الكتاب: شرح نهج البلاغة
المؤلف: ابن أبي الحديد
الجزء: ١٣
الوفاة: ٦٥٦
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ القسم العام
تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: مؤسسة إسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
ردمك:
ملاحظات:

شرح نهج البلاغة
لابن أبي الحديد
بتحقيق
محمد أبو الفضل إبراهيم
الجزء الثالث عشر
دار احياء الكتب العربية
عيسى البابي الحلبي وشركاه
1

الطبعة الثانية
(1967 م - 1387 ه‍)
جميع الحقوق محفوظة
منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
قم - إيران 1404 ه‍ ق
2

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد العدل
(224)
الأصل:
ومن كلام له عليه السلام في وصف بيعته بالخلافة، وقد تقدم مثله
بألفاظ مختلفة:
وبسطتم يدي فكففتها، ومددتموها فقبضتها، ثم تداككتم علي تداك الإبل
الهيم على حياضها يوم وردها; حتى انقطعت النعل، وسقط الرداء، ووطئ الضعيف،
وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إياي أن ابتهج بها الصغير، وهدج إليها الكبير،
وتحامل نحوها العليل، وحسرت إليها الكعاب.
* * *
الشرح:
التداك الازدحام الشديد. والإبل الهيم: العطاش.
وهدج إليها الكبير: مشى مشيا ضعيفا مرتعشا، والمضارع يهدج بالكسر
وتحامل نحوها العليل: تكلف المشي على مشقة.
3

وحسرت إليها الكعاب: كشفت عن وجهها حرصا على حضور البيعة، والكعاب:
الجارية التي قد نهد ثديها، كعبت تكعب، بالضم.
قوله " حتى انقطع النعل وسقط الرداء " شبيه بقوله في الخطبة الشقشقية " حتى
لقد وطئ الحسنان وشق عطفاي (1) ".
وقد تقدم ذكر بيعته عليه السلام بعد قتل عثمان واطباق الناس عليها وكيفية الحال
فيها وشرح شرحا يستغنى عن اعادته

(1) الجزء الأول ص 200
4

(225)
الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام:
فان تقوى الله مفتاح سداد، وذخيرة معاد، وعتق من كل ملكة، ونجاة
من كل هلكة، بها ينجح الطالب، وينجو الهارب، وتنال الرغائب.
فاعملوا والعمل يرفع والتوبة تنفع والدعاء يسمع، والحال هادئة،
والأقلام جارية،
وبادروا بالاعمال عمرا ناكسا، أو مرضا حابسا، أو موتا خالسا، فان الموت
هادم لذاتكم، ومكدر شهواتكم، ومباعد طياتكم. زائر غير محبوب، وقرن
غير مغلوب، وواتر غير مطلوب، قد أعلقتكم حبائله، وتكنفتكم غوائله،
وأقصدتكم معابله، وعظمت فيكم سطوته، وتتابعت عليكم عدوته، وقلت عنكم
نبوته، فيوشك أن تغشاكم دواجي ظلله، واحتدام علله، وحنادس
غمراته، وغواشي سكراته، وأليم إرهاقه، ودجو إطباقه، وخشونة مذاقه.
فكان قد اتاكم بغته فأسكت نجيكم، وفرق نديكم، وعفى آثاركم، وعطل
دياركم، وبعث وراثكم يقتسمون تراثكم، بين حميم خاص لم ينفع، وقريب
محزون لم يمنع، وآخر شامت لم يجزع.
فعليكم بالجد والاجتهاد، والتأهب والاستعداد، والتزود في منزل الزاد، ولا
تغرنكم الحياة الدنيا كما غرت من كان قبلكم من الأمم الماضية، والقرون
الخالية، الذين احتلبوا درتها، وأصابوا غرتها، وأفنوا عدتها، وأخلقوا جدتها،
5

وأصبحت مساكنهم أجداثا، وأموالهم ميراثا، لا يعرفون من أتاهم، ولا يحفلون
من بكاهم، ولا يجيبون من دعاهم.
فاحذروا الدنيا فإنها غدارة غراره خدوع، معطيه منوع، ملبسه نزوع،
لا يدوم رخاؤها، ولا ينقضي عناؤها، ولا يركد بلاؤها.
* * *
الشرح:
عتق من كل ملكة، هو مثل قوله عليه السلام " التوبة تجب ما قبلها "، أي
كل ذنب موبق يملك الشيطان فاعله ويستحوذ عليه، فان تقوى الله تعتق منه، وتكفر
عقابه، ومثله قوله " ونجاة من كل هلكة ".
قوله عليه السلام " والعمل ينفع "، أي اعملوا في دار التكليف، فان العمل يوم
القيامة غير نافع.
قوله عليه السلام " والحال هادئة "، أي ساكنة ليس فيها ما في أحوال الموقف
من تلك الحركات الفظيعة، نحو تطاير الصحف، ونطق الجوارح 7 وعنف السياق
إلى النار.
قوله عليه السلام " والأقلام جارية "، يعنى أن التكليف باق، وأن الملائكة
الحفظة تكتب اعمال العباد، بخلاف يوم القيامة، فإنه يبطل ذلك، ويستغنى عن الحفظة
لسقوط التكليف.
قوله " عمرا ناكسا "، يعنى الهرم، من قوله تعالى (ومن نعمره ننكسه
في الخلق) (1)، لرجوع الشيخ الهرم إلى مثل حال الصبي الصغير في ضعف العقل والبنية.

(1) سورة يس 68
6

والموت الخالس: المختطف. والطيات: جمع طية بالكسر، وهي منزل السفر.
والواتر: القاتل والوتر، بالكسر: الذحل.
وأعلقتكم حبائله جعلتكم معتلقين فيها، ويروى " قد علقتكم " بغير همز.
وتكنفتكم غوائله: أحاطت بكم دواهيه ومصائبه وأقصدتكم: أصابتكم.
والمعابل: نصال عراض، الواحدة معبلة، بالكسر.
وعدوته بالفتح: ظلمه ونبوته: مصدر نبا السيف، إذا لم يؤثر في الضريبة.
ويوشك بالكسر: يقرب وتغشاكم: تحيط بكم.
والدواجي: الظلم، الواحدة داجية. والظلل: جمع ظلة وهي السحاب والاحتدام:
الاضطرام والحنادس: الظلمات.
وإرهاقه: مصدر أرهقته، أي أعجلته، ويروى: " إزهاقه " بالزاي.
والاطباق: جمع طبق، وهذا من باب الاستعارة، أي تكاثف ظلماتها طبق
فوق طبق.
ويروى " وجشوبة مذاقه " بالجيم والباء، وهي غلظ الطعام.
والنجي: القوم يتناجون. والندى: القوم يجتمعون في النادي.
واحتلبوا درتها: فازوا بمنافعها كما يحتلب الانسان اللبن.
وهذه الخطبة من محاسن خطبه عليه السلام، وفيها من صناعة البديع ما هو ظاهر للمتأمل.
* * *
الأصل:
منها في صفة الزهاد:
كانوا قوما من أهل الدنيا وليسوا من أهلها، فكانوا فيها كمن ليس منها،
7

عملوا فيها بما يبصرون، وبادروا فيها ما يحذرون، تقلب أبدانهم بين ظهراني
أهل الآخرة، ويرون أهل الدنيا يعظمون موت أجسادهم، وهم أشد اعظاما
لموت قلوب أحيائهم.
* * *
الشرح:
بين ظهراني أهل الآخرة، بفتح النون، ولا يجوز كسرها، ويجوز " بين ظهري
أهل الآخرة "، لو روى، والمعنى في وسطهم.
قوله عليه السلام: " كانوا قوما من أهل الدنيا وليسوا من أهلها "، أي هم من أهلها في
ظاهر الامر وفي مرأى العين وليسوا من أهلها، لأنه لا رغبة عندهم في ملاذها ونعيمها،
فكأنهم خارجون عنها.
قوله: " عملوا فيها بما يبصرون "، أي بما يرونه أصلح لهم، ويجوز أن يريد أنهم
لشدة اجتهادهم قد أبصروا المآل، فعملوا فيها على حسب ما يشاهدونه من دار الجزاء،
وهذا كقوله عليه السلام: " لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا ".
قوله عليه السلام: " وبادروا فيها ما يحذرون "، أي سابقوه، يعنى الموت.
قوله عليه السلام: " تقلب أبدانهم "، هذا محمول تارة على الحقيقة، وتارة على
المجاز، اما الأول فلأنهم لا يخالطون الا أهل الدين ولا يجالسون أهل الدنيا، واما الثاني
فلأنهم لما استحقوا الثواب كان الاستحقاق بمنزله وصولهم إليهم، فأبدانهم تتقلب بين
ظهراني أهل الآخرة، أي بين ظهراني قوم هم بمنزلة أهل الآخرة، لان المستحق للشئ
نظير لمن فعل به ذلك الشئ.
ثم قال: هؤلاء الزهاد يرون أهل الدنيا إنما يستعظمون موت الأبدان، وهم أشد
استعظاما لموت القلوب، وقد تقدم من كلامنا في صفات الزهاد والعارفين ما فيه كفاية
8

(226)
الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام خطبها بذي قار، وهو متوجه إلى البصرة،
ذكرها الواقدي في كتاب " الجمل ":
فصدع بما أمر به وبلغ رسالات ربه، فلم الله به الصدع، ورتق به الفتق،
وألف به الشمل بين ذوي الأرحام، بعد العداوة الواغرة في الصدور، والضغائن
القادحة في القلوب.
* * *
الشرح:
ذو قار اسم موضع قريب من البصرة، وفيه كانت وقعه للعرب مع الفرس
قبل الاسلام.
وصدع بما أمر به، أي جهر، واصل الصدع الشق.
ولم به: جمع ورتق: خاط وألحم.
والعداوة الواغرة: ذات الوغرة، وهي شدة الحر.
والضغائن: الأحقاد.
والقادحة في القلوب، كأنها تقدح النار فيها كما تقدح النار بالمقدحة.
9

(227)
الأصل:
ومن كلام له عليه السلام كلم به عبد الله بن زمعة، وهو من شيعته، وذلك أنه
قدم عليه في خلافته يطلب منه مالا، فقال عليه السلام:
إن هذا المال ليس لي ولا لك، وإنما هو فئ للمسلمين، وجلب أسيافهم،
فان شركتهم في حربهم، كان لك مثل حظهم، والا فجناة أيديهم
لا تكون لغير أفواههم.
* * *
الشرح:
[عبد الله بن زمعة ونسبه]
هو عبد الله بن زمعة، بفتح الميم، لا كما ذكره الراوندي، وهو عبد الله بن زمعة بن
الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي.
كان الأسود من المستهزئين الذين كفى الله رسوله أمرهم بالموت والقتل، وابنه زمعة
ابن الأسود، قتل يوم بدر كافرا، وكان يدعى زاد الركب، وقتل أخوه عقيل بن الأسود
أيضا كافرا يوم بدر، وقتل الحارث بن زمعة أيضا يوم بدر كافرا، والأسود هو الذي
سمع امرأة تبكي على بعير تضله بمكة بعد يوم بدر، فقال:
أتبكي أن يضل لها بعير * ويمنعها من النوم الهجود (1)

(1) الأبيات في ديوان الحماسة - بشرح المرزوقي 2: 873.
10

ولا تبكي على بدر ولكن * على بدر تقاصرت الجدود
الا قد ساد بعدهم أناس * ولولا يوم بدر لم يسودوا.
وكان عبد الله بن زمعة شيعة لعلى عليه السلام ومن أصحابه، ومن ولد عبد الله
هذا أبو البختري القاضي، وهو وهب بن وهب بن كبير بن عبد الله بن زمعة، قاضى
الرشيد هارون بن محمد المهدى، وكان منحرفا عن علي عليه السلام، وهو الذي أفتى الرشيد
ببطلان الأمان الذي كتبه ليحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب
عليه السلام، واخذه بيده فمزقه.
وقال أمية بن أبي الصلت يرثى قتلى بدر، ويذكر زمعة بن الأسود:
عين بكى لنوفل ولعمرو * ثم لا تبخلي على زمعة (1)
نوفل بن خويلد من بنى أسد بن عبد العزى، ويعرف بابن العدوية، قتله علي عليه
السلام، وعمرو أبو جهل بن هشام، قتله عوف بن عفراء، وأجهز عليه عبد الله
ابن مسعود.
قوله عليه السلام: " وجلب أسيافهم " أي ما جلبته أسيافهم وساقته إليهم، والجلب:
المال المجلوب وجناه الثمر ما يجنى منه، وهذه استعاره فصيحه.

(1) سيرة ابن هشام 2: 407 - بشرح الشيخ محمد محي الدين; ورواية البيت فيه:
عين بكي أبا الحارث * لا تذخري على زمعة
11

(228)
الأصل:
ومن كلام له عليه السلام:
الا وإن اللسان بضعة من الانسان، فلا يسعده القول إذا امتنع، ولا يمهله
النطق إذا اتسع، وانا لأمراء الكلام، وفينا تنشبت عروقه، وعلينا
تهدلت غصونه.
واعلموا رحمكم الله انكم في زمان القائل فيه بالحق قليل، واللسان
عن الصدق كليل، واللازم للحق ذليل، أهله معتكفون على العصيان 7
مصطلحون على الادهان، فتاهم عارم، وشائبهم آثم، وعالمهم منافق، وقارنهم
مماذق، لا يعظم صغيرهم كبيرهم، ولا يعول غنيهم فقيرهم.
* * *
الشرح:
بضعة من الانسان: قطعة منه، والهاء في " يسعده " ترجع إلى اللسان.
والضمير في " امتنع " يرجع إلى الانسان، وكذلك الهاء في " لا يمهله " يرجع
إلى اللسان.
والضمير في " اتسع " يرجع إلى الانسان، وتقديره: فلا يسعد اللسان القول إذا
امتنع الانسان عن أن يقول، ولا يمهل اللسان النطق إذا اتسع للانسان القول،
والمعنى: إن اللسان آلة للانسان، فإذا صرفه صارف عن الكلام، لم يكن اللسان
12

ناطقا، وإذا دعاه داع إلى الكلام نطق اللسان بما في ضمير صاحبه.
وتنشبت عروقه، أي علقت، وروى " انتشبت "، والرواية الأولى ادخل في صناعة
الكلام، لأنها بإزاء تهدلت، والتهدل: التدلي، وقد اخذ هذه الألفاظ بعينها أبو مسلم
الخراساني، فخطب بها في خطبة مشهورة من خطبه.
* * *
[ذكر من ارتج عليهم أو حصروا عند الكلام]
واعلم إن هذا الكلام قاله أمير المؤمنين عليه السلام في واقعة اقتضت أن يقوله،
وذلك أنه أمر ابن أخته جعده بن هبيرة المخزومي أن يخطب الناس يوما، فصعد المنبر،
فحصر ولم يستطع الكلام، فقام أمير المؤمنين عليه السلام فتسنم ذروه المنبر، وخطب
خطبة طويلة، ذكر الرضى رحمه الله منها هذه الكلمات، وروى شيخنا أبو عثمان في
كتاب البيان والتبيين أن عثمان صعد المنبر فارتج عليه فقال " إن أبا بكر وعمر
كانا يعدان لهذا المقام مقالا، وأنتم إلى امام عادل، أحوج منكم إلى امام خطيب، وستأتيكم
الخطبة على وجهها " (1). ثم نزل.
قال أبو عثمان: وروى أبو الحسن المدائني قال: صعد ابن لعدي (2) بن أرطاة المنبر،
فلما رأى الناس حصر فقال: " الحمد لله الذي يطعم هؤلاء ويسقيهم " (3).
وصعد روح بن حاتم المنبر، فلما رأى الناس قد رشقوه بأبصارهم، (4) وصرفوا أسماعهم

(1) البيان والتبيين 2: 250.
(2) كذا في الأصول; وفي البيان والتبيين: " صعد عدي بن أرطاة ".
(3) البيان والتبيين 2: 249.
(4) البيان: " شفنوا أبصارهم " والشفن: أن يرفع المرء طرفه ناظرا إلى الشئ كالمتعجب له.
13

نحوه، قال: " نكسوا رؤوسكم، وغضوا أبصاركم، فان أول مركب صعب، فإذا يسر الله
عز وجل فتح قفل تيسر " (1) ثم نزل.
وخطب مصعب بن حيان أخو مقاتل بن حيان خطبة نكاح فحصر، فقال
" لقنوا موتاكم لا إله إلا الله " فقالت أم الجارية: عجل الله موتك، ألهذا دعوناك (2).
وخطب مروان بن الحكم فحصر، فقال: " اللهم انا نحمدك ونستعينك،
ولا نشرك بك ".
ولما حصر عبد الله بن عامر بن كريز على المنبر بالبصرة - وكان خطيبا - شق عليه
ذلك، فقال له زياد بن أبيه، وكان خليفته أيها الأمير لا تجزع، فلو أقمت على المنبر عامه
من ترى أصابهم أكثر مما أصابك فلما كانت الجمعة تأخر عبد الله بن عامر وقال زياد
للناس: إن الأمير اليوم موعوك، فقيل لرجل من وجوه أمراء القبائل: قم فاصعد المنبر،
فلما صعد حصر، فقال: الحمد لله الذي يرزق هؤلاء.، وبقى ساكتا، فأنزلوه، واصعدوا
آخر من الوجوه، فلما استوى قائما قابل بوجهه الناس، فوقعت عينه على صلعة (3)
رجل، فقال: أيها الناس، إن هذا الأصلع قد منعني الكلام، اللهم فالعن هذه الصلعة.
فأنزلوه وقالوا لوازع اليشكري: قم إلى المنبر فتكلم، فلما صعد ورأي الناس قال: أيها
الناس انى كنت اليوم كارها لحضور الجمعة، ولكن امرأتي حملتني على اتيانها، وانا أشهدكم
انها طالق ثلاثا، فأنزلوه، فقال زياد لعبد الله بن عامر: كيف رأيت؟ قم الان فاخطب
الناس (4).

(1) البيان والتبيين 2 / 249.
(2) البيان والتبيين 2: 250.
(3) الصلعة: موضع الصلع وهو انحسار شعر مقدم الرأس.
(4) البيان والتبيين 2: 251.
14

وقال سهل بن هارون دخل قطرب النحوي على المخلوع (1) فقال يا أمير
المؤمنين كانت عدتك ارفع من جائزتك وهو - يتبسم - فاغتاظ الفضل [بن الربيع] (2)
فقلت له: إن هذا من الحصر والضعف، وليس من الجلد والقوة، اما تراه يفتل أصابعه
ويرشح جبينه (3).
ودخل معبد بن طوق العنبري على بعض الامراء، فتكلم وهو قائم فأحسن،
فلما جلس تلهيع (4) في كلامه، فقال له ما أظرفك قائما، وأموقك (5) قاعدا! قال:
إني إذا قمت جددت، وإذا قعدت هزلت، فقال ما أحسن ما خرجت منها. (6).
* * *
وكان عمرو بن الأهتم المنقري والزبرقان بن بدر عند رسول الله صلى الله عليه وآله،
فسأل عليه السلام عمرا عن الزبرقان فقال: يا رسول الله; انه لمانع لحوزته، مطاع في
أدانيه (7)، فقال الزبرقان: حسدني يا رسول الله فقال عمرو: يا رسول الله، انه
لزمر المروءة، (8) ضيق العطن، لئيم الخال. فنظر رسول الله صلى الله عليه وآله إلى
وجه عمرو، فقال: يا رسول الله; رضيت فقلت أحسن ما علمت، وغضبت فقلت أقبح
ما علمت، وما كذبت في الأولى، ولقد صدقت في الأخرى فقال عليه السلام إن
من البيان لسحرا (9).
وقال خالد بن صفوان ما الانسان لولا اللسان الا صوره ممثلة أو بهيمة مهملة.

(1) الخليفة المخلوع هو الأمين.
(2) من البيان والتبيين.
(3) البيان والتبيين 1: 346.
(4) تلهيع: أفرط وفي البيان " تتعتع ".
(5) اللسان: " أموتك ".
(6) البيان والتبيين 1: 348 واللسان 10: 203.
(7) الميداني: " أدنيه ".
(8) زمر المروءة: قليلها.
(9) الميدان 1: 7.
15

وقال ابن أبي الزناد: كنت كاتبا لعمر بن عبد العزيز، فكان يكتب إلى عبد الحميد
ابن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب في المظالم فيراجعه، فكتب إليه: انه يخيل إلي اني
لو كتبت إليك أن تعطى رجلا شاة لكتبت إلى: أضانا أم معزا؟ فإذا كتبت إليك
بأحدهما، كتبت إلى: أذكرا أم أنثى وإذا كتبت إليك بأحدهما، كتبت إلى:
صغيرا أم كبيرا فإذا كتبت إليك في مظلمة، فلا تراجعني والسلام (1).
واخذ المنصور هذا فكتب إلى سلم بن قتيبة عامله بالبصرة يأمره بهدم دور من
خرج مع إبراهيم بن عبد الله بن الحسن وعقر نخلهم، فكتب إليه: بأيهما ابدا
[بالدور أم بالنخل] (2) يا أمير المؤمنين فكتب إليه: لو قلت لك بالنخل لكتبت
إلى بماذا ابدا بالشهريز أم بالبرني (3) وعزله، وولى محمد بن سليمان (4).
* * *
وخطب عبد الله بن عامر مره فارتج عليه، وكان ذلك اليوم يوم الأضحى، فقال:
لا أجمع عليكم عيا ولؤما: من اخذ شاة من السوق فهي له وثمنها على.
وخطب السفاح أول يوم صعد فيه المنبر فارتج عليه، فقام عمه داود بن علي،
فقال: أيها الناس إن أمير المؤمنين يكره أن يتقدم قوله فيكم فعله، ولأثر الافعال
أجدى عليكم من تشقيق المقال، وحسبكم كتاب الله علما فيكم، وابن عم رسول الله
صلى الله عليه وآله خليفة عليكم.
قال الشاعر:

(1) البيان والتبيين 2: 280.
(2) من البيان والتبيين.
(3) الشهريز: ضرب من التمر والبرني ضرب من التمر أيضا أصفر مدور وهو أجود التمر.
(4) البيان والتبيين 2: 283.
16

وما خير من لا ينفع الدهر عيشه * وإن مات لم يحزن عليه أقاربه
كهام على الأقصى كليل لسانه * وفي بشر الأدنى حديد مخالبه.
وقال أحيحة بن الجلاح:
والصمت أجمل بالفتى * ما لم يكن عي يشينه (1)
والقول ذو خطل إذا * ما لم يكن لب يزينه
.

(1) البيان والتبيين 2: 275
17

(229)
الأصل:
ومن كلام له عليه السلام:
روى ذعلب اليمامي عن أحمد بن قتيبة، عن عبد الله بن يزيد عن مالك بن دحية،
قال كنا عند أمير المؤمنين عليه السلام، فقال وقد ذكر عنده اختلاف الناس:
إنما فرق بينهم مبادئ طينهم، وذلك انهم كانوا فلقه من سبخ ارض
وعذبها، وحزن تربة وسهلها، فهم على حسب قرب أرضهم يتقاربون، وعلى قدر
اختلافها يتفاوتون، فتام الرواء ناقص العقل 7 وماد القامة قصير الهمة، وزاكي
العمل قبيح المنظر، وقريب القعر بعيد السبر، ومعروف الضريبة منكر
الجليبة، وتائه القلب متفرق اللب، وطليق اللسان حديد الجنان،
* * *
الشرح:
ذعلب واحمد وعبد الله ومالك، رجال من رجال الشيعة ومحدثيهم. وهذا الفصل عندي
لا يجوز أن يحمل على ظاهره، وما يتسارع إلى افهام العامة منه، وذلك لان قوله " انهم كانوا
فلقة من سبخ ارض وعذبها "، اما أن يريد به أن كل واحد من الناس ركب من طين،
وجعل صورة بشرية طينية برأس وبطن ويدين ورجلين، ثم نفخت فيه الروح كما فعل بآدم،
أو يريد به أن الطين الذي ركبت منه صورة آدم فقط كان مختلطا من سبخ وعذب، فان
أريد الأول فالواقع خلافه، لان البشر الذين نشاهدهم، والذين بلغتنا اخبارهم لم يخلقوا من
الطين كما خلق آدم، وإنما خلقوا من نطف آبائهم. وليس لقائل إن يقول: لعل تلك النطف
18

افترقت لأنها تولدت من أغذية مختلفه المنبت من العذوبة والملوحة، وذلك لان النطفة
لا تتولد من غذاء بعينه، بل من مجموع الأغذية، وتلك الأغذية لا يمكن أن تكون كلها
من ارض سبخة محضة في السبخية، لان هذا من الاتفاقات التي يعلم عدم وقوعها، كما
يعلم أنه لا يجوز أن يتفق أن يكون أهل بغداد في وقت بعينه على كثرتهم لا يأكلون
ذلك اليوم الا السكباج خاصة، وأيضا فان الأرض السبخة، أو التي الغالب عليها
السبخية، لا تنبت الأقوات أصلا وان أريد الثاني، وهو أن يكون طين آدم عليه
السلام مختلطا في جوهره، مختلفا في طبائعه، فلم كان زيد الأحمق يتولد من الجزء السبخي
وعمرو العاقل يتولد من الجزء العذبي وكيف يؤثر اختلاف طين آدم من ستة آلاف
سنه في أقوام يتوالدون الان.
والذي أراه إن لكلامه عليه السلام تأويلا باطنا، وهو أن يريد به اختلاف
النفوس المدبرة للأبدان، وكنى عنها بقوله " مبادئ طينهم "، وذلك انها لما كانت
الماسكة للبدن من الانحلال، العاصمة له من تفرق العناصر، صارت كالمبدأ وكالعلة له من
حيث إنها كانت علة في بقاء امتزاجه واختلاط عناصره بعضها ببعض، ولذلك إذا فارقت
عند الموت افترقت العناصر، وانحلت الاجزاء، فرجع اللطيف منها إلى الهواء، والكثيف
إلى الأرض.
وقوله " كانوا فلقة من سبخ ارض وعذبها وحزن تربة وسهلها " تفسيره أن
البارئ جل جلاله لما خلق النفوس، خلقها مختلفة في ماهيتها، فمنها الزكية ومنها الخبيثة،
ومنها العفيفة ومنها الفاجرة، ومنها القوية ومنها الضعيفة، ومنها الجريئة المقدمة،
ومنها الفشلة الذليلة (1)، إلى غير ذلك من أخلاق (2) النفوس المختلفة المتضادة.
ثم فسر عليه السلام وعلل تساوى قوم في الأخلاق وتفاوت آخرين فيها فقال:

(1) ساقطة من ا.
(2) ا: " اختلاف ".
19

إن نفس زيد قد تكون مشابهة أو قريبة من المشابهة لنفس عمرو، فإذا هما في الأخلاق
متساويتان، أو متقاربتان، ونفس خالد قد تكون مضادة لنفس بكر أو قريبة من
المضادة، فإذا هما في الأخلاق متباينتان أو قريبتان من المباينة.
والقول باختلاف النفوس في ماهياتها هو مذهب أفلاطون، وقد اتبعه عليه جماعة
من أعيان الحكماء، وقال به كثير من مثبتي النفوس من متكلمي الاسلام.
واما أرسطو واتباعه، فإنهم لا يذهبون إلى اختلاف النفوس في ماهيتها والقول
الأول عندي أمثل.
ثم بين عليه السلام اختلاف آحاد الناس، فقال منهم من هو تام الرواء، لكنه
ناقص العقل والرواء بالهمز والمد: المنظر الجميل، ومن أمثال العرب: " ترى الفتيان
كالنخل وما يدريك ما الدخل ". وقال الشاعر:
عقله عقل طائر * وهو في خلقة الجمل.
وقال أبو الطيب:
وما الحسن في وجه الفتى شرف له * إذا لم يكن في فعله والخلائق (1).
وقال الآخر:
وما ينفع الفتيان حسن وجوههم * إذا كانت الأخلاق غير حسان
فلا يغررنك المرء راق رواؤه * فما كل مصقول الغرار يماني

(1) ديوانه 2: 320.
20

ومن شعر الحماسة:
لقومي أرعى للعلا من عصابة * من الناس يا حار بن عمرو تسودها (1)
وأنتم سماء يعجب الناس رزها * بآبدة تنحى شديد وئيدها (2)
تقطع اطناب البيوت بحاصب * وأكذب شئ برقها ورعودها
فويل أمها خيلا بهاء وشارة * إذا لاقت الأعداء لولا صدودها.
ومنه أيضا:
وكاثر بسعد إن سعدا كثيرة * ولا ترج من سعد وفاء ولا نصرا (3)
يروعك من سعد بن زيد جسومها * وتزهد فيها حين تقتلها خبرا
* * *
قوله عليه السلام " وماد القامة قصير الهمة "، قريب من المعنى الأول، الا انه
خالف بين الألفاظ، فجعل الناقص بإزاء التام، والقصير بإزاء الماد. ويمكن أن يجعل
المعنيان مختلفين، وذلك لأنه قد يكون الانسان تام العقل، الا أن همته قصيرة، وقد
رأينا كثيرا من الناس كذلك، فإذن هذا قسم آخر من الاختلاف غير الأول.
قوله عليه السلام " وزاكي العمل قبيح المنظر " يريد بزكاء أعماله حسنها
وطهارتها، فيكون قد أوقع الحسن بإزاء القبيح، وهذا القسم موجود فاش بين الناس.
قوله " وقريب القعر بعيد السبر "، اي قد يكون الانسان قصير القامة، وهو
مع ذلك داهية باقعة، والمراد بقرب قعره تقارب ما بين طرفيه، فليست بطنه بمديدة

(1) لقراد بن حنش الصاردي - ديوان الحماسة - بشرح المرزوقي 3: 1430.
(2) السماء هنا: الشحاب. والرز والوئيد جميعا: الصوت. ومعنى: " تنحي " تقبل.
(3) ديوان الحماسة - بشرح المرزوقي 3: 1522.
21

ولا مستطيلة، وإذا سبرته واختبرت ما عنده وجدته لبيبا فطنا، لا يوقف على أسراره،
ولا يدرك باطنه، ومن هذا المعنى قول الشاعر (1):
ترى الرجل النحيف فتزدريه * وفي أثوابه أسد مزير (2)
ويعجبك الطرير فتبتليه * فيخلف ظنك الرجل الطرير (3).
وقيل لبعض الحكماء: ما بال القصار من الناس أدهى وأحذق قال: لقرب قلوبهم
من أدمغتهم.
ومن شعر الحماسة:
الا يكن عظمي طويلا فإنني * له بالخصال الصالحات وصول (4)
ولا خير في حسن الجسوم وطولها (5) * إذا لم تزن حسن الجسوم عقول.
ومن شعر الحماسة أيضا وهو تمام البيتين المقدم ذكرهما:
فما عظم الرجال لهم بفخر * ولكن فخرهم كرم وخير
ضعاف الطير أطولها جسوما * ولم تطل البزاة ولا الصقور
بغاث الطير أكثرها فراخا * وأم الصقر مقلات نزور (6)
لقد عظم البعير بغير لب * لم يستغن بالعظم البعير
قوله عليه السلام " ومعروف الضريبة منكر الجليبة "، الجليبة هي الخلق الذي

(1) للعباس بن مرداس، ديوان الحماسة - بشرح المرزوقي 3: 1153.
(2) المزير: الجلد الخفيف النافذ في الأمور.
(3) الطرير: الشاب الناعم.
(4) ديوان الحماسة 3: 1181 - بشرح المرزوقي
ونسبه إلى بعض الفزاريين.
(5) الحماسة: " ونبلها ".
(6) المقلات من القلت وهو الهلاك. والنزور: القليلة الأولاد من النزر، وهو القليل.
22

يتكلفه الانسان ويستجلبه، مثل أن يكون جبانا بالطبع فيتكلف الشجاعة، أو شحيحا
بالطبع فيتكلف الجود، وهذا القسم أيضا عام في الناس.
ثم لما فرغ من الأخلاق المتضادة ذكر بعدها ذوي الأخلاق والطباع المتناسبة المتلائمة،
فقال: " وتائه القلب متفرق اللب "، وهذان الوصفان متناسبان لا متضادان.
ثم قال " و طليق اللسان حديد الجنان "، وهذان الوصفان أيضا متناسبان، وهما
متضادان للوصفين قبلهما، فالأولان ذم، والآخران مدح.
23

(230)
الأصل:
ومن كلام له عليه السلام: قاله وهو يلي غسل رسول الله صلى الله عليه
وآله وتجهيزه:
بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك
من النبوة والأنباء واخبار السماء. خصصت حتى صرت مسليا عمن سواك، وعممت
حتى صار الناس فيك سواء، ولولا انك أمرت بالصبر، ونهيت عن الجزع، لأنفدنا
عليك ماء الشؤون، ولكان الداء مماطلا، والكمد محالفا، وقلا لك ولكنه
مالا يملك رده، ولا يستطاع دفعه.
بأبي أنت وأمي اذكرنا عند ربك، واجعلنا من بالك!
* * *
الشرح:
بأبي أنت وأمي أي بأبي أنت مفدى وأمي.
والأنباء: الاخبار مصدر أنبأ ينبئ، وروى " والأنباء " بفتح الهمزة جمع نبأ،
وهو الخبر. واخبار السماء: الوحي.
قوله عليه السلام " خصصت وعممت "، أي خصت مصيبتك أهل بيتك حتى أنهم
لا يكترثون بما يصيبهم بعدك من المصائب، ولا بما أصابهم من قبل، وعمت هذه
24

المصيبة أيضا الناس، حتى استوى الخلائق كلهم فيها، فهي مصيبة خاصة بالنسبة،
وعامة بالنسبة.
* * *
ومثل قوله " حتى صرت مسليا عمن سواك " قول الشاعر:
رزئنا أبا عمر ولا حي مثله * فلله در الحادثات بمن تقع
فان تك قد فارقتنا وتركتنا * ذوي خلة ما في انسداد لها طمع
لقد جر نفعا فقدنا لك إننا * امنا على كل الرزايا من الجزع.
وقال آخر:
أقول للموت حين نازله * والموت مقدامة على البهم
اظفر بمن شئت إذ ظفرت به * ما بعد يحيى للموت من ألم.
ولى في هذا المعنى كتبته إلى صديق غاب عنى من جملة أبيات:
وقد كنت أخشى من خطوب غوائل * فلما نأى عنى أمنت من الحذر
فأعجب لجسم عاش بعد حياته * واعجب لنفع حاصل جره ضرر.
* * *
وقال إسحاق بن خلف يرثى بنتا له (1):
أمست أميمة معمورا بها الرجم * لقا صعيد عليها الترب مرتكم (2)
يا شقة النفس إن النفس والهة * حرى عليك وإن الدمع منسجم (3)
قد كنت أخشى عليها أن تقدمني * إلى الحمام فيبدي وجهها العدم
فالآن نمت فلا هم يؤرقني * تهدأ العيون إذا ما أودت الحرم (4)

(1) الكامل 4: 20.
(2) الرجم: القبر واللقى: الشئ الملقى.
(3) الشقة: نصف الشئ.
(4) أودت: هلكت.
25

للموت عندي أياد لست أكفرها * أحيا سرورا وبي مما أتى ألم.
* * *
وقال آخر:
فلو انها إحدى يدي رزيتها * ولكن يدي بانت على أثرها يدي
فآليت لا آسى على إثر هالك * قدي الان من حزن على هالك قدي.
* * *
وقال آخر:
أجاري ما ازداد الا صبابة * عليك وما تزداد الا تنائيا
أجاري لو نفس فدت نفس ميت * فديتك مسرورا بنفسي وماليا
وقد كنت أرجوا أن املاك حقبة * فحال قضاء الله دون رجائيا
الا فليمت من شاء بعدك إنما * عليك من الاقدار كان حذاريا
* * *
وقال آخر:
لتغد المنايا حيث شاءت فإنها * محللة بعد الفتى ابن عقيل
فتى كان مولاه يحل بنجوه * فحل الموالى بعده بمسيل.
* * *
قوله عليه السلام " ولكان الداء مماطلا "; أي مماطلا بالبرء، أي لا يجيب
إلى الاقلاع.
والإبلال: الإفاقة.
26

[ذكر طرف من سيره النبي عليه السلام عند موته]
فاما وفاه رسول الله صلى الله عليه وآله وما ذكره أرباب السيرة فيها فقد ذكرنا
طرفا منه فيما تقدم; ونذكر ها هنا طرفا آخر مما أورده أبو جعفر محمد بن جرير الطبري
في تاريخه.
قال أبو جعفر: روى أبو مويهبة (1) مولى رسول الله صلى الله عليه وآله، قال:
أرسل (2) إلى رسول الله صلى الله عليه وآله في جوف الليل، فقال: " يا أبا مويهبة انى
قد أمرت أن استغفر لأهل البقيع، فانطلق معي " فانطلقت معه، فلما وقف بين أظهرهم،
قال: " السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه
أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى " ثم اقبل
على فقال: " يا أبا مويهبة انى قد أوهبت (3) مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها والجنة (4)،
فخيرت بينها وبين الجنة، فاخترت الجنة "، فقلت: بأبي أنت وأمي فخذ مفاتيح
خزائن الدنيا والخلد فيها والجنة جميعا، فقال: " لا يا أبا مويهبة، اخترت لقاء ربى "
ثم استغفر لأهل البقيع وانصرف، فبدا بوجعه الذي قبضه الله فيه (5).
وروى محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن
عائشة، قالت: رجع رسول الله صلى الله عليه وآله تلك الليلة من البقيع، فوجدني وانا
أجد صداعا في رأسي، وأقول: وا رأساه فقال: بل انا وا رأساه ثم قال: " ما ضرك
لو مت قبلي، فقمت عليك فكفنتك، وصليت عليك ودفنتك " فقلت: والله لكأني

(1) ذكره الطبري 1: 1780 (طبع أوروبا). في موالي رسول الله صلى الله عليه وآله. وقال:
" قيل إنه كان من مولدي مزينة، فاشتراه رسول الله صلى الله عليه وآله فأعتقه ".
(2) الطبري: " بعثني ".
(3) الطبري: " أتيت ".
(4) الطبري: " ثم الجنة ".
(5) تاريخ الطبري 1: 1799، 1800
27

