (2) رأسك.
قال: فأقاموا عنده شهرا، كلما ركب أمشاهم معه، ويقول لصعصعة: يا بن الخطيئة، إن
من لم يصلحه الخير أصلحه الشر! ما لك لا تقول كما كنت تقول لسعيد ومعاوية!
فيقولون: سنتوب إلى الله، أقلنا أقالك الله! فما زال ذاك دأبه ودأبهم، حتى قال: تاب الله
عليكم. فكتب إلى عثمان يسترضيه عنهم، ويسأله فيهم، فردهم إلى الكوفة.
* * *
قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله تعالى: ثم أن سعيد بن العاص قدم
على عثمان سنة إحدى عشرة من خلافته. فلما دخل المدينة اجتمع قوم من الصحابة،
فذكروا سعيدا وأعماله، وذكروا قرابات عثمان وما سوغهم من مال المسلمين، وعابوا
أفعال عثمان، فأرسلوا إليه عامر بن عبد القيس - وكان متألها (4)، واسم أبيه عبد الله،
وهو من تميم، ثم من بني العنبر - فدخل على عثمان، فقال له: إن ناسا من الصحابة

(1) أ، ج: " حبيب "، وما أثبته من ب والطبري.
(2) أقنعت رأسك: رفعتها.
(3) تاريخ الطبري 5: 87، 90.
(3) المتأله: المتعبد المتنسك.
134

اجتمعوا ونظروا في أعمالك، فوجدوك قد ركبت أمورا عظاما، فاتق الله وتب إليه.
فقال عثمان: انظروا إلى هذا، تزعم الناس أنه قارئ، ثم هو يجئ إلي فيكلمني فيما
لا يعلمه! والله ما تدري أين الله! فقال عامر: بلى والله إني لأدري أن الله لبالمرصاد. (1)
فأخرجه عثمان، وأرسل إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وإلى معاوية وسعيد
ابن العاص وعمرو بن العاص وعبد الله بن عامر - وكان قد استقدم الامراء من أعمالهم -
فشاورهم، وقال: إن لكل أمير وزراء ونصحاء، وإنكم وزرائي ونصحائي وأهل ثقتي،
وقد صنع الناس ما قد رأيتم، وطلبوا إلي أن أعزل عمالي، وأن أرجع عن جميع
ما يكرهون إلى ما يحبون، فاجتهدوا رأيكم.
فقال عبد الله بن عامر: أرى لك يا أمير المؤمنين أن تشغلهم عنك بالجهاد حتى يذلوا
لك، ولا تكون همة أحدهم إلا في نفسه، وما هو فيه من دبر دابته (2) وقمل فروته.
وقال سعيد بن العاص: أحسم عنك الداء، واقطع عنك الذي تخاف، إن لكل
قوم قادة متى يهلكوا يتفرقوا ولا يجتمع لهم أمر.
فقال عثمان: إن هذا لهو الرأي لولا ما فيه،
وقال معاوية: أشير عليك أن تأمر أمراء الأجناد فيكفيك كل رجل منهم ما قبله،
فأنا أكفيك أهل الشام.
وقال عبد الله بن سعد: إن الناس أهل طمع، فأعطهم من هذا المال، تعطف
عليك قلوبهم.
فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين، إنك قد ركبت الناس (3) ببني أمية، فقلت
وقالوا، وزغت وزاغوا، فاعتدل أو اعتزل، فإن أبيت فاعزم عزما، وامض قدما.

(1) في الطبري: " فإن ربك بالمرصاد لك، فأرسل عثمان إلى معاوية بن أبي سفيان.. ".
(2) الدبرة، بالتحريك: قرحة الدابة والبعير، وجمعها دبر، بفتحتين.
(3) عبارة الطبري: " قد ركبت الناس بما يكرهون ".
135

فقال له عثمان: مالك قمل فروك! أهذا بجد (1) منك!
فسكت عمرو حتى تفرقوا، ثم قال: والله يا أمير المؤمنين، لأنت أكرم علي من ذلك، ولكني علمت أن بالباب من يبلغ الناس قول كل رجل منا، فأردت أن يبلغهم
قولي، فيثقوا بي، فأقود إليك خيرا، وأدفع عنك شرا.
فرد عثمان عماله إلى أعمالهم، وأمرهم بتجهيز الناس في البعوث، وعزم على أن
يحرمهم أعطياتهم ليطيعوه، ورد سعيد بن العاص إلى الكوفة، فتلقاه أهلها بالجرعة (2)
- وكانوا قد كرهوا إمارته، وذموا سيرته - فقالوا له: ارجع إلى صاحبك، فلا حاجة لنا
فيك. فهم بأن يمضي لوجهه ولا يرجع، فكثر الناس عليه، فقال له قائل: ما هذا!
أترد السيل عن أدراجه! والله لا يسكن الغوغاء إلا المشرفية (3)، ويوشك أن تنتضي
بعد اليوم، ثم يتمنون ما هم اليوم فيه، فلا يرد عليهم. فارجع إلى المدينة، فإن الكوفة
ليست لك بدار.
فرجع إلى عثمان، فأخبره بما فعلوا، فانفذ أبا موسى الأشعري أميرا على الكوفة،
وكتب إليهم: أما بعد، فقد أرسلت إليكم أبا موسى الأشعري أميرا، وأعفيتكم من
سعيد، ووالله لأفوضنكم عرضي، ولأبذلن لكم صبري، ولأستصلحنكم جهدي،
فلا تدعوا شيئا أحببتموه لا يعصى الله فيه إلا سألتموه، ولا شيئا كرهتموه لا يعصى
الله فيه إلا استعفيتم منه، لأكون فيه عندما أحببتم وكرهتم، حتى لا يكون لكم على الله
حجة، والله لنصبرن كما أمرنا، وسيجزي الله الصابرين (4).

(1) الطبري: " أهذا الجد منك! ".
(2) الجرعة، بالتحريك، وقيل بسكون الراء: موضع قرب الكوفة، بين النجف والحيرة.
(3) المشرفية: السيوف المنسوبة إلى مشارف، قرى قرب حوران.
(4) الطبري 5: 94 - 96.
136

قال أبو جعفر: فلما دخلت سنه خمس وثلاثين، تكاتب أعداء عثمان وبني أمية
في البلاد، وحرض بعضهم بعضا على خلع عثمان عن الخلافة، وعزل عماله عن الأمصار،
واتصل ذلك بعثمان، فكتب إلى أهل الأمصار:
أما بعد، فإنه رفع إلي أن أقواما منكم يشتمهم عمالي ويضربونهم، فمن أصابه
شئ من ذلك فليواف الموسم بمكة، فليأخذ بحقه مني أو من عمالي، فإني قد استقدمتهم،
أو تصدقوا فإن الله يجزي المتصدقين.
ثم كاتب عماله واستقدمهم، فلما قدموا عليه جمعهم، وقال: ما شكاية الناس منكم؟
إني لخائف أن تكونوا مصدوقا عليكم، وما يعصب هذا الامر إلا بي. فقالوا له: والله
ما صدق من رفع إليك ولا بر، ولا نعلم لهذا الامر أصلا، فقال عثمان: فأشيروا علي،
فقال سعيد بن العاص: هذه أمور مصنوعة تلقى في السر، فيتحدث بها الناس،
ودواء ذلك السيف.
وقال عبد الله بن سعد: خذ من الناس الذي عليهم، إذا أعطيتهم الذي لهم.
وقال معاوية: الرأي حسن الأدب.
وقال عمرو بن العاص: أرى لك أن تلزم طريق صاحبيك، فتلين (في) (1) موضع
اللين، وتشتد (في) (1) موضع الشدة.
فقال عثمان: قد سمعت ما قلتم، إن الامر الذي يخاف على هذه الأمة كائن لا بد منه،
وإن بابه الذي يغلق عليه ليفتحن، فكفكفوهم (2) باللين والمداراة إلا في حدود الله،
فقد علم الله إني لم آل الناس خيرا، وإن رحا الفتنة لدائرة، فطوبى لعثمان إن مات
ولم يحركها! سكنوا الناس وهبوا لهم حقوقهم (3)، فإذا تعوطيت حقوق الله فلا تدهنوا فيها (4).

(1) تكملة من الطبري.
(2) كفكفوهم: اصرفوهم.
(3) المداهنة: المصانعة، وفي الطبري و ج: " فلا تدهنوا "، والإدهان: المصانعة.
(4) في الأصول: " حقوقكم "، وما أثبته عن الطبري.
137

ثم نفر فقدم المدينة، فدعا عليا وطلحة والزبير، فحضروا وعنده معاوية، فسكت
عثمان ولم يتكلم، وتكلم معاوية، فحمد الله، وقال: أنتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وخيرته من خلقه، وولاة أمر هذه الأمة،
لا يطمع فيه أحد غيركم، اخترتم صاحبكم عن غير غلبة ولا طمع، وقد كبر (1)
وولى عمره، فلو انتظرتم به الهرم كان قريبا، مع إني أرجو أن يكون أكرم على الله
أن يبلغه ذلك، وقد فشت مقالة خفتها عليكم، فما عبتم فيه من شئ فهذه يدي
لكم به رهنا (2)، فلا تطمعوا الناس في أمركم، فوالله إن أطعتموهم لا رأيتم أبدا
منها إلا إدبارا.
فقال علي عليه السلام: وما لك وذاك لا أم لك! فقال: دع أمي فإنها ليست
بشر أمهاتكم، قد أسلمت وبايعت النبي صلى الله عليه، وأجبني عما أقول لك.
فقال عثمان: صدق ابن أخي، أنا أخبركم عني وعما وليت، إن صاحبي اللذين كانا
قبلي، ظلما أنفسهما ومن كان منهما بسبيل، احتسابا. وإن رسول الله صلى الله عليه كان
يعطي قرابته، وأنا في رهط أهل عيلة وقلة معاش، فبسطت يدي في شئ من ذلك
لما أقوم به فيه، فإن رأيتم ذلك خطأ فردوه، فأمري لامركم تبع.
قالوا: أصبت وأحسنت، إنك أعطيت عبد الله بن خالد بن أسيد خمسين ألفا،
وأعطيت مروان خمسة عشر ألفا، فاستعدها منهما. فاستعادها، فخرجوا راضين (3).
* * *
قال أبو جعفر: وقال معاوية لعثمان: اخرج معي إلى الشام، فإنهم على الطاعة

(1) الطبري: " كبرت سنه ".
(2) كلمة " رهنا " ساقطة من الطبري.
(3) الطبري 5: 99، 101.
138

قبل أن يهجم عليك ما لا قبل لك به، فقال: لا أبيع جوار رسول الله صلى الله عليه
بشئ، وإن كان فيه (قطع) (1) خيط عنقي. قال: فأبعث إليك جندا من الشام
يقيم معك لنائبة إن نابت (المدينة أو إياك) (1). فقال: لا أضيق على جيران رسول الله
صلى الله عليه، فقال: والله لتغتالن، فقال: حسبي الله ونعم الوكيل (2).
* * *
قال أبو جعفر: وخرج معاوية من عند عثمان، فمر على نفر من المهاجرين، فيهم علي عليه
السلام، وطلحة والزبير، وعلى معاوية ثياب سفره، وهو خارج إلى الشام، فقام
عليهم، فقال: إنكم تعلمون أن هذا الامر كان الناس يتغالبون عليه، حتى بعث الله نبيه،
فتفاضلوا بالسابقة والقدمة والجهاد، فإن أخذوا بذلك فالامر أمرهم، والناس لهم تبع،
وإن طلبوا الدنيا بالتغالب سلبوا ذلك، ورده الله إلى غيرهم، وإن الله على البدل لقادر.
وإني قد خلفت فيكم شيخنا، فاستوصوا به خيرا وكانفوه، تكونوا أسعد منه بذلك.
ثم ودعهم ومضى. فقال علي عليه السلام: كنت أرى في هذا خيرا. فقال الزبير: والله
ما كان أعظم قط في صدرك وصدورنا منه اليوم.
* * *
قلت: من هذا اليوم، أنشب معاوية أظفاره في الخلافة، لأنه غلب على ظنه قتل
عثمان، ورأي أن الشام بيده، وأن أهلها يطيعونه، وأن له حجة يحتج بها عليهم، ويجعلها ذريعة إلى غرضه، وهي قتل عثمان إذا قتل، ويجعلها ذريعة إلى غرضه، وهي قتل عثمان إذا قتل، وأنه ليس في أمراء عثمان أقوى منه ولا أقدر
على تدبير الجيوش، واستمالة العرب، فبنى أمره من هذا اليوم على الطمع في الخلافة.
ألا ترى إلى قوله لصعصعة من قبل: أنه ليس أحد أقوى مني على الإمارة، وإن عمر

(1) تكملة من الطبري.
(2) الطبري 5: 101.
139

استعملني ورضي سيرتي، أولا ترى إلى قوله للمهاجرين الأولين: إن شرعتم في أخذها
بالتغالب، وملتم على هذا الشيخ، أخرجها الله منكم إلى غيركم! وهو على الاستبدال
قادر، وإنما كان يعني نفسه، وهو يكني عنها، ولهذا تربض (1) بنصرة عثمان لما استنصره
ولم يبعث إليه أحدا.
وروى محمد بن عمر الواقدي رحمه الله تعالى، قال: لما أجلب الناس على عثمان، وكثرت
القالة فيه، خرج ناس من مصر منهم عبد الرحمن بن عديس البلوي، وكنانة بن بشر
الليثي، وسودان بن حمران السكوني، وقتيرة بن وهب السكسكي، وعليهم جميعا
أبو حرب الغافقي، وكانوا في ألفين. وخرج ناس من الكوفة، منهم زيد بن صوحان
العبدي، ومالك الأشتر النخعي، وزياد بن النضر الحارثي، وعبد الله بن الأصم
الغامدي، في ألفين. وخرج ناس من أهل البصرة، منهم حكيم بن جبلة العبدي،
وجماعة من أمرائهم، وعليهم حرقوص بن زهير السعدي، وذلك في شوال من سنة خمس
وثلاثين، وأظهروا أنهم يريدون الحج. فلما كانوا من المدينة على ثلاث، تقدم أهل البصرة، فنزلوا ذا خشب (2) - وكان هواهم في طلحة، وتقدم أهل الكوفة، فنزلوا
الأعوص (3) - وكان هواهم في الزبير. وجاء أهل مصر فنزلوا المروة (4) - وكان هواهم
في علي عليه السلام. ودخل ناس منهم إلى المدينة يخبرون ما في قلوب الناس لعثمان، فلقوا
جماعة من المهاجرين والأنصار، ولقوا أزواج النبي صلى الله عليه وآله، وقالوا: إنما نريد
الحج، ونستعفي من عمالنا.
ثم لقي جماعة من المصريين عليا عليه السلام، وهو متقلد سيفه عند أحجار الزيت (5)

(1) تربض: قعد ولم ينصره.
(2) ذو خشب: واد على مسيرة ليلة من المدينة.
(3) أعوص: موضع قرب المدينة على أميال منها.
(4) المروة: جبل بمكة ينتهي إليه السعي من الصفا.
(5) أحجار الزيت: موضع بالمدينة.
140

فسلموا عليه، وعرضوا عليه أمرهم، فصاح بهم وطردهم، وقال: لقد علم الصالحون
أن جيش المروة وذي خشب والأعوص، ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه.
فانصرفوا عنه.
وأتى البصريون طلحة، فقال لهم مثل ذلك، وأتى الكوفيون الزبير، فقال لهم
مثل ذلك. فتفرقوا وخرجوا عن المدينة إلى أصحابهم.
فلما أمن أهل المدينة منهم واطمأنوا إلى رجوعهم لم يشعروا إلا والتكبير في نواحي
المدينة، وقد نزلوها، وأحاطوا بعثمان، ونادى مناديهم: يا أهل المدينة، من كف يده
عن الحرب فهو آمن. فحصروه في منزله، إلا أنهم لم يمنعوا الناس من كلامه ولقائه، فجاءهم
جماعة من رؤساء المهاجرين، وسألوهم: ما شانهم؟ فقالوا: لا حاجة لنا في هذا الرجل
ليعتزلنا لنولي غيره، لم يزيدوهم على ذلك.
فكتب عثمان إلى أهل الأمصار، يستنجدهم ويأمرهم بتعجيل الشخوص إليه
للمنع عنه، ويعرفهم ما الناس فيه. فخرج أهل الأمصار على الصعب والذلول، فبعث
معاوية حبيب بن مسلمة الفهري، وبعث عبد الله بن سعد بن أبي سرح معاوية بن خديج،
وخرج من الكوفة القعقاع بن عمرو، بعثه أبو موسى.
وقام بالكوفة نفر يحرضون الناس على نصر عثمان وإعانة أهل المدينة، منهم عقبة
بن عمر، وعبد الله بن أبي أوفى، وحنظله الكاتب، وكل هؤلاء من الصحابة. ومن
التابعين مسروق، والأسود، وشريح، وغيرهم.
وقام بالبصرة عمران بن الحصين، وأنس بن مالك، وغيرهما من الصحابة. ومن
التابعين كعب بن سور (1)، وهرم بن حيان وغيرهما.

(1) في الأصول: " شور "، وصوابه من الطبري والقاموس.
141

وقام بالشام ومصر جماعة من الصحابة والتابعين.
وخرج عثمان يوم الجمعة، فصلى بالناس، وقام على المنبر، فقال: يا هؤلاء، الله الله،
فوالله إن أهل المدينة يعلمون أنكم ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه، فامحوا
الخطا بالصواب.
فقام محمد بن مسلمة الأنصاري، فقال: نعم أنا أعلم ذلك، فأقعده حكيم بن جبلة.
وقام زيد بن ثابت فأقعده قتيرة بن وهب. وثار القوم فحصبوا الناس حتى أخرجوهم
من المسجد، وحصبوا عثمان حتى صرع عن المنبر مغشيا عليه، فأدخل داره، واستقتل
نفر من أهل المدينة مع عثمان، منهم سعد بن أبي وقاص، والحسن بن علي عليه السلام،
وزيد بن ثابت، وأبو هريرة، فأرسل إليهم عثمان: عزمت عليكم أن تنصرفوا،
فانصرفوا.
وأقبل علي وطلحة والزبير، فدخلوا على عثمان يعودونه من صرعته، ويشكون إليه
ما يجدون لأجله، وعند عثمان نفر من بنى أمية، منهم مروان بن الحكم، فقالوا لعلي
عليه السلام: أهلكتنا وصنعت هذا الذي صنعت! والله إن بلغت هذا الامر الذي تريده
لتمرن عليك الدنيا، فقام مغضبا، وخرج الجماعة الذين حضروا معه إلى منازلهم (1).
* * *
وروى الواقدي، قال: صلى عثمان بعد ما وثبوا به في المسجد شهرا كاملا، ثم منعوه
الصلاة، وصلى بالناس أميرهم الغافقي.
وروى المدائني، قال: كان عثمان محصورا محاطا به، وهو يصلي بالناس في المسجد،
وأهل مصر والكوفة والبصرة الحاضرون له يصلون خلفه، وهم أدق في عينه
من التراب.
* * *

(1) تاريخ الطبري 5: 105 - 106.
142

قال أبو جعفر في التاريخ: ثم إن أهل المدينة تفرقوا عنه، ولزموا بيوتهم، لا يخرج
أحد منهم إلا بسيفه يمتنع به، فكان حصاره أربعين يوما.
وروى الكلبي والواقدي والمدائني: أن محمد بن أبي بكر، ومحمد بن أبي حذيفة
كانا بمصر يحرضان الناس على عثمان، فسار محمد بن أبي بكر مع من سار إلى عثمان، وأقام
محمد بن أبي حذيفة بمصر، ثم غلب عليها لما سار عبد الله بن سعد بن أبي سرح عامل
عثمان عنها إلى المدينة في أثر المصريين، بإذن عثمان له، فلما كان بأيلة، بلغه أن المصريين
قد أحاطوا بعثمان وأنه مقتول، وأن محمد بن أبي حذيفة قد غلب على مصر، فعاد عبد الله
إلى مصر، فمنع عنها، فأتى فلسطين، فأقام بها حتى قتل عثمان (1).
وروى الكلبي، قال: بعث عبد الله بن سعد بن أبي سرح رسولا من مصر إلى عثمان
يخبره بنهوض من نهض من مصر إليه، وأنهم قد أظهروا العمرة، وقصدهم خلعه أو قتله،
فخطب عثمان الناس، وأعلمهم حالهم، وقال: إنهم قد أسرعوا إلى الفتنة واستطالوا عمري،
والله إن فارقتهم ليتمنين كل منهم أن عمري كان طال عليهم مكان كل يوم سنة، مما يرون من
الدماء المسفوكة، والإحن والإثرة الظاهرة، والاحكام المغيرة (2).
* * *
وروى أبو جعفر، قال: كان عمرو بن العاص ممن يحرض على عثمان ويغري به،
ولقد خطب عثمان يوما في أواخر خلافته، فصاح به عمرو بن العاص، اتق الله يا عثمان،
فإنك قد ركبت أمورا وركبناها معك، فتب إلى الله نتب! فناداه عثمان! وإنك هاهنا
يا بن النابغة! قملت والله جبتك منذ نزعتك عن العمل. فنودي من ناحية أخرى:
تب إلى الله، ونودي من أخرى مثل ذلك، فرفع يديه إلى السماء، وقال: اللهم إني
أول التائبين! ثم نزل (2).
* * *

(1) تاريخ الطبري 5: 122.
(2) تاريخ الطبري 5: 109.
143

وروى أبو جعفر، قال: كان عمرو بن العاص شديد التحريض والتأليب على عثمان،
وكان يقول: والله إن كنت لألقي الراعي فأحرضه على عثمان، فضلا عن الرؤساء والوجوه.
فلما سعر الشر بالمدينة خرج إلى منزله بفلسطين، فبينا هو بقصره ومعه إبناه: عبد الله
ومحمد، وعندهم سلامة بن روح الجذامي، إذ مر بهم راكب من المدينة فسألوه عن عثمان،
فقال: محصور، فقال عمرو: أنا أبو عبد الله، العير قد يضرط والمكواة في النار، ثم مر بهم
راكب آخر، فسألوه، فقال: قتل عثمان فقال عمرو: أنا أبو عبد الله، إذا نكات قرحة
أدميتها، فقال سلامة بن روح: يا معشر قريش، إنما كان بينكم وبين العرب باب
فكسرتموه، فقال: نعم أردنا أن يخرج الحق من خاصرة الباطل، ليكون الناس
في الامر شرعا سواء (1).
وروى أبو جعفر، قال: لما نزل القوم ذا خشب يريدون قتل عثمان إن لم ينزع
عما يكرهون، وعلم عثمان ذلك، جاء إلى منزل علي عليه السلام، فدخل وقال: يا بن عم، إن
قرابتي قريبة، ولي عليك حق، وقد جاء ما ترى من هؤلاء القوم وهم مصبحي،
ولك عند الناس قدر، وهم يسمعون منك، وأحب أن تركب إليهم فتردهم عني، فإن
في دخولهم علي وهنا لامري، وجرأة علي. فقال عليه السلام: على أي شئ أردهم؟
قال: على أن أصير إلى ما أشرت به، ورأيته لي. فقال علي عليه السلام: إني قد كلمتك
مرة بعد أخرى، فكل ذلك تخرج وتقول، وتعد ثم ترجع! وهذا من فعل مروان
ومعاوية وابن عامر وعبد الله بن سعد، فإنك أطعتهم وعصيتني! قال: عثمان فإني
أعصيهم أطيعك.
فأمر علي عليه السلام الناس أن يركبوا معه، فركب ثلاثون رجلا من المهاجرين

(1) تاريخ الطبري 5: 109.
144

والأنصار، منهم سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وأبو جهم العدوي، وجبير بن مطعم،
وحكيم بن حزام، ومروان بن الحكم، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن عتاب
ابن أسيد.
ومن الأنصار أبو أسيد الساعدي، وزيد بن ثابت، وحسان بن ثابت، وكعب بن
مالك، وغيرهم.
فأتوا المصريين فكلموهم، فكان (1) الذي يكلمهم علي ومحمد بن مسلمة، فسمعوا منهما،
ورجعوا بأصحابهم يطلبون مصر، ورجع علي عليه السلام حتى دخل على عثمان، فأشار عليه
أن يتكلم بكلام يسمعه الناس منه، ليسكنوا إلى ما يعدهم به من النزوع (2). وقال له:
إن البلاد قد تمخضت عليك، ولا آمن أنه يجئ ركب من جهة أخرى، فتقول لي:
يا علي، إركب إليهم، فإن لم أفعل رأيتني قد قطعت رحمك، واستخففت بحقك.
فخرج عثمان، فخطب الخطبة التي نزع فيها، وأعطى الناس من نفسه التوبة،
وقال لهم: أنا أول من اتعظ، وأستغفر الله عما فعلت وأتوب إليه، فمثلي نزع وتاب، فإذا
نزلت فليأتني أشرافكم فليروا رأيهم، وليذكر كل واحد ظلامته، لأكشفها، وحاجته
لأقضيها، فوالله لئن ردني الحق عبدا لأستن بسنة العبيد، ولأذلن ذل العبيد،
وما عن الله مذهب إلا إليه، والله لأعطينكم الرضا، ولأنحين مروان وذويه،
ولا أحتجب عنكم.
فرق الناس له وبكوا حتى خضلوا لحاهم، وبكى هو أيضا، فلما نزل وجد
مروان وسعدا ونفرا من بني أمية في منزله قعودا لم يكونوا شهدوا خطبته، ولكنها بلغتهم،
فلما جلس، قال مروان: يا أمير المؤمنين، أأتكلم أم أسكت؟ فقالت نائلة ابنة الفرافصة
امرأة عثمان، لا بل تسكت، فأنتم والله قاتلوه وميتموا أطفاله، إنه قد قال مقاله لا ينبغي له

(1) أ، ج: " وكان ".
(2) نزع عن الامر نزوعا: إنتهى منه.
145

أن ينزع عنها. فقال لها مروان: وما أنت وذاك! والله لقد مات أبوك وما يحسن أن
يتوضأ! فقالت: مهلا يا مروان عن ذكر أبي إلا بخير، والله لولا أن أباك عم عثمان، وأنه يناله غمه وعيبه، لأخبرتك من أمره بما لا أكذب فيه عليه.
فأعرض عنه عثمان، ثم عاد فقال: يا أمير المؤمنين، أأتكلم أم أسكت؟ فقال:
تكلم، فقال: بأبي أنت وأمي! والله لوددت أن مقالتك هذه كانت وأنت ممتنع،
فكنت أول من رضي بها وأعان عليها، ولكنك قلت ما قلت، وقد بلغ الحزام
الطبيين، وجاوز السيل الزبى (1)، وحين أعطي الخطة الذليلة الذليل، والله لإقامة
على خطيئة تستغفر الله منها، أجمل من توبة تخوف عليها، ما زدت على أن جرأت
عليك الناس.
فقال عثمان: قد كان من قولي ما كان، وإن الفائت لا يرد، ولم آل خيرا.
فقال مروان: إن الناس قد اجتمعوا ببابك أمثال الجبال، قال: ما شأنهم؟ قال:
أنت دعوتهم إلى نفسك، فهذا يذكر مظلمة، وهذا يطلب مالا، وهذا يسأل نزع عامل
من عمالك عنه، وهذا ما جنيت على خلافتك، ولو استمسكت وصبرت كان خيرا لك.
قال: فأخرج أنت إلى الناس فكلمهم فإني أستحيي أن أكلمهم وأردهم.
فخرج مروان إلى الناس، وقد ركب بعضهم بعضا، فقال: ما شأنكم؟ قد اجتمعتم
كأنكم جئتم لنهب، شاهت الوجوه (2)! أتريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا!
اعزبوا عنا، والله إن رمتمونا لنمرن عليكم ما حلا، ولنحلن بكم ما لا يسركم، ولا تحمدوا
فيه غب (3) رأيكم، ارجعوا إلى منازلكم، فإنا والله غير مغلوبين على ما في أيدينا

(1) جاوز الحزام الطبيين، مثل، يقال لمواضع الاخلاف من الناقة أطباء، واحدها طبي، بضم الطاء وكسرها،
فإذا بلغ الحزام الطبيين فقد انتهى في المكروه. ومثله جاوز السيل الزبى، والزبى: جمع زبية، وهي
مصيدة الأسد، ولا تتخذ إلا في قلة أو هضبة أو رابية.
(2) شاهت الوجوه: قبحت.
(3) غب رأيكم، أي عاقبة رأيكم.
146

فرجع الناس خائبين يشتمون عثمان ومروان، وأتى بعضهم عليا عليه السلام فأخبره
الخبر فأقبل علي عليه السلام على عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث الزهري، فقال:
أحضرت خطبة عثمان؟ قال: نعم، قال: أحضرت مقالة مروان للناس؟ قال: نعم فقال:
أي عباد الله، يا لله للمسلمين! إني إن قعدت في بيتي، قال لي: تركتني وخذلتني! وإن تكلمت فبلغت له ما يريد، جاء مروان فتلعب به حتى قد صار سيقة (1) له، يسوقه
حيث يشاء، بعد كبر السن وصحبته الرسول صلى الله عليه. وقام مغضبا من فوره حتى
دخل على عثمان، فقال له: أما يرضى مروان منك إلا أن يحرفك عن دينك وعقلك!
فأنت معه كجمل الظعينة، يقاد حيث يسار به، والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا عقله،
وإني لأراه يوردك ثم لا يصدرك، وما أنا عائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك، أفسدت
شرفك، وغلبت على رأيك. ثم نهض.
فدخلت نائلة بنت الفرافصة، فقالت: قد سمعت قول علي لك، وإنه ليس براجع
إليك ولا معاود لك، وقد أطعت مروان يقودك حيث يشاء. قال: فما أصنع؟ قالت:
تتقي الله وتتبع سنة صاحبيك، فإنك متى أطعت مروان قتلك، وليس لمروان عند الناس
قدر ولا هيبة ولا محبة، وإنما تركك الناس لمكانه، وإنما رجع عنك أهل مصر لقول
علي، فأرسل إليه فاستصلحه، فإن له عند الناس قدما، وإنه لا يعصى.
فأرسل إلى علي فلم يأته وقال: قد أعلمته أني غير عائد (2).
قال أبو جعفر: فجاء عثمان إلى علي بمنزله ليلا، فاعتذر إليه، ووعد من نفسه الجميل،
وقال: إني فاعل، وإني غير فاعل، فقال له علي عليه السلام: أبعد ما تكلمت على منبر
رسول الله صلى الله عليه، وأعطيت من نفسك، ثم دخلت بيتك، وخرج مروان

(1) سيقة له، أي مسوقا.
(2) تاريخ الطبري 111 - 112.
147

إلى الناس يشتمهم على بابك! فخرج عثمان من عنده، وهو يقول: خذلتني يا أبا الحسن!
وجرأت الناس علي! فقال علي عليه السلام: والله إني لأكثر الناس ذبا عنك، ولكني
كلما جئت بشئ أظنه لك رضا، جاء مروان بغيره، فسمعت قوله، وتركت قولي.
ولم يغد علي إلى نصر عثمان، إلى أن منع الماء لما اشتد الحصار عليه، فغضب علي
من ذلك غضبا شديدا، وقال لطلحة: أدخلوا عليه الروايا، فكره طلحة ذلك وساءه، فلم يزل علي عليه السلام حتى أدخل الماء إليه (1).
وروى أبو جعفر أيضا أن عليا عليه السلام كان في ماله بخيبر لما حصر عثمان، فقدم
المدينة والناس مجتمعون على طلحة، وكان لطلحة في حصار عثمان أثر، فلما قدم علي عليه السلام
أتاه عثمان، وقال له: أما بعد، فإن لي حق الاسلام وحق الإخاء والقرابة والصهر،
ولو لم يكن من ذلك شئ وكنا في جاهلية، لكان عارا على بني عبد مناف
أن يبتز بنو تيم أمرهم - يعني طلحة - فقال له علي: أنا أكفيك، فاذهب أنت.
ثم خرج إلى المسجد فرأى أسامة بن زيد، فتوكأ على يده حتى دخل دار طلحة
وهي مملوءة من الناس، فقال له: يا طلحة ما هذا الامر الذي صنعت بعثمان؟
فقال: يا أبا حسن، أبعد أن مس الحزام الطبيين! فانصرف علي عليه السلام حتى أتى
بيت المال، فقال: افتحوه، فلم يجدوا المفاتيح، فكسر الباب، وفرق ما فيه على الناس،
فانصرف الناس من عند طلحة حتى بقي وحده، وسر عثمان بذلك، وجاء طلحة فدخل
على عثمان، فقال: يا أمير المؤمنين، إني أردت أمرا فحال الله بيني وبينه، وقد جئتك تائبا.
فقال: والله ما جئت تائبا ولكن جئت مغلوبا، الله حسيبك يا طلحة.
* * *

(1) تاريخ الطبري 5: 112.
148

قال أبو جعفر: كان عثمان مستضعفا، طمع فيه الناس، وأعان على نفسه بأفعاله
وباستيلاء بني أمية عليه، وكان ابتداء الجرأة عليه أن إبلا من إبل الصدقة قدم بها
عليه، فوهبها لبعض ولد الحكم بن أبي العاص، فبلغ ذلك عبد الرحمن بن
عوف، فأخذها وقسمها بين الناس وعثمان في داره، فكان ذلك أول وهن دخل على
خلافة عثمان.
وقيل: بل كان أول وهن دخل عليه، أن عثمان مر بجبلة بن عمرو الساعدي، وهو
في نادي قومه، وفي يده جامعة، فسلم فرد القوم عليه، فقال جبلة: لم تردون على رجل
فعل كذا وفعل كذا! ثم قال لعثمان: والله لأطرحن هذه الجامعة في عنقك أو لتتركن
بطانتك هذه الخبيثة: مروان، وابن عامر، وابن أبي سرح، فمنهم من نزل القرآن بذمه،
ومنهم من أباح رسول الله صلى الله عليه دمه (1).
وقيل: أنه خطب يوما وبيده عصا كان رسول الله صلى الله عليه وآله، وأبو بكر
وعمر يخطبون عليها، فأخذها جهجاه الغفاري من يده، وكسرها على ركبته، فلما تكاثرت
أحداثه،
وتكاثر طمع الناس فيه، كتب جمع من أهل المدينة من الصحابة وغيرهم
إلى من بالآفاق: إن كنتم تريدون الجهاد، فهلموا إلينا فإن دين محمد قد أفسده
خليفتكم فاخلعوه، فاختلفت عليه القلوب، وجاء المصريون وغيرهم إلى المدينة حتى
حدث ما حدث.
وروى الواقدي والمدائني وابن الكلبي وغيرهم، وذكره أبو جعفر في التاريخ،
وذكره غيره من جميع المؤرخين: أن عليا عليه السلام لما رد المصريين رجعوا، بعد ثلاثة
أيام، فأخرجوا صحيفة في أنبوبة رصاص، وقالوا: وجدنا غلام عثمان بالموضع المعروف

(1) تاريخ الطبري 5: 114.
149

بالبويب (1) على بعير من إبل الصدقة، ففتشنا متاعه، لأنا استربنا أمره، فوجدنا فيه هذه
الصحيفة، ومضمونها أمر عبد الله بن سعد بن أبي سرح بجلد عبد الرحمن بن عديس،
وعمرو بن الحمق، وحلق رؤوسهما ولحاهما، وحبسهما وصلب قوم آخرين من
أهل مصر.
وقيل: إن الذي أخذت منه الصحيفة أبو الأعور السلمي، وإنهم لما رأوه وسألوه عن مسيره،
وهل معه كتاب، فقال: لا، فسألوه: في أي شئ هو؟ فتغير كلامه، فأخذوه وفتشوه وأخذوا
الكتاب منه، وعادوا إلى المدينة. وجاء الناس إلى علي عليه السلام، وسألوه أن يدخل
إلى عثمان، فيسأله عن هذه الحال، فقام فجاء إليه فسأله، فأقسم بالله ما كتبته ولا علمته،
ولا أمرت به، فقال محمد بن مسلمة: صدق، هذا من عمل مروان، فقال: لا أدري، وكان
أهل مصر حضورا، فقالوا: أفيجترئ عليك ويبعث غلامك على جمل من إبل الصدقة،
وينقش على خاتمك، ويبعث إلى عاملك بهذه الأمور العظيمة، وأنت لا تدري، قال:
نعم، قالوا: إنك أما صادق، أو كاذب، فإن كنت كاذبا فقد استحققت الخلع لما أمرت
به من قتلنا وعقوبتنا بغير حق، وإن كنت صادقا فقد استحققت الخلع لضعفك عن هذا
الامر وغفلتك، وخبث بطانتك. ولا ينبغي لنا أن نترك هذا الامر بيد من تقطع الأمور
دونه لضعفه وغفلته، فاخلع نفسك منه. فقال: لا أنزع قميصا ألبسنيه الله، ولكني أتوب
وأنزع. قالوا: لو كان هذا أول ذنب تبت منه، لقبلنا، ولكنا رأيناك تتوب ثم تعود،
ولسنا بمنصرفين حتى نخلعك أو نقتلك أو تلحق أرواحنا بالله، وإن منعك أصحابك
وأهلك، قاتلناهم حتى نخلص إليك. فقال: أما أن أبرأ من خلافة الله، فالقتل أحب
إلي من ذلك! وأما قتالكم من يمنع عني، فإني لا آمر أحدا بقتالكم، فمن قاتلكم
فبغير أمري قاتل، ولو أردت قتالكم لكتبت إلى الأجناد، فقدموا علي أو لحقت

(1) البويب: مدخل أهل الحجاز إلى مصر.
150

ببعض الأطراف، وكثرت الأصوات واللغط، فقام علي فأخرج أهل مصر معه، وخرج
إلى منزله.
* * *
قال أبو جعفر: وكتب عثمان إلى معاوية وابن عامر وأمراء الأجناد، يستنجدهم،
ويأمر بالعجل والبدار وإرسال الجنود إليه، فتربص به معاوية، فقام في أهل الشام يزيد
بن أسد القسري جد خالد بن عبد الله بن يزيد أمير العراق، فتبعه خلق كثير، فسار
بهم إلى عثمان، فلما كانوا بوادي القرى، بلغهم قتل عثمان، فرجعوا.
وقيل: بل أشخص معاوية من الشام حبيب بن مسلمة الفهري، وسار من البصرة
مجاشع بن مسعود السلمي، فلما وصلوا الربذة (1)، ونزلت مقدمتهم الموضع المسمى صرارا (2)
بناحية المدينة، أتاهم قتل عثمان، فرجعوا. وكان عثمان قد استشار نصحاءه في أمره،
فأشاروا أن يرسل إلى علي عليه السلام، يطلب إليه أن يرد الناس و
يعطيهم ما يرضيهم
ليطاولهم، حتى تأتيه الامداد، فقال: إنهم لا يقبلون التعليل، وقد كان مني في المرة الأولى
ما كان. فقال مروان: أعطهم ما سألوك وطاولهم ما طاولوك، فإنهم قوم قد بغوا عليك،
ولا عهد لهم.
فدعا عليا عليه السلام، وقال له: قد ترى ما كان من الناس، ولست آمنهم
على دمي، فارددهم عني، فإني أعطيهم ما يريدون من الحق من نفسي ومن غيري.
فقال علي: إن الناس إلى عدلك أحوج منهم إلى قتلك، وإنهم لا يرضون إلا بالرضا

(1) الربذة: من قرى المدينة، على ثلاثة أميال منها، بها قبر أبي ذر الغفاري.
(2) صرار: موضع قريب من المدينة، على طريق العراق.
151

وقد كنت أعطيتهم من قبل عهدا فلم تف به، فلا تغرر في هذه المرة، فإني معطيهم عنك
الحق، قال: أعطهم فوالله لأفين لهم.
فخرج علي عليه السلام إلى الناس، فقال: إنكم إنما تطلبون الحق، وقد أعطيتموه،
وإنه منصفكم من نفسه، فسأله الناس أن يستوثق لهم، وقالوا: إنا لا نرضى بقول دون فعل،
فدخل عليه فأعلمه، فقال: اضرب بيني وبين الناس أجلا، فإني لا أقدر على تبديل
ما كرهوا في يوم واحد، فقال علي عليه السلام: أما ما كان بالمدينة فلا أجل فيه، وأما
ما غاب فأجله وصول أمرك، قال: نعم، فأجلني فيما بالمدينة ثلاثة أيام. فأجابه إلى ذلك،
وكتب بينه وبين الناس كتابا على رد كل مظلمة، وعزل كل عامل كرهوه. فكف
الناس عنه، وجعل يتأهب سرا للقتال، ويستعد بالسلاح، واتخذ جندا، فلما مضت الأيام
الثلاثة ولم يغير شيئا ثار به الناس، وخرج قوم إلى من بذي خشب من المصريين،
فأعلموهم الحال، فقدموا المدينة، وتكاثر الناس عليه، وطلبوا منه عزل عماله ورد مظالمهم،
فكان جوابه لهم: إني إن كنت أستعمل من تريدون لا من أريد، فلست إذن في شئ
من الخلافة، والامر أمركم. فقالوا: والله لتفعلن أو لتخلعن أو لنقتلنك، فأبى عليهم
وقال: لا أنزع سربالا سربلنيه الله. فحصروه وضيقوا الحصار عليه.
* * *
وروى أبو جعفر: لما اشتد على عثمان الحصار، أشرف على الناس، فقال: يا أهل
المدينة، أستودعكم الله وأساله أن يحسن عليكم الخلافة من بعدي، ثم قال: أنشدكم الله!
هل تعلمون أنكم دعوتم الله عند مصاب عمر أن يختار لكم ويجمعكم على خيركم! أفتقولون:
إن الله لم يستجب لكم، وهنتم عليه، وأنتم أهل حقه وأنصار نبيه (1)، أم تقولون: هان على الله

(1) ب " دينه ".
152

دينه، فلم يبال من ولى، والدين لم يتفرق أهله بعد! أم تقولون: لم يكن أخذ عن مشورة،
إنما كان مكابرة فوكل الله الأمة - إذ عصته ولم يتشاوروا في الإمامة - إلى أنفسها!
أم تقولون: إن الله لم يعلم عاقبة أمري! فمهلا مهلا! لا تقتلوني، وإنه لا يحل إلا قتل ثلاثة:
زان بعد إحصان، أو كافر بعد إيمان، أو قاتل نفس بغير حق. أما إنكم إن قتلتموني وضعتم
السيف على رقابكم ثم لا يرفعه الله عنكم أبدا. فقالوا: أما ما ذكرت من استخارة
الناس بعد عمر، فإن كل ما يصنعه الله الخيرة، ولكن الله جعلك بلية ابتلى بها عباده، ولقد
كانت لك قدم وسابقة، وكنت أهلا للولاية، ولكن أحدثت ما تعلمه، ولا نترك اليوم
إقامة الحق عليك مخافة الفتنة عاما قابلا. وأما قولك: لا يحل دم إلا بإحدى ثلاث: فإنا
نجد في كتاب الله إباحة دم غير الثلاثة: دم من سعى في الأرض بالفساد، ودم من بغى
ثم قاتل على بغيه، ودم من حال دون شئ من الحق ومنعه وقاتل دونه، وقد بغيت
ومنعت الحق، وحلت دونه، وكابرت عليه، ولم تقد من نفسك من ظلمته، ولا من
عمالك، وقد تمسكت بالإمارة علينا. والذين يقومون دونك، ويمنعونك، إنما يمنعونك
ويقاتلوننا لتسميتك بالإمارة، فلو خلعت نفسك لانصرفوا عن القتال معك.
فسكت عثمان، ولزم الدار وأمر أهل المدينة بالرجوع، وأقسم عليهم فرجعوا، إلا الحسن
بن علي، ومحمد بن طلحة، وعبد الله بن الزبير وأشباها لهم، وكانت مدة الحصار أربعين يوما (1).
* * *
قال أبو جعفر: ثم أن محاصري عثمان اشفقوا من وصول أجناد من الشام والبصرة
تمنعه، فحالوا بين عثمان وبين الناس، ومنعوه كل شئ حتى الماء، فأرسل عثمان سرا
إلى علي عليه السلام، وإلى أزواج النبي صلى الله عليه أنهم قد منعونا الماء، فإن قدرتم أن

(1) تاريخ الطبري 5: 133.
153

ترسلوا إلينا ماء فافعلوا. فجاء علي عليه السلام في الغلس وأم حبيبة بنت أبي سفيان،
فوقف علي عليه السلام على الناس فوعظهم، وقال: أيها الناس، إن الذي تفعلون
لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر الكافرين، إن فارس والروم لتأسر فتطعم
وتسقي فالله الله! لا تقطعوا الماء عن الرجل، فأغلظوا له وقالوا: لا نعم ولا نعمة
عين (1). فلما رأى منهم الجد نزع عمامته عن رأسه، ورمى بها إلى دار عثمان، يعلمه أنه قد
نهض وعاد.
وأما أم حبيبة وكانت مشتملة على إداوة فضربوا وجه بغلتها، فقالت: إن وصايا أيتام
بني أمية عند هذا الرجل، فأحببت أن أساله عنها لئلا تهلك أموال اليتامى، فشتموها، وقالوا: أنت كاذبة، وقطعوا حبل (2) البغلة بالسيف، فنفرت وكادت تسقط عنها، فتلقاها
الناس فحملوها إلى منزلها (3).
* * *
وروى أبو جعفر، قال: أشرف عثمان عليهم يوما، فقال: أنشدكم الله، هل تعلمون
أني اشتريت بئر رومة (4) بمالي، أستعذب بها، وجعلت رشائي فيها كرجل من
المسلمين (5)! قالوا: نعم، قال: فلم تمنعونني أن أشرب منها حتى أفطر على ماء البحر! ثم قال: أنشدكم الله، هل تعلمون أني اشتريت أرض كذا، فزدتها في المسجد؟ قالوا: نعم،
قال: فهل علمتم أن أحدا منع أن يصلي فيه قبلي (5)!

(1) نعمة العين: قرتها.
(2) الحبل للدابة: رسنها.
(3) الطبري 5: 127 مع تصرف.
(4) بئر رومة في عقيق المدينة، روي عن بشير الأسلمي: قال: لما قدم المهاجرون المدينة استنكروا الماء:
وكان لرجل من بني غفار بئر يقال لها بئر رومة، كان يبيع منها القربة بالمد، فقال له رسول الله صلى الله عليه
وسلم: بعنيها بعين في الجنة، فقال: يا رسول الله، ليس لي ولا لعيالي غيرها: لا أستطيع ذلك، فبلغ
ذلك عثمان، فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم... وتصدق بها كلها. (معجم البلدان 1: 4).
(5) تاريخ الطبري 5: 125 بتصرف.
154

وروى أبو جعفر عن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي، قال: دخلت على
عثمان، فأخذ بيدي فأسمعني، كلام من على بابه من الناس، فمنهم من يقول: ما تنتظرون
به! ومنهم من يقول: لا تعجلوا، فعساه ينزع ويراجع، فبينا نحن إذ مر طلحة، فقام
إليه ابن عديس البلوي، فناجاه، ثم رجع ابن عديس، فقال لأصحابه: لا تتركوا أحدا
يدخل إلى عثمان ولا يخرج من عنده، قال لي عثمان: هذا ما أمر به طلحة، اللهم اكفني
طلحة، فإنه حمل هؤلاء القوم وألبهم علي، والله إني لأرجو أن يكون منها صفرا، وإن
يسفك دمه! قال: فأردت أن أخرج، فمنعوني حتى أمرهم محمد بن أبي بكر، فتركوني
أخرج (1).
قال أبو جعفر: فلما طال الامر وعلم المصريون أنهم قد أجرموا إليه جرما كجرم القتل
وأنه لا فرق بين قتله وبين ما أتوا إليه، وخافوا على نفوسهم من تركه حيا، راموا
الدخول عليه من باب داره، فأغلقت الباب، ومانعهم الحسن بن علي، وعبد الله بن
الزبير، ومحمد بن طلحة، ومروان، وسعيد بن العاص، وجماعة معهم من أبناء الأنصار،
فزجرهم عثمان، وقال: أنتم في حل من نصرتي، فأبوا ولم يرجعوا (2).
وقام رجل من أسلم يقال له نيار بن عياض - وكان من الصحابة - فنادى عثمان،
وأمره أن يخلع نفسه، فبينا هو يناشده ويسومه خلع نفسه، رماه كثير بن الصلت
الكندي - وكان من أصحاب عثمان من أهل الدار - بسهم فقتله - فصاح المصريون وغيرهم
عند ذلك: ادفعوا إلينا قاتل ابن عياض لنقتله به، فقال عثمان: لم أكن لأدفع إليكم رجلا
نصرني وأنتم تريدون قتلي! فثاروا إلى الباب، فأغلق دونهم، فجاءوا بنار فأحرقوه
وأحرقوا السقيفة التي عليه. فقال لمن عنده من أنصاره: إن رسول الله صلى الله عليه عهد

(1) تاريخ الطبري 5: 122.
(2) تاريخ الطبري 5: 128.
155

إلي عهدا فأنا صابر عليه، فأحرج على رجل يقاتل دوني! ثم قال للحسن: إن أباك
الآن لفي أمر عظيم من أجلك، فأخرج إليه، أقسمت عليك لما خرجت إليه! فلم يفعل،
ووقف محاميا عنه.
وخرج مروان بسيفه يجالد الناس، فضربه رجل من بني ليث على رقبته، فأثبته (1)
وقطع إحدى علباويه (2)، فعاش مروان بعد ذلك أو قص (3)، وقام إليه عبيد بن رفاعة الزرقي
ليذفف عليه (4)، فقامت دونه فاطمة أم إبراهيم بن عدي - وكانت أرضعت مروان وأرضعت له -
فقالت له: إن كنت تريد قتله فقد قتل، وإن كنت إنما تريد أن تتلعب بلحمه فأقبح
بذلك! فتركه فخلصته وأدخلته بيتها، فعرف لها بنوه ذلك بعد، واستعملوا ابنها إبراهيم،
وكان له منهم خاصة (5).
وقتل المغيرة بن الأخنس بن شريق، وهو يحامي عن عثمان بالسيف، واقتحم القوم
الدار، ودخل كثير منهم الدور المجاورة لها، وتسوروا من دار عمرو بن حزم إليها حتى
ملأوها وغلب الناس على عثمان، وندبوا رجلا لقتله، فدخل إليه البيت، فقال له: اخلعها
وندعك، فقال: ويحك! والله ما كشفت عن امرأة في جاهلية ولا إسلام، ولا تعينت (6)
ولا تمنيت، ولا وضعت يميني على عورتي مذ بايعت رسول الله، ولست بخالع قميصا
كسانيه الله، حتى يكرم أهل السعادة، ويهين أهل الشقاوة.
فخرج عنه فقالوا له: ما صنعت، قال: إني لم أستحل قتله، فأدخلوا إليه رجلا من
الصحابة، فقال له: لست بصاحبي، إن النبي صلى الله عليه دعا لك أن يحفظك يوم كذا،
ولن تضيع، فرجع عنه.

(1) أثبته: جعله ثابتا في مكانه لا يتحرك من أثر الجراحة.
(2) علباوان: مثنى علباء، وهي عصب العنق.
(3) الوقص: قصر العنق.
(4) يدفف عليه: يجهز.
(5) تاريخ الطبري 5: 124 والخاصة: من خصه بنفسك.
(6) تعين الرجل: تأنى ليصيب شيئا بعينه.
156

فأدخلوا إليه رجلا من قريش، فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه استغفر لك يوم
كذا، فلن تقارف دما حراما. فرجع عنه.
فدخل عليه محمد بن أبي بكر، فقال له عثمان: ويحك! أعلى الله تغضب! هل لي إليك
جرم إلا أني أخذت حق الله منك؟ فأخذ محمد بلحيته، وقال: أخزاك الله يا نعثل (1)!
قال: لست بنعثل، ولكني عثمان وأمير المؤمنين، فقال: ما أغنى عنك معاوية وفلان
وفلان، فقال عثمان: يا بن أخي، دعها من يدك، فما كان أبوك ليقبض عليها، فقال: لو
عملت ما عملت في حياة أبي لقبض عليها، والذي أريد بك أشد من قبضي عليها، فقال:
أستنصر الله عليك، وأستعين به، فتركه وخرج.
وقيل: بل طعن جبينه بمشقص (2) كان في يده، فثار سودان بن حمران، وأبو
حرب الغافقي، وقتيرة بن وهب السكسكي، فضربه الغافقي بعمود كان في يده، وضرب
المصحف برجله، وكان في حجره، فنزل بين يديه وسال عليه الدم، وجاء سودان ليضربه
بالسيف، فأكبت عليه امرأته نائلة بنت الفرافصة (3) الكلبية، واتقت السيف بيدها
وهي تصرخ، فنفح أصابعها فأطنها (4)، فولت، فغمز بعضهم أوراكها، وقال: إنها
لكبيرة العجز، وضرب سودان عثمان فقتله.
وقيل: بل قتله كنانة بن بشر التجيبي وقيل: بل قتيرة بن وهب. ودخل غلمان
عثمان ومواليه، فضرب أحدهم عنق سودان فقتله، فوثب قتيرة بن وهب على ذلك الغلام

(1) نعثل: رجل من أهل مصر كان طويل اللحية، قيل إنه كان يشبه عثمان، قال أبو عبيد: وشاتمو
عثمان رضي الله عنه يسمونه نعثلا (اللسان).
(2) المشقص، كمنبر: نصل عريض.
(3) الفرافصة، قال في اللسان: ليس في العرب من يسمى الفرافصة بالألف واللام غيره، ونقل ابن
بري عن القالي عن ابن الأنباري عن أبيه عن شيوخه، قال: كل ما في العرب فرافصة، بضم الفاء إلا
فرافصة أبا نائلة امرأة عثمان رضي الله عنه. بفتح الفاء لا غير. تاج العروس 4: 415.
(4) أطنها: قطعها.
157

فقتله، فوثب غلام آخر على قتيرة فقتله، ونهبت دار عثمان، وأخذ ما على نسائه وما كان
في بيت المال، وكان فيه غرارتان دراهم. ووثب عمرو بن الحمق على صدر عثمان وبه رمق
فطعنه تسع طعنات، وقال: أما ثلاث منها، فإني طعنتهن لله تعالى، وأما ست منها فلما
كان في صدري عليه. وأرادوا قطع رأسه، فوقعت عليه زوجتاه نائلة بنت الفرافصة وأم
البنين، ابنة عيينة بن حصن الفزاري، فصحن وضربن الوجوه، فقال ابن عديس:
اتركوه، وأقبل عمير بن ضابئ البرجمي فوثب عليه، فكسر ضلعين من أضلاعه، وقال
له: سجنت أبي حتى مات في السجن. وكان قتله يوم الثامن عشر من ذي الحجة من سنة
خمس وثلاثين، وقيل: بل في أيام التشريق، وكان عمره ستا وثمانين سنة.
قال أبو جعفر: وبقي عثمان ثلاثة أيام لا يدفن. ثم إن حكيم بن حزام وجبير بن
مطعم، كلما عليا عليه السلام في أن يأذن في دفنه ففعل، فلما سمع الناس بذلك قعد له قوم
في الطريق بالحجارة، وخرج به ناس يسير من أهله، ومعهم الحسن بن علي وابن الزبير
وأبو جهم بن حذيفة بين المغرب والعشاء، فأتوا به حائطا من حيطان المدينة، يعرف بحش
كوكب (1) وهو خارج البقيع، فصلوا عليه. وجاء ناس من الأنصار ليمنعوا من الصلاة
عليه، فأرسل علي عليه السلام، فمنع من رجم سريره، وكف الذين راموا منع الصلاة
عليه، ودفن في حش كوكب، فلما ظهر معاوية على الامر، أمر بذلك الحائط فهدم،
وأدخل في البقيع، وأمر الناس أن يدفنوا موتاهم حول قبره، حتى اتصل بمقابر المسلمين
بالبقيع.
وقيل: إن عثمان لم يغسل، وإنه كفن في ثيابه التي قتل فيها.

(1) حش كوكب: موضع بجانب البقيع، اشتراه عثمان وزاد فيه (مراصد الاطلاع).
158

قال أبو جعفر: وروي عن عامر الشعبي أنه قال: ما قتل عمر بن الخطاب حتى ملته
قريش واستطالت خلافته، وقد كان يعلم فتنتهم، فحصرهم في المدينة وقال لهم: إن أخوف
ما أخاف على هذه الأمة انتشاركم في البلاد. وإن كان الرجل ليستأذنه في الغزو، فيقول:
إن لك في غزوك مع رسول الله صلى الله عليه ما يكفيك، وهو خير لك من غزوك اليوم،
وخير لك من الغزو ألا ترى الدنيا ولا تراك. فكان يفعل هذا بالمهاجرين من قريش،
ولم يكن يفعله بغيرهم من أهل مكة، فلما ولي عثمان الخلافة خلى عنهم، فانتشروا في البلاد،
وخالطهم الناس، وأفضى الامر إلى ما أفضى إليه، وكان عثمان أحب إلى الرعية من عمر.
* * *
قال أبو جعفر: وكان أول منكر ظهر بالمدينة في خلافة عثمان حين فاضت الدنيا
على العرب والمسلمين طيران الحمام والمسابقة بها، والرمي عن الجلاهقات - وهي قسي
البندق - فاستعمل عثمان عليها رجلا من بني ليث في سنه ثمان من خلافته، فقص الطيور
وكسر الجلاهقات.
* * *
وروى أبو جعفر، قال: سال رجل سعيد بن المسيب عن محمد بن أبي حذيفة: ما دعاه
إلى الخروج على عثمان؟ فقال: كان يتيما في حجر عثمان، وكان والي أيتام أهل بيته ومحتمل
كلهم، فسأل عثمان العمل، فقال: (1) يا بني لو كنت رضا لاستعملتك، قال: فأذن لي
فأخرج فأطلب الرزق (1)، قال: اذهب حيث شئت، وجهزه من عنده، وحمله وأعطاه، فلما
وقع إلى مصر كان فيمن أعان عليه، لأنه منعه الامارة. فقيل له: فعمار بن ياسر؟ قال:

(1 - 1) عبارة الطبري، يا بني، لو كنت رضا، ثم سألتني العمل لاستعملتك، ولكن لست هناك، قال:
فأذن لي، فلأخرج فلأطلب ما يقوتني ".
159

كان بينه وبين العباس بن عتبة بن أبي لهب كلام فضربهما عثمان، فأورث ذلك تعاديا
بين عمار وعثمان: وقد كانا تقاذفا قبل ذلك (1).
قال أبو جعفر: وسئل سالم بن عبد الله عن محمد بن أبي بكر: ما دعاه إلى ركوب
عثمان؟ فقال: لزمه حق، فأخذ عثمان من ظهره، فغضب، وغره أقوام فطمع، لأنه كان
من الاسلام بمكان، وكانت له دالة، فصار مذمما بعد أن كان محمدا، وكان كعب
بن ذي الحبكة النهدي يلعب بالنيرنجات (2) بالكوفة، فكتب عثمان إلى الوليد أن يوجعه
ضربا، فضربه وسيره إلى دنباوند (3).
وكان ممن خرج إليه وسار إليه، وحبس ضابئ بن الحارث البرجمي، لأنه هجا قوما
فنسبهم إلى أن كلبهم يأتي أمهم، فقال لهم:
فأمكم لا تتركوها وكلبكم * فإن عقوق الوالدين كبير (4).

(1) تاريخ الطبري 5: 135.
(2) النيرنجات: أخذ تشبه السحر، وليست بحقيقة.
(3) دنباوند: جبل بنواحي الري، ويقال له: دباوند.
(4) ذكر الطبري أن ضابئ بن الحارث الجرهمي استعار في زمان الوليد بن عقبة كلبا من قوم من
الأنصار، يدعى قرحان، لصيد الظباء، فحبسه عنهم، فنافره الأنصاريون، واستغاثوا عليه بقومه،
فكاثروه فانتزعوه منه، وردوه على الأنصار، فهجاهم وقال في ذلك:
تجشم دوني وفد قرحان خطة * تضل لها الوجناء وهي حسير
فباتوا شباعا ناعمين كأنما * حباهم ببيت المرزبان أمير
فكلبكم لا تتركوا فهو أمكم * فإن عقوق الوالدين كبير
فاستعدوا عليه عثمان، فأرسل إليه، فعزره وحبسه، كما كان يصنع بالمسلمين، فاستثقل ذلك، فما
زال في الحبس حتى مات فيه، وقال في الفتك يعتذر إلى أصحابه:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني * فعلت ووليت البكاء حلائله
وقائلة قد مات في السجن ضابئ * ألا من لخصم لم يجد من يجادله!
وقائلة لا يبعد الله ضابئا * فنعم الفتى تفلو به وتحاوله
160

فاستعدوا عليه عثمان، فحبسه فمات في السجن، فلذلك حقد ابنه عمير عليه، وكسر
أضلاعه بعد قتله.
* * *
قال أبو جعفر: وكان لعثمان على طلحة بن عبيد الله خمسون ألفا، فقال طلحة له يوما:
قد تهيأ مالك فاقبضه، فقال: هو لك معونة على مروءتك، فلما حصر عثمان، قال علي عليه
السلام لطلحة: أنشدك الله إلا كففت عن عثمان! فقال: لا والله حتى تعطي بنو أمية الحق
من أنفسها. فكان علي عليه السلام يقول: لحا الله ابن الصعبة! أعطاه عثمان ما أعطاه
وفعل به ما فعل!
* * *
161

(31)
ومن كلام له عليه السلام لما أنفذ عبد الله بن عباس إلى الزبير قبل وقوع الحرب
يوم الجمل ليستفيئه إلى طاعته (1):
الأصل:
لا تلقين طلحة، فإنك إن تلقه تجده كالثور عاقصا قرنه، يركب الصعب
ويقول: هو الذلول، ولكن الق الزبير، فإنه ألين عريكة، فقل له: يقول لك
ابن خالك: عرفتني بالحجاز، وأنكرتني بالعراق، فما عدا مما بدا!
قال الرضي (2) رحمه الله:
وهو عليه السلام أول من سمعت منه هذه الكلمة - أعني: " فما عدا مما بدا ".
* * *
الشرح:
ليستفيئه إلى طاعته، أي يسترجعه، فاء، أي رجع، ومنه سمي الفئ للظل بعد
الزوال. وجاء في رواية: " فإنك إن تلقه تلفه " أي تجده، ألفيته على كذا، أي وجدته.
وعاقصا قرنه، أي قد عطفه، تيس أعقص، أي قد التوى قرناه على أذنيه، والفعل
فيه عقص الثور قرنه، بالفتح.
وقال القطب الراوندي عقص، بالكسر، وليس بصحيح، وإنما يقال: عقص
الرجل، بالكسر، إذا شح وساء خلقه، فهو عقص.
وقوله: " يركب الصعب "، إي يستهين بالمستصعب من الأمور، يصفه بشراسة

(1) أ، ج بعد هذه الكلمة: " قال عليه السلام ".
(2) مخطوطة النهج: " السيد ".
162

الخلق والبأو (1)، وكذلك كان طلحة، وقد وصفه عمر بذلك. ويقال: أن طلحة أحدث
يوم أحد عنده كبرا شديدا لم يكن، وذاك لأنه أغنى (2) في ذلك اليوم، عمر بذلك. ويقال: أن طلحة أحدث
يوم أحد عنده كبرا شديدا لم يكن، وذاك لأنه أغنى (1) في ذلك اليوم، وأبلى
بلاء حسنا.
والعريكة هاهنا: الطبيعة، يقال: فلان لين العريكة، إذا كان سلسا.
وقال الراوندي: العريكة: بقية السنام، ولقد صدق، لكن ليس هذا موضع ذاك.
وقوله عليه السلام لابن عباس: " قل له يقول لك ابن خالك " لطيف جدا، وهو
من باب الاستمالة والإذكار بالنسب والرحم، ألا ترى أن له في القلب من الموقع الداعي
إلى الانقياد ما ليس لقوله: " يقول لك أمير المؤمنين "! ومن هذا الباب قوله تعالى في
ذكر موسى وهارون: " وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم
إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء " (3)، لما رأى هارون
غضب موسى واحتدامه، شرع معه في الاستمالة والملاطفة، فقال له: " ابن أم " وأذكره حق
الاخوة، وذلك أدعى إلى عطفه عليه من أن يقول له: " يا موسى " أو " يا أيها النبي ".
فأما قوله: " فما عدا مما بدا " فعدا بمعنى صرف، قال الشاعر:
وإني عداني أن أزورك محكم * متى ما أحرك فيه ساقي تصخب.
و " من " هاهنا بمعنى " عن "، وقد جاءت في كثير من كلامهم كذلك، قال ابن
قتيبة في " أدب الكاتب ": قالوا: حدثني فلان من فلان، أي عن فلان، ولهيت من
كذا، أي عنه (4)، ويصير ترتيب الكلام وتقديره: فما صرفك عما بدا منك! أي

(1) البأو: الفخر والادعاء.
(2) أغنى، أي صرف الأعداء وكفهم.
(3) سورة الأعراف 150.
(4) أدب الكاتب ص 505 مع اختلاف في العبارة.
163

ظهر، والمعنى: ما الذي صدك عن طاعتي بعد إظهارك لها! وحذف الضمير المفعول المنصوب
كثير جدا، كقوله تعالى: " واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا " (1)، أي أرسلناه،
ولا بد من تقديره، كي لا يبقى الموصول بلا عائد.
وقال القطب الراوندي: قوله: " فما عدا مما بدا " له معنيان: أحدهما ما الذي منعك
مما كان قد بدا منك من البيعة قبل هذه الحالة؟ والثاني: ما الذي عاقك؟ ويكون المفعول
الثاني ل‍ " عدا " محذوفا، يدل عليه الكلام، أي ما عداك! يريد ما شغلك وما منعك
مما كان بدا لك من نصرتي! من البدا الذي يبدو للانسان.
ولقائل أن يقول: ليس في الوجه الثاني زيادة على الوجه الأول إلا زيادة فاسدة، أما إنه
ليس فيه زيادة، فلأنه فسر في الوجه الأول " عدا " بمعنى منع، ثم فسره في الوجه الثاني بمعنى
عاق، وفسر عاق بمنع وشغل، فصار " عدا " في الوجه الثاني مثل " عدا " في الوجه الأول.
وقوله: " مما كان بدا منك " فسره في الأول والثاني بتفسير واحد، فلم يبق بين
الوجهين تفاوت. وأما الزيادة الفاسدة فظنه أن " عدا " يتعدى إلى مفعولين، وأنه قد حذف
الثاني، وهذا غير صحيح، لان " عدا " ليس من الافعال التي تتعدى إلى مفعولين بإجماع
النحاة، ومن العجب تفسيره المفعول الثاني المحذوف على زعمه بقوله: أي ما عداك؟ وهذا
المفعول المحذوف هاهنا هو مفعول " عدا " الذي لا مفعول لها غيره، فلا يجوز أن يقال إنه
أول ولا ثان.
ثم حكى القطب الراوندي حكاية معناها أن صفية بنت عبد المطلب أعتقت عبيدا،
(2) (ثم ماتت) (2)، ثم مات العبيد ولم يخلفوا وارثا إلا مواليهم، وطلب علي عليه السلام ميراث العبيد
بحق التعصيب، وطلبه الزبير بحق الإرث من أمه، وتحاكما إلى عمر، فقضى عمر بالميراث للزبير.

(1) سورة الزخرف 45.
(2 - 2) ساقطة من ب.
164

قال القطب الراوندي رحمه الله تعالى، حكاية عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه
قال: هذا خلاف الشرع، لان ولاء معتق المرأة إذا كانت ميتة يكون لعصبتها، وهم العاقلة، لا لأولادها.
قلت هذه المسألة مختلف فيها بين الامامية، فأبو عبد الله بن النعمان المعروف
بالمفيد (1)، يقول: إن الولاء لولدها، ولا يصحح هذا الخبر، ويطعن في راويه، وغيره من
فقهاء الإمامية كأبي جعفر الطوسي (2) ومن قال بقوله، يذهبون إلى أن الولاء لعصبتها
لا لولدها، ويصححون الخبر، ويزعمون أن أمير المؤمنين عليه السلام سكت ولم ينازع،
على قاعدته في التقية، واستعمال المجاملة مع القوم.
فأما مذاهب الفقهاء غير الامامية فإنها متفقة على أن الولاء للولد لا للعصبة، كما هو
قول المفيد رحمه الله تعالى.
وروى جعفر بن محمد الصادق، عن أبيه عن جده، عليهم السلام، قال: سألت ابن
عباس رضي الله عنه عن ذلك، فقال: إني قد أتيت الزبير، فقلت له، فقال: قل له إني
أريد ما تريد - كأنه يقول: الملك - لم يزدني على ذلك. فرجعت إلى علي عليه السلام
فأخبرته.
وروى محمد بن إسحاق والكلبي، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: قلت: الكلمة
للزبير فلم يزدني علي أن قال: قل له أنا مع الخوف الشديد لنطمع.

(1) هو أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان بن عبد السلام البغدادي المعروف بالمفيد، أحد أعيان الشيعة
وعلمائهم، انتهت إليه رئاسة الإمامية في وقته. وله قريب من مائتي مصنف، وفيها حفظت أقوال الشيعة
وآراؤهم وشرحهم وتفصيل مذاهبهم، وعنه تلقى الشريف المرتضى الفقه والتفسير وعلم الكلام،
وتوفي سنة 413. روضات الجنات 536.
(2) هو أبو جعفر محمد بن يلي بن محمد الطوسي المشهدي، أحد تلاميذ الشيخ المفيد، ثم الشريف المرتضى
من بعده. وكان إماما واعظا، ألف الوسيلة والواسطة والفتاوى على مذهب الشيعة، وغيرها. توفي سنة 406. روضات الجنات 567.
165

قال: وسئل ابن عباس عما يعني بقوله هذا، فقال: يقول إنا على الخوف لنطمع أن
نلي من الامر ما وليتم.
وقد فسره قوم تفسيرا (1) آخر، وقالوا: أراد إنا مع الخوف من الله، لنطمع إن يغفر
لنا هذا الذنب.
قلت: وعلى كلام التفسيرين لم يحصل جواب المسألة.
(من أخبار الزبير وابنه عبد الله)
كان عبد الله بن الزبير هو الذي يصلي بالناس في أيام الجمل، لان طلحة والزبير
تدافعا الصلاة، فأمرت عائشة عبد الله أن يصلي قطعا لمنازعتهما، فإن ظهروا كان الامر
إلى عائشة، تستخلف من شاءت.
وكان عبد الله بن الزبير يدعي أنه أحق بالخلافة من أبيه ومن طلحة، ويزعم أن
عثمان يوم الدار أوصى بها إليه.
واختلفت الرواية في كيفية السلام على الزبير وطلحة، فروي أنه كان يسلم على الزبير
وحده بالإمرة، فيقال: السلام عليك إيها الأمير، لان عائشة ولته أمر الحرب.
وروي أنه كان يسلم على كل واحد منهما بذلك.
* * *
لما نزل علي عليه السلام بالبصرة ووقف جيشه بإزاء جيش عائشة، قال الزبير: والله
ما كان أمر قط إلا عرفت أين أضع قدمي فيه، إلا هذا الامر، فإني لا أدري: أمقبل
أنا فيه أم مدبر! فقال له ابنه عبد الله: كلا ولكنك فرقت (2) سيوف ابن أبي طالب،
وعرفت أن الموت الناقع تحت راياته. فقال الزبير: ما لك أخزاك الله من ولد ما أشأمك!

(1) كذا قي أ، ج وفي ب: " بتفسير ".
(2) فرقت: خفت.
166

كان أمير المؤمنين عليه السلام، يقول: ما زال الزبير منا أهل البيت، حتى شب
ابنه عبد الله.
برز علي عليه السلام بين الصفين حاسرا، وقال ليبرز إلي الزبير، فبرز إليه
مدججا - فقيل لعائشة: قد برز الزبير إلى علي عليه السلام، فصاحت: وا زبيراه! فقيل
لها: لا بأس عليه منه، إنه حاسر والزبير دارع (1) - فقال له: ما حملك يا أبا عبد الله على
ما صنعت! قال: أطلب بدم عثمان، قال: أنت وطلحة وليتماه، وإنما نوبتك من ذلك
أن تقيد به نفسك وتسلمها إلى ورثته، ثم قال: نشدتك الله! أتذكر يوم مررت بي
ورسول الله صلى الله عليه متكئ على يدك، وهو جاء من بني عمرو بن عوف، فسلم علي
وضحك في وجهي، فضحكت إليه، لم أزده على ذلك، فقلت: لا يترك ابن أبي طالب
يا رسول الله زهوه! فقال لك: " مه إنه ليس بذي زهو، أما إنك ستقاتله وأنت له
ظالم "! فاسترجع الزبير وقال: لقد كان ذلك، ولكن الدهر أنسانيه، ولأنصرفن عنك،
فرجع، فأعتق عبده سرجس تحللا (2) من يمين لزمته في القتال، ثم أتى عائشة، فقال لها: إني
ما وقفت موقفا قط، ولا شهدت حربا إلا ولي فيه رأي وبصيرة إلا هذه الحرب، وإني
لعلى شك من أمري، وما أكاد أبصر موضع قدمي. فقالت له: يا أبا عبد الله، أظنك فرقت
سيوف ابن أبي طالب، إنها والله سيوف حداد، معدة للجلاد، تحملها فئة أنجاد، ولئن
فرقتها لقد فرقها الرجال قبلك! قال: كلا، ولكنه ما قلت لك.
ثم انصرف.
* * *
وروى فروة بن الحارث التميمي، قال: كنت فيمن اعتزل عن الحرب بوادي السباع (3)
مع الأحنف بن قيس، وخرج ابن عم لي يقال له الجون، مع عسكر البصرة، فنهيته

(1) الحاسر: من لا درع له ولا جنة، والدارع: لابس الدرع.
(2) كذا في أ، ج، وفي ب: " محللا ".
(3) وادي السباع: موضع بين البصرة ومكة.
167

فقال: لا أرغب بنفسي عن نصرة أم المؤمنين، وحواري رسول الله! فخرج معهم. وإني
لجالس مع الأحنف، يستنبئ الاخبار، إذا بالجون بن قتادة، ابن عمي مقبلا، فقمت إليه
واعتنقته، وسألته عن الخبر، فقال: أخبرك العجب، خرجت وأنا لا أريد أن أبرح
الحرب حتى يحكم الله بين الفريقين، فبينا أنا واقف مع الزبير، إذ جاءه رجل، فقال:
أبشر أيها الأمير، فإن عليا لما رأى ما أعد الله له من هذا الجمع، نكص على
عقبيه، وتفرق عنه أصحابه. وأتاه آخر، فقال له مثل ذلك، فقال الزبير: ويحكم!
أبو حسن يرجع! والله لو لم يجد إلا العرفج (1) لدب إلينا فيه. ثم أقبل رجل آخر،
فقال: أيها الأمير، إن نفرا من أصحاب علي فارقوه ليدخلوا معنا، منهم عمار بن ياسر،
فقال الزبير: كلا ورب الكعبة، إن عمارا لا يفارقه أبدا، فقال الرجل: بلى والله، مرارا.
فلما رأى الزبير أن الرجل ليس براجع عن قوله، بعث معه رجلا آخر، وقال: اذهبا
فانظرا، فعادا وقالا: إن عمارا قد أتاك رسولا من عند صاحبه. قال جون: فسمعت
والله الزبير يقول: وا انقطاع ظهراه! وا جدع أنفاه! وا سواد وجهاه! ويكرر ذلك مرارا،
ثم أخذته رعده شديدة، فقلت: والله إن الزبير ليس بجبان، وإنه لمن فرسان قريش
المذكورين، وإن لهذا الكلام لشأنا، ولا أريد أن أشهد مشهدا يقول أميره هذه
المقالة، فرجعت إليكم فلم يكن إلا قليل حتى مر الزبير بنا متاركا للقوم، فأتبعه عمير
بن جرموز فقتله.
* * *
أكثر الروايات على أن ابن جرموز قتل مع أصحاب النهر، وجاء في بعضها أنه
عاش إلى أيام ولاية مصعب بن الزبير العراق، وأنه لما قدم مصعب البصرة خافه ابن جرموز

(1) العرفج: شجر سهلي، واحدته بهاء.
168

فهرب، فقال مصعب: ليظهر سالما، وليأخذ عطاءه موفورا، أيظن أني أقتله بأبي عبد الله
وأجعله فداء له! فكان هذا من الكبر المستحسن.
كان ابن جرموز يدعو لدنياه، فقيل له: هلا دعوت لآخرتك؟ فقال: أيست من الجنة.
الزبير أول من شهر سيفه في سبيل الله، قيل له في أول الدعوة، قد قتل رسول الله،
فخرج وهو غلام يسعى بسيفه مشهورا.
* * *
وروى الزبير بن بكار في " الموفقيات (1) " قال: لما سار علي عليه السلام إلى البصرة،
بعث ابن عباس فقال: ائت الزبير، فاقرأ عليه السلام، وقل له: يا أبا عبد الله، كيف
عرفتنا بالمدينة وأنكرتنا بالبصرة! فقال ابن عباس: أفلا آتي طلحة؟ قال: لا، إذا تجده
عاقصا قرنه في حزن، يقول: هذا سهل.
قال: فأتيت الزبير، فوجدته في بيت يتروح في يوم حار وعبد الله ابنه عنده فقال:
مرحبا بك يا بن لبابة، أجئت زائرا أم سفيرا؟ قلت: كلا، إن ابن خالك يقرأ عليك
السلام، ويقول لك: يا أبا عبد الله، كيف عرفتنا بالمدينة، وأنكرتنا بالبصرة! فقال:
علقتهم أني خلقت عصبه * قتادة تعلقت بنشبه.
لن أدعهم حتى أؤلف بينهم! قال: فأردت منه جوابا غير ذلك، فقال لي ابنه عبد الله:
قل له بيننا وبينك دم خليفة، ووصية خليفة، واجتماع اثنين، وانفراد واحد، وأم
مبرورة، ومشاورة العشيرة. قال: فعلمت أنه ليس وراء هذا الكلام إلا الحرب، فرجعت
إلى علي عليه السلام فأخبرته.

(1) كتاب الموفقيات في الاخبار، ألفه الزبير بن بكار للموفق بالله، وهو الزبير بن بكار بن عبد الله بن مصعب
ابن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام، كان علامة نسابة، وكتبه في الأنساب عليها الاعتماد.
توفي سنة 256. معجم الأدباء 11: 161.
169

قال الزبير بن بكار: هذا الحديث كان يرويه عمي مصعب، ثم تركه، وقال:
إني رأيت جد أبا عبد الله الزبير بن العوام في المنام، وهو يعتذر من يوم الجمل، فقلت له:
كيف تعتذر منه، وأنت القائل:
علقتهم أني خلقت عصبه * قتادة تعلقت بنشبه.
لن أدعهم حتى أؤلف بينهم! فقال: لم أقله.
(استطراد بلاغي في الكلام على الاستدراج)
واعلم أن في علم البيان بابا يسمى باب الخداع والاستدراج يناسب ما يذكره فيه علماء
البيان قول أمير المؤمنين عليه السلام: يقول لك ابن خالك عرفتني بالحجاز
وأنكرتني بالعراق!
قالوا: ومن ذلك قول الله تعالى حكاية عن مؤمن آل فرعون: " وقال رجل مؤمن
من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات
من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم
إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب " (1)، فإنه أخذ معهم في الاحتجاج بطريق
التقسيم، فقال: هذا الرجل إما أن يكون كاذبا فكذبه يعود عليه ولا يتعداه، وإما أن
يكون صادقا فيصيبكم بعض ما يعدكم به، ولم يقل: " كل ما يعدكم به " مخادعة لهم
وتلطفا واستمالة لقلوبهم كي لا ينفروا منه لو أغلظ في القول وأظهر لهم إنه يهضمه
بعض حقه.
وكذلك تقديم قسم الكذب على قسم الصدق، كأنه (2) رشاهم ذلك، وجعله
برطيلا (3) لهم ليطمئنوا إلى نصحه.

(1) سورة غافر 28.
(2) ب: " كأنهم " وما أثبته عن أ، ج.
(3) البرطيل هنا: الرشوة.
170

ومن ذلك قول إبراهيم على ما حكاه تعالى عنه في قوله: " إذ قال لأبيه يا أبت
لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا. يا أبت إني قد جاءني من العلم
ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا. يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان
للرحمن عصيا. يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان
وليا " (1)، فطلب منه في مبدأ الامر السبب في عبادته الصنم والعلة لذلك، ونبهه على أن
عبادة ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني شيئا قبيحة، ثم لم يقل له: إني قد تبحرت في العلوم،
بل قال له: قد حصل عندي نوع من العلم لم يحصل عندك. وهذا من باب الأدب في
الخطاب. ثم نبهه على أن الشيطان عاص لله، فلا يجوز اتباعه، ثم خوفه من عذاب الله
إن اتبع الشيطان، وخاطبه في جميع ذلك بقوله: " يا أبت " استعطافا واستدراجا، كقول
علي عليه السلام: " يقول لك ابن خالك "، فلم يجبه أبوه إلى ما أراد، ولا قال له:
" يا بني " بل قال: " أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم "، فخاطبه بالاسم، وأتاه
بهمزة الاستفهام المتضمنة للانكار، ثم توعده، فقال: " لئن لم تنته لأرجمنك
واهجرني مليا ".
قالوا: ومن هذا الباب ما روي أن الحسين بن علي عليهما السلام كلم معاوية في أمر
ابنه يزيد، ونهاه عن أن يعهد إليه، فأبى عليه معاوية حتى أغضب كل واحد منهما
صاحبه، فقال الحسين عليه السلام في غضون كلامه: أبي خير من أبيه، وأمي خير
من أمه. فقال معاوية: يا بن أخي، أما أمك فخير من أمه، وكيف تقاس امرأة
من كلب بابنة رسول الله (2) صلى الله عليه! وأما أبوه فحاكم أباك إلى الله تعالى، فحكم
لأبيه على أبيك.

(1) سورة مريم 42 - 45.
(2) في المثل السائر: " وبنت رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من امرأة من كلب ".
171

قالوا: وهذا من باب الاستدراج اللطيف، لان معاوية علم أنه إن أجابه بجواب
يتضمن الدعوى، لكونه خيرا من علي عليه السلام لم يلتفت أحد إليه، ولم يكن له كلام
يتعلق به، لان آثار علي عليه السلام في الاسلام، وشرفه وفضيلته تجل أن يقاس بها
أحد، فعدل عن ذكر ذلك إلى التعلق بما تعلق به، فكان الفلج له.
ذكر هذا الخبر نصر الله بن الأثير في كتابه المسمى ب‍ " المثل السائر " في باب
الاستدراج (1).
وعندي أن هذا خارج عن باب الاستدراج، وأنه من باب الجوابات الاقناعية التي
تسميها الحكماء الجدليات والخطابيات، وهي أجوبة إذا بحث عنها لم يكن وراءها
تحقيق، وكانت ببادئ النظر مسكتة للخصم، صالحه لمصادمته في مقام المجادلة.
ومثل ذلك قول معاوية لأهل الشام حيث التحق به عقيل بن أبي طالب: يا أهل
الشام، ما ظنكم برجل لم يصلح لأخيه!
وقوله لأهل الشام: إن أبا لهب المذموم في القرآن باسمه، عم علي بن أبي طالب.
فارتاع أهل الشام لذلك، وشتموا عليا ولعنوه.
ومن ذلك قول عمر يوم السقيفة: أيكم يطيب نفسا أن يتقدم قدمين قدمهما
رسول الله صلى الله عليه للصلاة!
ومن ذلك قول علي عليه السلام مجيبا لمن سأله: كم بين السماء والأرض؟ فقال:
دعوة مستجابة.

(1) المثل السائر 2: 68 - 71.
172

وجوابه أيضا لمن قال له: كم بين المشرق والمغرب؟ فقال: مسيره يوم للشمس.
ومن ذلك قول أبي بكر - وقد قال له عمر: أقد خالدا بمالك بن نويرة: سيف الله
فلا أغمده.
وكقوله - وقد أشير عليه أيضا بأن يقيد من بعض أمرائه: أنا أقيد من وزعة (1) الله!
ذكر ذلك صاحب " الصحاح " في باب " وزع " (2).
والجوابات الاقناعية كثيرة، ولعلها جمهور ما يتداوله الناس، ويسكت به بعضهم بعضا.

(1) الوزعة: جمع وازع، وهو الذي يتقدم الصف فيصلحه، ويقدم ويؤخر.
(2) الصحاح 1297
173

(32)
ومن خطبة له عليه السلام:
الأصل:
أيها الناس، أصبحنا في دهر عنود، وزمن شديد (1)، يعد فيه المحسن مسيئا،
ويزداد الظالم فيه عتوا، لا ننتفع بما علمنا، ولا نسأل عما جهلنا، ولا نتخوف
قارعة حتى تحل بنا. والناس على أربعة أصناف:
منهم من لا يمنعه الفساد في الأرض إلا مهانة نفسه وكلالة حده،
ونضيض وفره.
ومنهم المصلت بسيفه، والمعلن بشره، والمجلب بخيله ورجله، قد أشرط
نفسه وأوبق دينه، لحطام ينتهزه، أو مقنب يقوده، أو منبر يفرعه. ولبئس
المتجر أن ترى الدنيا لنفسك ثمنا، ومما لك عند الله عوضا!
ومنهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة، ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا، قد
طامن من شخصه، وقارب من خطوه، وشمر من ثوبه، وزخرف من نفسه للأمانة،
واتخذ ستر الله ذريعة إلى المعصية.
ومنهم من أبعده عن طلب الملك ضئولة نفسه، وانقطاع سببه، فقصرته الحال
على حاله، فتحلى باسم القناعة، وتزين بلباس أهل الزهادة، وليس من ذلك
في مراح ولا مغدي.

(1) ج: كنود " شديد ".
174

وبقي رجال غض أبصارهم ذكر المرجع، وأراق دموعهم خوف المحشر،
فهم بين شريد ناد، وخائف مقموع، وساكت مكعوم، وداع مخلص،
وثكلان موجع، قد أخملتهم التقية، وشملتهم الذلة، فهم في بحر أجاج،
أفواههم ضامزة، وقلوبهم قرحة، قد وعظوا حتى ملوا، وقهروا حتى ذلوا، وقتلوا
حتى قلوا.
فلتكن الدنيا في أعينكم أصغر من حثالة القرظ، وقراضة الجلم. واتعظوا
بمن كان قبلكم، قبل أن يتعظ بكم من بعدكم، وارفضوها ذميمة، فإنها قد
رفضت من كان أشغف بها منكم.
* * *
قال الرضي رحمه الله:
وهذه الخطبة ربما نسبها من لا علم له إلى معاوية، وهي من كلام أمير المؤمنين
عليه السلام الذي لا يشك فيه. وأين الذهب من الرغام! وأين العذب من الأجاج! وقد
دل على ذلك الدليل الخريت، ونقده الناقد البصير، عمرو بن بحر الجاحظ، فإنه
ذكر هذه الخطبة في كتاب " البيان والتبيين " (1) وذكر من نسبها إلى معاوية. ثم
تكلم من بعدها بكلام في معناها، جملته أنه قال: وهذا الكلام بكلام علي عليه السلام

(1) البيان والتبيين 2: 59 - 61، عن شعيب بن صفوان، وقال: " وزاد فيها البقطري وغيره "،
وقال: " لما حضرت معاوية الوفاة قال لمولى له: من بالباب؟ قال: نفر من قريش يتباشرون بموتك،
فقال: ويحك! ولم؟ قال: لا أدري، قال فوالله ما لهم بعدي إلا الذي يسوءهم، وأذن للناس فدخلوا ".
ثم أورد الخطبة بروايته، وقال في آخرها: " وفي هذه الخطبة: أبقاك الله ضروب من العجب، منها أن
الكلام لا يشبه السبب الذي من أجله دعاهم معاوية. ومنها أن هذا المذهب في تصنيف الناس، وفي
الاخبار عما هم عليه من القهر والإذلال، ومن التقية والخوف أشبه بكلام علي رضي الله عنه ومعانيه وحاله
منه بحال معاوية، ومنها أنا لم نجد معاوية في حال من الحالات يسلك في كلامه مسلك الزهاد، ولا يذهب
مذاهب العباد، وإنما نكتب لكم ونخبر بما سمعناه، والله أعلم بأصحاب الاخبار، وبكثير منهم ".
175

أشبه، وبمذهبه في تصنيف الناس وفي الاخبار عما هم عليه من القهر والإذلال، ومن التقية
والخوف أليق. قال: ومتى وجدنا معاوية في حال من الأحوال يسلك في كلامه مسلك
الزهاد، ومذاهب العباد!
* * *
الشرح: دهر عنود: جائر، عند عن الطريق، يعند بالضم: أي عدل وجار. ويمكن أن يكون
من عند يعند بالكسر، أي خالف ورد الحق وهو يعرفه، إلا أن اسم الفاعل المشهور
في ذلك عاند وعنيد، وأما عنود فهو اسم فاعل من عند يعند بالضم.
قوله: " وزمن شديد " أي بخيل، ومنه قوله تعالى: " وإنه لحب الخير لشديد " (1) أي
وإنه لبخيل لأجل حب الخير، والخير: المال. وقد روي " وزمن كنود " وهو الكفور، قال
تعالى: " إن الانسان لربه لكنود " (2).
والقارعة: الخطب الذي يقرع، أي يصيب.
قوله: " ونضيض وفره " أي قلة ماله، وكان الأصل " ونضاضة وفره " ليكون المصدر في
مقابلة المصدر الأول، وهو " كلاله حده "، لكنه أخرجه على باب إضافة الصفة إلى الموصوف،
كقولهم: عليه سحق عمامة، وجرد قطيفة، وأخلاق ثياب.
قوله: " والمجلب بخيله ورجله "، المجلب اسم فاعل من أجلب عليهم، أي
أعان عليهم.
والرجل: جمع راجل، كالركب جمع راكب، والشرب جمع شارب، وهذا من ألفاظ
الكتاب العزيز: " واجلب عليهم بخيلك ورجلك " (3).

(1) سورة العاديات 8.
(2) سورة العاديات 6.
(3) سورة الإسراء 64 وقراءة حفص بكسر الجيم في " رجلك ".
176

وأشرط نفسه، أي هيأها وأعدها للفساد في الأرض.
وأوبق دينه: أهلكه.
والحطام: المال، وأصله ما تكسر من اليبيس. ينتهزه: يختلسه.
والمقنب: خيل ما بين الثلاثين إلى الأربعين.
ويفرعه: يعلوه. وطامن من شخصه، أي خفض. وقارب من خطوه: لم يسرع
ومشى رويدا.
وشمر من ثوبه: قصره. وزخرف من نفسه: حسن ونمق وزين.
والزخرف: الذهب في الأصل.
وضئولة نفسه: حقارتها. والناد: المنفرد. والمكعوم: من كعمت البعير، إذا شددت
فمه. والأجاج: الملح.
وأفواههم ضامزة، بالزاي أي ساكنة، قال بشر بن أبي خازم:
لقد ضمزت بجرتها سليم * مخافتنا كما ضمز الحمار (1).
والقرظ: ورق السلم، يدبغ به. وحثالته: ما يسقط منه.
والجلم: المقص تجز به أوبار الإبل. وقراضته: ما يقع من قرضه وقطعه.
فإن قيل: بينوا لنا تفصيل هذه الأقسام الأربعة.
قيل: القسم الأول من يقعد به عن طلب الامرة قلة ماله، وحقارته في نفسه.
والقسم الثاني: من يشمر ويطلب الامارة ويفسد في الأرض ويكاشف.
والقسم الثالث: من يظهر ناموس الدين ويطلب به الدنيا.
والقسم الرابع: من لا مال له أصلا، ولا يكاشف ويطلب الملك ولا يطلب الدنيا

(1) الصحاح (2: 881)، واللسان (7: 232)، ونسبه إلى ابن مقبل، وقال في شرحه:
" معناه قد خضعت وذلت كما ضمز الحمار، لان الحمار لا يجتر، وإنما قال: ضمزت بجرتها على جهة المثل،
أي سكتوا فما يتحركون ولا ينطقون ".
177

بالرياء والناموس، بل تنقطع أسبابه كلها فيخلد إلى القناعة، ويتحلى بحلية لزهادة في
اللذات الدنيوية، لا طلبا للدنيا بل عجزا عن الحركة فيها، وليس بزاهد على الحقيقة.
فإن قيل: فهاهنا قسم خامس، قد ذكره عليه السلام، وهم الأبرار الأتقياء، الذين
أراق دموعهم خوف الآخرة.
قيل: إنه عليه السلام إنما قال: " إن الناس على أربعة أصناف "، وعنى بهم من عدا
المتقين، ولهذا قال لما انقضى التقسيم: " وبقي رجال غض أبصارهم ذكر المرجع "، فأبان
بذلك عن أن هؤلاء خارجون عن الأقسام الأربعة.
* * *
(فصل في ذكر الآيات والأخبار الواردة في ذم الرياء والشهرة)
واعلم أن هذه الخطبة تتضمن الذم الكثير لمن يدعي الآخرة من أهل زماننا، وهم
أهل الرياء والنفاق، ولابسوا الصوف والثياب المرقوعة لغير وجه الله.
وقد ورد في ذم الرياء شئ كثير، وقد ذكرنا بعض ذلك فيما تقدم.
ومن الآيات الواردة في ذلك قوله تعالى: " يراءون الناس ولا يذكرون الله
إلا قليلا " (1).
ومنها قوله تعالى: " فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك
بعباده ربه أحدا " (2).

(1) سورة النساء 142.
(2) سورة الكهف 110.
178

ومنها قوله تعالى: " إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء
ولا شكورا " (1).
ومنها قوله تعالى: " الذين هم عن صلاتهم ساهون. الذين هم يراءون ويمنعون
الماعون " (2).
ومن الاخبار النبوية قوله صلى الله عليه وآله، وقد سأله رجل يا رسول الله، فيم
النجاة؟ فقال: " ألا تعمل بطاعة الله وتريد بها الناس ".
وفي الحديث: " من راءى راءى الله به، ومن سمع سمع الله به ".
وفي الحديث: " إن الله تعالى يقول للملائكة: إن هذا العمل لم يرد صاحبه به وجهي،
فاجعلوه في سجين ".
وقال صلى الله عليه وآله: " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر "، قالوا:
وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: " الرياء، يقول الله تعالى إذا جازى العباد بأعمالهم:
اذهبوا إلى الذين كنتم تراءونهم في الدنيا، فاطلبوا جزاءكم منهم ".
وفي حديث شداد بن أوس: رأيت النبي صلى الله عليه وآله يبكى، فقلت:
يا رسول الله، ما يبكيك؟ فقال: " إني تخوفت على أمتي الشرك، أما إنهم لا يعبدون صنما
ولا شمسا ولا قمرا، ولكنهم يراءون بأعمالهم ".
ورأي عمر رجلا يتخشع ويطأطئ رقبته في مشيته، فقال له: يا صاحب الرقبة،
إرفع رقبتك، ليس الخشوع في الرقاب ".
ورأي أبو أمامة رجلا في المسجد يبكي في سجوده، فقال له: أنت أنت لو كان هذا
في بيتك!

(1) سورة الانسان 9.
(2) سورة الماعون 5، 6.
179

وقال علي عليه السلام: للمرائي أربع علامات: يكسل إذا كان وحده، وينشط
إذا كان في الناس، ويزيد في العمل إذا اثني عليه، وينقص منه إذا لم يثن عليه.
وقال رجل لعبادة بن الصامت: أقاتل بسيفي في سبيل الله أريد به وجهه ومحمدة
الناس، قال: لا شئ لك، فسأله ثلاث مرات، كل ذلك يقول: لا شئ لك! ثم قال
في الثالثة: يقول الله تعالى: أنا أغنى الأغنياء عن الشرك... الحديث.
وضرب عمر رجلا بالدرة، ثم ظهر له أنه لم يأت جرما، فقال له: اقتص مني، فقال: بل أدعها لله ولك، قال: ما صنعت شيئا، إما أن تدعها لي فأعرف ذلك لك،
أو تدعها لله وحده.
وقال الحسن: لقد صحبت أقوما، أن كان أحدهم لتعرض له الكلمة لو نطق بها
لنفعته ونفعت أصحابه، ما يمنعه منها إلا مخافة الشهرة، وأن كان أحدهم ليمر فيرى الأذى
على الطريق فما يمنعه أن ينحيه إلا مخافة الشهرة.
وقال الفضيل: كانوا يراءون بما يعملون، وصاروا اليوم يراءون بما لا يعملون.
وقال عكرمة: إن الله تعالى يعطى العبد على نيته ما لا يعطيه على عمله، لأن النية
لا رياء فيها.
وقال الحسن: المرائي يريد أن يغلب قدر الله تعالى، هو رجل سوء، يريد أن يقول
الناس: هذا صالح، وكيف يقولون وقد حل من ربه محل الأردئاء (1)، فلا بد لقلوب المؤمنين
أن تعرفه.
وقال قتادة: إذا راءى العبد، قال الله تعالى لملائكته: انظروا إلى عبدي
يستهزئ بي.
وقال الفضيل: من أراد أن ينظر مرائيا فلينظر إلي.

(1) أردئاء: جمع ردئ.
180

وقال محمد بن المبارك الصوري: أظهر السمت (1) بالليل، فإنه أشرف من سمتك بالنهار،
فإن سمت النهار للمخلوقين، وسمت الليل لرب العالمين.
وقال إبراهيم بن أدهم: ما صدق الله من أحب أن يشتهر.
ومن الكلام المعزو إلى عيسى بن مريم عليه السلام: إذا كان يوم صوم أحدكم
فليدهن رأسه ولحيته، وليمسح شفتيه، لئلا يعلم الناس أنه صائم، وإذا أعطى بيمينه،
فليخف عن شماله، وإذا صلى فليرخ ستر بابه، فإن الله يقسم الثناء كما يقسم الرزق.
ومن كلام بعض الصالحين: آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حب الرياسة.
وروى أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: " يحسب المرء من الشر
- إلا من عصمه الله من السوء - أن يشير الناس إليه بالأصابع في دينه ودنياه، إن الله لا ينظر
إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ".
وقال علي عليه السلام: تبذل لا تشتهر، ولا ترفع شخصك لتذكر بعلم، واسكت
واصمت تسلم، تسر الأبرار، وتغيظ الفجار.
وكان خالد بن معدان إذا كثرت حلقته، قام مخافة الشهرة.
ورأي طلحة بن مصرف قوما يمشون معه نحو عشرة، فقال: فراش نار،
وذبان طمع.
وقال سليمان بن حنظلة: بينا نحن حوالي أبي بن كعب نمشي، إذ رآه عمر فعلاه
بالدرة، وقال له: انظر من حولك! إن الذي أنت فيه ذلة للتابع، فتنة للمتبوع.
وخرج عبد الله بن مسعود من منزله، فاتبعه قوم، فالتفت إليهم، وقال: علام تتبعونني!
فوالله لو تعلمون مني ما أغلق عليه بابي لما تبعني منكم اثنان.
وقال الحسن: خفق النعال حول الرجال مما يثبت عليهم قلوب الحمقى.

(1) السمت: حسن المذهب في الدين.
181

وروي أن رجلا صحب الحسن في طريق، فلما فارقه قال: أوصني رحمك الله!
قال: إن استطعت أن تعرف ولا تعرف، وتمشي ولا يمشى إليك، وتسأل
ولا تسأل، فافعل.
وخرج أيوب السختياني في سفر، فشيعه قوم، فقال: لولا أني أعلم أن الله يعلم من
قلبي أني لهذا كاره، لخشيت المقت من الله.
وعوتب أيوب على تطويل قميصه، فقال: إن الشهرة كانت فيما مضى في طوله، وهي
اليوم في قصره.
وقال بعضهم: كنت مع أبي قلابة، إذ دخل رجل عليه كساء، فقال: إياكم وهذا
الحمار الناهق - يشير به إلى طالب شهرة.
وقال رجل لبشر بن الحارث: أوصني، فقال: أخمل ذكرك، وطيب مطعمك.
وكان حوشب يبكي ويقول: بلغ اسمي المسجد الجامع.
وقال بشر: ما أعرف رجلا أحب أن يعرف إلا ذهب دينه وافتضح.
وقال أيضا: لا يجد حلاوة الآخرة رجل يحب أن يعرفه الناس.
فهذه الآثار قليل مما ورد عن الصالحين رحمهم الله في ذم الرياء وكون الشهرة طريقا إلى الفتنة.
(فصل في مدح الخمول والجنوح إلى العزلة)
وقد صرح أمير المؤمنين عليه السلام في مدح الأبرار - وهم القسم الخامس - بمدح
الخمول، فقال: " قد أخملتهم التقية "، يعني الخوف.
وقد ورد في الاخبار والآثار شئ كثير في مدح الخمول.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له،
182

لو أقسم على الله لأبر قسمه ". وفي رواية ابن مسعود: " رب ذي طمرين لا يؤبه له، لو سأل
الجنة لأعطيها ".
وفي الحديث أيضا عنه صلى الله عليه وآله: " ألا أدلكم على أهل الجنة! كل ضعيف
مستضعف، لو أقسم على الله لأبره. ألا أدلكم على أهل النار! كل متكبر جواظ ".
وعنه صلى الله عليه وآله: " إن أهل الجنة الشعث الغبر، الذين إذا استأذنوا على الامراء
لم يؤذن لهم، وإذا خطبوا لم ينكحوا، وإذا قالوا لم ينصت لهم، حوائج أحدهم تتلجلج
في صدره، لو قسم نورهم يوم القيامة على الناس لوسعهم ".
وروي أن عمر دخل المسجد، فإذا بمعاذ بن جبل يبكي عند قبر رسول الله صلى الله
عليه وآله، فقال: ما يبكيك؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول:
" إن اليسير من الرياء لشرك، وإن الله يحب الأتقياء الأخفياء، الذين إذا غابوا
لم يفتقدوا، وإذا حضروا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، ينجون من كل غبراء
مظلمة ".
وقال ابن مسعود: كونوا ينابيع العلم، مصابيح الهدى، أحلاس البيوت، سرج
الليل، جدد القلوب، خلقان الثياب، تعرفون عند أهل السماء، وتخفون عند
أهل الأرض.
وفي حديث أبي أمامة، يرفعه: " قال الله تعالى: إن أغبط أوليائي لعبد مؤمن،
خفيف الحاذ (1)، ذو حظ من صلاة، وقد أحسن عبادة ربه، وأطاعه في السر، وكان
غامضا في الناس، لا يشار إليه بالأصابع ". وفي الحديث: " السعيد من خمل صيته، وقل تراثه، وسهلت منيته،
وقلت بواكيه ".