بك - لو كان ذلك - رجعت إلى منزلي، فأعرست ببعض نسائك فتبسم عليه السلام، وتتام
به وجعه، وهو مع ذلك يدور على نسائه حتى استعز (1) به; وهو في بيت ميمونة، فدعا نساءه
فاستأذنهن أن يمرض في بيتي، فأذن له، فخرج بين رجلين من أهله، أحدهما الفضل
ابن العباس ورجل آخر، تخط قدماه في الأرض، عاصبا رأسه حتى دخل بيته.
قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبه فحدثت عبد الله بن العباس بهذا الحديث فقال:
أتدري من الرجل الاخر قلت: لا، قال علي بن أبي طالب، لكنها كانت لا تقدر أن
تذكره بخير وهي تستطيع قالت: ثم غمر (2) رسول الله صلى الله عليه وآله واشتد به الوجع،
فقال " أهريقوا على سبع قرب من آبار شتى حتى اخرج إلى الناس، فاعهد إليهم " قالت:
فأقعدته في مخضب لحفصة بنت عمر، وصببنا عليه الماء حتى طفق يقول بيده:
" حسبكم حسبكم ".
قلت: المخضب: المركن (4).
وروى عطاء، عن الفضل بن عباس رحمه الله قال جائني رسول الله صلى الله عليه
وآله حين بدا به مرضه، فقال: اخرج، فخرجت إليه، فوجدته موعوكا قد عصب
رأسه فقال: خذ بيدي، فأخذت بيده حتى جلس على المنبر، ثم قال: ناد في الناس،
فصحت فيهم فاجتمعوا إليه فقال: أيها الناس، انى احمد إليكم الله، انه قد دنا مني
حقوق من بين أظهركم; فمن كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت
شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه، ومن كنت اخذت له مالا فهذا مالي
فليأخذ منه، ولا يقل رجل: انى أخاف الشحناء من قبل رسول الله. الا وان
الشحناء ليست من طبيعتي ولا من شاني، الا وان أحبكم إلى من اخذ منى حقا

(1) استعز به: اشتد عليه وجعه وغلبه على نفسه.
(2) غمر: اشتد به الوجع.
(3) تاريخ الطبري 1: 1800، 1801.
(4) المركن: الإجانة التي تغسل فيها الثياب.
28

إن كان له، أو حللني فلقيت الله وانا طيب النفس، وقد أراني إن هذا غير مغن عنى
حتى أقوم فيكم به مرارا " ثم نزل فصلى الظهر. ثم رجع فجلس على المنبر، فعاد لمقالته
الأولى في الشحناء وغيرها، فقام رجل، فقال: يا رسول الله، إن لي عندك ثلاثة دراهم،
فقال: انا لا نكذب قائلا ولا نستحلفه على يمين، فيم كانت لك عندي قال:
أتذكر يا رسول الله يوم مر بك المسكين، فأمرتني فأعطيته ثلاثة دراهم قال: اعطه
يا فضل، فأمرته فجلس، ثم قال: " أيها الناس من كان عنده شئ فليؤده ولا
يقل: فضوح الدنيا، فان فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة " فقام رجل فقال:
يا رسول الله، عندي ثلاثة دراهم غللتها في سبيل الله، قال: ولم غللتها قال كنت
محتاجا إليها، قال: خذها منه يا فضل ثم قال " أيها الناس، من خشي من
نفسه شيئا فليقم ادعو له " فقام رجل فقال: يا رسول الله، انى لكذاب وإني
لفاحش، وإني لنؤوم. فقال: " اللهم ارزقه صدقا وصلاحا (1)، وأذهب عنه النوم إذا أراد ".
ثم قام رجل، فقال: يا رسول الله، انى لكذاب، وإني لمنافق، وما شئ - أو قال وإن
من شئ - الا وقد جئته (2). فقام عمر بن الخطاب فقال: فضحت نفسك أيها الرجل
فقال النبي صلى الله عليه وآله (يا بن الخطاب فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة،
اللهم ارزقه صدقا وايمانا وصير امره إلى خير) (3).
وروى عبد الله بن مسعود قال نعى إلينا نبينا وحبيبنا نفسه قبل موته بشهر،
جمعنا في بيت امنا عائشة فنظر إلينا [وشدد] ودمعت عينه، وقال مرحبا بكم
حياكم الله، رحمكم الله، آواكم الله، حفظكم الله، رفعكم الله، نفعكم الله

(1) الطبري: (وإيمانا).
(2) الطبري: (جنيته).
(3) تاريخ الطبري 1: 1801 - 1803 وبقية الخبر: (فقال عمر: كلمة فضحك رسول
الله ثم قال: عمر معي وانا مع عمر، والحق مع عمر حيث كان).
(4) من تاريخ الطبري.
29

وفقكم الله، رزقكم الله، هداكم الله، نصركم الله، سلمكم الله، تقبلكم الله، أوصيكم
بتقوى الله، وأوصي الله بكم، واستخلفه عليكم، انى لكم منه نذير وبشير، الا تعلوا
على الله في عباده وبلاده، فإنه قال لي ولكم: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين
لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين) (1) فقلنا يا رسول الله،
فمتى اجلك قال (قد دنا الفراق، والمنقلب إلى الله والى سدرة المنتهى، والرفيق
الأعلى وجنة المأوى والعيش المهنا) قلنا فمن يغسلك يا رسول الله قال (أهلي
الأدنى فالأدنى) قلنا ففيم نكفنك قال (في ثيابي هذه إن شئتم، أو في بياض
مصر، أو حله يمنية) قلنا فمن يصلى عليك فقال إذا (غسلتموني وكفنتموني
فضعوني على سريري في بيتي هذا، على شفير قبري، ثم اخرجوا عنى ساعة، فان أول
من يصلى على جليسي وحبيبي وخليلي جبرائيل، ثم ميكائيل، ثم إسرافيل، ثم ملك
الموت مع جنوده من الملائكة، ثم ادخلوا على فوجا فوجا، فصلوا على وسلموا ولا تؤذوني
بتزكية ولا ضجة ولا رنة، وليبدأ بالصلاة على رجال أهل بيتي ثم نساؤهم، ثم أنتم بعد،
واقرئوا أنفسكم منى السلام، ومن غاب من أهلي فاقرئوه منى السلام، ومن تابعكم
بعدي على ديني فاقرئوه منى السلام فإني أشهدكم انى قد سلمت على من بايعني على ديني
من اليوم إلى يوم القيامة) قلنا فمن يدخلك قبرك يا رسول الله قال (أهلي مع
ملائكة كثيرة يرونكم ولا ترونهم) (2).
قلت العجب لهم كيف لم يقولوا له في تلك الساعة فمن يلي أمورنا بعدك لأن ولاية
الامر أهم من السؤال عن الدفن، وعن كيفية الصلاة عليه، وما اعلم ما أقول في
هذا المقام
قال أبو جعفر الطبري وروى سعيد بن جبير، قال كان ابن عباس رحمه الله يقول

(1) سورة القصص 83.
(2) تاريخ الطبري 1 1804 - 1806.
30

يوم الخميس وما يوم الخميس ثم يبكى حتى تبل دموعه الحصباء، فقلنا له وما يوم
الخميس قال يوم اشتد برسول الله صلى الله عليه وآله وجعه، فقال (ائتوني باللوح والدواة
- أو قال بالكتف والدواة - اكتب لكم ما لا تضلون بعدي، فتنازعوا، فقال
اخرجوا ولا ينبغي عند نبي أن يتنازع قالوا ما شانه أهجر (1) استفهموه، فذهبوا يعيدون
عليه فقال (دعوني فما انا فيه خير مما تدعونني إليه) ثم أوصي بثلاث; قال (اخرجوا
المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو مما كنت أجيزهم)، وسكت عن الثالثة
عمدا، أو قالها ونسيتها (2).
وروى أبو جعفر، عن ابن عباس قال خرج علي بن أبي طالب عليه السلام
من عند رسول الله صلى الله عليه وآله في وجعه الذي توفى فيه، فقال له الناس يا أبا الحسن،
كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وآله قال أصبح بحمد الله بارئا فاخذ العباس
بيده وقال الا ترى انك بعد ثلاث عبد العصا انى لأعرف الموت في وجوه بنى
عبد المطلب، فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فسله فيمن يكن هذا الامر، فإن كان
فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا وصى بنا، فقال على أخشى أن أسأله فيمنعناها
فلا يعطيناها الناس (3) ابدا.
وروت عائشة قالت أغمي على رسول الله صلى الله عليه وآله والدار مملوءة من النساء
أم سلمة، وميمونة، وأسماء بنت عميس، وعندنا عمه العباس بن عبد المطلب، فاجمعوا
على أن يلدوه، فقال العباس لا ألده فلدوه، فلما أفاق قال من صنع بي هذا قالوا عمك
قال لنا هذا دواء جاءنا من نحو هذه الأرض وأشار إلى ارض الحبشة قال فلم فعلتم
ذلك فقال العباس خشينا يا رسول الله، أن يكون بك ذات الجنب، فقال (إن ذلك

(1) هجر أي اختلف كلامه.
(2) تاريخ الطبري 1: 1806.
(3) تاريخ الطبري 1: 1807.
31

لداء ما كان الله ليقذفني به، لا يبقى أحد في البيت الا لد الا عمى) قال فلقد لدت
ميمونة وانها لصائمة لقسم رسول الله صلى الله عليه وآله عقوبة لهم بما صنعوا.
قال أبو جعفر وقد وردت رواية أخرى عن عائشة، قالت لددنا رسول الله صلى
الله عليه وآله في مرضه، فقال لا تلدوني، فقلنا كراهية المريض للدواء; فلما أفاق قال
لا يبقى أحد الا لد غير العباس عمى فإنه لم يشهدكم.
قال أبو جعفر والذي تولى اللدود بيده أسماء (1) بنت عميس.
قلت العجب من تناقض هذه الروايات في إحداها أن العباس لم يشهد اللدود،
فلذلك أعفاه رسول الله صلى الله عليه وآله من أن يلد ولد من كان حاضرا، وفى
إحداها أن العباس حضر لده عليه السلام، وفى هذه الرواية التي تتضمن حضور العباس في
لده كلام مختلف، فيها أن العباس قال لا ألده، ثم قال فلد فأفاق، فقال من صنع
بي هذا قالوا عمك أنه قال هذا دواء جاءنا من ارض الحبشة لذات الجنب; فكيف
يقول لا ألده، ثم يكون هو الذي أشار بان يلد، وقال هذا دواء جاءنا من ارض
الحبشة لكذا.
وسالت النقيب أبا جعفر يحيى بن أبي زيد البصري عن حديث اللدود، فقلت
ألد علي بن أبي طالب ذلك اليوم فقال معاذ الله لو كان لد لذكرت عائشة ذلك فيما
تذكره وتنعاه عليه قال وقد كانت فاطمة حاضرة في الدار، وابناها معها، افتراها
لدت أيضا، ولد الحسن والحسين كلا، وهذا أمر لم يكن، وإنما هو حديث ولده من
ولده تقربا إلى بعض الناس، والذي كان إن أسماء بنت عميس أشارت بان يلد،
وقالت هذا دواء جاءنا من ارض الحبشة جاء به جعفر بن أبي طالب، وكان بعلها،

(1) اللدود بالفتح من الأدوية: ما يسقاه المريض في أحد شقي الفم.
(2) تاريخ الطبري 1: 1808، 1809.
32

وساعدتها على تصويب ذلك والإشارة به ميمونة بنت الحارث، فلد رسول الله صلى الله عليه
وآله، فلما أفاق أنكره، وسال عنه فذكر له كلام أسماء، وموافقة ميمونة لها، فامر
أن تلد الامرأتان لا غير، فلدتا ولم يجر غير ذلك والباطل لا يكاد يخفى على مستبصر.
وروت عائشة قالت كثيرا ما كنت اسمع رسول الله يقول إن الله لم يقبض
نبيا حتى يخيره، فلما احتضر رسول الله صلى الله عليه وآله كان آخر كلمه سمعتها منه
(بل الرفيق الأعلى) فقلت إذا والله لا يختارنا، وعلمت أن ذلك ما كان يقوله
من قبل (1).
وروى الأرقم بن شرحبيل، قال سالت ابن عباس رحمه الله هل أوصي رسول
الله صلى الله عليه وآله فقال لا قلت فكيف كان فقال إن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم قال في مرضه (ابعثوا إلى علي فادعوه) فقالت عائشة لو بعثت إلى أبى بكر
وقالت حفصة لو بعثت إلى عمر فاجتمعوا عنده جميعا - هكذا لفظ الخبر على ما أورده
الطبري في التاريخ، ولم يقل (فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله إليهما) - قال ابن
عباس فقال رسول الله صلى الله عليه وآله (انصرفوا، فان تكن لي حاجه ابعث
إليكم) فانصرفوا وقيل لرسول الله الصلاة فقال (مروا أبا بكر أن يصلى بالناس)
فقالت عائشة إن أبا بكر رجل رقيق فمر عمر، فقال مروا عمر، فقال عمر: ما كنت
لأتقدم وأبو بكر شاهد، فتقدم أبو بكر، فوجد رسول الله صلى الله عليه وآله خفه، فخرج،
فلما سمع أبو بكر حركته تأخر، فجذب رسول الله صلى الله عليه وآله ثوبه فأقامه مكانه،
وقعد رسول الله صلى الله عليه وآله، فقرا من حيث انتهى أبو بكر (2).
قلت: عندي في هذه الواقعة كلام، ويعترضني فيها شكوك واشتباه; إذا كان قد

(1) تاريخ الطبري 1: 1810.
(2) تاريخ الطبري 1811، 1812
33

أراد أن يبعث إلى علي ليوصي إليه، فنفست عائشة عليه، فسالت أن يحضر أبوها،
ونفست حفصة عليه فسالت أن يحضر أبوها، ثم حضرا ولم يطلبا، فلا شبهة أن ابنتيهما
طلبتاهما هذا هو الظاهر، وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وقد اجتمعوا كلهم عنده
(انصرفوا فان تكن لي حاجة بعثت إليكم)، قول من عنده ضجر وغضب باطن
لحضورهما، وتهمة للنساء في استدعائهما، فكيف يطابق هذا الفعل وهذا القول ما روى من
أن عائشة قالت لما عين على أبيها في الصلاة إن أبى رجل رقيق، فمر عمر وأين
ذلك الحرص من هذا الاستعفاء والاستقالة وهذا يوهم صحة ما تقوله الشيعة من أن
صلاة أبى بكر كانت عن أمر عائشة، وان كنت لا أقول بذلك، ولا اذهب إليه الا إن
تأمل هذا الخبر ولمح مضمونه يوهم ذلك، فلعل هذا الخبر غير صحيح. وأيضا ففي الخبر ما لا
يجيزه أهل العدل، وهو أن يقول (مروا أبا بكر)، ثم يقول عقيبه (مروا عمر)،
لان هذا نسخ الشئ قبل تقضى وقت فعله.
فان قلت قد مضى من الزمان مقدار ما يمكن الحاضرين فيه أن يأمروا أبا بكر،
وليس في الخبر الا انه أمرهم أن يأمروه، ويكفي في صحة ذلك مضى زمان يسير جدا
يمكن فيه أن يقال يا أبا بكر صل بالناس.
قلت الاشكال ما نشأ من هذا الامر، بل من كون أبى بكر مأمورا بالصلاة، وإن كان
بواسطة، ثم نسخ عنه الامر بالصلاة قبل مضى وقت يمكن فيه أن يفعل الصلاة
فان قلت: لم قلت في صدر كلامك هذا انه أراد أن يبعث إلى علي ليوصي إليه
ولم لا يجوز أن يكون بعث إليه لحاجة له
قلت لان مخرج كلام ابن عباس هذا المخرج، الا ترى أن الأرقم بن شرحبيل
الراوي لهذا الخبر قال سالت ابن عباس هل أوصي رسول الله صلى الله عليه وآله
فقال لا، فقلت فكيف كان فقال إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال في مرضه
34

(ابعثوا إلى علي فادعوه)، فسألته المرأة أن يبعث
إلى أبيها، وسألته الأخرى أن يبعث إلى أبيها، فلولا أن ابن عباس فهم من قوله صلى الله عليه وآله (ابعثوا إلى علي
فادعوه) انه يريد الوصية إليه، لما كان لاخبار الأرقم بذلك متصلا بسؤاله عن
الوصية معنى.
وروى القاسم بن محمد بن أبي بكر، عن عائشة، قالت رأيت رسول الله صلى الله
عليه وآله يموت وعنده قدح فيه ماء يدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء، ويقول
(اللهم أعني على سكرة الموت (1)!).
وروى عروة عن عائشة، قالت اضطجع رسول الله صلى الله عليه وآله يوم موته في
حجري، فدخل على رجل من آل أبي بكر، في يده مسواك أخضر، فنظر رسول الله
صلى الله عليه وآله إليه نظرا عرفت انه يريده، فقلت له أتحب أن أعطيك هذا
المسواك قال نعم، فأخذته فمضغته حتى ألنته ثم أعطيته إياه، فاستن به كأشد ما رايته
يستن بسواك قبله، ثم وضعه، ووجدت رسول الله صلى الله عليه وآله يثقل في حجري،
فذهبت انظر في وجهه، فإذا بصره قد شخص، وهو يقول (بل الرفيق الأعلى من
الجنة) فقلت لقد خيرت فاخترت والذي بعثك بالحق وقبض رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم (2).
قال الطبري وقد وقع الاتفاق على أنه كان يوم الاثنين من شهر ربيع الأول،
واختلف في أي الأثانين كان فقيل لليلتين خلتا من الشهر، وقيل لاثنتي عشره (3)
خلت من الشهر واختلف في تجهيزه أي يوم كان فقيل يوم الثلاثاء الغد من وفاته،
وقيل إنما دفن بعد وفاته بثلاثة أيام، اشتغل القوم عنه بأمر البيعة. وقد روى الطبري ما يدل على ذلك عن زياد بن كليب، عن إبراهيم النخعي أن

(1) تاريخ الطبري 3: 1812.
(2) تاريخ الطبري 1: 1814.
(3) تاريخ الطبري 1: 1815
35

أبا بكر جاء بعد ثلاث إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، وقد أربد بطنه، فكشف
عن وجهه، وقبل عينيه، وقال بأبي أنت وأمي طبت حيا وطبت ميتا (1)
قلت وانا أعجب من هذا هب إن أبا بكر ومن معه اشتغلوا بأمر البيعة، فعلي
ابن أبي طالب والعباس وأهل البيت بما ذا اشتغلوا حتى يبقى النبي صلى الله عليه وآله
مسجى بينهم ثلاثة أيام بلياليهن لا يغسلونه ولا يمسونه.
فان قلت الرواية التي رواها الطبري في حديث الأيام الثلاثة، إنما كانت قبل
البيعة لان لفظ الخبر عن إبراهيم، وانه لما قبض النبي صلى الله عليه وآله كان أبو بكر
غائبا فجاء بعد ثلاث، ولم يجترئ أحد أن يكشف عن وجهه عليه السلام حتى أربد
بطنه، فكشف عن وجهه وقبل عينيه، وقال بأبي أنت وأمي طبت حيا وطبت
ميتا، ثم خرج إلى الناس، فقال من كان يعبد محمدا فان محمدا قد مات
الحديث بطوله.
قلت لعمري إن الرواية هكذا أوردها، ولكنها مستحيلة، لان أبا بكر فارق
رسول الله صلى الله عليه وآله وهو حي، ومضى إلى منزله بالسنح في يوم الاثنين، وهو
اليوم الذي مات فيه رسول الله صلى الله عليه وآله، لأنه رآه بارئا صالح الحال هكذا
روى الطبري في كتابه وبين السنح وبين المدينة نصف فرسخ، بل هو طائفة من المدينة،
فكيف يبقى رسول الله صلى الله عليه وآله ميتا يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء
لا يعلم به أبو بكر، وبينهما غلوة ثلاثة أسهم وكيف يبقى طريحا بين أهله ثلاثة أيام
لا يجترئ أحد منهم أن يكشف عن وجهه، وفيهم علي بن أبي طالب وهو روحه بين
جنبيه، والعباس عمه القائم مقام أبيه، وابنا فاطمة، وهما كولديه، وفيهم فاطمة بضعة منه،
أفما كان في هؤلاء من يكشف عن وجهه، ولا من يفكر في جهازه، ولا من يأنف له من

(1) تاريخ الطبري 1: 1817.
36

انتفاخ بطنه واخضرارها وينتظر بذلك حضور أبى بكر ليكشف عن وجهه
انا لا أصدق ذلك، ولا يسكن قلبي إليه والصحيح إن دخول أبى بكر إليه وكشفه
عن وجهه، وقوله ما قال، إنما كان بعد الفراغ من البيعة، وانهم كانوا مشتغلين بها
كما ذكر في الرواية الأخرى.
وبقى الاشكال في قعود علي عليه السلام عن تجهيزه إذا كان أولئك مشتغلين
بالبيعة، فما الذي شغله هو
فأقول يغلب على ظني - إن صح ذلك - أن يكون قد
فعله شناعة على أبى بكر وأصحابه،
حيث فاته الامر، واستؤثر عليه به، فأراد أن يتركه صلى الله عليه وآله بحاله لا يحدث في
جهازه أمرا ليثبت عند الناس أن الدنيا شغلتهم عن نبيهم ثلاثة أيام، حتى آل امره
إلى ما ترون; وقد كان عليه السلام يتطلب الحيلة في تهجين أمر أبى بكر حيث وقع في
السقيفة ما وقع بكل طريق، ويتعلق بأدنى سبب من أمور كان يعتمدها، وأقوال كان
يقولها، فلعل هذا من جملة ذلك، أو لعله إن صح ذلك، (1 فإنما تركه صلى الله عليه وآله
بوصية منه إليه وسر كانا يعلمانه في ذلك.
فان قلت فلم لا يجوز أن يقال - إن صح ذلك -: انه 1) اخر جهازه ليجتمع رأيه
ورأي المهاجرين على كيفية غسله وتكفينه، ونحو ذلك من أموره
قلت لان الرواية الأولى تبطل هذا الاحتمال، وهي قوله صلى الله عليه وآله لهم قبل
موته (يغسلني أهلي الأدنى منهم فالأدنى، وأكفن في ثيابي أو في بياض مصر أو في حله يمنية).
قال أبو جعفر فاما الذين تولوا غسله فعلي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب،
والفضل بن العباس، وقثم بن العباس، وأسامة بن زيد، وشقران مولى رسول الله صلى الله

(1 - 1) ساقط من ب، وأثبته من ا.
37

عليه وآله، وحضر أوس بن خولي أحد الخزرج، فقال لعلي بن أبي طالب أنشدك الله
يا علي وحظنا من رسول الله وكان أوس من أصحاب بدر، فقال له ادخل، فدخل فحضر
غسله عليه الصلاة السلام، وصب الماء عليه أسامة وشقران، و كان علي عليه السلام يغسله
وقد أسنده إلى صدره، وعليه قميصه يدلكه من ورائه، لا يفضي بيده إلى بدن رسول الله
صلى الله عليه وآله، وكان العباس وابناه الفضل وقثم يساعدونه على قلبه من جانب
إلى جانب (1).
قال أبو جعفر وروت عائشة انهم اختلفوا في غسله هل يجرد (2) أم لا فألقى الله
عليهم السنة حتى ما منهم رجل الا وذقنه على صدره، ثم كلمهم متكلم من ناحية البيت
لا يدرى من هو: غسلوا النبي وعليه ثيابه فقاموا إليه فغسلوه، وعليه قميصه فكانت
عائشة تقول لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله الا نساؤه (3).
قلت حضرت عند محمد بن معد العلوي في داره ببغداد، وعنده حسن بن معالى
الحلي المعروف بابن الباقلاوي وهما يقرآن هذا الخبر، وهذه الأحاديث من تاريخ الطبري
فقال محمد بن معد لحسن بن معالى: ما تراها قصدت بهذا القول قال حسدت أباك
على ما كان يفتخر به من غسل رسول الله صلى الله عليه وآله فضحك محمد فقال هبها
استطاعت أن تزاحمه في الغسل، هل تستطيع أن تزاحمه في غيره من خصائصه.
قال أبو جعفر الطبري ثم كفن صلى الله عليه وآله في ثلاثة أثواب ثوبين
صحاريين (4) وبرد حبره (5) أدرج (6) فيها إدراجا، ولحد له على عاده أهل المدينة
فلما فرغوا منه وضعوه على سريره. (7).

(1) تاريخ الطبري 1: 1830، 1833.
(2) الطبري: (أنجرد).
(3) تاريخ الطبري 1: 1831.
(4) صحاريان: منسوبان إلى صحار، قرية في اليمن.
(5) حبرة بوزن عنبة، أي مخطط وهو برد يمان أيضا على الوصف أو الإضافة.
(6) أي لف فيه.
(7) تاريخ الطبري 1: 1831.
38

واختلفوا في دفنه، فقال قائل ندفنه في مسجده، وقال قائل ندفنه في البقيع مع
أصحابه، وقال أبو بكر سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول (ما قبض نبي الا
ودفن حيث قبض) فرفع فراش رسول الله الذي توفى فيه، فحفر له تحته.
قلت كيف اختلفوا في موضع دفنه، وقد قال لهم (فضعوني على سريري في بيتي
هذا، على شفير قبري) وهذا تصريح بأنه يدفن في البيت الذي جمعهم فيه، وهو بيت
عائشة; فاما أن يكون ذلك الخبر غير صحيح، أو يكون الحديث الذي تضمن انهم اختلفوا
في موضع دفنه، وان أبا بكر روى لهم أنه قال (الأنبياء يدفنون حيث يموتون) غير صحيح،
لان الجمع بين هذين الخبرين لا يمكن.
وأيضا فهذا الخبر ينافي ما ورد في موت جماعة من الأنبياء نقلوا من موضع موتهم
إلى مواضع اخر، وقد ذكر الطبري بعضهم في اخبار أنبياء بني إسرائيل.
وأيضا فلو صح هذا الخبر لم يكن مقتضيا ايجاب دفن النبي صلى الله عليه وآله حيث
قبض، لأنه ليس بأمر بل هو اخبار محض، اللهم الا أن يكونوا فهموا من مخرج
لفظه عليه السلام ومن مقصده انه أراد الوصية لهم بذلك، والامر بدفنه حيث يقبض.
قال أبو جعفر ثم دخل (1) الناس فصلوا عليه أرسالا، حتى إذا فرغ الرجال ادخل
النساء، حتى إذا فرغ النساء ادخل الصبيان، ثم ادخل العبيد، ولم يؤمهم (2) امام،
ثم دفن عليه السلام وسط الليل من ليله الأربعاء (3).
قال أبو جعفر وقد روت عمرة بنت عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة، عن عائشة
قالت ما علمنا بدفن رسول الله صلى الله عليه وآله حتى سمعنا صوت المساحي في جوف
الليل ليلة الأربعاء (4).

(1) الطبري: (ودخل).
(2) الطبري: (ولم يؤم الناس).
(3) تاريخ الطبري 1: 1832.
(4) تاريخ الطبري 1: 1833.
39

قلت وهذا أيضا من العجائب، لأنه إذا مات يوم الاثنين وقت ارتفاع الضحى
- كما ذكر في الرواية - ودفن ليلة الأربعاء وسط الليل، فلم يمض عليه ثلاثة أيام كما ورد
في تلك الرواية.
وأيضا فمن العجب كون عائشة، وهو في بيتها لا تعلم بدفنه حتى سمعت صوت المساحي،
أتراها أين كانت وقد سالت عن هذا جماعة، فقالوا لعلها كانت في بيت يجاور بيتها
عندها نساء كما جرت عادة أهل الميت; وتكون قد اعتزلت بيتها وسكنت ذلك البيت،
لان بيتها مملوء بالرجال من أهل رسول الله صلى الله عليه وآله وغيرهم من الصحابة، وهذا
قريب، ويحتمل أن يكون.
قال الطبري: ونزل في قبر رسول الله صلى الله عليه وآله علي بن أبي طالب عليه
السلام، والفضل بن عباس، وقثم أخوه، وشقران مولاهم. وقال أوس بن خولي لعلى
عليه السلام أنشدك الله يا علي وحظنا من رسول الله صلى الله عليه وآله فقال له انزل،
فنزل مع القوم، واخذ شقران قطيفة كان رسول الله صلى الله عليه وآله يلبسها، فقذفها
معه في القبر، وقال لا يلبسها أحد بعده (1).
قلت من تأمل هذه الأخبار، علم أن عليا عليه السلام كان الأصل والجملة والتفصيل
في أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وجهازه، الا ترى أن أوس بن خولي لا يخاطب
أحدا من الجماعة غيره، ولا يسال غيره في حضور الغسل والنزول في القبر ثم انظر إلى كرم
علي عليه السلام وسجاحة أخلاقه وطهارة شيمته، كيف لم يضن بمثل هذه المقامات
الشريفة; عن أوس وهو رجل غريب من الأنصار، فعرف له حقه واطلبه (2) بما طلبه
فكم بين هذه السجية الشريفة، وبين قول من قال لو استقبلت من أمري ما استدبرت

(1) تاريخ الطبري 1: 1833.
(2) أطلبه: أجابه إلى ما طلب.
40

ما غسل رسول الله صلى الله عليه وآله الا نساؤه ولو كان في ذلك المقام غيره من أولي
الطباع الخشنة، وأرباب الفظاظة والغلظة، وقد سال أوس ذلك - لزجر وانتهر
ورجع خائبا.
قال الطبري وكان المغيرة بن شعبة يدعى انه أحدث الناس عهدا برسول الله
صلى الله عليه وآله، ويقول للناس إنني اخذت خاتمي فألقيته في القبر، وقلت إن خاتمي
قد سقط منى، وإنما طرحته عمدا; لامس رسول الله صلى الله عليه وآله، فأكون آخر
الناس به عهدا (1).
قال الطبري فروى عبد الله بن الحارث بن نوفل، قال اعتمرت مع علي بن أبي طالب
عليه السلام في زمان عمر - أو عثمان - فنزل على أخته أم هانئ بنت أبي طالب،
فلما فرغ من عمرته رجع وقد سكب له غسل، فلما فرغ من غسله دخل عليه نفر من
أهل العراق، فقالوا يا أبا الحسن، جئناك نسألك عن أمر نحب أن تخبرنا به فقال
أظن المغيرة يحدثكم انه أحدث الناس عهدا برسول الله صلى الله عليه وآله قالوا
اجل، عن ذا جئنا نسألك قال كذب أحدث الناس عهدا برسول الله صلى الله
عليه وآله قثم بن العباس، كان آخرنا خروجا من قبره (2).
قلت بحق ما عاب أصحابنا رحمهم الله المغيرة وذموه وانتقصوه فإنه كان على طريقة
غير محمودة، وأبى الله الا أن يكون كاذبا على كل حال، لأنه إن لم يكن أحدثهم بالنبي
عهدا، فقد كذب في دعواه انه أحدثهم به عهدا، وإن كان أحدثهم به عهدا كما
يزعم فقد اعترف بأنه كذب في قوله لهم (سقط خاتمي منى); وإنما ألقاه عمدا، وأين
المغيرة ورسول الله صلى الله عليه وآله ليدعى القرب منه، وانه أحدث الناس عهدا به

(1) تاريخ الطبري 1: 1833.
(2) تاريخ الطبري 1: 1833، 1834.
41

وقد علم الله تعالى والمسلمون انه لولا الحدث الذي أحدث، والقوم الذين صحبهم فقتلهم
غدرا، واتخذ أموالهم; ثم التجأ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ليعصمه لم يسلم،
ولا وطئ حصا المدينة.
قال الطبري وقد اختلف في سن رسول الله صلى الله عليه وآله، فالأكثرون انه كان
ابن ثلاث وستين سنة، وقال قوم ابن خمس وستين سنة، وقال قوم ابن ستين.
فهذا ما ذكره الطبري في تاريخه (1).
وروى محمد بن حبيب في " أماليه " قال تولى غسل النبي صلى الله عليه وآله
علي عليه السلام والعباس رضي الله عنه.
وكان علي عليه السلام يقول بعد ذلك ما شممت أطيب من ريحه، ولا رأيت أضوء
من وجهه حينئذ، ولم أره يعتاد فاه ما يعتاد أفواه الموتى.
قال محمد بن حبيب فلما كشف الإزار عن وجهه بعد غسله انحنى عليه فقبله مرارا;
وبكى طويلا وقال بأبي أنت وأمي طبت حيا وطبت ميتا انقطع بموتك ما لم ينقطع
بموت أحد سواك من النبوة والأنباء واخبار السماء خصصت حتى صرت مسليا عمن سواك;
وعممت حتى صارت المصيبة فيك سواء ولولا انك أمرت بالصبر، ونهيت عن الجزع
لأنفدنا عليك ماء الشؤون; ولكن أتى ما لا يدفع أشكو إليك كمدا وإدبارا مخالفين
وداء الفتنة، فإنها قد استعرت نارها وداؤها الداء الأعظم بأبي أنت وأمي اذكرنا عند
ربك، واجعلنا من بالك وهمك.
ثم نظر إلى قذاة في عينه فلفظها بلسانه، ثم رد الإزار على وجهه.