(1) خفيف الحاذ: قليل المال.
183

وقال الفضيل: روي لي أن الله تعالى يقول في بعض ما يمن به على عبده: ألم أنعم
عليك! ألم أسترك! ألم أخمل ذكرك!
وكان الخليل بن أحمد يقول في دعائه: اللهم اجعلني عندك من أرفع خلقك،
واجعلني عند نفسي من أوضع خلقك، واجعلني عند الناس من أوسط خلقك.
وقال إبراهيم بن أدهم: ما قرت عيني ليلة قط في الدنيا إلا مرة، بت ليلة في بعض
مساجد قرى الشام، وكان بي علة البطن، فجرني المؤذن برجلي حتى أخرجني
من المسجد.
وقال الفضيل: إن قدرت على ألا تعرف، فافعل، وما عليك ألا تعرف! وما عليك
ألا يثنى عليك! وما عليك أن تكون مذموما عند الناس، إذا كنت محمودا عند الله
تعالى!
* * *
فإن قيل: فما قولك في شهرة الأنبياء والأئمة عليهم السلام، وأكابر الفقهاء المجتهدين؟
قيل: إن المذموم طلب الشهرة، فأما وجودها من الله تعالى من غير تكلف
من العبد ولا طلب فليس بمذموم، بل لا بد من وجود إنسان يشتهر أمره، فإن بطريقه
ينصلح العالم، ومثال ذلك الغرقى الذين بينهم غريق ضعيف، الأولى به ألا يعرفه
أحد منهم، لئلا يتعلق به فيهلك ويهلكوا معه، فإن كان بينهم سابح قوي مشهور
بالقوة فالأولى ألا يكون مجهولا، بل ينبغي أن يعرف ليتعلقوا به، فينجو هو
ويتخلصوا من الغرق بطريقه.
184

(33)
ومن خطبه له عليه السلام عند مسيره لقتال أهل البصرة:
الأصل:
قال عبد الله بن العباس: دخلت على أمير المؤمنين بذي قار وهو يخصف نعله،
فقال لي: ما قيمة هذا النعل؟ فقلت: لا قيمة لها، فقال عليه السلام: والله لهي أحب إلي
من إمرتكم، إلا أن أقيم حقا، أو أدفع باطلا، ثم خرج فخطب الناس فقال:
إن الله سبحانه بعث محمدا صلى الله عليه، وليس أحد من العرب يقرا كتابا،
ولا يدعي نبوة، فساق الناس حتى بوأهم محلتهم، وبلغهم منجاتهم، فاستقامت
قناتهم، واطمأنت صفاتهم.
أما والله إن كنت لفي ساقتها، حتى تولت (1) بحذافيرها، ما عجزت (2) ولا جبنت،
وإن مسيري هذا لمثلها، فلأنقبن الباطل حتى يخرج الحق من جنبه.
ما لي ولقريش! والله لقد قاتلتهم كافرين، ولأقاتلنهم مفتونين، وإني
لصاحبهم بالأمس، كما أنا صاحبهم اليوم! والله ما تنقم منا قريش إلا أن الله
اختارنا عليهم، فأدخلناهم في حيزنا، فكانوا كما قال الأول:
أدمت لعمري شربك المحض صابحا * وأكلك بالزبد المقشرة البجرا (3)
ونحن وهبناك العلاء ولم تكن * عليا وحطنا حولك الجرد والسمرا
* * *

(1) ب: " ولت ".
(2) ب: " ما ضعفت ".
(3) المحض: اللبن الخالص بلا رغوة.
185

الشرح:
ذو قار: موضع قريب من البصرة، وهو المكان الذي كانت فيه الحرب بين العرب
والفرس، ونصرت العرب على الفرس قبل الاسلام.
ويخصف نعله، أي يخرزها.
وبوأهم محلتهم: أسكنهم منزلهم، أي ضرب الناس بسيفه على الاسلام حتى
أوصلهم إليه، ومثله " وبلغهم منجاتهم " إلا أن في هذه الفاصلة ذكر النجاة
مصرحا به.
فاستقامت قناتهم: استقاموا على الاسلام، أي كانت قناتهم معوجه فاستقامت.
واطمأنت صفاتهم، كانت متقلقلة متزلزلة، فاطمأنت واستقرت.
وهذه كلها استعارات.
ثم أقسم أنه كان في ساقتها حتى تولت بحذافيرها، الأصل في " ساقتها " أن يكون جمع
سائق كحائض وحاضة، وحائك وحاكة، ثم استعملت لفظة " الساقة " للأخير، لان السائق
إنما يكون في آخر الركب أو الجيش.
وشبه عليه السلام أمر الجاهلية، أما بعجاجة ثائرة، أو بكتيبة مقبلة للحرب، فقال:
إني طردتها فولت بين يدي، ولم أزل في ساقتها أنا أطردها وهي تنطرد أمامي، حتى تولت
بأسرها ولم يبق منها شئ، ما عجزت عنها، ولا جبنت منها.
ثم قال: وإن مسيري هذا لمثلها، فلأنقبن الباطل، كأنه جعل الباطل كشئ
قد اشتمل على الحق، واحتوى عليه، وصار الحق في طيه، كالشئ الكامن
المستتر فيه، فأقسم لينقبن ذلك الباطل إلى أن يخرج الحق من جنبه.
وهذا من باب الاستعارة أيضا.
186

ثم قال: " لقد قاتلت قريشا كافرين، ولأقاتلنهم مفتونين "، لان الباغي على الامام
مفتون فاسق.
وهذا الكلام يؤكد قول أصحابنا: إن أصحاب صفين والجمل ليسوا بكفار، خلافا
للامامية فإنهم يزعمون أنهم كفار.
(من أخبار يوم ذي قار)
روى أبو مخنف عن الكلبي، عن أبي صالح، عن زيد بن علي، عن ابن عباس، قال:
لما نزلنا مع علي عليه السلام ذا قار، قلت: يا أمير المؤمنين، ما أقل من يأتيك من أهل
الكوفة فيما أظن! فقال: والله ليأتيني منهم ستة آلاف وخمسمائة وستون رجلا، لا يزيدون
ولا ينقصون.
قال ابن عباس: فدخلني والله من ذلك شك شديد في قوله، وقلت في نفسي: والله
إن قدموا لأعدنهم.
قال أبو مخنف: فحدث ابن إسحاق، عن عمه عبد الرحمن بن يسار، قال: نفر
إلى علي عليه السلام إلى ذي قار من الكوفة في البحر والبر ستة آلاف وخمسمائة وستون
رجلا. أقام علي بذي قار خمسة عشر يوما، حتى سمع صهيل الخيل وشحيح البغال
حوله. قال: فلما سار بهم منقلة (1)، قال ابن عباس: والله لأعدنهم، فإن كانوا
كما قال، وإلا أتممتهم من غيرهم، فإن الناس قد كانوا سمعوا قوله. قال: فعرضتهم فوالله
ما وجدتهم يزيدون رجلا، ولا ينقصون رجلا، فقلت: الله أكبر! صدق الله ورسوله!
ثم سرنا.
قال أبو مخنف: ولما بلغ حذيفة بن اليمان أن عليا قد قدم ذا قار، واستنفر الناس، دعا

(1) المنقلة: مرحلة سفر.
187

أصحابه فوعظهم وذكرهم الله وزهدهم في الدنيا، ورغبهم في الآخرة، وقال لهم: الحقوا
بأمير المؤمنين ووصي سيد المرسلين، فإن من الحق أن تنصروه، وهذا الحسن ابنه وعمار، قد قدما الكوفة يستنفران الناس، فانفروا.
قال: فنفر أصحاب حذيفة إلى أمير المؤمنين، ومكث حذيفة بعد ذلك خمس عشرة
ليلة، وتوفي رحمه الله تعالى.
قال أبو مخنف: وقال هاشم بن عتبة المرقال، يذكر نفورهم إلى علي عليه السلام:
وسرنا إلى خير البرية كلها * على علمنا أنا إلى الله نرجع
نوقره في فضله ونجله * وفي الله ما نرجو وما نتوقع
ونخصف أخفاف المطي على الوجا * وفي الله ما نزجي وفي الله نوضع
دلفنا بجمع آثروا الحق والهدى * إلى ذي تقى في نصره نتسرع
نكافح عنه والسيوف شهيرة * تصافح أعناق الرجال فتقطع.
قال أبو مخنف: فلما قدم أهل الكوفة على علي عليه السلام، سلموا عليه، وقالوا:
الحمد لله يا أمير المؤمنين، الذي اختصنا بموازرتك، وأكرمنا بنصرتك، قد أجبناك
طائعين غير مكرهين، فمرنا بأمرك.
قال: فقام فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله وقال:
مرحبا بأهل الكوفة، بيوتات العرب ووجوهها، وأهل الفضل وفرسانها، وأشد
العرب مودة لرسول الله صلى الله عليه ولأهل بيته، ولذلك بعثت إليكم واستصرختكم
عند نقض طلحة والزبير بيعتي، عن غير جور مني ولا حدث، ولعمري لو لم تنصروني
بأهل الكوفة، لرجوت أن يكفيني الله غوغاء الناس، وطغام أهل البصرة، مع أن عامة
من بها ووجوهها وأهل الفضل والدين قد اعتزلوها، ورغبوا عنها.
فقام رؤوس - والدين قد اعتزلوها ورغبوا عنها.
فقام رؤوس القبائل فخطبوا وبذلوا له النصر، فأمرهم بالرحيل إلى البصرة.
188

(34)
ومن خطبة له عليه السلام في استنفار الناس إلى أهل الشام:
أف لكم! لقد سئمت عتابكم. أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضا،
وبالذل من العز خلفا! إذا دعوتكم إلى جهاد عدوكم دارت أعينكم، كأنكم
من الموت في غمرة، ومن الذهول في سكرة.
يرتج عليكم حواري فتعمهون، فكأن قلوبكم مألوسة، فأنتم لا تعقلون.
ما أنتم لي بثقة سجيس الليالي، وما أنتم بركن يمال بكم، ولا زوافر عز
يفتقر إليكم. ما أنتم إلا كإبل ضل رعاتها، فكلما جمعت من جانب انتشرت من آخر.
لبئس لعمر الله سعر نار الحرب أنتم! تكادون ولا تكيدون، وتنتقص أطرافكم
فلا تمتعضون، لا ينام عنكم وأنتم في غفلة ساهون. غلب والله المتخاذلون!
وأيم الله، إني لأظن بكم أن لو حمس الوغى، واستحر الموت، قد انفرجتم عن
ابن أبي طالب انفراج الرأس.
والله إن امرأ يمكن عدوه من نفسه، يعرق لحمه، ويهشم عظمه، ويفري جلده،
لعظيم عجزه، ضعيف ما ضمت عليه جوانح صدره.
أنت فكن ذاك إن شئت، فأما أنا فوالله دون أن أعطي ذلك ضرب بالمشرفية
تطير منه فراش الهام، وتطيح السواعد والاقدام، ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء.
أيها الناس، إن لي عليكم حقا، ولكم علي حق، فأما حقكم علي فالنصيحة
189

لكم، وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتأديبكم كيما تعلموا،
وأما حقي عليكم، فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والإجابة حين
أدعوكم، والطاعة حين آمركم.
اشرح:
* * *
أف لكم: كلمة استقذار ومهانة، وفيها لغات. ويرتج: يغلق. والحوار: المحاورة
والمخاطبة. وتعمهون، من العمة وهو التحير والتردد، الماضي عمه بالكسر.
وقوله: " دارت أعينكم " من قوله تعالى: " ينظرون إليك نظر المغشي عليه من
الموت " (1)، ومن قوله: " تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت " (2).
وقلوبكم مألوسة، من الألس، بسكون اللام، وهو الجنون واختلاط العقل.
قوله: " ما أنتم لي بثقة سجيس الليالي " كلمة تقال للأبد، تقول: لا أفعله سجيس
الليالي، وسجيس عجيس، وسجيس الأوجس، معنى ذلك كله الدهر، والزمان، وأبدا.
قوله: " ما أنتم بركن يمال بكم "، أي لستم بركن يستند إليكم، ويمال على العدو
بعزكم وقوتكم.
قوله: " ولا زوافر عز "، جمع زافرة، وزافرة الرجل: أنصاره وعشيرته، ويجوز أن يكون
زوافر عز، أي حوامل عز، زفرت الجمل أزفره زفرا، أي حملته.
قوله: " سعر نار الحرب " جمع ساعر، كقولك: قوم كظم للغيظ، جمع كاظم،

(1) سورة القتال 20.
(2) سورة الأحزاب 19.
190

وتمتعضون: تأنفون وتغضبون. وحمس الوغى، اشتد، وأصل الوغى الصوت والجلبة، ثم
سميت الحرب نفسها وغى، لما فيها من الأصوات والجلبة. واستحر الموت، أي اشتد.
وقوله: " انفرجتم انفراج الرأس "، أي كما ينفلق الرأس فيذهب نصفه يمنة ونصفه
شامة. والمشرفية: السيوف المنسوبة إلى مشارف، وهي قرى من أرض العرب تدنو من
الريف، ولا يقال مشارفي، كما لا يقال: جعافري، لمن ينسب إلى جعافر.
وفراش الهام: العظام الخفيفة تلي القحف.
وقال الراوندي في تفسير قوله " انفراج الرأس " أراد به انفرجتم عني رأسا، أي
قطعا، وعرفه بالألف واللام، وهذا غير صحيح لان " رأسا " لا يعرف. قال: وله تفسير
آخر: أن يكون المعنى انفراج رأس من أدنى رأسه إلى غيره، ثم حرف رأسه عنه.
وهذا أيضا غير صحيح، لأنه لا خصوصية للرأس في ذلك، فإن اليد والرجل إذا
أدنيتهما من شخص، ثم حرفتهما عنه فقد انفرج ما بين ذلك العضو وبينه، فأي معنى
لتخصيص الرأس بالذكر.
فأما قوله: " أنت فكن ذاك " فإنه إنما خاطب من يمكن عدوه من نفسه كائنا
من كان، غير معين ولا مخصص، ولكن الرواية وردت بأنه خاطب بذلك الأشعث بن
قيس، فإنه روي أنه قال له عليه السلام وهو يخطب ويلوم الناس على تثبيطهم وتقاعدهم:
هلا فعلت فعل ابن عفان! فقال له: " إن فعل ابن عفان لمخزاة على من لا دين له، ولا
وثيقة معه، إن امرأ أمكن عدوه من نفسه يهشم عظمه، ويفري جلده، لضعيف رأيه
مأفون عقله. أنت فكن ذاك إن أحببت، فأما أنا فدون أن أعطي ذاك ضرب بالمشرفية... الفصل ".
191

ويمكن أن تكون الرواية صحيحة، والخطاب عام لكل من أمكن من نفسه، فلا
منافاة بينهما.
وقد نظمت أنا هذه الألفاظ في أبيات كتبتها إلى صاحب لي في ضمن مكتوب
اقتضاها، وهي:
إن امرأ أمكن من نفسه * عدوه يجدع آرابه (1)
لا يدفع الضيم ولا ينكر الذل * ولا يحصن جلبابه
لفائل الرأي ضعيف القوى * قد صرم الخذلان أسبابه
أنت فكن ذاك فإني امرؤ * لا يرهب الخطب إذا نابه
إن قال دهر لم يطع أو شحا * له فم أدرد أنيابه (2)
أو سامه الخسف لابن أبي وانتضى * دون مرام الخسف قرضا به (3)
أخزر غضبان شديد السطا * يقدر أن يترك ما رابه.
خطب أمير المؤمنين عليه السلام بهذه الخطبة، بعد فراغه من أمر الخوارج، وقد
كان قام بالنهروان، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: أما بعد، فإن الله قد أحسن نصركم، فتوجهوا من فوركم هذا إلى عدوكم من
أهل الشام.
فقاموا إليه، فقالوا: يا أمير المؤمنين، نفدت نبالنا، وكلت سيوفنا، وانصلتت (4)
أسنة رماحنا، وعاد أكثرها قصدا (5). ارجع بنا إلى مصرنا، نستعد بأحسن عدتنا، ولعل
أمير المؤمنين يزيد في عددنا مثل من هلك منا، فإنه أقوى لنا على عدونا.

(1) آرابه: جمع إرب، وهو العضو.
(2) شحا فاه: فتحة. والدرد: سقوط الأسنان.
(3) القرضاب: السيف.
(4) انصلتت: انجردت.
(5) قصد: جمع قصدة، وهي الكرة من القناة أو الرمح.
192

فكان جوابه عليه السلام: " يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله
لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين " (1).
فتلكأوا عليه، وقالوا إن البرد شديد.
فقال: إنهم يجدون البرد كما تجدون. فتلكأوا وأبوا، فقال: أف لكم! إنها سنة
جرت، ثم تلا قوله تعالى: " قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى
يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون " (2).
فقام منهم ناس فقالوا: يا أمير المؤمنين، الجراح فاش في الناس - وكان أهل النهروان
قد أكثروا الجراح في عسكر أمير المؤمنين عليه السلام - فارجع إلى الكوفة، فأقم بها
أياما ثم اخرج، خار الله لك! فرجع إلى الكوفة عن غير رضا.
(أمر الناس بعد وقعة النهروان)
وروى نصر بن مزاحم، عن عمر بن سعد، عن نمير بن وعلة، عن أبي وداك، قال:
لما كره القوم المسير إلى الشام عقيب واقعة النهروان، أقبل بهم أمير المؤمنين، فأنزلهم
النخيلة، وأمر الناس أن يلزموا معسكرهم، ويوطنوا على الجهاد أنفسهم، وأن يقلوا
زيارة النساء وأبنائهم، حتى يسير بهم إلى عدوهم، وكان ذلك هو الرأي لو فعلوه، لكنهم
لم يفعلوا، وأقبلوا يتسللون ويدخلون الكوفة، فتركوه عليه السلام وما معه من الناس إلا
رجال من وجوههم قليل، وبقي المعسكر خاليا، فلا من دخل الكوفة خرج إليه، ولا
من أقام معه صبر. فلما رأى ذلك دخل الكوفة.
* * *

(1) سورة المائدة 21.
(2) سورة المائدة 22.
193

قال نصر بن مزاحم: فخطب الناس بالكوفة، وهي أول خطبة خطبها بعد قدومه من
حرب الخوارج، فقال:
أيها الناس استعدوا لقتال عدو في جهادهم القربة إلى الله عز وجل، ودرك الوسيلة
عنده، قوم حيارى عن الحق لا يبصرونه، موزعين (1) بالجور والظلم لا يعدلون به،
جفاة عن الكتاب، نكب عن الدين، يعمهون في الطغيان، ويتسكعون في
غمرة الضلال، فأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل، وتوكلوا على الله،
وكفى بالله وكيلا.
قال: فلم ينفروا ولم ينشروا (2)، فتركهم أياما، ثم خطبهم، فقال: أف لكم! لقد
سئمت عتابكم. أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضا... الفصل الذي شرحناه آنفا إلى
آخره. وزاد فيه: " أنتم أسود الشرى في الدعة، وثعالب رواغة حين البأس، إن أخا
الحرب اليقظان، ألا إن المغلوب مقهور ومسلوب ".
* * *
وروى الأعمش عن الحكم بن عتيبة، عن قيس بن أبي حازم، قال: سمعت عليا
عليه السلام على منبر الكوفة، وهو يقول:
يا أبناء المهاجرين، انفروا إلى أئمة الكفر، وبقية الأحزاب، وأولياء الشيطان. انفروا
إلى من يقاتل على دم حمال الخطايا، فوالله الذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، إنه ليحمل
خطاياهم إلى يوم القيامة لا ينقص من أوزارهم شيئا.
قلت: هذا قيس بن أبي حازم، وهو الذي روى حديث " إنكم لترون ربكم يوم
القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته "، وقد طعن مشايخنا المتكلمون فيه،
وقالوا: إنه فاسق، ولا تقبل روايته، لأنه قال: إني سمعت عليا يخطب على منبر الكوفة،

(1) يقال: أوزعه بالشئ، إذا أغراه به.
(2) لم ينشروا: أي لم يتفرقوا.
194

ويقول: انفروا إلى بقية الأحزاب، فأبغضته، ودخل بغضه في قلبي، ومن يبغض عليا
عليه السلام لا تقبل روايته.
فإن قيل: فما يقول مشايخكم في قوله عليه السلام: " انفروا إلى من يقاتل على دم
حمال الخطايا "؟ أليس هذا طعنا منه عليه السلام في عثمان!
قيل الأشهر الأكثر في الرواية صدر الحديث، وأما عجز الحديث فليس بمشهور
تلك الشهرة، وإن صح حملناه على أنه أراد به معاوية، وسمى ناصريه مقاتلين على دمه،
لأنهم يحامون عن دمه، ومن حامى عن دم إنسان فقد قاتل عليه.
وروى أبو نعيم الحافظ، قال: حدثنا أبو عاصم الثقفي، قال: جاءت امرأة من بني
عبس إلى علي عليه السلام، وهو يخطب بهذه الخطبة على منبر الكوفة، فقالت: يا أمير
المؤمنين، ثلاث بلبلن القلوب عليك، قال: وما هن ويحك! قالت: رضاك بالقضية،
وأخذك بالدنية، وجزعك عند البلية. فقال: إنما أنت امرأة، فاذهبي فاجلسي على
ذيلك، فقالت: لا والله ما من جلوس إلا تحت ظلال السيوف.
وروى عمرو بن شمر الجعفي، عن جابر، عن رفيع بن فرقد البجلي، قال: سمعت عليا
عليه السلام، يقول:
يا أهل الكوفة لقد ضربتكم بالدرة التي أعظ بها السفهاء فما أراكم تنتهون! ولقد
ضربتكم بالسياط التي أقيم بها الحدود، فما أراكم ترعوون! فلم يبق إلا أن أضربكم
بسيفي، وإني لأعلم ما يقومكم، ولكني لا أحب أن إلي ذلك منكم. وا عجبا لكم
ولأهل الشام! أميرهم يعصى الله وهم يطيعونه، وأميركم يطيع الله وأنتم تعصونه! والله
لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني، ولو سقت الدنيا
بحذافيرها إلى الكافر لما أحبني، وذلك أنه قضي ما قضي على لسان النبي الأمي أنه لا يبغضني
195

مؤمن، ولا يحبني كافر، وقد خاب من حمل ظلما. والله لتصبرن يا أهل الكوفة على
قتال عدوكم أو ليسلطن الله عليكم قوما أنتم أولى بالحق منهم، فليعذبنكم! أفمن قتله
بالسيف تحيدون إلى موتة على الفراش! والله لموتة على الفراش أشد من ضربة
ألف سيف.
قلت: ما أحسن قول أبي العيناء، وقد قال له المتوكل: إلى متى تمدح الناس وتهجوهم!
فقال: ما أحسنوا وأساءوا. وهذا أمير المؤمنين عليه السلام، وهو سيد البشر بعد رسول
الله صلى الله عليه وآله، يمدح الكوفة وأهلها عقيب الانتصار على أصحاب الجمل، بما قد
ذكرنا بعضه، وسنذكر باقيه، مدحا ليس باليسير ولا بالمستصغر، ويقول للكوفة عند
نظره إليها: أهلا بك وبأهلك! ما أرادك جبار بكيد إلا قصمه الله. ويثني عليها وعلى
أهلها حسب ذمه للبصرة وعيبه لها ودعائه عليها وعلى أهلها، فلما خذله أهل الكوفة يوم
التحكيم، وتقاعدوا عن نصره على أهل الشام، وخرج منهم الخوارج، ومرق منهم
المراق، ثم استنفرهم بعد فلم ينفروا، واستصرخهم فلم يصرخوا (1)، ورأي منهم
دلائل الوهن، وإمارات الفشل، انقلب ذلك المدح ذما (2)، وذلك الثناء استزاده
وتقريعا وتهجينا.
وهذا أمر مركوز في طبيعة البشر، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله كذلك،
والقرآن العزيز أيضا كذلك، أثنى على الأنصار لما نهضوا، وذمهم لما قعدوا في غزاة
تبوك، فقال: " فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا
بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله... " (2) الآيات، إلى أن رضي الله عنهم، فقال: " وعلى

(1) لم يصرخوا: لم يغيثوا.
(2) سورة التوبة.
196

الثلاثة الذين خلفوا " أي عن رسول الله " حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما
رحبت... " الآية.
* * *
(مناقب علي وذكر طرف من أخباره في عدله وزهده)
روى علي بن محمد بن أبي سيف المدائني، عن فضيل بن الجعد، قال: آكد الأسباب
في تقاعد العرب عن أمير المؤمنين عليه السلام أمر المال، فإنه لم يكن يفضل شريفا على
مشروف ولا عربيا على عجمي، ولا يصانع الرؤساء وأمراء القبائل، كما يصنع الملوك، ولا
يستميل أحدا إلى نفسه. وكان معاوية بخلاف ذلك، فترك الناس عليا والتحقوا بمعاوية:
فشكا علي عليه السلام إلى الأشتر تخاذل أصحابه، وفرار بعضهم إلى معاوية، فقال الأشتر:
يا أمير المؤمنين، إنا قاتلنا أهل البصرة بأهل البصرة وأهل الكوفة، ورأي الناس
واحد، وقد اختلفوا بعد، وتعادوا وضعفت النية، وقل العدد، وأنت تأخذهم بالعدل،
وتعمل فيهم بالحق، وتنصف الوضيع من الشريف، فليس للشريف عندك فضل منزلة على
الوضيع، فضجت طائفة ممن معك من الحق إذ عموا به، واغتموا من العدل إذ صاروا
فيه، ورأوا صنائع معاوية عند أهل الغناء والشرف، فتاقت أنفس الناس إلى الدنيا، وقل
من ليس للدنيا بصاحب، وأكثرهم يجتوي الحق ويشتري الباطل، ويؤثر الدنيا، فإن
تبذل المال يا أمير المؤمنين تمل إليك أعناق الرجال، وتصف نصيحتهم لك، وتستخلص
ودهم، صنع الله لك يا أمير المؤمنين! وكبت أعداءك، وفض جمعهم، وأوهن كيدهم، وشتت
أمورهم، إنه بما يعملون خبير.
فقال علي عليه السلام:

(1) سورة التوبة 118.
197

أما ما ذكرت من عملنا وسيرتنا بالعدل، فإن الله عز وجل يقول: " من عمل صالحا
فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد " (1) وأنا من أن أكون مقصرا
فيما ذكرت أخوف.
وأما ما ذكرت من أن الحق ثقل عليهم ففارقونا لذلك، فقد علم الله أنهم لم يفارقونا
من جور، ولا لجأوا إذ فارقونا إلى عدل، ولم يلتمسوا إلا دنيا زائلة عنهم كان قد فارقوها،
وليسألن يوم القيامة: أللدنيا أرادوا أم لله عملوا؟
وأما ما ذكرت من بذل الأموال واصطناع الرجال، فإنه لا يسعنا أن نؤتي امرأ من
الفئ أكثر من حقه، وقد قال الله سبحانه وتعالى وقوله الحق: " كم من فئة قليلة غلبت
فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين " (2) وقد بعث الله محمدا صلى الله عليه
وحده، فكثره بعد القلة، وأعز فئته بعد الذلة، وإن يرد الله أن يولينا هذا الامر يذلل
لنا صعبه، ويسهل لنا حزنه، وأنا قابل من رأيك ما كان لله عز وجل رضا، وأنت من
آمن الناس عندي، وأنصحهم لي، وأوثقهم في نفسي إن شاء الله.
* * *
وذكر الشعبي، قال: دخلت الرحبة بالكوفة - وأنا غلام - في غلمان، فإذا أنا
بعلي عليه السلام قائما على صبرتين (3) من ذهب وفضة، ومعه مخفقة، وهو يطرد الناس بمخفقته
ثم يرجع إلى المال فيقسمه بين الناس، حتى لم يبق منه شئ، ثم انصرف ولم يحمل إلى
بيته قليلا ولا كثيرا. فرجعت إلى أبي، فقلت له: لقد رأيت اليوم خير الناس
أو أحمق الناس. قال: من هو يا بني، قلت: علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، رأيته
يصنع كذا، فقصصت عليه، فبكى، وقال: يا بني بل رأيت خير الناس.
* * *

(1) سورة فصلت 46.
(2) سورة البقرة 249.
(3) الصبرة، بالضم: ما جمع من الطعام بلا كيل ولا وزن.
198

وروى محمد بن فضيل عن هارون بن عنترة، عن زاذان، قال: انطلقت مع قنبر
غلام علي عليه السلام، فإذا هو يقول: قم يا أمير المؤمنين، فقد خبأت لك خبيئا، قال:
وما هو، ويحك! قال: قم معي، فانطلق به إلى بيته، وإذا بغرارة مملوءة من جامات
ذهبا وفضة، فقال: يا أمير المؤمنين، رأيتك لا تترك شيئا إلا قسمته، فادخرت لك
هذا من بيت المال، فقال علي عليه السلام: ويحك يا قنبر! لقد أحببت أن تدخل بيتي
نارا عظيمة. ثم سل سيفه وضربه ضربات كثيرة، فانتثرت من بين إناء مقطوع نصفه،
وآخر ثلثه، ونحو ذلك، ثم دعا بالناس، فقال: اقسموه بالحصص، ثم قام إلى بيت المال،
فقسم ما وجد فيه، ثم رأى في البيت إبرا ومسال، فقال: ولتقسموا هذا، فقالوا:
لا حاجة لنا فيه، وقد كان علي عليه السلام يأخذ من كل عامل مما يعمل. فضحك،
وقال: ليؤخذن شره مع خيره.
* * *
وروى عبد الرحمن بن عجلان، قال: كان علي عليه السلام يقسم بين الناس الابزار
والحرف (1) والكمون، وكذا وكذا.
وروى مجمع التيمي، قال: كان علي عليه السلام يكنس بيت المال كل جمعة، ويصلي
فيه ركعتين، ويقول: ليشهد لي يوم القيامة.
وروى بكر بن عيسى عن عاصم بن كليب الجرمي، عن أبيه، قال: شهدت عليا
عليه السلام وقد جاءه مال من الجبل، فقام وقمنا معه، وجاء الناس يزدحمون، فأخذ
حبالا فوصلها بيده، وعقد بعضها إلى بعض، ثم أدارها حول المال، وقال: لا أحل
لأحد أن يجاوز هذا الحبل، قال: فقعد الناس كلهم من وراء الحبل، ودخل هو، فقال:
أين رؤوس الأسباع؟ وكانت الكوفة يومئذ أسباعا - فجعلوا يحملون هذه الجوالق
إلى هذه الجوالق، وهذا إلى هذا، حتى استوت القسمة سبعة أجزاء، ووجد مع المتاع

(1) الحرف، بالضم: الخردل.
199

رغيف، فقال: اكسروه سبع كسر، وضعوا على كل جزء كسرة، ثم قال:
هذا جناي وخياره فيه * إذ كل جان يده إلى فيه (1).
ثم أقرع عليها ودفعها إلى رؤوس الأسباع، فجعل كل رجل منهم يدعو قومه
فيحملون الجواليق.
* * *
وروى مجمع، عن أبي رجاء، قال: أخرج علي عليه السلام سيفا إلى السوق، فقال:
من يشتري مني هذا؟ فوالذي نفس علي بيده، لو كان عندي ثمن إزار ما بعته، فقلت له:
أنا أبيعك إزارا وأنسئك ثمنه إلى عطائك، فدفعت إليه إزارا إلى عطائه، فلما قبض
عطاءه دفع إلي ثمن الإزار.
وروى هارون بن سعيد، قال: قال عبد الله بن جعفر بن أبي طالب لعلي عليه
السلام: يا أمير المؤمنين، لو أمرت لي بمعونة أو نفقة! فوالله ما لي نفقة إلا أن أبيع
دابتي، فقال: لا والله ما أجد لك شيئا إلا أن تأمر عمك أن يسرق فيعطيك.
وروى بكر بن عيسى، قال: كان علي عليه السلام يقول: يا أهل الكوفة، إذا
أنا خرجت من عندكم بغير راحلتي، ورحلي وغلامي فلان، فأنا خائن. فكانت نفقته
تأتيه من غلته بالمدينة بينبع، وكان يطعم الناس منها الخبز واللحم، ويأكل هو
الثريد بالزيت.
وروى أبو إسحاق الهمداني أن امرأتين أتتا عليا عليه السلام: إحداهما من العرب
والأخرى من الموالي، فسألتاه، فدفع إليهما دراهم وطعاما بالسواء، فقالت إحداهما

(1) البيت أنشده عمرو بن عدي حين كان غلاما، وكان يخرج مع الخدم يجتنون للملك (جذيمة بن
الأبرش) الكمأة، فكانوا إذا وجدوا كمأة خيارا أكلوها وأتوا بالباقي إلى الملك، وكان عمرو لا
يأكل منه، ويأتي به كما هو وينشد البيت. وانظر القاموس 3: 259 - 260، وحديث علي ورد مفصلا في حلية الأولياء 1: 81.
200

إني امرأة من العرب، وهذه من العجم، فقال: إني والله لا أجد في هذا الفئ
فضلا على بني إسحاق.
وروى معاوية بن عمار عن جعفر بن محمد عليهما السلام، قال: ما اعتلج على علي
عليه السلام أمران في ذات الله، إلا أخذ بأشدهما، ولقد علمتم أنه كان يأكل - يا أهل
الكوفة - عندكم من ماله بالمدينة، وإن كان ليأخذ السويق فيجعله في جراب، ويختم
عليه مخافة أن يزاد عليه من غيره. ومن كان أزهد في الدنيا من علي عليه السلام!
وروى النضر بن منصور، عن عقبة بن علقمة، قال: دخلت على علي عليه السلام،
فإذا بين يديه لبن حامض، آذتني حموضته، وكسر يابسة، فقلت: يا أمير المؤمنين، أتأكل
مثل هذا! فقال لي: يا أبا الجنوب، كان رسول الله يأكل أيبس من هذا، ويلبس
أخشن من هذا، وأشار إلى ثيابه، فإن أنا لم آخذ بما آخذ به خفت ألا ألحق به.
وروى عمران بن مسلمة، عن سويد بن علقمة، قال: دخلت على علي عليه السلام
بالكوفة، فإذا بين يديه قعب لبن أجد ريحه من شدة حموضته، وفي يده رغيف، ترى
قشار الشعير على وجهه، وهو يكسره، ويستعين أحيانا بركبته، وإذا جاريته فضة قائمة
على رأسه، فقلت: يا فضة، أما تتقون الله في هذا الشيخ! ألا نخلتم دقيقه؟ فقالت:
إنا نكره أن نؤجر ويأثم، نحن قد أخذ علينا ألا ننخل له دقيقا ما صحبناه - قال:
وعلي عليه السلام لا يسمع ما تقول، فالتفت إليها فقال: ما تقولين؟ قالت: سله،
فقال لي: ما قلت لها؟ قال: فقلت إني قلت لها: لو نخلتم دقيقه! فبكى، ثم قال: بأبي
وأمي من لم يشبع ثلاثا متوالية (من) خبز بر حتى فارق الدنيا، ولم ينخل دقيقه، قال:
يعني رسول الله صلى الله عليه وآله.
201

وروى يوسف بن يعقوب، عن صالح بياع الأكسية، أن جدته لقيت عليا عليه
السلام بالكوفة، ومعه تمر يحمله، فسلمت عليه، وقالت له: أعطني يا أمير المؤمنين هذا
التمر أحمله عنك إلى بيتك، فقال: أبو العيال أحق بحمله. قالت: ثم قال لي: ألا تأكلين
منه؟ فقلت: لا أريد، قالت: فانطلق به إلى منزله ثم رجع مرتديا بتلك الشملة، وفيها
قشور التمر، فصلى بالناس فيها الجمعة. وروى محمد بن فضيل بن غزوان، قال: قيل لعلي عليه السلام: كم تتصدق!
كم تخرج مالك! ألا تمسك! قال: إني والله لو أعلم أن الله تعالى قبل مني فرضا واحدا
لأمسكت، ولكني والله ما أدري: أقبل مني سبحانه شيئا أم لا!
روى عنبسة العابد عن عبد الله بن الحسين بن الحسن، قال: أعتق علي عليه
السلام في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله ألف مملوك مما مجلت (1) يداه، وعرق جبينه،
ولقد ولي الخلافة، وأتته الأموال، فما كان حلواه إلا التمر، ولا ثيابه إلا الكرابيس.
وروى العوام بن حوشب، عن أبي صادق، قال: تزوج علي عليه السلام ليلى
بنت مسعود النهشلية، فضربت له في داره حجلة، فجاء فهتكها، وقال: حسب أهل
علي ما هم فيه!
وروى حاتم بن إسماعيل المدني، عن جعفر بن محمد عليه السلام، قال: ابتاع علي
عليه السلام في خلافته قميصا سملا (2) بأربعة دراهم، ثم دعا الخياط، فمد كم القميص، وأمره
بقطع ما جاوز الأصابع.
* * *
وإنما ذكرنا هذه الأخبار والروايات - وإن كانت خارجة عن مقصد الفصل - لان
الحال اقتضى ذكرها، من حيث أردنا أن نبين أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يكن

(1) مجلت يده: عملت.
(2) السمل: الخلق من الثياب.
202

يذهب في خلافته مذهب الملوك الذين يصانعون بالأموال ويصرفونها في مصالح ملكهم
وملاذ أنفسهم، وأنه لم يكن من أهل الدنيا، وإنما كان رجلا متألها صاحب حق،
لا يريد بالله ورسوله بدلا.
* * *
وروى علي بن محمد بن أبي سيف المدائني أن طائفة من أصحاب علي عليه السلام مشوا إليه،
فقالوا: يا أمير المؤمنين: أعط هذه الأموال وفضل هؤلاء الاشراف من العرب وقريش
على الموالي والعجم، واستمل من تخاف خلافه من الناس وفراره، وإنما قالوا له ذلك
لما كان معاوية يصنع في المال، فقال لهم: أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور، لا والله
لا أفعل ما طلعت شمس، وما لاح في السماء نجم، والله لو كان المال لي لواسيت بينهم،
فكيف وإنما هي أموالهم. ثم سكت طويلا واجما، ثم قال: الامر أسرع من ذلك.
قالها ثلاثا.
203

(35)
ومن خطبة له عليه السلام بعد التحكيم:
الأصل:
الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح، والحدث الجليل، وأشهد
أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ليس معه إله غيره، وأن محمدا عبده
ورسوله، صلى الله عليه.
أما بعد، فإن معصية الناصح الشفيق العالم المجرب، تورث الحسرة، وتعقب
الندامة، وقد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمري، ونخلت لكم مخزون
رأيي، لو كان يطاع لقصير أمر! فأبيتم علي إباء المخالفين الجفاة، والمنابذين
العصاة، حتى ارتاب الناصح بنصحه، وضن الزند بقدحه، فكنت أنا وإياكم
كما قال أخو هوازن:
أمرتكم أمري بمنعرج اللوى * فلم تستبينوا النصح إلا ضحى الغد
* * *
الشرح:
الخطب الفادح: الثقيل. ونخلت لكم، أي أخلصته، من نخلت الدقيق بالمنخل.
وقوله: " الحمد لله وإن أتى الدهر "، أي أحمده على كل حال من السراء والضراء.
وقوله: " لو كان يطاع لقصير أمر "، فهو قصير صاحب جذيمة، وحديثه مع جذيمة
ومع الزباء مشهور، فضرب المثل لكل ناصح يعصى بقصير.
204

وقوله: " حتى ارتاب الناصح بنصحه، وضن الزند بقدحه "، يشير إلى نفسه، يقول:
خالفتموني حتى ظننت أن النصح الذي نصحتكم به غير نصح، ولإطباقكم وإجماعكم على
خلافي، وهذا حق، لان ذا الرأي الصواب إذا كثر مخالفوه يشك في نفسه، وأما ضن
الزند بقدحه، فمعناه أنه لم يقدح لي بعد ذلك رأي صالح، لشدة ما لقيت منكم من الاباء
والخلاف والعصيان، وهذا أيضا حق، لان المشير الناصح إذا اتهم واستغش عمي قلبه
وفسد رأيه.
وأخو هوازن صاحب الشعر هو دريد بن الصمة، والأبيات مذكورة في الحماسة،
وأولها:
نصحت لعارض وأصحاب عارض * ورهط بني السوداء والقوم شهدي (1)
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج * سراتهم في الفارسي المسرد (2)
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى * فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد (3)
فلما عصوني كنت منهم وقد أرى * غوايتهم وأنني غير مهتد
وما أنا إلا من غزية إن غوت * غويت وإن ترشد غزية أرشد (4).

(1) ديوان الحماسة - بشرح المرزوقي (2: 813). وكان من خبر هذا الشعر أن عبد الله - وهو اسم
آخر لعارض وهو أخو دريد - كان أسود إخوته، فغزا ببني جشم وبني نصر ابني معاوية بن بكر بن
هوازن، وغنم مالا عظيما بمنعرج اللوى، فمنعه دريد عن الليث، وقال: إن غطفان ليست بغافلة عنا،
فحلف أنه لا يريم حتى يقسم، وأوقعوا بعبد الله وأصحابه، وقتل عبد الله، وجعل دريد يذب عنه وهو
جريح. شرح التبريزي (2: 304).
(2) ظنوا: قال المرزوقي: يجوز أن يكون معناه: ظنوا كل ظن قبيح بهم إذا غزوكم في أرضكم
وعقر دياركم. ويجوز أن يكون معنى ظنوا أيقنوا، لان الظن يستعمل في اليقين، على حد قوله تعالى:
" الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم ". والمدجج: التام السلاح، من الدجة، وهي الظلمة.
وسراتهم: خيارهم، وعنى بالفارسي المسرد، الدروع.
(3) في الحماسة ذكر هذا البيت بعد تاليه.
(4) في الحماسة: " وهل أنا إلا من غزية رهطه.
205

وهذه الألفاظ من خطبة خطب بها عليه السلام بعد خديعة ابن العاص لأبي موسى
وافتراقهما، وقبل وقعة النهروان
(قصة التحكيم ثم ظهور أمر الخوارج)
ويجب أن نذكر في هذا الفصل أمر التحكيم، كيف كان، وما الذي دعا إليه!
فنقول:
إن الذي دعا إليه طلب أهل الشام له، واعتصامهم به من سيوف أهل العراق،
فقد كانت إمارات القهر والغلبة لاحت، ودلائل النصر والظفر وضحت، فعدل أهل
الشام عن القراع إلى الخداع، وكان ذلك برأي عمرو بن العاص.
وهذه الحال وقعت عقيب ليلة الهرير (1)، وهي الليلة العظيمة التي يضرب
بها المثل.
* * *
ونحن نذكر ما أورده نصر بن مزاحم في كتاب صفين في هذا المعنى، فهو ثقة
ثبت، صحيح النقل، غير منسوب إلى هوى ولا إدغال، وهو من رجال أصحاب الحديث،
قال نصر:
حدثنا عمرو بن شمر، قال: حدثني أبو ضرار، قال: حدثني عمار بن ربيعة، قال:
غلس علي عليه السلام بالناس صلاة الغداة يوم الثلاثاء، عاشر شهر ربيع الأول، سنة
سبع وثلاثين. وقيل: عاشر شهر صفر، ثم زحف إلى أهل الشام بعسكر العراق، والناس
على راياتهم وأعلامهم، وزحف إليهم أهل الشام، وقد كانت الحرب أكلت الفريقين، ولكنها

(1) من هرير الفرسان بعضهم على بعض كما تهر السباع، وهو صوت دون النباح.
206

في أهل الشام أشد نكاية، وأعظم وقعا، فقد ملوا الحرب، وكرهوا القتال،
وتضعضعت أركانهم.
قال: فخرج رجل من أهل العراق على فرس كميت ذنوب (1)، عليه السلاح
لا يرى منه إلا عيناه، وبيده الرمح، فجعل يضرب رؤوس أهل العراق بالقناة، ويقول:
سووا صفوفكم رحمكم الله! حتى إذا عدل الصفوف والرايات، استقبلهم بوجهه، وولى
أهل الشام ظهره، ثم حمد الله وأثنى عليه، وقال:
الحمد لله الذي جعل فينا ابن عم نبيه، أقدمهم هجرة، وأولهم إسلاما، سيف من
سيوف الله على أعدائه، فانظروا إذا حمى الوطيس (2)، وثار القتام (3)، وتكسر
المران (4)، وجالت الخيل بالابطال، فلا أسمع إلا غمغمة أو همهمة، فاتبعوني وكونوا
في أثري.
ثم حمل على أهل الشام فكسر فيهم رمحه، ثم رجع فإذا هو الأشتر.
قال: وخرج رجل من أهل الشام، فنادى بين الصفين: يا أبا الحسن، يا علي،
أبرز إلي. فخرج إليه علي عليه السلام، حتى اختلفت أعناق دابتيهما بين الصفين، فقال:
إن لك يا علي لقدما في الاسلام والهجرة (5)، فهل لك في أمر أعرضه عليك، يكون فيه
حقن هذه الدماء، وتأخر (6) هذه الحروب، حتى ترى رأيك؟ قال: وما هو؟ قال: ترجع إلى

(1) الذنوب: الفرس الوافر الذنب.
(2) الوطيس في الأصل: التنور، أو حفرة تحتفر ويختبز فيها ويشوى. وقيل: الوطيس: شئ يتخذ
مثل التنور يختبز فيه، وقيل: هي تنور من حديد وبه شبه حر الحرب. وحمي الوطيس، مثل يضرب
للامر إذا اشتد. اللسان (8: 142).
(3) القتام: الغبار.
(4) المران: جمع مرانة، وهي الرماح الصلبة اللدنة.
(5) وقعة صفين: " وهجرة ".
(6) وقعة صفين: " تأخير ".
207

عراقك، فنخلي بينك وبين العراق، ونرجع نحن إلى شامنا، فتخي بيننا وبين الشام (1).
فقال علي عليه السلام: (2) قد عرفت ما عرضت، إن هذه لنصيحة وشفقة (2)، ولقد
أهمني هذا الامر وأسهرني، وضربت أنفه وعينه فلم أجد إلا القتال أو الكفر بما أنزل الله
على محمد. إن الله تعالى ذكره لم يرض من أوليائه أن يعصى في الأرض وهم سكوت
مذعنون، لا يأمرون بمعروف، ولا ينهون عن منكر، فوجدت القتال أهون علي من
معالجة في الأغلال في جهنم.
قال: فرجع الرجل (3) وهو يسترجع، وزحف الناس بعضهم إلى بعض فارتموا
بالنبل والحجارة حتى فنيت، ثم تطاعنوا بالرماح حتى تكسرت واندقت. ثم مشى القوم
بعضهم إلى بعض بالسيوف، وعمد الحديد، فلم يسمع السامعون إلا وقع الحديد بعضه على
بعض، لهو أشد هولا في صدور الرجال من الصواعق، ومن جبال تهامة يدك بعضها
بعضا، وانكسفت الشمس بالنقع، وثار القتام والقسطل (4)، وضلت الألوية والرايات، وأخذ
الأشتر يسير فيما بين الميمنة والميسرة، فيأمر كل قبيلة أو كتيبة من القراء بالاقدام على التي
تليها، فاجتلدوا بالسيوف وعمد الحديد، من صلاة الغداة من اليوم المذكور إلى نصف
الليل، لم يصلوا لله صلاة، فلم يزل الأشتر يفعل ذلك حتى أصبح والمعركة خلف ظهره،
وافترقوا عن سبعين ألف قتيل في ذلك اليوم، وتلك الليلة وهي ليلة الهرير المشهورة. وكان
الأشتر في ميمنة الناس، وابن عباس في الميسرة، وعلي عليه السلام في القلب،
والناس يقتتلون.
ثم استمر القتال من نصف الليل الثاني إلى ارتفاع الضحى، والأشتر يقول لأصحابه

(1) صفين: " شامنا ".
(2 - 2) صفين: " لقد عرفت، إنما عرضت هذه النصيحة شفقة ".
(3) صفين: " الشامي ".
(4) القسطل: الغبار.
208

وهو يزحف بهم نحو أهل الشام: ازحفوا قيد رمحي هذا، ويلقى رمحه، فإذا فعلوا ذلك،
قال: ازحفوا قاب هذا القوس (1)، فإذا فعلوا ذلك (2) سألهم مثل ذلك، (2) حتى مل أكثر
الناس من الاقدام، فلما رأى ذلك قال: أعيذكم بالله أن ترضعوا الغنم سائر اليوم. ثم دعا
بفرسه، وركز رايته - وكانت مع حيان بن هوذة النخعي - وسار بين الكتائب، وهو يقول:
ألا من يشتري نفسه لله ويقاتل مع الأشتر، حتى يظهر أو يلحق بالله! فلا يزال الرجل
من الناس يخرج إليه فيقاتل معه (3).
* * *
قال نصر: وحدثني عمرو قال: حدثني أبو ضرار قال: حدثني عمار بن ربيعة،
قال: مر بي الأشتر، فأقبلت معه حتى رجع إلى المكان الذي كان به، فقام في أصحابه،
فقال: شدوا - فدا لكم عمي وخالي - شدة ترضون بها الله، وتعزون بها الدين. (4 إذا
أنا حملت فاحملوا 4). ثم نزل، وضرب وجه دابته، وقال لصاحب رايته: أقدم.
فتقدم (5) بها، ثم شد على القوم، وشد معه أصحابه، فضرب أهل الشام حتى انتهى بهم
إلى معسكرهم، فقاتلوا عند المعسكر قتالا شديدا، وقتل صاحب رايتهم، وأخذ علي
عليه السلام - لما رأى الظفر قد جاء من قبله - يمده بالرجال (6).
* * *
وروى نصر عن رجاله، قال: لما بلغ القوم إلى ما بلغوا إليه، قام علي عليه
السلام خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، وقال:

(1) ألقاب: ما بين المقبض والسية، والقوس: يذكر ويؤنث.
(2 - 2) ساقط من ب، وأثبته من أ، ج.
(3) وقعة صفين: 540 - 544.
(4 - 4) وقعة صفين: " فإذا شددت فشدوا ".
(5) صفين: " فأقدم بها ".
(6) وقعة صفين 544.
209

أيها الناس، قد بلغ بكم الامر وبعدوكم ما قد رأيتم، ولم يبق منهم إلا آخر نفس،
وإن الأمور إذا أقبلت اعتبر آخرها بأولها، وقد صبر لكم القوم على غير دين حتى
بلغنا منهم ما بلغنا، وأنا غاد عليهم بالغداة أحاكمهم إلى الله.
قال: فبلغ ذلك معاوية، فدعا عمرو بن العاص، وقال: يا عمرو، إنما هي الليلة، حتى
يغدو علي علينا بالفيصل (1)، فما ترى؟
قال: إن رجالك لا يقومون لرجاله، ولست مثله، هو يقاتلك على أمر وأنت
تقاتله على غيره، أنت تريد البقاء، وهو يريد الفناء، وأهل العراق يخافون منك إن
ظفرت بهم، وأهل الشام لا يخافون عليا إن ظفر بهم، ولكن ألق إلى القوم أمرا إن
قبلوه اختلفوا، وإن ردوه اختلفوا، ادعهم إلى كتاب الله حكما فيما بينك وبينهم، فإنك
بالغ به حاجتك في القوم، وإني لم أزل أؤخر هذا الامر لوقت حاجتك إليه.
فعرف معاوية ذلك وقال له: صدقت.
* * *
قال نصر: وحدثنا عمرو بن شمر عن جابر بن عمير (3) الأنصاري، قال: والله
لكأني أسمع عليا يوم الهرير، وذلك بعد ما طحنت رحا مذحج، فيما بينها وبين عك
ولخم وجذام والأشعريين بأمر عظيم تشيب منه النواصي، حتى (4 استقلت الشمس،
وقام قائم الظهر 4)، وعلي عليه السلام يقول لأصحابه: حتى متى نخلي بين هذين الحيين!
قد فنيا وأنتم وقوف تنظرون! أما تخافون مقت الله! ثم انفتل (5) إلى القبلة، ورفع

(1) ب: " بالفصل "، وما أثبته من أ، ج.
(2) وقعة صفين 545.
(3) في الأصول: " نمير "، وصوابه من كتاب صفين.
(4 - 4) صفين: " من حين استقلت الشمس حتى قام قائم الظهيرة " واستقلت الشمس: ارتفعت. (5) ب: " استقبل "، والصواب ما أثبته من أ، ج.
210

يديه إلى الله عز وجل، ونادى: يا الله، يا رحمن، يا رحيم، يا واحد، يا أحد، يا صمد، يا الله،
يا إله محمد، اللهم إليك نقلت الاقدام، وأفضت القلوب، ورفعت الأيدي، ومدت
الأعناق، وشخصت الابصار، وطلبت الحوائج! اللهم إنا نشكو إليك غيبة نبينا، وكثرة
عدونا، وتشتت أهوائنا، " ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق، وأنت خير
الفاتحين) (1). سيروا على بركة الله.
ثم نادى: لا إله إلا الله والله أكبر، كلمة التقوى.
قال: فلا والذي بعث محمدا بالحق نبيا، ما سمعنا رئيس قوم منذ خلق الله السماوات
والأرض أصاب بيده في يوم واحد ما أصاب، إنه قتل - فيما ذكر العادون - زيادة
على خمسمائة من أعلام العرب، يخرج بسيفه منحنيا، فيقول: معذرة إلى الله وإليكم
من هذا. لقد هممت أن أفلقه (2)، ولكن يحجزني عنه أنى سمعت رسول الله صلى الله
عليه وآله، يقول: " لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي ". وأنا أقاتل به دونه
صلى الله عليه.
قال: فكنا نأخذه فنقومه، ثم يتناوله من أيدينا فيقتحم به في عرض الصف، فلا
والله ما ليث بأشد نكاية منه في عدوه، عليه السلام (3).
* * *
قال نصر: فحدثنا عمرو بن شمر، عن جابر، قال: سمعت تميم بن حذيم، يقول: لما
أصبحنا من ليلة الهرير، نظرنا فإذا أشباه الرايات، أمام أهل الشام في وسط الفيلق

(1) سورة الأعراف 89.
(2) صفين: " أصقله ".
(3) كتاب صفين 545 - 546.
211

حيال موقف علي ومعاوية، فلما أسفرنا إذا هي المصاحف قد ربطت في أطراف الرماح،
وهي عظام مصاحف العسكر، وقد شدوا ثلاثة أرماح جميعا، وربطوا عليها مصحف
المسجد الأعظم، يمسكه عشرة رهط.
قال نصر: وقال أبو جعفر وأبو الطفيل: استقبلوا عليا بمائة مصحف، ووضعوا في كل
مجنبة (1) مائتي مصحف، فكان جميعها خمسمائة مصحف.
قال أبو جعفر: ثم قام الطفيل بن أدهم حيال علي عليه السلام، وقام أبو شريح
الجذامي حيال الميمنة، وقام ورقاء بن المعمر حيال الميسرة، ثم نادوا: يا معشر العرب،
الله الله في النساء والبنات والأبناء من الروم والأتراك وأهل فارس غدا إذا فنيتم! الله الله في
دينكم! هذا كتاب الله بيننا وبينكم.
فقال علي عليه السلام: اللهم إنك تعلم أنهم ما الكتاب يريدون، فاحكم بيننا وبينهم
إنك أنت الحكم الحق المبين.
فاختلف أصحاب علي عليه السلام في الرأي، فطائفة قالت القتال، وطائفة قالت
المحاكمة إلى الكتاب، ولا يحل لنا الحرب، وقد دعينا إلى حكم الكتاب، فعند ذلك
بطلت الحرب ووضعت أوزارها (2).
* * *
قال نصر: وحدثنا عمرو بن شمر، عن جابر، قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن علي
بن الحسين، قال: لما كان اليوم الأعظم، قال أصحاب معاوية: والله لا نبرح اليوم
العرصة حتى نموت أو يفتح لنا، وقال أصحاب علي عليه السلام: لا نبرح اليوم العرصة
حتى نموت أو يفتح لنا، فبادروا القتال غدوة في يوم من أيام الشعرى (3) طويل، شديد

(1) المجنبة، بكسر النون المشددة: ميمنة الجيس وميسرته.
(2) وقعة صفين 546 - 547.
(3) الشعرى: كوكب نير يقال له المرزم يطلع بعد الجوزاء، وطلوعه في شدة الحر. (اللسان).
212

الحر، فتراموا حتى فنيت النبال، وتطاعنوا حتى تقصفت الرماح، ثم نزل القوم عن
خيولهم، ومشى بعضهم إلى بعض بالسيوف حتى كسرت جفونها، وقام الفرسان في
الركب، ثم اضطربوا بالسيوف وبعمد الحديد، فلم يسمع السامعون إلا تغمغم القوم،
وصليل الحديد في الهام، وتكادم الأفواه. وكسفت الشمس، وثار القتام، وضلت
الألوية والرايات، ومرت مواقيت أربع صلوات، ما يسجد فيهن لله إلا تكبيرا،
ونادت المشيخة في تلك الغمرات: يا معشر العرب، الله الله في الحرمات من النساء والبنات!
قال جابر: فبكى أبو جعفر وهو يحدثنا بهذا الحديث.
قال نصر: وأقبل الأشتر على فرس كميت محذوف، وقد وضع مغفره على قربوس
السرج، وهو ينادي: اصبروا يا معشر المؤمنين، فقد حمي الوطيس، ورجعت الشمس،
من الكسوف، واشتد القتال، وأخذت السباع بعضها بعضا، فهم كما قال الشاعر (1):
مضت واستأخر القرعاء عنها * وخلى بينهم إلا الوريع (2)
قال: يقول واحد لصاحبه في تلك الحال: أي رجل هذا لو كانت له نية! فيقول له
صاحبه: وأي نية أعظم من هذه ثكلتك أمك وهبلتك! إن رجلا كما ترى قد سبح
في الدم، وما أضجرته الحرب، وقد غلت هام الكماة من الحر، وبلغت القلوب الحناجر،
وهو كما تراه جذعا يقول هذه المقالة! اللهم لا تبقنا بعد هذا!
قلت: لله أم قامت عن الأشتر لو أن إنسانا يقسم أن الله تعالى ما خلق في العرب

(1) هو عمرو بن معد كرب، من الأصمعية التي مطلعها:
أمن ريحانة الداعي السميع * يؤرقني وأصحابي هجوع
وهي في الأصمعيات 198 - 202، وخزانة الأدب 3: 462 - 463.
(2) القرعاء: جمع قريع، وهو المغلوب المهزوم. وفي الخزانة والأصمعيات: " الأوغال " جمع وغل
وهو الضعيف. والوريع: الضعيف الذي لا غناء عنده.
213

ولا في العجم أشجع منه إلا أستاذه عليه السلام لما خشيت عليه الاثم! ولله در القائل،
وقد سئل عن الأشتر: ما أقول في رجل هزمت حياته أهل الشام، وهزم موته
أهل العراق!
وبحق ما قال فيه أمير المؤمنين عليه السلام: كان الأشتر لي كما كنت لرسول الله
صلى الله عليه (1).
* * *
قال نصر: وروى الشعبي عن صعصعة، قال: الأشتر لي كما كنت لرسول الله
صلى الله عليه (1)
* * *
قال نصر وروى الشعبي عن صعصعة، قال: وقد كان الأشعث بن قيس بدر منه
قول ليلة الهرير، نقله الناقلون إلى معاوية، فاغتنمه وبنى عليه تدبيره، وذلك أن الأشعث
خطب أصحابه من كنده تلك الليلة، فقال: الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأومن به
وأتوكل عليه، وأستنصره وأستغفره، وأستجيره وأستهديه، وأستشيره وأستشهد به،
فإن من هداه (2) الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله
وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه.
ثم قال: قد رأيتم يا معشر المسلمين ما قد كان في يومكم هذا الماضي، وما قد فني فيه
من العرب، فوالله لقد بلغت من السن ما شاء الله أن أبلغ، فما رأيت مثل هذا اليوم
قط. ألا فليبلغ الشاهد الغائب، إنا نحن إن تواقفنا غدا،
إنه لفناء العرب وضيعة
الحرمات (3)! أما والله ما أقول هذه المقالة جزعا من الحرب، ولكني رجل مسن أخاف على النساء والذراري غدا إذا فنينا، اللهم إنك تعلم إني قد نظرت لقومي ولأهل
ديني فلم آل، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، والرأي يخطئ ويصيب،

(1) وقعة صفين 547 - 549.
(2) صفين: " بهد الله ".
(3) في ب: " لفنيت العرب وضيعت الحرمات "، وما أثبته عن صفين.
214

وإذا قضى الله أمرا أمضاه على ما أحب العباد أو كرهوا، أقول قولي هذا وأستغفر الله
العظيم لي ولكم.
قال الشعبي: قال صعصعة: فانطلقت عيون معاوية إليه بخطبة الأشعث، فقال:
أصاب ورب الكعبة! لئن نحن التقينا غدا لتميلن الروم على ذراري أهل الشام ونسائهم،
ولتميلن فارس على ذراري أهل العراق ونسائهم! إنما يبصر هذا ذوو الأحلام والنهى،
ثم قال لأصحابه: اربطوا المصاحف على أطراف القنا.
فثار أهل الشام في سواد الليل ينادون عن قول معاوية وأمره: يا أهل العراق، من
لذرارينا إن قتلتمونا! ومن لذراريكم إذا قتلناكم! الله الله في البقية! وأصبحوا وقد رفعوا
المصاحف على رؤوس الرماح، وقد قلدوها الخيل (والناس على الرايات قد اشتهوا
ما دعوا إليه) (1)، ومصحف دمشق الأعظم يحمله عشرة رجال على رؤوس الرماح،
وهم ينادون: كتاب الله بيننا وبينكم.
وأقبل أبو الأعور السلمي على برذون أبيض، وقد وضع المصحف على رأسه،
ينادي: يا أهل العراق، كتاب الله بيننا وبينكم.
قال: فجاء عدي بن حاتم الطائي، فقال: يا أمير المؤمنين، إنه لم يصب منا عصبة
إلا وقد أصيب منهم مثلها (2)، وكل مقروح، ولكنا أمثل بقية منهم، وقد جزع
القوم، وليس بعد الجزع إلا ما نحب، فناجزهم (3).
وقام الأشتر، فقال: يا أمير المؤمنين، إن معاوية لا خلف له من رجاله، ولكن

(1) من كتاب صفين.
(2) كتاب صفين: " إن كان أهل الباطل لا يقومون بأهل الحق، فإنه لم يصب... ".
(3) في كتاب صفين: " فناجز القوم "، والمناجزة في القتال: المبارزة والمقاتلة، وهو أن يتبارز
الفارسان فيتمارسان حتى يقتل كل واحد منهما صاحبه، أو يقتل أحدهما.
215

بحمد الله لك الخلف، ولو كان له مثل رجالك لم يكن له مثل صبرك ولا نصرك، فاقرع
الحديد بالحديد، واستعن بالله الحميد.
ثم قام عمرو بن الحمق، فقال: يا أمير المؤمنين، إنا والله ما أجبناك ولا نصرناك
على الباطل، ولا أجبنا إلا الله، ولا طلبنا إلا الحق، ولو دعانا غيرك إلى ما دعوتنا
إليه لاستشرى (1) فيه اللجاج، وطالت فيه النجوى، وقد بلغ الحق مقطعه، وليس لنا
معك رأي.
فقام الأشعث بن قيس مغضبا، فقال: يا أمير المؤمنين، إنا لك اليوم على ما كنا
عليه أمس، وليس آخر أمرنا كأوله، وما من القوم أحد أحنى على أهل العراق
ولا أوتر لأهل الشام مني! فأجب القوم إلى كتاب الله عز وجل، فإنك أحق به منهم،
وقد أحب الناس البقاء، وكرهوا القتال.
فقال علي عليه السلام: هذا أمر ينظر فيه.
فتنادى الناس من كل جانب الموادعة.
فقال علي عليه السلام: أيها الناس، إني أحق من أجاب إلى كتاب الله، ولكن
معاوية، وعمرو بن العاص، وابن أبي معيط، وابن أبي سرح، وابن مسلمة ليسوا
بأصحاب دين ولا قرآن، إني أعرف بهم منكم، صحبتهم صغارا ورجالا، فكانوا
شر صغار، وشر رجال، ويحكم إنها كلمة حق يراد بها باطل! إنهم ما رفعوها أنهم
يعرفونها ويعملون بها، ولكنها الخديعة والوهن والمكيدة! أعيروني سواعدكم وجماجمكم
ساعة واحدة، فقد بلغ الحق مقطعه، ولم يبق إلا أن يقطع دابر الذين ظلموا.
فجاءه من أصحابه زهاء عشرين ألفا مقنعين في الحديد، شاكي السلاح سيوفهم على

(1) استشرى: اشتد.
216

عواتقهم، وقد اسودت جباههم من السجود، يتقدمهم مسعر بن فدكي، وزيد بن حصين
وعصابة من القراء الذين صاروا خوارج من بعد، فنادوه باسمه لا بإمرة المؤمنين:
يا علي، أجب القوم إلى كتاب الله إذ دعيت إليه، وإلا قتلناك كما قتلنا ابن عفان،
فوالله لنفعلنها إن لم تجبهم!
فقال لهم: ويحكم! أنا أول من دعا إلى كتاب الله، وأول من أجاب إليه، وليس
يحل لي، ولا يسعني في ديني أن أدعى إلى كتاب الله فلا أقبله، إني إنما قاتلتهم ليدينوا
بحكم القرآن، فإنهم قد عصوا الله فيما أمرهم، ونقضوا عهده، ونبذوا كتابه، ولكني
قد أعلمتكم أنهم قد كادوكم، وأنهم ليس العمل بالقرآن يريدون. قالوا: فابعث
إلى الأشتر ليأتينك، وقد كان الأشتر صبيحة ليلة الهرير أشرف على عسكر
معاوية ليدخله.
* * *
قال نصر: فحدثني فضيل بن خديج، (عن رجل من النخع) (1) قال: سأل
مصعب (2 إبراهيم بن الأشتر 2) عن الحال كيف كانت؟ فقال: كنت عند علي
عليه السلام حين بعث إلى الأشتر ليأتيه، وقد كان الأشتر أشرف على معسكر معاوية
ليدخله، فأرسل إليه علي عليه السلام يزيد بن هانئ: أن ائتني، فأتاه فأبلغه (3)، فقال
الأشتر: إئته فقل له: ليس هذه بالساعة التي ينبغي لك أن تزيلني عن موقفي،

(1) من كتاب صفين.
(2 - 2) ب: " سأل مصعب بن إبراهيم "، وصوابه من أ، ج.
(3) كتاب صفين: " فبلغه ".
217

إني قد رجوت (1) الفتح فلا تعجلني، فرجع يزيد بن هانئ إلى علي عليه السلام فأخبره،
فما هو إلا أن انتهى إلينا حتى ارتفع الرهج، وعلت الأصوات من قبل الأشتر، وظهرت
دلائل الفتح والنصر لأهل العراق، ودلائل الخذلان والادبار على أهل الشام، فقال القوم
لعلي: والله ما نراك أمرته إلا بالقتال! قال: أرأيتموني ساررت (2) رسولي إليه! أليس
إنما كلمته على رءوسكم علانية وأنتم تسمعون! قالوا: فابعث إليه فليأتك، وإلا فوالله
اعتزلناك! فقال: ويحك يا يزيد! قل له: أقبل إلى، فإن الفتنة قد وقعت. فأتاه فأخبره،
فقال الأشتر: أبرفع (3) هذه المصاحف؟ قال: نعم، قال: أما والله لقد ظننت أنها حين
رفعت ستوقع خلافا وفرقة، إنها مشورة ابن النابغة (4)! ثم قال ليزيد بن هانئ:
ويحك! ألا ترى إلى الفتح! ألا ترى إلى ما يلقون! ألا ترى الذي يصنع الله لنا؟
أينبغي أن ندع هذا وننصرف عنه! فقال له يزيد: أتحب أنك ظفرت هاهنا وأن
أمير المؤمنين بمكانه الذي هو فيه يفرج عنه، ويسلم إلى عدوه! قال: سبحان الله! لا والله
لا أحب ذلك، قال: فإنهم قد قالوا له، وحلفوا عليه، لترسلن إلى الأشتر فليأتينك،
أو لنقتلنك بأسيافنا، كما قتلنا عثمان، أو لنسلمنك إلى عدوك.
فأقبل الأشتر حتى انتهى إليهم، فصاح: يا أهل الذل والوهن، أحين علوتم القوم،
وظنوا أنكم لهم قاهرون، رفعوا (5) المصاحف يدعونكم إلى ما فيها! وقد والله تركوا
ما أمر الله به فيها، وتركوا سنة من أنزلت عليه، فلا تجيبوهم! أمهلوني فواقا (6) فإني

(1) كتاب صفين: " إني قد رجوت الله أن يفتح لي ".
(2) ب: " شاورت "، وصوابه من أ، ج، وكتاب صفين.
(3) كتاب صفين: " أ لرفع ".
(4) كتاب صفين: " يعني عمرو بن العاص ".
(5) كذا في الأصول وتاريخ الطبري 6: 27، وفي كتاب صفين: " ورفعوا ".
(6) الفواق: ما بين الحلبتين، يقال: انتظرتك فواق ناقة.
218

قد أحسست بالفتح. قالوا: لا نمهلك، قال: فأمهلوني عدوة الفرس، فإني قد طمعت
في النصر، قالوا: إذن ندخل معك في خطيئتك.
قال: فحدثوني عنكم، وقد قتل أماثلكم، وبقى أراذلكم، متى كنتم محقين!
أحين كنتم تقتلون أهل الشام! فأنتم الآن حين أمسكتم عن قتالهم مبطلون! أم أنتم الآن
في إمساككم عن القتال محقون! فقتلاكم إذن الذين لا تنكرون فضلهم، وإنهم خير
منكم في النار. قالوا: دعنا منك يا أشتر، قاتلناهم في الله وندع قتالهم في الله، إنا لسنا
نطيعك فاجتنبنا، فقال: خدعتم والله فانخدعتم، ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم،
يا أصحاب الجباه السود، كنا نظن صلاتكم زهادة في الدنيا وشوقا إلى لقاء الله! فلا أرى
فراركم إلا إلى الدنيا من الموت، ألا فقبحا يا أشباه النيب (1) الجلالة، ما أنتم برائين
بعدها عزا أبدا، فأبعدوا كما بعد القوم الظالمون.
فسبوه وسبهم، وضربوا بسياطهم وجه دابته، وضرب بسوطه وجوه دوابهم،
وصاح بهم علي عليه السلام، فكفوا. وقال الأشتر: يا أمير المؤمنين، إحمل الصف
على الصف تصرع القوم. فتصايحوا إن أمير المؤمنين قد قبل الحكومة، ورضي بحكم
القرآن. فقال الأشتر: إن كان أمير المؤمنين قد قبل ورضي، فقد رضيت بما رضي به
أمير المؤمنين، فأقبل الناس يقولون: قد رضي أمير المؤمنين، قد قبل أمير المؤمنين،
وهو ساكت لا يبض (2) بكلمة، مطرق إلى الأرض.
ثم قام فسكت الناس كلهم، فقال: أيها الناس، إن أمري لم يزل معكم على ما أحب
إلى أن أخذت منكم الحرب، وقد والله أخذت منكم وتركت، وأخذت من عدوكم
فلم تترك، وإنها فيهم أنكى وأنهك، ألا إني كنت أمس أمير المؤمنين فأصبحت اليوم

(1) النيب، جمع ناب، وهي الناقة المسنة.
(2) لا يبض بكلمة: لا يتكلم.
219

مأمورا، وكنت ناهيا فأصبحت منهيا، وقد أحببتم البقاء، وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون
ثم قعد.
قال نصر: ثم تكلم رؤساء القبائل، فكل قال ما يراه ويهواه، إما من الحرب
أو من السلم، فقام كردوس بن هانئ البكري فقال: أيها الناس، إنا والله ما تولينا معاوية
منذ تبرأنا منه، ولا تبرأنا من علي منذ توليناه، وإن قتلانا لشهداء، وإن أحياءنا لأبرار،
وإن عليا لعلى بينة من ربه، وما أحدث إلا الانصاف، فمن سلم له نجا، ومن خالفه هلك.
ثم قام شقيق بن ثور البكري، فقال: أيها الناس، إنا دعونا أهل الشام إلى كتاب
الله، فردوه علينا، فقاتلناهم عليه، وإنهم قد دعونا اليوم إليه (1)، فإن رددناه عليهم.
حل لهم منا ما حل لنا منهم، ولسنا نخاف أن يحيف الله علينا ورسوله، ألا إن عليا ليس
بالراجع الناكس، ولا الشاك الواقف، وهو اليوم على ما كان عليه أمس، وقد أكلتنا
هذه الحرب، ولا نرى البقاء إلا في الموادعة (2).
* * *
قال نصر: ثم ن أهل الشام لما أبطا عنهم علم حال أهل العراق: هل أجابوا إلى
الموادعة أم لا؟ جزعوا فقالوا: يا معاوية، ما نرى أهل العراق أجابوا إلى ما دعوناهم إليه،
فأعدها جذعة (3)، فإنك قد غمرت بدعائك القوم، وأطمعتهم فيك.
فدعا معاوية عبد الله بن عمرو بن العاص، فأمره أن يكلم أهل العراق، ويستعلم
له ما عندهم، فأقبل حتى إذا كان بين الصفين، نادى: يا أهل العراق، أنا عبد الله بن

(1) كتاب وقعة صفين: " إلى كتاب الله ".
(2) كتاب صفين 561 - 564، 553 - 554، وتاريخ الطبري 6 - 57 بسنده عن عبد
الرحمن بن جندب عن أبيه.
(3) أعدها جذعة، أي ابدأ بها مرة أخرى. وفي اللسان: " و إذ طفئت حرب بين قوم فقال بعضهم:
" إن شئتم أعدناها جذعة، أي أول ما يبتدأ منها ". وفي الأصول " خدعة " والصواب ما أثبته من كتاب صفين.
220

عمرو بن العاص، إنه قد كانت بيننا وبينكم أمور للدين أو الدنيا (1) فإن تكن للدين
فقد والله أعذرنا وأعذرتم، وإن تكن للدنيا فقد والله أسرفنا وأسرفتم، وقد دعوناكم
إلى أمر لو دعوتمونا إليه لأجبناكم، فإن يجمعنا وإياكم الرضا فذاك من الله. فاغتنموا هذه
الفرصة، عسى أن يعيش فيها المحترف (2) و ينسى فيها القتيل، فإن بقاء المهلك بعد
الهالك قليل.
فأجابه سعيد بن قيس الهمداني، فقال: أما بعد يا أهل الشام، إنه قد كانت بيننا
وبينكم أمور حامينا فيها على الدين والدنيا، وسميتموها عذرا وسرفا، وقد دعوتمونا
اليوم إلى ما قاتلناكم عليه أمس، ولم يكن ليرجع أهل العراق إلى عراقهم، وأهل الشام
إلى شامهم، بأمر أجمل من أن يحكم فيه بما أنزل الله سبحانه، (فالامر في أيدينا دونكم،
وإلا فنحن نحن وأنتم أنتم) (3).
فقام الناس إلى علي عليه السلام، فقالوا له: (4 أجب القوم إلى المحاكمة، قال:
ونادى إنسان من أهل الشام في جوف الليل بشعر سمعه الناس، وهو 4):
رؤوس العراق أجيبوا الدعاء * فقد بلغت غاية الشدة
وقد أودت الحرب بالعالمين * وأهل الحفائظ والنجدة
فلسنا ولستم من المشركين * ولا المجمعين على الردة
ولكن أناس لقوا مثلهم * لنا عدة ولكم عدة (5)

(1) كتاب وقعة صفين: " للدين والدنيا ".
(2) في ج: " المحتزق " وفي حواشيها: " الحزق، محركة: الدهش من الخوف ".
(3) تكملة من كتاب صفين.
(4 - 4) في كتاب صفين: " أجب القوم إلى ما دعوك إليه، فإنا قد قبلنا، ونادى إنسان من أهل
الشام في سواد الليل بشعر سمعه الناس، وهو ".
(5) كتاب وقعة صفين: " ولهم عدة ".
221

(فقاتل كل على وجهه * يقحمه الجد والحده) (1)
فإن تقبلوها ففيها البقاء * وأمن الفريقين والبلده
وإن تدفعوها ففيها الفناء * وكل بلاء إلى مده
فحتى متى مخض هذا السقاء * ولا بد أن تخرج الزبده
ثلاثة رهط هم أهلها * وإن يسكتوا تخمد الوقده
سعيد بن قيس وكبش العراق * وذاك المسود من كنده.
قال: فأما المسود من كنده، وهو الأشعث، فإنه لم يرض بالسكوت، بل كان
من أعظم الناس قولا في إطفاء الحرب والركون إلى الموادعة. وأما كبش العراق، وهو
الأشتر، فلم يكن يرى إلا الحرب، ولكنه سكت على مضض. وأما سعيد بن قيس،
فكان تارة هكذا وتارة هكذا (2).
* * *
وذكر ابن ديزيل (3) الهمداني في كتاب " صفين " قال:
خرج عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ومعه لواء معاوية، فارتجز فخرج إليه جارية بن قدامة
السعدي، فارتجز أيضا مجيبا له ثم أطعنا (4) فلم يصنعا شيئا، وانصرف كل واحد منهما عن
صاحبه، فقال عمرو بن العاص لعبد الرحمن: أقحم يا بن سيف الله، فتقدم عبد الرحمن بلوائه،
وتقدم أصحابه، فأقبل علي عليه السلام على الأشتر، فقال له: قد بلغ لواء معاوية حيث

(1) تكملة من كتاب صفين.
(2) كتاب وقعة صفين: 551 - 553.
(3) ابن ديزيل، هو إبراهيم بن الحسين بن علي بن مهران بن ديزيل الكسائي الهمذاني، أحد كبار
الحفاظ ومتكلميهم، ذكره ابن حجر في لسان الميزان (1: 49)، وقال: " مات في آخر يوم من شعبان
سنة إحدى وثمانين ومائتين ".
(4) أطعنا: أي تطاعنا.
222

ترى، فدونك القوم. فأخذ الأشتر لواء علي عليه السلام، وقال (1):
إني أنا الأشتر معروف الشتر (2) * إني أنا الأفعى العراقي الذكر
لست ربيعيا ولست من مضر (3) * لكنني من مذحج الشم الغرر
فضارب القوم حتى ردهم، فانتدب (4) له همام بن قبيصة الطائي - وكان مع معاوية -
فشد عليه في مذحج، فانتصر عدي بن حاتم الطائي للأشتر، فحمل عليه في طئ، فاشتد
القتال جدا، فدعا علي ببغلة رسول الله صلى الله عليه وآله فركبها، ثم تعصب بعمامة
رسول الله، ونادى: أيها الناس، من يشري نفسه لله! إن هذا يوم له ما بعده، فانتدب
معه ما بين عشرة آلاف إلى اثني عشر ألفا، فتقدمهم علي عليه السلام، وقال:
دبوا دبيب النمل لا تفوتوا * وأصبحوا أمركم أو بيتوا (5)
حتى تنالوا الثأر أو تموتوا
وحمل وحمل الناس كلهم حملة واحدة، فلم يبق لأهل الشام صف إلا أزالوه، حتى
أفضوا إلى معاوية، فدعا معاوية بفرسه ليفر عليه.
وكان معاوية بعد ذلك يحدث فيقول: لما وضعت رجلي في الركاب، ذكرت قول
عمرو بن الإطنابة (6)
أبت لي عفتي وأبى بلائي * وأخذي الحمد بالثمن الربيح

(1) الأبيات ذكرها نصر بن مزاحم في وقعة صفين 451، والمسعودي في تاريخه 2: 390.
(2) الشتر: انقلاب جفن العين من أعلى وأسفل وتشنجه.
(3) رواية المسعودي:
* لست من الحي ربيع أو مضر *
(4) انتدب له: خف له.
(5) في وقعة صفين 559 للمنقري: " وأصبحوا بحربكم "، وفيما يأتي من شرح النهج (2: 286):
" وأصبحوا في حربكم ".
(6) الخبر والأبيات في الكامل (8: 215) - بشرح المرصفي، وأمالي القالي (1: 258)، وعيون الأخبار
(1: 126)، والإطنابة: اسم أمه، وهو عمرو بن عامر من بني الحارث بن الخزرج.
223

وإقدامي على المكروه نفسي * وضربي هامة البطل المشيح (1)
وقولي كلما جشأت وجاشت * " مكانك تحمدي أو تستريحي " (2)
فأخرجت رجلي من الركاب وأقمت، ونظرت إلى عمرو، فقلت له: اليوم صبر وغدا
فخر، فقال: صدقت.
قال إبراهيم بن ديزيل: روى عبد الله بن أبي بكر، عن عبد الرحمن بن حاطب،
عن معاوية، قال: أخذت بمعرفة فرسي، ووضعت رجلي في الركاب للهرب، حتى
ذكرت شعر ابن الإطنابة، فعدت إلى مقعدي، فأصبت خير الدنيا، وإني لراج أن أصيب
خير الآخرة.
قال إبراهيم بن ديزيل: فكان ذلك يوم الهرير، ثم رفعت المصاحف بعده.
وروى إبراهيم، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن ربيعة بن لقيط،
قال: شهدنا صفين، فمطرت السماء علينا دما عبيطا.
وقال: وفي حديث الليث بن سعد أن كانوا ليأخذونه بالصحاف والآنية. وفي
حديث ابن لهيعة: " حتى إن الصحاف والآنية لتمتلئ ونهريقها ".
قال إبراهيم: وروى عبد الرحمن بن زياد، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي
حبيب، عمن حدثه ممن حضر صفين أنهم مطروا دما عبيطا، فتلقاه الناس بالقصاع
والآنية، وذلك في يوم الهرير، وفزع أهل الشام وهموا أن يتفرقوا، فقام عمرو بن العاص
فيهم فقال: أيها الناس، إنما هذه آية من آيات الله، فأصلح امرؤ ما بينه وبين الله، ثم
لا عليه أن ينتطح هذان الجبلان. فأخذوا في القتال

(1) في الكامل: " وإجشامي على المكروه نفسي "، والمشيح: المقبل على عدوه، المانع لما وراء ظهره.
(2) جشأت وجاشت، أي ارتفعت من الفزع.
224

قال إبراهيم: وروى أبو عبد الله المكي، قال: حدثنا سفيان بن عاصم بن كليب
الحارثي عن أبيه، قال: أخبرني ابن عباس، قال: لقد حدثني معاوية أنه كان يومئذ
قد قرب إليه فرسا له أنثى، بعيدة البطن من الأرض، ليهرب عليها، حتى أتاه آت من
أهل العراق، فقال له: إني تركت أصحاب علي في مثل ليلة الصدر (1) من منى، فأقمت،
قال: فقلنا له: فأخبرنا من هو ذلك الرجل؟ فأبى وقال: لا أخبركم من هو.
* * *
قال نصر وإبراهيم أيضا: وكتب معاوية إلى علي عليه السلام:
أما بعد، فإن هذا الامر قد طال بيننا وبينك، وكل واحد منا يرى أنه على الحق
فيما يطلب من صاحبه، ولن يعطي واحد منا الطاعة للآخر، وقد قتل فيما بيننا بشر
كثير، وأنا أتخوف أن يكون ما بقي أشد مما مضى، وإنا سوف نسأل عن هذه المواطن،
ولا يحاسب (به) (2)
غيري وغيرك، وقد دعوتك إلى أمر لنا ولك فيه حياة وعذر،
وبراءة وصلاح للأمة، وحقن للدماء، وألفه للدين، وذهاب للضغائن والفتن، أن نحكم
بيني وبينكم حكمين مرضيين، أحدهما من أصحابي، والآخر من أصحابك، فيحكمان بيننا
بما أنزل الله، فهو خير لي ولك، وأقطع لهذه الفتن، فاتق الله فيما دعيت إليه، وارض
بحكم القرآن إن كنت من أهله والسلام.
فكتب إليه علي عليه السلام:
من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان، أما بعد، فإن أفضل
ما شغل به المرء نفسه اتباع ما حسن به (3 فعله، واستوجب فضله، وسلم من عيبه 3)،

(1) الصدر: اليوم الرابع من أيام منى.
(2) تكملة من وقعة صفين للمنقري.
(3 - 3) وقعة صفين. " ما يحسن به فعله، ويستوجب فضله، ويسلم من عيبه ".
225

وإن البغي والزور يزريان بالمرء في دينه ودنياه، فاحذر الدنيا، فإنه لا فرح في شئ
وصلت إليه منها، ولقد علمت أنك غير مدرك ما قضي فواته، وقد رام قوم أمرا
بغير الحق، وتأولوه (1) على الله عز وجل، فأكذبهم ومتعهم قليلا، ثم اضطرهم
إلى عذاب غليظ، فاحذر يوما يغتبط فيه من حمد عاقبة عمله، ويندم فيه من أمكن
الشيطان من قياده، (ولم يحاده) (2)، وغرته الدنيا واطمأن إليها، ثم إنك قد دعوتني
إلى حكم القرآن، ولقد علمت أنك لست من أهل القرآن ولا حكمه تريد، والله المستعان،
فقد أجبنا القرآن إلى حكمه، ولسنا إياك أجبنا، ومن لم يرض بحكم القرآن فقد ضل
ضلالا بعيدا (3).
فكتب معاوية إلى علي عليه السلام:
أما بعد، عافانا الله وإياك، فقد آن لك أن تجيب إلى ما فيه صلاحنا وألفة بيننا،
وقد فعلت الذي فعلت وأنا أعرف حقي، ولكني اشتريت بالعفو صلاح الأمة، ولم أكثر
فرحا بشئ جاء ولا ذهب، وإنما أدخلني في هذا الامر القيام بالحق فيما بين الباغي
والمبغي عليه، والامر بالمعروف والنهى عن المنكر، فدعوت إلى كتاب الله فيما بيننا
وبينك، فإنه لا يجمعنا وإياك إلا هو، نحيي ما أحيا القرآن، ونميت ما أمات القرآن،
والسلام (4).
* * *
قال نصر: فكتب علي عليه السلام إلى عمرو بن العاص، يعظه ويرشده.

(1) وقعة صفين: " فتأولوا على الله ".
(2) تكملة من وقعة صفين للمنقري.
(3) وقعة صفين للمنقري 565 - 566.
(4) وقعة صفين للمنقري 570.
226

أما بعد، فإن الدنيا مشغلة عن غيرها، ولن يصيب صاحبها منها شيئا إلا له
حرصا يزيده فيها رغبة، ولن يستغني صاحبها بما نال عما لم يبلغ (1)، ومن وراء ذلك
فراق ما جمع، والسعيد من وعظ بغيره، فلا تحبط أبا عبد الله أجرك، ولا تجار معاوية
في باطله، والسلام.
فكتب إليه عمرو الجواب:
أما بعد أقول، فالذي (2) فيه صلاحنا وألفتنا الإنابة إلى الحق، وقد جعلنا القرآن
بيننا حكما، وأجبنا إليه، فصبر الرجل منا نفسه على ما حكم عليه القرآن، وعذره الناس
بعد المحاجزة، والسلام.
فكتب إليه علي عليه السلام:
أما بعد، فإن الذي أعجبك من الدنيا مما نازعتك إليه نفسك، ووثقت به منها،
لمنقلب عنك، ومفارق لك، فلا تطمئن إلى الدنيا، فإنها غرارة، ولو اعتبرت بما مضى
لحفظت ما بقي، وانتفعت منها بما وعظت به، والسلام.
فأجابه عمرو:
أما بعد، فقد أنصف من جعل القرآن إماما، ودعا الناس إلى أحكامه، فاصبر
أبا حسن، فإنا غير منيليك إلا ما أنالك القرآن، والسلام (3).
* * *
قال نصر: وجاء الأشعث إلى علي عليه السلام، فقال: يا أمير المؤمنين، ما أرى
الناس إلا قد رضوا، وسرهم أن يجيبوا القوم إلى ما دعوهم إليه من حكم القرآن،

(1) وقعة صفين: " لم يبلغه ".
(2) وقعة صفين: " فإن ما فيه صلاحنا ".
(3) وقعة صفين للمنقري 570 - 571.
227

فإن شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد، ونظرت ما الذي يسأل، قال: فأته إن شئت،
فأتاه، فسأله: يا معاوية، لأي شئ رفعتم هذه المصاحف؟ قال: لنرجع نحن وأنتم
إلى ما أمر الله به فيها (1)، فابعثوا رجلا منكم ترضون به، ونبعث منا رجلا، ونأخذ
عليهما أن يعملا بما في كتاب الله ولا يعدوانه، ثم نتبع ما اتفقا عليه. فقال الأشعث:
هذا هو الحق.
وانصرف إلى علي عليه السلام، فأخبره، فبعث علي عليه السلام قراء من أهل العراق
، وبعث معاوية قراء من أهل الشام، فاجتمعوا بين الصفين، ومعهم المصحف،
فنظروا فيه وتدارسوا (2) واجتمعوا على أن يحيوا ما أحيا القرآن، ويميتوا ما أمات القرآن،
ورجع كل فريق إلى صاحبه، فقال أهل الشام: إنا قد رضينا واخترنا عمرو بن العاص،
وقال الأشعث والقراء الذين صاروا خوارج فيما بعد: قد رضينا نحن واخترنا أبا موسى
الأشعري. فقال لهم علي عليه السلام: فإني لا أرضى بأبي موسى ولا أرى أن أوليه،
فقال الأشعث وزيد بن حصين ومسعر بن فدكي في عصابة من القراء: إنا لا نرضى
إلا به، فإنه قد كان حذرنا ما وقعنا فيه. فقال علي عليه السلام: فإنه ليس لي برضا،
وقد فارقني وخذل الناس عني، وهرب مني حتى أمنته بعد أشهر، ولكن هذا ابن عباس
أوليه ذلك. قالوا: والله ما نبالي، أكنت أنت أو ابن عباس! ولا نريد إلا رجلا هو
منك ومن معاوية سواء، ليس إلى واحد منكما بأدنى من الآخر.
قال علي عليه السلام:
فإني أجعل الأشتر، فقال الأشعث: وهل سعر الأرض علينا إلا الأشتر! وهل نحن
إلا في حكم الأشتر! قال علي عليه السلام: وما حكمه؟ قال: حكمه أن يضرب بعضنا بعضا
بالسيف حتى يكون ما أردت وما أراد (3).
* * *

(1) وقعة صفين: " في كتابه ".
(2) صفين: " وتدارسوه ".
(3) وقعة صفين للمنقري 572.
228

قال نصر: وحدثنا عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر محمد بن علي، قال:
لما أراد الناس عليا أن يضع الحكمين، قال لهم: إن معاوية لم يكن ليضع لهذا الامر
أحدا هو أوثق برأيه ونظره من عمرو بن العاص، وإنه لا يصلح للقرشي إلا مثله، فعليكم
بعبد الله بن العباس، فارموه به، فإن عمرا لا يعقد عقدة إلا حلها عبد الله، ولا يحل
عقدة إلا عقدها، ولا يبرم أمرا إلا نقضه، ولا ينقض أمرا إلا أبرمه. فقال الأشعث:
لا والله، لا يحكم فينا مضريان حتى تقوم الساعة، ولكن اجعل رجلا من أهل اليمن
إذ جعلوا رجلا من مضر، فقال علي عليه السلام: إني أخاف أن يخدع يمنيكم، فإن
عمرا ليس من الله في شئ إذا كان له في أمر هوى. فقال الأشعث: والله لان يحكما ببعض
ما نكره، وأحدهما من أهل اليمن، أحب إلينا من أن يكون بعض ما نحب في حكمهما
وهما مضريان.
قال: وذكر الشعبي أيضا مثل ذلك (1).
* * *
قال نصر: فقال علي عليه السلام: قد أبيتم إلا أبا موسى! قالوا: نعم، قال:
فاصنعوا ما شئتم، فبعثوا إلى أبي موسى - وهو بأرض من أرض الشام يقال لها عرض (2)
قد اعتزل القتال - فأتاه مولى له، فقال: إن الناس قد اصطلحوا، فقال: الحمد لله
رب العالمين، قال: وقد جعلوك حكما، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون!
فجاء أبو موسى حتى دخل عسكر علي عليه السلام، وجاء الأشتر عليا، فقال: يا أمير
المؤمنين ألزني (3) بعمرو بن العاص، فوالذي لا إله غيره، لئن ملأت عيني منه لأقتلنه.

(1) وقعة صفين للمنقري 573.
(2) عرض: بلد بين تدمر ورصافة الشام.
(3) ألزه به: ألزمه إياه.
229

وجاء الأحنف بن قيس عليا، فقال: يا أمير المؤمنين، إنك قد رميت بحجر (1) الأرض،
ومن حارب الله ورسوله أنف (2) الاسلام، وإني قد عجمت هذا الرجل - يعني أبا
موسى - وحلبت أشطره، فوجدته كليل الشفرة قريب القعر، وإنه لا يصلح لهؤلاء
القوم إلا رجل يدنو منهم حتى يكون في أكفهم، ويتباعد منهم حتى يكون بمنزلة النجم
منهم، (3 فإن شئت أن تجعلني حكما فاجعلني، وإن شئت أن تجعلني ثانيا أو ثالثا 3)، فإن
عمرا لا يعقد عقدة إلا حللتها، ولا يحل عقدة إلا عقدت لك أشد منها.
فعرض علي عليه السلام ذلك على الناس فأبوه، وقالوا: لا يكون إلا أبا موسى (4).
* * *
قال نصر: مال الأحنف إلى علي عليه السلام، فقال: يا أمير المؤمنين، إني خيرتك
يوم الجمل أن آتيك فيمن أطاعني أو أكف عنك بني سعد، فقلت: كف قومك،
فكفى بكفك نصيرا، فأقمت بأمرك، وإن عبد الله بن قيس (5) رجل قد حلبت أشطره،
فوجدته قريب القعر، كليل المدية، وهو رجل يمان وقومه مع معاوية؟ وقد رميت
بحجر الأرض، وبمن حارب الله ورسوله، وإن صاحب القوم من ينأى حتى يكون مع
النجم، ويدنو حتى يكون في أكفهم، فابعثني، فوالله لا يحل عنك عقدة إلا عقدت
لك أشد منها، فإن قلت: إني لست من أصحاب رسول الله، فابعث رجلا من أصحاب
رسول الله، وابعثني معه.

(1) في اللسان 5: 273: " ويقال: رمى فلان بحجر الأرض، إذا رمى بداهية من الرجال، وفي
حديث الأحنف بن قيس: أنه قال لعلي حين سمى معاوية أحد الحكمين عمرو بن العاص: إنك رميت
بحجر الأرض... ".
(2) أنف كل شئ: أوله، يقال: سار في أنف النهار، أي أوله.
(3 - 3) وقعة صفين: " فإن تجعلني حكما فاجعلني، وإن أبيت أن تجعلني حكما فاجعلني ثانيا أو ثالثا ".
(4) وقعة صفين 574.
(5) عبد الله بن قيس هو أبو موسى الأشعري.
230

فقال علي عليه السلام: إن القوم أتوني بعبد الله بن قيس مبرنسا، فقالوا: ابعث
هذا، رضينا به والله بالغ أمره (1).
* * *
قال نصر: وروي أن ابن الكواء، قام إلى علي عليه السلام، فقال: هذا عبد الله
بن قيس وافد أهل اليمن إلى رسول الله صلى الله عليه وصاحب مقاسم لابن أبي
بكر (2) وعامل
عمر، وقد رضي به القوم، وعرضنا عليهم ابن عباس، فزعموا أنه قريب القرابة منك،
ظنون (3) في أمرك.
فبلغ ذلك أهل الشام، فبعث أيمن بن خزيم الأسدي، وكان معتزلا لمعاوية بهذه
الأبيات، وكان هواه أن يكون الامر لأهل العراق:
لو كان للقوم رأي يعصمون به * من الضلال رموكم بابن عباس
لله در أبيه أيما رجل * ما مثله لفصال الخطب في الناس!
لكن رموكم بشيخ من ذوي يمن * لا يهتدي ضرب أخماس لأسداس (4)
إن يخل عمرو به يقذفه في لجج * يهوي به النجم تيسا بين أتياس
أبلغ لديك عليا غير عاتبه (5) * قول امرئ لا يرى بالحق من باس
ما الأشعري بمأمون أبا حسن * فاعلم هديت وليس العجز كالرأس
فاصدم بصاحبك الأدنى زعيمهم * إن ابن عمك عباس هو الآسي
فلما بلغ الناس هذا الشعر، طارت أهواء قوم من أولياء علي عليه السلام وشيعته إلى
ابن عباس، وأبت القراء إلا أبا موسى (6).