(1) تاريخ الطبري 1: 1834، 1835.
42

وقد روى كثير من الناس ندبه فاطمة عليه السلام أباها يوم موته وبعد ذلك
اليوم وهي ألفاظ معدودة مشهورة، منها (يا أبتاه جنة الخلد مثواه، يا أبتاه عند
ذي العرش مأواه يا أبتاه كان جبرئيل يغشاه يا أبتاه لست بعد اليوم أراه).
ومن الناس من يذكر انها كانت تشوب هذه الندبة بنوع من التظلم والتألم لأمر
يغلبها والله أعلم بصحة ذلك.
والشيعة تروى إن قوما من الصحابة أنكروا بكاءها الطويل، ونهوها عنه،
وأمروها بالتنحي عن مجاورة المسجد إلى طرف من أطراف المدينة.
وانا استبعد ذلك، والحديث يدخله الزيادة والنقصان، ويتطرق إليه التحريف
والافتعال، والا أقول انا في اعلام المهاجرين الا خيرا.
43

(231)
الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام:
الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد، ولا تحويه المشاهد، ولا تراه النواظر،
ولا تحجبه السواتر، الدال على قدمه بحدوث خلقه، وبحدوث خلقه على وجوده،
وباشتباههم على أن لا شبه له.
الذي صدق في ميعاده، وارتفع عن ظلم عباده، وقام بالقسط في خلقه، وعدل
عليهم في حكمه، مستشهد بحدوث الأشياء على أزليته، وبما وسمها به من العجز
على قدرته، وبما اضطرها إليه من الفناء على دوامه.
واحد لا بعدد، ودائم لا بأمد، وقائم لا بعمد.
تتلقاه الأذهان لا بمشاعرة، وتشهد له المرائي لا بمحاضرة، لم تحط
بها الأوهام، بل تجلى لها بها، وبها امتنع منها، واليها حاكمها.
ليس بذي كبر امتدت به النهايات فكبرته تجسيما، ولا بذي عظم تناهت
به الغايات فعظمته تجسيدا، بل كبر شانا، وعظم سلطانا.
واشهد أن محمدا عبده ورسوله الصفي، وأمينه الرضى، صلى الله عليه وآله،
أرسله بوجوب الحجج، وظهور الفلج، وإيضاح المنهج، فبلغ الرسالة صادعا
بها، وحمل على المحجة دالا عليها، وأقام اعلام الاهتداء، ومنار الضياء، وجعل
أمراس الاسلام متينة، وعرى الايمان وثيقة.
44

الشرح:
الشواهد ها هنا، يريد بها الحواس، وسماها (شواهد) اما لحضورها; شهد فلان
كذا أي حضره، أو لأنها تشهد على ما تدركه وتثبته عند العقل، كما يشهد الشاهد بالشئ
ويثبته عند الحاكم.
والمشاهد ها هنا المجالس والنوادي، يقال حضرت مشهد بنى فلان، أي
ناديهم ومجتمعهم.
ثم فسر اللفظة الأولى وأبان عن مراده بها بقوله (ولا تراه النواظر)، وفسر
اللفظة الثانية وأبان عن مرادها، فقال (ولا تحجبه السواتر).
ثم قال (الدال على قدمه بحدوث خلقه، وبحدوث خلقه على وجوده); هذا مشكل،
لان لقائل أن يقول إذا دل على قدمه بحدوث خلقه، فقد دخل في جملة المدلول كونه
موجودا، لان القديم هو الموجود ولم يزل، فأي حاجة إلى أن يعود فيقول وبحدوث
خلقه على وجوده.
ولمجيب أن يجيب على طريقة شيوخنا أصحاب أبي هاشم، فيقول لا يلزم من
الاستدلال بحدوث الأجسام على أنه لا بد من محدث قديم كونه موجودا; لان عندهم إن
الذات المعدومة قد تتصف بصفات ذاتية، وهي معدومة، فلا يلزم من كون صانع العالم
عندهم عالما قادرا حيا أن يكون موجودا، بل لا بد من دلالة زائدة، على أن له صفة
الوجود وهي والدلالة التي يذكرونها، من إن كونه قادرا عالما تقتضي تعلقه بالمقدور
والمعلوم، وكل ذات متعلقة، فان عدمها يخرجها عن التعلق كالإرادة، فلو كان تعالى معدوما
لم يجز أن يكون متعلقا، فحدوث الأجسام إذا قد دل على أمرين من وجهين مختلفين
أحدهما انه لا بد من صانع له، وهذا هو المعنى بقدمه.
45

والثاني إن هذا الصانع له صفة، لأجلها يصح على ذاته أن تكون قادرة عالمة، وهذا
هو المعنى بوجوده.
فان قلت أيقول أصحاب شيخكم أبى هاشم إن الذات المعدومة التي لا أول لها
تسمى قديمة؟
قلت لا، والبحث في هذا بحث في اللفظ لا في المعنى.
والمراد بقوله عليه السلام (الدال بحدوث الأشياء على قدمه)، أي على كونه ذاتا
لم يجعلها جاعل، وليس المراد بالقدم ها هنا الوجود لم يزل، بل مجرد الذاتية لم يزل.
ثم يستدل بعد ذلك بحدوث الأشياء على أن له صفة أخرى لم تزل زائدة على مجرد
الذاتية، وتلك الصفة هي وجوده فقد اتضح المراد الان.
فان قلت فهل لهذا الكلام مساغ على مذهب البغداديين قلت نعم إذا حمل
على منهج التأويل بان يريد بقوله (وبحدوث خلقه على وجوده)، أي على صحة
ايجاده له فيما بعد، أي اعادته بعد العدم يوم القيامة، لأنه إذا صح منه تعالى احداثه ابتداء
صح منه ايجاده ثانيا على وجه الإعادة، لان الماهية قابلة للوجود والعدم، والقادر قادر
لذاته، فاما من روى بحدوث خلقه على وجوده، فإنه قد سقطت عنه هذه الكلف كلها
والمعنى على هذا ظاهر; لأنه تعالى دل المكلفين بحدوث خلقه على أنه جواد منعم،
ومذهب أكثر المتكلمين انه خلق العالم جودا وإنعاما وإحسانا إليهم.
قوله عليه السلام (وباشتباههم على أن لا شبه له) هذا دليل صحيح، وذلك لأنه
إذا ثبت أن جسما ما محدث، ثبت أن سائر الأجسام محدثة; لان الأجسام متماثلة، وكل
ما صح على الشئ صح على مثله، وكذلك إذا ثبت أن سوادا ما أو بياضا ما محدث،
ثبت أن سائر السوادات والبياضات محدثة، لان حكم الشئ حكم مثله، والسواد في معنى
46

كونه سوادا غير مختلف، وكذلك البياض فصارت الدلالة هكذا الذوات التي عندنا
يشبه بعضها بعضا، وهي محدثة; فلو كان الباري سبحانه يشبه شيئا منها لكان مثلها،
ولكان محدثا لان حكم الشئ حكم مثله، لكنه تعالى ليس بمحدث، فليس بمشابه
لشئ، منها فقد صح إذا قوله عليه السلام (وباشتباههم على أن لا شبه له).
قوله عليه السلام (الذي صدق في ميعاده)، لا يجوز الا يصدق، لان
الكذب قبيح عقلا، والباري تعالى يستحيل منه من جهة الداعي والصارف أن يفعل القبيح.
قوله عليه السلام (وارتفع عن ظلم عباده)، هذا هو مذهب أصحابنا المعتزلة،
وعن أمير المؤمنين عليه السلام أخذوه; وهو أستاذهم وشيخهم في العدل والتوحيد، فاما
الأشعرية، فإنها وان كانت تمتنع عن اطلاق القول بان الله تعالى يظلم العباد الا انها
تعطى المعنى في الحقيقة، لان الله عندهم يكلف العباد ما لا يطيقونه، بل هو سبحانه
عندهم لا يكلفهم الا ما لا يطيقونه، بل هو سبحانه عندهم لا يقدر على يكلفهم ما يطيقونه،
وذلك لان القدرة عندهم مع الفعل، فالقاعد غير قادر على القيام، وإنما يكون قادرا
على القيام عند حصول القيام، ويستحيل عندهم أن يوصف الباري تعالى بإقدار العبد
القاعد على القيام، وهو مع ذلك مكلف له أن يقوم، وهذا غاية ما يكون من الظلم سواء
أطلقوا هذه اللفظة عليه أو لم يطلقوها.
ثم أعاد الكلام الأول في التوحيد تأكيدا، فقال حدوث الأشياء دليل على
قدمه، وكونها عاجزة عن كثير من الافعال دليل على قدرته، وكونها فانية دليل
على بقائه.
فان قلت اما الاستدلال بحدوث الأشياء على قدمه فمعلوم، فكيف يكون
الاستدلال على الامرين الأخيرين
47

قلت إذا شاركه سبحانه بعض الموجودات في كونه موجودا، وافترقا في أن أحدهما
لا يصح منه فعل الجسم، ولا الكون، ولا الحياة، ولا الوجود المحدث - ويصح ذلك
من الموجودات القديمة - دل على افتراقهما في أمر لأجله صح من القديم ذلك، وتعذر ذلك
على المحدث، وذلك الامر هو الذي يسمى من كان عليه قادرا، وينبغي أن تحمل لفظة
(العجز) هاهنا على المفهوم اللغوي، وهو تعذر الايجاد، لا على المفهوم الكلامي.
واما الاستدلال الثاني، فينبغي أن يحمل الفناء ها هنا على المفهوم اللغوي، وهو تغير
الصفات وزوالها، لا على المفهوم الكلامي، فيصير تقدير الكلام: لما كانت الأشياء التي
بيننا تتغير وتتحول وتنتقل من حال إلى حال، وعلمنا أن العلة المصححة لذلك كونها
محدثة، علمنا أنه سبحانه لا يصح عليه التنقل والتغير، لأنه ليس بمحدث.
ثم قال (واحد لا بعدد) لان وحدته ذاتية، وليست صفة زائدة عليه، وهذا
من الأبحاث الدقيقة في علم الحكمة، وليس هذا الكتاب موضوعا لبسط القول في أمثاله.
ثم قال (دائم لا بأمد)، لأنه تعالى ليس بزماني وداخل تحت الحركة والزمان،
وهذا أيضا من دقائق العلم الإلهي، والعرب دون أن تفهم هذا أو تنطق به، ولكن
هذا الرجل كان ممنوحا من الله تعالى بالفيض المقدس والأنوار الربانية.
ثم قال (قائم لا بعمد)، لأنه لما كان في الشاهد كل قائم فله عماد يعتمد
عليه أبان عليه السلام تنزيهه تعالى عن المكان، وعما يتوهمه الجهلاء من أنه
مستقر على عرشه بهذه اللفظة ومعنى القائم ها هنا ليس ما يسبق إلى الذهن من أنه
المنتصب بل ما تفهمه من قولك فلان قائم بتدبير البلد، وقائم بالقسط.
ثم قال (تتلقاه الأذهان لا بمشاعرة)، أي تتلقاه تلقيا عقليا، ليس كما يتلقى
الجسم الجسم بمشاعره وحواسه وجوارحه، وذلك لان تعقل الأشياء و هو حصول صورها
48

في العقل بريئة من المادة، والمراد بتلقيه سبحانه ها هنا تلقى صفاته، لا تلقى ذاته تعالى، لان
ذاته تعالى لا تتصورها العقول، وسيأتي ايضاح أن هذا مذهبه عليه السلام.
ثم قال (وتشهد له المرائي لا بمحاضرة)، المرائي جمع مرئي، وهو الشئ المدرك
بالبصر، يقول المرئيات تشهد بوجود البارئ، لأنه لولا وجوده لما وجدت، ولو لم توجد
لم تكن مرئيات، وهي شاهدة بوجوده لا كشهادتها بوجود الابصار، لأنها شهدت بوجود
الابصار لحضورها فيها. واما شهادتها بوجود الباري فليست بهذه الطريق، بل بما ذكرناه.
والأولى أن يكون (المرائي) ها هنا جمع (مرآة) بفتح الميم، من قولهم هو حسن في مرآة
عيني، يقول إن جنس الرؤية يشهد بوجود الباري من غير محاضرة منه للحواس.
قوله عليه السلام (لم تحط به الأوهام) إلى قوله عليه السلام (واليها حاكمها)،
هذا الكلام دقيق ولطيف، والأوهام ها هنا هي العقول، يقول إنه سبحانه لم تحط به
العقول، أي لم تتصور كنه ذاته، ولكنه تجلى للعقول بالعقول، وتجليه ها هنا هو
كشف ما يمكن أن تصل إليه العقول من صفاته الإضافية والسلبية لا غير، وكشف
ما يمكن أن تصل إليه العقول من اسرار مخلوقاته; فاما غير ذلك فلا; وذلك لان البحث
النظري قد دل على انا لم نعلم منه سبحانه الا الإضافة والسلب، اما الإضافة فكقولنا
عالم قادر، واما السلب فكقولنا ليس بجسم ولا عرض ولا يرى، فاما حقيقة الذات
المقدسة المخصوصة من حيث هي هي، فان العقل لا يتصورها، وهذا مذهب الحكماء
وبعض المتكلمين من أصحابنا ومن غيرهم.
ثم قال (وبالعقول امتنع من العقول)، أي وبالعقول وبالنظر; علمنا أنه تعالى يمتنع أن تدركه العقول.
ثم قال (والى العقول حكم العقول)، أي جعل العقول المدعية انها أحاطت
49

به وأدركته كالخصم له سبحانه، ثم حاكمها إلى العقول السليمة الصحيحة النظر،
فحكمت له سبحانه على العقول المدعية لما ليست أهلا له.
واعلم أن القول بالحيرة في جلال ذات الباري والوقوف عند حد محدود لا يتجاوزه
العقل قول ما زال فضلاء العقلاء قائلين به
* * *
[من اشعار الشارح في المناجاة]
ومن شعري الذي اسلك فيه مسلك المناجاة عند خلواتي وانقطاعي بالقلب إليه
سبحانه قولي:
والله لا موسى ولا عيسى * المسيح ولا محمد
علموا ولا جبريل وهو إلى محل القدس يصعد
كلا ولا النفس البسيطة * لا ولا العقل المجرد
من كنه ذاتك غير انك واحدي الذات سرمد
وجدوا إضافات وسلبا * والحقيقة ليس توجد
ورأوا وجودا واجبا * يفنى الزمان وليس ينفد
فلتخسأ الحكماء عن * جرم له الأفلاك تسجد
من أنت يا رسطو ومن * أفلاط قبلك يا مبلد
ومن ابن سينا حين قرر ما بنيت له وشيد
هل أنتم الا الفراش * رأى الشهاب وقد توقد
فدنا فأحرق نفسه * ولو اهتدى رشدا لأبعد.
50

ومما قلته أيضا في قصور العقل عن معرفته سبحانه وتعالى:
فيك يا أعجوبة الكون غدا الفكر كليلا
أنت حيرت ذوي اللب * وبلبلت العقولا
كلما أقدم فكري * فيك شبرا فر ميلا
ناكصا يخبط في عمياء * لا يهدى السبيلا
* * *
ولي في هذا المعنى:
فيك يا أغلوطة الفكر * تاه عقلي وانقضى عمري
سافرت فيك العقول فما * ربحت الا أذى السفر
رجعت حسرى وما وقفت * لا على عين ولا أثر
فلحى الله الألى زعموا * انك المعلوم بالنظر
كذبوا إن الذي طلبوا * خارج عن قوة البشر
* * *
وقلت أيضا في المعنى:
أفنيت خمسين عاما معملا نظري * فيه فلم أدر ما آتي وما أذر
من كان فوق عقول القايسين فماذا * يدرك الفكر أو ما يبلغ النظر.
* * *
ولي أيضا:
حبيبي أنت لا زيد وعمرو * وان حيرتني وفتنت ديني
طلبتك جاهدا خمسين عاما * فلم أحصل على برد اليقين
51

فهل بعد الممات بك اتصال * فاعلم غامض السر المصون
نوى قذف وكم قد مات قبلي * بحسرته عليك من القرون.
ومن شعري أيضا في المعنى، وكنت أنادي به ليلا في مواضع مقفرة خالية من
الناس، بصوت رفيع، واجدح قلبي أيام كنت مالكا أمري، مطلقا من قيود الأهل
والولد وعلائق الدنيا:
يا مدهش الألباب والفطن * ومحير التقوالة اللسن
أفنيت فيك العمر أنفقه * والمال مجانا بلا ثمن
أتتبع العلماء أسألهم * وأجول في الآفاق والمدن
وأخالط الملل التي اختلفت * في الدين حتى عابد الوثن
وظننت انى بالغ غرضي * لما اجتهدت ومبرئ شجني
ومطهر من كل رجس هوى * قلبي بذاك وغاسل درني
فإذا الذي استكثرت منه هو * الجاني على عظائم المحن
فضللت في تيه بلا علم * وغرقت في يم بلا سفن
ورجعت صفر الكف مكتئبا * حيران ذا هم وذا حزن
أبكي وأنكت في الثرى بيدي * طورا وأدعم تارة ذقني
وأصيح يا من ليس يعرفه * أحد مدى الأحقاب والزمن
يا من له عنت الوجوه ومن * قرنت له الأعناق في قرن
آمنت يا جذر الأصم من * الأعداد بل يا فتنة الفتن
أن ليس تدركك العيون وأن الرأي ذو أفن وذو غبن
52

والكل أنت فكيف يدركه * بعض وأنت السر في العلن
* * *
ومما قلته في المعنى:
ناجيته ودعوته اكشف عن عشا * قلبي وعن بصرى وأنت النور
وارفع حجابا قد سدلت ستوره * دوني وهل دون المحب ستور
فأجابني صه يا ضعيف فبعض ذا * قد رامه موسى فدك الطور
أعجبني هذا المعنى، فنقلته إلى لفظ آخر فقلت:
حبيبي أنت من دون البرايا * وإن لم أحظ منك بما أريد
قنعت من الوصال بكشف حال * فقيل ارجع فمطلبها بعيد
ألم تسمع جواب سؤال موسى * وليس على مكانته مزيد
تعرض للذي حاولت يوما فدك * الصخر واضطرم الصعيد.
ولي في هذا المعنى أيضا:
قد حار في النفس جميع الورى * والفكر فيها قد غدا ضائعا
وبرهن الكل على ما ادعوا * وليس برهانهم قاطعا
من جهل الصنعة عجزا فما * أجدره أن يجهل الصانعا.
ولى أيضا في الرد على الفلاسفة الذين عللوا حركه الفلك بأنه أراد استخراج الوضع
أولا; ليتشبه بالعقل المجرد في كماله، وان كل ما له بالقوة فهو خارج إلى الفعل:
تحير أرباب النهى وتعجبوا * من الفلك الأقصى لما ذا تحركا
فقيل بطبع كالثقيل إذا هوى * وقيل اختيارا والمحقق شككا
فرد حديث الطبع إذ كان دائرا * وليس على سمت قويم فيسلكا
53

وقيل لمن قال اختيارا فما الذي * دعاه إلى أن دار ركضا فأوشكا
فقالوا لوضع حادث يستجده * يعاقب منه مطلبا ثم متركا
فقيل لهم هذا الجنون بعينه * ولو رامه منا امرؤ كان أعفكا (1)
ولو أن انسانا غدا ليس قصده * سوى الوضع واستخراجه عد مضحكا.
ولى أيضا في الرد على من زعم أن النبي صلى الله عليه وآله رأى الله سبحانه بالعين،
وهو الذي أنكرته عائشة، والعجب لقوم من أرباب النظر جهلوا ما أدركته امرأة من
نساء العرب:
عجبت لقوم يزعمون نبيهم * رأى ربه بالعين تبا لهم تبا
وهل تدرك الابصار غير مكيف * وكيف تبيح العين ما يمنع القلبا
إذا كان طرف القلب عن كنهه نبا * حسيرا فطرف العين عن كنهه أنبى.
والمقطعات التي نظمتها في إجلال الباري سبحانه عن أن تحيط به العقول كثيرة،
موجودة في كتبي ومصنفاتي، فلتلمح من مظانها، وغرضنا بايراد بعضها أن لها هنا تشييدا لما
قاله أمير المؤمنين عليه السلام على في هذا الباب.
* * *
قوله عليه السلام (ليس بذي كبر) إلى قوله (وعظم سلطانا)، معناه انه تعالى يطلق
عليه من أسمائه الكبير والعظيم، وقد ورد بهما القرآن العزيز، وليس المراد بهما ما يستعمله
الجمهور من قولهم هذا الجسم أعظم وأكبر مقدارا من هذا الجسم، بل المراد عظم شانه
وجلالة سلطانه.
والفلج: النصرة، واصله سكون العين، وإنما حركه ليوازن بين الألفاظ، وذلك

(1) الأعفك: الذي لا يحسن العمل.
54

لان الماضي، منه فلج الرجل على خصمه بالفتح، ومصدره الفلج بالسكون، فاما من روى
(وظهور الفلج) بضمتين فقد سقط عنه التأويل، لان الاسم من هذا اللفظ (الفلج)
بضم أول الكلمة، فإذا استعملها الكاتب أو الخطيب جاز له ضم الحرف الثاني.
وصادعا بهما مظهرا مجاهدا، واصله الشق.
والأمراس: الحبال، والواحد مرس; بفتح الميم والراء.
* * *
الأصل:
منها في صفة عجيب خلق أصناف من الحيوان:
ولو فكروا في عظيم القدرة، وجسيم النعمة، لرجعوا إلى الطريق، وخافوا
عذاب الحريق، ولكن القلوب عليله، والبصائر مدخولة. الا ينظرون إلى صغير
ما خلق كيف احكم خلقه، وأتقن تركيبه، وفلق له السمع والبصر، وسوى له
العظم والبشر.
انظروا إلى النملة في صغر جثتها، ولطافة هيئتها، لا تكاد تنال بلحظ البصر،
ولا بمستدرك الفكر، كيف دبت على أرضها، وصبت على رزقها، تنقل الحبة إلى
جحرها، وتعدها في مستقرها، تجمع في حرها لبردها، وفى وردها لصدرها;
مكفول برزقها، مرزوقة بوفقها، لا يغفلها المنان، ولا يحرمها الديان، ولو في
الصفا اليابس، والحجر الجامس.
ولو فكرت في مجاري اكلها، وفى علوها وسفلها، وما في الجوف من
شراسيف بطنها، وما في الرأس من عينها وأذنها، لقضيت من خلقها عجبا، ولقيت
من وصفها تعبا.
55

فتعالى الذي أقامها على قوائمها; وبناها على دعائمها لم يشركه في فطرتها
فاطر، ولم يعنه على خلقها قادر.
ولو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته، ما دلتك الدلالة الا على أن
فاطر النملة هو فاطر النخلة; لدقيق تفصيل كل شئ، وغامض اختلاف
كل حي.
وما الجليل واللطيف، والثقيل والخفيف، والقوى والضعيف في خلقه
الا سواء.
وكذلك السماء والهواء، والرياح والماء. فانظر إلى الشمس والقمر، والنبات
والشجر، والماء والحجر، واختلاف هذا الليل والنهار، وتفجر هذه البحار، وكثرة
هذه الجبال، وطول هذه القلال، وتفرق هذه اللغات، والألسن المختلفات.
فالويل لمن أنكر المقدر، وجحد المدبر.
زعموا انهم كالنبات ما لهم زارع، ولا لاختلاف صورهم صانع; ولم يلجأوا
إلى حجة فيما ادعوا، ولا تحقيق لما دعوا، وهل يكون بناء من غير بان، أو
جناية من غير جان.
* * *
الشرح:
مدخولة: معيبة وفلق شق وخلق والبشر ظاهر الجلد.
قوله عليه السلام (وصبت على رزقها)، قيل هو على العكس، أي وصب
رزقها عليها، والكلام صحيح ولا حاجة فيه إلى هذا، والمراد كيف همت حتى انصبت
على رزقها انصبابا; أي انحطت عليه ويروى (وضنت على رزقها) بالضاد المعجمة
والنون، أي بخلت وجحرها بيتها.
56

قوله عليه السلام (وفى وردها لصدرها)، أي تجمع في أيام التمكن من الحركة
لأيام العجز عنها، وذلك لان النمل يظهر صيفا ويخفى في شده الشتاء لعجزه عن
ملاقاة البرد.
قوله عليه السلام (رزقها وفقها (1)) أي بقدر كفايتها، ويروى (مكفول
برزقها مرزوقة بوفقها).
والمنان; من أسماء الله تعالى العائد إلى صفاته الفعلية، أي هو كثير المن والانعام
على عباده.
والديان المجازي للعباد على أفعالهم، قال تعالى (انا لمدينون) (2) أي مجزيون
والحجر الجامس الجامد والشراسيف أطراف الأضلاع المشرفة على البطن.
* * *
[فصل في ذكر أحوال الذرة وعجائب النملة]
واعلم أن شيخنا أبا عثمان قد أورد في كتاب " الحيوان " في باب النملة والذرة
- وهي الصغيرة جدا من النمل - كلاما يصلح أن يكون كلام أمير المؤمنين عليه السلام
أصله ولكن أبا عثمان قد فرع عليه.
قال الذرة تدخر في الصيف للشتاء، وتتقدم في حال المهلة، ولا تضيع أوقات
امكان الحزم، ثم يبلغ من تفقدها وصحة تمييزها (3)، والنظر في عواقب أمورها (4);
انها تخاف على الحبوب التي ادخرتها للشتاء [في الصيف] (5)، أن تعفن وتسوس في

(1) كذا في ا، ب، وما ورد في أصل النهج يوافق ما ورد في الرواية التالية.
(2) سورة الصافات 53.
(3) الحيوان: (وحسن خبرها).
(4) الحيوان: (أمرها).
(5) من الحيوان.
57

بطن الأرض فتخرجها إلى ظهرها لتنثرها (1) وتعيد إليها جفوفها، ويمر بها النسيم فينفي
عنها اللخن والفساد.
ثم ربما - بل في الأكثر - تختار ذلك العمل ليلا، لان ذلك أخفى، وفى القمر
لأنها فيه أبصر، فإن كان مكانها نديا وخافت أن تنبت الحبة نقرت موضع القطمير (2)
من وسطها; لعلمها انها من ذلك الموضع تنبت، وربما فلقت الحبة نصفين. فاما إن كان
الحب من حب الكزبرة فإنها تفلقه أرباعا، لان انصاف حب الكزبرة تنبت من بين
جميع الحبوب، فهي من هذا الوجه مجاوزة لفطنة جميع الحيوانات، حتى ربما كانت في
ذلك أحزم من كثير من الناس، ولها مع لطافة شخصها وخفة وزنها في الشم والاسترواح
ما ليس لشئ، فربما اكل الانسان الجراد أو بعض ما يشبه الجراد، فيسقط من يده
الواحدة أو صدر واحدة، وليس بقربه ذرة ولا له عهد بالذر في ذلك المنزل، فلا يلبث
أن تقبل ذرة قاصدة إلى تلك الجرادة، فترومها وتحاول نقلها وجرها إلى جحرها، فإذا
أعجزتها بعد أن تبلى عذرا مضت إلى جحرها راجعه، فلا يلبث ذلك الانسان أن يجدها
قد أقبلت وخلفها كالخيط الأسود الممدود، حتى يتعاون عليها فيحملنها. فأعجب من
صدق الشم لما لا يشمه الانسان الجائع ثم انظر إلى بعد الهمة والجرأة على محاولة نقل
شئ في وزن جسمها مائة مرة، وأكثر من مائة مرة، بل اضعاف اضعاف المائة،
وليس شئ من الحيوان يحمل ما يكون اضعاف وزنه مرارا كثيرة غيرها.
فان قال قائل (3): فمن أين علمتم إن التي حاولت نقل الجرادة فعجزت هي التي
أخبرت صواحباتها من الذر، وانها التي كانت على مقدمتهن
قيل له لطول التجربة، ولأنا لم نر قط ذرة حاولت جر جرادة فعجزت عنها، ثم

(1) الحيوان: (لتيسها).
(2) القطمير: شق النواة.
(3) الحيوان: (فإن قلت).
58

رأيناها راجعة الا رأينا معها مثل ذلك، وان كنا لا نفصل في مرأى العين بينها وبين
أخواتها، فإنه ليس يقع في القلب غير الذي، قلنا فدلنا ذلك على أنها في رجوعها عن
الجرادة انها إنما كانت لأشباهها كالرائد الذي لا يكذب أهله.
قال أبو عثمان ولا ينكر قولنا إن الذرة توحي إلى أخواتها بما أشرنا إليه
الا من يكذب القرآن، فإنه تعالى قال في قصة سليمان (قالت نملة يا أيها النمل
ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون * فتبسم
ضاحكا من قولها) (1) فهل بعد هذا ريب أو شك في إن لها قولا وبيانا وتمييزا.
فان قلت فلعلها مكلفة، ومأمورة ومنهية، ومطيعة وعاصية
قيل هذا سؤال جاهل، وذلك أنه لا يلزم أن يكون كل ذي حس، وتمييز
مكلفا مأمورا منهيا، مطيعا عاصيا، لان الانسان غير البالغ الحلم قد يحفظ القرآن وكثيرا
من الآثار، وضروبا من الاخبار، ويشترى ويبيع، ويخدع الرجال ويسخر بالمعلمين،
وهو غير مكلف ولا مأمور، ولا منهي ولا عاص ولا مطيع، فلا يلزم مما قلناه في الذرة
أن تكون مكلفة (2).
قال أبو عثمان ومن عجيب ما سمعته من أمر النملة، ما حدثني به بعض المهندسين
عن رجل معروف بصنعة الأسطرلابات (3)، انه أخرج طوقا من صفر - أو قال من
حديد - من الكير، وقد أحماه، فرمى به على الأرض ليبرد، فاشتمل الطوق على نملة،
فأرادت أن تنفر يمنة فلقيها وهج النار، فأخذت يسر فلقيها وهج النار، فمضت قدما
فكذاك، فرجعت إلى خلفها فكذلك، فرجعت إلى وسط الدائرة، فوجدها قد ماتت
في موضع رجل البركار (4) من الدائرة، وهذا من العجائب.
قال أبو عثمان وحدثني أبو عبيد الله الأفوه، وما كنت أقدم عليه في زمانه من مشايخ

(1) سورة النمل 18، 19.
(2) الحيوان 4: 5 وما بعدها.
(3) الأسطرلابات: جمع أسطرلاب، وهي آلة يعرف بها الوقت، انظر شفاء الغليل للخفاجي: 51.
(4) البركار: اسم لالة معروفة. قال صاحب شفاء الغليل: هو معرب (فرجار). وقال: إنه لم يرد في شعر قديم.
59

المعتزلة الا القليل، قال قد كنت ألقي من الذر والنمل في الرطب يكون عندي وفي
الطعام عنتا كثيرا، وذلك لأني كنت لا استقذر النملة ولا الذرة، ثم وجدت الواحدة
منهما إذا وقعت في قارورة بان أو زئبق أو خيري، فسد ذلك الدهن وزنخ، فقذرتها
ونفرت منها، وقلت أخلق بطبيعتها أن تكون فاسدة خبيثة، وكنت أرى لها عضا
منكرا، فأقول انها من ذوات السموم، ولو إن بدن النملة زيد في اجزائه حتى يلحق
ببدن العقرب، ثم عضت انسانا لكانت عضتها أضر عليه من لسعة العقرب.
قال فاتخذت عند ذلك لطعامي منملة وقيرتها، وصببت في خندقها الماء، ووضعت
سلة الطعام على رأسها، فغبرت أياما اكشف رأس السلة بعد ذلك، وفيها ذر كثير،
ووجدت الماء في الخندق على حاله، فقلت عسى أن يكون بعض الصبيان أنزلها،
واكل مما فيها وطال مكثها في الأرض، وقد دخلها الذر ثم أعيدت على تلك الحال،
وتكلمت في ذلك وتعرفت الحال فيه، فعرفت البراءة في عذرهم، والصدق في خبرهم،
فاشتد تعجبي، وذهبت بي الظنون والخواطر كل مذهب، فعزمت على أن أرصدها
وأحرسها، وأتثبت في أمري، وأتعرف شأني، فإذا هي بعد أن رامت الخندق فامتنع
عليها تركته جانبا، وصعدت في الحائط، ثم مرت على جذع السقف، فلما صارت
محاذية للسلة أرسلت نفسها فقلت في نفسي انظر كيف اهتدت إلى هذه الحيلة ولم تعلم أنها
تبقى محصورة.
ثم قلت وما عليها أن تبقى محصورة بل أي حصار على ذرة وقد وجدت
ما تشتهى.
قال أبو عثمان ومن أعاجيب الذرة انها لا تعرض لجعل ولا لجرادة ولا لخنفساء
ولا لبنت وردان، ما لم يكن بها حبل أو عقر أو قطع رجل أو يد، فان وجدت بها من
ذلك أدنى علة، وثبت عليها، حتى لو أن حية بها ضربة أو خرق أو خدش، ثم كانت من
60

ثعابين مصر، لوثب عليها الذر حتى يأكلها، ولا تكاد الحية تسلم من الذر إذا كان
بها أدنى عقر.
قال أبو عثمان وقد عذب الله بالذر والنمل أمما وأمما، واخرج أهل قرى من قراهم،
وأهل دروب من دروبهم.
وحدثني بعض من أصدق خبره، قال سالت رجلا كان ينزل ببغداد في بعض
الدروب التي في ناحية باب الكوفة التي جلا أهلها عنها، لغلبة النمل والذر عليها،
فسألته عن ذلك، فقال وما تصنع بالحديث امض معي إلى داري التي أخرجني
منها النمل.
قال فدخلتها معه فبعث غلامه، فاشترى رؤوسا من الراسين ليتغذى بها، فانتقلنا
هربا من النمل في أكثر من عشرين مكانا، ثم دعا بطست ضخمة، وصب فيها ماء
صالحا، ثم فرق عظام الرؤوس في الدار، ومعه غلمانه، فكان كلما اسود منها عظم لكثرة
النمل واجتماعه عليه - وذلك في أسرع الأوقات - اخذه الغلام ففرغه في الطست بعود ينثر به
ما عليه في جوف الطست، فما لبثنا مقدار ساعة من النهار حتى فاضت الطست نملا، فقال
كم تظن انى فعلت مثل هذا قبل الجلاء طمعا في أن اقطع أصلها فلما رأيت عددها
اما زائدا، واما ثابتا، وجاءنا ما لا يصبر عليه أحد، ولا يمكن معه مقام، خرجت
عنها.
قال أبو عثمان وعذب عمر بن هبيرة سعيد بن عمرو الحرشي بأنواع العذاب،
فقيل له إن أردت الا يفلح ابدا فمرهم فلينفخوا في دبره النمل، ففعلوا فلم يفلح
بعدها (1).

(1) الحيوان 4: 33.
61

قال أبو عثمان ومن الحيوان أجناس يشبه الانسان في العقل والروية والنظر في
العواقب والفكر في الأمور، مثل النمل، والذر، والفار، والجرذان، والعنكبوت،
والنحل، الا أن النحل لا يدخر من الطعم الا جنسا واحدا وهو العسل (1).
قال وزعم البقطري انك لو أدخلت نملة في جحر ذر لأكلتها حتى تأتى على
عامتها، وذكر انه قد جرب ذلك.
قال وزعم صاحب المنطق أن الضبع تأكل النمل اكلا ذريعا، لأنها تأتى قرية
النمل وقت اجتماع النمل على باب القرية، فتلحس ذلك النمل كله بلسانها، بشهوة شديدة
وإرادة قوية.
قال وربما أفسدت الأرضة على أهل القرى منازلهم، وأكلت كل شئ لهم،
فلا تزال كذلك حتى ينشأ في تلك القرى النمل، فيسلط الله عز وجل ذلك النمل على تلك
الأرضة، حتى تأتى على آخرها، على أن النمل بعد ذلك سيكون له أذى، الا انه دون
أذى الأرضة بعيدا، وما أكثر ما يذهب النمل أيضا من تلك القرى، حتى يتم لأهلها
السلامة من النوعين جميعا.
قال وقد زعم بعضهم أن تلك الأرضة بأعيانها تستحيل نملا، وليس فناؤها لاكل
النمل لها، ولكن الأرضة نفسها تستحيل نملا، فعلى قدر ما يستحيل منها يرى الناس
النقصان في عددها ومضرتها على الأيام (2).
قال أبو عثمان وكان ثمامة يرى أن الذر صغار النمل، ونحن نراه نوعا آخر
كالبقر والجواميس.
قال ومن أسباب هلاك النمل نبات أجنحته، وقال الشاعر:
وإذا استوت للنمل أجنحة * حتى يطير فقد دنا عطبه

(1) الحيوان 4: 34.
(2) الحيوان 4: 34، 35.
62

وكان في كتاب عبد الحميد إلى أبى مسلم لو أراد الله بالنملة صلاحا، لما انبت لها جناحا،
فيقال إن أبا مسلم لما قرا هذا الكلام في أول الكتاب لم يتم قراءته وألقاه في النار،
وقال أخاف إن قرأته أن ينخب قلبي.
قال أبو عثمان ويقتل النمل بان يصب في أفواه بيوتها القطران والكبريت الأصفر،
وان يدس في أفواهها الشعر، على انا قد جربنا ذلك فوجدناه باطلا.
فاما الحكماء، فإنهم لا يثبتون للنمل شراسيف ولا أضلاعا، ويجب إن صح
قولهم أن يحمل كلام أمير المؤمنين عليه السلام على اعتقاد الجمهور ومخاطبة العرب بما تتخيله
وتتوهمه حقا، وكذلك لا يثبت الحكماء للنمل آذانا بارزة عن سطوح رؤوسها،
ويجب إن صح ذلك أن نحمل كلام أمير المؤمنين عليه السلام على قوة الاحساس
بالأصوات، فإنه لا يمكن الحكماء انكار وجود هذه القوة للنمل، ولهذا إذا صيح
عليهن هربن.
ويذكر الحكماء من عجائب النمل أشياء، منها انه لا جلد له، وكذلك كل
الحيوان المخرز.
ومنها انه لا يوجد في صقلية نمل كبار أصلا.
ومنها إن النمل بعضه ماش وبعضه طائر.
ومنها إن حراقة النمل إذا أضيف إليها شئ من قشور البيض وريش هدهد وعلقت
على العضد منعت من النوم.
* * *
قوله عليه السلام (ولو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته)، أي غايات
فكرك، وضربت بمعنى سرت، والمذاهب الطرق قال تعالى (وإذا ضربتم في
63

الأرض) (1) وهذا الكلام استعارة.
قال لو أمعنت النظر لعلمت أن خالق النملة الحقيرة هو خالق النخلة الطويلة
لان كل شئ من الأشياء تفصيل جسمه وهيئته تفصيل دقيق، واختلاف تلك الأجسام
في أشكالها وألوانها ومقاديرها اختلاف غامض السبب، فلا بد للكل من مدبر يحكم
بذلك الاختلاف ويفعله، على حسب ما يعلمه من المصلحة.
ثم قال وما الجليل والدقيق في خلقه الا سواء لأنه تعالى قادر لذاته، لا يعجزه
شئ من الممكنات.
ثم قال (فانظر إلى الشمس والقمر) إلى قوله (والألسن المختلفات)، هذا هو
الاستدلال بامكان الاعراض على ثبوت الصانع والطرق إليه أربعة:
أحدها الاستدلال بحدوث الأجسام.
والثاني الاستدلال بامكان الاعراض والأجسام.
والثالث الاستدلال بحدوث الاعراض.
والرابع الاستدلال بامكان الاعراض.
وصورة الاستدلال هو أن كل جسم يقبل - للجسمية المشتركة بينه وبين سائر الأجسام -
ما يقبله غيره من الأجسام، فإذا اختلفت الأجسام في الاعراض فلا بد من مخصص خصص
هذا الجسم بهذا العرض دون أن يكون هذا العرض لجسم آخر، ويكون لهذا الجسم
عرض غير هذا العرض، لان الممكنات لا بد لها من مرجح يرجح أحد طرفيها على الاخر،
فهذا هو معنى (قوله فانظر إلى الشمس والقمر، والنبات والشجر، والماء والحجر،
واختلاف هذا الليل والنهار، وتفجر هذه البحار، وكثرة هذه الجبال، وطول هذه
القلال، وتفرق هذه اللغات، والألسن المختلفات) أي انه يمكن أن تكون هيئة

(1) سورة النساء 101.
64

الشمس وضوءها ومقدارها حاصلا لجرم القمر، ويمكن أن يكون النبات الذي لا ساق
له شجرا، والشجر ذو الساق نباتا، ويمكن أن يكون الماء صلبا والحجر مائعا، ويمكن
أن يكون زمان الليل مضيئا وزمان النهار مظلما، ويمكن الا تكون هذه البحار متفجرة
بل تكون جبالا، ويمكن الا تكون هذه الجبال الكبيرة كبيرة، ويمكن الا تكون
هذه القلال طويلة. وكذلك القول في اللغات واختلافها. وإذا كان كل هذا ممكنا
فاختصاص الجسم المخصوص بالصفات والاعراض والصور المخصوصة لا يمكن أن يكون
لمجرد الجسمية لتماثل الأجسام فيها، فلا بد من أمر زائد، وذلك الأمر الزائد هو المعنى
بقولنا: صانع العالم.
ثم سفه آراء المعطلة، وقال (انهم لم يعتصموا بحجة، ولم يحققوا ما وعوه)
أي لم يرتبوا العلوم الضرورية ترتيبا صحيحا يفضي بهم إلى النتيجة التي هي حق.
ثم اخذ في الرد عليهم من طريق أخرى، وهي دعوى الضرورة، وقد اعتمد عليها
كثير من المتكلمين، فقال نعلم ضرورة أن البناء لا بد له من بان
ثم قال (والجناية لا بد لها من جان)، وهذه كلمة ساقته إليها القرينة، والمراد
عموم الفعلية لا خصوص الجناية، أي مستحيل أن يكون الفعل من غير فاعل، والذين
ادعوا الضرورة في هذه المسألة من المتكلمين استغنوا عن الطرق الأربع التي ذكرناها،
وأمير المؤمنين عليه السلام اعتمد أولا على طريق واحدة، ثم جنح ثانيا إلى دعوى
الضرورة وكلا الطريقين صحيح.
* * *
الأصل:
وان شئت قلت في الجرادة إذ خلق لها عينين حمراوين; وأسرج لها
65

حدقتين قمراوين; وجعل لها السمع الخفي، وفتح لها الفم السوي، وجعل لها
الحس القوى، ونابين بهما تقرض، ومنجلين بهما تقبض، يرهبها الزراع في
زرعهم، ولا يستطيعون ذبها ولو أجلبوا بجمعهم، حتى ترد الحرث في نزواتها،
وتقضى منه شهواتها، وخلقها كله لا يكون إصبعا مستدقة.
فتبارك الذي يسجد له من في السماوات والأرض طوعا وكرها، ويعفر له
خدا ووجها; ويلقى بالطاعة إليها سلما وضعفا، ويعطى القياد رهبة وخوفا.
فالطير مسخرة لامره، أحصى عدد الريش منها والنفس، وأرسى قوائمها على
الندى واليبس; وقدر أقواتها، وأحصى أجناسها; فهذا غراب، وهذا عقاب،
وهذا حمام، وهذا نعام، دعا كل طائر باسمه، وكفل له برزقه.
وأنشأ السحاب الثقال فأهطل ديمها، وعدد قسمها، فبل الأرض بعد جفوفها،
واخرج نبتها بعد جدوبها.
* * *
الشرح:
قوله (وأسرج لها حدقتين) أي جعلهما مضيئتين كما يضئ السراج، ويقال
حدقة قمراء أي منيرة، كما يقال ليلة قمراء أي نيرة بضوء القمر.
و (بهما تقرض) أي تقطع، والراء مكسورة.
والمنجلان رجلاها; شبههما بالمناجل لعوجهما وخشونتهما.
ويرهبها يخافها ونزواتها وثباتها والجدب المحل.
66

[ذكر غرائب الجراد وما احتوت عليه من صنوف الصنعة]
قال شيخنا أبو عثمان في كتاب " الحيوان " من عجائب الجرادة التماسها لبيضها
الموضع الصلد، والصخور الملس، ثقة منها انها إذا ضربت بأذنابها فيها، انفرجت لها،
ومعلوم أن ذنب الجرادة ليس في خلقة المنشار (1) ولا طرف ذنبه كحد السنان، ولها
من قوة الأسر، ولا لذنبها من الصلابة ما إذا اعتمدت به على الكدية (2) خرج (3)
، فيها كيف وهي تتعدى إلى ما هو أصلب من ذلك، وليس في طرفها كإبرة العقرب.
وعلى أن العقرب ليس تخرق القمقم، (4) من جهد الأيد وقوة البدن، بل إنما
ينفرج لها بطبع مجعول هناك، وكذاك انفراج الصخور لأذناب الجراد.
ولو أن عقابا أرادت أن تخرق جلد الجاموس لما انخرق لها الا بالتكلف الشديد،
والعقاب هي التي تنكدر (5) على الذئب [الأطلس] (6); فتقد بدابرتها ما بين صلاه
إلى موضع الكاهل (7).
فإذا غرزت (8) الجرادة، وألقت بيضها، وانضمت عليها تلك الأخاديد التي هي
أحدثها، وصارت كالأفاحيص لها صارت حاضنة لها ومربية، وحافظة وصائنة وواقية،
حتى إذا جاء وقت دبيب الروح فيها حدث عجب آخر، وذلك لأنه يخرج من بيضه

(1) في الحيوان: (المسمار).
(2) الكدية: الصفاة العظيمة. وفي الحيوان: (الكدية والكذانة) واحدة الكذان; وهي
حجارة كأنها المدر فيها رخاوة.
(3) في الحيوان: (جرح).
(4) القمقم: ما يسخن فيه الماء من نحاس وغيره، ويكون ضيق الرأس.
(5) تنكدر: تنقض.
(6) من الحيوان.
(7) تقد: تقطع. والدابرة: الإصبع التي من وراء رجلها. والصلا بالفتح: وسط الظهر.
والكاهل: مقدم أعلى الظهر.
(8) غرزت الجرادة: أثبتت ذنبها في الأرض لتبيض.
67

أصهب إلى البياض، ثم يصفر وتتلون فيه خطوط إلى السواد، ثم يصير فيه خطوط
سود وبيض، ثم يبدو حجم جناحه، ثم يستقل فيموج بعضه في بعض (1).
قال أبو عثمان ويزعم قوم أن الجراد (2) قد يريد الخضرة ودونه النهر الجاري،
فيصير بعضه جسرا لبعض حتى يعبر إلى الخضرة، وان ذلك حيلة منها.
وليس كما زعموا، ولكن الزحف الأول من الدبا يريد الخضرة فلا يستطيعها الا
بالعبور إليها، فإذا صارت تلك القطعة فوق الماء طافية صارت لعمري أرضا للزحف
الثاني الذي يريد الخضرة، فان سموا ذلك جسرا استقام، فاما أن يكون الزحف الأول
مهد للثاني ومكن له وآثره [بالكفاية] (3) فهذا ما لا يعرف، ولو أن الزحفين جميعا
أشرفا على النهر، وامسك أحدهما عن تكلف العبور حتى يمهد له الاخر لكان لما
قالوه وجه (4).
قال أبو عثمان ولعاب الجراد سم على الأشجار لا يقع على شئ الا أحرقه.
فاما الحكماء فيذكرون في كتبهم أن أرجل الجراد تقلع الثآليل، وانه [إذا]
اخذت منه اثنتا عشره جرادة ونزعت رؤوسها وأطرافها، وجعل معها قليل آس يابس،
وشربت للاستسقاء كما هي، نفعت نفعا بينا; وان التبخر بالجراد ينفع من عسر البول،
وخاصة في النساء، وان اكله ينفع من تقطيره، وقد يبخر به للبواسير، وينفع اكله
من لسعة العقرب.
ويقال إن الجراد الطوال إذا علق على من به حمى الربع نفعه.