(1) وقعة صفين 575.
(2) صاحب المقاسم: الذي يتولى أمر قسمة المغانم ونحوها.
الظنون: المتهم، كالظنين.
(4) وقعة صفين والمسعودي 2: 410: " لم يدر ما ضرب أخماس ".
(5) صفين: " عائبة ".
(6) وقعة صفين: 575 - 576.
231

قال نصر: وكان أيمن بن خزيم رجلا عابدا مجتهدا، وقد كان معاوية جعل له
فلسطين، على أن يتابعه ويشايعه على قتال علي عليه السلام، فقال أيمن: وبعث
بها إليه:
ولست مقاتلا رجلا يصلي * على سلطان آخر من قريش
له سلطانه وعلي إثمي * معاذ الله من سفه وطيش
أأقتل مسلما في غير جرم * فليس بنافعي ما عشت عيشي!
قال نصر: فلما رضي أهل الشام بعمرو، وأهل العراق بأبي موسى، أخذوا في سطر
كتاب الموادعة، وكانت صورته:
" هذا ما تقاضى عليه علي أمير المؤمنين ومعاوية بن أبي سفيان ". فقال معاوية: بئس
الرجل أنا إن أقررت أنه أمير المؤمنين ثم قاتلته! وقال عمرو: بل نكتب اسمه واسم
أبيه، إنما هو أميركم، فأما أميرنا فلا. فلما أعيد إليه الكتاب أمر بمحوه، فقال
الأحنف: لا تمح اسم أمير المؤمنين عنك، فإني أتخوف إن محوتها ألا ترجع إليك أبدا،
فلا تمحها. فقال علي عليه السلام: إن هذا اليوم كيوم الحديبية حين كتب الكتاب
عن رسول الله صلى الله عليه: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو، فقال
سهيل: لو أعلم أنك رسول الله لم أقاتلك، ولم أخالفك، إني إذا لظالم لك إن منعتك أن
تطوف ببيت الله الحرام وأنت رسوله، ولكن اكتب: " من محمد بن عبد الله "، فقال
لي رسول الله صلى الله عليه: " يا علي، إني لرسول الله، وأنا محمد بن عبد الله، ولن يمحو عني
الرسالة كتابي لهم من محمد بن عبد الله، فاكتبها وامح ما أراد محوه، أما إن لك مثلها
ستعطيها وأنت مضطهد ".
قال نصر: وقد روي أن عمرو بن العاص عاد بالكتاب إلى علي عليه السلام، فطلب
منه أن يمحو اسمه من إمرة المؤمنين فقص عليه وعلى من حضر قصة صلح الحديبية،
232

قال: إن ذلك الكتاب أنا كتبته بيننا وبين المشركين، واليوم أكتبه إلى أبنائهم، كما
كان رسول الله صلى الله عليه كتبه إلى آبائهم شبها (1) ومثلا، فقال عمرو: سبحان الله،
أتشبهنا (2) بالكفار، ونحن مسلمون! فقال علي عليه السلام: يا بن النابغة، ومتى لم
تكن للكافرين وليا وللمسلمين عدوا! فقام عمرو، وقال: والله لا يجمع بيني وبينك
مجلس بعد اليوم. فقال علي: أما والله إني لأرجو أن يظهر الله عليك وعلى أصحابك.
وجاءت عصابة قد وضعت سيوفها على عواتقها، فقالوا: يا أمير المؤمنين، مرنا بما
شئت، فقال لهم سهل بن حنيف: أيها الناس، اتهموا رأيكم، فلقد شهدنا صلح رسول الله
صلى الله عليه يوم الحديبية، ولو نرى قتالا لقاتلنا (3).
وزاد إبراهيم بن ديزيل: لقد رأيتني يوم أبي جندل - يعني الحديبية - ولو أستطيع أن
أرد أمر رسول الله صلى الله عليه لرددته، ثم لم نر في ذلك الصلح إلا خيرا.
قال نصر: وقد روى أبو إسحاق الشيباني، قال: قرأت كتاب الصلح عند سعيد بن
أبي بردة في صحيفة صفراء، عليها خاتمان: خاتم من أسفلها، وخاتم من أعلاها، على خاتم
علي عليه السلام محمد رسول الله صلى الله عليه، وعلى خاتم معاوية محمد رسول الله. وقيل
لعلي عليه السلام، حين أراد أن يكتب الكتاب بينه وبين معاوية وأهل الشام: أتقر
أنهم مؤمنون مسلمون! فقال علي عليه السلام: ما أقر لمعاوية ولا لأصحابه أنهم مؤمنون
ولا مسلمون، ولكن يكتب معاوية ما شاء بما شاء، ويقر بما شاء لنفسه ولأصحابه،
ويسمي نفسه بما شاء وأصحابه، فكتبوا:
هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان قاضى علي بن لابن أبي
طالب

(1) وقعة صفين: " سنة ومثلا ".
(2) صفين: " شبهتنا بالكفار ونحن مؤمنون "!.
(3) كتاب صفين 582 - 583.
233

على أهل العراق ومن كان معه من شيعته من المؤمنين والمسلمين، وقاضي معاوية بن
أبي سفيان على أهل الشام ومن كان معه من شيعته من المؤمنين والمسلمين، إننا ننزل عند
حكم الله تعالى وكتابه، ولا يجمع بيننا إلا إياه. وإن كتاب الله سبحانه وتعالى بيننا من
فاتحته إلى خاتمته، نحيي ما أحيا القرآن، ونميت ما أمات القرآن، فإن وجد الحكمان ذلك
في كتاب الله اتبعاه، وإن لم يجداه أخذا بالسنة العادلة غير المفرقة، والحكمان: عبد الله بن
قيس وعمرو بن العاص. وقد أخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين أنهما آمنان
على أنفسهما وأموالهما وأهلهما، والأمة لهما أنصار، وعلى الذي يقضيان عليه وعلى المؤمنين
والمسلمين من الطائفتين عهد الله أن يعملوا بما يقضيان عليه، مما وافق الكتاب والسنة،
وإن الامن والموادعة ووضع السلاح متفق عليه بين الطائفتين، إلى أن يقع الحكم، وعلى
كل واحد من الحكمين عهد الله ليحكمن بين الأمة بالحق، لا بالهوى، وأجل
الموادعة سنة كاملة. فإن أحب الحكمان أن يعجلا الحكم عجلاه، وإن توفي أحدهما
فلأمير شيعته أن يختار مكانه رجلا، لا يألو الحق والعدل، وإن توفي أحد الأميرين كان
نصب غيره إلى أصحابه ممن يرضون أمره، ويحمدون طريقته. اللهم إنا نستنصرك على
من ترك ما في هذه الصحيفة، وأراد فيها إلحادا وظلما!
قال نصر: هذه رواية محمد بن علي بن الحسين والشعبي، وروى جابر عن زيد بن
الحسن بن الحسن زيادات على هذه النسخة:
هذا ما تقاضى عليه ابن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، وشيعتهما فيما تراضيا به من
الحكم بكتاب الله وسنة رسوله قضية علي على أهل العراق ومن كان من شيعته من
شاهد أو غائب، وقضية معاوية على أهل الشام ومن كان من شيعته من شاهد أو غائب،
إننا رضينا أن ننزل عند حكم القرآن فيما حكم، وأن نقف عند أمره فيما أمر، فإنه لا يجمع
بيننا إلا ذلك، وإنا جعلنا كتاب الله سبحانه حكما بيننا فيما اختلفنا فيه، من فاتحته إلى
234

خاتمته، نحيي ما أحيا القرآن، ونميت ما أماته، على ذلك تقاضينا، وبه تراضينا، وإن
عليا وشيعته رضوا أن يبعثوا عبد الله بن قيس ناظرا ومحاكما، ورضي معاوية وشيعته أن
يبعثوا عمرو بن العاص ناظرا ومحاكما، على أنهم أخذوا عليهما عهد الله وميثاقه، وأعظم
ما أخذ الله على أحد من خلقه ليتخذان الكتاب إماما فيما بعثا إليه، لا يعدوانه إلى غيره
ما وجداه فيه مسطورا، وما لم يجداه مسمى في الكتاب رداه إلى سنة رسول الله صلى الله
عليه الجامعة، لا يتعمدان لها خلافا، ولا يتبعان هوى، ولا يدخلان في شبهة، وقد أخذ
عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص على علي ومعاوية عهد الله وميثاقه بالرضا بما حكما به
من كتاب الله وسنة نبيه، وليس لهما أن ينقضا ذلك ولا يخالفاه إلى غيره، وإنهما آمنان في
حكمهما على دمائهما وأموالهما وأهلهما، ما لم يعدوا الحق، رضي بذلك راض أو أنكره
منكر. وإن الأمة أنصار لهما على ما قضيا به من العدل، فإن توفي أحد الحكمين قبل
انقضاء الحكومة فأمير شيعته وأصحابه يختارون مكانه رجلا، لا يألون عن أهل المعدلة
والإقساط على ما كان عليه صاحبه من العهد والميثاق والحكم بكتاب الله وسنة رسوله،
وله مثل شرط صاحبه، وإن مات أحد الأميرين قبل القضاء، فلشيعته أن يولوا مكانه
رجلا يرضون عدله. وقد وقعت هذه القضية، ومعها الامن والتفاوض، ووضع السلاح
والسلام والموادعة، وعلى الحكمين عهد الله وميثاقه ألا يألوا اجتهادا، ولا يتعمدا جورا،
ولا يدخلا في شبهة، ولا يعدوا حكم الكتاب، فإن لم يقبلا برئت الأمة من حكمهما،
ولا عهد لهما ولا ذمة، وقد وجبت القضية على ما قد سمى في هذا الكتاب من مواقع
الشروط على الحكمين والأميرين والفريقين، والله أقرب شهيدا، وأدنى حفيظا. والناس
آمنون على أنفسهم وأهلهم وأموالهم، إلى انقضاء مدة الاجل، والسلاح موضوع،
والسبل مخلاة، والشاهد والغائب من الفريقين سواء في الامن، وللحكمين أن ينزلا
منزلا عدلا بين أهل العراق والشام، لا يحضرهما فيه إلا من أحبا عن ملا منهما وتراض،
235

وإن المسلمين قد أجلوا هذين القاضيين إلى انسلاخ شهر رمضان، فإن رأيا تعجيل
الحكومة فيما وجها له عجلاها، وإن أرادا تأخيرها بعد شهر رمضان إلى انقضاء الموسم فذلك
إليهما، وإن هما لم يحكما بكتاب الله وسنة نبيه إلى انقضاء الموسم فالمسلمون على أمرهم الأول
في الحرب، ولا شرط بين الفريقين، وعلى الأمة عهد الله وميثاقه على التمام والوفاء بما في
هذا الكتاب، وهم يد على من أراد فيه إلحادا وظلما، أو حاول له نقضا، وشهد فيه من
أصحاب علي
عشرة، ومن أصحاب معاوية عشرة، وتاريخ كتابته لليلة بقيت من صفر سنة
سبع وثلاثين (1).
* * *
قال نصر: وحدثنا عمرو بن سعيد، قال: حدثني أبو جناب، عن ربيعة
الجرمي، قال: لما كتبت الصحيفة دعي لها الأشتر، ليشهد مع الشهود عليه، فقال:
لا صحبتني يميني ولا نفعني بعدها الشمال إن كتب لي في هذه الصحيفة اسم على صلح
أو موادعة، أولست على بينة من أمري ويقين من ضلالة عدوي، أولستم قد رأيتم
الظفر إن لم تجمعوا على الخور! فقال له رجل (من الناس) (2): والله ما رأيت ظفرا ولا
خورا، هلم فاشهد على نفسك، وأقرر بما كتب في هذه الصحيفة، فإنه لا رغبة لك عن
الناس، فقال: بلى والله، إن لي لرغبة عنك في الدنيا للدنيا، وفي الآخرة للآخرة،
ولقد سفك الله بسيفي هذا دماء رجال ما أنت عندي بخير منهم، ولا أحرم دما.
قال نصر بن مزاحم: الرجل هو الأشعث بن قيس، قال: فكأنما قصع (3) على أنفه
الحميم ثم قال: ولكني قد رضيت بما يرضى به أمير المؤمنين، ودخلت فيما دخل فيه،
وخرجت مما خرج منه، فإنه لا يدخل إلا في الهدى والصواب.

(1) وقعة صفين 585 - 586.
(2) من صفين.
(3) القصع: الدلك والضرب. وفي صفين والطبري (6: 30): " الحمم ".
236

قال نصر: فحدثنا عمر بن سعد عن أبي جناب الكلبي عن إسماعيل بن شفيع (1)
عن (2) سفيان بن سلمة، قال: فلما تم الكتاب وشهدت فيه الشهود، وتراضي الناس
خرج الأشعث، ومعه ناس بنسخة الكتاب يقرؤها على الناس، ويعرضها عليهم، فمر به
على صفوف من أهل الشام، وهم على راياتهم، فأسمعهم إياه، فرضوا به، ثم مر به على
صفوف من أهل العراق، وهم على راياتهم، فأسمعهم إياه، فرضوا به، حتى مر برايات
عنزة، وكان مع علي عليه السلام من عنزة بصفين أربعة آلاف مجفف (3)، فلما مر بهم
الأشعث يقرؤه عليهم، قال فتيان منهم: لا حكم إلا لله، ثم حملا على أهل الشام بسيوفهما،
فقاتلا حتى قتلا على باب رواق معاوية - فهما أول من حكم. واسماهما جعد ومعدان - ثم
مر بهما على مراد، فقال صالح بن شقيق، وكان من رؤوسهم:
ما لعلي في الدماء قد حكم * لو قاتل الأحزاب يوما ما ظلم.
لا حكم إلا لله، ولو كره المشركون. ثم مر على رايات بني راسب، فقرأها عليهم،
فقال رجل منهم: لا حكم إلا لله، لا نرضى ولا نحكم الرجال في دين الله. ثم مر على
رايات تميم، منهم: لا حكم إلا لله، لا نرضى ولا نحكم الرجال في دين الله، ثم مر على
رايات تميم، فقرأها عليهم، فقال رجل منهم: لا حكم إلا لله، يقضي بالحق وهو خير
الفاصلين. فقال رجل منهم لآخر: أما هذا فقد طعن طعنة نافذة. وخرج عروة بن أدية،
أخو مرداس بن أدية التميمي، فقال: أتحكمون الرجال في أمر الله لا حكم إلا لله! فأين
قتلانا يا أشعث! ثم شد بسيفه ليضرب به الأشعث، فأخطأه، وضرب عجز دابته ضربة
خفيفة، فصاح به الناس: أن أملك (4) يدك، فكف ورجع الأشعث إلى قومه،
فمشى الأحنف إليه ومعقل بن قيس، ومسعر بن فدكي، و رجال من بني تميم، فتنصلوا
واعتذروا، فقبل منهم ذلك، وانطلق إلى علي عليه السلام، فقال: يا أمير المؤمنين، إني

(1) كتاب صفين. " سميع " بالتصغير.
(2) كتاب صفين: " عن شقيق بن سلمة ".
(3) المجفف: لابس التجفاف، وأصله ما يجلل به الفرس من سلاح وآله.
(4) صفين: " أن أ مسك ".
237

عرضت الحكومة على صفوف أهل الشام، وأهل العراق، فقالوا جميعا: رضينا، حتى
مررت برايات بني راسب، ونبذ (1) من الناس سواهم، فقالوا: لا نرضى لا حكم إلا لله
فمل (2) بأهل العراق وأهل الشام عليهم حتى نقتلهم. فقال علي عليه السلام: هل هي غير
راية أو رايتين ونبذ من الناس؟ قال: لا، قال: فدعهم.
قال نصر: فظن علي عليه السلام أنهم قليلون لا يعبأ بهم، فما راعه إلا نداء الناس
من كل جهة ومن كل ناحية: لا حكم إلا لله! الحكم لله يا علي لا لك! لا نرضى بأن
يحكم الرجال في دين الله، إن الله قد أمضى حكمه في معاوية ة وأصحابه، أن يقتلوا
أو يدخلوا تحت حكمنا عليهم (3)، وقد كنا زللنا وأخطأنا حين رضينا بالحكمين، وقد
بان لنا زللنا وخطؤنا فرجعنا إلى الله وتبنا، فارجع أنت يا علي كما رجعنا، وتب إلى الله
كما تبنا، وإلا برئنا منك. فقال علي عليه السلام: ويحكم أبعد الرضا والميثاق والعهد
نرجع! أليس الله تعالى قد قال، " أوفوا بالعقود " (4) وقال: " وأوفوا بعهد الله إذا
عاهدتم ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا " (5)، فأبى
علي أن يرجع، وأبت الخوارج إلا تضليل التحكيم والطعن فيه، فبرئت من علي عليه السلام
وبرئ علي عليه السلام منهم (6).
قال نصر: وقام إلى علي عليه السلام محمد بن جريش (7)، فقال: يا أمير المؤمنين، أما
إلى الرجوع عن هذا الكتاب سبيل! فوالله إني لأخاف أن يورث ذلا، فقال علي عليه

(1) نبذ من الناس، أي عدد قليل منهم.
(2) صفين: " فلنحمل ".
(3) صفين: " أو يدخلوا في حكمنا عليهم ".
(4) سورة المائدة 1.
(5) سورة النحل 91.
(6) وقعة صفين 589 - 590.
(7) كتاب صفين: " محرز بن جريش "، وقال: " وكان محرز يدعى مخضخضا، وذلك أنه أخذ
عنزة بصفين، وأخذ معه إداوة من ماء، فإذا وجد رجلا جريحا من أصحاب علي جريحا سقاه من اللبن، وإذا
وجد رجلا من أصحاب معاوية خضخضه بالعنزة حتى يقتله ".
238

السلام: أبعد أن كتبناه ننقضه! إن هذا لا يحل (1).
* * *
قال نصر: وحدثني عمر بن نمير بن وعلة، عن أبي الوداك، قال: لما تداعى الناس
إلى المصاحف، وكتبت صحيفة الصلح والتحكيم، قال علي عليه السلام: إنما فعلت
ما فعلت لما بدا فيكم من الخور والفشل عن الحرب (2)، فجاءت إليه همدان كأنها ركن
حصير (3) فيهم سعيد بن قيس وابنه عبد الرحمن، غلام له ذؤابة فقال سعيد: ها أنا ذا
وقومي، لا نرد أمرك (4) فقل ما شئت نعمله، فقال: أما لو كان هذا قبل سطر الصحيفة (5)
لأزلتهم عن عسكرهم، أو تنفرد سالفتي (6)، ولكن انصرفوا راشدين (7) (فلعمري ما كنت
لأعرض قبيلة واحدة للناس) (8).
* * *
قال نصر: وروى الشعبي أن عليا عليه السلام، قال يوم صفين حين أقر الناس
بالصلح، إن هؤلاء القوم لم يكونوا لينيبوا إلى الحق، ولا ليجيبوا (9) إلى كلمة سواء
حتى يرموا بالمناسر (10) تتبعها العساكر، وحتى يرجموا بالكتائب تقفوها الجلائب (11)،

(1) كتاب صفين 596.
(2) صفين: " لما بدا فيكم من الخور والفشل - هما الضعف ".
(3). في صفين: " فجمع سعيد بن قيس قومه، ثم جاء في رجراجة من همدان كأنها ركن حصير يعني
جبلا باليمن ".
(4) صفين: " ولا نرد عليك ".
(5) صفين: " أما لو كان هذا قبل رفع المصاحف ".
(6) السالفة: صفحة العنق، وفي حديث الحديبية: " أأقاتلنهم على أمري حتى تنفرد سالفتي "، قال
في اللسان: كنى بانفرادها عن الموت، لأنها لا تنفرد عما يليها إلا بالموت.
(7) كتاب صفين 596 - 597.
(8) الزيادة من كتاب صفين.
(9) صفين: " ليفيئوا ".
(10) المناسر: جمع منسر، بكسر الميم، وهو القطعة من الجيش تمر قدام الجيش الكبير.
(11) الجلائب:....
239

وحتى يجر ببلادهم الخميس يتلوه الخميس (1)، وحتى يدعوا الخيول في نواحي أرضهم،
وبأحناء مساربهم ومسارحهم، وحتى تشن عليهم الغارات من كل فج، وحتى يلقاهم
قوم صدق صبر، لا يزيدهم هلاك من هلك من قتلاهم وموتاهم في سبيل الله إلا جدا
فطي طاعة الله، وحرصا على لقاء الله، ولقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه، نقتل آباءنا
وأبناءنا وإخواننا وأخوالنا وأعمامنا، لا يزيدنا ذلك إلا إيمانا وتسليما، ومضيا على أمض
الألم، وجدا على جهاد العدو، والاستقلال بمبارزة الاقران، ولقد كان الرجل منا والآخر
من عدونا يتصاولان تصاول الفحلين، يتخالسان أنفسهما أيهما يسقي صاحبه كأس المنون،
فمرة لنا من عدونا، ومرة لعدونا منا، فلما رآنا الله صدقا صبرا أنزل بعدونا الكبت،
وأنزل علينا النصر، ولعمري لو كنا نأتى مثل الذي أتيتم ما قام الدين ولا عز الاسلام (2)
(وأيم الله لتحلبنها دما، فاحفظوا ما أقول لكم) (3).
* * *
وروى بصر عن عمرو بن شمر، عن فضيل بن خديج، قال: قيل لعلي عليه السلام
لما كتبت الصحيفة: إن الأشتر لم يرض بما في الصحيفة، ولا يرى إلا قتال القوم، فقال
علي عليه السلام: بلى إن الأشتر ليرضى إذا رضيت، وقد رضيت ورضيتم، ولا يصلح
الرجوع بعد الرضا، ولا التبديل بعد الاقرار، إلا أن يعصى الله أو يتعدى ما في كتابه،
وأما الذي ذكرتم من تركه أمري وما أنا عليه، فليس من أولئك ولا أعرفه (4) على ذلك،
وليت فيكم مثله اثنين، بل ليت فيكم مثله واحدا، يرى في عدوي مثل رأيه، إذا لخفت
مؤنتكم علي، ورجوت أن يستقيم لي بعض أودكم (5).
* * *

(1) الخميس: الجيش الجرار، سمي بذلك لأنه خمس فرق: المقدمة والقلب والميمنة والميسرة والساق.
(2) كتاب صفين 597، 598.
(3) تكملة من كتاب صفين.
(4) كتاب صفين: " وليس أتخوفه ".
(5) كتاب صفين 598.
240

قال نصر: وروى أبو عبد الله زيد الأودي أن رجلا منهم يقال له عمرو بن
أوس، قاتل مع علي عليه السلام يوم صفين، فأسره معاوية في أسرى كثيرة، فقال له
عمرو بن العاص: اقتلهم، فقال له عمرو بن أوس: لا تقتلني يا معاوية، فإنك خالي،
فقامت إليه بنو أود (1) فاستوهبوه، فقال: دعوه، فلعمري إن كان صادقا فيما ادعاه من خئولتي
إياه ليستغنين عن شفاعتكم، وإلا فشفاعتكم من ورائه، ثم استدناه، فقال: من أين أنا
خالك؟ فوالله ما بين بني عبد شمس وبين أود من مصاهرة، قال: فإن أخبرتك
فعرفت، فهو أمان عندك؟ قال: نعم، قال: أليست أم حبيبة (2) أختك أم المؤمنين؟ فأنا
ابنها وأنت أخوها، فأنت إذا خالي! فقال معاوية: لله أبوه! أما كان في هؤلاء الأسرى
من يفطن إلى هذا غيره! ثم خلى سبيله (3).
* * *
وروى إبراهيم بن الحسين بن علي الكسائي المعروف بابن ديزيل الهمداني، في
" كتاب صفين "، قال: حدثنا عبد الله بن عمر، قال: حدثنا عمرو بن محمد، قال:
دعا معاوية بن أبي سفيان عمرو بن العاص، ليبعثه حكما، فجاء وهو متحزم، عليه ثيابه
وسيفه، وحوله أخوه وناس من قريش، فقال له معاوية: يا عمرو، إن أهل الكوفة
أكرهوا عليا على أبي موسى وهو لا يريده و، نحن بك راضون، وقد ضم إليك رجل
طويل اللسان، كليل المدية، وله بعد حظ من دين، فإذا قال فدعه يقل، ثم قل
فأوجز
واقطع المفصل، ولا تلقه بكل رأيك، واعلم أن خبء (4) الرأي
زيادة في العقل،
فإن خوفك بأهل العراق فخوفه بأهل الشام، وإن خوفك بعلي فخوفه بمعاوية، وإن

(1) أود: بطن من قيس عيلان.
(2) أم حبيبة، هي رملة بنت أبي سفيان.
(3) كتاب صفين 594، 595.
(4) الخبء: ما خبئ وغاب من الشئ. وفي ج: " خبئ ".
241

خوفك بمصر فخوفه باليمن، وإن أتاك بالتفصيل فأته بالجمل. فقال له عمرو: يا معاوية،
أنت وعلي رجلا قريش، ولم تنل في حربك ما رجوت، ولم تأمن ما خفت، ذكرت أن
لعبد الله دينا، وصاحب الدين منصور، وأيم الله لأفنين (عليه) (1) علله، ولأستخرجن
خبأه (2)، ولكن إذا جاءني بالايمان والهجرة ومناقب علي، ما عسيت أن أقول! قال:
قل ما ترى، فقال عمرو: وهل تدعني وما أرى! وخرج مغضبا كأنه كره أن يوصى
ثقة بنفسه، وقال لأصحابه حين خرج: إنما أراد معاوية أن يصغر أمر أبي موسى، لأنه علم
أني خادعه غدا، فأحب أن يقول: إن عمرا لم يخدع أريبا، فقد كدته بالخلاف عليه.
وقال في ذلك شعرا:
يشجعني معاوية بن حرب * كأني للحوادث مستكين
وإني عن معاوية غني * بحمد الله والله المعين
وهون أمر عبد الله عمدا * وقال له على ما كان دين
فقلت له ولم أردد عليه * مقالته وللشاكي أنين
ترى أهل العراق يذب عنهم * وعن جيرانهم رجل مهين
فلو جهلوه لم يجهل علي * وغث القول يحمله السمين
ولكن خطبه فيهم عظيم * وفضل المرء فيهم مستبين
فان أظفر فلم أظفر بوغد * وإن يظفر فقد قطع الوتين.
فلما بلغ معاوية شعره، غضب من ذلك وقال: لولا مسيره لكان لي فيه رأي!
فقال له عبد الرحمن بن أم الحكم: أما والله إن أمثاله في قريش لكثير، ولكنك ألزمت
نفسك الحاجة إليه، فألزمها الغناء عنه، فقال له معاوية: فأجبه عن شعره، فقال عبد الرحمن
يعيره بفراره من علي يوم صفين

(1) تكملة من ج.
(2) ج: " خبيئه ".
242

ألا يا عمرو عمرو قبيل سهم * أمن طب أصابك ذا الجنون
دع البغي الذي أصبحت فيه * فإن البغي صاحبه لعين
ألم تهرب بنفسك من علي * بصفين وأنت بها ضنين
حذارا أن تلاقيك المنايا * وكل فتى سيدركه المنون
ولسنا عائبين عليك إلا * لقولك إنني لا أستكين.
* * *
قال نصر: ثم إن الناس أقبلوا على قتلاهم فدفنوهم. قال: وقد كان عمر بن الخطاب
دعا في خلافته حابس بن سعد الطائي، فقال له: إني أريد أن أوليك قضاء حمص،
فكيف أنت صانع! قال أجتهد رأيي وأستشير جلسائي، قال: فانطلق إليها. فلم يمش (1)
إلا يسيرا حتى رجع، فقال: يا أمير المؤمنين، إني رأيت رؤيا أحببت أن أقصها عليك،
قال: هاتها، قال: رأيت كأن الشمس أقبلت من المشرق، ومعها جمع عظيم، وكأن
القمر قد أقبل من المغرب ومعه جمع عظيم، فقال له عمر: مع أيهما كنت؟ قال: كنت
مع القمر، قال: كنت مع الآية الممحوة، اذهب فلا والله لا تلي لي عملا، ورده. فشهد مع
معاوية صفين، وكانت راية طيئ معه، فقتل يومئذ، فمر به عدي بن حاتم، ومعه ابنه
زيد، فرآه قتيلا، فقال له: يا أبت هذا والله خالي، قال: نعم، لعن الله خالك! فبئس والله
المصرع مصرعه! فوقف زيد وقال: من قتل هذا الرجل؟ مرارا، فخرج إليه رجل من
بكر بن وائل، طوال يخضب، فقال: أنا قتلته، فقال له: كيف صنعت به؟ فجعل يخبره،
فطعنه زيد بالرمح فقتله، وذلك بعد أن وضعت الحرب أوزارها، فحمل عليه عدي أبوه
يسبه ويشتم (2) أمه، ويقول: يا بن المائقة، لست على دين محمد إن لم أدفعك إليهم، فضرب

(1) صفين: " فلم يمض ".
(2) صفين: " ويسب أمه ".
243

زيد فرسه فلحق بمعاوية، فأكرمه وحمله وأدنى مجلسه، فرفع عدي يديه فدعا عليه،
وقال: اللهم إن زيدا قد فارق المسلمين، ولحق بالملحدين (1)، اللهم فارمه بسهم من
سهامك لا يشوي (2)، (أو قال لا يخطئ، فإن رميتك لا تنمي) (3)، والله لا أكلمه من
رأسي كلمة أبدا، ولا يظلني وإياه سقف أبدا. وقال زيد في قتل البكري:
من مبلغ أبناء طي ى بأنني * ثأرت بخالي ثم لم أتأثم
تركت أخا بكر ينوء بصدره * بصفين مخضوب الجبين من الدم (4)
وذكرني ثأري غداة رأيته * فأوجرته رمحي فخر على الفم
لقد غادرت أرماح بكر بن وائل * قتيلا عن الأهوال ليس بمحجم
قتيلا يظل الحي يثنون بعده * عليه بأيد من نداه وأنعم
لقد فجعت طي بحلم ونائل * وصاحب غارات ونهب مقسم
لقد كان خالي ليس خال كمثله * دفاعا لضيم واحتمالا لمغرم (5).
قال نصر: وروى الشعبي، عن زياد بن النضر أن عليا عليه السلام بعث أربعمائة،
عليهم شريح بن هانئ الحارثي، ومعه عبد الله بن عباس يصلى بهم، (ويلي أمورهم) (6)،
ومعهم أبو موسى الأشعري، وبعث معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة (7)، ثم إنهم

(1) صفين: " المحلين ".
(2) أشوى: رمى فأصاب الشوى، وهي الأطراف، ولم يصب المقتل.
(3) تكملة من كتاب صفين. ويقال: أنمى الصيد، إذا رماه فأصابه، ثم ذهب عنه فمات.
(4) صفين: " مخضوب الجيوب ".
(5) صفين 599 - 600، والمغرم: الدية.
(6) من كتاب صفين.
(7) في كتاب صفين بعد هذه الكلمة: " قال: فكان إذا كتب علي بشئ أتاه أهل الكوفة فقالوا: ما
الذي كتب به إليك أمير المؤمنين؟ فيكتمهم، فيقولون له: كتمتنا ما كتب به إليك! إنما كتب في كذا
وكذا. ثم يجئ رسول معاوية إلى عمرو بن العاص فلا يدري في أي شئ جاء، ولا في أي شئ ذهب،
ولا يسمعون حول صاحبهم لغطا، فأنب ابن عباس أهل الكوفة بذاك وقال: إذا جاء رسول قلتم بأي
شئ جاء؟ فإن كتمتكم قلتم: لم تكتمنا؟ جاء بكذا وكذا، فلا تزالون توقفون وتقاربون حتى تصيبوا،
فليس لكم سر! ".
244

خلوا بين الحكمين فكان رأى عبد الله بن قيس (أبو موسى (1)) في عبد الله بن عمر بن
الخطاب، وكان يقول: والله إن استطعت لأحيين سنة عمر (2).
* * *
قال نصر: وفي حديث محمد بن عبيد الله، عن الجرجاني قال: لما أراد أبو موسى المسير،
قام إليه شريح بن هانئ، فأخذ بيده، وقال: يا أبا موسى، إنك قد نصبت لأمر عظيم
لا يجبر صدعه، ولا تستقال فتنته (3)، ومهما تقل من شئ عليك أو لك، يثبت حقه
وتر صحته وإن كان باطلا، وإنه لا بقاء لأهل العراق إن ملكهم معاوية، ولا بأس على
أهل الشام إن ملكهم علي، وقد كانت منك تثبيطة أيام الكوفة والجمل، فإن تشفعها
بمثلها يكن الظن بك يقينا، والرجاء منك يأسا، ثم قال له شريح في ذلك شعرا:
أبا موسى رميت بشر خصم * فلا تضع العراق فدتك نفسي
وأعط الحق شامهم وخذه * فإن اليوم في مهل كأمس
وإن غدا يجئ بما عليه * كذاك الدهر من سعد ونحس
ولا يخدعك عمرو إن عمرا * عدو الله مطلع كل شمس
له خدع يحار العقل منها * مموهة مزخرفة بلبس
فلا تجعل معاوية بن حرب * كشيخ في الحوادث غير نكس
هداه الله للاسلام فردا * سوى عرس النبي، وأي عرس! (4)
فقال أبو موسى: ما ينبغي لقوم اتهموني أن يرسلوني لأدفع عنهم باطلا، أو أجر
إليهم حقا.
* * *

(1) من كتاب صفين.
كتاب صفين 614.
(3) كتاب صفين: " ولا يستقال فتقه ".
(4) كتاب صفين:
* سوى بنت النبي وأي عرس *
245

وروى المدائني (1) في " كتاب صفين "، قال: لما أجمع أهل العراق على طلب أبي
موسى، وأحضروه للتحكيم على كره من علي عليه السلام، أتاه عبد الله بن العباس،
وعنده وجوه الناس وأشرافهم فقال له يا أبا موسى ان الناس لم يرضوا بك ولم يجتمعوا
عليك لفضل لا تشارك فيه وما أكثر أشباهك من المهاجرين والأنصار والمتقدمين قبلك ولكن أهل العراق أبوا إلا أن يكون الحكم يمانيا ورأوا أن (2) معظم أهل الشام
يمان وأيم الله انى لأظن ذلك شرا لك ولنا فإنه قد ضم إليك داهية العرب وليس في معاوية خله يستحق بها الخلافة فإن تقذف بحقك على باطله تدرك حاجتك منه وإن يطمع باطله في حقك يدرك حاجته منك واعلم يا أبا موسى أن معاوية طليق الاسلام
وأن أباه رأس الأحزاب وأنه يدعى الخلافة من غير مشورة ولا بيعه فان زعم لك أن عمر
وعثمان استعملاه فلقد صدق استعمله عمر وهو الوالي عليه بمنزله الطبيب يحميه
ما يشتهى ويوجره ما يكره ثم استعمله عثمان برأي عمر وما أكثر من استعملا ممن لم
يدع الخلافة واعلم أن لعمرو مع كل شئ يسرك خبيئا يسوءك ومهما نسيت فلا تنس
أن عليا بايعه القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان وأنها بيعه هدى وأنه لم يقاتل
إلا العاصين والناكثين
فقال أبو موسى رحمك الله والله ما لي إمام غير على وإني لواقف عندما
رأى وإن حق الله أحب إلى من رضا معاوية وأهل الشام وما أنت وأنا إلا الله.
وروى البلاذري (3) في كتاب أنساب الأشراف قال قيل لعبد الله بن عباس

(1) هو أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف المدائني صاحب التصانيف الكثيرة في السيرة
وأخبار القبائل والخلفاء والفتوح والمغازي وغيرها توفى سنة 215. الفهرست لابن النديم 100 - 104
(2) كذا في ب ج وفى الان.
(3) هو أبو جعفر بن يحيى بن جابر البلاذري صاحب البلدان وأنساب الأشراف توفى سنة 279. الفهرست 113، ومعجم الأدباء 9: 85.
246

ما منع عليا ان يبعثك مع عمرو يوم التحكيم فقال منعه حاجز القدر ومحنه الابتلاء
وقصر المدة اما والله لو كنت لقعدت على مدارج أنفاسه ناقضا ما أبرم ومبرما ما نقض
أطير إذا أسف وأسف إذا طار ولكن قد سبق قدر وبقى أسف ومع اليوم غد
والآخرة خير لأمير المؤمنين.
وذكر البلاذري أيضا قال قام عمرو بن العاص بالموسم فأطرى معاوية وبنى
أمية وتناول بني هاشم وذكر مشاهده بصفين ويوم لابن أبي
موسى فقام إليه ابن عباس
فقال يا عمرو إنك بعت دينك من معاوية فأعطيته ما في يدك ومناك ما في يد غيره
فكان الذي أخذه منك فوق الذي أعطاك وكان الذي أخذت منه دون ما أعطيته
وكل راض بما أخذ وأعطى فلما صارت مصر في يدك تتبعك بالنقض عليك والتعقب
لأمرك ثم بالعزل لك حتى لو أن نفسك في يدك لأرسلتها وذكرت يومك مع أبي
موسى فلا أراك فخرت إلا بالغدر ولا منيت إلا بالفجور والغش وذكرت مشاهدك
بصفين فوالله ما ثقلت علينا وطأتك ولا نكات فينا جرأتك ولقد كنت فيها طويل
اللسان قصير البنان آخر الحرب إذا أقبلت وأولها إذا أدبرت لك يدان يد لا تقبضها عن
شر ويد لا تبسطها إلى خير ووجهان وجه مؤنس ووجه موحش ولعمري إن من
باع دينه بدنيا غيره لحري حزنه على ما باع واشترى أما إن لك بيانا ولكن فيك
خطل وإن لك
لرأيا ولكن فيك فشل وإن أصغر عيب فيك لأعظم عيب في غيرك.
قال نصر وكان النجاشي الشاعر صديقا لأبي موسى فكتب إليه يحذره من
عمرو بن العاص يؤمل أهل الشام عمرا وإنني لآمل عبد الله عند الحقائق
247

وإن أبا موسى سيدرك حقنا * إذا ما رمى عمرا بإحدى البوائق (1)
فلله ما يرمى العراق وأهله * به منه إن لم يرمه بالصواعق (2)
فكتب إليه أبو موسى إني لأرجو أن ينجلي هذا الامر، وأنا فيه على رضا
الله سبحانه.
قال نصر ثم إن شريح بن هانئ جهز أبا موسى جهازا حسنا، وعظم أمره في الناس
ليشرف في قومه، فقال الأعور الشني في ذلك يخاطب شريحا:
زففت ابن قيس زفاف العروس * شريح إلى دومة الجندل
وفى زفك الأشعري البلاء * وما يقض من حادث ينزل
وما الأشعري بذي إربة * ولا صاحب الخطة
الفيصل (3)
ولا آخذا حظ أهل العراق * ولو قيل ها خذه لم يفعل
يحاول عمرا وعمرو له * خدائع يأتي بها من على
فإن يحكما بالهدى يتبعا وإن يحكما بالهوى الأميل
يكونا كتيسين في قفرة أكيلي نقيف من الحنظل (4)
فقال شريح: والله لقد تعجلت رجال مساءتنا في لابن أبي
موسى وطعنوا عليه بأسوأ (5)
الطعن، وظنوا فيه ما الله عصمه (6) منه، إن شاء الله

(1) كتاب صفين 615: (الصواعق). وبعده فيه:
وحققه حتى يدر وريده * ونحن على ذاكم كأحنق حانق
على عمرا لا يشق غباره * إذا ما جرى بالجهد أهل السوابق
(2) صفين: (صاحب الخطبة)
(3) صفين: (صاحب الخطبة)
(4) الحنظل المقوف: الذي يكسر ليستخرج حبه.
(5) كتاب صفين: (بسوء الظن)
(6) صفين: (عاصمه).
248

قال: وسار مع عمرو بن العاص شرحبيل بن السمط في خيل عظيمة حتى إذا أمن
عليه خيل أهل العراق ودعه، ثم قال له: يا عمرو انك رجل قريش وإن معاوية
لم يبعثك إلا لعلمه انك لا تؤتى من عجز ولا مكيدة وقد عرفت أنى وطأت هذا الامر
لك ولصاحبك فكن عند ظني بك ثم انصرف وانصرف شريح بن هانئ حين أمن
خيل أهل الشام على لابن أبي
موسى، وودعه.
وكان آخر من ودع أبا موسى الأحنف بن قيس اخذ بيده، ثم قال له يا أبا
موسى، اعرف خطب هذا الامر واعلم أن له ما بعده، وانك إن أضعت العراق فلا
عراق اتق الله فإنها تجمع لك دنياك وآخرتك وإذا لقيت غدا عمرا فلا تبدأه بالسلام
فإنها وان كانت سنة إلا أنه ليس من أهلها ولا تعطه يدك فإنها أمانة، وإياك أن
يقعدك على صدر الفراش فإنها خدعه، ولا تلقه إلا وحده. واحذر أن يكلمك في
بيت فيه (2) مخدع تخبأ لك فيه الرجال والشهود ثم أراد أن يثور (1) ما في نفسه لعلى: فقال له،
فإن لم يستقم لك عمرو على الرضا بعلي، فليختر أهل العراق من قريش الشام من شاءوا،
أو فليختر أهل الشام من قريش العراق من شاءوا.
فقال أبو موسى: قد سمعت ما قلت ولم ينكر ما قاله من زوال الامر عن علي
فرجع الأحنف إلى علي (ع) فقال له: أخرج أبو موسى والله زبدة سقائه في
أول مخضه، لا أرانا إلا بعثنا رجلا لا ينكر خلعك. فقال على: الله غالب على أمره (3).
قال نصر: وشاع وفشا أمر الأحنف وأبي موسى في الناس، فبعث الصلتان العبدي
وهو بالكوفة إلى دومة الجندل بهذه الأبيات

(1) بثور: يختبر)، وفى ا، ب، (يبلو)، وفى صفين: (يبور) وكلمه بمعنى.
(2) ا، ج، (له).
(3) كتاب صفين. 61 - 613.
249

لعمرك لا ألفي مدى الدهر خالعا * عليا بقول الأشعري ولا عمرو
فإن يحكما بالحق نقبله منهما * والا أثرناها كراغية البكر (1)
ولسنا نقول الدهر ذاك إليهما، وفى ذاك لو قلناه قاصمة الظهر
ولكن نقول الأمر والنهي كله * إليه، وفى كفيه عاقبه الامر
وما اليوم إلا مثل أمس وإننا * لفي وشل الضحضاح أو لجه البحر (2).
قال فلما سمع الناس قول الصلتان شحذهم ذلك على لابن أبي
موسى، واستبطاه القوم
وظنوا به الظنون ومكث الرجلان بدومة الجندل لا يقولان شيئا. وكان سعد
بن أبي وقاص قد اعتزل عليا ومعاوية ونزل على ماء لبني سليم بأرض البادية
يتشوف (3) الاخبار، وكان رجلا له بأس ورأي ومكان في قريش ولم يكن له هوى
في علي ولا في معاوية، فأقبل راكب يوضع (4) من بعيد فإذا هو ابنه عمر فقال له
أبوه مهيم (5)! فقال التقى الناس بصفين فكان بينهم ما قد بلغك حتى تفانوا
ثم حكموا عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص وقد حضر ناس من قريش عندهما،
وأنت من أصحاب رسول الله (ص) ومن أهل الشورى، ومن قال له النبي (ص):
(اتقوا دعوته)، ولم تدخل في شئ مما تكره الأمة، فاحضر دومة الجندل فإنك
صاحبها غدا فقال: مهلا يا عمر، إني سمعت رسول الله (ص) يقول: (تكون
بعدي فتنة خير الناس فيها التقى الخفي) وهذا أمر لم أشهد أوله فلا اشهد آخره،

(1) الراغية: الرغاء، والبكر: ولد الناقة المضاف والمنسوب ص 284: (راغية البكر، من
أمثال العرب، وعن أبي عمرو. قولهم: كانت عليهم كراغية البكر، أي استؤصلوا استئصالا، يعنون
رغاء بكر ثمود حين عقر الناقة قدار.
(2) الوشل: المقدار اليسير من الماء.
(3) يتشوف الاخبار، أي يتطلع إليها.
(4) يوضع في سيره. يسرع
(5) مهيم، أي ما وراءك وما وراءك وما حالك؟ وهي كلمة استفهام بلغة اليمن.
250

ولو كنت غامسا يدي في هذا الامر لغمستها مع علي بن أبي طالب (1)، وقد رأيت أباك
كيف وهب حقه من الشورى، وكره الدخول في الامر. فارتحل عمر استبان له أمر أبيه.
قال نصر: وقد كان الأجناد (2) أبطأت على معاوية، فبعث إلى رجال من قريش
كانوا كرهوا ان يعينوه في حربه: إن الحرب قد وضعت أوزارها، والتقى هذان الرجلان
في دومة الجندل، فاقدموا على.
فأتاه عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر بن الخطاب وأبو الجهم بن حذيفة العدوي،
وعبد الرحمن بن عبد يغوث الزهري، وعبد الله بن صفوان الجمحي. وأتاه المغيرة بن شعبة،
وكان مقيما بالطائف لم يشهد الحرب، فقال له: يا مغيرة ما ترى؟ قال: يا معاوية،
لو وسعني أن أنصرك لنصرتك، ولكن على أن آتيك بأمر الرجلين. فرحل حتى
أتى دومة الجندل فدخل على لابن أبي
موسى كالزائر له، فقال: يا أبا موسى ما تقول فيمن
اعتزل هذا الامر وكره الدماء؟ قال: أولئك خير (3) الناس، خفت ظهورهم من
دمائهم، وخمصت بطونهم من أموالهم ثم أتى عمرا، فقال: يا أبا عبد الله، ما تقول فيمن
اعتزل هذا الامر، وكره الدماء؟ قال: أولئك شرار الناس لم يعرفوا حقا، ولم
ينكروا باطلا. فرجع المغيرة إلى معاوية، فقال له: قد ذقت الرجلين، أما عبد الله

(1) كتاب وقعة صفين بعد هذه الكلمة: (قد رأيت القوم حملوني على حد السيف فاخترته على
النار، فأقم أيك ليلتك هذه، فراجعه حتى طمع الشيخ، فلما جنه الليل رفع صوته ليسمع ابنه،
فقال..) وذكر أبياتا مطلعها:
دعوت أباك اليوم والله للذي * دعاني إليه القوم والامر مقبل
(2) وقعة صفين: (الاخبار)
(3) وقعة صفين: (خيار)
251

ابن قيس، فخالع صاحبه، وجاعلها لرجل لم يشهد هذا الامر وهواه في (1) عبد الله
ابن عمر، وأما عمرو بن العاص فهو صاحب الذي تعرف وقد ظن الناس أنه يرومها لنفسه
وأنه لا يرى انك أحق بهذا الامر منه
قال نصر في حديث عمرو بن شمر قال: أقبل أبو موسى إلى عمرو، فقال (2)
يا عمرو هل لك في أمر هو للأمة صلاح، ولصلحاء الناس رضا؟ نولي هذا الامر عبد الله
بن عمر بن الخطاب، الذي لم يدخل في شئ من هذه الفتنة ولا هذه الفرقة. قال: وكان
عبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن الزبير قريبين يسمعان هذا الكلام، فقال
عمرو فأين أنت يا أبا موسى عن معاوية؟ فأبى عليه أبو موسى قال: وشهدهم عبد الله
بن هشام وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث وأبو الجهم بن حذيفة العدوي والمغيرة
ابن شعبة (1)، فقال عمرو: الست تعلم أن عثمان قتل مظلوما؟ قال: بلى، قال:
اشهد (3)، ثم قال: فما يمنعك من معاوية وهو ولى عثمان وقد قال الله تعالى: ومن قتل
مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا (4)؟ ثم أن بيت معاوية من قريش ما قد علمت،
فإن خشيت أن يقول الناس ولى معاوية وليست له سابقه فإن لك حجة أن تقول:
وجدته ولى عثمان الخليفة المظلوم، والطالب بدمه، الحسن السياسة، الحسن التدبير، وهو
أخو أم حبيبة أم المؤمنين، وزوج النبي (ص)، وقد صحبه، وهو أحد الصحابة.
ثم عرض له بالسلطان، فقال له: إن هو ولى الامر أكرمك كرامة لم يكرمك أحد قط
مثلها فقال أبو موسى اتق الله يا عمرو، أما ما ذكرت من شرف معاوية، فإن هذا

(1) من كتاب صفين
(2) وقعة صفين 62 - 621
(3) صفين: (اشهدوا)
(4) سورة الإسراء
252

الامر ليس على الشرف يولاه أهله لو كان على الشرف كان أحق الناس بهذا الامر
أبرهة بن الصباح، إنما هو لأهل الدين والفضل، مع أنى لو كنت أعطيه أفضل قريش
شرفا لأعطيته علي بن أبي طالب وأما قولك: إن معاوية ولى عثمان فوله هذا الامر
فإني لم أكن أوليه إياه لنسبته من عثمان، وادع المهاجرين الأولين! وأما تعريضك لي
بالإمرة والسلطان فوالله لو خرج لي من سلطانه ما وليته، وما كنت أرتشي في الله
ولكنك إن شئت أحيينا سنة عمر بن الخطاب.
قال نصر: وحدثني عمر بن سعد عن أبي جناب أن أبا موسى قال غير مرة: والله
إن استطعت لأحيين اسم عمر بن الخطاب، قال: فقال عمرو بن العاص: إن كنت
إنما تريد أن تبايع ابن عمر لدينه، فما يمنعك من ابني عبد الله، وأنت تعرف فضله
وصلاحه! فقال إن ابنك لرجل صدق، ولكنك قد غمسته في هذه الفتنة (!)
قال نصر: وحدثنا عمر بن سعد، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، قال: قال
أبو موسى لعمرو: يا عمرو، إن شئت ولينا هذا الامر الطيب ابن الطيب، عبد الله
بن عمر فقال له عمرو يا أبا موسى، إن هذا الامر لا يصلح له الا رجل له ضرس
يأكل ويطعم، وإن عبد الله ليس هناك.
قال نصر: وقد كان في لابن أبي
موسى غفلة، فقال ابن الزبير لابن عمر: اذهب إلى عمرو
بن العاص فارشه، فقال ابن عمر: لا والله لا أرشو عليها بشئ أبدا ما عشت، ولكنه
قال له: إن العرب قد أسندت إليك أمرها بعد ما تقارعت بالسيوف، وتطاعنت بالرماح،
فلا تردهم في فتنة واتق الله.