(1) الحيوان 5: 549، 555.
(2) في الحيوان: (الدبا).
(3) من الحيوان.
(4) الحيوان 5: 562.
68

(232)
الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام في التوحيد، وتجمع هذه الخطبة من أصول
العلم ما لا تجمعه خطبة غيرها:
ما وحده من كيفه، ولا حقيقته أصاب من مثله، ولا إياه عنى من شبهه،
ولا صمده من أشار إليه وتوهمه، كل معروف بنفسه مصنوع، وكل قائم في
سواه معلول.
فاعل لا باضطراب آلة، مقدر لا بجول فكرة; غنى لا باستفادة;
لا تصحبه الأوقات; ولا ترفده الأدوات، سبق الأوقات كونه، والعدم وجوده،
والابتداء أوله.
* * *
الشرح:
هذا الفصل يشتمل على مباحث متعددة:
أولها قوله (ما وحده من كيفه)، وهذا حق لأنه إذا جعله مكيفا جعله ذا هيئة
وشكل، أو ذا لون وضوء، إلى غيرهما من أقسام الكيف، ومتى كان كذلك كان
جسما ولم يكن واحدا، لان كل جسم قابل للانقسام، والواحد حقا لا يقبل الانقسام
فقد ثبت انه ما وحده من كيفه.
وثانيها قوله (ولا حقيقته أصاب من مثله)، وهذا حق لأنه تعالى لا مثل له
وقد دلت الأدلة الكلامية والحكمية على ذلك، فمن أثبت له مثلا، فإنه لم يصب
69

حقيقته تعالى، والسجعة الأخرى تعطى هذا المعنى أيضا من غير زيادة عليه، وهي قوله
عليه السلام (ولا إياه عنى من شبهه) ولهذا قال شيوخنا إن المشبه لا يعرف الله،
ولا تتوجه عباداته وصلواته إلى الله تعالى; لأنه يعبد شيئا يعتقده جسما، أو يعتقده مشابها
لبعض هذه الذوات المحدثة، والعبادة تنصرف إلى المعبود بالقصد، فإذا قصد بها غير
الله تعالى لم يكن قد عبد الله سبحانه ولا عرفه، وإنما يتخيل ويتوهم انه قد عرفه
وعبده، وليس الامر كما تخيل وتوهم.
وثالثها قوله عليه السلام (ولا صمده من أشار إليه) أي أثبته في جهة، كما تقول
الكرامية الصمد في اللغة العربية: السيد. والصمد أيضا الذي لا جوف له، وصار
التصميد في الاصطلاح العرفي عبارة عن التنزيه، والذي قال عليه السلام حق، لان
من أشار إليه - أي أثبته في جهة كما تقوله الكرامية - فإنه ما صمده، لأنه ما نزهه عن
الجهات، بل حكم عليه بما هو من خواص الأجسام، وكذلك من توهمه سبحانه،
أي من تخيل له في نفسه صورة أو هيئة أو شكلا، فإنه لم ينزهه عما يجب
تنزيهه عنه.
ورابعها قوله (كل معروف بنفسه مصنوع)، هذا الكلام يجب أن يتأول،
ويحمل على أن كل معروف بالمشاهدة والحس فهو مصنوع، وذلك لان الباري سبحانه
معروف من طريقين: إحداهما من أفعاله، والأخرى بنفسه; وهي طريقة الحكماء الذين
بحثوا في الوجود من حيث هو وجود، فعلموا انه لا بد من موجود واجب الوجود،
فلم يستدلوا عليه بأفعاله، بل اخرج لهم البحث في الوجود انه لا بد من ذات يستحيل
عدمها من حيث هي هي.
فان قلت كيف يحمل كلامه على أن كل معروف بالمشاهدة والحس فهو مصنوع
وهذا يدخل فيه كثير من الاعراض كالألوان وإذا دخل ذلك فسدت عليه الفقرة الثانية،
70

وهي قوله عليه السلام (وكل قائم فيما سواه معلول) لأنها للاعراض خاصة، فيدخل
أحد مدلول الفقرتين في الأخرى، فيختل النظم.
قلت يريد عليه السلام بالفقرة الأولى كل معروف بنفسه من طريق المشاهدة
مستقلا بذاته، غير مفتقر في تقومه إلى غيره فهو مصنوع، وهذا يختص بالأجسام
خاصة، ولا يدخل الألوان وغيرها من الاعراض فيه، لأنها متقومة بمحالها.
وخامسها قوله (وكل قائم في سواه معلول)، أي وكل شئ يتقوم بغيره فهو
معلول، وهذا حق لا محالة، كالأعراض; لأنها لو كانت واجبة لاستغنت في تقومها عن
سواها، لكنها مفتقرة إلى المحل الذي يتقوم به ذواتها; فإذا هي معلولة، لان كل
مفتقر إلى الغير فهو ممكن فلا بد له من مؤثر.
وسادسها قوله (فاعل لا باضطراب آلة) هذا لبيان الفرق بينه وبيننا، فإننا
نفعل بالآلات وهو سبحانه قادر لذاته فاستغنى عن الآلة.
وسابعها قوله (مقدر لا بجول فكرة)، هذا أيضا للفرق بيننا وبينه، لأنا إذا
قدرنا أجلنا أفكارنا، وترددت بنا الدواعي، وهو سبحانه يقدر الأشياء على
خلاف ذلك.
وثامنها قوله (غنى لا باستفادة)، هذا أيضا للفرق بيننا وبينه، لان الغنى منا
من يستفيد الغنى بسبب خارجي، وهو سبحانه غني بذاته من غير استفادة أمر يصير به
غنيا، والمراد بكونه غنيا أن كل شئ من الأشياء يحتاج إليه، وانه سبحانه لا يحتاج إلى
شئ من الأشياء أصلا.
وتاسعها قوله (لا تصحبه الأوقات)، هذا بحث شريف جدا، وذلك لأنه سبحانه
ليس بزمان ولا قابل للحركة، فذاته فوق الزمان والدهر; اما المتكلمون فإنهم يقولون:
71

انه تعالى كان ولا زمان ولا وقت، واما الحكماء فيقولون إن الزمان عرض قائم بعرض
آخر، وذلك العرض الاخر قائم بجسم معلول لبعض المعلولات الصادرة عنه سبحانه،
فالزمان عندهم - وإن كان لم يزل - الا إن العلة الأولى ليست واقعة تحته، وذلك هو
المراد بقوله (لا تصحبه الأوقات) إن فسرناه على قولهم، وتفسيره على قول
المتكلمين أولى.
وعاشرها قوله (ولا ترفده الأدوات)، رفدت فلانا إذا أعنته; والمراد الفرق
بيننا وبينه، لأننا مرفودون بالأدوات، ولولاها لم يصح منا الفعل، وهو سبحانه
بخلاف ذلك.
وحادي عشرها قوله (سبق الأوقات كونه...) إلى آخر الفصل، هذا
تصريح بحدوث العالم.
فان قلت ما معنى قوله (والعدم وجوده)، وهل يسبق وجوده العدم مع كون
عدم العالم في الأزل لا أول له؟
قلت ليس يعنى بالعدم ها هنا عدم العالم بل عدم ذاته سبحانه، أي غلب وجود
ذاته عدمها وسبقها، فوجب له وجود يستحيل تطرق العدم إليه أزلا وأبدا بخلاف
الممكنات، فان عدمها سابق بالذات على وجودها، وهذا دقيق
* * *
الأصل:
بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له، وبمضادته بين الأمور عرف أن
لا ضد له، وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له.
ضاد النور بالظلمة; والوضوح بالبهمة، والجمود بالبلل، والحرور بالصرد.
72

مؤلف بين متعادياتها، مقارن بين متبايناتها، مقرب بين متباعداتها،
مفرق بين متدانياتها.
لا يشمل بحد، ولا يحسب بعد، وإنما تحد الأدوات أنفسها; وتشير الآلات
إلى نظائرها
* * *
الشرح:
المشاعر الحواس، قال بلعاء بن قيس:
والرأس مرتفع فيه مشاعره يهدى السبيل له سمع وعينان.
قال: بجعله تعالى المشاعر عرف أن لا مشعر له; وذلك لان الجسم لا يصح منه فعل
الأجسام، وهذا هو الدليل الذي يعول عليه المتكلمون في أنه تعالى ليس بجسم.
ثم قال (وبمضادته بين الأمور عرف أن لا ضد له)، وذلك لأنه تعالى لما دلنا
بالعقل على أن الأمور المتضادة إنما تتضاد على موضوع تقوم به وتحله كان قد دلنا على أنه
تعالى لا ضد له، لأنه يستحيل إن يكون قائما بموضوع يحله كما تقوم
المتضادات بموضوعاتها.
ثم قال (وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له)، وذلك لأنه تعالى قرن
بين العرض والجوهر، بمعنى استحالة انفكاك أحدهما عن الاخر، وقرن بين كثير من
الاعراض، نحو ما يقوله أصحابنا في حياتي القلب والكبد، ونحو الإضافات التي يذكرها
الحكماء كالبنوة والأبوة والفوقية والتحتية، ونحو كثير من العلل والمعلولات، والأسباب
والمسببات، فيما ركبه في العقول من وجوب هذه المقارنة واستحالة انفكاك أحد الامرين

(1) صحاح الجوهري 699.
73

عن الاخر، علمنا أنه لا قرين له سبحانه، لأنه لو قارن شيئا على حسب هذه المقارنة
لاستحال انفكاكه عنه، فكان محتاجا في تحقق ذاته تعالى إليه، وكل محتاج ممكن،
فواجب الوجود ممكن هذا محال.
ثم شرع في تفصيل المتضادات، فقال (ضاد النور بالظلمة)، وهما عرضان عند
كثير من الناس، وفيهم من يجعل الظلمة عدمية.
قال (والوضوح بالبهمة) يعنى البياض والسواد.
قال (والجمود بالبلل)، يعنى اليبوسة والرطوبة.
قال (والحرور بالصرد) يعنى الحرارة والبرودة، والحرور ها هنا مفتوح الحاء،
يقال انى لأجد لهذا الطعام حرورا وحرورة في فمي، أي حرارة، ويجوز أن يكون في
الكلام مضاف محذوف، أي وحرارة الحرور بالصرد; والحرور ها هنا يكون الريح الحارة،
وهي بالليل كالسموم بالنهار، والصرد البرد.
ثم قال وانه تعالى مؤلف بين هذه المتباعدات، المتعاديات: المتباينات، وليس المراد
من تأليفه بينها جمعه إياها في مكان واحد، كيف وذلك مستحيل في نفسه، بل هو سبحانه
مؤلف لها في الأجسام المركبة حتى خلع منها صوره مفردة، هي المزاج، الا ترى انه جمع
الحار والبارد والرطب واليابس، فمزجه مزجا مخصوصا حتى انتزع منه طبيعة مفردة،
ليست حارة مطلقة، ولا باردة مطلقة، ولا رطبة مطلقة، ولا يابسة مطلقة، وهي المزاج،
وهو محدود عند الحكماء بأنه كيفية حاصلة من كيفيات متضادة، وهذا هو محصول كلامه
عليه السلام بعينه.
والعجب من فصاحته في ضمن حكمته، كيف أعطى كل لفظة من هذه اللفظات ما
يناسبها ويليق بها، فأعطى المتباعدات لفظة (مقرب); لان البعد بإزاء القرب،
74

وأعطى المتباينات لفظة (مقارن)، لان البينونة بإزاء المقارنة، وأعطى المتعاديات لفظة
(مؤلف) لان الائتلاف بإزاء التعادي.
ثم عاد عليه السلام فعكس المعنى، فقال (مفرق بين متدانياتها)، فجعل الفساد
بإزاء الكون، وهذا من دقيق حكمته عليه السلام، وذلك لان كل كائن فاسد، فلما
أوضح ما أوضح في الكون والتركيب والإيجاد، أعقبه بذكر الفساد والعدم، فقال
(مفرق بين متدانياتها)، وذلك لان كل جسم مركب من العناصر المختلفة الكيفيات
المتضادة الطبائع، فإنه سيؤول إلى الانحلال والتفرق.
ثم قال (لا يشمل بحد)، وذلك لان الحد الشامل ما كان مركبا من جنس
وفصل، والباري تعالى منزه عن ذلك، لأنه لو شمله الحد على هذا الوجه يكون مركبا،
فلم يكن واجب الوجود، وقد ثبت انه واجب الوجود، ويجوز أن يعنى به انه ليس
بذي نهاية، فتحويه الأقطار وتحده.
ثم قال (ولا يحسب بعد)، يحتمل أن يريد لا تحسب أزليته بعد، أي
لا يقال له منذ وجد كذا وكذا، كما يقال للأشياء المتقاربة العهد، ويحتمل أن يريد به انه
ليس مماثلا للأشياء فيدخل تحت العدد، كما تعد الجواهر، وكما تعد الأمور المحسوسة.
ثم قال (وإنما تحد الأدوات أنفسها وتشير الآلات إلى نظائرها)، هذا
يؤكد معنى التفسير الثاني، وذلك لان الأدوات كالجوارح، إنما تحد وتقدر ما كان
مثلها من ذوات المقادير، وكذلك إنما تشير الآلات - وهي الحواس - إلى ما كان نظيرا لها
في الجسمية ولوازمها، والباري تعالى ليس بذي مقدار ولا جسم، ولا حال في جسم،
فاستحال أن تحده الأدوات وتشير إليه الآلات.
75

الأصل:
منعتها منذ القدمة، وحمتها قد الأزلية، وجنبتها لولا التكملة، بها تجلى
صانعها للعقول، وبها امتنع عن نظر العيون، ولا تجرى عليه الحركة والسكون،
وكيف يجرى عليه ما هو أجراه، ويعود فيه ما هو أبداه، ويحدث فيه
ما هو أحدثه.
إذا لتفاوتت ذاته، ولتجزأ كنهه، ولامتنع من الأزل معناه; ولكان له
وراء إذ وجد له امام، ولالتمس التمام إذ لزمه النقصان; وإذا لقامت آية المصنوع
فيه، ولتحول دليلا بعد أن كان مدلولا عليه، وخرج بسلطان الامتناع من أن يؤثر فيه ما
يؤثر في غيره
* * *
الشرح:
قد اختلف الرواة في هذا الموضع من وجهين:
أحدهما قول من نصب (القدمة) و (الأزلية) و (التكملة) فيكون نصبها
عنده على أنها مفعول ثان، والمفعول الأول الضمائر المتصلة بالافعال، وتكون (منذ)
و (قد) و (لولا) في موضع رفع بأنها فاعلة، وتقدير الكلام إن اطلاق لفظة (منذ)
على الآلات والأدوات يمنعها عن كونها قديمة، لان لفظة (منذ) وضعت لابتداء الزمان
كلفظة (من) لابتداء المكان، والقديم لا ابتداء له، وكذلك اطلاق لفظة (قد) على
الآلات، والأدوات تحميها وتمنعها من كونها أزلية، لان (قد) لتقريب الماضي من
الحال، تقول قد قام زيد، فقد دل على أن قيامه قريب من الحال التي أخبرت فيها
76

بقيامه، والأزلي لا يصح ذلك فيه، وكذلك اطلاق لفظة (لولا) على الأدوات والآلات
يجنبها التكملة، ويمنعها من التمام المطلق، لان لفظة (لولا) وضعت لامتناع الشئ لوجود
غيره، كقولك لولا زيد لقام عمرو، فامتناع قيام عمرو إنما هو لوجود زيد، وأنت تقول
في الأدوات والآلات وكل جسم ما أحسنه لولا أنه فان وما أتمه لولا كذا فيكون
المقصد والمنحى بهذا الكلام على هذه الرواية بيان أن الأدوات والآلات محدثة ناقصة،
والمراد بالآلات والأدوات أربابها.
الوجه الثاني قول من رفع (القدمة) و (الأزلية) و (التكملة) فيكون كل
واحد منها عنده فاعلا، وتكون الضمائر المتصلة بالافعال مفعولا أولا، و (منذ) و (قد)
و (لولا) مفعولا ثانيا، ويكون المعنى إن قدم الباري وأزليته وكماله منعت الأدوات
والآلات من اطلاق لفظة (منذ) و (قد) و (لولا) عليه سبحانه، لأنه تعالى قديم
كامل ولفظتا (منذ) و (قد) لا يطلقان الا على محدث، لان إحداهما لابتداء الزمان
والأخرى لتقريب الماضي من الحال، ولفظة (لولا) لا تطلق الا على ناقص، فيكون
المقصد والمنحى بهذا الكلام على هذه الرواية بيان قدم الباري تعالى وكماله، وانه لا يصح
أن يطلق عليه ألفاظ تدل على الحدوث والنقص.
* * *
قوله عليه السلام (بها تجلى صانعها للعقول، وبها امتنع عن نظر العيون)، أي
بهذه الآلات والأدوات التي هي حواسنا ومشاعرنا، وبخلقه إياها، وتصويره لها، تجلى
للعقول وعرف، لأنه لو لم يخلقها لم يعرف، وبها امتنع عن نظر العيون، أي بها استنبطنا
استحالة كونه مرئيا بالعيون، لأنا بالمشاعر والحواس كملت عقولنا، وبعقولنا استخرجنا
الدلالة على أنه لا تصح رؤيته، فأذن بخلقه الآلات والأدوات لنا عرفناه عقلا، وبذلك
77

أيضا عرفنا انه يستحيل أن يعرف بغير العقل، وان قول من قال انا سنعرفه رؤية
ومشافهة بالحاسة باطل.
قوله عليه السلام (لا تجرى عليه الحركة والسكون)، هذا دليل اخذه المتكلمون
عنه عليه السلام فنظموه في كتبهم وقرروه، وهو إن الحركة والسكون معان محدثة،
فلو حلت فيه لم يخل منها، وما لم يخل من المحدث فهو محدث.
فان قلت إنه عليه السلام لم يخرج كلامه هذا المخرج، وإنما قال كيف يجرى عليه
ما هو أجراه، وهذا نمط آخر غير ما يقرره المتكلمون.
قلت بل هو هو بعينه، لأنه إذا ثبت انه هو الذي أجرى الحركة والسكون، أي
أحدثهما لم يجز أن يجريا عليه، لأنهما لو جريا عليه لم يخل اما أن يجريا عليه على التعاقب،
وليسا ولا واحد منهما بقديم، أو يجريا عليه على أن أحدهما قديم ثم تلاه الاخر، والأول
باطل بما يبطل به حوادث لا أول لها، والثاني باطل بكلامه عليه السلام، وذلك لأنه
لو كان أحدهما قديما معه سبحانه لما كان أجراه، لكن قد قلنا إنه أجراه، أي أحدثه،
وهذا خلف محال. وأيضا فإذا كان أحدهما قديما معه لم يجز أن يتلوه الاخر، لان القديم
لا يزول بالمحدث.
ثم قال عليه السلام (إذا لتفاوتت ذاته، ولتجزأ كنهه، ولامتنع من الأزل
معناه)، هذا تأكيد لبيان استحالة جريان الحركة والسكون عليه، تقول لو صح
عليه ذلك لكان محدثا، وهو معنى قوله (لامتنع من الأزل معناه)، وأيضا
كان ينبغي أن تكون ذاته منقسمة، لان المتحرك الساكن لا بد أن يكون
متحيزا، وكل متحيز جسم، وكل جسم منقسم ابدا، وفى هذا إشارة إلى
نفى الجوهر الفرد.
78

ثم قال عليه السلام (ولكان له وراء إذا وجد له امام) هذا يؤكد ما قلناه انه
إشارة إلى نفى الجوهر الفرد، يقول لو حلته الحركة لكان جرما وحجما; ولكان
أحد وجهيه غير الوجه الاخر لا محالة، فكان منقسما، وهذا الكلام لا يستقيم الا مع
نفى الجوهر الفرد، لان من أثبته يقول يصح أن تحله الحركة، ولا يكون أحد وجهيه
غير الاخر، فلا يلزم أن يكون له وراء وامام.
ثم قال عليه السلام (ولا التمس التمام إذ لزمه النقصان)، هذا إشارة إلى ما يقوله
الحكماء، من إن الكون عدم ونقص، والحركة وجود وكمال، فلو كان سبحانه
يتحرك ويسكن لكان حال السكون ناقصا قد عدم عنه كماله، فكان ملتمسا كماله
بالحركة الطارئة على السكون، وواجب الوجود، يستحيل أن يكون له حالة نقصان،
وأن يكون له حالة بالقوة وأخرى بالفعل.
قوله عليه السلام (إذا لقامت آية المصنوع فيه)، وذلك لان آية المصنوع كونه متغيرا
منتقلا من حال إلى حال، لأنا بذلك استدللنا على حدوث الأجسام، فلو كان تعالى متغيرا
متحركا منتقلا من حال إلى حال لتحقق فيه دليل الحدوث، فكان مصنوعا، وقد ثبت
انه الصانع المطلق سبحانه.
قوله عليه السلام (ولتحول دليلا بعد أن كان مدلولا عليه)، يقول انا وجدنا
دليلنا على الباري سبحانه، إنما هو الأجسام المتحركة، فلو كان الباري متحركا
لكان دليلا على غيره، وكان فوقه صانع آخر صنعه وأحدثه، لكنه سبحانه لا صانع له
ولا ذات فوق ذاته، فهو المدلول عليه والمنتهى إليه.
قوله عليه السلام (وخرج بسلطان الامتناع من أن يؤثر فيه ما أثر في غيره)، في
هذا الكلام يتوهم سامعه انه عطف على قوله (لتفاوتت) و (لتجزأ) و (لامتنع)
79

و (لكان له) و (لالتمس) و (لقامت) و (لتحول) وليس كذلك، لأنه لو كان
معطوفا عليها لاختل الكلام وفسد، لأنها كلها مستحيلات عليه تعالى، والمراد لو تحرك
لزم هذه المحالات كلها.
وقوله (وخرج بسلطان الامتناع) ليس من المستحيلات عليه، بل هو واجب له، ومن
الأمور الصادقة عليه، فإذا فسد أن يكون معطوفا عليها وجب أن يكون معطوفا على ما كان
مدلولا عليه، وتقدير الكلام كان يلزم أن يتحول الباري دليلا على غيره، بعد أن
كان مدلولا عليه، وبعد أن خرج بسلطان الامتناع من أن يؤثر فيه ما أثر في غيره، وخروجه
بسلطان الامتناع المراد به وجوب الوجود والتجريد وكونه ليس بمتحيز ولا حال في المتحيز فهذا
هو سلطان الامتناع الذي به خرج عن أن يؤثر فيه ما أثر في غيره من الأجسام والممكنات.
* * *
الأصل:
الذي لا يحول ولا يزول، ولا يجوز عليه الأفول، لم يلد فيكون مولودا،
ولم يولد فيصير محدودا. جل عن اتخاذ الأبناء، وطهر عن ملامسة النساء، لا تناله
الأوهام فتقدره، ولا تتوهمه الفطن فتصوره، ولا تدركه الحواس فتحسه،
ولا تلمسه الأيدي فتمسه، ولا يتغير بحال، ولا يتبدل في الأحوال، ولا تبليه
الليالي والأيام، ولا يغيره الضياء والظلام.
* * *
الشرح:
هذا الفصل كله واضح مستغن عن الشرح، الا قوله عليه السلام (لم يلد
80

فيكون (مولودا)، لان لقائل أن يقول كيف يلزم من فرض كونه والدا أن يكون
مولودا؟ في جوابه: انه ليس معنى الكلام انه يلزم من فرض وقوع أحدهما وقوع
الاخر، وكيف وآدم والد وليس بمولود وإنما المراد انه يلزم من فرض صحه كونه والدا
صحه كونه مولودا، والتالي محال والمقدم محال، و إنما قلنا إنه يلزم من فرض صحة
كونه والدا صحة كونه مولودا، لأنه لو صح أن يكون والدا على التفسير المفهوم من الوالدية،
وهو أن يتصور من بعض اجزائه حي آخر من نوعه على سبيل الاستحالة لذلك الجزء كما نعقله
في النطفة المنفصلة من الانسان المستحيلة إلى صورة أخرى; حتى يكون منها بشر
آخر من نوع الأول لصح عليه أن يكون هو مولودا من والد آخر قبله، وذلك لان
الأجسام متماثلة في الجسمية، وقد ثبت ذلك بدليل عقلي واضح في مواضعه التي هي أملك
به، وكل مثلين فان أحدهما يصح عليه ما يصح على الاخر، فلو صح كونه والدا
يصح كونه مولودا.
واما بيان انه لا يصح كونه مولودا، فلان كل مولود متأخر عن والده بالزمان، وكل
متأخر عن غيره بالزمان محدث، فالمولود محدث والباري تعالى قد ثبت انه قديم، وان
الحدوث عليه محال، فاستحال أن يكون مولودا، وتم الدليل.
* * *
الأصل:
ولا يوصف بشئ من الاجزاء، ولا بالجوارح والأعضاء، ولا بعرض من
الاعراض، ولا بالغيرية والأبعاض، ولا يقال له حد ولا نهاية، ولا انقطاع
ولا غاية; ولا إن الأشياء تحويه; فتقله أو تهويه، أو إن شيئا يحمله فيميله
81

أو يعدله. ليس في الأشياء بوالج، ولا عنها بخارج.
يخبر لا بلسان ولهوات، ويسمع لا بخروق وأدوات، يقول ولا يلفظ، ويحفظ
ولا يتحفظ، ويريد ولا يضمر.
يحب ويرضى من غير رقة، ويبغض ويغضب من غير مشقة، يقول لمن أراد
كونه: كن فيكون.
لا بصوت يقرع، ولا بنداء يسمع، وإنما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه
ومثله، لم يكن من قبل ذلك كائنا، ولو كان قديما لكان إلها ثانيا.
* * *
الشرح:
في هذا الفصل مباحث:
أولها: أن الباري سبحانه لا يوصف بشئ من الاجزاء، أي ليس بمركب; لأنه
لو كان مركبا لافتقر إلى اجزائه، واجزاؤه ليست نفس هويته، وكل ذات تفتقر
هويتها إلى أمر من الأمور فهي ممكنة; لكنه واجب الوجود، فاستحال أن يوصف
بشئ من الاجزاء.
وثانيها: انه لا يوصف بالجوارح والأعضاء كما يقول مثبتو الصورة، وذلك لأنه لو كان
كذلك لكان جسما، وكل جسم ممكن، وواجب الوجود غير ممكن.
وثالثها: انه لا يوصف بعرض من الاعراض كما يقوله الكرامية; لأنه لو حله العرض
لكان ذلك العرض ليس بان يحل فيه أولى من أن يحل هو في العرض، لان معنى
82

الحلول حصول العرض في حيز المحل تبعا لحصول المحل فيه، فما ليس بمتحيز لا يتحقق
فيه معنى الحلول، وليس بان يجعل محلا أولى من أن يجعل حالا.
ورابعها: انه لا يوصف بالغيرية والأبعاض، أي ليس له بعض، ولا هو ذو أقسام
بعضها غيرا للبعض الاخر، وهذا يرجع إلى البحث الأول.
وخامسها: انه لا حد له ولا نهاية، أي ليس ذا مقدار، ولذلك المقدار طرف
ونهاية، لأنه لو كان ذا مقدار لكان جسما، لان المقدار من لوازم الجسمية، وقد ثبت
انه تعالى ليس بجسم.
وسادسها: انه لا انقطاع لوجوده، ولا غاية، لأنه لو جاز عليه العدم في المستقبل
لكان وجوده الان متوقفا على عدم سبب عدمه، وكل متوقف على الغير فهو ممكن
في ذاته، والباري تعالى واجب الوجوب، فاستحال عليه العدم; وأن يكون لوجوده
انقطاع، أو ينتهى إلى غاية يعدم عندها.
وسابعها: أن الأشياء لا تحويه فتقله; أي ترفعه، أو تهويه; أي تجعله هاويا إلى
جهة تحت، لأنه لو كان كذلك لكان ذا مقدار أصغر من مقدار الشئ الحاوي له،
لكن قد بينا انه يستحيل عليه المقادير، فاستحال كونه محويا.
وثامنها: انه ليس يحمله شئ فيميله إلى جانب، أو يعدله بالنسبة إلى جميع الجوانب،
لان كل محمول مقدر، وكل مقدر جسم، وقد ثبت انه ليس بجسم.
وتاسعها: انه ليس في الأشياء بوالج، أي داخل. ولا عنها بخارج، هذا مذهب
الموحدين; والخلاف فيه مع الكرامية والمجسمة، وينبغي أن يفهم قوله عليه السلام
(ولا عنها بخارج) انه لا يريد سلب الولوج، فيكون قد خلا من النقيضين،
لان ذلك محال، بل المراد بكونه ليس خارجا عنها انه ليس كما يعتقده كثير من الناس;
أن الفلك الأعلى المحيط لا يحتوي عليه; ولكنه ذات موجودة متميزة بنفسها، قائمة
83

بذاتها، خارجة عن الفلك في الجهة العليا، بينها وبين الفلك بعد، اما غير متناه - على
ما يحكى عن ابن الهيصم - أو متناه على ما يذهب إليه أصحابه; وذلك أن هذه القضية
وهي قولنا الباري خارج عن الموجودات كلها على هذا التفسير ليست مناقضة للقضية
الأولى، وهي قولنا الباري داخل العالم، ليكون القول بخلوه عنهما قولا بخلوه عن النقيضين،
الا ترى انه يجوز أن تكون القضيتان كاذبتين معا، بالا يكون الفلك المحيط محتويا عليه، ولا
يكون حاصلا في جهة خارج الفلك، ولو كانت القضيتان متناقضتين لما استقام ذلك،
وهذا كما تقول زيد في الدار زيد في المسجد، فان هاتين القضيتين ليستا متناقضتين،
لجواز الا يكون زيد في الدار، ولا في المسجد، فان هاتين لو تناقضتا لاستحال الخروج
عن النقيضين، لكن المتناقض (زيد في الدار، زيد ليس في الدار)، والذي يستشنعه
العوام من قولنا (الباري لا داخل العالم ولا خارج العالم) غلط مبنى على اعتقادهم
وتصورهم أن القضيتين تتناقضان، وإذا فهم ما ذكرناه بان انه ليس هذا القول بشنيع;
بل هو سهل وحق، أيضا فإنه تعالى لا متحيز ولا حال في المتحيز، وما كان كذلك
استحال أن يحصل في جهة; لا داخل العالم ولا خارج العالم، و قد ثبت كونه غير متحيز
ولا حال في المتحيز، من حيث كان واجب الوجود، فأذن القول بأنه ليس في الأشياء
بوالج ولا عنها بخارج صواب وحق.
وعاشرها: انه تعالى يخبر بلا لسان ولهوات; وذلك لان كونه تعالى مخبرا هو
كونه فاعلا للخبر، كما إن كونه ضاربا هو كونه فاعلا للضرب، فكما لا يحتاج في كونه
ضاربا إلى أداة وجارحة يضرب بها كذلك لا يحتاج في كونه مخبرا إلى لسان ولهوات
يخبر بها.
وحادي عشرها: انه تعالى يسمع بلا حروف وأدوات، وذلك لان الباري سبحانه
حي لا آفة به; وكل حي لا آفة به; فواجب أن يسمع المسموعات، ويبصر المبصرات،
84

ولا حاجة به سبحانه إلى حروف وأدوات، كما نحتاج نحن إلى ذلك، لأنا احياء بحياة
تحلنا، والباري تعالى حي لذاته، فلما افترقنا فيما به كان سامعا ومبصرا، افترقنا في الحاجة
إلى الأدوات والجوارح.
وثاني عشرها: انه يقول ولا يتلفظ، هذا بحث لفظي، وذلك لأنه قد ورد السمع
بتسميته قائلا، وقد تكرر في الكتاب العزيز ذكر هذه اللفظة، نحو قوله (وإذ قال
الله يا عيسى) (1) (وقال الله انى معكم) (2)، ولم يرد في السمع اطلاق كونه متلفظا
عليه، وفي اطلاقه إيهام كونه ذا جارحة، فوجب الاقتصار على ما ورد، وترك ما لم يرد.
وثالث عشرها: انه تعالى يحفظ ولا يتحفظ; اما كونه يحفظ فيطلق على وجهين:
أحدهما انه يحفظ بمعنى انه يحصى اعمال عباده ويعلمها، والثاني كونه يحفظهم ويحرسهم من
الآفات والدواهي. واما كونه لا يتحفظ فيحتمل معنيين. أحدهما انه لا يجوز أن يطلق
عليه انه يتحفظ الكلام، أي يتكلف كونه حافظا له، ومحيطا وعالما به، كالواحد منا
يتحفظ الدرس ليحفظه، فهو سبحانه حافظ غير متحفظ والثاني انه ليس بمتحرز ولا
مشفق على نفسه خوفا أن تبدر إليه بادرة من غيره.
ورابع عشرها: انه يريد ولا يضمر، اما كونه مريدا فقد ثبت بالسمع نحو قوله
تعالى (يريد الله بكم اليسر) (3)، وبالعقل لاختصاص أفعاله بأوقات مخصوصة،
وكيفيات مخصوصة، جاز أن تقع على خلافها، فلا بد من مخصص لها بما اختصت
به; وذلك كونه مريدا، واما كونه لا يضمر فهو اطلاق لفظي لم يأذن فيه الشرع، وفيه
إيهام كونه ذا قلب، لان الضمير في العرف اللغوي ما استكن في القلب، والباري ليس بجسم.