(1) وقعة صفين 622 - 623
253

قال نصر: وحدثنا عمر بن سعد، عن أزهر العبسي عن النضر بن صالح، قال:
كنت مع شريح بن هانئ في غزوة سجستان فحدثني أن عليا (ع) أوصاه بكلمات
إلى عمرو بن العاص، وقال له: قل لعمرو إذا لقيته: إن عليا يقول لك: إن أفضل
الخلق عند الله من كان العمل بالحق أحب إليه وإن نقصه، وإن أبعد الخلق من الله
من كان العمل بالباطل أحب إليه وإن زاده، والله يا عمرو إنك لتعلم أين موضع الحق
فلم تتجاهل؟ أبان أوتيت طمعا يسيرا صرت لله ولأوليائه عدوا! فكان ما قد أوتيت
قد زال عنك، فلا تكن للخائنين خصيما، ولا للظالمين ظهيرا. أما إني أعلم أن يومك
الذي أنت فيه نادم، هو يوم وفاتك، وسوف تتمنى أنك لم تظهر لي عداوة، ولم تأخذ
على حكم الله رشوة
قال شريح: فأبلغته ذلك يوم لقيته، فتمعر وجهه (1) وقال: متى (2 كنت قابلا
مشورة على أو منيبا إلى رأيه، أو معتدا بأمره)! فقلت: وما يمنعك يا بن النابغة أن
تقبل من مولاك وسيد المسلمين بعد نبيهم مشورته! لقد كان من هو خير منك أبو بكر
وعمر يستشيرانه ويعملان برأيه: فقال: إن مثلي لا يكلم مثلك، فقلت: بأي أبويك
ترغب عن كلامي،! بأبيك الوشيظ (3) أم بأمك النابغة! فقام من مكانه وقمت (4).
قال نصر: وروى أبو جناب الكلبي أن عمرا وأبا موسى لما التقيا بدومة الجندل
أخذ عمرو يقدم أبا موسى في الكلام، ويقول: إنك صحبت رسول الله (ص)
قبلي، وأنت أكبر منى سنا، فتكلم أنت ثم أتكلم أنا، فجعل ذلك سنة وعادة بينهما

(1) وقعة صفين: (فتمعر وجه عمرو). وتمعر: تغير وجهه غيظا.
(2 - 2) وقعة صفين: (متى كنت أقبل مشورة على أو أنيب إلى أمره وأعتد برأيه!)
(3) الوشيظ: الخسيس والتابع.
(4) وقعة صفين 624
254

وإنما كان مكرا وخديعة واغترارا له أن يقدمه، فيبدأ بخلع على ثم يرى رأيه.
وقال ابن ديزيل في كتاب صفين: أعطاه عمرو صدر المجلس، وكان لا يتكلم
قبله، وأعطاه التقدم في الصلاة وفى الطعام، لا يأكل حتى يأكل، وإذا خاطبه فإنما
يخاطبه بأجل الأسماء، ويقول له: يا صاحب رسول الله، حتى اطمأن إليه، وظن
أنه لا يغشه.
قال نصر: فلما انمخضت الزبدة بينهما، قال له عمرو: أخبرني ما رأيك يا أبا موسى؟
قال: أرى أن أنخلع هذين الرجلين، ونجعل الامر شورى بين المسلمين، يختارون من شاءوا،
فقال عمرو: الرأي والله ما رأيت. فأقبلا إلى الناس وهم مجتمعون، فتكلم أبو موسى،
فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن رأيي ورأي عمرو قد اتفق على أمر نرجو أن يصلح الله
به شأن هذه الأمة، فقال عمرو: صدق ثم قال له: تقدم يا أبا موسى، فتكلم، فقام
ليتكلم فدعاه ابن عباس، فقال له: ويحك! وإني لأظنه خدعك، إن كنتما قد
اتفقتما على أمر فقدمه قبلك ليتكلم به ثم تكلم أنت بعده، فإنه رجل غدار، ولا آمن
أن يكون قد أعطاك الرضا فيما بينك وبينه، فإذا قمت قمت به في الناس خالفك. وكان أبو موسى
رجلا مغفلا، فقال: إيها عنك إنا قد اتفقنا!.
فتقدم أبو موسى، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنا قد نظرنا في أمر
هذه الأمة، فلم نر شيئا هو أصلح لأمرها ولا ألم لشعثها من ألا تتباين أمورها، وقد أجمع
رأيي ورأي صاحبي على خلع على ومعاوية، وأن يستقبل هذا الامر، فيكون شورى
بين المسلمين، يولون أمورهم من أحبوا، وإني قد خلعت عليا ومعاوية، فاستقبلوا
255

أموركم، وولوا من رأيتموه لهذا الامر أهلا ثم تنحى.
فقام عمرو بن العاص في مقامه: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن هذا قد قال
ما سمعتم، وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه، وأثبت صاحبي معاوية في الخلافة،
فإنه ولى عثمان، والطالب بدمه، وأحق الناس بمقامه.
فقال له أبو موسى: ما لك لا وفقك الله قد غدرت وفجرت! إنما مثلك كمثل الكلب
إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث (1)
فقال له عمرو: إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفارا. (2)
وحمل شريح بن هانئ على عمرو فقنعه بالسوط، وحمل ابن عمرو على شريح فقنعه
بالسوط، وقام الناس فحجزوا بينهما فكان شريح يقول بعد ذلك: ما ندمت على شئ
ندامتي ألا أكون ضربت عمرا بالسيف بدل السوط، أتى الدهر بما أتى به!
والتمس أصحاب علي (ع) أبا موسى فركب ناقته، ولحق بمكة
وكان ابن عباس يقول: قبح الله أبا موسى! لقد حذرته وهديته إلى الرأي فما عقل.
وكان أبو موسى يقول: لقد حذرني ابن عباس غدرة الفاسق، ولكني اطمأننت إليه
وظننت أنه لا يؤثر شيئا على نصيحة الأمة (3).
قال نصر: (4 ورجع عمرو إلى منزله من دومة الجندل، فكتب إلى معاوية 4):
أتتك الخلافة مزفوفة * هنيئا مريئا تقر العيونا

(1) شورة الأعراف 176
(2) سورة الجمعة 5
(3) كتاب صفين 627 - 629 مع تصرف.
(4 - 4) العبارة كما وردت في كتاب صفين: ولما فعل، واختلط الناس، رجع إلى منزله،
مجهز راكبا إلى معاوية يخبر بالامر من أوله إلى آخره، وكتب في كتاب على حده).
256

تزف إليك زفاف العرو س (1) * بأهون من طعنك الدارعينا
وما الأشعري بصلد الزناد * ولا خامل الذكر في الأشعرينا
ولكن أتيحت له حية * يظل الشجاع لها مستكينا
فقالوا وقلت وكنت أمرا * أجهجه بالخصم حتى يلينا (2)
فخذها ابن هند على بعدها * (3) فقد دافع الله ما تحذرونا
وقد صرف الله عن شامكم * عدوا مبينا وحربا زبونا (4)
قال نصر: فقام سعد بن قيس الهمداني، وقال: ولله لو اجتمعتما على الهدى ما زدتمانا
على ما نحن الان عليه، وما ضلالكما بلازم لنا، وما رجعتما إلا بما بدأتما به، وإنا اليوم
لعلى ما كنا عليه أمس.
وقام كردوس بن هانئ مغضبا، فقال (5):
ألا ليت من يرضى من الناس كلهم * بعمرو وعبد الله في لجه البحر
رضينا بحكم الله لا حكم غيره * وبالله ربا والنبي وبالذكر
وبالأصلع الهادي على إمامنا * رضينا بذاك الشيخ في العسر واليسر
رضينا به حيا وميتا وأنه * امام هدى في الحكم والنهى والامر
فمن قال لا قلنا بلى إن امره * لأفضل ما نعطاه في ليلة القدر
وما لابن هند بيعة في رقابنا * وما بيننا غير المثقفة السمر

(1) كتاب صفين (كزف العروس).
(2) أجهجه: قال الجوهري: (جهجهت بالسبع، صحت به لينكف.
(3) كتاب صفين: (على بأسها)
(4) كتاب صفين: (عدوا شنيا). وحرب زبون: تزبن الناس، أي تصدمهم وتدفهم.
(5) عبارة كتاب صفين: (وتكلم الناس غير الأشعث بن قيس، وتكلم كردوس بن هاني، فقال:
أما والله إني أظنك أول راض بهذا الامر يا أخا ربيعة، فغضب كردوس فقال).
257

وضرب يزيل الهام عن مستقره * وهيهات هيهات الرضا آخر الدهر!
أبت لي أشياخ الأراقم سبة * أسب بها حتى أغيب في القبر (1).
وتكلم يزيد بن أسد القسري - وهو من قواد معاوية - فقال: يا أهل العراق،
اتقوا الله، فإن أهون ما تردنا وإياكم إليه الحرب ما كنا عليه بالأمس، وهو الفناء،
وقد شخصت الابصار إلى الصلح، وأشرفت الأنفس على الفناء، وأصبح كل امرئ
يبكى على قتيل، ما لكم رضيتم بأول أمر صاحبكم وكرهتم آخره! إنه ليس لكم
وحدكم الرضا.
قال: وقال بعض الأشعريين لأبي موسى (2):
أبا موسى خدعت وكنت شيخا * قريب القعر مدهوش الجنان
رمى عمرو صفاتك يا ابن قيس * بأمر لا تنوء به اليدان
وقد كنا نجمجم عن ظنون * فصرحت الظنون عن العيان
فعض الكف من ندم وماذا * يرد عليك عضك بالبنان.
قال: وشمت أهل الشام بأهل العراق، وقال كعب بن جعيل شاعر معاوية:
وكان أبو موسى عشيه أذرح * يطوف بلقمان الحكيم يواربه (3)
ولما تلاقوا في تراث محمد * نمت بابن هند في قريش مناسبه (4)
سعى بابن عفان ليدرك ثاره * وولى عباد الله بالثار طالبه

(1) الأراقم: حي في تغلب، والسبة: العار.
(2) في كتاب صفين: (فتشاءم عمرو وأبو موسى من ليلته، فإذا ابن عم لأبي موسى يقول).
(3) كتاب صفين ومعجم البلدان 1 - 162: (كأن أبا موسى) وأذرح: بلد في أطراف الشام
مجاورة لأرض الحجاز، وكان فيها أمر الحكمين في أحد القولين 7 وثانيهما في دومة الجندل. ويعني بلقمان
الحكيم عمرو بن العاس.
(4) كتاب صفين وياقوت: (مضاربه)
258

وقد غشيتنا في الزبير غضاضه * وطلحة إذ قامت عليه نوادبه
فرد ابن هند ملكه في نصابه * ومن غالب الاقدار فالله غالبه
وما لابن هند من لؤي بن غالب * نظير وإن جاشت عليه أقاربه
فهذاك ملك الشام واف سنامه * وهذاك ملك القوم قد جب غاربه
يحاول عبد الله عمرا وإنه * ليضرب في بحر عريض مذاهبه
دحا دحوة في صدره فهوت به * إلى أسفل الجب الظنون كواذبه (1).
قال نصر: وكان علي (ع) لما خدع عمرو أبا موسى بالكوفة، كان قد دخلها
منتظرا ما يحكم به الحكمان، فلما تم على لابن أبي
موسى ما تم من الحيلة، غم ذلك عليا
وساءه، ووجم له، وخطب الناس، فقال:
(الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح والحدث الجليل...) الخطبة التي ذكرها
الرضى رحمه الله تعالى، وهي التي نحن في شرحها، وزاد في آخرها بعد الاستشهاد ببيت
دريد: (ألا إن هذين الرجلين اللذين اخترتموهما قد نبذا حكم الكتاب وأحييا
ما أمات واتبع كل واحد منهما هواه، وحكم بغير حجة ولا بينة ولا سنة ماضية واختلفا
فيما حكما، فكلاهما لم يرشد الله. فاستعدوا للجهاد، وتأهبوا للمسير، وأصبحوا
في معسكركم يوم كذا)

(1) كتاب صفين:
* إلى أسفل المهوى ظنون كواذبه *
فرد عليه رجل من أصحاب على فقال:
غدر تم وكان منكم سجية * فما ضرنا غدر اللئيم وصاحبه
وسميتم شر البرية مؤمنا * كذبتم فشر الناس كاذبه
259

قال نصر: فكان علي (ع) بعد الحكومة، إذا صلى الغداة والمغرب، وفرغ
من الصلاة وسلم، قال: اللهم العن معاوية، وعمرا، وأبا موسى، وحبيب بن مسلمة،
وعبد الرحمن بن خالد، والضحاك بن قيس، والوليد بن عقبة فبلغ ذلك معاوية، فكان
إذا صلى لعن عليا، وحسنا، وحسينا، وابن عباس، وقيس بن سعد بن عبادة والأشتر
وزاد ابن ديزيل في أصحاب معاوية أبا الأعور السلمي.
وروى ابن ديزيل أيضا أن أبا موسى كتب من مكة إلى علي (ع): اما بعد،
فإني قد بلغني أنك تلعنني في الصلاة ويؤمن خلفك الجاهلون، وإني أقول كما قال موسى (ع):
(رب بما أنعمت على فلن أكون ظهيرا للمجرمين). (1)
وروى ابن ديزيل، عن وكيع، عن فضل بن مرزوق، عن عطية، عن عبد الرحمن
بن حبيب، عن علي (ع)، أنه قال: يؤتى بي وبمعاوية يوم القيامة، فنجئ
ونختصم عند ذي العرش، فأينا فلج فلج أصحاب.
وروى أيضا عن عبد الرحمن بن نافع القارئ، عن أبيه، قال: سئل علي (ع)
عن قتلى صفين، فقال: إنما الحساب على وعلى معاوية
وروى أيضا عن الأعمش عن موسى بن طريف، عن عباية (2)، قال سمعت عليا (ع)،
وهو يقول: أنا قسيم النار، هذا لي وهذا لك.
وروى أيضا عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله (ص):
لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان، دعوتهما واحدة، فبينما هم كذلك مرقت
منهم مارقة، يقتلهم أولى الطائفتين بالحق.

(1) سورة القصص 17
(2) عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج الأنصاري
260

قال إبراهيم بن ديزيل: وحدثنا سعيد بن كثير، عن عفير، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن
ابن هبيرة، عن حنش الصنعاني، قال: جئت إلى لابن أبي
سعيد الخدري، وقد عمى فقلت:
أخبرني عن هذه الخوارج، فقال: تأتوننا فنخبركم، ثم ترفعون ذلك إلى معاوية، فيبعث
إلينا بالكلام الشديد! قال: قلت: أنا حنش، فقال: مرحبا بك يا حنش المصري،
سمعت رسول الله (ص)، يقول، يخرج ناس يقرءون القرآن، لا يجاوز
تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر أحدكم في نصله، فلا يرى
شيئا، فينظر في قذذه (1) فلا يرى شيئا، سبق الفرث والدم، يصلى بقتالهم أولى الطائفتين
بالله، فقال حنش: فإن عليا صلى بقتالهم، فقال أبو سعيد: وما يمنع عليا أن يكون
أولى الطائفتين بالله!
وذكر محمد بن القاسم بن بشار الأنباري في أماليه، قال: قال عبد الرحمن بن خالد
بن الوليد: حضرت الحكومة، فلما كان يوم الفصل جاء عبد الله بن عباس، فقعد
إلى جانب لابن أبي
موسى وقد نشر اذنيه، حتى كاد أن ينطق بهما، فعلمت أن الامر لا يتم لنا
ما دام هناك، وأنه سيفسد على عمرو حيلته، فأعملت المكيدة في أمره، فجئت حتى قعدت
عنده، وقد شرع عمرو وأبو موسى في الكلام، فكلمت ابن عباس كلمة استطعمته
جوابها فلم يجب، فكلمته أخرى فلم يجب، فكلمته ثالثه، فقال: إني لفي شغل عن حوارك
الان، فجبهته، وقلت: يا بني هاشم، لا تتركون بأوكم (2) وكبركم أبدا! أما والله لولا
مكان النبوة لكان لي ولك شأن، قال: فحمى وغضب، واضطرب فكر ه ورأيه وأسمعني
كلاما يسوء سماعه، فأعرضت عنه، وقمت فقعدت إلى جانب عمرو بن العاص، فقلت:
قد كفيتك التقوالة (3)، أنى قد شغلت باله بما دار بيني وبينه، فأحكم أنت أمرك، قال:

(1) القذذ جمع قذة، وهي: ريش (2) البأو: التفاخر.
(3) التقوالة: الكثير القول.
261

فذهل والله ابن عباس عن الكلام الدائر بين الرجلين، حتى قام أبو موسى، فخلع عليا.
وروى الزبير بن بكار في الموفقيات ورواه جميع الناس ممن عنى بنقل الآثار
والسير، عن الحسن البصري: أربع خصال كن في معاوية لو لم يكن فيه إلا واحدة منهن
لكانت موبقة: انتزاؤه على هذه الأمة بالسفهاء حتى ابتزها أمرها بغير مشورة منهم
وفيهم، أمرها بغير مشورة منهم،
وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة. واستخلافه بعده ابنه يزيد، سكيرا خميرا يلبس
الحرير ويضرب بالطنابير وادعاؤه زيادا، وقد قال رسول الله (ص):
الولد للفراش وللعاهر الحجر. وقتله حجر بن عدي وأصحابه، فيا ويله من حجر
وأصحاب حجر.
وروى في الموفقيات أيضا الخبر الذي رواه المدائني، وقد ذكرناه آنفا من كلام ابن
عباس لأبي موسى، وقوله: إن الناس لم يرتضوك لفضل عندك لم تشارك فيه.. وذكر
في آخره فقال بعض شعراء قريش:
والله ما كلم الأقوام من بشر * بعد الوصي على كابن عباس
أوصى ابن قيس بأمر فيه عصمته * لو كان فيها أبو موسى من الناس
إني أخاف عليه مكر صاحبه * أرجو رجاء مخوف شيب باليأس.
وذكر الزبير أيضا في الموفقيات أن يزيد بن حجية التيمي، شهد الجمل وصفين
ونهروان مع علي (ع)، ثم ولاه الري ودستبي (1)، فسرق من أموالهما، ولحق
بمعاوية وهجا عليا (ع) وأصحابه، ومدح معاوية وأصحابه، فدعا عليه علي (ع)،
ورفع أصحابه أيديهم فأمنوا، وكتب إليه رجل من بنى عمه كتابا يقبح إليه

(1) دستبي، بفتح أوله وسكون ثانيه وفتح التاء المقصورة: كورة كبيرة كانت مقسومة بين الري
وهمدان. ياقوت
262

ما صنع، وكان الكتاب شعرا، فكتب يزيد بن حجية إليه لو كنت أقول شعرا،
لأجبتك، ولكن قد كان منكم خلال 4 ثلاث لا ترون معهن شيئا مما تحبون، أما الأولى
فإنكم سرتم إلى أهل الشام، حتى إذا دخلتم بلادهم، وطعنتموهم بالرماح، وأذقتموهم ألم
الجراح، رفعوا المصاحف فسخروا منكم، وردوكم عنهم، فوالله والله لا دخلتموها بمثل
تلك الشوكة والشدة أبدا. والثانية أن القوم بعثوا حكما، وبعثتم حكما، فأما حكمهم
فأثبتهم، وأما حكمكم فخلعكم، ورجع صاحبهم يدعى أمير المؤمنين، ورجعتم متضاغنين:
والثالثة أن قراءكم وفقهاءكم وفرسانكم خالفوكم، فعدوتم عليهم، فقتلتموهم، ثم كتب في
آخر الكتاب بيتين لعفان بن شرحبيل التميمي
أحببت أهل الشام من بين الملا * و بكيت من أسف على عثمان
أرضا مقدسة وقوما منهم * أهل اليقين وتابعو الفرقان
وذكر أبو أحمد العسكري (1) في كتاب الأمالي أن سعد بن أبي وقاص دخل على
معاوية عام الجماعة، فلم يسلم عليه بإمرة المؤمنين، فقال له معاوية: لو شئت أن تقول في
سلامك غير هذا لقلت، فقال سعد: نحن المؤمنون ولم نؤمرك، كأنك قد بهجت بما أنت
فيه يا معاوية! والله ما يسرني ما أنت فيه وأنى هرقت المحجمة دم، قال: ولكني وابن
عمك عليا يا أبا إسحاق قد هرقنا أكثر من محجمة ومحجمتين، هلم فاجلس معي على
السرير، فجلس معه، فذكر له معاوية اعتزاله الحرب، يعاتبه، فقال سعد: إنما كان مثلي
ومثل الناس كقوم أصابتهم ظلمة، فقال واحد منهم لبعيره إخ، فأناخ حتى أضاء له الطريق

(1) هو الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري أبو أحمد، أحد أعلام اللغة والأدب، أخذ عن ابن
دريد وطبقته، وصاحب كتال التصحيف توفى سنة. 38، (إنباه الرواة 1:. 31)
263

فقال معاوية: والله يا أبا إسحاق، ما في كتاب الله إخ وإنما فيه: وأن طائفتان من
المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغى
حتى تفئ إلى أمر الله، (1)، فوالله ما قاتلت الباغية ولا المبغى عليها. فأفحمه.
وزاد ابن ديزيل في هذا الخبر زيادة ذكرها في كتاب صفين قال: فقال سعد:
أتأمرني أن أقاتل رجلا قال له رسول الله (ص): أنت منى بمنزلة هارون من موسى
إلا أنه لا نبي بعدي! فقال معاوية: من سمع هذا معك؟ قال: فلان وفلان وأم سلمة فقال
معاوية: لو كنت سمعت هذا لما قاتلته.

(1) سورة الحجرات 9
264

(36) ومن خطبه له (ع) في تخويف أهل النهروان
فأنا نذير لكم أن تصبحوا صرعى بأثناء هذا النهر، وبأهضام هذا الغائط،
على غير بينة من ربكم، ولا سلطان مبين معكم، قد طوحت بكم الدار،
واحتبلكم المقدار.
وقد كنت نهيتكم عن هذه الحكومة، فأبيتم على إباء المخالفين المنابذين،
حتى صرفت رأيي إلى هواكم. وأنتم معاشر أخفاء الهام، سفهاء الأحلام، ولم آت
لا أبا لكم بجرا، ولا أردت بكم ضرا
الاهضام: جمع هضم، وهو المطمئن من الوادي. والغائط: ما سفل من الأرض.
واحتبلكم المقدار: أوقعكم في الحبالة.
والبجر: الداهية والامر العظيم ويروى هجرا، وهو المستقبح من القول ويروى
عرا، والعر: قروح في مشافر الإبل ويستعار للداهية
أخبار الخوارج
قد تظافرت الاخبار حتى بلغت حد التواتر بما وعد الله تعالى قاتلي الخوارج من
الثواب، على لسان رسوله (ص). وفى الصحاح المتفق عليها أن
265

رسول الله (ص) (1) بينا هو يقسم قسما جاء رجل من بنى تميم، يدعى
ذا الخويصرة، فقال: اعدل يا محمد، فقال (ع): قد عدلت، فقال له ثانية: أعدل
يا محمد، فإنك لم تعدل، فقال (ص): ويلك! ومن يعدل إذا لم أعدل!
فقام عمر بن الخطاب، فقال يا رسول الله، ائذن لي أضرب عنقه، فقال: دعه، فسيخرج
من ضئضئ (2) هذا قوم يمرقون (3) من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر
أحد كم إلى نصله (4) فلا يجد شيئا، فينظر إلى نضيه (5) فلا يجد شيئا، ثم ينظر إلى
القذذ (6) فكذلك، سبق الفرث والدم (7) يخرجون على حين فرقة من الناس، تحتقر
صلاتكم في جنب صلاتهم، وصومكم عند صومهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم.
آيتهم (8) رجل أسود أو قال أدعج (9) مخدج (10)، اليد، إحدى يديه كأنها ثدي
امرأة أو بضعة تدردر (11).
وفى بعض الصحاح أن رسول الله (ص) قال لأبي بكر، وقد غاب الرجل

(1) نقله المبرد في الكامل 545، 565 (طبع أوروبا) مع اختلاف في الرواية.
(2) ضئضئ هذا، أي من جنس هذا، يقال: فلان من ضئضئي صدق، ومن محتد صدق، وفى مركب صدق
(3) قال المبرد: (يقال: مرق السهم من الرمية، إذا نقذ منها، وأكثر ما يكون ذلك ألك الا بعلق به
من دمها شئ
(4) النصل: حديدة السهم ولا سيف
(5) النضي، على (فعيل): القدح (بكسر فسكون)، وهو السهم قبل أن ينصل ويريش.
(6) القذذ: جمع قذة، وهي ريشة السهم.
(7) الضمير عائد على السهم، والكلام على التشبيه والاستعارة التمثيلية، ضربه صلى الله عليه وسلم
مثلا لخروجهم من الدين، لم يعلق بقلوبهم منه شئ
(8) ذكروا أنه حرقوص بن زهير، كان صحابيا أمد به عمر المسلمين الذين نازلوا الأهواز، ثم كان مع علي
في صفين، ثم صار خارجيا عليه، فقتل تاج العروس (4: 379)
(9) الدعج: شدة سواد العين مع اتساعها
(10) مخدج اليد، من أخدجه الله، نقص عضوا منه.
(11) تدردر، قال ابن الأثير في النهاية (2: 19): (تدردر، أي ترجرج، تجيئ وتذهب، والأصل
تتدردر، فحذف إحدى التاءين تخفيفا
266

عن عينه: قم إلى هذا فاقتله، فقام ثم عاد وقال: وجدته يصلى، فقال لعمر مثل ذلك،
فعاد وقال: وجدته يصلى، فقال لعلى (ع) مثل ذلك فعاد فقال: لم أجده، فقال
رسول الله (ص): لو قتل هذا لكان أول فتنة وآخرها، أما إنه سيخرج
من ضئضئ هذا قوم الحديث.
وفى بعض الصحاح: يقتلهم أولى الفريقين بالحق.
وفى مسند أحمد بن حنبل، عن مسروق، قال: قالت لي عائشة: إنك من ولدى ومن
أحبهم إلى فهل عندك علم من المخدج؟ فقلت: نعم، قتله علي بن أبي طالب على نهر يقال
لأعلاه تامرا (1) ولأسفله النهروان، بين لخاقيق وطرفاء (2)، قالت: أبغني على ذلك بينة،
فأقمت رجالا شهدوا عندها بذلك، قال: فقلت لها سألتك بصاحب القبر، ما الذي سمعت
من رسول الله (ص) فيهم؟ فقالت: نعم سمعته، يقول: إنهم شر الخلق والخليقة،
يقتلهم خير الخلق والخليقة، وأقربهم عند الله وسيلة
وفي كتاب صفين للواقدي عن علي (ع): لولا أن تبطروا فتدعوا
العمل لحدثتكم بما سبق على لسان رسول الله (ص) لمن قتل هؤلاء
وفيه: قال علي (ع): إذا حدثتكم عن رسول الله (ص) فلان أخر
من السماء أحب إلى من أن أكذب على رسول الله (ص)، وإذا حدثتكم فيما
بيننا عن نفسي، فإن الحرب خدعة، وإنما أنا رجل محارب سمعت رسول الله (ص)
يقول: يخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، قولهم من خير

(1) تامرا، ضبطه ياقوت: (بفتح الميم وتشديد الراء والقصر) وقال (نهر واسع يخرج من
جبال شهر زور والجبال المجاورة لها)
(2) لخاقيق: لخقوق، وهو شق في الأرض، والطرفاء: شجر من الحمض، واحدته طرفاء.
267

أقوال أهل البرية، صلاتهم أكثر من صلاتكم، وقراءتهم أكثر من قراءتكم، لا يجاوز
إيمانهم تراقيهم أو قال حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فاقتلوهم،
فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة.
وفى كتاب صفين أيضا للمدائني عن مسروق، أن عائشة قالت له لما عرفت أن
عليا (ع) قتل ذا الثدية: لعن الله عمرو بن العاص! فإنه كتب إلى يخبرني أنه قتله
بالإسكندرية، ألا انه ليس يمنعني ما في نفسي أن أقول ما سمعته من رسول الله (ص)،
يقول: يقتله خير أمتي من بعدي.
وذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ أن عليا (ع) لما دخل
الكوفة دخلها معه كثير من الخوارج، وتخلف منهم بالنخيلة وغيرها خلق كثير لم يدخلوها،
فدخل حرقوص بن زهير السعدي، وزرعه بن البرج الطائي وهما من رؤوس
الخوارج على علي (ع)، فقال لحرقوص: تب من خطيئتك، واخرج بنا
إلى معاوية نجاهده، فقال له علي (ع): إني كنت نهيتكم عن الحكومة فأبيتم،
ثم الان تجعلونها ذنبا! أما إنها ليست بمعصية، ولكنها عجز من الرأي، وضعف في التدبير،
وقد نهيتكم عنه، فقال زرعه: أما والله لئن لم تتب من تحكيمك الرجال لأقتلنك (1)،
أطلب بذلك وجه الله ورضوانه، فقال علي (ع): بؤسا لك ما أشقاك! كأني بك
قتيلا تسفى عليك الرياح! قال زرعة: وددت أنه كان ذلك (2).
قال: وخرج علي (ع) يخطب الناس فصاحوا به من جوانب المسجد

(1) الطبري: (قاتلتك)
(2) تاريخ الطبري 6: 40، 41
268

لا حكم إلا لله، وصاح به رجل منهم واضع إصبعه في أذنيه، فقال (1): ولقد أوحى
إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من
الخاسرين (2)، فقال له علي (ع): فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك
الذين لا يوقنون. (3)
وروى ابن ديزيل في كتاب صفين قال: كانت الخوارج في أول ما انصرفت عن
رايات علي (ع) تهدد الناس قتلا. قال: فأتت طائفة منهم على النهر إلى جانب قرية،
فخرج منها رجل مذعورا آخذا بثيابه، فأدركوه فقالوا له رعبناك؟ قال: أجل، فقالوا له:
قد عرفناك، أنت عبد الله بن خباب، صاحب رسول الله (ص)، قال: نعم قالوا:
فما سمعت من أبيك يحدث عن رسول الله (ص)؟
. قال ابن ديزيل: فحدثهم أن رسول الله (ص) قال: أن فتنة جائية، القاعد فيها
خير من القائم... الحديث.
وقال غيره: بل حدثهم أن طائفة تمرق من الدين كما يمرق السهم من الرمية، يقرءون
القرآن، صلاتهم أكثر من صلاتكم... الحديث فضربوا رأسه، فسال دمه في النهر،
ما امذقر، أي ما اختلط بالماء كأنه شراك، ثم دعوا بجارية له حبلى فبقروا عما في بطنها.
وروى ابن ديزيل، قال: عزم علي (ع) على الخروج من الكوفة إلى
الحرورية (4)، وكان في أصحابه منجم فقال له: يا أمير المؤمنين لا تسر في هذه الساعة،

(1) تكملة من تاريخ الطبري
(2) سورة الزمر 65
(3) سورة الروم 60 والخبر في الطبري 5: 401
(4) الحرورية: نسبة إلى حروراء: قربة على ميلين من الكوفة، كان اجتماع الخوارج فيها، فنسبوا إليها.
269

وسر على ثلاث ساعات مضين من النهار، فإنك إن سرت في هذه الساعة أصابك
وأصحابك أذى وضر شديد، وإن سرت في الساعة التي أمرتك بها ظفر ت وظهرت
وأصبت ما طلبت. فقال له علي (ع): أتدري ما في بطن فرسي هذه: أذكر هو أم
أنثى؟ قال: إن حسبت علمت، فقال علي (ع): من صدقك بهذا فقد كذب
بالقرآن، قال الله تعالى: إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في
الأرحام.. (1) الآية، ثم قال (ع):
إن محمدا (ص) ما كان يدعى علم ما ادعيت علمه، أتزعم أنك تهدى إلى الساعة
التي يصيب النفع من سار فيها، وتصرف عن الساعة التي يحيق السوء بمن سار فيها! فمن
صدقك بهذا فقد استغنى عن الاستعانة بالله جل ذكره في صرف المكروه عنه. وينبغي
للموقن بأمرك أن يوليك الحمد دون الله جل جلاله، لأنك بزعمك هديته إلى الساعة التي
يصيب النفع من سار فيها، وصرفته عن الساعة التي يحيق السوء بمن سار فيها، فمن آمن
بك في هذا لم آمن عليه أن يكون كمن اتخذ من دون الله ضدا وندا. اللهم لا طير إلا
طيرك ولا ضر إلا ضرك، ولا إله غيرك. ثم قال: نخالف ونسير في الساعة التي نهيتنا
عنها. ثم أقبل على الناس، فقال: أيها الناس، إياكم والتعلم للنجوم إلا ما يهتدى به في
ظلمات البر والبحر، إنما المنجم كالكاهن، والكاهن كالكافر، والكافر في النار.
أما والله لئن بلغني أنك تعمل بالنجوم لأخلدنك السجن أبدا ما بقيت، ولأحرمنك
العطاء ما كان لي من سلطان
ثم سار في الساعة التي نهاه عنها المنجم، فظفر بأهل النهر وظهر عليهم ثم قال:
لو سرنا في الساعة التي أمرنا بها المنجم لقال الناس: سار في الساعة التي أمر بها المنجم
فظفر وظهر، أما إنه ما كان لمحمد (ص) منجم، ولا لنا من بعده، حتى فتح الله
علينا بلاد كسرى وقيصر. أيها الناس، توكلوا على الله وثقوا به، فإنه يكفي ممن سواه.

(1) سورة لقمان 34.
270

قال: فروى مسلم الضبي عن حبة العرني، قال: لما انتهينا إليهم رمونا، فقلنا لعلى
(ع): يا أمير المؤمنين قد رمونا، فقال لنا: كفوا، ثم رمونا، فقال لنا
(ع): كفوا، ثم الثالثة، فقال: الان طاب القتال، احملوا عليهم.
وروى أيضا عن قيس بن سعد بن عبادة أن عليا (ع) لما انتهى إليهم، قال
لهم: أقيدونا بدم عبد الله بن خباب، فقالوا: كلنا قتله، فقال: احملوا عليهم
وذكر أبو هلال العسكري في كتاب الأوائل أن أول من قال: لا حكم إلا لله،
عروة بن حدير، قالها بصفين، وقيل: زيد بن عاصم المحاربي، قال: وكان أميرهم أول
ما اعتزلوا ابن الكواء، ثم بايعوا لعبد الله بن وهب الراسبي وكان أحد الخطباء فقال
لهم عند بيعتهم إياه: إياكم والرأي الفطير (1)، والكلام القضيب (2)، دعوا لرأى
يغب (3)، فإن غبوبه يكشف للمرء عن قضته (4)، وازدحام الجواب مضلة للصواب، وليس
الرأي بالارتجال، ولا الحزم بالاقتضاب، فلا تدعونكم السلامة من خطأ موبق، وغنيمة
نلتموها من غير صواب، إلى معاودته والتماس الربح من جهته. إن الرأي ليس بنهنهى (5)
ولا هو ما أعطتك البديهة، وإن خمير الرأي خير من فطيره، ورب شئ غابه خير من
طريئه، وتأخيره خير من تقديمه.
وذكر المدائني في كتاب الخوارج قال: لما خرج علي (ع) إلى أهل النهر
أقبل رجل من أصحابه ممن كان على مقدمته يركض، حتى انتهى إلى علي (ع)

(1) الرأي الفطير الذي يبدو تديها من غير تروية، خلاف الخمير
(2) الكلام القضيب: المرتجل
(3) يغب، أي يمضى عليه وقت
(4) القضة: العيب
(5) النهنهى، نسبة إلى النهنه، وهو الثوب الرقيق النسيج
271

فقال: البشرى يا أمير المؤمنين، قال: ما بشراك؟ قال إن القوم عبروا النهر لمبلغهم
وصولك، فأبشر، فقد منحك الله أكتافهم، فقال له: آلله أنت رأيتهم قد عبروا! قال
نعم، فأحلفه ثلاث مرات، في كلها يقول: نعم فقال علي (ع): والله ما عبروه ولن
يعبروه، وإن مصارعهم لدون النطفة، والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، لن يبلغوا الا ثلاث،
ولا قصر بوازن، حتى يقتلهم الله، وقد خاب من افترى قال: ثم أقبل فارس آخر
يركض، فقال كقول الأول، فلم يكترث علي (ع) بقوله، وجاءت الفرسان تركض
كلها تقول مثل ذلك، فقام علي (ع) فجال في متن فرسه قال: فيقول شاب من
الناس: والله لأكونن قريبا منه، فإن كانوا عبروا النهر لأجعلن سنان هذا الرمح في عينه،
أيدعي علم الغيب! فلما انتهى (ع) إلى النهر وجد القوم قد كسروا جفون سيوفهم،
وعرقبوا خيلهم، وجثوا على ركبهم، وحكموا تحكيمة واحدة بصوت عظيم له زجل.
فنزل ذلك الشاب، فقال: يا أمير المؤمنين، إني كنت شككت فيك آنفا، وإني تائب إلى
الله واليك، فاغفر لي، فقال علي (ع): إن الله هو الذي يغفر الذنوب فاستغفره.
وذكر أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في الكامل قال: لما واقفهم علي (ع)
بالنهروان، قال: لا تبدءوهم بقتال حتى يبدأوكم، فحمل منهم رجل على صف علي (ع)،
فقتل منهم ثلاثة ثم قال:
أقتلهم ولا أرى عليا * ولو بدا أوجرته الخطيا. (1)
فخرج إليه علي (ع) فضربه، فقتله، فلما خالطه، سيفه قال: يا حبذا الروحة
إلى الجنة! فقال عبد الله بن وهب: والله ما أدرى إلى الجنة أم إلى النار! فقال رجل منهم

(1) أو جرته الخطى: طعنته بالرمح
272

من بنى سعد: إنما حضرت اغترارا بهذا الرجل يعنى عبد الله وأراه قد شك واعتزل عن
الحرب بجماعة من الناس، ومال ألف منهم إلى جهة لابن أبي
أيوب الأنصاري وكان على ميمنة
علي (ع)، فقال علي (ع) لأصحابه: احملوا عليهم، فوالله لا يقتل منكم عشرة،
ولا يسلم منهم عشرة (2). فحمل عليهم فطحنهم طحنا، قتل من أصحابه (ع) تسعه،
وأفلت من الخوارج ثمانية
وذكر أبو العباس، وذكر غيره أيضا أن أمير المؤمنين (ع) لما وجه إليهم
عبد الله بن عباس ليناظرهم قال لهم: ما الذي نقمتم على أمير المؤمنين؟ قالوا له: قد كان
للمؤمنين أميرا، فلما حكم في دين الله خرج من الايمان، فليتب بعد إقراره بالكفر،
نعد إليه (3)، قال: ابن عباس: ما ينبغي لمؤمن لم يشب ايمانه بشك أن يقر على نفسه بالكفر،
قالوا: إنه حكم، قال: إن الله أمر بالتحكيم في قتل صيد، فقال يحكم به ذوا عدل
منكم (4)، فكيف في إمامة قد أشكلت على المسلمين! فقالوا: إنه حكم عليه فلم
يرض، فقال: إن الحكومة كالإمامة، ومتى فسق الامام وجبت معصيته، وكذلك
الحكمان لما خالفا نبذت أقاويلهما، فقال بعضهم لبعض: اجعلوا احتجاج قريش حجة
عليهم، فإن هذا من الذين قال الله فيهم: بل هم قوم خصمون (5)، وقال جل ثناؤه:
وتنذر به قوما لدا (6).
قال أبو العباس: ويقال إن أول من حكم عروة بن أدية وأدية جدة له جاهلية
وهو عروة بن حدير، أحد بنى ربيعة بن حنظلة. وقال قوم: أول من حكم رجل من بنى

(1) في الكامل: (لا يفلت)
(2) الكامل 543 - 544 (طبعة أوروبا)
(3) ب: (تعدله)
(4) سورة المائدة 95
(5) سورة الزخرف 58
(6) سورة مريم 97، 572 (طبعة أوروبا.)
273

محارب بن خصفة بن قيس بن عيلان، يقال له سعيد ولم يختلفوا في اجتماعهم (1) على
عبد الله بن وهب الراسبي، وأنه امتنع عليهم وأومأ إلى غيره فلم يقنعوا إلا به، فكان إمام القوم،
وكان يوصف برأي. فأما أول سيف سل من سيوف الخوارج فسيف عروة بن أدية،
وذاك أنه أقبل على الأشعث، فقال له: ما هذه الدنية يا أشعث؟ وما هذا التحكيم؟ أشرط
أوثق من شرط الله عز وجل! ثم شهر عليه السيف، والأشعث مول، فضرب به
عجز بغلته.
قال أبو العباس: وعروة بن حدير هذا من النفر الذين نجوا من حرب النهروان، فلم
يزل باقيا مدة من أيام معاوية، ثم أتى به زياد ومعه مولى له، فسأله عن أبي بكر وعمر فقال
خيرا، فقال له: فما تقول في أمير المؤمنين عثمان، وفى لابن أبي
تراب؟ فتولى عثمان ست سنين
من خلافته ثم شهد عليه بالكفر، وفعل في أمر علي (ع) مثل ذلك إلى أن حكم
ثم شهد عليه بالكفر، ثم سأله عن معاوية فسبه سبا قبيحا، ثم سأله عن نفسه، فقال له:
أو لك لزنية (2)، وآخرك لدعوة، وأنت بعد عاص لربك. فأمر به فضربت عنقه، ثم
دعا مولاه فقال له: صف لي أموره، قال أطنب أم أختصر؟ قال: بل اختصر، قال:
ما أتيته بطعام بنهار قط، ولا فرشت له فراشا بليل قط (3)!
قال أبو العباس: وسبب تسميتهم الحرورية أن عليا (ع) لما ناظرهم بعد مناظرة
ابن عباس إياهم، كان فيما قال لهم: ألا تعلمون أن هؤلاء القوم لما رفعوا المصاحف، قلت
لكم: إن هذه مكيدة ووهن (4)، وأنهم لو قصدوا إلى حكم المصاحف لأتوني، وسألوني
التحكيم! أفتعلمون أن أحدا كان أكره للتحكيم منى؟ قالوا: صدقت، قال: فهل تعلمون
أنكم استكرهتموني على ذلك حتى أجبتكم إليه، فاشترطت أن حكمهما نافذ ما حكما

(1) الكامل: (إجماعهم)
(2) لزنية، يذكر ما كان من لابن أبي
سفيان في جاهليته من غشيانه أمه سمية البعى
(3) الكامل 538 - 539 (طبع أوروبا)
(4) ب: (مكيدة وهن)
274

بحكم الله، فمتى خالفاه، فأنا وأنتم من ذلك برآء، وأنتم تعلمون أن حكم الله لا يعدوني!
قالوا: اللهم نعم، قال: وكان معهم في ذلك الوقت ابن الكواء (1)، قال: وهذا من قبل
أن يذبحوا عبد الله بن خباب، وإنما ذبحوه في الفرقة الثانية بكسكر (2)، فقالوا له:
حكمت في دين الله برأينا ونحن مقرون بأنا كنا كفرنا، ولكنا الان تائبون
فأقر بمثل ما أقررنا به، وتب ننهض معك إلى الشام، فقال: أما تعلمون أن الله تعالى قد أمر
بالتحكيم في شقاق بين الرجل وامرأته، فقال سبحانه: فابعثوا حكما من أهله
وحكما من أهلها، وفى صيد أصيب كأرنب يساوى نصف درهم، فقال: يحكم به
ذوا عدل منكم! فقالوا له: فإن عمرا لما لابن أبي
عليك أن تقول في كتابك: (هذا
ما كتبه عبد الله على أمير المؤمنين) محوت اسمك من الخلافة، وكتبت: (علي بن أبي
طالب،) فقد خلعت نفسك، فقال: لي في رسول الله (ص) عليه أسوة حين
أبى عليه سهيل بن عمرو، أن يكتب هذا كتاب كتبه محمد رسول الله (ص)
وسهيل بن عمرو، وقال له: لو أقررت بأنك رسول الله ما خالفتك، ولكني أقدمك
لفضلك، فاكتب محمد بن عبد الله، فقال لي: يا علي، امح رسول الله، فقلت: يا رسول الله،
لا تشجعني نفسي على محو اسمك من النبوة، قال: فقضى عليه، فمحاه بيده، ثم قال:
(اكتب محمد بن عبد الله،) ثم تبسم إلى وقال: يا علي، أما إنك ستسام مثلها فتعطى،
فرجع معه منهم ألفان من حروراء وقد كانوا تجمعوا بها، فقال لهم على: ما نسميكم؟ ثم
قال: أنتم الحرورية، لاجتماعكم بحروراء (3)
وروى جميع أهل السير كافة أن عليا (ع) لما طحن القوم طلب ذا الثدية طلبا

(1) ابن الكواء، هو عبد الله بن الكواء، من بنى يشكر بن بكر بن وائل
(2) كسكر: كورة بين الكوفة والبصرة.
(3) الكامل 540 (طبعة أوروبا).
275

شديدا وقلب القتلى ظهرا لبطن، فلم يقدر عليه، فساءه ذلك، وجعل يقول: والله
ما كذبت، ولا كذبت، اطلبوا الرجل، وإنه لفي القوم، فلم يزل يتطلبه حتى وجده،
وهو رجل مخدج اليد، كأنها ثدي في صدره.
وروى إبراهيم بن ديزيل في كتاب صفين عن الأعمش، عن زيد بن وهب،
قال: لما شجرهم علي (ع) بالرماح، قال: اطلبوا ذا الثدية، فطلبوه طلبا شديدا،
حتى وجدوه في وهدة من الأرض تحت ناس من القتلى، فأتى به، وإذا رجل على
ثديه مثل سبلات (1) السنور، فكبر علي (ع)، وكبر الناس معه سرورا بذلك.
وروى أيضا عن مسلم الضبي عن حبة العرني، قال: كان رجلا أسود منتن الريح،
له ثدي كثدي المرأة، إذا مدت كانت بطول اليد الأخرى، وإذا تركت اجتمعت
وتقلصت وصارت كثدي المرأة، عليها شعرات مثل شوارب الهرة فلما وجدوه قطعوا
يده، ونصبوها على رمح، ثم جعل علي (ع) ينادى: صدق الله وبلغ رسوله،
لم يزل يقول ذلك هو وأصحابه بعد العصر، إلى أن غربت الشمس أو كادت.
وروى ابن ديزيل أيضا، قال: لما عيل (2) صبر علي (ع) في طلب المخدج،
قال: ائتوني ببغلة رسول الله (ص)، فركبها واتبعه الناس، فرأى القتلى، ويقول:
اقلبوا، فيقلبون قتيلا عن قتيل، حتى استخرجوه، فسجد علي (ع).
وروى كثير من الناس أنه لما دعا بالبغلة ليركبها، قال: ائتوني بها، فإنها هادية
فوقفت به على المخدج، فأخرجه من تحت قتلى كثيرين.
وروى العوام بن حوشب عن أبيه عن جده يزيد بن رويم، قال: قال علي (ع)

(1) السبلة: ما على الشارب من الشعر وجمعه سبلات
(2) عيل صبره: أعوزه الصبر
276

نقتل اليوم أربعة آلاف من الخوارج، أحدهم ذو الثدية، فلما طحن القوم ورام
استخراج ذا الثدية فاتبعه، أمرني أن أقطع له أربعة آلاف قصبة، وركب بغلة رسول الله
(ص)، وقال: اطرح على كل قتيل منهم قصبة، فلم أزل كذلك وأنا بين يديه،
وهو راكب خلفي، والناس يتبعونه حتى بقيت في يدي واحدة، فنظرت إليه وإذا وجهه
أربد، وإذا هو يقول: والله ما كذبت ولا كذبت، فإذا خرير ماء عند موضع دالية،
فقال: فتش هذا ففتشته، فإذا قتيل قد صار في الماء وإذا رجله في يدي، فجذبتها،
وقلت: هذه رجل إنسان، فنزل عن البغلة مسرعا، فجذب الرجل الأخرى، وجررناه،
حتى صار على التراب، فإذا هو المخدج فكبر علي (ع) بأعلى صوته، ثم سجد،
فكبر الناس كلهم.
وقد روى كثير من المحدثين أن النبي (ص) قال لأصحابه يوما: (إن منكم
من يقاتل على تأويل القرآن، كما قاتلت على تنزيله،) فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله؟ فقال: (لا)، فقال عمر: أنا يا رسول الله؟ فقال: (لا، بل خاصف النعل)، وأشار
إلى علي (ع).
وقال أبو العباس في الكامل: يقال: إن أول من لفظ بالحكومة
ولم يشد (1) بها رجل من بنى سعد بن زيد مناة بن تميم بن مر، من بنى صريم، يقال له
الحجاج بن عبد الله، ويعرف بالبرك، وهو الذي ضرب آخرا معاوية على أليته، يقال:
إنه لما سمع بذكر الحكمين، قال: أيحكم أمير المؤمنين الرجال في دين الله! لا حكم
إلا لله! فسمعه سامع، فقال: طعن والله فأنفذ.
قال أبو العباس: وأول من حكم بين الصفين رجل من بنى يشكر بن بكر

(1) لم يشد، من أشاد به، إذا رفع صوته
277

ابن وائل، كان من أصحاب علي (ع)، فحمل على رجل منهم فقتله غيلة، ثم مرق
بين الصفين يحكم، وحمل على أصحاب معاوية، فكثروه، فرجع إلى ناحية علي (ع)،
فخرج إليه رجل من همدان فقتله، فقال شاعر همدان:
وما كان أغنى اليشكري عن التي * تصلى بها جمرا من النار حاميا
غداة ينادى والرماح تنوشه * خلعت عليا بادئا ومعاويا (1)
قال أبو العباس: وقد روى المحد ثون (2) أن رجلا تلا بحضرة علي (ع): قل
هل أنبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم
يحسنون صنع (3)، فقال علي (ع): أهل حروراء منهم
قال أبو العباس: ومن شعر أمير المؤمنين (ع) الذي لا اختلاف فيه، أنه قال:
وكان يردده أنهم لما ساموه أنه يقر بالكفر، ويتوب حتى يسيروا معه إلى الشام، فقال
أبعد صحبة رسول الله (ص) والتفقه في الدين أرجع كافرا! ثم قال:
يا شاهد الله على فاشهد * أنى على دين النبي أحمد.
من شك في الله فإني مهتد (4)
وذكر أبو العباس أيضا في أن عليا عليه السلام في أول خروج
القوم عليه، دعا صعصعة بن صوحان العبدي، وقد كان وجهه إليهم وزياد بن النضر
الحارثي، مع عبد الله بن عباس، فقال لصعصعة: بأي القوم رأيتهم أشد إطافة (5)؟ قال:
بيزيد بن قيس الأرحبي، فركب علي (ع) إلى حروراء، فجعل يتخللهم حتى صار
إلى مضرب يزيد بن قيس، فصلى فيه ركعتين، ثم خرج فاتكا على قوسه، وأقبل

(1) تنوشه: تتناوله
(2) في الكامل: وجاء في الحديث
(3) سورة الكهف 104
(4) كامل 544
(5) إطافة، مصدر أطاف بالشئ، إذا أحاط به
278

على الناس، فقال: هذا مقام من فلج (1 فيه فلج (2) يوم القيامة. ثم كلمهم وناشدهم،
فقالوا: إنا أذنبنا ذنبا عظيما بالتحكيم وقد تبنا، فتب إلى الله كما تبنا، فتب إلى الله كما تبنا نعد لك. فقال
علي (ع): أنا أستغفر الله من كل ذنب، فرجعوا معه وهم ستة آلاف، فلما
استقروا بالكوفة أشاعوا أن عليا (ع) رجع عن التحكيم، ورآه ضلالا، وقالوا
إنما ينتظر أمير المؤمنين أن يسمن الكراع (3) وتجبى الأموال، ثم ينهض بنا إلى الشام
فأتى الأشعث عليا (ع)، فقال: يا أمير المؤمنين، أن الناس قد تحدثوا أنك
رأيت الحكومة ضلالا والإقامة عليها كفرا، فقام على (4) (ع) يخطب، فقال:
من زعم أنى رجعت عن الحكومة فقد كذب، ومن رآها ضلالا فقد ضل، فخرجت
حينئذ الخوارج من المسجد فحكمت (5).
قلت: كل فساد كان في خلافة علي (ع)، وكل اضطراب حدث فأصله
الأشعث، ولولا محاقته (6) أمير المؤمنين (ع) في معنى الحكومة في هذه المرة لم تكن
حرب النهروان، ولكان أمير المؤمنين (ع) ينهض بهم إلى معاوية، ويملك
الشام فإنه (ص) حاول أن يسلك معهم مسلك التعريض والمواربة، وفى المثل
النبوي صلوات الله على قائله: الحرب خدعة وذاك أنهم قالوا له: تب إلى الله

(1 - 1) عبارة الكامل: (من فاج فيه بوم القيامة، أشد كم الله، أعلمتم أحدا منكم كان أكره
للحكومة مني! قالوا: اللهم لا، قال: أفعلمتم أنكم أكرهتموني حتى قبلتها! قالوا: اللهم عم، قال:
فعلام خالفتموني ونابذتموني؟ قالوا: إنا أتينا ذنبا عظيما، فتب إلى الله منه، واستغفره نعد لك، فقال
على)
(2) فلج فيه، من الفلح، وهو الظفر.
(3) الكراع: اسم للخيل
(4) الكامل: (فخطب على الناس)
(5) الكامل 558، 559 (طبع أوروبا).
(6) المحاقة: أن يقول كل واحد من الطرفين: (أنا أحق)، هذا أصلها، وللراد المحاجة والمحاجة
279

مما فعلت، كما تبنا ننهض معك إلى حرب أهل الشام، فقال لهم كلمة مجملة مرسلة قولها
الأنبياء والمعصومون، وهي قوله: أستغفر الله من كل ذنب، فرضوا بها وعدوها
إجابة لهم إلى سؤلهم، وصفت له (ع) نياتهم، واستخلص بها ضمائرهم، من غير أن
تتضمن تلك الكلمة اعترافا بكفر أو ذنب، فلم يتركه الأشعث، وجاء إليه مستفسرا
وكاشفا عن الحال، وهاتكا ستر التورية والكناية، ومخرجا لها من مظلمة الاجمال وستر
الحيلة إلى تفسيرها بما يفسد التدبير، ويوغر الصدور ويعيد الفتنة، ولم يستفسره (ع)
عنها إلا بحضور من لا يمكنه (ع) أن يجعلها معه هدنة على دخن، ولا توقيفا
عن صبوح، وألجأه بتضييق الخناق عليه إلى أن يكشف ما في نفسه، ولا يترك
الكلمة على احتمالها، ولا يطويها على غرها، فخطب بما صدع به عن صورة ما عنده
مجاهرة، فانتقض ما دبره، وعادت الخوارج إلى شبهتها الأولى، وراجعوا التحكيم
والمروق، وهكذا الدول التي تظهر فيها أمارات الانقضاء والزوال، يتاح لها أمثال
الأشعث من أولى الفساد في الأرض، سنه الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة
الله تبديلا
قال أبو العباس: ثم مضى القوم إلى النهروان، وقد كانوا أرادوا المضي إلى المدائن،
فمن طريف أخبارهم أنهم أصابوا في طريقهم مسلما ونصرانيا، فقتلوا المسلم لأنه عندهم
كافر، إذ كان على خلاف معتقدهم، واستوصوا بالنصراني، وقالوا: احفظوا ذمة نبيكم.