(1) سورة المائدة 110.
(2) سورة البقرة 185.
(3) سورة المائدة 12.
85

وخامس عشرها: انه يحب ويرضى من غير رقة، ويبغض ويغضب من غير مشقة،
وذلك لان محبته للعبد ارادته أن يثيبه، ورضاه عنه أن يحمد فعله، وهذا يصح ويطلق
على الباري، لا كاطلاقه علينا، لأن هذه الأوصاف يقتضى اطلاقها علينا رقة القلب،
والباري ليس بجسم، واما بغضه للعبد فإرادة عقابه وغضبه كراهية فعله ووعيده بإنزال
العقاب به، وفى الأغلب إنما يطلق ذلك علينا ويصح منا مع مشقة تنالنا من إزعاج القلب
وغليان دمه، والباري ليس بجسم.
وسادس عشرها: انه يقول لما أراد كونه كن، فيكون من غير صوت يقرع، ولا نداء
يسمع، هذا مذهب شيخنا أبى الهذيل، واليه يذهب الكرامية واتباعها من الحنابلة
وغيرهم، والظاهر أن أمير المؤمنين عليه السلام أطلقه حملا على ظاهر لفظ القرآن في
مخاطبة الناس بما قد سمعوه وأنسوا به، وتكرر على أسماعهم وأذهانهم، فاما باطن الآية
وتأويلها الحقيقي فغير ما يسبق إلى أذهان العوام، فليطلب من موضعه.
وسابع عشرها: إن كلامه سبحانه فعل منه أنشأه، ومثله لم يكن من قبل ذلك كائنا،
ولو كان قديما لكان إلها ثانيا، هذا هو دليل المعتزلة على نفى المعاني القديمة التي منها القرآن،
وذلك لان القدم عندهم أخص صفات الباري تعالى، أو موجب عن الأخص، فلو أن
في الوجود معنى قديما قائما بذات الباري; لكان ذلك المعنى مشاركا للباري في أخص
صفاته، وكان يجب لذلك المعنى جميع ما وجب للباري من الصفات، نحو العالمية والقادرية
وغيرهما، فكان إلها ثانيا.
فان قلت ما معنى قوله عليه السلام (ومثله)؟
قلت: يقال مثلت له كذا تمثيلا، إذا صورت له مثاله بالكتابة أو بغيرها، فالبارئ
مثل القرآن لجبريل عليه السلام بالكتابة في اللوح المحفوظ فأنزله على محمد صلى الله عليه وآله.
86

وأيضا يقال مثل زيد بحضرتي إذا حضر قائما، ومثلته بين يدي زيد أي أحضرته
منتصبا، فلما كان الله تعالى فعل القرآن واضحا بينا كان قد مثله للمكلفين
* * *
الأصل:
لا يقال كان بعد أن لم يكن، فتجري عليه الصفات المحدثات ولا يكون
بينها وبينه فصل، ولا له عليها فضل، فيستوي الصانع والمصنوع، ويتكافأ
المبتدع والبديع.
خلق الخلائق على غير مثال خلا من غيره، ولم يستعن على خلقها بأحد من خلقه،
وأنشأ الأرض فأمسكها من غير اشتغال، وأرساها على غير قرار، وأقامها بغير
قوائم، ورفعها بغير دعائم، وحصنها من الأود والاعوجاج، ومنعها من
التهافت والانفراج.
أرسى أوتادها، وضرب أسدادها، واستفاض عيونها، وخد أوديتها، فلم
يهن ما بناه ولا ضعف ما قواه.
* * *
الشرح:
عاد عليه السلام إلى تنزيه البارئ تعالى عن الحدوث، فقال لا يجوز أن يوصف به
فتجري عليه الصفات المحدثات كما تجرى على كل محدث، وروى (فتجري عليه صفات
المحدثات) وهو أليق، ليعود إلى المحدثات ذوات الصفات ما بعده; وهو قوله عليه السلام
(ولا يكون بينه وبينها فصل)، لأنه لا يحسن أن يعود الضمير في قوله (وبينها) إلى
(الصفات) بل إلى (ذوات الصفات).
87

قال لو كان محدثا لجرت عليه صفات الأجسام المحدثة، فلم يكن بينه وبين الأجسام
المحدثة فرق، فكان يستوي الصانع والمصنوع، وهذا محال.
ثم ذكر انه خلق الخلق غير محتذ لمثال، ولا مستفيد من غيره كيفية الصنعة، بخلاف
الواحد منا، فان الواحد منا لا بد أن يحتذى في الصنعة، كالبناء، والنجار والصانع
وغيرها.
قال عليه السلام (ولم يستعن على خلقها بأحد من خلقه) لأنه تعالى قادر لذاته
لا يعجزه شئ.
ثم ذكر إنشاءه تعالى الأرض، وانه أمسكها من غير اشتغال منه بإمساكها، وغير
ذلك من أفعاله ومخلوقاته، ليس كالواحد منا يمسك الثقيل فيشتغل بإمساكه عن كثير
من أموره.
قال (وأرساها)، جعلها راسية على غير قرار تتمكن عليه، بل واقفة بإرادته التي
اقتضت وقوفها، ولان الفلك يجذبها من جميع جهاتها - كما قيل - أو لأنه يدفعها من جميع
جهاتها، أو لان أحد نصفيها صاعد بالطبع، والاخر هابط بالطبع، فاقتضى التعادل وقوفها،
أو لأنها طالبه للمركز فوقفت.
والأود الاعوجاج، وكرر لاختلاف اللفظ.
والتهافت التساقط والأسداد جمع سد، وهو الجبل، ويجوز ضم السين.
واستفاض عيونها، بمعنى أفاض، أي جعلها فائضة.
وخد أوديتها، أي شقها فلم يهن ما بناه، أي لم يضعف.
88

الأصل:
هو الظاهر عليها بسلطانه وعظمته، وهو الباطن لها بعلمه ومعرفته، والعالي
على كل شئ منها بجلاله وعزته، لا يعجزه شئ منها طلبه، ولا يمتنع عليه
فيغلبه، ولا يفوته السريع منها فيسبقه، ولا يحتاج إلى ذي مال فيرزقه..
خضعت الأشياء له، وذلت مستكينة لعظمته، لا تستطيع الهرب من سلطانه
إلى غيره فتمتنع من نفعه وضره، ولا كفء له فيكافئه، ولا نظير له
فيساويه.
هو المفنى لها بعد وجودها حتى يصير موجودها كمفقودها، وليس فناء الدنيا
بعد ابتداعها بأعجب من انشائها واختراعها. وكيف ولو اجتمع جميع حيوانها - من
طيرها وبهائمها، وما كان من مراحها وسائمها، وأصناف أسناخها وأجناسها،
ومتبلدة أممها وأكياسها - على احداث بعوضة، ما قدرت على إحداثها، ولا عرفت
كيف السبيل إلى ايجادها، ولتحيرت عقولها في علم ذلك وتاهت، وعجزت
قواها وتناهت، ورجعت خاسئة حسيرة، عارفة بأنها مقهورة، مقرة بالعجز عن
انشائها، مذعنة بالضعف عن إفنائها.
* * *
الشرح:
الظاهر: الغالب القاهر; والباطن: العالم الخبير.
والمراح بضم الميم النعم ترد إلى المراح بالضم أيضا; وهو الموضع الذي تأوي إليه النعم،
وليس المراح ضد السائم على ما يظنه بعضهم، ويقول إن عطف أحدهما على الاخر عطف
89

على المختلف والمتضاد، بل أحدهما هو الاخر وضدهما المعلوفة، وإنما عطف أحدهما على
الاخر على طريقة العرب في الخطابة، ومثله في القرآن كثير، نحو قوله سبحانه (لا يمسنا
فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب) (1).
وأسناخها جمع سنخ بالكسر، وهو الأصل.
وقوله (لو اجتمع جميع الحيوان على احداث بعوضة) هو معنى قوله سبحانه
(إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له) (2).
فان قلت ما معنى قوله (لا تستطيع الهرب من سلطانه إلى غيره فتمتنع من نفعه
وضره) وهلا قال (من ضره) ولم يذكر النفع، فإنه لا معنى لذكره ها هنا.
قلت: هذا كما يقول المعتصم بمعقل حصين عن غيره ما يقدر اليوم فلان لي على نفع
ولا ضر، وليس غرضه الا ذكر الضرر، وإنما يأتي بذكر النفع على سبيل سلب
القدرة عن فلان على كل ما يتعلق بذلك المعتصم، وأيضا فان العفو عن المجرم نفع له، فهو
عليه السلام يقول إنه ليس شئ من الأشياء يستطيع أن يخرج إذا أجرم من
سلطان الله تعالى إلى غيره فيمتنع من باس الله تعالى، ويستغنى عن أن يعفو عنه لعدم
اقتداره عليه.
* * *
الأصل:
وانه سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده لا شئ معه، كما كان قبل ابتدائها،
كذلك يكون بعد فنائها; بلا وقت ولا مكان، ولا حين ولا زمان.
عدمت عند ذلك الآجال والأوقات، وزالت السنون والساعات، فلا شئ

(1) سورة فاطر 35.
(2) سورة الحج 73.
90

الا الله الواحد القهار; الذي إليه مصير جميع الأمور.
بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها، وبغير امتناع منها كان فناؤها، ولو قدرت
على الامتناع لدام بقاؤها.
لم يتكاءده صنع شئ منها إذ صنعه، ولم يؤده منها خلق ما براه وخلقه،
ولم يكونها لتشديد سلطان، ولا لخوف من زوال ونقصان، ولا للاستعانة بها
على ند مكاثر، ولا للاحتراز بها من ضد مثاور، ولا للازدياد بها في ملكه،
ولا لمكاثرة شريك في شركه، ولا لوحشة كانت منه فأراد أن يستأنس
إليها. ثم هو يفنيها بعد تكوينها; لا لسام دخل عليه في تصريفها
وتدبيرها، ولا لراحة واصله إليه، ولا لثقل شئ منه عليه، لا يمله طول بقائها
فيدعوه إلى سرعة إفنائها، ولكنه سبحانه دبرها بلطفه، وأمسكها بأمره،
وأتقنها بقدرته، ثم يعيدها بعد الفناء من غير حاجة منه إليها، ولا استعانة
بشئ منها عليها، ولا لانصراف من حال وحشة إلى حال استئناس، ولا من حال
جهل وعمى إلى علم والتماس، ولا من فقر وحاجة إلى غنى وكثرة، ولا من
ذل وضعة إلى عز وقدرة.
* * *
الشرح:
شرع أولا في ذكر اعدام الله سبحانه الجواهر وما يتبعها ويقوم بها من الاعراض
قبل القيامة، وذلك لان الكتاب العزيز قد ورد به، نحو قوله تعالى (كما بدانا أول
خلق نعيده) (1) ومعلوم انه بداه عن عدم، فوجب أن تكون الإعادة عن عدم أيضا
وقال تعالى (هو الأول والاخر) (2); وإنما كان أولا لأنه كان موجودا، ولا شئ من

(1) سورة الأنبياء 104.
(2) سورة الحديد 3.
91

الأشياء بموجود، فوجب أن يكون آخرا كذلك، هذا هو مذهب جمهور أصحابنا
وجمهور المسلمين.
ثم ذكر أنه يكون وحده سبحانه بلا وقت ولا مكان، ولا حين ولا زمان،
وذلك لان المكان اما الجسم الذي يتمكن عليه جسم آخر، أو الجهة، و كلاهما
لا وجود له بتقدير عدم الأفلاك وما في حشوها من الأجسام، اما الأول فظاهر،
واما الثاني فلان الجهة لا تتحقق الا بتقدير وجود الفلك، لأنها أمر إضافي بالنسبة إليه،
فبتقدير عدمه لا يبقى للجهة تحقق أصلا، وهذا هو القول في عدم المكان حينئذ،
واما الزمان والوقت والحين فكل هذه الألفاظ تعطى معنى واحدا، ولا وجود لذلك
المعنى بتقدير عدم الفلك، لان الزمان هو مقدار حركة الفلك، فإذا قدرنا عدم الفلك
فلا حركة ولا زمان.
ثم أوضح عليه السلام ذلك وأكده، فقال: (عدمت عند ذلك الآجال والأوقات،
وزالت السنون والساعات)، لان الاجل هو الوقت الذي يحل فيه الدين أو تبطل فيه
الحياة، وإذا ثبت انه لا وقت، ثبت انه لا اجل، وكذلك لا سنة ولا ساعة، لأنها
أوقات مخصوصة.
ثم عاد عليه السلام إلى ذكر الدنيا، فقال (بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها،
وبغير امتناع منها كان فناؤها); يعنى انها مسخرة تحت الامر الإلهي.
قال (ولو قدرت على الامتناع لدام بقاؤها)، لأنها كانت تكون ممانعة للقديم
سبحانه في مراده، وإنما تمانعه في مراده لو كانت قادرة لذاتها، ولو كانت قادرة لذاتها
وأرادت البقاء لبقيت.
قوله عليه السلام (لم يتكاءده) بالمد، أي لم يشق عليه; ويجوز لم (يتكأده)
بالتشديد والهمزة، واصله من العقبة الكؤود، وهي الشاقة.
92

قال (ولم يؤده) أي لم يثقله.
ثم ذكر انه تعالى لم يخلق الدنيا ليشد بها سلطانه، ولا لخوفه من زوال أو نقص يلحقه،
ولا ليستعين بها على ند مماثل له، أو يحترز بها عن ضد محارب له، أو ليزداد بها ملكه
ملكا، أو ليكاثر بها شريكا في شركته له، أو لأنه كان قبل خلقها مستوحشا فأراد
أن يستأنس بمن خلق.
ثم ذكر انه تعالى (سيفنيها بعد ايجادها) لا لضجر لحقه في تدبيرها، ولا لراحة تصله في
إعدامها، ولا لثقل شئ منها عليه حال وجودها، ولا لملل أصابه فبعثه على إعدامها.
ثم عاد عليه السلام فقال إنه سبحانه سيعيدها إلى الوجود بعد الفناء، لا لحاجة
إليها ولا ليستعين ببعضها على بعض، ولا لأنه استوحش حال عدمها فأحب أن يستأنس
بإعادتها، ولا لأنه فقد علما عند إعدامها فأراد بإعادتها استجداد ذلك العلم، ولا لأنه صار
فقيرا عند إعدامها فأحب أن يتكثر ويثرى بإعادتها، ولا لذل أصابه بإفنائها فأراد
العز بإعادتها.
فان قلت إذا كان يفنيها لا لكذا ولا لكذا، وكان من قبل أوجدها لا لكذا
ولا لكذا، ثم قلتم انه يعيدها لا لكذا ولا لكذا، فلأي حال أوجدها أولا، ولأي
حال أفناها ثانيا، ولأي حال أعادها ثالثا خبرونا عن ذلك، فإنكم قد حكيتم عنه عليه
السلام الحكم ولم تحكوا عنه العلة.
قلت: إنما أوجدها أولا للإحسان إلى البشر ليعرفوه، فإنه لو لم يوجدهم لبقي
مجهولا لا يعرف، ثم كلف البشر ليعرضهم للمنزلة الجليلة التي لا يمكن وصولهم إليها الا
بالتكليف وهي الثواب، ثم يفنيهم لأنه لا بد من انقطاع التكليف ليخلص الثواب من
مشاق التكاليف; وإذا كان لا بد من انقطاعه فلا فرق بين انقطاعه بالعدم المطلق،
93

أو بتفريق الاجزاء، وانقطاعه بالعدم المطلق قد ورد به الشرع، وفيه لطف زائد
للمكلفين، لأنه أردع وأهيب في صدورهم من بقاء أجزائهم، واستمرار وجودها
غير معدومة.
ثم إنه سبحانه يبعثهم ويعيدهم ليوصل إلى كل انسان ما يستحقه من ثواب أو عقاب،
ولا يمكن ايصال هذا المستحق الا بالإعادة، وإنما لم يذكر أمير المؤمنين عليه السلام هذه
التعليلات، لأنه قد أشار إليها فيما تقدم من كلامه، وهي موجودة في فرش خطبه، ولان
مقام الموعظة غير مقام التعليل، وأمير المؤمنين عليه السلام في هذه الخطبة يسلك مسلك
الموعظة في ضمن تمجيد الباري سبحانه وتعظيمه، وليس ذلك بمظنة التعليل والحجاج
94

(233)
الأصل
ومن خطبة له عليه السلام تختص بذكر الملاحم:
الا بأبي وأمي هم من عدة أسماؤهم في السماء معروفة، وفى الأرض مجهولة
الا فتوقعوا ما يكون من إدبار أموركم، وانقطاع وصلكم، واستعمال
صغاركم.
ذاك حيث تكون ضربة السيف على المؤمن أهون من الدرهم من حله ذاك
حيث يكون المعطى أعظم أجرا من المعطى; ذاك حيث تسكرون من غير شراب،
بل من النعمة والنعيم، وتحلفون من غير اضطرار، وتكذبون من غير إحراج،
ذاك إذا عضكم البلاء، كما يعض القتب غارب البعير. ما أطول هذا العناء
وابعد هذا الرجاء.
أيها الناس، ألقوا هذه الأزمة التي تحمل ظهورها الأثقال من أيديكم،
ولا تصدعوا على سلطانكم فتذموا غب فعالكم، ولا تقتحموا ما استقبلتم من فور
نار الفتنة، وأميطوا عن سننها، وخلوا قصد السبيل لها; فقد لعمري يهلك في
لهبها المؤمن، ويسلم فيها غير المسلم. إنما مثلي بينكم كمثل السراج في
الظلمة يستضئ به من ولجها.
فاسمعوا أيها الناس وعوا واحضروا آذان قلوبكم تفهموا.
95

الشرح:
الامامية تقول هذه العدة هم الأئمة الأحد عشر من ولده عليه السلام. وغيرهم
يقول إنه عنى الابدال الذين هم أولياء الله في الأرض، وقد تقدم منا ذكر القطب
والابدال، وأوضحنا ذلك إيضاحا جليا.
قوله عليه السلام (أسماؤهم في السماء معروفة)، أي تعرفها الملائكة المعصومون،
أعلمهم الله تعالى بأسمائهم.
وفى الأرض مجهولة، أي عند الأكثرين لاستيلاء الضلال على أكثر البشر.
ثم خرج إلى مخاطبة أصحابه على عادته في ذكر الملاحم والفتن الكائنة في آخر زمان
الدنيا فقال لهم توقعوا ما يكون من إدبار أموركم، وانقطاع وصلكم - جمع وصلة -
واستعمال صغاركم، أي يتقدم الصغار على الكبار، وهو من علامات الساعة.
قال ذاك حيث يكون احتمال ضربة السيف على المؤمن أقل مشقة من احتمال المشقة
في اكتساب درهم حلال، وذلك لان المكاسب تكون قد فسدت واختلطت، وغلب
الحرام الحلال فيها.
قوله (ذاك حيث يكون المعطى أعظم أجرا من المعطى)، معناه أن أكثر من
يعطى ويتصدق في ذلك الزمان يكون ماله حراما فلا اجر له في التصدق به، ثم
أكثرهم يقصد الرياء والسمعة بالصدقة أو لهوى نفسه، أو لخطرة من خطراته،
ولا يفعل الحسن لأنه حسن، ولا الواجب لوجوبه، فتكون اليد السفلى خيرا من اليد
العليا، عكس ما ورد في الأثر، واما المعطى فإنه يكون فقيرا ذا عيال، لا يلزمه أن
يبحث عن المال احرام هو أم حلال! فإذا اخذه ليسد به خلته، ويصرفه في قوت عياله،
كان أعظم أجرا ممن أعطاه.
96

وقد خطر لي فيه معنى آخر، وهو أن صاحب المال الحرام إنما يصرفه في أكثر
الأحوال وأغلبها في الفساد وارتكاب المحظور كما قال (من اكتسب مالا من
نهاوش أذهبه الله في نهابر) (1) فإذا اخذه الفقير منه على وجه الصدقة فقد فوت عليه
صرفه في تلك القبائح والمحضورات التي كان بعرضته صرف ذلك القدر فيها لو لم يأخذه
الفقير، فإذا قد أحسن الفقير إليه بكفه عن ارتكاب القبيح، ومن العصمة الا يقدر
فكان المعطى أعظم أجرا من المعطى.
قوله عليه السلام (ذاك حيث تسكرون من غير شراب بل من النعمة)،
بفتح النون، وهي غضارة العيش، وقد قيل في المثل سكر الهوى أشد من سكر
الخمر.
قال (تحلفون من غير اضطرار); أي تتهاونون باليمين وبذكر الله عز وجل.
قال (وتكذبون من غير إحراج)، أي يصير الكذب لكم عادة ودربه،
لا تفعلونه لان آخر منكم قد أحرجكم وأضطركم بالغيظ إلى الحلف. وروى من غير (إحواج)
بالواو، أي من غير أن يحوجكم إليه أحد.
قال ذلك إذا عضكم البلاء كما يعض القتب غارب البعير. هذا الكلام غير
متصل بما قبله، وهذه عادة الرضى رحمه الله يلتقط الكلام التقاطا، ولا يتلو بعضه بعضا،
وقد ذكرنا هذه الخطبة أو أكثرها فيما تقدم من الاجزاء الأول، وقبل هذا الكلام
ذكر ما يناله شيعته من البؤس والقنوط ومشقة انتظار الفرج.
قوله عليه السلام (ما أطول هذا العناء، وابعد هذا الرجاء) هذا حكاية كلام
شيعته وأصحابه.

(1) النهاوش: المظالم: والنهابر: المهالك; وانظر النهاية لابن الأثير... / 1.
97

ثم قال مخاطبا أصحابه الموجودين حوله أيها الناس، ألقوا هذه الأزمة التي تحمل
ظهورها الأثقال عن أيديكم هذه كناية عن النهى عن ارتكاب القبيح وما يوجب الاثم
والعقاب. والظهور ها هنا هي الإبل أنفسها والأثقال المآثم وإلقاء الأزمة ترك اعتماد
القبيح، فهذا عمومه، واما خصوصه فتعريض بما كان عليه أصحابه من الغدر ومخامرة
العدو عليه، وإضمار الغل والغش له، وعصيانه والتلوي عليه، وقد فسره بما بعده فقال
(ولا تصدعوا عن سلطانكم) أي لا تفرقوا، (فتذموا غب فعالكم) أي عاقبته.
ثم نهاهم عن اقتحام ما استقبلوه من فور نار الفتنة وفور النار غليانها واحتدامها
ويروى (ما استقبلكم).
ثم قال (وأميطوا عن سننها) أي تنحوا عن طريقها، وخلوا قصد السبيل لها،
أي دعوها تسلك طريقها ولا تقفوا لها فيه فتكونوا حطبا لنارها.
ثم ذكر انه قد يهلك المؤمن في لهبها، ويسلم فيه الكافر، كما قيل المؤمن ملقى
والكافر موقى.
ثم ذكر أن مثله فيهم كالسرج يستضئ بها من ولجها; أي دخل في ضوئها.
وآذان قلوبكم; كلمه مستعارة، جعل للقلب آذانا كما جعل الشاعر للقلوب أبصارا،
فقال:
يدق على النواظر ما أتاه * فتبصره بأبصار القلوب
98

(234)
الأصل:
ومن خطبة عليه السلام:
أوصيكم أيها الناس بتقوى الله وكثرة حمده على آلائه إليكم، ونعمائه
عليكم، وبلائه لديكم، فكم خصكم بنعمة، وتدارككم برحمة!
أعورتم له فستركم، وتعرضتم لاخذه فأمهلكم!
وأوصيكم بذكر الموت وإقلال الغفلة عنه، وكيف غفلتكم عما ليس
يغفلكم، وطمعكم فيمن ليس يمهلكم; فكفى واعظا بموتى عاينتموهم;
حملوا إلى قبورهم غير راكبين، وانزلوا فيها غير نازلين، كأنهم لم
يكونوا للدنيا عمارا، وكان الآخرة لم تزل لهم دارا. أوحشوا ما كانوا يوطنون،
وأوطنوا ما كانوا يوحشون، واشتغلوا بما فارقوا، وأضاعوا ما إليه انتقلوا، لا عن
قبيح يستطيعون انتقالا، ولا في حسن يستطيعون ازديادا، أنسوا بالدنيا فغرتهم،
ووثقوا بها فصرعتهم.
فسابقوا رحمكم الله إلى منازلكم التي أمرتم أن تعمروها، والتي رغبتم
فيها ودعيتم إليها واستتموا نعم الله عليكم بالصبر على طاعته، والمجانبة لمعصيته،
فان غدا من اليوم قريب.
ما أسرع الساعات في اليوم، وأسرع الأيام في الشهر، وأسرع الشهور في
السنة، وأسرع السنين في العمر!
99

الشرح:
أعورتم، أي انكشفتم وبدت عوراتكم، وهي المقاتل، تقول أعور الفارس، إذا
بدت مقاتله، وأعورك الصيد إذا أمكنك منه.
قوله عليه السلام أوحشوا ما كانوا يوطنون أي أوطنوا قبورهم التي كانوا
يوحشونها.
قوله عليه السلام (واشتغلوا بما فارقوا)، أي اشتغلوا وهم في القبور بما فارقوه من
الأموال والقينات، لأنها أذى وعقاب عليهم في قبورهم، ولولاها لكانوا في راحة. ويجوز
أن يكون حكاية حالهم وهم بعد في الدنيا، أي اشتغلوا أيام حياتهم من الأموال والمنازل
بما فارقوه، وأضاعوا من أمر آخرتهم ما انتقلوا إليه.
ثم ذكر انهم لا يستطيعون فعل حسنة، ولا توبة من قبيح، لان التكليف سقط،
والمنازل التي أمروا بعمارتها، والمقابر، وعمارتها الأعمال الصالحة.
وقوله عليه السلام (إن غدا من اليوم قريب) كلام يجرى مجرى المثل، قال
* غد ما غد ما أقرب اليوم من غد *
والأصل فيه قول الله تعالى (إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب) (1).
وقوله عليه السلام (ما أسرع الساعات في اليوم...) إلى آخر الفصل، كلام شريف
وجيز بالغ في معناه، والفصل كله نادر لا نظير له

(1) سورة هود 81.
100

(235)
الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام:
فمن الايمان ما يكون ثابتا مستقرا في القلوب، ومنه ما يكون عواري بين
القلوب والصدور، إلى اجل معلوم، فإذا كانت لكم براءة من أحد فقفوه حتى
يحضره الموت، فعند ذلك يقع حد البراءة.
والهجرة قائمة على حدها الأول، ما كان لله في أهل الأرض حاجة من مستسر
الأمة ومعلنها. لا يقع اسم الهجرة على أحد الا بمعرفة الحجة في الأرض، فمن
عرفها وأقر بها فهو مهاجر، ولا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته الحجة فسمعتها
اذنه، ووعاها قلبه.
إن أمرنا صعب مستصعب لا يحمله الا عبد مؤمن امتحن الله قلبه للايمان،
ولا يعي حديثنا الا صدور أمينة، وأحلام رزينة.
أيها الناس. سلوني قبل أن تفقدوني، فلانا بطرق السماء اعلم منى بطرق
الأرض; قبل أن تشغر برجلها فتنة تطأ في خطامها، وتذهب بأحلام قومها.
* * *
الشرح:
هذا الفصل يحمل على عده مباحث:
أولها قوله عليه السلام فمن الايمان ما يكون كذا فنقول انه قسم الايمان إلى
ثلاثة أقسام:
101

أحدها الايمان الحقيقي، وهو الثابت المستقر في القلوب بالبرهان اليقيني.
الثاني ما ليس ثابتا بالبرهان اليقيني بل بالدليل الجدلي، كإيمان كثير ممن لم يحقق
العلوم العقلية، ويعتقد ما يعتقده عن أقيسة جدلية لا تبلغ إلى درجة البرهان، وقد سمى
عليه السلام هذا القسم باسم مفرد، فقال إنه عواري في القلوب، والعواري جمع عارية
أي هو وإن كان في القلب وفي محل الايمان الحقيقي الا أن حكمه حكم العارية في البيت،
فإنها بعرضة الخروج منه، لأنها ليست أصلية كائنة في بيت صاحبها.
والثالث ما ليس مستندا إلى برهان ولا إلى قياس جدلي، بل على سبيل التقليد وحسن
الظن بالأسلاف، وبمن يحسن ظن الانسان فيه من عابد أو زاهد أو ذي ورع، وقد جعله
عليه السلام عواري بين القلوب والصدور لأنه دون الثاني، فلم يجعله حالا في القلب،
وجعله مع كونه عارية حالا بين القلب والصدر. فيكون أضعف مما قبله.
فان قلت فما معنى قوله (إلى اجل معلوم)؟
قلت إنه يرجع إلى القسمين الأخيرين; لان من لا يكون ايمانه ثابتا بالبرهان
القطعي قد ينتقل ايمانه إلى أن يصير قطعيا، بان ينعم النظر ويرتب البرهان ترتيبا مخصوصا،
فينتج له النتيجة اليقينية، وقد يصير ايمان المقلد ايمانا جدليا فيرتقى إلى ما فوقه مرتبته،
وقد يصير ايمان الجدلي ايمانا تقليديا بان يضعف في نظره ذلك القياس الجدلي، ولا يكون
عالما بالبرهان، فيؤول حال ايمانه إلى أن يصير تقليديا، فهذا هو فائدة قوله (إلى اجل
معلوم) في هذين القسمين.
فاما صاحب القسم الأول فلا يمكن أن يكون ايمانه إلى اجل معلوم، لان من ظفر
بالبرهان استحال أن ينتقل عن اعتقاده، لا صاعدا ولا هابطا، اما لا صاعدا، فلأنه ليس
فوق البرهان مقام آخر، واما لا هابطا، فلان مادة البرهان هي المقدمات البديهية
102

والمقدمات البديهية يستحيل أن تضعف عند الانسان حتى يصير ايمانه جدليا أو تقليديا.
وثانيها قوله عليه السلام (فإذا كانت لكم براءة)، فنقول انه عليه السلام نهى عن
البراءة من أحد ما دام حيا، لأنه وإن كان مخطئا في اعتقاده، لكن يجوز أن يعتقد الحق
فيما بعد، وإن كان مخطئا في أفعاله، لكن يجوز أن يتوب. فلا تحل البراءة من أحد حتى
يموت على أمر; فإذا مات على اعتقاد قبيح أو فعل قبيح جازت البراءة منه، لأنه
لم يبق له بعد الموت حاله تنتظر; وينبغي أن تحمل هذه البراءة التي أشار إليها عليه السلام
على البراءة المطلقة، لا على كل براءة، لأنا يجوز لنا أن نبرأ من الفاسق وهو حي، ومن
الكافر وهو حي، لكن بشرط كونه فاسقا، وبشرط كونه كافرا، فاما من مات ونعلم
ما مات عليه فانا نبرأ منه براءة مطلقة غير مشروطة.
وثالثها قوله (والهجرة قائمة على حدها الأول)، فنقول هذا كلام يختص به
أمير المؤمنين عليه السلام، وهو من اسرار الوصية، لان الناس يروون عن النبي صلى الله
عليه وآله أنه قال لا (هجرة بعد الفتح)، فشفع عمه العباس في نعيم بن مسعود الأشجعي
أن يستثنيه، فاستثناه وهذه الهجرة التي يشير إليها أمير المؤمنين عليه السلام ليست تلك
الهجرة، بل هي الهجرة إلى الامام، قال إنها قائمة على حدها الأول ما دام التكليف
باقيا، وهو معنى قوله (ما كان لله تعالى في أهل الأرض حاجة).
وقال الراوندي ما هاهنا نافيه، أي لم يكن لله في أهل الأرض من حاجة، وهذا ليس
بصحيح، لأنه ادخال كلام منقطع بين كلامين متصل أحدهما بالآخر.
ثم ذكر انه لا يصح أن يعد الانسان من المهاجرين الا بمعرفة امام زمانه، وهو
103

معنى قوله (الا بمعرفة الحجة في الأرض) قال (فمن عرف الامام وأقر به
فهو مهاجر).
قال ولا يجوز أن يسمى من عرف الامام مستضعفا، يمكن أن يشير به إلى آيتين
في القرآن:
أحدهما قوله تعالى (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا
كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن ارض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك
مأواهم جهنم) (1) فالمراد على هذا انه ليس من عرف الامام وبلغه خبره بمستضعف كما
كان هؤلاء مستضعفين، وإن كان في بلده وأهله لم يخرج ولم يتجشم مشقة السفر.
ثانيهما قوله تعالى في الآية التي تلى الآية المذكورة (الا المستضعفين من الرجال
والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا * فأولئك عسى الله أن
يعفو عنهم) (2) فالمراد على هذا انه ليس من عرف الامام وبلغه خبره بمستضعف كهؤلاء
الذين استثناهم الله تعالى من الظالمين، لان أولئك كانت الهجرة بالبدن مفروضة عليهم،
وعفى عن ذوي العجز عن الحركة منهم، وشيعة الإمام عليه السلام ليست الهجرة
بالبدن مفروضة عليهم، بل تكفى معرفتهم به وإقرارهم بإمامته، فلا يقع اسم
الاستضعاف عليهم.
فان قلت فما معنى قوله (من مستسر الأمة ومعلنها)، وبما ذا يتعلق حرف الجر
قلت معناه ما دام لله في أهل الأرض المستسر منهم باعتقاده والمعلن حاجة، ف‍ (من)
على هذا زائدة، فلو حذفت لجر المستسر بدلا من أهل الأرض، ومن إذا كانت زائدة
لا تتعلق نحو، قولك ما جاءني من أحد.

(1) سورة النساء 97.
(2) سورة النساء 98، 99.
104

ورابعها: قوله عليه السلام (إن أمرنا هذا صعب مستصعب) ويروى
(مستصعب - بكسر العين - لا يحتمله الا عبد امتحن الله تعالى قلبه للايمان)، هذه
من ألفاظ القرآن العزيز، قال الله تعالى (أولئك الذين امتحن الله قلوبهم
للتقوى) (1) وهو من قولك امتحن فلان لأمر كذا وجرب ودرب للنهوض به،
فهو مضطلع به غير وان عنه، والمعنى انهم صبر على التقوى أقوياء على احتمال مشاقها،
ويجوز أن يكون وضع الامتحان موضع المعرفة، لان تحققك الشئ إنما يكون باختباره
كما يوضع الخبر موضع المعرفة، فكأنه قيل: عرف الله قلوبهم للتقوى، فتتعلق اللام
بمحذوف، أي كائنة له، وهي اللام التي في قولك أنت لهذا الامر، أي مختص به كقوله
* أعداء من لليعملات على الوجا *.
وتكون مع معمولها منصوبة على الحال، ويجوز أن يكون المعنى ضرب الله
قلوبهم بأنواع المحن والتكاليف الصعبة لأجل التقوى، أي لتثبت فيظهر تقواها،
ويعلم انهم متقون، لان حقيقة التقوى لا تعلم الا عند المحن والشدائد والاصطبار عليها.
ويجوز أن يكون المعنى انه أخلص قلوبهم للتقوى، من قولهم امتحن الذهب، إذا
أذابه فخلص إبريزه من خبثه ونقاه.
وهذه الكلمة قد قالها عليه السلام مرارا، ووقفت في بعض الكتب على خطبة
من جملتها إن قريشا طلبت السعادة فشقيت، وطلبت النجاة فهلكت، وطلبت الهدى
فضلت، ألم يسمعوا ويحهم قوله تعالى (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بايمان
ألحقنا بهم ذريتهم) (2) فأين المعدل والمنزع عن ذرية الرسول، الذين شيد الله
بنيانهم فوق بنيانهم، وأعلى رؤوسهم فوق رؤوسهم، واختارهم عليهم الا إن الذرية
أفنان انا شجرتها، ودوحة انا ساقها، وإني من احمد بمنزلة الضوء من الضوء، كنا

(1) سورة الحجرات 3.
(2) سورة فاطر 21.
105

ظلالا تحت العرش قبل خلق البشر، وقبل خلق الطينة التي كان منها البشر، أشباحا
عالية، لا أجساما نامية، ان أمرنا صعب مستصعب، لا يعرف كنهه الا ثلاثة ملك
مقرب، أو نبي مرسل، أو عبد امتحن الله قلبه للايمان، فإذا انكشف لكم سر
أو وضح لكم أمر فاقبلوه، والا فاسكتوا تسلموا، وردوا علمنا إلى الله فإنكم في أوسع
مما بين السماء والأرض.
وخامسها: (قوله سلوني قبل أن تفقدوني)، أجمع الناس كلهم على أنه لم
يقل أحد من الصحابة، ولا أحد من العلماء (سلوني) غير علي بن أبي طالب
عليه السلام، ذكر ذلك ابن عبد البر المحدث في كتاب " الاستيعاب ".
والمراد بقوله (فلانا اعلم بطرق السماء منى بطرق الأرض)، ما اختص به من
العلم بمستقبل الأمور، ولا سيما في الملاحم والدول، وقد صدق هذا القول عنه ما تواتر
عنه من الاخبار بالغيوب المتكررة، لا مرة ولا مائة مرة، حتى زال الشك والريب
في أنه اخبار عن علم، وانه ليس على طريق الاتفاق، وقد ذكرنا كثيرا من ذلك فيما
تقدم من هذا الكتاب.
وقد تأوله قوم على وجه آخر قالوا أراد انا بالأحكام الشرعية والفتاوى الفقهية
اعلم منى بالأمور الدنيوية; فعبر عن تلك بطرق السماء، لأنها احكام إلهية، وعبر عن
هذه بطرق الأرض لأنها من الأمور الأرضية. والأول أظهر، لان فحوى الكلام
وأوله يدل على أنه المراد
106

[قصة وقعت لأحد الوعاظ ببغداد]
وعلى ذكر قوله عليه السلام (سلوني)، حدثني من أثق به من أهل العلم حديثا،
وإن كان فيه بعض الكلمات العامية، الا انه يتضمن ظرفا ولطفا، ويتضمن
أيضا أدبا.
قال كان ببغداد في صدر أيام الناصر لدين الله أبى العباس أحمد بن المستضئ بالله،
واعظ مشهور بالحذق ومعرفة الحديث والرجال، وكان يجتمع إليه تحت منبره خلق عظيم
من عوام بغداد ومن فضلائها أيضا، وكان مشتهرا بذم أهل الكلام وخصوصا المعتزلة
وأهل النظر، على قاعدة الحشوية، ومبغضي أرباب العلوم العقلية، وكان أيضا منحرفا
عن الشيعة برضا العامة بالميل عليهم، فاتفق قوم من رؤساء الشيعة على أن يضعوا عليه
من يبكته ويسأله تحت منبره، ويخجله ويفضحه بين الناس في المجلس، وهذه عادة الوعاظ;
يقوم إليهم قوم فيسألونهم مسائل يتكلفون الجواب عنها، وسألوا عمن ينتدب لهذا،
فأشير عليهم بشخص كان ببغداد يعرف بأحمد بن عبد العزيز الكزي، كان له لسن،
ويشتغل بشئ يسير من كلام المعتزلة، ويتشيع، وعنده قحة، وقد شدا أطرافا من الأدب،
وقد رأيت انا هذا الشخص في آخر عمره، وهو يومئذ شيخ والناس يختلفون إليه في تعبير
الرؤيا، فاحضروه وطلبوا إليه أن يعتمد ذلك، فأجابهم، وجلس ذلك الواعظ في يومه الذي
جرت عادته بالجلوس فيه، واجتمع الناس عنده على طبقاتهم، حتى امتلأت الدنيا بهم،
وتكلم على عادته فأطال، فلما مر في ذكر صفات البارئ سبحانه في أثناء الوعظ، قام
إليه الكزي، فسأله أسئلة عقلية، على منهاج كلام المتكلمين من المعتزلة، فلم يكن
للواعظ عنها جواب نظري، وإنما دفعه بالخطابة والجدل، وسجع الألفاظ; وتردد
الكلام بينهما طويلا، وقال الواعظ في آخر الكلام أعين المعتزلة حول، وصوتي
107

في مسامعهم طبول، وكلامي في أفئدتهم نصول، يا من بالاعتزال يصول، ويحك كم تحوم
وتجول، حول من لا تدركه العقول! كم أقول، كم أقول! خلوا هذا الفضول!
فارتج المجلس، وصرخ الناس، وعلت الأصوات، وطاب الواعظ وطرب، وخرج
من هذا الفصل إلى غيره فشطح شطح الصوفية، وقال سلوني قبل أن تفقدوني، وكررها;
فقام إليه الكزي، فقال يا سيدي ما سمعنا أنه قال هذه الكلمة الا علي بن أبي طالب
عليه السلام، وتمام الخبر معلوم، وأراد الكزي بتمام الخبر قوله عليه السلام (لا يقولها
بعدي الا مدع).
فقال الواعظ وهو في نشوة طربه، وأراد اظهار فضله ومعرفته برجال الحديث والرواة
من علي بن أبي طالب؟ أهو علي بن أبي طالب بن المبارك النيسابوري أم علي بن أبي طالب
ابن إسحاق المروزي أم علي بن أبي طالب بن عثمان القيرواني أم علي بن أبي طالب
ابن سليمان الرازي وعد سبعة أو ثمانية من أصحاب الحديث، كلهم علي بن أبي طالب
فقام الكزي، وقام من يمين المجلس آخر، ومن يسار المجلس ثالث، انتدبوا له،
وبذلوا أنفسهم للحمية ووطنوها على القتل.
فقال الكزي أشا يا سيدي فلان الدين، أشا صاحب هذا القول هو علي بن أبي طالب
زوج فاطمة سيدة نساء العالمين عليه السلام، وان كنت ما عرفته بعد بعينه،
فهو الشخص الذي لما آخى رسول الله صلى الله عليه وآله بين الاتباع والأذناب آخى بينه
وبين نفسه، وأسجل على أنه نظيره ومماثله، فهل نقل في جهازكم أنتم من هذا شئ
أو نبت تحت خبكم من هذا شئ.
فأراد الواعظ أن يكلمه، فصاح عليه القائم من الجانب الأيمن، وقال يا سيدي
فلان الدين، محمد بن عبد الله كثير في الأسماء، ولكن ليس فيهم من قال له رب العزة
108

(ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو الا وحى يوحى) (1)
وكذلك علي بن أبي طالب كثير في الأسماء، ولكن ليس فيهم من قال له صاحب
الشريعة (أنت منى بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبي بعدي).
وقد تلتقي الأسماء في الناس والكنى كثيرا ولكن ميزوا في الخلائق.
فالتفت إليه الواعظ ليكلمه، فصاح عليه القائم من الجانب الأيسر، وقال يا سيدي
فلان الدين، حقك تجهله، أنت معذور في كونك لا تعرفه:
وإذا خفيت على الغبي فعاذر * الا تراني مقلة عمياء.
فاضطرب المجلس وماج كما يموج البحر، وافتتن الناس، وتواثبت العامة بعضها إلى
بعض، وتكشفت الرؤوس، ومزقت الثياب، ونزل الواعظ، واحتمل حتى ادخل دارا
أغلق عليه بابها، وحضر أعوان السلطان فسكنوا الفتنة، وصرفوا الناس إلى منازلهم
وأشغالهم، وأنفذ الناصر لدين الله في آخر نهار ذلك اليوم، فاخذ أحمد بن عبد العزيز الكزي
والرجلين اللذين قاما معه، فحبسهم أياما لتطفأ نائرة الفتنة. ثم أطلقهم.

(1) سورة النجم 2 - 4.
109

(236)
الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام:
أحمده شكرا لإنعامه، وأستعينه على وظائف حقوقه، عزيز الجند، عظيم
المجد، واشهد أن محمدا عبده ورسوله، دعا إلى طاعته، وقاهر أعداءه، جهادا
عن دينه، لا يثنيه عن ذلك اجتماع على تكذيبه، والتماس لاطفاء نوره.
فاعتصموا بتقوى الله; فان لها حبلا وثيقا عروته، ومعقلا منيعا ذروته.
وبادروا الموت وغمراته، وامهدوا له قبل حلوله، واعدوا له قبل نزوله، فان
الغاية القيامة; وكفى بذلك واعظا لمن عقل، ومعتبرا لمن جهل. وقبل بلوغ الغاية
ما تعلمون من ضيق الأرماس، وشده الإبلاس، وهول المطلع، وروعات الفزع،
واختلاف الأضلاع، واستكاك الاسماع، وظلمة اللحد، وخيفة الوعد، وغم
الضريح، وردم الصفيح.
فالله الله عباد الله فان الدنيا ماضية بكم على سنن، وأنتم والساعة في قرن،
وكأنها قد جاءت بأشراطها، وأزفت بأفراطها، ووقفت بكم على صراطها. وكأنها
قد أشرفت بزلازلها، وأناخت بكلاكلها، وانصرفت الدنيا بأهلها، وأخرجتهم
من حضنها، فكانت كيوم مضى، وشهر انقضى، وصار جديدها رثا، و
سمينها غثا.
في موقف ضنك المقام، وأمور مشتبهة عظام، ونار شديد كلبها، عال لجبها،
ساطع لهبها، متغيظ زفيرها، متأجج سعيرها، بعيد خمودها، ذاك وقودها، مخوف
110

وعيدها، عم قرارها، مظلمة أقطارها، حامية قدورها، فظيعة أمورها، (وسيق
الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا) قد امن العذاب، وانقطع العتاب، وزحزحوا
عن النار، واطمأنت بهم الدار، ورضوا المثوى والقرار; الذين كانت أعمالهم في
الدنيا زاكية، وأعينهم باكية، وكان ليلهم في دنياهم نهارا، تخشعا واستغفارا;
وكان نهارهم ليلا; توحشا وانقطاعا، فجعل الله لهم الجنة مآبا، والجزاء ثوابا،
وكانوا أحق بها وأهلها، في ملك دائم; ونعيم قائم.
فارعوا عباد الله ما برعايته يفوز فائزكم، وبإضاعته يخسر مبطلكم،
وبادروا آجالكم بأعمالكم; فإنكم مرتهنون بما أسلفتم، ومدينون بما
قدمتم، وكأن قد نزل بكم المخوف، فلا رجعة تنالون، ولا عثرة تقالون.
استعملنا الله وإياكم بطاعته وطاعة رسوله، وعفا عنا وعنكم بفضل رحمته.
الزموا الأرض، واصبروا على البلاء، ولا تحركوا بأيديكم وسيوفكم في
هوى ألسنتكم، ولا تستعجلوا بما لم يعجله الله لكم; فإنه من مات منكم
على فراشه وهو على معرفة حق ربه وحق رسوله وأهل بيته مات شهيدا، ووقع
اجره على الله، واستوجب ثواب ما نوى من صالح عمله، وقامت النية مقام
إصلاته لسيفه; فان لكل شئ مدة وأجلا.
* * *
الشرح:
وظائف حقوقه: الواجبات المؤقتة، كالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان، والوظيفة
ما يجعل للانسان في كل يوم، أو في كل شهر، أو في كل سنة، من طعام، أو رزق.
111

وعزيز منصوب، لأنه حال من الضمير في (أستعينه)، ويجوز أن يكون حالا من
الضمير المجرور في (حقوقه) وإضافة (عزيز) إلى (الجند) إضافة في تقدير الانفصال،
لا توجب تعريفه ليمتنع من كونه حالا.
وقاهر أعداءه حاربهم، وروى (وقهر أعداءه).
والمعقل ما يعتصم به. وذروته أعلاه.
وامهدوا له اتخذوا مهادا، وهو الفراش، وهذه استعارة.
قوله عليه السلام (فان الغاية القيامة)، أي فان منتهى كل البشر إليها ولا بد منها.
والأرماس جمع رمس وهو القبر والإبلاس مصدر (أبلس) أي خاب ويئس،
والإبلاس أيضا الانكسار والحزن.
واستكاك الاسماع صممها.
وغم الضريح ضيق القبر وكربه. والصفيح الحجر وردمه سده.
والسنن الطريق. والقرن الحبل.
وأشراط الساعة علاماتها. وأزفت قربت. وأفراطها جمع فرط، وهم المتقدمون
السابقون من الموتى، ومن روى (يإفراطها) فهو مصدر أفرط في الشئ، أي قربت الساعة
بشدة غلوائها وبلوغها غاية الهول والفظاعة، ويجوز أن تفسر الرواية الأولى بمقدماتها
وما يظهر قبلها من خوارق العادات المزعجة، كالدجال ودابة الأرض ونحوهما، ويرجع
ذلك إلى اللفظة الأولى، وهي أشراطها، وإنما يختلف اللفظ.
والكلاكل جمع كلكل، وهو الصدر، ويقال للامر الثقيل (قد أناخ عليهم
بكلكله)، أي هدهم ورضهم كما يهد البعير البارك من تحته إذا أنحى عليه بصدره.
قوله عليه السلام (وانصرفت الدنيا بأهلها) أي ولت ويروى (وانصرمت)
أي انقضت.
112

والحضن، بكسر الحاء ما دون الإبط إلى الكشح.
والرث الخلق، والغث الهزيل.
ومقام ضنك، أي ضيق.
وشديد كلبها، أي شرها وأذاها. واللجب الصوت. ووقودها هاهنا، بضم الواو; وهو
الحدث، ولا يجوز الفتح، لأنه ما يوقد به كالحطب ونحوه، وذاك لا يوصف بأنه ذاك.
قوله عليه السلام (عم قرارها)، أي لا يهتدى فيه لظلمته، ولأنه عميق جدا،
ويروى (وكأن ليلهم نهار) وكذلك أختها على التشبيه.
والمآب، المرجع ومدينون مجزيون.
قوله عليه السلام (فلا رجعة تنالون) الرواية بضم التاء، أي تعطون، يقال أنلت
فلانا مالا، أي منحته، وقد روى (تنالون) بفتح التاء.
ثم أمر أصحابه أن يثبتوا ولا يعجلوا في محاربة من كان مخالطا لهم من ذوي العقائد
الفاسدة كالخوارج، ومن كان يبطن هوى معاوية، وليس خطابه هذا تثبيطا لهم عن حرب
أهل الشام، كيف وهو لا يزال يقرعهم ويوبخهم عن التقاعد والابطاء في ذلك ولكن
قوما من خاصته كانوا يطلعون على ما عند قوم من أهل الكوفة، ويعرفون نفاقهم
وفسادهم، ويرمون قتلهم وقتالهم، فنهاهم عن ذلك، وكان يخاف فرقة جنده وانتثار
حبل عسكره، فأمرهم بلزوم الأرض، والصبر على البلاء.
وروى باسقاط الباء من قوله (بأيديكم) ومن روى الكلمة بالباء جعلها زائدة،
ويجوز الا تكون زائدة، ويكون المعنى ولا تحركوا الفتنة بأيديكم وسيوفكم في هوى
ألسنتكم، فحذف المفعول.
والإصلات بالسيف مصدر أصلت، أي سل.
113

واعلم أن هذه الخطبة من أعيان خطبه عليه السلام، ومن ناصع كلامه ونادره،
وفيها من صناعة البديع الرائقة المستحسنة البريئة من التكلف ما لا يخفى، وقد اخذ ابن
نباتة الخطيب كثيرا من ألفاظها فأودعها خطبه، مثل قوله (شديد كلبها، عال لجبها،
ساطع لهبها، متغيظ زفيرها، متأجج سعيرها، بعيد خمودها ذاك وقودها، مخوف
وعيدها، عم قرارها، مظلمة أقطارها، حامية قدورها، فظيعة أمورها) فان هذه الألفاظ
كلها اختطفها، وأغار عليها واغتصبها، وسمط بها خطبه، وشذر بها كلامه.
ومثل قوله (هول المطلع، وروعات الفزع، واختلاف الأضلاع، واستكاك الاسماع،
وظلمة اللحد، وخيفة الوعد، وغم الضريح، وردم الصفيح) فان هذه الألفاظ أيضا
تمضي في أثناء خطبه، وفى غضون مواعظه
114

(237)
الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام:
الحمد لله الفاشي في الخلق حمده، والغالب جنده، والمتعالي جده; أحمده على
نعمة التؤام، وآلائه العظام، الذي عظم حلمه فعفا، وعدل في كل ما قضى،
وعلم بما يمضى وما مضى، مبتدع الخلائق بعلمه، ومنشئهم بحكمه، بلا اقتداء
ولا تعليم; ولا احتذاء لمثال صانع حكيم، ولا إصابة خطا، ولا حضرة ملا.
واشهد أن محمدا عبده ورسوله، ابتعثه والناس يضربون في غمرة، ويموجون
في حيرة، قد قادتهم أزمة الحين، واستغلقت على أفئدتهم أقفال الرين.
عباد الله أوصيكم بتقوى الله فإنها حق الله عليكم; والموجبة على الله
حقكم، وان تستعينوا عليها بالله، وتستعينوا بها على الله; فان التقوى في اليوم
الحرز والجنة، وفى غد الطريق إلى الجنة; مسلكها واضح، وسالكها رابح،
ومستودعها حافظ. لم تبرح عارضة نفسها على الأمم الماضين منكم، والغابرين
لحاجتهم إليها غدا، إذا أعاد الله ما أبدى، واخذ ما أعطى، وسأل عما أسدي فما
أقل من قبلها، وحملها حق حملها! أولئك الأقلون عددا، وهم أهل صفة الله سبحانه
إذ يقول (وقليل من عبادي الشكور) (1).
فاهطعوا بأسماعكم إليها، وألظوا بجدكم عليها، واعتاضوها من كل سلف
خلفا، ومن كل مخالف موافقا.

(1) سورة سبأ 13.
115

أيقظوا بها نومكم، واقطعوا بها يومكم، وأشعروها قلوبكم، وارحضوا
بها ذنوبكم، وداووا بها الأسقام، وبادروا بها الحمام، واعتبروا بمن أضاعها،
ولا يعتبرن بكم من أطاعها.
الا فصونوها وتصونوا بها، وكونوا عن الدنيا نزاها، والى الآخرة ولاها
ولا تضعوا من رفعته التقوى، ولا ترفعوا من رفعته الدنيا، ولا تشيموا بارقها،
ولا تسمعوا ناطقها، ولا تجيبوا ناعقها، ولا تستضيئوا باشراقها، ولا تفتنوا بأعلاقها،
فان برقها خالب، ونطقها كاذب، وأموالها محروبة، وأعلاقها مسلوبة.
الا وهي المتصدية العنون، والجامحة الحرون، والمائنة الخؤون، والجحود
الكنود، والعنود الصدود، والحيود الميود! حالها انتقال، ووطأتها زلزال،
وعزها ذل، وجدها هزل، وعلوها سفل.
دار حرب وسلب، ونهب وعطب، أهلها على ساق وسياق، ولحاق وفراق، قد
تحيرت مذاهبها، وأعجزت مهاربها، وخابت مطالبها، فأسلمتهم المعاقل،
ولفظتهم المنازل، وأعيتهم المحاول; فمن ناج معقور، ولحم مجزور، وشلو
مذبوح، ودم مسفوح، وعاض على يديه، وصافق بكفيه، ومرتفق بخديه،
وزار على رأيه، وراجع عن عزمه.
وقد أدبرت الحيلة، وأقبلت الغيلة، ولات حين مناص هيهات هيهات
قد فات ما فات، وذهب ما ذهب، ومضت الدنيا لحال بالها، (فما بكت عليهم
السماء والأرض وما كانوا منظرين) (1).

(1) سورة الدخان 29.
116

الشرح:
الفاشي: الذائع، فشا الخبر يفشو فشوا، أي ذاع، وأفشاه غيره وتفشى الشئ،
أي اتسع، والفواشي كل منتشر من المال مثل الغنم السائمة والإبل وغيرهما، ومنه
الحديث (ضموا فواشيكم حتى تذهب فحمة العشاء)، فيجوز أن يكون عنى بفشو حمده
اطباق الأمم قاطبة على الاعتراف بنعمته، ويجوز أن يريد بالفاشي سبب حمده، وهو
النعم التي لا يقدر قدرها، فحذف المضاف.
قوله (والغالب جنده)، فيه معنى قوله تعالى (الا إن حزب الله هم
الغالبون) (1).
قوله (والمتعالي جده) فيه معنى قوله تعالى (وانه تعالى جد ربنا) (2)
والجد في هذا لموضع وفى الآية العظمة.
والتؤام جمع توأم على فوعل، وهو الولد المقارن أخاه في بطن واحد، وقد
أتأمت المرأة إذا وضعت اثنين كذلك، فهي متئم، فإن كان ذلك عادتها فهي متآم،
وكل واحد من الولدين توأم، وهما توأمان، وهذا توأم هذا، وهذه توأمته، والجمع
توائم، مثل قشعم وقشاعم، وجاء في جمعه (توءام) على فعال، وهي اللفظة التي وردت
في هذه الخطبة، وهو جمع غريب لم يأت نظيره الا في مواضع معدودة، وهي غرق العظم
يؤخذ عنه اللحم وعراق، وشاة ربى للحديثة العهد بالولادة وغنم رباب، وظئر للمرضعة
غير ولدها وظؤار، ورخل للأنثى من أولاد الضان ورخال، وفرير لولد البقرة
الوحشية، وفرار (3).
والآلاء النعم.

(1) سورة المائدة 56.
(2) سورة الجن 3.
(3) انظر صحاح الجوهري 4: 1523 واللسان - فرر.
117

قوله عليه السلام (مبدع الخلائق بعلمه)، ليس يريد أن العلم علة في الابداع،
كما تقول هوى الحجر بثقله، بل المراد: أبدع الخلق وهو عالم، كما تقول خرج زيد
بسلاحه، أي خرج متسلحا، فموضع الجار والمجرور على هذا نصب بالحالية، وكذلك
القول في (ومنشئهم بحكمه) والحكم هاهنا الحكمة.
ومنه قوله عليه السلام (إن من الشعر لحكمة).
قوله (بلا اقتداء ولا تعليم ولا احتذاء) قد تكرر منه عليه السلام أمثاله مرارا.
قوله (ولا إصابة خطأ) تحته معنى لطيف، وذلك لان المتكلمين يوردون على
أنفسهم سؤالا في باب كونه عالما بكل معلوم إذا استدلوا على ذلك فإنه علم بعض
الأشياء لا من طريق أصلا، لا من إحساس ولا من نظر واستدلال، فوجب أن يعلم
سائرها، لأنه لا مخصص، فقالوا لأنفسهم لم زعمتم ذلك ولم لا يجوز أن يكون فعل
أفعاله مضطربة، فلما أدركها علم كيفية صنعها بطريق كونه مدركا لها فأحكمها بعد اختلالها
واضطرابها وأجابوا عن ذلك بأنه لا بد أن يكون قبل أن فعلها عالما بمفرداتها من
غير احساس، ويكفي ذلك في كونه عالما بما لم يتطرق إليه، ثم يعود الاستدلال
المذكور أولا.
قوله عليه السلام (ولا حضره ملأ)، الملا الجماعة من الناس وفيه معنى قوله تعالى
(ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم) (1).
قوله (يضربون في غمرة)، أي يسيرون في جهل وضلالة، والضرب
السير السريع.
والحين الهلاك والرين الذنب على الذنب حتى يسود القلب، وقيل الرين

(1) سورة الكهف 51.
118

الطبع والدنس، يقال ران على قلبه ذنبه، يرين رينا، أي دنسه ووسخه، واستغلقت
أقفال الرين على قلوبهم تعسر فتحها.
قوله (فإنها حق الله عليكم والموجبة على الله حقكم) يريد انها واجبة عليكم، فان
فعلتموها وجب على الله أن يجازيكم عنها بالثواب، وهذا تصريح بمذهب المعتزلة في العدل،
وان من الأشياء ما يجب على الله تعالى من باب الحكمة.
قوله (وان تستعينوا عليها بالله وتستعينوا بها على الله)، يريدا وصيكم بان
تستعينوا بالله على التقوى بان تدعوه وتبتهلوا إليه أن يعينكم عليها، ويوفقكم لها وييسرها
ويقوى دواعيكم إلى القيام بها، وأوصيكم أن تستعينوا بالتقوى على لقاء الله ومحاكمته
وحسابه، فإنه تعالى يوم البعث والحساب كالحاكم بين المتخاصمين (وترى كل أمة
جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها) (1) فالسعيد من استعان على ذلك الحساب وتلك
الحكومة والخصومة بالتقوى في دار التكليف، فإنها نعم المعونة (وتزودوا فان خير
الزاد التقوى).
والجنة ما يستتر به.
قوله (ومستودعها حافظ)، يعنى الله سبحانه، لأنه مستودع الأعمال، ويدل عليه
قوله تعالى (انا لا نضيع اجر من أحسن عملا) (2) وليس ما قاله الراوندي من أنه
أراد بالمستودع قلب الانسان بشئ.
قوله (لم تبرح عارضة نفسها)، كلام فصيح لطيف، يقول إن التقوى لم تزل عارضة
نفسها على من سلف من القرون، فقبلها القليل منهم، شبهها بالمرأة العارضة نفسها
نكاحا على قوم، فرغب فيها من رغب، وزهد من زهد، وعلى الحقيقة ليست

(1) سورة الجاثية 28.
(2) سورة الكهف 30.
119

هي العارضة نفسها، ولكن المكلفين ممكنون من فعلها ومرغبون فيها، فصارت
كالعارضة.
والغابر هاهنا الباقي، وهو من الأضداد يستعمل بمعنى الباقي، وبمعنى الماضي.
قوله عليه السلام (إذا أعاد الله ما أبدى)، يعنى انشر الموتى واخذ ما أعطى وورث الأرض
مالك الملوك فلم يبق في الوجود من له تصرف في شئ غيره، كما قال (لمن الملك اليوم
لله الواحد القهار) (1) وقيل في الاخبار والحديث أن الله تعالى يجمع الذهب والفضة
كل ما كان منه في الدنيا، فيجعله أمثال الجبال، ثم يقول هذا فتنة بني آدم، ثم يسوقه
إلى جهنم فيجعله مكاوي لجباه المجرمين.
(وسأل عما أسدي); أي سال أرباب الثروة عما أسدي إليهم من النعم فيم
صرفوها وفيم أنفقوها.
قوله عليه السلام (فما أقل من قبلها)، يعنى ما أقل من قبل التقوى العارضة
نفسها على الناس.
وإذا في قوله (إذا أعاد الله); ظرف لحاجتهم إليها، لان المعنى يقتضيه، أي لأنهم
يحتاجون إليها وقت إعادة الله الخلق; وليس كما ظنه الراوندي انه ظرف لقوله (فما أقل
من قبلها) لان المعنى على ما قلناه، ولان ما بعد الفاء لا يجوز أن يكون عاملا
فيما قبلها.
قوله (فاهطعوا بأسماعكم)، أي أسرعوا أهطع في عدوه أي أسرع ويروى
(فانقطعوا بأسماعكم إليها)، أي فانقطعوا إليها مصغين بأسماعكم.
قوله (وألظوا بجدكم)، أي ألحوا، والإلظاظ الالحاح في الامر، ومنه قول

(1) سورة غافر 16.
120

ابن مسعود ألظوا في الدعاء بياذا الجلال والاكرام، ومنه الملاظة في الحرب، ويقال
رجل ملظ وملظاظ أي ملحاح، وألظ المطر، أي دام.
وقوله (بجدكم) أي باجتهادكم، جددت في الامر جدا بالغت واجتهدت،
ويروى (وأكضوا بحدكم) والمواكظة المداومة على الامر وقال مجاهد في قوله
تعالى (الا ما دمت عليه قائما) (1) قال أي مواكظا.
قوله (وأشعروا بها قلوبكم) يجوز أن يريد اجعلوها شعارا لقلوبكم، وهو
ما دون الدثار والصق بالجسد منه، ويجوز أن يريد اجعلوها علامة يعرف بها القلب
التقى من القلب المذنب كالشعار في الحرب يعرف به قوم من قوم، ويجوز أن يريد
أخرجوا قلوبكم بها من اشعار البدن، أي طهروا القلوب بها، وصفوها من دنس
الذنوب، كما يصفى البدن بالفصاد من غلبه الدم الفاسد; ويجوز أن يريد الاشعار بمعنى
الاعلام، من أشعرت زيدا بكذا، أي عرفته إياه; أي اجعلوها عالمة بجلالة موقعها
وشرف محلها.
قوله (وارحضوا بها) أي اغسلوا، وثوب رحيض ومرحوض، أي مغسول.
قال (وداووا بها الأسقام)، يعنى أسقام الذنوب.
وبادروا بها الحمام عجلوا واسبقوا الموت أن يدرككم وأنتم غير متقين.
واعتبروا بمن أضاع التقوى فهلك شقيا، ولا يعتبرن بكم أهل التقوى، أي
لا تكونوا أنتم لهم معتبرا بشقاوتكم وسعادتهم.
ثم قال و صونوا التقوى عن أن تمازجها المعاصي، وتصونوا أنتم بها عن الدناءة
وما ينافي العدالة.
والنزه جمع نزيه، وهو المتباعد عما يوجب الذم والولاه جمع واله، وهو
المشتاق ذو الوجد حتى يكاد يذهب عقله.
121

ثم شرع في ذكر الدنيا، فقال (لا تشيموا بارقها)، الشيم النظر إلى البرق
انتظارا للمطر.
ولا تسمعوا ناطقها لا تصغوا إليها سامعين، ولا تجيبوا مناديها.
والأعلاق جمع علق وهو الشئ النفيس وبرق خالب وخلب لا مطر فيه.
وأموالها محروبة، أي مسلوبة.
قوله عليه السلام (الا وهي المتصدية العنون); شبهها بالمرأة المومس تتصدى
للرجال تريد الفجور وتتصدى لهم تتعرض والعنون المتعرضة أيضا، عن لي كذا
أي عرض.
ثم قال (والجامحة الحرون) شبهها بالدابة ذات الجماح، وهي التي لا يستطاع
ركوبها لأنها تعثر بفارسها وتغلبه، وجعلها مع ذلك حرونا وهي التي لا تنقاد.
ثم قال (والمائنة الخئون)، مان، أي كذب شبهها بامرأة كاذبة خائنة.
والجحود الكنود، جحد الشئ أنكره، وكند النعمة كفرها، جعلها كامرأة
تجحد الصنيعة ولا تعترف بها وتكفر النعمة ويجوز أن يكون الجحود من قولك رجل
جحد وجحد، أي قليل الخير، وعام جحد، أي قليل المطر، وقد جحد النبت،
إذا لم يطل.
قال (والعنود الصدود)، العنود الناقة تعدل عن مرعى الإبل وترعى ناحية،
والصدود المعرضة، صد عنه، أي أعرض; شبهها في انحرافها وميلها عن القصد بتلك.
قال (والحيود الميود)، حادت الناقة عن كذا تحيد فهي حيود، إذا مالت عنه.
ومادت تميد فهي ميود، أي مالت، فان كانت عادتها ذلك سميت الحيود الميود
في كل حال.
122

قال (حالها انتقال); يجوز أن يعنى به إن شيمتها وسجيتها الانتقال والتغير، ويجوز
أن يريد به معنى أدق وهو أن الزمان على ثلاثة أقسام: ماض، وحاضر، ومستقبل،
فالماضي والمستقبل لا وجود لهما الان، وإنما الموجود ابدا هو الحاضر; فلما أراد المبالغة
في وصف الدنيا بالتغير والزوال قال (حالها انتقال)، أي أن الان الذي يحكم العقلاء
عليه بالحضور منها ليس بحاضر على الحقيقة، بل هو سيال متغير، فلا ثبوت إذا لشئ
منها مطلقا ويروى (وحالها افتعال)، أي كذب وزور، وهي رواية شاذة.
قال (ووطأتها زلزال)، الوطأة كالضغطة، ومنه قوله صلى الله عليه وآله (اللهم
اشدد وطأتك على مضر)، وأصلها موضع القدم والزلزال الشدة العظيمة، والجمع زلازل.
وقال الراوندي في شرحه يريد إن سكونها حركة، من قولك وطؤ الشئ أي
صار وطيئا ذا حال لينة، وموضع وطئ، أي وثير، وهذا خطا، لان المصدر من ذلك
وطاءة بالمد، وهاهنا وطأة ساكن الطاء، فأين أحدهما من الاخر.
قال (وعلوها سفل)، يجوز ضم أولهما وكسره.
قال (دار حرب) الأحسن في صناعة البديع أن تكون الراء هاهنا ساكنة
ليوازي السكون هاء (نهب) ومن فتح الراء، أراد السلب، حربته أي سلبت ماله.
قال (أهلها على ساق وسياق) يقال قامت الحرب على ساق، أي على شده
ومنه قوله سبحانه (يوم يكشف عن ساق) (1) والسياق نزع الروح، يقال رأيت
فلانا يسوق، أي ينزع عند الموت، أو يكون مصدر ساق الماشية سوقا وسياقا.
وقال الراوندي في شرحه يريد أن بعض أهلها في أثر بعض كقولهم ولدت فلانة

(1) سورة القلم 42.
123

ثلاثة بنين على ساق، وليس ما قاله بشئ، لأنهم يقولون ذلك للمرأة إذا لم يكن بين
البنين أنثى، ولا يقال ذلك في مطلع التتابع أين كان.
قال عليه السلام (ولحاق وفراق)، اللام مفتوحة، مصدر لحق به، وهذا كقولهم
(الدنيا مولود يولد، ومفقود يفقد).
قال عليه السلام (قد تحيرت مذاهبها)، أي تحير أهلها في مذاهبهم، وليس يعنى
بالمذاهب هاهنا الاعتقادات، بل المسالك.
وأعجزت مهاربها أي أعجزتهم جعلتهم عاجزين، فحذف المفعول.
وأسلمتهم المعاقل لم تحصنهم.
ولفظتهم بفتح الفاء رمت بهم وقذفتهم.
وأعيتهم المحاول، أي المطالب.
ثم وصف أحوال الدنيا فقال (هم فمن ناج معقور)، أي مجروح كالهارب من الحرب
بحشاشة نفسه، وقد جرح بدنه.
ولحم مجزور، أي قتيل قد صار جزرا للسباع.
وشلو مذبوح الشلو، العضو من أعضاء الحيوان; المذبوح أو الميت. وفى الحديث
(ائتوني بشلوها الأيمن).
ودم مفسوح، أي مسفوك. وعاض على يديه، أي ندما.
وصافق بكفيه، أي تعسفا أو تعجبا.
ومرتفق بخديه جاعل لهما على مرفقيه فكرا وهما.
وزار على رأيه، أي عائب، أي يرى الواحد منهم رأيا ويرجع عنه ويعيبه، وهو
البداء الذي يذكره المتكلمون ثم فسره بقوله (وراجع عن عزمه).
124

فان قلت فهل يمكن أن يفرق بينهما، ليكون الكلام أكثر فائدة
قلت نعم بان يريد بالأول من رأى رأيا وكشفه لغيره، وجامعه عليه ثم بدا
له وعابه، ويريد بالثاني من عزم نفسه عزما ولم يظهر لغيره ثم رجع عنه، ويمكن أيضا
بان يفرق بينهما بان يعنى بالرأي الاعتقاد، كما يقال هذا رأي أبي حنيفة، والعزم أمر
مفرد خارج عن ذلك، وهو ما يعزم عليه الانسان من أمور نفسه، ولا يقال عزم
في الاعتقادات.
ثم قال عليه السلام (وقد أدبرت الحيلة) أي ولت، وأقبلت الغيلة، أي الشر، ومنه
قولهم فلان قليل الغائلة أو يكون بمعنى الاغتيال، يقال قتله غيلة، أي خديعة يذهب به
إلى مكان يوهمه انه لحاجة ثم يقتله.
قال عليه السلام (ولات حين مناص)، هذه من ألفاظ الكتاب العزيز (1)، قال
الأخفش شبهوا (لات) بليس، وأضمروا فيها اسم الفاعل; قال ولا تكون (لات)
الا مع (حين)، وقد جاء حذف (حين) في الشعر، ومنه المثل (حنت ولات هنت)،
أي ولات حين حنت، والهاء بدل من الحاء، فحذف الحين وهو يريده. قال وقرا
بعضهم (ولات حين مناص) بالرفع، وأضمر الخبر. وقال أبو عبيد هي لا;
والتاء إنما زيدت في (حين)، لا في (لا)، وان كتبت مفردة، والأصل
(تحين) كما قال في (الان) (تلان) فزادوا التاء، وأنشد لأبي وجزة:
العاطفون تحين ما من عاطف والمطعمون زمان أين المطعم (2).
وقال المؤرج زيدت التاء في (لات) كما زيدت في (ربت) و (ثمت).
والمناص المهرب، ناص عن قرنه ينوص نوصا ومناصا، أي ليس هذا وقت الهرب والفرار.

(1) وهو قوله تعالى في سورة ص 3: (ولات حين مناص).
(2) الصحاح 1: 226.
125

ويكون المناص أيضا بمعنى الملجأ والمفزع، أي ليس هذا حين تجد مفزعا ومعقلا تعتصم به.
هيهات اسم للفعل ومعناه بعد، يقال هيهات زيد فهو مبتدأ وخبر، والمعنى يعطى
الفعلية، والتاء في (هيهات) مفتوحة مثل كيف، وأصلها هاء، وناس يكسرونها على كل
حال بمنزلة نون التثنية، وقال الراجز:
هيهات من مصبحها هيهات * هيهات حجر من صنيعات (1).
وقد تبدل الهاء همزة، فيقال (أيهات) مثل هراق وأراق، قال
* أيهات منك الحياة إيهاتا (2) *.
قال الكسائي فمن كسر التاء وقف عليها بالهاء، فقال (هيهاه)، ومن فتحها وقف
انشاء بالتاء وان شاء بالهاء.
قوله عليه السلام (ومضت الدنيا لحال بالها)، كلمة تقال فيما انقضى وفرط امره،
ومعناها مضى بما فيه إن كان خيرا، وإن كان شرا.
قوله عليه السلام (فما بكت عليهم السماء); هو من كلام الله تعالى; والمراد أهل
السماء وهم الملائكة وأهل الأرض وهم البشر، والمعنى انهم لا يستحقون أن يتأسف عليهم،
وقيل أراد المبالغة في تحقير شانهم; لان العرب كانت تقول في العظيم القدر يموت بكته
السماء وبكته النجوم، قال الشاعر:
فالشمس طالعة ليست بكاسفة تبكي عليك نجوم الليل والقمرا (3).
فنفى عنهم ذلك وقال ليسوا من يقال فيه مثل هذا القول، وتأولها ابن عباس رضي الله عنه
لما قيل له أتبكي السماء والأرض على أحد فقال نعم يبكيه مصلاه في الأرض
ومصعد عمله في السماء; فيكون نفى البكاء عنهما كناية عن انه لم يكن لهم في الأرض
عمل صالح يرفع منهما إلى السماء

(1) اللسان 17: 451 من رجز نسبه إلى حميد الأرقط.
(2) انظر اللسان 17: 452.
(3) لجرير، ديوانه 304.
126

(238)
الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام:
(ومن الناس من يسمى هذه الخطبة بالقاصعة، وهي تتضمن ذم إبليس لعنه الله،
على استكباره وتركه السجود لآدم عليه السلام وانه أول من أظهر العصبية وتبع الحمية
وتحذير الناس من سلوك طريقته):
الحمد لله الذي لبس العز والكبرياء، واختارهما لنفسه دون خلقه، وجعلهما
حمى وحرما على غيره، واصطفاهما لجلاله، وجعل اللعنة على من نازعه فيهما
من عباده.
ثم اختبر بذلك ملائكته المقربين; ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين،
فقال سبحانه وهو العالم بمضمرات القلوب ومحجوبات الغيوب (انى خالق بشرا
من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين * فجسد الملائكة
كلهم أجمعون * الا إبليس) (1); اعترضته الحمية فافتخر على آدم بخلقه، وتعصب
عليه لأصله، فعدو الله امام المتعصبين، وسلف المستكبرين; الذي وضع أساس
العصبية، ونازع الله رداء الجبرية، وادرع لباس التعزز، وخلع قناع التذلل.
الا يرون كيف صغره الله بتكبره، ووضعه بترفعه، فجعله في الدنيا
مدحورا، واعد له في الآخرة سعيرا

(1) سورة ص 71 - 74.
127

الشرح:
يجوز أن تسمى هذه الخطبة (القاصعة) من قولهم قصعت الناقة بجرتها، وهو أن
تردها إلى جوفها، أو تخرجها من جوفها فتملأ فاها، فلما كانت الزواجر والمواعظ في هذه
الخطبة مرددة من أولها إلى آخرها، شبهها بالناقة التي تقصع الجرة. ويجوز أن تسمى القاصعة
لأنها كالقاتلة لإبليس واتباعه من أهل العصبية، من قولهم قصعت القملة، إذا هشمتها
وقتلتها. ويجوز أن تسمى القاصعة لان المستمع لها المعتبر بها يذهب كبره ونخوته فيكون
من قولهم قصع الماء عطشه، أي أذهبه وسكنه، قال ذو الرمة بيتا في هذا المعنى:
فانصاعت الحقب لم تقصع صرائرها وقد تشح فلا ري ولا هيم (1).
الصرائر جمع صريرة، وهي العطش، ويجوز أن تسمى القاصعة، لأنها تتضمن
تحقير إبليس واتباعه وتصغيرهم، من قولهم قصعت الرجل إذا امتهنته وحقرته، وغلام
مقصوع، أي قمئ لا يشب ولا يزداد.
والعصبية على قسمين عصبية في الله وهي محمودة، وعصبية في الباطل وهي مذمومة;
وهي التي نهى أمير المؤمنين عليه السلام عنها، وكذلك الحمية وجاء في الخبر (العصبية في
الله تورث الجنة، والعصبية في الشيطان تورث النار).
وجاء في الخبر (العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني فيهما قصمته); وهذا
معنى قوله عليه السلام (اختارهما لنفسه دون خلقه...) إلى آخر قوله (من عباده).
قال عليه السلام (ثم اختبر بذلك ملائكته المقربين) مع علمه بمضمراتهم; وذلك
لان اختباره سبحانه ليس ليعلم، بل ليعلم غيره من خلقه طاعة من يطيع وعصيان من يعصى،
وكذلك، قوله سبحانه (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها الا لنعلم من يتبع

(1) ديوانه 588. انصاعت: ذهبت هاربة. والحقب: الحمر الوحشية. وروايته: (وقد نشحن).
128

الرسول ممن ينقلب على عقبيه) (1)، النون في (لنعلم) نون الجمع لا نون العظمة، أي لتصير
أنت وغيرك من المكلفين عالمين لم يطيع ومن يعصى، كما انا عالم بذلك، فتكونوا كلكم
مشاركين لي في العلم بذلك.
فان قلت وما فائدة وقوفهم على ذلك وعلمهم به؟
قلت ليس بممتنع أن يكون ظهور حال العاصي والمطيع وعلم المكلفين أو أكثرهم
أو بعضهم به يتضمن لطفا في التكليف.
فان قلت أن الملائكة لم تكن تعلم ما البشر، ولا تتصور ماهيته، فكيف قال لهم
(انى خالق بشرا من طين)
قلت قد كان قال لهم انى خالق جسما من صفته كيت وكيت، فلما حكاه اقتصر
على الاسم. ويجوز أن يكون عرفهم من قبل أن لفظة (بشر) على ماذا تقع، ثم قال لهم
انى خالق هذا الجسم المخصوص الذي أعلمتكم أن لفظة (بشر) واقعة عليه من طين.
قوله تعالى (فإذا سويته); أي إذا أكملت خلقه.
فقعوا له ساجدين أمرهم بالسجود له وقد اختلف في ذلك فقال قوم كان قبله، كما
الكعبة اليوم قبلة، ولا يجوز السجود الا لله وقال آخرون بل كان السجود له تكرمة
ومحنة، والسجود لغير الله غير قبيح في العقل إذا لم يكن عباده ولم يكن فيه مفسده.
وقوله تعالى (ونفخت فيه من روحي)، أي أحللت فيه الحياة، وأجريت الروح
إليه في عروقه، وأضاف الروح إليه تبجيلا لها، وسمى ذلك نفخا على وجه الاستعارة،
لان العرب تتصور من الروح معنى الريح، والنفخ يصدق على الريح، فاستعار لفظة
(النفخ) توسعا.