سورة الأحزاب 62
280

قال أبو العباس: ونحو ذلك أن واصل بن عطاء رحمه الله تعالى أقبل في رفقة فأحسوا
بالخوارج، فقال واصل لأهل الرفقة: إن هذا ليس من شأنكم، فاعتزلوا ودعوني
وإياهم، وكانوا قد أشرفوا على العطب، فقالوا: شأنك، فخرج إليهم، فقالوا: ما أنت
وأصحابك؟ فقال: قوم مشركون مستجيرون بكم، ليسمعوا كلام الله، ويفهموا حدوده،
قالوا: قد أجرناكم، قال: فعلمونا، فجعلوا يعلمونهم أحكامهم، ويقول واصل: قد قبلت
أنا ومن معي، قالوا: فامضوا مصاحبين فقد صرتم (1) إخواننا، فقال: بل تبلغوننا
مأمننا، لان الله تعالى يقول: وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى
يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه (2)، قال: فينظر (3) بعضهم إلى بعض، ثم قالوا:
ذاك لكم، فساروا معهم بجمعهم حتى أبلغوهم المأمن (4).
قال أبو العباس: ولقيهم عبد الله بن خباب في عنقه مصحف، على حمار، ومعه امرأته
وهي حامل فقالوا له: إن هذا الذي في عنقك ليأمرنا بقتلك، فقال لهم: ما أحياه
القرآن فأحيوه وما أماته فأميتوه، فوثب رجل منهم على رطبة سقطت من نخلة فوضعها
في فيه، فصاحوا به، فلفظها تورعا. وعرض لرجل منهم خنزير فضربه فقتله، فقالوا:
هذا فساد في الأرض، وأنكروا قتل الخنزير، ثم قالوا لابن خباب: حدثنا عن أبيك،
فقال: إني سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله (ص) يقول: ستكون بعدي فتنة

(1) الكامل: (فإنكم إخواننا)
(2) سورة النوبة 6
(3) الكامل: (فنظر بعضهم إلى بعض)
(4) الكامل 528
281

يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه، يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، فكن عبد الله
المقتول، ولا تكن القاتل، قالوا: فما تقول في لابن أبي
بكر وعمر؟ فأثنى خيرا، قالوا: فما تقول
في علي قبل التحكيم، وفى عثمان في السنين الست الأخيرة؟ فأثنى خيرا: قالوا: فما تقول في علي
بعد التحكيم والحكومة؟ قال: إن عليا أعلم بالله وأشد توقيا على دينه، وأنفذ
بصيرة، فقالوا: إنك لست تتبع الهدى، إنما تتبع الرجال على أسمائهم، ثم قربوه إلى
شاطئ النهر، فأضجعوه فذبحوه (1).
قال أبو العباس: وساوموا رجلا نصرانيا بنخلة له، فقال هي لكم، فقالوا: ما كنا
لنأخذها إلا بثمن، فقال: وا عجباه! أتقتلون مثل عبد الله بن خباب، ولا تقبلون جنا نخلة
إلا بثمن (1).
وروى أبو عبيدة معمر بن المثنى، قال طعن واحد من الخوارج يوم النهروان، فمشى
في الرمح، وهو شاهر سيفه، إلى أن وصل إلى طاعنه فضربه فقتله، وهو يقرأ: وعجلت
إليك رب لترضى.
وروى أبو عبيدة أيضا قال: استنطقهم علي (ع) بقتل عبد الله بن خباب،
فأقروا به، فقال: انفردوا كتائب لأسمع قولكم كتيبة كتيبه، فتكتبوا كتائب وأقرت
كل كتيبة بمثل ما أقرت به الأخرى، من قتل ابن خباب، وقالوا: ولنقتلنك كما قتلناه،
فقال على: والله لو أقر أهل الدنيا كلهم بقتله هكذا وأنا أقدر على قتلهم به لقتلتهم، ثم
التفت إلى أصحابه فقال لهم: شدوا عليهم، فأنا أول من يشد عليهم. وحمل بذي الفقار

(1) الكامل 560
(2) سورة طه 84
282

حملة منكرة ثلاث مرات، كل حملة يضرب به حتى يعوج متنه ثم يخرج فيسويه
بركبتيه، ثم يحمل به حتى أفناهم.
وروى محمد بن حبيب، قال: خطب علي (ع) الخوارج يوم النهر، فقال لهم:
نحن أهل بيت النبوة، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة، وعنصر الرحمة، ومعدن
العلم والحكمة، نحن أفق الحجاز، بنا يلحق البطئ، وإلينا يرجع التائب، أيها القوم، إني
نذير لكم أن تصبحوا صرعى بأهضام هذا الوادي إلى آخر الفصل
283

37 ومن كلام له (ع) يجرى مجرى الخطبة
فقمت بالامر حين فشلوا، وتطلعت حين تقبعوا، ونطقت حين تعتعوا،
ومضيت بنور الله حين وقفوا. وكنت أخفضهم صوتا، وأعلاهم فوتا فطرت
بعنانها، واستبددت برهانها.
كالجبل لا تحركه القواصف، ولا تزيله العواصف. لم يكن لأحد في
مهمز، ولا لقائل في مغمز. الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له، والقوى
عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه.
رضينا عن الله قضاءه، وسلمناه لله أمره. أتراني أكذب على رسول الله (ص)!
والله لأنا أول من صدقه، فلا أكون أول من كذب عليه.
فنظرت في أمري، فإذا طاعتي قد سبقت بيعتي، وإذا الميثاق في عنقي
لغيري
هذه فصول أربعة، لا يمتزج بعضها ببعض، وكل كلام منها ينحو به أمير المؤمنين
(ع) نحوا غير ما ينحوه بالآخر، وإنما الرضى رحمه الله تعالى التقطها من كلام لأمير المؤمنين (ع)
طويل منتشر، قاله بعد وقعة النهروان، ذكر فيه حاله منذ توفى رسول الله (ص)
284

وإلى آخر وقت، فجعل الرضى رحمه الله تعالى ما التقطه منه سردا، وصار عند
السامع كأنه يقصد به مقصدا واحدا.
فالفصل الأول وهو من أول الكلام إلى قوله: واستبددت برهانها، يذكر فيه
مقاماته في الامر بالمعروف والنهى عن المنكر أيام أحداث عثمان، وكون المهاجرين
كلهم لم ينكروا ولم يواجهوا عثمان بما كان يواجهه به وينهاه عنه، فهذا هو معنى قوله:
فقمت بالامر حين فشلوا، أي قمت بإنكار المنكر حين فشل أصحاب محمد (ص)
عنه. والفشل: الخور والجبن.
قال: ونطقت حين تعتعوا، يقال: تعتع فلان، إذا تردد في كلامه من عي أو حصر.
قوله: وتطلعت حين تقبعوا، امرأة طلعة قبعة، تطلع ثم تقبع رأسها، أي تدخله كما يقبع
القنفذ، يدخل برأسه في جلده، وقد تقبع الرجل، أي اختبأ وضده تطلع.
قوله وكنت أخفضهم صوتا، وأعلاهم فوتا يقول: علوتهم وفتهم وشأوتهم سبقا،
وأنا مع ذلك خافض الصوت، يشير إلى التواضع ونفى التكبر.
قوله: فطرت بعنانها، واستبددت برهانها، يقول: سبقتهم. وهذا الكلام
استعارة من مسابقة خيل الحلبة. واستبددت بالرهان، أي انفردت بالخطر (1) الذي وقع
التراهن عليه.
الفصل الثاني فيه ذكر حاله (ع) في الخلافة بعد عثمان، يقول: كنت لما
وليت الامر كالجبل لا تحركه القواصف، يعنى الرياح الشديدة، ومثله العواصف.
والمهمز: موضع الهمز، وهو العيب، وكذاك المغمز.

(1) الخطر: السبق الذي يترامى عليه في الرهان.
285

ثم قال: الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له، والقوى عندي ضعيف حتى آخذ
الحق منه، هذا آخر الفصل الثاني، يقول: الذليل المظلوم أقوم بإعزازه ونصره
وأقوى يده إلى أن آخذ الحق له، ثم يعود بعد ذلك إلى الحالة التي كان عليها قبل أن أقوم
بإعزازه ونصره، والقوى الظالم أستضعفه وأقهره وأذله إلى أن آخذ الحق منه، ثم يعود إلى
الحالة التي كان عليها قبل أن أهتضمه، لاستيفاء الحق.
الفصل الثالث من قوله: رضينا عن الله قضاءه، إلى قوله: فلا أكون أول
من كذب عليه، هذا كلام قاله (ع) لما تفرس في قوم من عسكره أنهم
يتهمونه فيما يخبرهم به عن النبي (ص) من أخبار الملاحم والغائبات، وقد كان
شك منهم جماعة في أقواله، ومنهم من واجهه بالشك والتهمة
الأخبار الواردة عن معرفة الامام على بالأمور الغيبية
روى ابن هلال الثقفي في كتاب الغارات عن زكريا بن يحيى العطار، عن فضيل،
عن محمد بن علي، قال: لما قال علي (ع): سلوني قبل أن تفقدوني، فوالله لا تسألونني عن
فئة تضل مائة، وتهدى مائة إلا أنبأتكم بناعقتها وسائقتها، قام إليه رجل فقال: أخبرني بما في
رأسي ولحيتي من طاقه شعر، فقال له علي (ع): والله لقد حدثني خليلي أن على كل
طاقة شعر من رأسك ملكا يلعنك، وإن على كل طاقة شعر من لحيتك شيطانا
يغويك، وإن في بيتك سخلا يقتل ابن رسول الله (ص) وكان ابنه قاتل
الحسين (ع) يومئذ طفلا يحبو، وهو سنان بن أنس النخعي.
وروى الحسن بن محبوب عن ثابت الثمالي، عن سويد بن غفلة أن عليا (ع)،
خطب ذات يوم، فقام رجل من تحت منبره، فقال: يا أمير المؤمنين، إني مررت بوادي
286

القرى، فوجدت خالد بن عرفطة قد مات، فاستغفر له، فقال (ع): والله ما مات
ولا يموت حتى يقود جيش ضلالة، صاحب لوائه حبيب بن حمار. فقام رجل آخر من
تحت المنبر، فقال: يا أمير المؤمنين، أنا حبيب بن حمار، وإني لك شيعة ومحب، فقال:
أنت حبيب بن حمار؟ قال: نعم، فقال له ثانية: والله إنك لحبيب بن حمار؟ فقال: أي
والله! قال: أما والله إنك لحاملها ولتحملنها، ولتدخلن بها من هذا الباب. وأشار بها إلى
باب الفيل بمسجد الكوفة
قال ثابت: فوالله ما مت حتى رأيت ابن زياد، وقد بعث عمر بن سعد إلى الحسين
بن علي (ع)، وجعل خالد بن عرفطة على مقدمته وحبيب بن حمار صاحب رايته،
فدخل بها من باب الفيل.
وروى محمد بن إسماعيل بن عمرو البجلي، قال: أخبرنا عمرو بن موسى الوجيهي،
عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث، قال: قال علي (ع) على المنبر:
ما أحد جرت عليه المواسي إلا وقد أنزل الله فيه قرآنا. فقام إليه رجل من مبغضيه فقال
له: فما أنزل الله تعالى فيك؟ فقام الناس إليه يضربونه، فقال: دعوه، أتقرأ سورة هود؟
قال: نعم، قال: فقرأ (ع): أفقام الناس إليه يضربونه، فقال: دعوه، أتقرأ سورة هود؟
قال: نعم، قال: فقرأ (ع): أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه (1)
ثم قال: الذي كان على بينة من ربه محمد (ص)، والشاهد الذي يتلوه أنا.
وروى عثمان بن سعيد، عن عبد الله بن بكير، عن حكيم بن جبير، قال: خطب
علي (ع) فقال في أثناء خطبته: أنا عبد الله، وأخو رسوله، لا يقولها أحد قبلي
ولا بعدي إلا كذب، ورثت نبي الرحمة، ونكحت سيدة نساء هذه الأمة، وأنا
خاتم الوصيين

(1) سورة هود 17
287

فقال رجل من عبس: ومن لا يحسن أن يقول مثل هذا! فلم يرجع إلى أهله حتى
جن وصرع، فسألوهم: هل رأيتم به عرضا قبل هذا؟ قالوا: ما رأينا به قبل هذا عرضا.
وروى محمد بن جبلة الخياط، عن عكرمة، عن يزيد الأحمسي أن عليا (ع)
كان جالسا في مسجد الكوفة، وبين يديه قوم منهم عمرو بن حريس، إذ أقبلت امرأة
مختمرة لا تعرف فوقفت، فقالت لعلى (ع): يا من قتل الرجال، وسفك الدماء
وأيتم الصبيان، وأرمل النساء! فقال (ع). وإنها لهي هذه السلقلقة الجلعة المجعة
وإنها لهي هذه، شبيهة الرجال والنساء، التي ما رأت دما قط، قال: فولت هاربة منكسة
رأسها، فتبعها عمرو بن حريث، فلما صارت بالرحبة، قال لها: والله لقد سررت بما كان
منك اليوم إلى هذا الرجل، فادخلي منزلي حتى أهب لك وأكسوك، فلما دخلت منزله
أمر جواريه بتفتيشها وكشفها ونزع ثيابها لينظر صدقه فيما قاله عنها، فبكت وسألته ألا
يكشفها، وقالت: أنا والله كما قال، لي ركب النساء، وأنثيان كأنثى الرجال، وما رأيت
دما قط. فتركها وأخرجها. ثم جاء إلى علي (ع) فأخبره، فقال: إن خليلي رسول
الله (ص) أخبرني بالمتمردين على من الرجال والمتمردات من النساء إلى أن
تقوم الساعة.
قلت السلقلقة: السليطة، وأصله من السلق وهو الذئب، والسلقة: الذئبة. والجلعة
المجعة: البذيئة اللسان والركب: منبت العانة.
وروى عثمان بن سعيد، عن شريك بن عبد الله، قال: لما بلغ عليا أن
الناس يتهمونه فيما يذكره من تقديم النبي (ص) وتفضيله على الناس، قال:
أنشد الله من بقي ممن لقى رسول الله (ص) وسمع مقاله في يوم غدير خم (1) إلا قام

(1) خم: واد بين مكة والمدينة عند الجحفة، به غدير عرف به
288

فشهد بما سمع، فقام ستة ممن عن يمينه، من أصحاب رسول الله (ص)، وستة
ممن على شماله من الصحابة أيضا فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله (ص) يقول
ذلك اليوم، وهو رافع بيدي علي (ع): من كنت مولاه فهذا على مولاه،
اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر، من نصره، واخذل من خذله، وأحب من
أحبه، وابغض من أبغضه (1).
وروى عثمان بن سعيد عن يحيى التيمي، عن الأعمش، عن إسماعيل بن رجاء، قال:
قام أعشى باهلة (2) وهو غلام يومئذ حدث إلى علي (ع)، وهو يخطب ويذكر
الملاحم، فقال: يا أمير المؤمنين، ما أشبه هذا الحديث بحديث خرافة! فقال علي (ع):
إن كنت آثما فيما قلت يا غلام، فرماك الله بغلام ثقيف، ثم سكت، فقام
رجال فقالوا: ومن غلام ثقيف يا أمير المؤمنين؟ قال: غلام يملك بلدتكم هذه لا يترك لله
حرمة إلا انتهكها، يضرب عنق هذا الغلام بسيفه، فقالوا: كم يملك يا أمير المؤمنين؟
قال: عشرين إن بلغها، قالوا: فيقتل قتلا أم يموت موتا؟ قال: بل يموت حتف
أنفه بداء البطن، يثقب سريره لكثرة ما يخرج من جوفه.
قال إسماعيل بن رجاء: فوالله لقد رأيت بعيني أعشى باهلة، وقد أحضر في جملة
الأسرى الذين أسروا من جيش عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بين يدي الحجاج،
فقرعه ووبخه، واستنشده شعره الذي يحرض فيه عبد الرحمن على الحرب، ثم ضرب عنقه
في ذلك المجلس.
وروى محمد بن علي الصواف، عن الحسين بن سفيان، عن أبيه، عن شمير بن سدير
الأزدي قال: قال علي (ع) لعمرو بن الحمق الخزاعي: أين نزلت يا عمرو؟ قال:

(1) نقله الحب الطبري في الرياض النضرة (2: 169)،. تحدث عن طرقه هناك.
(2) أعشى باهلة (اسمه عامر بن الحارث، صاحب، المرثية المشهورة في أخيه لامه المنتشر.
289

في قومي، قال: لا تنزلن فيهم، قال: فأنزل في بنى كنانة جيراننا؟ قال: لا قال: فأنزل
في ثقيف؟ قال: فما تصنع بالمعرة والمجرة؟ قال وما هما قال عنقان نار، يخرجان
من ظهر الكوفة، يأتي أحدهما على تميم وبكر بن وائل، فقلما يفلت منه أحد، ويأتي
العنق الاخر، فيأخذ على الجانب الآخر من الكوفة، فقل من يصيب منهم، إنما يدخل
الدار فيحرق البيت والبيتين. قال: فأين أنزل؟ قال: أنزل في بنى عمرو بن عامر، من
الأزد، قال: فقال قوم حضروا هذا الكلام: ما نراه إلا كاهنا يتحدث بحديث
الكهنة، فقال: يا عمرو، إنك المقتول بعدي، وإن رأسك لمنقول، وهو أول رأس
ينقل في الاسلام والويل لقاتلك! أما إنك لا تنزل بقوم إلا أسلموك برمتك، إلا هذا
الحي من بنى عمرو بن عامر من الأزد، فإنهم لن يسلموك ولن يخذلوك، قال: فوالله
ما مضت الأيام حتى تنقل عمرو بن الحمق في خلافة معاوية في بعض أحياء العرب، خائفا
مذعورا، حتى نزل في قومه من بنى خزاعة، فأسلموه، فقتل وحمل رأسه من العراق إلى
معاوية بالشام، وهو أول رأس حمل في الاسلام من بلد إلى بلد.
وروى إبراهيم بن ميمون الأزدي عن حبة العرني، قال: كان جويرية بن
مسهر العبدي صالحا، وكان لعلي بن أبي طالب صديقا، وكان على يحبه، ونظر يوما إليه
وهو يسير، فناداه يا جويرية، الحق بي، فإني إذا رأيتك هويتك قال إسماعيل بن أبان
فحدثني الصباح، عن مسلم عن حبة العرني، قال: سرنا مع علي (ع) يوما فالتفت
فإذا جويرية خلفه بعيدا، فناداه: يا جويرية، الحق بي لا أبالك! ألا تعلم أنى أهواك
وأحبك! قال: فركض نحوه، فقال له: إني محدثك بأمور فاحفظها، ثم اشتركا في الحديث
سرا، فقال له جويرية: يا أمير المؤمنين، إني رجل نسي (1)، فقال له: إني أعيد عليك

(1) النسي: الكثير النسيان
290

الحديث لتحفظه، ثم قال له في آخر ما حدثه إياه: يا جويرية، أحبب حبيبنا ما أحبنا،
فإذا أبغضنا فابغضه، وابغض بغيضنا ما أبغضنا، فإذا أحبنا فأحبه.
قال: فكان ناس ممن يشك في أمر علي (ع) يقولون: أتراه جعل جويرية
وصيه كما يدعى هو من وصية رسول الله (ص)؟ قال: يقولون ذلك لشدة اختصاصه
له، حتى دخل على علي (ع) يوما، وهو مضطجع، وعنده قوم من أصحابه، فناداه
جويرية: أيها النائم، استيقظ، فلتضربن على رأسك ضربة تخضب منها لحيتك، قال:
فتبسم أمير المؤمنين (ع)، قال: وأحدثك يا جويرية بأمرك، أما والذي نفسي
بيده لتعتلن (1) إلى العتل الزنيم، فليقطعن يدك ورجلك وليصلبنك تحت جذع كافر،
قال: فوالله ما مضت الأيام على ذلك حتى أخذ زياد جويرية، فقطع يده ورجله وصلبه
إلى جانب جذع ابن مكعبر، وكان جذعا طويلا، فصلبه على جذع قصير إلى جانبه
وروى إبراهيم في كتاب الغارات عن أحمد بن الحسن الميثمي، قال: كان
ميثم التمار مولى علي بن أبي طالب (ع) عبدا لامرأة من بنى أسد فاشتراه علي (ع)
منها وأعتقه، وقال له: ما اسمك؟ فقال: سالم، فقال: إن رسول الله
(ص) أخبرني أن اسمك الذي سماك به أبوك في العجم ميثم، فقال: صدق الله
ورسوله، وصدقت يا أمير المؤمنين، فهو والله أسمى. قال: فارجع إلى اسمك، ودع سالما،
فنحن نكنيك به، فكناه أبا سالم. قال: وقد كان قد أطلعه علي (ع) على علم
كثير، وأسرار خفية من أسرار الوصية، فكان ميثم يحدث ببعض ذلك، فيشك فيه
قوم من أهل الكوفة وينسبون عليا (ع) في ذلك إلى المخرقة (2) والايهام والتدليس،
حتى قال له يوما بمحضر من خلق كثير من أصحابه، وفيهم الشاك والمخلص: يا ميثم،

(1) يقال: عتله عتلا، إذا أخذه بمجامعه وحره جرا عنيفا.
(2) المخرفة اختلاق الكذب،
291

إنك تؤخذ بعدي وتصلب، فإذا كان اليوم الثاني ابتدر منخراك وفمك دما، حتى
تخضب لحيتك، فإذا كان اليوم الثالث طعنت بحربة يقضى عليك، فانتظر ذلك.
والموضع الذي تصلب فيه على باب دار عمرو بن حريث، إنك لعاشر عشره أنت أقصرهم
خشبه، وأقربهم من المطهرة يعنى الأرض ولأرينك النخلة التي تصلب على جذعها،
ثم أراه إياها بعد ذلك بيومين، وكان ميثم يأتيها، فيصلى عندها، ويقول: بوركت من
نخله، لك خلقت، ولى نبت، فلم يزل يتعاهدها بعد قتل علي (ع)، حتى قطعت،
فكان يرصد جذعها، ويتعاهده ويتردد إليه، ويبصره، وكان يلقى عمرو بن حريث،
فيقول له: إني مجاورك فأحسن جواري، فلا يعلم عمرو ما يريد، فيقول له: أتريد أن
تشترى دار ابن مسعود، أم دار ابن حكيم؟.
قال: وحج في السنة التي قتل فيها، فدخل على أم سلمة رضي الله عنها، فقالت له:
من أنت؟ قال: عراقي، فاستنسبته، فذكر لها أنه مولى علي بن أبي طالب، فقالت:
أنت هيثم، قال: بل أنا ميثم، فقالت: سبحان الله! والله لربما سمعت رسول الله
(ص) يوصى بك عليا في جوف الليل، فسألها عن الحسين بن علي، فقالت: هو في
حائط (1) له، قال: أخبريه أنى قد أحببت السلام عليه، ونحن ملتقون عند رب العالمين،
إن شاء الله، ولا أقدر اليوم على لقائه، وأريد الرجوع، فدعت بطيب فطيبت
لحيته، فقال لها: أما إنها ستخضب بدم، فقالت: من أنباك هذا؟ قال: أنبأني سيدي،
فبكت أم سلمة، وقالت له: إنه ليس بسيدك وحدك، هو سيدي وسيد المسلمين،
ثم ودعته.

(1) الحائط: البستان.
292

فقدم الكوفة، فأخذ وأدخل على عبيد الله بن زياد. وقيل له: هذا كان من آثر
الناس عند أبي تراب، قال: ويحكم هذا الأعجمي! قالوا: نعم، فقال له عبيد الله:
أين ربك؟ قال: بالمرصاد، قال: قد بلغني اختصاص لابن أبي
تراب لك، قال: قد كان
بعض ذلك، فما تريد؟ قال: وإنه ليقال إنه قد أخبرك بما سيلقاك، قال نعم، إنه
أخبرني، (1 قال: ما الذي أخبرك أنى صانع بك 1)؟ قال: أخبرني أنك تصلبني عاشر عشرة
وأنا أقصرهم خشبة، وأقربهم من المطهرة، قال: لأخالفنه، قال: ويحك! كيف تخالفه،
إنما أخبر عن رسول الله (ص)، وأخبر رسول الله عن جبرائيل، وأخبر جبرائيل
عن الله، فكيف تخالف هؤلاء! أما والله لقد عرفت الموضع الذي أصلب فيه أين هو
من الكوفة؟ وإني لأول خلق الله ألجم في الاسلام بلجام، كما يلجم الخيل. فحبسه
وحبس معه المختار بن أبي عبيدة الثقفي، فقال ميثم للمختار وهما في حبس ابن زياد: إنك
تفلت وتخرج ثائرا بدم الحسين (ع) فتقتل هذا الجبار الذي نحن في سجنه (2)،
وتطأ بقدمك هذا على جبهته وخديه. فلما دعا عبيد الله بن زياد بالمختار ليقتله طلع البريد
بكتاب يزيد بن معاوية إلى عبيد الله بن زياد، يأمره بتخلية سبيله، وذاك أن أخته كانت
تحت عبد الله بن عمر بن الخطاب، فسألت بعلها أن يشفع فيه إلى يزيد فشفع فأمضى
شفاعته، وكتب بتخلية سبيل المختار على البريد، فوافى البريد، وقد أخرج ليضرب عنقه،
فأطلق. وأما ميثم فأخرج بعده ليصلب. وقال عبيد الله: لأمضين حكم لابن أبي
تراب فيه،
فلقيه رجل، فقال له: ما كان أغناك عن هذا يا ميثم؟ فتبسم، وقال: لها خلقت،
ولى غذيت، فلما رفع على الخشبة اجتمع الناس حوله على باب عمرو بن حريث، فقال
عمرو: لقد كان يقول لي: إني مجاورك، فكان يأمر جاريته كل عشية أن تكنس تحت
خشبته وترشه، وتجمر بالمجمر تحته، فجعل ميثم يحدث بفضائل بني هاشم، ومخازي

(1 - 1) ساقط من ا
(2) كذا في ا، ج، وفى ب: (حبسه).
293

بنى أمية، وهو مصلوب على الخشبة، فقيل لابن زياد: قد فضحكم هذا العبد، فقال:
ألجموه، فألجم فكان أول خلق الله ألجم في الاسلام، فلما كان في اليوم الثاني فاضت
منخراه وفمه دما، فلما كان في اليوم الثالث طعن بحربة فمات.
وكان قتل ميثم قبل قدوم الحسين (ع) العراق بعشرة أيام.
قال إبراهيم: وحدثني إبراهيم بن العباس النهدي، حدثني مبارك البجلي، عن أبي
بكر بن عياش، قال: حدثني المجالد، عن الشعبي، عن زياد بن النضر الحارثي، قال:
كنت عند زياد، وقد أتى برشيد الهجري، وكان من خواص أصحاب علي (ع)،
فقال له زياد: ما قال خليلك لك إنا فاعلون بك؟ قال: تقطعون يدي ورجلي، وتصلبونني،
فقال زياد: أما والله لأكذبن حديثه. خلوا سبيله، فلما أراد أن يخرج قال: ردوه لا نجد
شيئا أصلح مما قال لك صاحبك، إنك لا تزال تبغى لنا سوءا إن بقيت، اقطعوا يديه
ورجليه. فقطعوا يديه ورجليه، وهو يتكلم، فقال اصلبوه خنقا في عنقه، فقال رشيد:
قد بقي لي عندكم شئ ما أراكم فعلتموه، فقال زياد: اقطعوا لسانه، فلما أخرجوا لسانه
ليقطع قال: نفسوا عنى أتكلم كلمة واحدة فنفسوا عنه، فقال: هذا والله تصديق خبر
أمير المؤمنين، أخبرني بقطع لساني. فقطعوا لسانه وصلبوه.
وروى أبو داود الطيالسي، عن سليمان بن رزيق، عن عبد العزيز بن صهيب قال:
حدثني أبو العالية قال: حدثني مزرع صاحب علي بن أبي طالب (ع) أنه قال:
ليقبلن جيش حتى إذا كانوا بالبيداء، خسف بهم. قال أبو العالية: فقلت له: إنك
لتحدثني بالغيب! فقال: احفظ ما أقوله لك، فإنما حدثني به الثقة علي بن أبي طالب
وحدثني أيضا شيئا آخر ليؤخذن رجل فليقتلن وليصلبن بين شرفتين من شرف المسجد،
فقلت له: إنك لتحدثني بالغيب! فقال: احفظ ما أقول لك: قال أبو العالية: فوالله ما أتت
294

علينا جمعة، حتى أخذ مزرع، فقتل وصلب بين شرفتين من شرف المسجد.
قلت: حديث الخسف بالجيش قد خرجه البخاري ومسلم في الصحيحين، عن أم
سلمة رضي الله عنها، قالت: سمعت رسول الله (ص) يقول: يعوذ قوم بالبيت
حتى إذا كانوا بالبيداء (2) خسف بهم، فقلت: يا رسول الله، لعل فيهم المكره أو
الكاره، فقال: يخسف بهم، ولكن يحشرون أو قال: يبعثون على نياتهم (3)
يوم القيامة.
قال: فسئل أبو جعفر محمد بن علي: أهي بيداء من الأرض؟ فقال: كلا والله إنها
بيداء المدينة. أخرج البخاري بعضه وأخرج مسلم (1) الباقي.
وروى محمد بن موسى العنزي، قال: كان مالك بن ضمرة الرؤاسي من أصحاب علي (ع)
وممن استبطن من جهته علما كثيرا، وكان أيضا قد صحب أبا ذر، فأخذ من
علمه، وكان يقول في أيام بنى أمية: اللهم لا تجعلني أشقى الثلاثة، فيقال له: وما الثلاثة؟!
فيقول: رجل يرمى من فوق طمار (4)، ورجل تقطع يداه ورجلاه ولسانه ويصلب،
ورجل يموت على فراشه. فكان من الناس من يهزأ به، ويقول: هذا من أكاذيب
أبى تراب.
قال: وكان الذي رمى به من طمار هانئ بن عروة، والذي قطع وصلب رشيد
الهجري، ومات مالك على فراشه.
الفصل الرابع وهو من قوله: فنظرت في أمري إلى آخر الكلام، هذه كلمات

(1) صحيح مسلم 4: 2209
(2) البيداء: كل أرض ملساء لا شئ فيها.
(3) لفظ مسلم: (ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته)
(4) طمار، كقطام: المكان المرتفع.
295

مقطوعة من كلام يذكر فيه حاله بعد وفاة رسول الله (ص)، وأنه كان معهودا
إليه ألا ينازع في الامر ولا يثير فتنة، بل يطلبه بالرفق، فإن حصل له وإلا أمسك.
هكذا كان يقول (ع)، وقوله الحق، وتأويل هذه الكلمات: فنظرت فإذا
طاعتي لرسول الله (ص)، أي وجوب طاعتي، فحذف المضاف، وأقام المضاف
إليه مقامه.
قد سبقت بيعتي للقوم، أي وجوب طاعة رسول الله (ص) على، ووجوب
امتثالي أمره سابق على بيعتي للقوم، فلا سبيل لي إلى الامتناع من البيعة لأنه (ص)
أمرني بها.
وإذا الميثاق في عنقي لغيري، أي رسول الله (ص) أخذ على الميثاق بترك
الشقاق والمنازعة، فلم يحل لي أن أتعدى أمره، أو أخالف نهيه.
فإن قيل: فهذا تصريح بمذهب الإمامية
قيل: ليس الامر كذلك، بل هذا تصريح بمذهب أصحابنا من البغداديين، لأنهم
يزعمون أنه الأفضل والأحق بالإمامة، وأنه لولا ما يعلمه الله ورسوله من أن الأصلح
للمكلفين من تقديم المفضول عليه، لكان من تقدم عليه هالكا، فرسول الله (ص)
أخبره أن الإمامة حقه، وأنه أولى بها من الناس أجمعين، وأعلمه أن في تقديم
غيره وصبره على التأخر عنها مصلحة للدين راجعة إلى المكلفين، وأنه يجب عليه أن يمسك
عن طلبها، ويغضي عنها لمن هو دون مرتبته، فامتثل ما أمره به رسول الله (ص)،
ولم يخرجه تقدم من تقدم عليه من كونه الأفضل والأولى والأحق. وقد صرح
شيخنا أبو القاسم البلخي رحمه الله تعالى بهذا وصرح به تلامذته، وقالوا: لو نازع عقيب
وفاة رسول الله (ص)، وسل سيفه لحكمنا بهلاك كل من خالفه وتقدم عليه
296

كما حكمنا بهلاك من نازعه حين أظهر نفسه، ولكنه مالك الامر، وصاحب الخلافة، إذا
طلبها وجب علينا القول بتفسيق من ينازعه فيها، وإذا أمسك عنها وجب علينا القول بعدالة
من أغضى له عليها، وحكمه في ذلك حكم رسول الله (ص)، لأنه قد ثبت عنه في
الأخبار الصحيحة أنه قال: (على مع الحق، والحق مع علي، يدور حيثما دار،) وقال
له غير مرة: (حربك حربي وسلمك سلمى).
وهذا المذهب هو أعدل المذاهب عندي، وبه أقول
297

(38)
ومن خطبه له (ع)
وإنما سميت الشبهة شبهة لأنها تشبه الحق، فأما أولياء الله فضياؤهم فيها
اليقين، ودليلهم سمت الهدى. وأما أعداء الله فدعاؤهم فيها (1) الضلال، ودليلهم
العمى، فما ينجو من الموت من خافه، ولا يعطى البقاء من أحبه.
هذان فصلان، أحدهما غير ملتئم مع الاخر، بل مبتور عنه، وإنما الرضى رحمه الله
تعالى كان يلتقط الكلام التقاطا، ومراده أن يأتي بفصيح كلامه (ع)، وما يجرى
مجرى الخطابة والكتابة، فلهذا يقع في الفصل الواحد الكلام الذي لا يناسب بعضه
بعضا، وقد قال الرضى ذلك في خطبة الكتاب (2).
أما الفصل الأول فهو الكلام في الشبهة، ولما ذا سميت شبهة، قال (ع)
لأنها تشبه الحق، وهذا هو محض ما يقوله المتكلمون، ولهذا يسمون ما يحتج به
أهل الحق دليلا، ويسمون ما يحتج به أهل الباطل شبهة.
قال: فأما أولياء الله فضياؤهم في حل الشبهة اليقين، ودليلهم سمت الهدى، وهذا
حق لان من اعتبر مقدمات الشبهة وراعى الأمور اليقينية، وطلب المقدمات المعلومة
قطعا، انحلت الشبهة، وظهر له فسادها من أين هو؟ ثم قال: وأما أعداء الله فدعاؤهم

(1) ساقطة من مخطوطة النهج.
(2) الجزء الأول ص 53
298

الضلال، ودليلهم العمى، وهذا حق، لان المبطل ينظر في الشبهة، لأنظر من راعى الأمور
اليقينية، ويحلل المقدمات إلى القضايا المعلومة، بل يغلب عليه حب المذهب، وعصبية
أسلافه، وإيثار نصره من قد ألزم بنصرته، فذاك هو العمى والضلال، اللذان أشار أمير
المؤمنين إليهما فلا تنحل الشبهة له، وتزداد عقيدته فسادا، وقد ذكرنا في كتبنا الكلامية
الكلام في توليد النظر للعلم، وأنه لا يولد الجهل.
الفصل الثاني، قوله، لا ينجو من الموت من خافه، ولا يعطى البقاء من أحبه،
هذا كلام أجنبي عما تقدم، وهو مأخوذ من قوله تعالى: قل لو كنتم في بيوتكم
لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم، (1)، وقوله أينما تكونوا
يدرككم الموت (2)، وقوله: فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة
ولا يستقدمون (3).

(1) سورة آل عمران 154
(2) سورة النساء 78.
(3) سورة الأعراف 34.
299

(39)
ومن خطبه له (ع)
منيت بمن لا يطيع إذا أمرت، ولا يجيب إذا دعوت، لا أبا لكم!
ما تنتظرون بنصركم ربكم! أما دين يجمعكم، ولا حمية تحمشكم! أقوم فيكم
مستصرخا، وأناديكم متغوثا، فلا تسمعون لي قولا، ولا تطيعون لي أمرا، حتى
تكشف الأمور عن عواقب المساءة، فما يدرك بكم ثار، ولا يبلغ بكم مرام.
دعوتكم إلى نصر إخوانكم فجر جرتم جرجرة الجمل الأسر، وتثاقلتم
تثاقل النضو الأدبر، ثم خرج إلى منكم جنيد متذائب ضعيف، كأنما يساقون
إلى الموت وهم ينظرون.
قال الرضى رحمه الله
قوله (ع): متذائب أي مضطرب، من قولهم: تذاءبت الريح، أي
أضطرب هبوبها، ومنه سمى الذئب ذئبا لاضطراب مشيته.
منيت، أي بليت. وتحمشكم تغضبكم، أحمشه أي أغضبه. والمستصرخ:
المستنصر. والمتغوث: القائل وا غوثاه!
300

والجرجرة: صوت يردده البعير في حنجرته، وأكثر ما يكون ذلك عند الإعياء
والتعب. والجمل الأسر: الذي بكركرته دبرة (1). والنضو: البعير المهزول. والأدبر:
الذي به دبر، وهو المعقور من القتب وغيره.
هذا الكلام خطب به أمير المؤمنين (ع) في غارة النعمان بن بشير الأنصاري
على عين التمر (2).
أمر النعمان بن بشير مع علي ومالك بن كعب الأرحبي
ذكر صاحب الغارات أن النعمان بن بشير، قدم هو وأبو هريرة على علي (ع)
من عند معاوية، بعد أبي مسلم الخولاني، يسألانه أن يدفع قتلة عثمان إلى معاوية ليقيدهم
بعثمان، لعل الحرب أن تطفأ، ويصطلح الناس، وإنما أراد معاوية أن يرجع مثل
النعمان وأبي هريرة من عند علي (ع) إلى الناس، وهم لمعاوية عاذرون، ولعلي
لائمون وقد علم معاوية أن عليا لا يدفع قتلة عثمان إليه فأراد أن يكون هذان
يشهدان له عند أهل الشام بذلك، وأن يظهر عذره، فقال لهما، ائتيا عليا فأنشداه الله
وسلاه بالله لما دفع إلينا قتلة عثمان، فإنه قد آواهم ومنعهم، ثم لا حرب بيننا وبينه،
فإن لابن أبي
فكونوا شهداء الله عليه.
وأقبلا على الناس فأعلماهم ذلك، فأتيا إلى علي (ع)، فدخلا عليه، فقال له
أبو هريرة: يا أبا حسن، أن الله قد جعل لك في الاسلام فضلا وشرفا، أنت ابن عم محمد
رسول الله (ص)، وقد بعثنا إليك ابن عمك معاوية، يسألك أمرا تسكن به هذه

(1) الكركرة، بالكسر: زور البعير. والدبرة: قرحة الدابة.
(2) عين التمر: بلدة في طرف البادية، على غربي الفرات.
301

الحرب، ويصلح الله تعالى ذات البين، أن تدفع إليه قتلة عثمان ابن عمه، فيقتلهم به،
ويجمع الله تعالى أمرك وأمره، ويصلح بينكم، وتسلم هذه الأمة من الفتنة والفرقة. ثم تكلم
النعمان بنحو من ذلك (1).
فقال لهما: دعا الكلام في هذا، حدثني عنك يا نعمان: أنت أهدى قومك سبيلا؟
يعنى الأنصار، قال: لا، قال: فكل قومك قد اتبعني إلا شذاذا، منهم ثلاثة
أو أربعة، أفتكون أنت من الشذاذ! فقال النعمان: أصلحك الله، إنما جئت لأكون
معك وألزمك، وقد كان معاوية سألني أن أؤدي هذا الكلام، ورجوت أن يكون لي
موقف أجتمع فيه معك، وطمعت أن يجرى الله تعالى بينكما صلحا، فإذا كان غير
ذلك رأيك فأنا ملازمك وكائن معك.
فأما أبو هريرة فلحق بالشام، وأقام النعمان عند علي (ع)، فأخبر أبو هريرة
معاوية بالخبر، فأمره أن يعلم الناس، ففعل، وأقام النعمان بعده شهرا، ثم خرج فارا من علي (ع)
، حتى إذا مر بعين التمر أخذه مالك بن كعب الأرحبي وكان عامل علي (ع)
عليها فأراد حبسه، وقال له: ما مر بك بيننا (2)؟ قال: إنما أنا رسول بلغت
رسالة صاحبي، ثم انصرفت، فحبسه وقال: كما أنت، حتى أكتب إلى علي فيك
فناشده، وعظم عليه أن يكتب إلى علي فيه، فأرسل النعمان إلى قرظة بن كعب
الأنصاري وهو كاتب عين التمر يجبى خراجها لعلى (ع) فجاءه مسرعا، فقال
لمالك بن كعب: خل سبيل ابن عمى، يرحمك الله! فقال: يا قرظة، اتق الله ولا تتكلم
في هذا، فإنه لو كان من عباد الأنصار ونساكهم، لم يهرب من أمير المؤمنين
إلى أمير المنافقين.
فلم يزل به يقسم عليه حتى خلى سبيله، وقال له: يا هذا، لك الأمان اليوم والليلة

(1) ب (هذا).
(2) ب (هاهنا).
302

وغدا، والله إن أدركتك بعدها لأضربن عنقك، فخرج مسرعا لا يلوي على شئ،
وذهبت به راحلته، فلم يدر أين يتسكع من الأرض ثلاثة أيام، لا يعلم أين هو! فكان
النعمان يحدث بعد ذلك، يقول: والله ما علمت أين أنا، حتى سمعت قول قائلة تقول
وهي تطحن:
شربت مع الجوزاء كأسا روية * وأخر ى مع الشعرى إذا ما استقلت
معتقة كانت قريش تصونها * فلما استحلوا قتل عثمان حلت.
فعلمت أنى عند حي من أصحاب معاوية وإذا الماء لبني القين، فعلمت أنى قد انتهيت
إلى الماء.
ثم قدم على معاوية فخبره بما لقى، ولم يزل معه مصاحبا، لم يجاهد عليا، ويتتبع قتلة
عثمان، حتى غزا الضحاك بن قيس أرض العراق، ثم انصرف إلى معاوية، وقد كان معاوية
قال قبل ذلك بشهرين أو ثلاثة: أما من رجل أبعث به (1) بجريدة خيل، حتى يغير على
شاطئ الفرات! فإن الله يرعب بها أهل العراق! فقال له النعمان: فابعثني، فان لي في
قتالهم نية وهوى وكان النعمان: عثمانيا: قال: فانتدب على اسم الله، فانتدب وندب معه
ألفي رجل، وأوصاه أن يتجنب المدن والجماعات، وألا يغير إلا على مسلحة، وأن
يعجل الرجوع.
فأقبل النعمان بن بشير، حتى دنا من عين التمر، وبها مالك بن كعب الأرحبي
الذي جرى له معه ما جرى (2)، ومع مالك ألف رجل، وقد أذن لهم، فرجعوا إلى الكوفة
فلم يبق معه إلا مائة أو نحوها، فكتب مالك إلى علي (ع): أما بعد، فإن النعمان
بن بشير، قد نزل بي في جمع كثيف، فر رأيك، سددك الله تعالى وثبتك. والسلام.
فوصل الكتاب إلى علي (ع)، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

(1) ب: (معه)
(2) ب: (ما ذكرناه)
303

اخرجوا هداكم الله إلى مالك بن كعب أخيكم، فإن النعمان بن بشير قد نزل به في
جمع من أهل الشام، ليس بالكثير، فانهضوا إلى إخوانكم، لعل الله يقطع بكم من
الكافرين طرفا، ثم نزل.
فلم يخرجوا، فأرسل إلى وجوههم وكبرائهم، فأمرهم أن ينهضوا ويحثوا الناس على
المسير، فلم يصنعوا شيئا، واجتمع منهم نفر يسير نحو ثلاثمائة فارس أو دونها، فقام
(ع)، فقال: ألا إني منيت بمن لا يطيع الفصل الذي شرحناه إلى آخره، ثم نزل.
فدخل منزله، فقام عدى بن حاتم، فقال: هذا والله الخذلان، على هذا بايعنا أمير
المؤمنين، ثم دخل إليه فقال: يا أمير المؤمنين، إن معي من طيئ ألف رجل لا يعصونني،
فإن شئت أن أسير بهم سرت. قال: ما كنت لأعرض قبيلة واحدة من قبائل العرب للناس
ولكن اخرج إلى النخيلة فعسكر بهم، وفرض علي (ع) لكل رجل سبعمائة،
فاجتمع إليه ألف فارس، عدا طيئا أصحاب عدى بن حاتم.
وورد على علي (ع) الخبر بهزيمة النعمان بن بشير ونصرة مالك بن كعب
فقرأ الكتاب على أهل الكوفة وحمد الله وأثنى عليه، ثم نظر إليهم وقال هذا بحمد الله
وذم أكثركم.
فأما خبر مالك بن كعب مع النعمان بن بشير، قال عبد الله بن حوزة الأزدي: قال
كنت مع مالك بن كعب حين نزل بنا النعمان بن بشير، وهو في ألفين، وما نحن إلا مائة،
فقال لنا: قاتلوهم في القرية، واجعلوا الجدر في ظهوركم، ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة
واعلموا أن الله تعالى ينصر العشرة على المائة، والمائة على الألف، والقليل على الكثير. ثم
قال: إن أقرب من هاهنا إلينا من شيعة أمير المؤمنين وأنصاره وعماله قرظة بن كعب
304

ومخنف بن سليم، فاركض إليهما، فأعلمهما حالنا، وقل لهما: فلينصرانا ما استطاعا (1)،
فأقبلت أركض، وقد تركته وأصحابه يرامون أصحاب ابن بشير بالنبل، فمررت بقرظة
فاستصرخته، فقال: إنما أنا صاحب خراج، وليس عندي من أعينه به. فمضيت إلى
مخنف بن سليم، فأخبرته الخبر، فسرح معي عبد الرحمن بن مخنف في خمسين رجلا،
وقاتل مالك بن كعب النعمان وأصحابه إلى العصر، فأتيناه وقد كسر هو وأصحابه جفون
سيوفهم، واستقبلوا الموت (2)، فلو أبطأنا عنهم هلكوا، فما هو إلا أن رآنا أهل الشام، وقد
أقبلنا عليهم، فأخذوا ينكصون عنهم ويرتفعون، ورآنا مالك وأصحابه، فشدوا
عليهم حتى دفعوهم عن القرية، فاستعرضناهم، فصرعنا منهم رجالا ثلاثة، وارتفع القوم
عنا، وظنوا أن وراءنا مددا، ولو ظنوا أنه ليس غيرنا لأقبلوا علينا ولأهلكونا، وحال
الليل بيننا وبينهم، فانصرفوا إلى أرضهم. وكتب مالك بن كعب إلى علي (ع).
أما بعد، فإنه نزل بنا النعمان بن بشير في جمع من أهل الشام، كالظاهر علينا، وكان
عظم (3)، أصحابي متفرقين، وكنا للذي كان منهم آمنين، فخرجنا إليهم رجالا مصلتين (4)،
فقاتلناهم حتى المساء واستصرخنا مخنف بن سليم، فبعث إلينا رجالا من شيعة أمير المؤمنين
وولده، فنعم الفتى ونعم الأنصار كانوا، فحملنا على عدونا وشددنا عليهم، فأنزل الله علينا
نصره، وهزم عدوه، وأعز جنده. والحمد لله رب العالمين، والسلام على أمير المؤمنين
ورحمة الله وبركاته.