(1) سورة البقرة 143.
129

وقالت الحكماء هذا عبارة عن النفس الناطقة.
فان قلت هل كان إبليس من الملائكة أم لا
قلت قد اختلف في ذلك، فمن جعله منهم احتج بالاستثناء، ومن جعله من غيرهم
احتج بقوله تعالى (كان من الجن)، وجعل الاستثناء منقطعا، وبان له نسلا
وذرية، قال تعالى (أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني)، والملائكة لا نسل لهم
ولا ذرية، وبان أصله نار والملائكة أصلها نور، وقد مر لنا كلام في هذا
في أول الكتاب.
قوله (فافتخر على آدم بخلقه، وتعصب عليه لأصله) كانت خلقته أهون من خلقه
آدم عليه السلام، وكان أصله من نار واصل آدم عليه السلام من طين.
فان قلت كيف حكم على إبليس بالكفر، ولم يكن منه الا مخالفة الامر، ومعلوم
أن تارك الامر فاسق لا كافر
قلت إنه اعتقد أن الله امره بالقبيح ولم ير امره بالسجود لآدم عليه السلام حكمة
وامتنع من السجود تكبرا، ورد على الله امره، واستخف بمن أوجب الله إجلاله، وظهر
أن هذه المخالفة عن فساد عقيدة، فكان كافرا.
فان قلت هل كان كافرا في الأصل أم كان مؤمنا ثم كفر
قلت اما المرجئة فأكثرهم يقول كان في الأصل كافرا، لان المؤمن عندهم لا يجوز
أن يكفر، واما أصحابنا فلما كان هذا الأصل عندهم باطلا توقفوا في حال إبليس،
وجوزوا كلا الامرين.

(1) سورة الكهف 50.
130

قوله عليه السلام (رداء الجبرية) الباء مفتوحة، يقال فيه جبرية، وجبروة،
وجبروت، وجبورة، كفروجة، أي كبر، وأنشدوا:
فإنك إن عاديتني غضب الحصا * عليك وذو الجبورة المتغطرف (1).
وجعله مدحورا، أي مطرودا مبعدا، دحره الله دحورا، أي أقصاه وطرده.
* * *
الأصل:
ولو أراد الله أن يخلق آدم من نور يخطف الابصار ضياؤه، ويبهر العقول
رواؤه، وطيب يأخذ الأنفاس عرفه، لفعل; ولو فعل لظلت له الأعناق خاضعة،
ولخفت البلوى فيه على الملائكة، ولكن الله سبحانه يبتلى خلقه ببعض ما يجهلون
أصله تمييزا بالاختبار لهم، ونفيا للاستكبار عنهم، وإبعادا للخيلاء منهم،
فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس إذ أحبط عمله الطويل، وجهده الجهيد،
وكان قد عبد الله ستة آلاف سنة، لا يدرى امن سنى الدنيا أم من سنى الآخرة،
عن كبر ساعة واحدة، فمن ذا بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته
كلا ما كان الله سبحانه ليدخل الجنة بشرا بأمر اخرج به منها ملكا،
إن حكمه في أهل السماء والأرض لواحد، وما بين الله وبين أحد من خلقه هوادة
في إباحة حمى حرمه على العالمين.
* * *
الشرح:
خطفت الشئ بكسر الطاء، أخطفه، إذا اخذته بسرعة استلابا، وفيه لغة أخرى

(1) لمغلس بن لقيط الأسدي، وانظر الصحاح وحواشيه (جبر).
131

خطف بالفتح، ويخطف بالفتح ويخطف بالكسر، وهي لغة رديئة قليلة لا تكاد
تعرف، وقد قرا بها يونس في قوله تعالى (يكاد البرق يخطف أبصارهم) (1).
والرواء، بالهمزة والمد المنظر الحسن والعرف الريح الطيبة.
والخيلاء، بضم الخاء وكسرها الكبر، وكذلك الخال والمخيلة، تقول اختال
الرجل وخال أيضا، أي تكبر.
وأحبط عمله أبطل ثوابه، وقد حبط العمل حبطا بالتسكين وحبوطا والمتكلمون
يسمون ابطال الثواب إحباطا وابطال العقاب تكفيرا.
وجهده بفتح الجيم اجتهاده وجده ووصفه بقوله (الجهيد) أي المستقصى، من
قولهم: مرعى جهيد، أي قد جهده المال الراعي واستقصى رعيه.
وكلامه عليه السلام يدل على أنه كان يذهب إلى أن إبليس من الملائكة لقوله
(اخرج منها ملكا).
والهوادة الموادعة والمصالحة، يقول إن الله تعالى خلق آدم من طين، ولو شاء أن
يخلقه من النور الذي يخطف أو من الطيب الذي يعبق لفعل، ولو فعل لهال الملائكة
امره وخضعوا له، فصار الابتلاء والامتحان والتكليف بالسجود له خفيفا عليهم، لعظمته
في نفوسهم، فلم يستحقوا ثواب العمل الشاق، وهذا يدل على أن الملائكة تشم
الرائحة كما نشمها نحن، ولكن الله تعالى يبتلى عباده بأمور يجهلون أصلها اختبارا لهم.
فان قلت ما معنى قوله عليه السلام (تمييزا بالاختبار لهم).
قلت لأنه ميزهم عن غيرهم من مخلوقاته، كالحيوانات العجم، وأبانهم عنهم، وفضلهم
عليهم بالتكليف والامتحان.

(1) سورة البقرة 20.
132

قال (ونفيا للاستكبار عنهم); لان العبادات خضوع وخشوع وذلة، ففيها نفى
الخيلاء والتكبر عن فاعليها، فأمرهم بالاعتبار بحال إبليس الذي عبد الله ستة آلاف
سنة; لا يدرى امن سنى الدنيا أم من سنى الآخرة وهذا يدل على أنه قد سمع فيه
نصا من رسول الله صلى الله عليه وآله مجملا لم يفسره له، أو فسره له خاصة، ولم يفسره أمير
المؤمنين عليه السلام للناس لما يعلمه في كتمانه عنهم من المصلحة.
فان قلت قوله (لا يدرى) على ما لم يسم فاعله يقتضى انه هو لا يدرى
قلت إنه لا يقتضى ذلك، ويكفي في صدق الخبر إذا ورد بهذه الصيغة أن يجهله
الأكثرون.
فاما القول في سنى الآخرة كم هي فاعلم أنه قد ورد في الكتاب العزيز آيات
مختلفات:
إحداهن قوله (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين
الف سنة) (1).
والأخرى قوله (يدبر الامر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان
مقداره الف سنة مما تعدون) (2).
والثالثة قوله (وان يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) (3).
وأولى ما قيل فيها أن المراد بالآية الأولى مدة عمر الدنيا، وسمى ذلك يوما، وقال
إن الملائكة لا تزال تعرج إليه باعمال البشر طول هذه المدة حتى ينقضي التكليف،
وينتقل الامر إلى دار أخرى. واما الآيتان الأخيرتان فمضمونهما بيان كمية أيام الآخرة،
وهو أن كل يوم منها مثل الف سنة من سنى الدنيا.

(1) سورة المعراج 4.
(2) سورة السجدة 5.
(3) سورة الحج 47.
133

فان قلت فعلى هذا كم تكون مدة عبادة إبليس إذا كانت ستة آلاف سنة من
سنى الآخرة
قلت يكون ما يرتفع من ضرب أحد المضروبين في الآخرة، وهو ألفا الف الف،
ثلاث لفظات، الأولى منهم مثناة، ومائة الف الف لفظتان، وستون الف الف سنة لفظتان
أيضا من سنى الدنيا ولما رأى أمير المؤمنين عليه السلام هذا المبلغ عظيما جدا علم أن
أذهان السامعين لا تحتمله، فلذلك أبهم القول عليهم، وقال (لا يدرى امن سنى
الدنيا أم من سنى الآخرة).
فان قلت فإذا كنتم قد رجحتم قول من يقول إن عمر الدنيا خمسون الف سنة،
فكم يكون عمرها إن كان الله تعالى أراد خمسين الف سنة من سنى الآخرة لأنه لا يؤمن
أن يكون أراد ذلك إذا كانت السنة عنده عبارة عن مدة غير هذه المدة التي قد اصطلح
عليها الناس
قلت يكون ما يرتفع من ضرب خمسين ألفا في ثلاثمائة وستين الف من سنى الدنيا
ومبلغ ذلك ثمانية عشر الف الف الف سنة من سنى الدنيا ثلاث لفظات، وهذا القول
قريب من القول المحكى عن الهند.
وروى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه روايات كثيرة بأسانيد أوردها عن
جماعة من الصحابة أن إبليس كان إليه ملك السماء وملك الأرض، وكان من قبيلة من
الملائكة يقال لهم الجن، وإنما سموا الجن لأنهم كانوا خزان الجنان، وكان إبليس
رئيسهم ومقدمهم. وكان أصل خلقهم من نار السموم، وكان اسمه الحارث، قال وقد
روى أن الجن كانت في الأرض، وانهم أفسدوا فيها، فبعث الله إليهم إبليس في جند
من الملائكة فقتلهم وطردهم إلى جزائر البحار، ثم تكبر في نفسه، ورأي أنه قد صنع
شيئا عظيما لم يصنعه غيره. قال وكان شديد الاجتهاد في العبادة.
134

وقيل كان اسمه عزازيل، وان الله تعالى جعله حكما وقاضيا بين سكان الأرض
قبل خلق آدم، فدخله الكبر والعجب لعبادته واجتهاده وحكمه في سكان الأرض
وقضائه بينهم، فانطوى على المعصية حتى كان من امره مع آدم عليه السلام ما كان.
قلت ولا ينبغي أن نصدق من هذه الأخبار و أمثالها الا ما ورد في القرآن العزيز
الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أو في السنة، أو نقل عمن يجب الرجوع
إلى قوله، وكل ما عدا ذلك فالكذب فيه أكثر من الصدق، والباب مفتوح، فليقل
كل أحد في أمثال هذه القصص ما شاء.
واعلم أن كلام أمير المؤمنين في هذا الفصل يطابق مذهب أصحابنا في أن الجنة لا يدخلها
ذو معصية، الا تسمع قوله (فمن بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته كلا، ما كان الله
ليدخل الجنة بشرا بأمر اخرج به منها ملكا، أن حكمه في أهل السماء والأرض لواحد).
فان قلت أليس من قولكم إن صاحب الكبيرة إذا تاب دخل الجنة فهذا صاحب
معصية وقد حكمتم له بالجنة
قلت إن التوبة أحبطت معصيته فصار كأنه لم يعص.
فان قلت إن أمير المؤمنين عليه السلام إنما قال (فمن ذا بعد إبليس يسلم على الله بمثل
معصيته) ولم يقل بالمعصية المطلقة; والمرجئة لا تخالف في أن من وافى القيامة بمثل
معصية إبليس لم يكن من أهل الجنة.
قلت كل معصية كبيرة فهي مثل معصيته، ولم يكن اخراجه من الجنة لأنه كافر،
بل لأنه عاص مخالف للامر، الا ترى أنه قال سبحانه (قال فاهبط منها فما يكون لك
أن تتكبر فيها) (1)، فعلل اخراجه من الجنة بتكبره لا بكفره.
فان قلت هذا مناقض لما قدمت في شرح الفصل الأول.

(1) سورة الأعراف: 130.
135

قلت كلا لأني في الفصل الأول عللت استحقاقه اسم الكفر بأمر زائد على المعصية
المطلقة، وهو فساد اعتقاده، ولم اجعل ذلك علة في خروجه من الجنة وهاهنا عللت
خروجه من الجنة، بنفس المعصية، فلا تناقض.
فان قلت ما معنى قول أمير المؤمنين عليه السلام (ما كان الله ليدخل الجنة بشرا
بأمر اخرج به منها ملكا) وهل يظن أحد أو يقول إن الله تعالى يدخل الجنة أحدا
من البشر بالامر الذي اخرج به هاهنا إبليس كلا هذا ما لا يقوله أحد، وإنما الذي يقوله
المرجئة انه يدخل الجنة من قد عصى وخالف الامر - كما خالف الامر إبليس - برحمته وعفوه،
وكما يشاء، لا انه يدخله الجنة بالمعصية، وكلام أمير المؤمنين عليه السلام يقتضى نفى دخول
أحد الجنة بالمعصية لان الباء للسببية؟
قلت الباء ها هنا ليست للسببية كما يتوهمه هذا المعترض; بل هي كالباء في قولهم
خرج زيد بثيابه، ودخل زيد بسلاحه، أي خرج لابسا، ودخل متسلحا، أي يصحبه
الثياب ويصحبه السلاح، فكذلك قوله عليه السلام (بأمر اخرج به منها ملكا)،
معناه إن الله تعالى لا يدخل الجنة بشرا يصحبه أمر اخرج الله به ملكا منها.
* * *
الأصل:
فاحذروا عباد الله عدو الله أن يعديكم بدائه، وأن يستفزكم
بخيله ورجله، فلعمري لقد فوق لكم سهم الوعيد، وأغرق إليكم
بالنزع الشديد، ورماكم من مكان قريب، فقال (رب بما أغويتني
لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين) (1)، قذفا بغيب بعيد ورجما بظن

(1) سورة الحجر: 39.
136

غير مصيب; صدقه به أبناء الحمية، واخوان العصبية، وفرسان الكبر والجاهلية،
حتى إذا انقادت له الجامحة منكم، واستحكمت الطماعية منه فيكم، فنجمت فيه
الحال من السر الخفي إلى الأمر الجلي، استفحل سلطانه عليكم، ودلف بجنوده
نحوكم، فأقحموكم ولجأت الذل، وأحلوكم ورطات القتل، وأوطأوكم إثخان
الجراحة، طعنا في عيونكم، وحزا في حلوقكم، ودقا لمناخركم، وقصدا
لمقاتلكم، وسوقا بخزائم القهر، إلى النار المعدة لكم، فأصبح أعظم في
دينكم حرجا، وأورى في دنياكم قدحا، من الذين أصبحتم لهم مناصبين،
وعليهم متألبين.
فاجعلوا عليه حدكم وله جدكم فلعمر الله لقد فخر على أصلكم، ووقع
في حسبكم، ودفع في نسبكم، واجلب بخيله عليكم، وقصد برجله سبيلكم
يقتنصونكم بكل مكان، ويضربون منكم كل بنان، لا تمتنعون بحيلة،
ولا تدفعون بعزيمة، في حومة ذل، وحلقة ضيق، وعرصة موت، وجولة بلاء.
فاطفئوا ما كمن في قلوبكم من نيران العصبية، وأحقاد الجاهلية، فإنما تلك
الحمية تكون في المسلم من خطرات الشيطان ونخواته، ونزغاته ونفثاته. واعتمدوا
وضع التذلل على رؤوسكم، وإلقاء التعزز تحت أقدامكم، وخلع التكبر من
أعناقكم، واتخذوا التواضع مسلحة بينكم وبين عدوكم إبليس وجنوده،
فان له من كل أمة جنودا وأعوانا، ورجلا وفرسانا; ولا تكونوا كالمتكبر
على ابن أمه من غير ما فضل جعله الله فيه، سوى ما ألحقت العظمة بنفسه من
عداوة الحسب، وقدحت الحمية في قلبه من نار الغضب، ونفخ الشيطان في أنفه
من ريح الكبر; الذي أعقبه الله به الندامة، وألزمه آثام القاتلين إلى يوم القيامة.
137

الشرح:
موضع (أن يعديكم) نصب على البدل من (عدو الله) وقال الراوندي
يجوز أن يكون مفعولا ثانيا، وهذا ليس بصحيح لان (حذر) لا يتعدى إلى المفعولين،
والعدوي ما يعدى من جرب أو غيره، أعدى فلان فلانا من خلقه أو من علته، وهو
مجاوزته من صاحبه إلى غيره، وفى الحديث (لا عدوى في الاسلام).
فان قلت فإذا كان النبي صلى الله عليه وآله قد أبطل أمر العدوي، فكيف قال
أمير المؤمنين (فاحذروه أن يعديكم)
قلت إن النبي صلى الله عليه وآله أبطل ما كانت العرب تزعمه من عدوى الجرب
في الإبل وغيرها، وأمير المؤمنين عليه السلام حذر المكلفين من أن يتعلموا من إبليس
الكبر والحمية، وشبه تعلمهم ذلك منه بالعدوى لاشتراك الامرين في الانتقال من أحد
الشخصين إلى الاخر.
قوله عليه السلام (يستفزكم) أي يستخفكم، وهو من ألفاظ القرآن
(واستفزز من استطعت منهم بصوتك) (1)، أي أزعجه واستخفه وأطر قلبه والخيل
الخيالة، ومنه الحديث (يا خيل الله اركبي).
والرجل اسم جمع لراجل كركب اسم جمع لراكب، وصحب اسم جمع لصاحب،
وهذه أيضا من ألفاظ القرآن العزيز (واجلب عليهم بخيلك ورجلك) (2) وقرئ
(ورجلك) (3) بكسر الجيم على إن (فعلا) بالكسر بمعنى فاعل نحو تعب وتاعب،

(1) سورة الإسراء 64.
(2) سورة الإسراء 64.
(3) هي قراءة حفص، وانظر تفسير القرطبي 10: 288.
138

ومعناه، وقد تضم الجيم أيضا، فيكون مثل قولك رجل حدث وحدث
وندس وندس.
فان قلت فهل لإبليس خيل تركبها جنده
قلت يجوز أن يكون ذلك، وقد فسره قوم بهذا والصحيح انه كلام خرج مخرج
المثل، شبهت حاله في تسلطه على بني آدم بمن يغير على قوم بخيله ورجله فيستأصلهم
وقيل بصوتك، أي بدعائك إلى القبيح وخيله ورجله كل ماش وراكب من أهل
الفساد من بني آدم.
قوله (وفوقت السهم) جعلت له فوقا، وهو موضع الوتر، وهذا كناية عن
الاستعداد، ولا يجوز أن يفسر قوله (فقد فوق لكم سهم الوعيد) بأنه وضع الفوق
في الوتر ليرمى به، لان ذاك لا يقال فيه قد فوق، بل يقال أفقت السهم وأوفقته
أيضا ولا يقال أفوقته، وهو من النوادر.
وقوله (وأغرق إليكم بالنزع)، أي استوفى مد القوس وبالغ في نزعها ليكون
مرماه أبعد، ووقع سهامه أشد.
قوله (ورماكم من مكان قريب)، لأنه كما جاء في الحديث (يجرى من ابن
آدم مجرى الدم ويخالط القلب)، ولا شئ أقرب من ذلك.
والباء في قوله (بما أغويتني) متعلق بفعل محذوف تقديره أجازيك بما أغويتني
تزييني لهم القبيح ف‍ (ما) على هذا مصدرية، أي أجازيك باغوائك لي تزييني لهم القبيح،
فحذف المفعول ويجوز أن تكون الباء قسما، كأنه أقسم باغوائه إياه ليزينن لهم.
فان قلت وأي معنى في أن يقسم باغوائه وهل هذا مما يقسم به
قلت نعم لأنه ليس اغواء الله تعالى إياه خلق الغي والضلال في قلبه، بل تكليفه
139

إياه السجود الذي وقع الغي عنده من الشيطان، لا من الله، فصار حيث وقع عنده، كأنه
موجب عنه، فنسب إلى البارئ، والتكليف تعريض للثواب ولذة الأبد، فكان جدير أن
يقسم به، وقد أقسم في موضع آخر، فقال (فبعزتك لأغوينهم أجمعين) (1)، فاقسم
بالعزة، وهاهنا أقسم بالامر والتكليف. ويجوز فيه وجه ثالث، وهو الا تكون الباء
قسما، ويقدر قسم محذوف، ويكون المعنى بسبب ما كلفتني فأفضى إلى غوايتي،
أقسم لأفعلن بهم نحو ما فعلت بي، وهو أن أزين لهم المعاصي التي تكون
سبب هلاكهم.
فان قلت ليس هذا نحو ما فعله البارئ به، لان البارئ امره بالحسن فأباه، وعدل
عنه إلى القبيح، والشيطان لا يأمرنا بالحسن فنكرهه ونعدل عنه إلى القبيح، فكيف
يكون ذلك نحو واقعته مع البارئ
قلت المشابهة بين الواقعتين في إن كل واحدة منهما تقع عندها المعصية، لا على
وجه الاجبار والقسر، بل على قصد الاختيار، لان معصية إبليس كانت من نفسه، ووقعت
عند الامر بالسجود اختيارا منه لا فعلا من البارئ، ومعصيتنا نحن عند التزيين والوسوسة
تقع اختيارا منا لا اضطرارا يضطرنا إبليس إليه، فلما تشابهت الصورتان في هذا المعنى
حسن قوله (بما فعلت بي كذا لأفعلن بهم نحوه).
فان قلت ما معنى قوله (في الأرض) ومن أين كان يعلم إبليس أن آدم سيصير له
ذرية في الأرض
قلت اما علمه بذلك فمن قول الله تعالى له وللملائكة (انى جاعل في الأرض
خليفة) (2) واما لفظة (الأرض)، فالمراد بها هاهنا الدنيا التي هي دار التكليف، كقوله تعالى

(1) سورة ص 82.
(2) سورة البقرة 30.
140

(ولكنه أخلد إلى الأرض) (1)، ليس يريد به الأرض بعينها بل الدنيا وما فيها من
الملاذ وهوى الأنفس.
قوله عليه السلام (قذفا بغيب بعيد)، أي قال إبليس هذا القول قذفا بغيب
بعيد، والعرب تقول للشئ المتوهم على بعد هذا قذف بغيب بعيد والقذف في الأصل
رمى الحجر وأشباهه، والغيب الامر الغائب، وهذه اللفظة من الألفاظ القرآنية، قال الله
تعالى في كفار قريش (ويقذفون بالغيب من مكان بعيد) (2)، أي يقولون هذا
سحر، أو هذا من تعليم أهل الكتاب، أو هذه كهانة، وغير ذلك مما كانوا يرمونه عليه
الصلاة السلام به. وانتصب (قذفا) على المصدر الواقع موقع الحال، وكذلك (رجما)
وقال الراوندي انتصبا لأنهما مفعول له، وليس بصحيح، لان المفعول له ما يكون
عذرا وعلة لوقوع الفعل، وإبليس ما قال ذلك الكلام لأجل القذف والرجم، فلا يكون
مفعولا له.
فان قلت كيف قال عليه السلام (قذفا من مكان بعيد، ورجما بظن غير
مصيب)، وقد صح ما توهمه وأصاب في ظنه، فان اغواءه وتزيينه تم على الناس كلهم
الا على المخلصين
قلت اما أولا فقد روى (ورجما بظن مصيب) بحذف (غير)، ويؤكد
هذه الرواية قوله تعالى (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه الا فريقا) (3)
واما ثانيا على الرواية التي هي أشهر فنقول اما قذفا من مكان بعيد، فإنه قال ما قال على
سبيل التوهم والحسبان لأمر مستبعد لا يعلم صحته ولا يظنها، وليس وقوع ما وقع من المعاصي وصحة
ما توهمه بمخرج لكون قوله الأول (قذفا بغيب بعيد)، واما (رجما بظن غير مصيب)

(1) سورة الأعراف 176.
(2) سورة سبأ 53.
(3) سورة سبأ 20.
141

فيجب أن يحمل قوله (لأغوينهم أجمعين) (1) على الغواية بمعنى الشرك أو الكفر;
ويكون الاستثناء وهو قوله (الا عبادك منهم المخلصين) (1) معناه الا المعصومين
من كل معصية، وهذا ظن غير مصيب لأنه ما أغوى كل البشر الغواية التي هي الكفر
والشرك الا المعصومين العصمة المطلقة، بل أغوى بعضهم كذلك، وبعضهم بان زين له
الفسق دون الكفر، فيكون ظنه انه قادر على اغواء البشر كافه بمعنى الضلال بالكفر
ظنا غير مصيب.
قوله (صدقه به أبناء الحمية)، موضع (صدقه) جر، لأنه صفة (ظن)، وقد روى
(صدقه أبناء الحمية) من غير ذكر الجار والمجرور، ومن رواه بالجار والمجرور كان معناه
صدقه في ذلك الظن أبناء الحمية، فأقام الباء مقام (في).
قوله (حتى إذا انقادت له الجامحة منكم)، أي الأنفس الجامحة أو الأخلاق الجامحة.
قوله (فنجمت فيه الحال) أي ظهرت، وقد روى (فنجمت الحال من السر
الخفي) من غير ذكر الجار والمجرور، ومن رواه بالجار والمجرور فالمعنى فنجمت الحال
في هذا الشأن المذكور بينه وبينكم من الخفاء إلى الجلاء.
واستفحل سلطانه قوى واشتد وصار فحلا، واستفحل جواب قوله (حتى إذا).
دلف بجنوده تقدم بهم.
والولجات جمع ولجة بالتحريك، وهي موضع، أو كهف يستتر فيه المارة من مطر
أو غير.
وأقحموكم أدخلوكم والورطة الهلكة.
قوله (وأوطأوكم إثخان الجراحة)، أي جعلوكم واطئين لذلك، والإثخان مصدر
أثخن في القتل، أي أكثر منه وبالغ حتى كثف شانه، وصار كالشئ الثخين، ومعنى

(1) سورة ص: 82، 83.
142

إيطاء الشيطان ببني آدم ذلك إلقاؤه إياهم فيه، وتوريطهم وحمله لهم عليه. فالإثخان على هذا
منصوب لأنه مفعول ثان; لا كما زعم الراوندي انه انتصب بحذف حرف الخفض.
قوله عليه السلام (طعنا في عيونكم)، انتصب (طعنا) على المصدر، وفعله محذوف
أي فعلوا بكم هذه الأفعال فطعنوكم في عيونكم طعنا، فاما من روى (وأوطأوكم لإثخان
الجراحة) باللام فإنه يجعل (طعنا) منصوبا على أنه مفعول به، أي أوطأوكم طعنا وحزا،
كقولك أوطأته نارا، وأوطأته عشوة، ويكون (لإثخان الجراحة) مفعولا له، أي
أوطأوكم الطعن ليثخنوا جراحكم. وينبغي أن يكون (قصدا) و (سوقا) خالصين
للمصدرية، لأنه يبعد أن يكون مفعولا به.
واعلم أنه لما ذكر الطعن نسبه إلى العيون، ولما ذكر الحز، وهو الذبح نسبه إلى
الحلوق، ولما ذكر الدق، وهو الصدم الشديد إضافة إلى المناخر، وهذا من صناعة الخطابة
التي علمه الله إياها بلا تعليم، وتعلمها الناس كلهم بعده منه.
والخزائم جمع خزامة، وهي حلقة من شعر تجعل في وترة أنف البعير فيشد فيها
الزمام.
وتقول قد ورى الزند، أي خرجت ناره، وهذا الزند أورى من هذا، أي
أكثر إخراجا للنار يقول فأصبح الشيطان أضر عليكم وأفسد لحالكم من أعدائكم
الذين أصبحتم مناصبين لهم، أي معادين، وعليهم متألبين، أي مجتمعين.
فان قلت اما أعظم في الدين حرجا فمعلوم، فأي معنى لقوله (وأورى في دنياكم
قدحا)، وهل يفسد إبليس أمر الدنيا كما يفسد أمر الدين
قلت نعم لان أكثر القبائح الدينية مرتبطة بالمصالح والمفاسد الدنيوية، الا ترى انه إذا
أغرى السارق بالسرقة أفسد حال السارق من جهة الدين وحال المسروق منه من جهة الدنيا،
143

وكذلك القول في الغصب والقتل وما يحدث من مضار الشرور الدنيوية من اختلاط الأنساب
واشتباه النسل، وما يتولد من شرب الخمر والسكر الحاصل عنها من أمور يحدثها السكران خبطا
بيده، وقذفا بلسانه، إلى غير ذلك من أمثال هذه الأمور وأشباهها.
قوله عليه السلام (فاجعلوا عليه حدكم)، أي شباتكم وبأسكم.
وله جدكم: من جددت في الامر جدا، أي اجتهدت فيه وبالغت.
ثم ذكر انه فخر على أصل بني آدم، يعنى أباهم آدم عليه السلام حيث امتنع من
السجود له، وقال (انا خير منه).
ووقع في حسبكم أي عاب حسبكم وهو الطين، فقال إن النار أفضل منه
ودفع في نسبكم مثله.
واجلب بخيله عليكم، أي جمع خيالته وفرسانه والبها.
ويقتنصونكم يتصيدونكم والبنان أطراف الأصابع، وهو جمع، واحدته بنانه،
ويجمع في القلة على بنانات، ويقال بنان مخضب، لان كل جمع ليس بينه وبين
واحده الا الهاء فإنه يذكر ويوحد
والحومة معظم الماء والحرب وغيرهما، وموضع هذا الجار والمجرور نصب على الحال،
أي يقتنصونكم في حومة ذل.
والجولة الموضع الذي تجول فيه.
وكمن في قلوبكم استتر، ومنه الكمين في الحرب.
ونزغات الشيطان وساوسه التي يفسد بها ونفثاته مثله.
قوله (واعتمدوا وضع التذلل على رؤوسكم، وإلقاء التعزز تحت أقدامكم) كلام
شريف جليل المحل، وكذلك قوله عليه السلام (واتخذوا التواضع مسلحة بينكم وبين
عدوكم إبليس وجنوده)، والمسلحة خيل معدة للحماية والدفاع.
144

ثم نهاهم أن يكونوا كقابيل الذي حسد أخاه هابيل فقتله، وهما اخوان لأب
وأم، وإنما قال (ابن أمه)، فذكر الام دون الأب، لان الأخوين من الام أشد
حنوا ومحبة والتصاقا من الأخوين من الأب، لان الام هي ذات الحضانة والتربية.
وقوله (من غير ما فضل)، ما هاهنا زائدة، وتعطى معنى التأكيد; نهاهم عليه السلام
أن يحسدوا النعم، وان يبغوا ويفسدوا في الأرض، فان آدم لما أمر ولده بالقربان قرب
قابيل شر ماله - وكان كافرا - وقرب هابيل خير ماله - وكان مؤمنا - فتقبل الله تعالى
من هابيل، واهبط من السماء نارا فأكلته، قالوا لأنه لم يكن في الأرض حينئذ فقير يصل
القربان إليه، فحسده قابيل - وكان أكبر منه سنا - فقال لأقتلنك، قال هابيل إنما
يتقبل الله من المتقين، أي بذنبك وجرمك كان عدم قبول قربانك لانسلاخك من
التقوى، فقتله فأصبح نادما، لا ندم التوبة بل ندم الحير ورقة الطبع البشرى، ولأنه
تعب في حمله كما ورد في التنزيل انه لم يفهم ماذا يصنع به حتى بعث الله الغراب.
قوله عليه السلام (والزمه آثام القاتلين إلى يوم القيامة)، لأنه كان ابتدأ بالقتل،
ومن سن سنة شر كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، كما أن من سن
سنة خير كان له اجرها واجر من عمل بها إلى يوم القيامة.
وروى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه، أن الروايات اختلفت في هذه
الواقعة، فروى قوم إن الرجلين كانا من بني إسرائيل وليسا من ولد آدم لصلبه،
والأكثرون خالفوا في ذلك.
ثم اختلف الأكثرون، فروى قوم أن القربان من قابيل وهابيل كان ابتداء،
والأكثرون قالوا بل أراد آدم عليه السلام أن يزوج هابيل أخت قابيل توأمته، ويزوج
145

قابيل أخت هابيل توأمته، فأبى قابيل لان توأمته كانت أحسن، فأمرهما أبوهما
بالقربان، فمن تقبل قربانه نكح الحسناء. فتقبل قربان هابيل، فقتله أخوه كما ورد في
الكتاب العزيز.
وروى الطبري مرفوعا انه صلى الله عليه وآله قال (ما من نفس تقتل ظلما الا كان
على ابن آدم عليه السلام الأول كفل، منها وذلك بأنه أول من سن القتل)، وهذا
يشيد قول أمير المؤمنين عليه السلام.
* * *
الأصل:
الا وقد أمعنتم في البغي، وأفسدتم في الأرض، مصارحة لله بالمناصبة،
ومبارزة للمؤمنين بالمحاربة. فالله الله في كبر الحمية، وفخر الجاهلية! فإنه
ملاقح الشنآن، ومنافخ الشيطان; التي خدع بها الأمم الماضية، والقرون
الخالية، حتى أعنقوا في حنادس جهالته، ومهاوي ضلالته، ذللا عن سياقه، سلسا
في قياده; أمرا تشابهت القلوب فيه; وتتابعت القرون عليه; وكبرا تضايقت
الصدور به.
الا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكم! الذين تكبروا عن
حسبهم، وترفعوا فوق نسبهم، وألقوا الهجينة على ربهم، وجاحدوا الله على ما صنع
بهم، مكابرة لقضائه، ومغالبة لآلائه، فإنهم قواعد أساس العصبية، ودعائم
أركان الفتنة، وسيوف اعتزاء الجاهلية.
فاتقوا الله ولا تكونوا لنعمه عليكم أضدادا، ولا لفضله عندكم حسادا،
146

ولا تطيعوا الأدعياء الذين شربتم بصفوكم كدرهم، وخلطتم بصحتكم مرضهم
وأدخلتم في حقكم باطلهم، وهم أساس الفسوق، وأحلاس العقوق، اتخذهم
إبليس مطايا ضلال، وجندا بهم يصول على الناس، وتراجمة ينطق على ألسنتهم،
استراقا لعقولكم، ودخولا في عيونكم، ونفثا في أسماعكم، فجعلكم مرمى
نبله، وموطئ قدمه، ومأخذ يده.
فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم من باس الله وصولاته،
ووقائعه ومثلاته، واتعظوا بمثاوي خدودهم، ومصارع جنوبهم، واستعيذوا بالله
من لواقح الكبر، كما تستعيذونه من طوارق الدهر.
* * *
الشرح:
أمعنتم في البغي بالغتم فيه، من أمعن في الأرض; أي ذهب فيها بعيدا ومصارحة لله،
أي مكاشفة.
والمناصبة المعاداة.
وملاقح الشنآن، قال الراوندي الملاقح هي الفحول التي تلقح، وليس بصحيح،
نص الجوهري على أن الوجه لواقح كما جاء في القرآن (وأرسلنا الرياح لواقح) (1)
وقال هو من النوادر، لان الماضي رباعي. والصحيح إن ملاقح هاهنا جمع ملقح
وهو المصدر، من لقحت كضربت مضربا وشربت مشربا.
ويجوز فتح النون من الشنان وتسكينها، وهو البغض.
ومنافخ الشيطان جمع منفخ، وهو مصدر أيضا، من نفخ، ونفخ الشيطان ونفثه