(1) كذا في ا، ج، وفى ب: (بما استطاعا)
(2) ب: (واستسلموا للموت.
(3) عظم الشئ، أي معظمه
(4) يقال: أصلت الرجل السيف، إذا جرده من غمده
305

وروى محمد بن فرات الجرمي، عن زيد بن علي (ع)، قال: قال علي (ع)
في هذه الخطبة أيها الناس، إني دعوتكم إلى الحق فتوليتم عنى، ضربتكم بالدرة فأعييتموني،
أما إنه سيليكم بعدي ولاة لا يرضون عنكم بذلك حتى يعذبوكم بالسياط وبالحديد، فأما
أنا فلا أعذبكم بهما، إنه من عذب الناس في الدنيا عذبه الله في الآخرة، وآية ذلك أن
يأتيكم صاحب اليمن حتى يحل بين ظهر كم، فيأخذ العمال وعمال العمال (1) رجل يقال له
يوسف بن عمرو، ويقوم عند ذلك رجل منا أهل البيت، فانصروه فإنه داع إلى الحق.
قال: وكان الناس يتحدثون أن ذلك الرجل هو زيد (ع)

(1) ساقطة من ب.
306

ومن كلام له (ع) للخوارج لما سمع قولهم: لا حكم إلا لله قال:
كلمه حق يراد بها باطل، نعم إنه لا حكم إلا لله ولكن هؤلاء يقولون:
لا إمرة (1). وإنه لا بد للناس من أمير بر أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن،
ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الاجل، ويجمع به الفئ، ويقاتل به
العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوى، حتى يستريح بر،
ويستراح من فاجر
وفى رواية أخرى أنه (ع) لما سمع تحكيمهم قال:
حكم الله أنتظر فيكم.
وقال:
أما الامرة البرة فيعمل فيها التقى، وأما الامرة الفاجرة فيتمتع فيها (2) الشقي،
إلى أن تنقطع مدته، وتدركه منيته.
اختلاف الرأي في القول بوجوب الإمامة
هذا نص صريح منه (ع)، بأن الإمامة واجبة، وقد اختلف الناس في هذه

(1) ب: (لا إمرة إلا لله) وما أثبته عن ا، ج ومخطوطة النهج.
(2) ا: (بها).
307

المسألة فقال المتكلمون: كلمة الإمامة واجبة، إلا ما يحكى عن أبي بكر الأصم من قدماء
أصحابنا أنها غير واجبة، إذا تناصفت الأمة ولم تتظالم.
وقال المتأخرون من أصحابنا: إن هذا القول منه غير مخالف لما عليه الأمة لأنه إذا كان
لا يجوز في العادة أن تستقيم أمور الناس من دون رئيس يحكم بينهم، فقد قال بوجوب
الرياسة على كل حال، اللهم إلا أن يقول: إنه يجوز أن تستقيم أمور الناس من دون
رئيس، وهذا بعيد أن يقوله، فأما طريق وجوب الإمامة ما هي؟ فإن مشايخنا البصريين
رحمهم الله يقولون طريق وجوبها الشرع، وليس في العقل ما يدل على وجوبها.
وقال البغداديون وأبو عثمان الجاحظ من البصريين وشيخنا أبو الحسين رحمه الله
تعالى: إن العقل يدل على وجوب الرياسة، وهو قول الإمامية، إلا أن الوجه الذي منه
يوجب أصحابنا الرياسة غير الوجه الذي توجب الامامية منه الرياسة، وذاك أن أصحابنا
يوجبون الرياسة على المكلفين، من حيث كان في الرياسة مصالح دنيوية، ودفع مضار
دنيوية. والامامية يوجبون الرياسة على الله تعالى، من حيث كان في الرياسة لطف
وبعد للمكلفين عن مواقعة القبائح العقلية.
والظاهر من كلام أمير المؤمنين (ع) يطابق ما يقوله أصحابنا، ألا تراه كيف
علل قوله: لابد للناس من أمير، فقال في تعليله: يجمع به الفئ، ويقاتل به العدو
وتؤمن به السبل، ويؤخذ للضعيف من القوى! وهذه كلها من مصالح الدنيا.
فإن قيل: ذكرتم أن الناس كافة قالوا بوجوب الامام، فكيف يقول أمير المؤمنين
(ع) عن الخوارج إنهم يقولون: لا إمرة.
قيل: إنهم كانوا في بدء أمرهم يقولون ذلك، ويذهبون إلى أنه لا حاجة إلى الامام،
ثم رجعوا عن ذلك القول لما أمروا عليهم عبد الله بن وهب الراسبي.
308

فإن قيل: فسروا لنا ألفاظ أمير المؤمنين (ع)
قيل: إن الألفاظ كلها ترجع إلى إمرة الفاجر.
قال: يعمل فيها المؤمن، أي ليست بمانعة للمؤمن من العمل، لأنه يمكنه أن يصلى
ويصوم ويتصدق، وإن كان الأمير فاجرا في نفسه.
ثم قال: ويستمتع فيها الكافر أي يتمتع بمدته، كما قال سبحانه للكافرين قل
تمتعوا فإن مصيركم إلى النار (1).
ويبلغ الله فيها الاجل، لان إمارة الفاجر كإمارة البر، في أن المدة المضروبة فيها تنتهي
إلى الاجل المؤقت للانسان.
ثم قال: ويجمع به الفئ ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف
من القوى، وهذا كله يمكن حصوله في إمارة الفاجر القوى في نفسه، وقد قال رسول
الله (=): إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وقد اتفقت المعتزلة
على أن أمراء بنى أمية كانوا فجارا عدا عثمان، وعمر بن عبد العزيز، ويزيد بن الوليد
وكان الفئ يجمع بهم، والبلاد تفتح في أيامهم، والثغور الاسلامية محصنة محوطة،
والسبل آمنة، والضعيف منصور على القوى الظالم، وما ضر فجورهم شيئا في هذه الأمور ثم قال (ع) فتكون هذه الأمور حاصلة إلى أن يستريح بر بموته، أو يستراح من
فاجر بموته أو عزله.
فأما الرواية الثانية، فإنه قد جعل التقى يعمل فيها للامرة خاصة. وباقي الكلام
غنى عن الشرح

(1) سورة إبراهيم 39
309

من أخبار الخوارج أيضا
وروى إبراهيم بن الحسن بن ديزيل المحدث في كتاب صفين عن عبد الرحمن
ابن زياد، عن خالد بن حميد المصري، عن عمر مولى غفرة، قال: لما رجع علي (ع)
من صفين إلى الكوفة، أقام الخوارج حتى جموا (1)، ثم خرجوا إلى صحراء بالكوفة
تسمى حروراء، فنادوا: لا حكم إلا لله ولو كره المشركون، ألا إن عليا ومعاوية
أشركا في حكم الله.
فأرسل علي (ع) إليهم عبد الله بن عباس، فنظر في أمرهم وكلمهم، ثم رجع إلى
علي (ع)، فقال له: ما رأيت؟ فقال ابن عباس: والله ما أدرى ما هم! فقال له
علي (ع): رأيتهم منافقين! قال: والله ما سيماهم بسيماء المنافقين، إن بين أعينهم
لأثر السجود وهم يتأولون (2) القرآن. فقال علي (ع): دعوهم، ما لم يسفكوا دما،
أو يغصبوا مالا، وأرسل إليهم: ما هذا الذي أحدثتم؟ وما تريدون؟ قالوا: نريد أن نخرج
نحن وأنت ومن كان معنا بصفين ثلاث ليال، ونتوب إلى الله من أمر الحكمين،
ثم نسير إلى معاوية، فنقاتله حتى يحكم الله بيننا وبينه، فقال علي (ع): فهلا قلتم
هذا حين (3) بعثنا الحكمين وأخذنا منهم العهد، وأعطيناهموه! ألا قلتم هذا حينئذ!
قالوا: كنا قد طالت الحرب علينا، واشتد البأس، وكثر الجراح، وخلا الكراع
والسلاح، فقال لهم: أفحين اشتد البأس عليكم، عاهدتم، فلما وجدتم الجمام قلتم ننقض
العهد! إن رسول الله كان يفي للمشركين، أفتأمرونني بنقضه!
فمكثوا مكانهم لا يزال الواحد منهم يرجع إلى علي (ع)، ولا يزال الاخر

(1) الجمام، بالفتح: الراحة.
(2) ا: (ويتأولون).
(3) ب: (حيث).
310

يخرج من عند علي (ع)، فدخل واحد منهم على علي (ع) بالمسجد، والناس
حوله، فصاح: لا حكم إلا لله ولو كره المشركون، فتلفت الناس، فنادى: لا حكم إلا لله
ولو كره المتلفتون، فرفع (1) علي (ع): رأسه إليه، فقال: لا حكم إلا لله ولو كره
أبو حسن. فقال علي (ع): إن أبا الحسن لا يكره أن يكون الحكم لله، ثم
قال: حكم الله أنتظر فيكم، فقال له الناس: هلا ملت يا أمير المؤمنين على هؤلاء فأفنيتهم!
فقال: إنهم لا يفنون، إنهم لفي أصلاب الرجال وأرحام النساء، إلى يوم القيامة.
وروى أنس بن عياض المدني، قال: حدثني جعفر بن محمد الصادق (ع)،
عن أبيه عن جده أن عليا (ع)، كان يوما يؤم الناس، وهو يجهر بالقراءة، فجهر
ابن الكواء من خلفه: ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت
ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين (3)، فلما جهر ابن الكواء وهو خلفه بها
سكت على، فلما أنهاها ابن الكواء عاد علي (ع)، فأتم قراءته، فلما شرع علي (ع)
في القراءة أعاد ابن الكواء الجهر بتلك الآية، فسكت على، فلم يزالا كذلك
يسكت هذا، ويقرأ ذاك مرارا، حتى قرأ علي (ع): فاصبر إن وعد الله حق
ولا يستخفنك الذين لا يوقنون (4)، فسكت ابن الكواء، وعاد (ع)
إلى قراءته.

(1) ب: (فرجع)، وما أثبته عن ا، ج
(2) ب: (لا يكره أن يكون الحكم إلا لله)
(3) سورة الزمر 65
(4) سورة الروم 60
311

أيها الناس، إن الوفاء توأم الصدق، ولا أعلم جنة أوقى منه، وما يغدر
من علم كيف المرجع.
ولقد أصبحنا فزمان قد اتخذ أكثر أهله الغدر كيسا، ونسبهم أهل الجهل
فيه إلى حسن الحيلة
مالهم قاتلهم الله! قد يرى الحول القلب وجه الحيلة ودونها مانع من أمر
الله ونهيه، فيدعها رأى عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له
في الدين.
يقال: هذا توأم هذا، وهذه توأمته، وهما توأمان وإنما جعل الوفاء توأم الصدق، لان الوفاء صدق في الحقيقة، توأمته، وهما توأمان، وإنما جعل الوفاء توأم الصدق،
لان الوفاء صدق في الحقيقة، ألا ترى أنه قد عاهد على أمر وصدق فيه ولم يخلف،
وكأنهما أعم وأخص، وكل ألا ترى أنه قد عاهد على أمر وصدق فيه ولم يخلف،
وكأنهما أعم وأخص وكل وفاء صدق، وليس كل صدق وفاء، فإن امتنع من حيث
الاصطلاح تسمية الوفاء صدقا فلأمر آخر، وهو أن الوفاء قد يكون بالفعل دون القول،
ولا يكون الصدق إلا في القول، لأنه نوع من أنواع الخبر، والخبر قول.

(1) من مخطوط النهج.
(2) ب (ولا).
312

ثم قال: ولا أعلم جنة أي درعا. أوقى منه، أي أشد وقاية وحفظا لان الوفي
محفوظ من الله، مشكور بين الناس.
ثم قال: وما يغدر من علم كيف المرجع، أي من علم الآخرة وطوى عليها
عقيدته، منعه ذلك أن يغدر، لان الغدر يحبط الايمان.
ثم ذكر أن الناس في هذا الزمان ينسبون أصحاب الغدر إلى الكيس، وهو الفطنة
والذكاء، فيقولون لمن يخدع ويغدر، ولأرباب الجريرة والمكر: هؤلاء أذكياء أكياس
كما كانوا، يقولون في عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وينسبون أرباب ذلك إلى حسن
الحيلة وصحة التدبير.
ثم قال: ما لهم قاتلهم! الله دعاء عليهم.
ثم قال: قد يرى الحول القلب وجه الحيلة، ويمنعه عنها نهى الله تعالى عنها،
وتحريمه بعد أن قدر عليها، وأمكنه. والحول القلب: الذي قد تحول وتقلب في الأمور
وجرب وحنكته الخطوب والحوادث.
ثم قال: وينتهز فرصتها، أي يبادر إلى افتراصها ويغتنمها. من لا حريجة له في
الدين، أي ليس بذي حرج، والتحرج: التأثم. والحريجة: التقوى، وهذه كانت سجيته
(ع) وشيمته، ملك أهل الشام الماء عليه، والشريعة بصفين، وأرادوا قتله وقتل أهل
العراق، عطشا، فضاربهم على الشريعة حتى ملكها عليهم، وطردهم عنها فقال له أهل
العراق: اقتلهم بسيوف العطش، وامنعهم الماء، وخذهم قبضا بالأيدي، فقال: إن في
حد السيف لغنى عن ذلك، وإني لا أستحل منعهم الماء. فأفرج لهم عن الماء فوردوه، ثم
قاسمهم الشريعة شطرين بينهم وبينه. وكان الأشتر يستأذنه أن يبيت (1) معاوية، فيقول:

(19 يقال: بيت الدو، أي قصده في الليل من غير أن يعلم فيؤخذ بغتة، وهو البيات.
313

إن رسول الله (ص) نهى أن يبيت المشركون، وتوارث بنوه (ع) هذا
الخلق الأبي.
أراد المضاء أن يبيت عيسى بن موسى فمنعه إبراهيم بن عبد الله (1).
وأرسل لما ظهر بالبصرة إلى محمد بن قحطبة مولى باهلة وكان قد ولى لأبي جعفر
المنصور بعض أعمال بفارس، فقال له: هل عندك مال! قال: لا، قال: آلله؟ قال: آلله
قال: خلوا سبيله، فخرج ابن قحطبة، وهو يقول بالفارسية، ليس هذا من رجال لابن أبي
جعفر.
وقال لعبد الحميد بن لاحق: بلغني أن عندك مالا للظلمة، يعنى آل أبي أيوب المورياني
كاتب المنصور، فقال: مالهم عندي مال، قال: تقسم بالله! قال: نعم، فقال: إن ظهر لهم
عندك مال لأعدنك كذابا (2).
وأرسل إلى طلحة الغدري وكان للمنصور عنده مال: بلغنا، أن عندك مالا فأتنا
به، فقال: أجل، إن عندي مالا، فإن أخذته منى أغرمنيه أبو جعفر فأضرب عنه.
وكان لغير إبراهيم (ع) من آل أبي طالب من هذا النوع أخبار كثيرة وكان
القوم أصحاب دين ليسوا من الدنيا بسبيل، وإنما يطلبونها ليقيموا عمود الدين بالإمرة فيها
فلم يستقم لهم، والدنيا إلى أهلها أميل.

(1) هو إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، دخل البصرة على عهد لابن أبي
جعفر
المنصور ودعا الناس إلى أخيه محمد بن عبد الله فبايعه كثيرون من أهلها، ثم استولى على الأهواز وواسط،
ولم يزل بها حتى أتاه نعى أخيه محمد قبل فطر سنة 145 بثلاثة أيام، فأرسل إليه أبو جعفر قائده عيسى بن
موسى، فخرج إبراهيم لملاقاته، والتقيا عند باخمرى وكانت العاقبة لعيسى، وقتل إبراهيم لخمس ليال بقين
من ذي القعدة سنة 145، والمضاء أحد رجاله. مقاتل الطالبيين 315 وما بعدها، وتاريخ الطبري
(حوادث سنة 145).
(2) مقاتل الطالبيين 333
314

ومن الاخبار النبوية المرفوعة في ذم الغدر: (ذمة المسلمين واحدة، فإن أجارت
عليهم أمة منهم، فلا تخفروا جوارها، فإن لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة (1).)
وروى أبو هريرة، قال: مر رسول الله (ص) برجل يبيع طعاما فسأله:
كيف تبيع؟ فأخبره، فأمر أبا هريرة أن يدخل فيه يده، فأدخلها فإذا هو مبلول، فقال
رسول الله (ص): ليس منا من غش
قال بعض الملوك لرسول ورد إليه من ملك آخر: أطلعني على سر صاحبك، فقال:
أيها الملك، إنا لا نستحسن الغدر، وإنه لو حول ثواب الوفاء إليه لما كان فيه عوض من
قبحه، ولكان سماجة اسمه، وبشاعة ذكره، ناهيين عنه.
مالك بن دينار: كفى بالمرء خيانة أن يكون أمينا للخونة.
وقع جعفر بن يحيى على ظهر كتاب كتبه علي بن عيسى بن ماهان إلى الرشيد،
يسعى (2) فيه بالبرامكة، فدفعه الرشيد إلى جعفر، يمن به عليه، وقال: أجبه عنه،
فكتب في ظاهره: حبب الله إليك الوفاء يا أخي فقد أبغضته، وبغض إليك الغدر فقد
أحببته، إني نظرت إلى الأشياء حتى أجد لك فيها مشبها فلم أجد، فرجعت إليك،
فشبهتك بك، ولقد بلغ من حسن ظنك بالأيام أن أملت السلامة مع البغي، وليس هذا
من عاداتها. والسلام.
كان العهد في عيسى بن موسى بن محمد بعد المنصور بكتاب كتبه السفاح، فلما
طالت أيام المنصور، سامه أن يخلع نفسه من العهد، ويقدم محمدا المهدى عليه، فكتب
إليه عيسى:
بدت لي أمارات من الغدر شمتها * أرى ما بدا منها سيمطركم دما

(1) نقله السيوطي في الجامع الصغير 2: 30 عن الحاكم، مع اختلاف في الرواية
(2) السعي هنا: الوشاية.
315

وما يعلم العالي متى هبطاته * وإن سار في ريح الغرور مسلما
أبو هريرة يرفعه: (اللهم إني أعوذ بك من الجوع فبئس الضجيع، وأعوذ بك
من الجوع فبئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة فبئست البطانة!
وعنه مرفوعا: المكر والخديعة والخيانة في النار.
قال مروان بن محمد لعبد الحميد الكاتب، عند زوال أمره: أرى أن تصير إلى هؤلاء،
فلعلك أن تنفعني في مخلفي، فقال: وكيف لي بعلم الناس جميعا أن هذا عن رأيك! إنهم
ليقولون كلهم: إني غدرت بك، ثم أنشد:
وغدري ظاهر لا شك فيه * لمبصره وعذري بالمغيب
فلما ظفر به عبد الله بن علي، قطع يديه ورجليه، ثم ضرب عنقه.
كان يقال: لا يغدر غادر إلا لصغر همته عن الوفاء، واتضاع قدره عن احتمال المكاره
في جنب نيل المكارم.
من كلام أمير المؤمنين (ع): الوفاء لأهل الغدر غدر، والغدر بأهل الغدر وفاء
عند الله تعالى.
قلت: هذا إنما يريد به إذا كان بينهما عهد ومشارطة فغدر أحد الفريقين، وخاس
بشرطه، فإن للآخر أن يغدر بشرطه أيضا ولا يفي به.
ومن شعر الحماسة، واسم الشاعر العارق الطائي (1).

(1) واسمه أيضا قيس بن جروة الطائي، والأبيات في ديوان الحماسة بشرح المرزوق 3: 1466،
1467. قال الشارح: (كان عمرو بن هند غزا اليمامة فأخفق ورجع منفضا، فمر بطئ - وكانوا في
ذمته - بكتاب عقد اكتتبه لهم، وعهد أحكمه معهم فقال زرارة بن عدس له: أبيت اللعن! أصب من
هذا الحي شيئا. قال: ويلك! إن لهم عقدا لا يجوز لنا تخطيه. فأخذ زرارة يهون أمر العهد عليه،
ويحسن الايقاع بهم، فلم يزل يفتل له في الذروة والغارب معه لشئ كان في نفسه على طئ، حتى أصاب
أذوادا ونساء، فهجا عارق عمرو بن هند بأبيات يعصب بها رأسه فيها بالغدر الذي كان منه، فوقعت
الأبيات إلى عمرو بن هند، فتوعد عارقا وحلف أنه يقتله، فاتصلت مقالته بعارق، فقال هذه الأبيات)
316

من مبلغ عمرو بن هند رسالة. * إذا استحقبتها العيس جاءت من البعد (1)
أيوعدني الرمل بيني وبينه * تبين رويدا ما أمامة من هند! (2)
ومن أجا حولي رعان كأنها * قنابل خيل من كميت ومن ورد (3)
غدرت بأمر كنت أنت اجتررتنا * إليه وبئس الشيمة الغدر بالعهد. (4)
قال أبو بكر الصديق: ثلاث من كن فيه كن عليه: البغي والنكث والمكر،
قال سبحانه: يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم (5) وقال: فمن نكث
فإنما ينكث على نفسه (6)، وقال: ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله (7)

(1) استحقبتها: حملتها في الحقائب. وتنضى: تهزل
(2) أيوعدني، الاستفهام على طريق التقريع واستعظام الامر
(3) أجأ: أحد جبلي طئ، وثانيهما سلمى. جمع رعن، وهو أنف يتقدم من الجبل. والقنابل
جماعات الخيل، قال التبريزي، (جعلها مختلفة الألوان لاختلاف ألوان الجبال)
(4) في حماسة المرزوقي (اجتذبتنا) وفى التبريزي: دعوتنا.
(5) سورة يونس 23
(6) سورة الفتح 10
(7) سورة فاطر 43.
317

أيها الناس، إن أخوف ما أخاف عليكم اثنتان اتباع الهوى وطول الامل،
فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق وأما طول الامل فينسى الآخرة.
ألا وإن الدنيا قد ولت حذاء فلم يبق منها إلا صبابة كصبابة الاناء، اصطبها
صابها. ألا وإن الآخرة قد أقبلت، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة
ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن كل ولد سيلحق بأمه يوم القيامة، وإن اليوم
عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل.
قال الرضى رحمه الله:
أقول: الحذاء: السريعة، ومن الناس من يرويه: جذاء بالجيم والذال،
أي انقطع درها وخيرها.
الصبابة: بقية الماء في الاناء. واصطبها صابها، مثل قولك: أبقاها مبقيها أو تركها
تاركها، ونحو ذلك يقول: أخوف ما أخافه عليكم اتباع الهوى وطول الامل، أما اتباع
الهوى فيصد عن الحق، وهذا صحيح لا ريب فيه، لان الهوى يعمى البصيرة وقد قيل:
318

حبك الشئ يعمى ويصم، ولهذا قال بعض الصالحين: رحم الله امرأ أهدى إلى عيوبي،
وذاك لان الانسان يحب نفسه، ومن أحب شيئا عمى عن عيوبه، فلا يكاد الانسان يلمح
عيب نفسه وقد قيل:
أرى كل إنسان يرى عيب غيره * ويعمى عن العيب الذي هو فيه.
فلهذا استعان الصالحون على معرفة عيوبهم بأقوال غيرهم، علما منهم أن هوى النفس
لذاتها يعميها عن أن تدرك عيبها، وما زال الهوى مرديا قتالا، ولهذا قال سبحانه:
ونهى النفس عن الهوى (1)، وقال (ص): ثلاث مهلكات:
شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه (2).
وأنت إذا تأملت هلاك من هلك من المتكلمين كالمجبرة والمرجئة، مع ذكائهم وفطنتهم
واشتغالهم بالعلوم، عرفت أنه لا سبب لهلاكهم إلا هوى الأنفس، وحبهم الانتصار للمذهب
الذي قد ألفوه، وقد رأسوا بطريقة، وصارت لهم الاتباع والتلامذة، وأقبلت الدنيا عليهم،
وعدهم السلاطين علماء ورؤساء، فيكرهون نقض ذلك كله وإبطاله، ويحبون الانتصار
لتلك المذاهب والآراء التي نشئوا عليها، وعرفوا بها، ووصلوا إلى ما وصلوا إليه بطريقها،
ويخافون عار الانتقال عن المذهب، وأن يشتفي بهم الخصوم ويقرعهم الأعداء، ومن أنصف
علم أن الذي ذكرناه حق وأما طول الامل فينسى الآخرة، وهذا حق لان، الذهن
إذا انصرف إلى الامل، ومد الانسان في مداه، فإنه لا يذكر الآخرة، بل يصير مستغرق
الوقت بأحوال الدنيا، وما يرجو حصوله منها في مستقبل الزمان.

(1) سور النازعات 40
(2) كذا أورد الحديث مختصرا، ونقله السيوطي في الجامع الصغير (1: 236) بهذه الرواية: (ثلاث
مهلكات، وثلاث منجيات، وثلاث كفارات، وثلاث درجات، فأما المهلكات فشح مطاع، وهوى متبع
وإعجاب المرء بنفسه، أما المنجيات..) إلى آخر الحديث.
319

ومن كلام مسعر بن كدام: كم من مستقبل يوما ليس يستكمله، ومنتظر غدا ليس
من أجله! ولو رأيتم الاجل ومسيره، أبغضتم الامل وغروره.
وكان يقال: تسويف الامل غرار، وتسويل المحال ضرار.
ومن الشعر المنسوب إلى علي (ع):
غر جهولا أمله * يموت من جاء أجله
ومن دنا من حتفه * لم تغن عنه حيله
وما بقاء آخر * قد غاب عنه أوله
والمرء لا يصحبه * في القبر إلا عمله.
وقال أبو العتاهية.
لا تأمن الموت في لحظ ولا نفس * ولو تمنعت بالحجاب والحرس (1)
واعلم بأن سهام الموت قاصدة * لكل مدرع منا ومترس
ما بال دينك ترضى أن تدنسه * وثوب لبسك مغسول من الدنس!
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها * إن السفينة لا تجرى على اليبس
ومن الحديث المرفوع: أيها الناس إن الأعمال تطوى، والأعمار تفنى، والأبدان
تبلى في الثرى، وإن الليل والنهار يتراكضان تراكض الفرقدين، يقربان كل بعيد،
ويخلقان كل جديد، وفى ذلك ما ألهى عن الامل، وأذكرك بحلول الاجل
وقال بعض الصالحين: بقاؤك إلى فناء، وفناؤك إلى بقاء فخذ من فنائك الذي
الذي لا يبقى، لبقائك الذي لا يفنى.
وقال بعضهم: اغتنم بنفس الاجل، وإمكان العمل، اقطع ذكر المعاذير والعلل
ودع تسويف الأماني والأمل، فإنك في نفس معدود، وعمر محدود، ليس بممدود.
وقال بعضهم: اعمل عمل المرتحل، فإن حادي الموت يحدوك ليوم لا يعدوك

(1) ديوانه 133.
320

ثم قال (ع): ألا إن الدنيا قد أدبرت حذاء بالحاء والذال المعجمة، وهي
السريعة، وقطاة حذاء: خف ريش ذنبها، ورجل أحذ، أي خفيف اليد، وقد روى:
قد أدبرت جذاء بالجيم، أي قد انقطع خيرها ودرها.
ثم قال: إن كل ولد سيلحق بأمه يوم القيامة، فكونوا من أبناء الآخرة لتلحقوا بها
وتفوزوا، ولا تكونوا من أبناء الدنيا فتلحقوا بها وتخسروا.
ثم قال: اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل، وهذا من باب المقابلة
في علم البيان (1)

(1) هنا آخر الجزء الثاني في نسخة ا، وفيها تعد هذه الكلمة: (تم الجزء الثاني من شرح نهج البلاغة)
321

ومن كلام له (ع)، وقد أشار عليه أصحابه بالاستعداد
لحرب أهل الشام، بعد إرساله إلى معاوية بجرير بن عبد الله البجلي:
إن استعدادي لحرب أهل الشام وجرير عندهم، إغلاق للشام، وصرف لأهله
عن خير إن أرادوه، ولكن قد وقت لجرير وقتا لا يقيم بعده إلا مخدوعا أو عاصيا
والرأي مع الأناة فأرودوا، ولا أكره لكم الاعداد
ولقد ضربت أنف هذا الامر وعينه، وقلبت ظهره وبطنه، فلم أر فيه (1)
إلا القتال أو الكفر (2 بما جاء به محمد (ص) 2).
إنه قد كان على الأمة وال أحدث أحداثا، وأوجد الناس (3) مقالا فقالوا، ثم
نقموا فغيروا
أرودوا، أي ارفقوا، أرود في السير إروادا، أي سار برفق، والأناة: التثبت والتأني
ونهيه لهم عن الاستعداد، وقوله بعد: ولا أكره لكم الاعداد غير متناقض، لأنه
كره منهم إظهار الاستعداد والجهر به، ولم يكره الاعداد في السر، وعلى وجه الخفاء

(1) كذا في ب، وفى ا: (فلم أر إلا القتال)، وفى ج: (فلم أر لي إلا القتال)
(2 - 2) كذا في ب 7 وهو ساقط من ا، ج
(3) مخطوطة النهج. (للناس)
322

والكتمان، ويمكن أن يقال إنه كره استعداد نفسه، ولم يكره إعداد أصحابه، وهذان
متغايران. وهذا الوجه اختاره القطب الراوندي.
ولقائل أن يقول: التعليل الذي علل به (ع) يقتضى كراهية الامرين معا،
وهو أن يتصل بأهل الشام الاستعداد، فيرجعوا عن السلم إلى الحرب، بل ينبغي أن
تكون كراهته لاعداد جيشه وعسكره خيولهم وآلات حربهم أولى، لان شياع ذلك
أعظم من شياع استعداده وحده، لأنه وحده يمكن أن يكتم استعداده، وأما استعداد
العساكر العظيمة، فلا يمكن أن يكتم، فيكون إتصاله وانتقاله إلى أهل الشام أسرع،
فيكون، إغلاق الشام عن باب خير إن أرادوه أقرب والوجه في الجمع بين اللفظتين
ما قدمناه.
وأما قوله (ع): ضربت أنف هذا الامر وعينه، فمثل تقوله العرب
إذا أرادت الاستقصاء في البحث والتأمل والفكر، وإنما خص الانف والعين، لأنهما
صورة الوجه، والذي يتأمل من الانسان إنما هو وجهه.
وأما قوله: ليس إلا القتال أو الكفر فلان النهى عن المنكر واجب على
الامام، ولا يجوز له الاقرار عليه، فإن تركه فسق، ووجب عزله عن الإمامة.
وقوله: أو الكفر من باب المبالغة، وإنما هو القتال أو الفسق، فسمى الفسق كفرا
تغليظا وتشديدا في الزجر عنه.
وقوله (ع): أوجد الناس مقالا، أي جعلهم واجدين له (1).
وقال الراوندي: أوجد هاهنا بمعنى أغضب. وهذا غير صحيح، لأنه لا شئ
ينصب به مقالا إذا كان بمعنى أغضب. والوالي المشار إليه عثمان.

(1) عبارة ابن ميثم (أي جعل لهم بتلك الاحداث طرقا إلى القول عليه فقالوا.
323

ذكر ما أورده القاضي عبد الجبار من دفع ما تعلق به الناس
على عثمان من الاحداث
يجب أن نذكر هاهنا أحداثه، وما يقوله أصحابنا في تأويلاتها، وما تكلم به المرتضى
في كتاب الشافي في هذا المعنى، فنقول:
إن قاضى (1) القضاة رحمه الله تعالى، قال في المغني قبل الكلام في تفصيل هذه
الاحداث كلاما مجملا، معناه أن كل من تثبت عدالته ووجب توليه، إما على القطع وإما على الظاهر،
فغير جائز أن يعدل فيه عن هذه الطريقة إلا بأمر متيقن يقتضى العدول عنها، يبين ذلك
أن من شاهدناه على ما يوجب الظاهر توليه وتعظيمه يجب أن يبقى فيه على هذه الطريقة،
وإن غاب عنا، وقد عرفنا أن مع الغيبة يجوز أن يكون مستمرا على حالته، ويجوز أن
يكون منتقلا، ولم يقدح هذا التجويز في وجوب ما ذكرناه.
ثم قال: فالحدث الذي يوجب الانتقال عن التعظيم والتولي إذا كان من باب محتمل
لم يجز الانتقال لأجله. والأحوال المتقررة في النفوس بالعادات والأحوال المعروفة فيمن
نتولاه أقوى في باب الامارة من الأمور المتجددة فإن مثل فرقد السبخي (2)، ومالك
ابن دينار (3)، لو شوهدا في دار فيها منكر لقوي في الظن حضورهما للتغيير والانكار،

(1) هو عبد الجبار بن أحمد بن عيد الجبار الهمداني، صاحب كتاب (المغني) في الجدل، وإمام أهل المعتزلة
في زمانه، توفى 415. طبقات الشافعية 3: 219.
(2) السبخي، بفتح السين والباء الموحدة، وفى آخرها خاء معجمة: منسوب إلى السبخة، موضع بالبصرة،
وهو أبو يعقوب فرقد بن يعقوب السبخي، من زهاد البصرة، ومات سنة 131 معجم البلدان 5: 27.
(3) هو أبو يحيى. مالك بن دينار، وكان من كبار الزهاد والوعاظ، روى أنس بن مالك وعن
جماعة من كبار التابعين كالحسن وابن سيرين، توفى سنة 130. صفة الصفوة 3: 197.
324

أو على وجه الاكراه أو الغلط، ولو كان الحاضر هناك من علم من حاله الاختلاط
بالمنكر لجوز حضوره للفساد، بل كان ذلك هو الظاهر من حاله.
ثم قال: واعلم أن الكلام فيما يدعى من الحدث والتغير فيمن ثبت توليه، قد
يكون من وجهين:
أحدهما: هل علم بذلك أم لا؟
والثاني: أنه مع يقين حصوله: هل هو حدث يؤثر في العدالة أم لا؟
ولا فرق بين تجويز ألا يكون حدث أصلا، وبين أن يعلم حدوثه، ويجوز ألا
يكون حدثا.
ثم قال: كل محتمل لو أخبر الفاعل أنه فعله على أحد الوجهين، وكان يغلب على
الظن صدقه لوجب تصديقه، فإذا عرف من حاله المتقررة في النفوس ما يطابق ذلك جرى
مجرى الاقرار، بل ربما كان أقوى، ومتى لم نسلك هذه الطريقة في الأمور المشتبهة لم يصح
في أكثر من نتولاه ونعظمه أن تسلم حاله عندنا، فإنا لو رأينا من يظن به الخير، يكلم
امرأة حسناء في الطريق لكان ذلك من باب المحتمل، فإذا كان لو أخبر أنها أخته أو امرأته
لوجب ألا نحول عن توليه، فكذلك إذا كان قد تقدم في النفوس ستره وصلاحه،
فالواجب أن نحمله على هذا الوجه.
ثم قال: وقول الإمام له مزية في هذا الباب، لأنه آكد من غيره، وأما ما ينقل عن
رسول الله (ص) فإنه وإن لم يكن مقطوعا به يؤثر في هذا الباب، ويكون
أقوى مما تقدم.
ثم قال: وقد طعن الطاعنون فيه بأمور متنوعة مختلفه، ونحن نقدم على تلك
المطاعن كلاما مجملا، يبين بطلانها على الجملة، ثم نتكلم عن تفصيلها.
325

قال: وذلك أن شيخنا أبا على (1) رحمه الله تعالى قد قال: لو كانت هذه الاحداث
مما توجب طعنا على الحقيقة، لوجب من الوقت الذي ظهر ذلك من حاله أن يطلب المسلمون
رجلا ينصب للإمامة وأن يكون ظهور ذلك عن عثمان كموته، فإنه لا خلاف أنه متى
ظهر من الامام ما يوجب خلعه، أن الواجب على المسلمين إقامة إمام سواه، فلما علمنا أن
طلبهم لإقامة إمام إنما كان بعد قتله، ولم يكن من قبل والتمكن قائم، علمنا بطلان
ما أضيف إليه من الاحداث.
قال: وليس لأحد أن يقول: إنهم لم يتمكنوا من ذلك، لان المتعالم من حالهم
أنهم حصروه ومنعوه من التمكن من نفسه، ومن التصرف في سلطانه، خصوصا والخصوم
يدعون أن الجميع كانوا على قول واحد في خلعه والبراءة منه.
قال: ومعلوم من حال هذه الاحداث أنها لم تحصل أجمع في الأيام التي حوصر فيها
وقتل، بل كانت تحصل من قبل حالا بعد حال، فلو كان ذلك يوجب الخلع والبراءة لما
تأخر من المسلمين الانكار عليه، ولكان كبار الصحابة المقيمون بالمدينة أولى بذلك من
الواردين من البلاد، لان أهل العلم والفضل بإنكار ذلك أحق من غيرهم.
قال: فقد كان يجب على طريقتهم أن تحصل البراءة والخلع من أول الوقت الذي
حصل منه ما أوجب ذلك، وألا ينتظر حصول غيره من الاحداث، لأنه لو وجب
انتظار ذلك لم ينته إلى حد إلا وينتظر غيره.
ثم ذكر أن إمساكهم عن ذلك إذا تيقنوا الاحداث منه يوجب نسبة الجميع إلى
الخطا والضلال. ولا يمكنهم أن يقولوا: أن علمهم بذلك إنما حصل في الوقت الذي حصر
ومنع، لان من جملة الاحداث التي يذكرونها ما تقدم عن هذه الحال، بل كلها أو جلها تقدم هذا الوقت، وإنما يمكنهم أن يتعلقوا فيما حدث في هذا الوقت بما يذكرونه من

(1) هو محد بن عبد الوهاب الجبائي، شيخ المعتزلة. توفى سنة 303. شذرات الذهب 2: 241.
326

حديث الكتال النافذ إلى ابن أبي سرح بالقتل، وما أوجب كون ذلك حدثا يوجب
كون غيره حدثا، فكان يجب أن يفعلوا ذلك من قبل، واحتمال المتقدم للتأويل
كاحتمال المتأخر.
ثم قال: وبعد، فليس يخلو من أن يدعوا أن طلب الخلع وقع من كل الأمة أو من
بعضهم، فإن ادعوا ذلك في بعض الأمة، فقد علمنا أن الإمامة إذا ثبتت بالاجماع
لم يجز إبطالها، بلا خلاف، لان الخطأ جائز على بعض الأمة، وإن ادعوا في ذلك الاجماع، لم
يصح، لان من جملة أهل الاجماع عثمان ومن كان ينصره، ولا يمكن إخراجه من الاجماع،
بأن يقال: إنه كان على باطل، لان بالاجماع يتوصل إلى ذلك، ولم يثبت.
ثم قال: على أن الظاهر من حال الصحابة أنها كانت بين فريقين، أما من نصره،
فقد روى عن زيد بن ثابت أنه قال لعثمان ومن معه من الأنصار: ائذن لنا بنصرك. وروى
مثل ذلك عن ابن عمر وأبي هريرة والمغيرة بن شعبة، والباقون ممتنعون انتظارا لزوال
العارض، إلا أنه لو ضيق عليهم الامر في الدفع ما قعدوا، بل المتعالم من حالهم ذلك.
ثم ذكر ما روى من إنفاذ أمير المؤمنين (ع) الحسن والحسين (ع)
إليه وأنه لما قتل لأمهما (ع) على وصول القوم إليه، ظنا منه أنهما قصرا.
وذكر أن أصحاب الحديث يروون عن النبي (ص) أنه قال: ستكون
فتنة واختلاف، وإن عثمان وأصحابه يومئذ على الهدى. وما روى عن عائشة من قولها:
قتل والله مظلوما.
قال: ولا يمتنع أن يتعلق بأخبار الأحاديث في ذلك، لأنه ليس هناك أمر ظاهر
يدفعه، نحو دعواهم أن جميع الصحابة كانوا عليه، لان ذلك دعوى منهم، وإن كان
فيه رواية من جهة الآحاد، وإذا تعارضت الروايات سقطت، ووجب الرجوع إلى ما ثبت من
أحواله السليمة، ووجوب توليه.
327

قال: ولا يجوز أن يعدل عن تعظيمه وصحة إمامته بأمور محتملة، فلا شئ مما ذكروه
إلا ويحتمل الوجه الصحيح.
ثم ذكر أن للامام أن يجتهد برأيه في الأمور المنوطة به، ويعمل فيها على غالب ظنه،
وقد يكون مصيبا، وإن أفضت إلى عاقبة مذمومة.
فهذه جملة ما ذكره قاضى القضاة رحمه الله تعالى في المغني من الكلام إجمالا
في دفع ما يتعلق به على عثمان من الاحداث (1)
رد المرتضى على ما أورده القاضي عبد الجبار من الدفاع عن عثمان
واعترض المرتضى رحمه الله تعالى في الشافي (2)، فقال:
أما قوله: من تثبت عدالته ووجب توليه إما قطعا أو على الظاهر، فغير جائز أن
يعدل فيه عن هذه الطريقة إلا بأمر متيقن، فغير مسلم لان من نتولاه على الظاهر،
وثبتت عدالته عندنا من جهة غالب الظن، يجب أن نرجع عن ولايته بما يقتضى غالب
الظن دون اليقين، ولهذا يؤثر في جرح الشهود وسقوط عدالتهم أقوال الجارحين، وإن
كانت مظنونة غير معلومة. وما يظهر من أنفسهم من الافعال التي لها ظاهر يظن معه القبيح
بهم حتى نرجع عما كنا عليه من القول بعدالتهم، وإن لم يكن كل ذلك متيقنا، وإنما
يصح ما ذكره فيمن ثبتت عدالته على القطع ووجب توليه على الباطن، فلا يجوز أن يؤثر
في حاله ما يقتضى الظن، لان الظن لا يقابل العلم، والدلالة لا تقابل الامارة.
فإن قال: لم أرد بقولي إلا بأمر متيقن أن كونه حدثا متيقن، وإنما أردت تيقن
وقوع الفعل نفسه.
قلنا: الأمران سواء في تأثير غلبة الظن فيهما، ولهذا يؤثر في عدالة من تقدمت

(1) نقله المرتضى في الشافي 264 مع تصرف في العبارة.
(2) كتاب الشافي في الإمامة والرد على كتاب المغني. طبع في العجم سنة 1301.
328

عدالته عندنا على سبيل الظن أقوال من يخبرنا عنه بارتكاب القبائح (1) إذا كانوا عدولا،
وإن كانت أقوالهم لا تقتضي اليقين، بل يحصل عندها غالب الظن. وكيف لا نرجع عن
ولاية من توليناه على الظاهر بوقوع أفعال منه يقتضى ظاهرها خلاف الولاية، ونحن إنما
قلنا بعدالته في الأصل على سبيل الظاهر! ومع التجويز لان يكون ما وقع منه في الباطن
قبيحا لا يستحق به التولي والتعظيم، ألا ترى أن من شاهدناه يلزم مجالس العلم، ويكرر
تلاوة القرآن، ويدمن الصلاة والصيام والحج، يجب أن نتولاه ونعظمه على الظاهر! وإن
جوزنا أن يكون جميع ما وقع منه مع خبث باطنه، وأن غرضه في فعله القبيح فلم نتوله إلا
على الظاهر. ومع التجويز، فكيف لا نرجع عن ولايته بما يقابل هذه الطريقة! فأما من
غاب عنا وتقدمت له أحوال تقتضي الولاية، فيجب أن نستمر على ولايته، وإن جوزنا
على الغيبة أن يكون منتقلا عن الأحوال الجميلة التي عهدناها منه، إلا إن هذا تجويز محض
لا ظاهر معه يقابل ما تقدم من الظاهر الجميل، وهو بخلاف ما ذكرناه من مقابلة الظاهر للظاهر، وإن كان في كل واحد من الامرين تجويز.
قال: وقد أصاب في قوله: إن ما يحتمل لا ينتقل (2) له عن التعظيم والتولي إن أراد
بالاحتمال ما لا ظاهر له، وأما ما له ظاهر ومع ذلك يجوز أن يكون الامر فيه بخلاف ظاهره،
فإنه لا يسمى محتملا. وقد يكون مؤثرا فيما ثبت من التولي على الظاهر على ما ذكرناه.
قال: فأما قوله: إن الأحوال المتقررة في النفوس بالعادات فيمن نتولاه تؤثر
ما لا يؤثر غيرها، وتقتضي حمل أفعاله على الصحة والتأول له، فلا شك أن ما ذكره مؤثر
وطريق قوى إلى غلبه الظن، إلا أنه ليس يقتضى ما يتقرر في نفوسنا لبعض من نتولاه
على الظاهر أن نتأول كل ما يشاهد منه من الافعال التي لها ظاهر قبيح، ونحمل الجميع على

(1) الشافي: (قبيح).
(2) الشافي: (لا يجوز أن ينتقل له).
329

أجمل الوجوه، وإن كان بخلاف الظاهر، بل ربما تبين الامر فيما يقع (1) منه من الافعال
التي ظاهرها القبيح إلى أن تؤثر أحواله المقررة، ونرجع بها عن ولايته، ولهذا نجد
كثيرا من أهل العدالة المتقررة لهم في النفوس، ينسلخون منها حتى يلحقوا بمن لا تثبت له
في وقت من الأوقات عدالة، وإنما يكون ذلك بما يتوالى منهم ويتكرر من الافعال
القبيحة الظاهرة.
قال: فأما ما استشهد به من أن مثل مالك بن دينار لو شاهدناه في دار فيها منكر
لقوي في الظن حضوره لأجل التغيير والانكار (2)، أو على وجه الاكراه والغلط
وأن غيره يخالفه في هذا الباب، فصحيح لا يخالف ما ذكرناه، لان مثل مالك بن دينار، ممن تناصرت أمارات عدالته وشواهد نزاهته حالا بعد حال، لا يجوز أن يقدح فيه فعل له ظاهر
قبيح، بل يجب لما تقدم من حاله أن نتأول فعله، ونخرجه عن ظاهره إلى أجمل وجوهه.
وإنما وجب ذلك لان الظنون المتقدمة أقوى وأولى بالترجيح والغلبة، فنجعلها قاضية على
الفعل والفعلين، ولهذا متى توالت منه الافعال القبيحة الظاهرة وتكررت، قدحت في حاله،
وأثرت في ولايته، كيف لا يكون كذلك وطريق ولايته في الأصل هو الظن والظاهر،
ولا بد من قدح الظاهر في الظاهر، وتأثير الظن في الظن على بعض الوجوه.
قال: فأما قوله: فإن كل محتمل لو أخبرنا عنه وهو مما يغلب على الظن صدقه
أنه فعله على أحد الوجهين، وجب تصديقه، فمتى عرف من حاله المتقررة في النفوس ما يطابق
ذلك جرى مجرى الاخبار (3)، فأول ما فيه أن المحتمل هو مالا ظاهر له من الافعال،
والذي يكون جواز كونه قبيحا كجواز كونه حسنا، ومثل هذا الفعل لا يقتضى ولاية

(1) الشافي: (فيما يرجع منه)
(2) الشافي: (الاقرار).
(3) الشافي: (الاقرار).
330

ولا عداوة، وإنما يقتضى الولاية ماله من الافعال ظاهر جميل، ويقتضي العداوة ماله
ظاهر قبيح.
فإن قال: أردت بالمحتمل ماله ظاهر لكنه يجوز أن يكون الامر بخلاف ظاهره.
قيل له: ما ذكرته لا يسمى محتملا، فإن كنت عنيته فقد وضعت العبارة في غير
موضعها، ولا شك في أنه إذا كان ممن لو أخبرنا بأنه فعل الفعل على أحد الوجهين لوجب
تصديقه، وحمل الفعل على خلاف ظاهره، فإن الواجب لما تقرر له في النفوس أن يتأول له
ويعدل بفعله عن الوجه القبيح إلى الوجه الجميل، إلا أنه متى توالت منه الافعال التي لها
ظواهر قبيحة فلا بد أن تكون مؤثرة في تصديقه، متى خبرنا بأن غرضه في الفعل خلاف
ظاهره، كما تكون مانعة من الابتداء بالتأول.
وضربه المثل بأن من نراه يكلم امرأة حسناء في الطريق إذا أخبر أنها أخته أو
امرأته في أن تصديقه واجب، ولو لم يخبر بذلك لحملنا كلامه لها على أجمل الوجوه، لما تقدم
له في النفوس، صحيح، إلا أنه لابد من مراعاة ما تقدم ذكره، من أنه قد يقوى الامر لقوة
الامارات والظواهر إلى حد لا يجوز معه تصديقه ولا التأول له، ولولا أن الامر قد ينتهى
إلى ذلك لما صح أن يخرج أحد عندنا من الولاية إلى العداوة، ولا من العدالة إلى خلافها،
لأنه لا شئ مما يفعله الفساق المتهتكون إلا ويجوز أن يكون له باطن بخلاف الظاهر، ومع
ذلك فلا يلتفت إلى هذا التجويز، يبين صحة ما ذكرناه أنا لو رأينا من يظن به الخير يكلم
امرأة حسناء في الطريق ويداعبها ويضاحكها لظننا به الجميل مرة ومرات، ثم ينتهى
الامر إلى ألا نظنه. وكذلك لو شاهدناه وبحضرته المنكر، لحملنا حضوره على الغلط
أو الاكراه أو غير ذلك من الوجوه الجميلة. ثم لا بد من انتهاء الأمر إلى أن نظن به القبيح
ولا نصدقه في كلامه.
331

قال: ثم نقول (1) له: أخبرنا عمن شاهدناه من بعد وهو مفترش امرأة نعلم أنها
ليست له بمحرم، وأن لها في الحال زوجا غيره، وهو ممن تقررت له في النفوس عدالة
متقدمة، ما ذا يجب أن نظن به؟ وهل نرجع بهذا الفعل عن ولايته، أم نحمله على أنه
غالط ومتوهم أن المرأة زوجته، أو على أنه مكره على الفعل، أو غير ذلك من الوجوه الجميلة!
فإن قال: نرجع عن الولاية، اعترف بخلاف ما قصده في الكلام، وقيل له: أي
فرق بين هذا الفعل وبين جميع ما عددناه من الافعال وادعيت أن الواجب أن نعدل عن
ظاهرها؟ وما جواز الجميل في ذلك الا كجواز الجميل في هذا الفعل.
وإن قال: لا أرجع بهذا الفعل عن ولايته (2)، بل نؤوله على بعض الوجوه الجميلة.
قيل له: أرأيت لو تكرر هذا الفعل وتوالى هو وأمثاله حتى نشاهده حاضرا في دور
القمار ومجالس اللهو واللعب ونراه يشرب الخمر بعينها، وكل هذا مما يجوز أن يكون عليه
مكرها وفى أنه القبيح بعينه غالطا، أكان يجب علينا الاستمرار على ولايته أم العدول
عنها؟ فإن قال: نستمر ونتأول، ارتكب ما لا شبهة في فساده، وألزم ما قد قدمنا ذكره
من أنه لا طريق إلى الرجوع عن ولاية أحد ولو شاهدنا منه أعظم المناكير. ووقف
أيضا على أن طريق الولاية المتقدمة إذا كان الظن دون القطع، فكيف لا نرجع عنها لمثل
هذا الطريق، فلا بد إذن من الرجوع إلى ما بيناه وفصلناه في هذا الباب.
قال: فأما قوله: إن قول الإمام له مزية، لأنه آكد من غيره فلا معنى له،
لان قول الإمام على مذهبنا يجب أن يكون له مزية من حيث كان معصوما مأمون (3)
الباطن، وعلى مذهبه إنما تثبت ولايته بالظاهر كما تثبت ولاية غيره من سائر المؤمنين،
فأي مزية له في هذا الباب!

(1) ب (ثم يقال) (2) الشافي: (الولاية)
(3) الشافي: (معصوما مأمونا باطنه.).
332

ووله: إن ما ينقل عن الرسول وإن لم يكن مقطوعا عليه يؤثر في هذا الباب، ويكون
أقوى مما تقدم، غير صحيح على إطلاقه، لان تأثير ما ينقل إذا كان يقتضى غلبة الظن
لا شبهة فيه، فأما تقويته على غيره فلا وجه له، وقد كان يجب أن يبين من أي الوجوه
يكون أقوى.
فهذه جملة ما اعترض به المرتضى على الفصل الأول من كلام قاضى القضاة رحمه
الله تعالى.
تم الجزء الثاني من شرح نهج البلاغة

(1) الشافي ص 264 - 266.
(2) هذا نهاية نسخة ب، ج، وفى آخر نسخة ج: (تم الجزء الثاني من شرح البلاغة، بحمد الله ومنه
وصلى الله على محمد وآله.)
333