(1) سورة الحجر.
147

واحد وهو وسوسته وتسويله، ويقال للمتطاول إلى ما ليس له قد نفخ الشيطان في أنفه.
وفى كلامه عليه السلام يقوله لطلحة وهو صريع، وقد وقف عليه، واخذ سيفه (سيف
طالما جلى به الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله، ولكن الشيطان نفخ في أنفه).
قوله وأعنقوا أسرعوا وفرس معناق، والسير العنق، قال الراجز:
يا ناق سيرى عنقا فسيحا * إلى سليمان فنستريحا (1).
والحنادس الظلم.
والمهاوي جمع مهواة بالفتح; وهي الهوة يتردى الصيد فيها، وقد تهاوى الصيد في
المهواة، إذا سقط بعضه في أثر بعض.
قوله عليه السلام (ذللا عن سياقه)، انتصب على الحال، جمع ذلول، وهو السهل
المقادة، وهو حال من الضمير في (أعنقوا) أي أسرعوا منقادين لسوقه إياهم.
وسلسا جمع سلس وهو السهل أيضا وإنما قسم (ذللا) و (سلسا) بين (سياقه)
و (قياده) لان المستعمل في كلامهم قدت الفرس فوجدته سلسا أو صعبا،
ولا يستحسنون سقته فوجدته سلسا أو صعبا، وإنما المستحسن عندهم سقته فوجدته ذلولا
أو شموسا.
قوله عليه السلام (أمرا) منصوب بتقدير فعل، أي اعتمدوا أمرا و (كبرا)،
معطوف عليه، أو ينصب (كبرا) على المصدر بان يكون اسما واقعا موقعه، كالعطاء
موضع الاعطاء.
وقال الراوندي (أمرا) منصوب هاهنا لأنه مفعول به وناصبة المصدر الذي هو سياقه
وقياده، تقول سقت وقدت قيادا، وهذا غير صحيح لان مفعول هذين المصدرين
محذوف تقديره عن سياقه إياهم وقياده إياهم، وهذا هو معنى الكلام، ولو فرضنا مفعول

(1) الرجز لأبي النجم العجلي، وهو من شواهد ابن عقيل 2: 274.
148

أحد هذين المصدرين (أمرا) لفسد معنى الكلام وقال الراوندي أيضا ويجوز
أن يكون (أمرا) حالا. وهذا أيضا ليس بشئ، لان الحال وصف هيئة الفاعل أو المفعول،
و (أمرا) ليس كذلك.
قوله عليه السلام (تشابهت القلوب فيه)، أي أن الحمية والفخر والكبر والعصبية
ما زالت القلوب متشابهة متماثلة فيها.
وتتابعت القرون عليه جمع قرن بالفتح، وهي الأمة من الناس.
وكبرا تضايقت الصدور به، أي كبر في الصدور حتى امتلأت به وضاقت عنه لكثرته.
ثم أمر بالحذر من طاعة الرؤساء أرباب الحمية، وفيه إشارة إلى قوله تعالى (انا أطعنا
سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا) (1).
وقد كان أمر في الفصل الأول بالتواضع لله، ونهى هاهنا عن التواضع للرؤساء،
وقد جاء في الخبر المرفوع (ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء وأحسن منه تكبر
الفقراء على الأغنياء).
الذين تكبروا عن حسبهم، أي جهلوا أنفسهم ولم يفكروا في أصلهم من النطف
المستقذرة من الطين المنتن، قال الشاعر:
ما بال من أوله نطفة * وجيفة آخره يفخر
يصبح لا يملك تقديم ما * يرجو ولا تأخير ما يحذر.
قوله عليه السلام (وألقوا الهجينة على ربهم) روى (الهجينة) على (فعيلة)،
كالطبيعة والخليقة، وروى (الهجنة) على (فعلة) كالمضغة واللقمة، والمراد بهما الاستهجان،
من قولك هو يهجن كذا، أي يقبحه، ويستهجنه أي يستقبحه. أي نسبوا ما في الأنساب

(1) سورة الأحزاب 67.
149

من القبح بزعمهم إلى ربهم، مثل أن يقولوا للرجل أنت عجمي ونحن عرب، فان هذا ليس
إلى الانسان، بل هو إلى الله تعالى، فأي ذنب له فيه.
قوله (وجاحدوا الله)، أي كابروه وأنكروا صنعه إليهم.
وآساس بالمد جمع أساس.
واعتزاء الجاهلية قولهم يا لفلان وسمع أبي بن كعب رجلا يقول يا لفلان فقال
عضضت بهن أبيك فقيل له يا أبا المنذر ما كنت فحاشا، قال سمعت رسول الله
صلى الله عليه وآله يقول (من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا).
قوله (فلا تكونوا لنعمه الله أضدادا); لان البغي والكبر يقتضيان زوال النعمة
وتبدلها بالنقمة.
قوله (ولا تطيعوا الأدعياء)، مراده هاهنا بالأدعياء الذين ينتحلون الاسلام
ويبطنون النفاق.
ثم وصفهم فقال (الذين شربتم بصفوكم كدرهم)، أي شربتم كدرهم مستبدلين
ذلك بصفوكم ويروى (الذين ضربتم)، أي مزجتم ويروى; (شريتم)
أي بعتم واستبدلتم.
والأحلاس جمع حلس، وهو كساء رقيق يكون على ظهر البعير ملازما له، فقيل
لكل ملازم أمر هو حلس ذلك الامر.
والترجمان بفتح التاء هو الذي يفسر لسانا بلسان غيره، وقد تضم التاء. ويروى
(ونثا في أسماعكم) من نث الحديث، أي أفشاه.
150

الأصل:
فلو رخص الله في الكبر لأحد من عباده لرخص فيه لخاصة أنبيائه،
ولكنه سبحانه كره إليهم التكابر، ورضى لهم التواضع، فألصقوا بالأرض
خدودهم، وعفروا في التراب وجوههم، وخفضوا أجنحتهم للمؤمنين، وكانوا
قوما مستضعفين; قد اختبرهم الله بالمخمصة، وابتلاهم بالمجهدة، وامتحنهم
بالمخاوف، ومحصهم بالمكاره.
فلا تعتبروا الرضا والسخط بالمال والولد، جهلا بمواقع الفتنة، والاختبار
في موضع الغنى والإقتار، فقد قال سبحانه وتعالى (أيحسبون إنما نمدهم به من
مال وبنين * نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون) (1).
* * *
الشرح:
التكابر التعاظم، والغرض مقابلة لفظة (التواضع) لتكون الألفاظ مزدوجة.
وعفر وجهه ألصقه بالعفر.
وخفضوا أجنحتهم ألانوا جانبهم.
والمخمصة الجوع والمجهدة المشقة، وأمير المؤمنين عليه السلام كثير الاستعمال
لمفعل ومفعلة بمعنى المصدر، إذا تصفحت كلامه عرفت ذلك.
ومحصهم أي طهرهم، وروى (مخضهم) بالخاء والضاد المعجمة، أي حركهم وزلزلهم.

(1) سورة (المؤمنون) 55، 56.
151

ثم نهى أن يعتبر رضا الله وسخطه بما نراه من اعطائه الانسان مالا وولدا; فان ذلك
جهل بمواقع الفتنة والاختبار.
وقوله تعالى (أيحسبون..)، الآية دليل على ما قاله عليه السلام، والأدلة العقلية
أيضا دلت على أن كثيرا من الآلام والغموم والبلوى إنما يفعله الله تعالى للألطاف
والمصالح. وما الموصولة في الآية يعود إليها محذوف ومقدر لا بد منه; والا كان الكلام
غير منتظم، وغير مرتبط بعضه ببعض، وتقديره نسارع لهم في الخيرات.
* * *
الأصل:
فان الله سبحانه يختبر عباده المستكبرين في أنفسهم; بأوليائه المستضعفين
في أعينهم; ولقد دخل موسى بن عمران ومعه أخوه هارون صلى الله عليهما على
فرعون وعليهما مدارع الصوف، وبأيديهما العصى فشرطا له - إن أسلم - بقاء
ملكه، ودوام عزه; فقال الا تعجبون من هذين يشرطان لي دوام العز، وبقاء
الملك; وهما بما ترون من حال الفقر والذل فهلا ألقى عليهما أساورة من ذهب;
اعظاما للذهب وجمعه، واحتقارا للصوف ولبسه.
ولو أراد الله سبحانه لأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان،
ومعادن العقيان، ومغارس الجنان، وأن يحشر معهم طيور السماء، ووحوش الأرضين،
لفعل، ولو فعل لسقط البلاء، وبطل الجزاء، واضمحلت الانباء، ولما وجب
للقابلين أجور المبتلين، ولا استحق المؤمنون ثواب المحسنين، ولا لزمت
الأسماء معانيها، ولكن الله سبحانه جعل رسله أولي قوة في عزائمهم، وضعفة فيما
152

ترى الأعين من حالاتهم، مع قناعه تملأ القلوب والعيون غنى، وخصاصة تملأ
الابصار والاسماع أذى.
* * *
الشرح:
مدارع الصوف جمع مدرعة، بكسر الميم، وهي كالكساء، وتدرع الرجل وتمدرع
إذا لبسها والعصي جمع عصا.
وتقول هذا سوار المرأة، والجمع أسورة، وجمع الجمع أساورة، وقرئ (فلولا ألقى
عليه أسورة من ذهب) (1) وقد يكون جمع أساور، قال سبحانه (يحلون فيها من
أساور من ذهب) (2) قال أبو عمرو بن العلاء أساور هاهنا جمع أسوار
وهو السوار.
والذهبان بكسر الذال جمع ذهب، كخرب لذكر الحبارى وخربان والعقيان
الذهب أيضا.
قوله عليه السلام (واضمحلت الانباء)، أي تلاشت وفنيت والأنباء جمع نبأ،
وهو الخبر، أي لسقط الوعد والوعيد وبطلا.
قوله عليه السلام (ولا لزمت الأسماء معانيها)، أي من يسمى مؤمنا أو مسلما
حينئذ، فان تسميته مجاز لا حقيقة; لأنه ليس بمؤمن ايمانا من فعله وكسبه، بل يكون
ملجا إلى الايمان بما يشاهده من الآيات العظيمة.
والمبتلين بفتح اللام جمع مبتلى، كالمعطين والمرتضين، جمع معطي ومرتضى.
والخصاصة الفقر.

(1) سورة الزخرف 53.
(2) سورة الحج 23.
153

وهذا الكلام هو ما يقوله أصحابنا بعينه في تعليل أفعال البارئ سبحانه بالحكمة
والمصلحة، وان الغرض بالتكليف هو التعريض للثواب، وانه يجب أن يكون خالصا
من الالجاء ومن أن يفعل الواجب بوجه غير وجه وجوبه، يرتدع عن القبيح لوجه غير
وجه قبحه.
وروى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ، دان موسى قدم هو وأخوه هارون
مصر على فرعون، لما بعثهما الله تعالى إليه حتى وقفا على بابه يلتمسان الاذن عليه،
فمكثا سنين يغدوان على بابه ويروحان، لا يعلم بهما، ولا يجترئ أحد على أن يخبره
بشأنهما - وقد كانا قالا لمن بالباب انا رسولا رب العالمين إلى فرعون - حتى دخل عليه
بطال له يلاعبه ويضحكه، فقال له أيها الملك إن على الباب رجلا يقول قولا
عجيبا عظيما، ويزعم أن له إلها غيرك، قال ببابي قال نعم، قال أدخلوه، فدخل
وبيده عصاه، ومعه هارون أخوه، فقال انا رسول رب العالمين إليك... وذكر
تمام الخبر.
فان قلت أي خاصية في الصوف ولبسه ولم اختاره الصالحون على غيره
قلت ورد في الخبر أن أول لباس لبسه آدم لما هبط إلى الأرض صوف كبش قيضه
الله له، وأمره أن يذبحه فيأكل لحمه ويلبس صوفه; لأنه اهبط عريان من الجنة فذبحه،
وغزلت حواء صوفه، فلبس آدم منه ثوبا، والبس حواء ثوبا آخر، فلذلك صار شعار
الأولياء وانتسبت إليه الصوفية
154

الأصل:
ولو كانت الأنبياء أهل قوة لا ترام، وعزة لا تضام، وملك تمد نحوه أعناق
الرجال، وتشد إليه عقد الرحال; لكان ذلك أهون على الخلق في الاعتبار،
وابعد لهم من الاستكبار، ولآمنوا عن رهبة قاهرة لهم، أو رغبه مائلة بهم،
فكانت النيات مشتركة، والحسنات مقتسمة; ولكن الله سبحانه أراد أن
يكون الاتباع لرسله، والتصديق بكتبه، والخشوع لوجهه، والاستكانة لامره،
والاستسلام لطاعته، أمورا له خاصة، لا يشوبها من غيرها شائبة.
* * *
الشرح:
تمد نحوه أعناق الرجال، أي لعظمته; أي يؤمله المؤملون ويرجوه الراجون، وكل
من امل شيئا فقد طمح ببصره إليه معنى لا صورة، فكنى عن ذلك بمد العنق.
وتشد إليه عقد الرحال يسافر أرباب الرغبات إليه، يقول لو كان الأنبياء ملوكا
ذوي باس وقهر لم يمكن ايمان الخلق وانقيادهم إليهم، لان الايمان في نفسه واجب عقلا،
بل كان لرهبة لهم أو رغبة، فيهم فكانت النيات مشتركة هذا فرض سؤال وجواب
عنه كأنه قال لنفسه لم لا يجوز أن يكون ايمانهم على هذا التقدير لوجوبه، ولخوف
ذلك النبي، أو لرجاء نفع ذلك النبي صلى الله عليه وآله فقال لان النيات تكون
حينئذ مشتركة، أي يكون المكلف قد فعل الايمان لكلا الامرين وكذلك تفسير قوله
(والحسنات مقتسمة) قال ولا يجوز أن تكون طاعة الله تعالى تعلو الا لكونها طاعة
له لا غير، ولا يجوز أن يشوبها ويخالطها من غيرها شائبة.
155

فان قلت ما معنى قوله (لكان ذلك أهون على الخلق في الاعتبار، وابعد لهم
من الاستكبار)
قلت أي لو كان الأنبياء كالملوك في السطوة والبطش; لكان المكلف لا يشق عليه
الاعتبار والانزجار عن القبائح مشقته عليه إذا تركه لقبحه لا لخوف السيف، وكان بعد
المكلفين عن الاستكبار والبغي لخوف السيف والتأديب أعظم من بعدهم عنهما إذا تركوهما
لوجه قبحهما، فكان يكون ثواب المكلف; اما ساقطا، واما ناقصا.
* * *
الأصل:
وكلما كانت البلوى والاختبار أعظم، كانت المثوبة والجزاء أجزل; الا ترون
أن الله سبحانه اختبر الأولين من لدن آدم صلى الله عليه وسلم إلى الآخرين من
هذا العالم; بأحجار لا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، فجعلها بيته الحرام
الذي جعله الله للناس قياما، ثم وضعه بأوعر بقاع الأرض حجرا، وأقل نتائق
الدنيا مدرا، وأضيق بطون الأودية قطرا. بين جبال خشنة، ورمال دمثة،
وعيون وشلة، وقرى منقطعة; لا يزكو بها خف، ولا حافر ولا ظلف، ثم أمر
آدم عليه السلام وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه; فصار مثابة لمنتجع أسفارهم،
وغاية لملقى رحالهم، تهوى إليه ثمار الأفئدة، من مفاوز قفار سحيقة، ومهاوي
فجاج عميقة وجزائر بحار منقطعة حتى يهزوا مناكبهم ذللا، يهللون لله
حوله، ويرملون على اقدامهم، شعثا غبرا له، قد نبذوا السرابيل وراء ظهورهم،
وشوهوا بإعفاء الشعور محاسن خلقهم، ابتلاء عظيما، وامتحانا شديدا، واختبارا
مبينا، وتمحيصا بليغا، جعله الله سببا لرحمته، ووصله إلى جنته.
156

ولو أراد سبحانه أن يضع بيته الحرام، ومشاعره العظام، بين جنات وأنهار،
وسهل وقرار، جم الأشجار، دانى الثمار، ملتف البنى، متصل القرى، بين برة
سمراء، وروضة خضراء، وأرياف محدقة، وعراص مغدقة، وزروع ناضرة، وطرق
عامرة، لكان قد صغر قدر الجزاء، على حسب ضعف البلاء.
ولو كان الأساس المحمول عليها، والأحجار المرفوع بها، من زمردة خضراء،
وياقوتة حمراء، ونور وضياء، لخفف ذلك مصارعة الشك في الصدور، ولوضع
مجاهدة إبليس عن القلوب، ولنفى معتلج الريب من الناس.
ولكن الله يختبر عباده بأنواع الشدائد، ويتعبدهم بأنواع المجاهد،
ويبتليهم بضروب المكاره، اخراجا للتكبر من قلوبهم، واسكانا للتذلل في
نفوسهم، وليجعل ذلك أبوابا فتحا إلى فضله، وأسبابا ذللا لعفوه.
* * *
الشرح:
كانت المثوبة أي الثواب.
وأجزل أكثر، والجزيل العظيم، وعطاء جزل وجزيل والجمع جزال، وقد
أجزلت له من العطاء، أي أكثرت.
وجعله للناس قياما، أي عمادا، وفلان قيام أهله، أي يقيم شؤونهم، ومنه قوله تعالى
(ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما) (1).
وأوعر بقاع الأرض حجرا، أي أصعبها، ومكان وعر، بالتسكين صعب
المسلك أو المقام.

(1) سورة النساء 5.
157

وأقل نتائق الدنيا مدرا; أصل هذه اللفظة من قولهم (امرأة منتاق)، أي كثيرة
الحبل والولادة، ويقال ضيعة منتاق أي كثيرة الريع، فجعل عليه السلام الضياع ذوات
المدر التي تثار للحرث نتائق، وقال إن مكة أقلها صلاحا للزرع، لان
أرضها حجرية.
والقطر الجانب، ورمال دمثة سهلة، وكلما كان الرمل أسهل; كان أبعد عن
أن ينبت.
وعيون وشلة، أي قليلة الماء، والوشل، بفتح الشين الماء القليل، ويقال وشل الماء
وشلانا، أي قطر.
قوله (لا يزكو بها خف)، أي لا تزيد الإبل فيها أي لا تسمن، والخف هاهنا،
هو الإبل والحافر الخيل والحمير، والظلف الشاة، أي ليس حولها مرعى يرعاه الغنم
فتسمن.
وان يثنوا أعطافهم نحوه، أي يقصدوه ويحجوه، وعطفا الرجل جانباه.
وصار مثابة، أي يثاب إليه ويرجع نحوه مرة بعد أخرى، وهذه من ألفاظ
الكتاب العزيز (1).
قوله عليه السلام (لمنتجع أسفارهم)، أي لنجعتها، والنجعة طلب الكلاء في
الأصل، ثم سمى كل من قصد أمرا يروم النفع منه منتجعا.
قوله (وغاية لملقى رحالهم) أي صار البيت هو الغاية التي هي الغرض والمقصد،
وعنده تلقى الرحال; أي تحط رحال الإبل عن ظهورها، ويبطل السفر، لأنهم قد انتهوا
إلى الغاية المقصودة.

(1) وهو قوله تعالى في سورة البقرة: (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا).
158

قوله (تهوى إليه ثمار الأفئدة)، ثمرة الفؤاد هو سويداء القلب، ومنه قولهم
للولد هو ثمرة الفؤاد، ومعنى (تهوى إليه) أي تتشوقه وتحن نحوه.
والمفاوز هي جمع مفازة، الفلاة سميت مفازة، اما لأنها مهلكة، من قولهم فوز الرجل
أي هلك، واما تفاؤلا بالسلامة والفوز، والرواية المشهورة (من مفاوز قفار)
بالإضافة. وقد روى قوم (من مفاوز) بفتح الزاء، لأنه لا ينصرف، ولم يضيفوا
جعلوا (قفار) صفة.
والسحيقة البعيدة.
والمهاوي المساقط.
والفجاج جمع فج، وهو الطريق بين الجبلين.
قوله عليه السلام (حتى يهزوا مناكبهم)، أي يحركهم الشوق نحوه إلى أن
يسافروا إليه، فكنى عن السفر بهز المناكب.
وذللا، حال، اما منهم واما من المناكب، وواحد المناكب، منكب بكسر
الكاف، وهو مجمع عظم العضد والكتف.
قوله (ويهللون)، يقولون لا إله إلا الله، وروى (يهلون لله) أي يرفعون
أصواتهم بالتلبية ونحوها.
ويرملون، الرمل السعي فوق المشي قليلا.
شعثا غبرا; لا يتعهدون شعورهم ولا ثيابهم ولا أبدانهم، قد نبذوا السرابيل، ورموا
ثيابهم وقمصانهم المخيطة.
وشوهوا باعفاء الشعور، أي غيروا وقبحوا محاسن صورهم، بان اعفوا شعورهم
فلم يحلقوا ما فضل منها وسقط على الوجه ونبت في غيره من الأعضاء التي جرت العادة
بإزالتها عنها.
159

والتمحيص التطهير، من محصت الذهب بالنار إذا صفيته مما يشوبه، والتمحيص
أيضا الامتحان والاختبار. والمشاعر معالم النسك.
قوله (وسهل وقرار)، أي في مكان سهل يستقر فيه الناس ولا ينالهم من المقام به مشقة.
وجم الأشجار كثيرها. وداني الثمار قريبها.
وملتف البنى مشتبك العمارة.
والبرة الواحدة من البر، وهو الحنطة.
والأرياف جمع ريف وهو الخصب والمرعى في الأصل، وهو هاهنا السواد والمزارع،
ومحدقة محيطة. ومغدقة غزيرة، والغدق الماء الكثير.
وناضرة ذات نضارة ورونق وحسن.
قوله (ولو كانت الأساس (1))، يقول لو كانت أساس البيت التي حمل البيت
عليها وأحجاره التي رفع بها من زمردة وياقوتة فالمحمول والمرفوع كلاهما مرفوعان،
لأنهما صفة اسم كان والخبر من (زمردة)، وروى (بين زمردة)، ويجوز أن تحمل
لفظتا المفعول وهما المحمول والمرفوع ضمير البيت، فيكون قائما مقام اسم الفاعل، ويكون
موضع الجار والمجرور نصبا، ويجوز الا تحملهما ذلك الضمير، ويجعل الجار والمجرور هو
الساد مسد الفاعل، فيكون موضعه رفعا.
وروى (مضارعة الشك) بالضاد المعجمة، ومعناه مقارنة الشك ودنوه من النفس،
واصله من مضارعة القدر إذا حان ادراكها، ومن مضارعة الشمس إذا دنت للمغيب.
وقال الراوندي في تفسير هذه الكلمة من مضارعة الشك، أي مماثلته ومشابهته،
وهذا بعيد، لأنه لا معنى للمماثلة والمشابهة هاهنا، والرواية الصحيحة بالصاد المهملة.
قوله عليه السلام (ولنفى متعلج الريب)، أي اعتلاجه، أي ولنفى اضطراب الشك
في القلوب وروى (يستعبدهم) و (يتعبدهم)، والثانية أحسن.

(1) الأساس، بالكسر: جمع أس.
160

والمجاهد جمع مجهدة، وهي المشقة.
وأبوابا فتحا أي مفتوحة وأسبابا ذللا، أي سهلة.
واعلم أن محصول هذا الفصل انه كلما كانت العبادة أشق كان الثواب عليها أعظم،
ولو أن الله تعالى جعل العبادات سهلة على المكلفين لما استحقوا عليها من الثواب الا قدرا
يسيرا، بحسب ما يكون فيها من المشقة اليسيرة.
فان قلت فهل كان البيت الحرام موجودا أيام آدم عليه السلام، ثم أمر آدم وولده
أن يثنوا أعطافهم نحوه
قلت نعم هكذا روى أرباب السير وأصحاب التواريخ; روى أبو جعفر محمد بن
جرير الطبري في " تاريخه " عن ابن عباس، أن الله تعالى أوحى إلى آدم لما أهبطه
إلى الأرض إن لي حرما حيال عرشي، فانطلق فابن لي بيتا فيه ثم طف به كما رأيت
ملائكتي تحف بعرشي فهنالك استجيب دعاءك ودعاء من يحف به من ذريتك.
فقال آدم انى لست أقوى على بنائه، ولا اهتدى إليه، فقيض الله تعالى له ملكا، فانطلق به
نحو مكة - وكان آدم في طريقه كلما رأى روضة أو مكانا يعجبه سال الملك أن
ينزل به هناك ليبنى فيه، فيقول الملك انه ليس هاهنا حتى أقدمه مكة - فبنى البيت من
خمسة جبال طور سيناء، وطور زيتون، ولبنان، والجودي، وبنى قواعده من حراء.
فلما فرغ خرج به الملك إلى عرفات، فأراه المناسك كلها التي يفعلها الناس اليوم، ثم قدم به
مكة وطاف بالبيت أسبوعا، ثم رجع إلى ارض الهند فمات.
وروى الطبري في التاريخ أن آدم حج من ارض الهند إلى الكعبة أربعين حجة
على رجليه.
161

وقد روى أن الكعبة أنزلت من السماء و هي ياقوتة أو لؤلؤة; على اختلاف الروايات
وانها بقيت على تلك الصورة إلى أن فسدت الأرض بالمعاصي أيام نوح، وجاء الطوفان
فرفع البيت، وبنى إبراهيم هذه البنية على قواعده القديمة.
وروى أبو جعفر، عن وهب بن منبه أن آدم دعا ربه فقال يا رب اما لأرضك هذه
عامر يسبحك ويقدسك فيها غيري فقال الله انى سأجعل فيها من ولدك من يسبح
بحمدي ويقدسني، وسأجعل فيها بيوتا ترفع لذكرى، يسبحني فيها خلقي، ويذكر
فيها اسمي، وسأجعل من تلك البيوت بيتا اختصه بكرامتي، وأوثره باسمي، فأسميه بيتي،
وعليه وضعت جلالتي وخصصته بعظمتي، و انا مع ذلك في كل شئ، اجعل ذلك البيت
حرما آمنا يحرم بحرمته من حوله، ومن تحته، ومن فوقه فمن حرمه بحرمتي استوجب
كرامتي، ومن أخاف أهله فقد أباح حرمتي، واستحق سخطي، واجعله بيتا مباركا
يأتيه بنوك شعثا غبرا على كل ضامر من كل فج عميق، يرجون بالتلبية رجيجا،
ويعجون بالتكبير عجيجا، من اعتمده لا يريد غيره، ووفد إلى وزارني واستضاف بي،
أسعفته بحاجته; وحق على الكريم أن يكرم وفده وأضيافه; تعمره يا آدم ما دمت حيا،
ثم تعمره الأمم والقرون والأنبياء من ولدك أمة بعد أمة، وقرنا بعد قرن.
قال ثم أمر آدم أن يأتي إلى البيت الحرام الذي اهبط له إلى الأرض فيطوف به
كما كان يرى الملائكة تطوف حول العرش، وكان البيت حينئذ من درة أو من ياقوتة،
فلما أغرق الله تعالى قوم نوح رفعه، وبقى أساسه فبوأه الله لإبراهيم فبناه.
162

الأصل:
فالله الله في عاجل البغي; وآجل وخامة الظلم; وسوء عاقبة الكبر، فإنها
مصيدة إبليس العظمى، ومكيدته الكبرى; التي تساور قلوب الرجال
مساورة السموم القاتلة، فما تكدي ابدا، ولا تشوى أحدا، لا عالما لعلمه،
ولا مقلا في طمره.
وعن ذلك ما حرس الله عباده المؤمنين بالصلوات والزكوات، ومجاهدة
الصيام في الأيام المفروضات، تسكينا لأطرافهم، وتخشيعا لأبصارهم، وتذليلا
لنفوسهم، و تخفيضا لقلوبهم، واذهابا للخيلاء عنهم، ولما في ذلك من تعفير
عتاق الوجوه بالتراب تواضعا، والتصاق كرائم الجوارح بالأرض تصاغرا، ولحوق
البطون بالمتون من الصيام تذللا، مع ما في الزكاة من صرف ثمرات الأرض،
وغير ذلك إلى أهل المسكنة والفقر.
انظروا إلى ما في هذه الأفعال من قمع نواجم الفخر، وقدع طوالع الكبر.
* * *
الشرح:
بلدة وخمة ووخيمة بينه الوخامة، أي وبيئة.
مصيدة إبليس، بسكون الصاد وفتح الياء آلته التي يصطاد بها.
وتساور قلوب الرجال تواثبها، وسار إليه يسور، أي وثب، والمصدر السور،
ومصدر (تساور) المساورة، ويقال إن لغضبه سورة، وهو سوار، أي وثاب معربد،.
163

وسورة الشراب وثوبه في الرأس، وكذلك مساورة السموم التي ذكرها أمير المؤمنين
عليه السلام.
وما تكدي ما ترد عن تأثيرها، من قولك أكدى حافر الفرس، إذا بلغ
الكدية وهي الأرض الصلبة، فلا يمكنه أن يحفر.
ولا تشوى أحدا لا تخطئ المقتل وتصيب غيره; وهو الشوى، والشوى
الأطراف، كاليد والرجل.
قال لا ترد مكيدته عن أحد لا عن عالم لأجل علمه، ولا عن فقير لطمره،
والطمر الثوب الخلق.
و (ما) في قوله (وعن ذلك ما حرس الله) زائدة مؤكدة، أي عن هذه المكايد التي
هي البغي والظلم والكبر حرس الله عباده، ف‍ (عن) متعلقة ب‍ (حرس). وقال الراوندي يجوز
أن تكون مصدرية، فيكون موضعها رفعا بالابتداء، وخبر المبتدأ قوله (لما في ذلك).
وقال أيضا يجوز أن تكون نافية، أي لم يحرس الله عباده عن ذلك الجاء وقهرا، بل
فعلوه اختيارا من أنفسهم، والوجه الأول باطل، لان (عن) على هذا التقدير تكون
من صلة المصدر، فلا يجوز تقديمها عليه، وأيضا فان (لما في ذلك) لو كان هو الخبر، لتعلق
لام الجر بمحذوف، فيكون التقدير حراسة الله لعباده عن ذلك كائنة لما في ذلك من
تعفير الوجوه بالتراب; وهذا كلام غير مفيد ولا منتظم الا على تأويل بعيد لا حاجة إلى
تعسفه، والوجه الثاني باطل، لان سياقه الكلام تدل على فساده، الا ترى قوله
(تسكينا وتخشيعا)، وقوله (لما في ذلك من كذا)، وهذا كله تعليل الحاصل
الثابت لا تعليل المنفى المعدوم.
ثم بين عليه السلام الحكمة في العبادات، فقال إنه تعالى حرس عباده بالصلوات
164

التي افترضها عليهم من تلك المكايد، وكذلك بالزكاة والصوم ليسكن أطرافهم، ويخشع
أبصارهم، فجعل التسكين والتخشيع عذرا وعلة للحراسة، ونصب اللفظات على أنها
مفعول له.
ثم علل السكون والخشوع الذي هو علة الحراسة لما في الصلاة من تعفير الوجه على
التراب، فصار ذلك علة العلة قال وذلك لان تعفير عتاق الوجوه بالتراب
تواضعا يوجب هضم النفس وكسرها وتذليلها.
وعتاق الوجوه كرائمها.
والصاق كرائم الجوارح بالأرض كاليدين والساقين تصاغرا يوجب الخشوع
والاستسلام، والجوع في الصوم الذي يلحق البطن في المتن يقتضى زوال الأشر والبطر،
ويوجب مذلة النفس وقمعها عن الانهماك في الشهوات، وما في الزكاة من صرف فواضل
المكاسب إلى أهل الفقر والمسكنة يوجب تطهير النفوس والأموال ومواساة أرباب الحاجات
بما تسمح به النفوس من الأموال، وعاصم لهم من السرقات وارتكاب المنكرات، ففي ذلك
كله دفع مكايد الشيطان.
وتخفيض القلوب حطها عن الاعتلاء والتيه.
والخيلاء التكبر والمسكنة أشد الفقر في أظهر الرأيين.
والقمع القهر.
والنواجم جمع ناجمة، وهي ما يظهر ويطلع من الكبر وغيره.
والقدع بالدال المهملة الكف، قدعت الفرس وكبحته باللجام، أي كففته.
والطوالع، كالنواجم.
165

الأصل:
ولقد نظرت فما وجدت أحدا من العالمين يتعصب لشئ من الأشياء الا عن
علة تحتمل تمويه الجهلاء، أو حجة تليط بعقول السفهاء غيركم، فإنكم تتعصبون
لأمر ما يعرف له سبب ولا علة. اما إبليس فتعصب على آدم لأصله، وطعن عليه
في خلقته، فقال انا ناري وأنت طيني. واما الأغنياء من مترفه الأمم فتعصبوا
لآثار مواقع النعم، فقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين.
فإن كان لا بد من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال، ومحامد
الافعال، ومحاسن الأمور، التي تفاضلت فيها المجداء والنجداء من بيوتات العرب،
ويعاسيب القبائل; بالأخلاق الرغيبة، والأحلام العظيمة، والأخطار الجليلة،
والآثار المحمودة.
فتعصبوا لخلال الحمد; من الحفظ للحوار، والوفاء بالذمام، والطاعة للبر،
والمعصية للكبر، والاخذ بالفضل، والكف عن البغي، والاعظام للقتل، والانصاف
للخلق، والكظم للغيظ، واجتناب الفساد في الأرض.
* * *
الشرح:
قد روى (تحتمل) بالتاء، وروى (تحمل)، والمعنى واحد.
والتمويه التلبيس من موهت النحاس، إذا طليته بالذهب ليخفى.
ولاط الشئ بقلبي يلوط ويليط، أي التصق.
والمترف الذي أطغته النعمة.
166

وتفاضلت فيها، أي تزايدت.
والمجداء جمع ماجد، والمجد الشرف في الاباء والحسب والكرم يكونان في
الرجل وان لم يكونا في آبائه. هكذا قال ابن السكيت، وقد اعترض عليه بان المجيد من
صفات الله تعالى، قال سبحانه (ذو العرش المجيد) (1) على قراءة من رفع، والله
سبحانه يتعالى عن الاباء، وقد جاء في وصف القرآن المجيد، قال سبحانه: (بل هو
قرآن مجيد.) (2).
والنجداء الشجعان، واحدهم نجيد، واما نجد ونجد، بالكسر والضم، فجمعه
أنجاد مثل يقظ وأيقاظ.
وبيوتات العرب قبائلها. ويعاسيب القبائل رؤساءها،. واليعسوب في الأصل
ذكر النحل وأميرها.
والرغيبة الخصلة يرغب فيها.
والأحلام العقول. والأخطار الاقدار.
ثم أمرهم بان يتعصبوا لخلال الحمد وعددها، وينبغي أن يحمل قوله عليه السلام
(فإنكم تتعصبون لأمر ما يعرف له سبب ولا علة)، على أنه لا يعرف له سبب مناسب،
فكيف يمكن أن يتعصبوا لغير سبب أصلا.
وقيل إن أصل هذه العصبية; وهذه الخطبة; أن أهل الكوفة كانوا قد فسدوا في
آخر خلافة أمير المؤمنين، وكانوا قبائل في الكوفة، فكان الرجل يخرج من منازل قبيلته
فيمر بمنازل قبيلة أخرى، فينادى باسم قبيلته يا للنخع مثلا، أو يا لكندة نداء عاليا
يقصد به الفتنة وإثارة الشر، فيتألب عليه فتيان القبيلة التي مر بها فينادون يا لتميم

(1) سورة البروج 15.
(2) سورة البروج 21.
167

ويا لربيعة ويقبلون إلى ذلك الصائح فيضربونه، فيمضى إلى قبيلته فيستصرخها، فتسل
السيوف وتثور الفتن، ولا يكون لها أصل في الحقيقة الا تعرض الفتيان بعضهم ببعض.
* * *
الأصل:
واحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات بسوء الافعال، وذميم الأعمال،
فتذكروا في الخير والشر أحوالهم، واحذروا أن تكونوا أمثالهم، فإذا تفكرتم
في تفاوت حاليهم، فالزموا كل أمر لزمت العزة به حالهم، وزاحت الأعداء له
عنهم، ومدت العافية به عليهم، وانقادت النعمة له معهم، ووصلت الكرامة
عليه حبلهم; من الاجتناب للفرقة، واللزوم للألفة، والتحاض عليها، والتواصي بها.
واجتنبوا كل أمر كسر فقرتهم، وأوهن منتهم، من تضاغن القلوب،
وتشاحن الصدور، وتدابر النفوس، وتخاذل الأيدي.
* * *
الشرح:
المثلات العقوبات.
وذميم الافعال ما يذم منها.
وتفاوت حاليهم اختلافهما. وزاحت الأعداء بعدت. وله، أي لأجله.
والتحاض عليها تفاعل يستدعى وقوع الحض، وهو الحث من الجهتين، أي يحث
بعضهم بعضا.
والفقرة واحدة فقر الظهر، ويقال لمن قد اصابته مصيبة شديدة قد كسرت فقرته.
168

والمنة القوة.
وتضاغن القلوب وتشاحنها واحد. وتخاذل الأيدي الا ينصر الناس بعضهم بعضا.
* * *
الأصل:
وتدبروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم، كيف كانوا في حال التمحيص
والبلاء ألم يكونوا أثقل الخلائق أعباء، واجهد العباد بلاء، وأضيق أهل الدنيا
حالا اتخذتهم الفراعنة عبيدا فساموهم سوء العذاب، وجرعوهم جرع المرار، فلم
تبرح الحال بهم في ذل الهلكة وقهر الغلبة; لا يجدون حيلة في امتناع،
ولا سبيلا إلى دفاع، حتى إذا رأى الله سبحانه جد الصبر منهم على الأذى في محبته،
والاحتمال للمكروه من خوفه، جعل لهم من مضايق البلاء فرجا، فأبدلهم العز
مكان الذل، والامن مكان الخوف، فصاروا ملوكا حكاما، وأئمة أعلاما، وقد
بلغت الكرامة من الله لهم، ما لم تذهب الآمال إليه بهم.
* * *
الشرح:
تدبروا أي تأملوا والتمحيص التطهير والتصفية.
والأعباء الأثقال واحدها عبء.
واجهد العباد أتعبهم.
والفراعنة العتاة، وكل عات فرعون.
وساموهم سوء العذاب الزموهم إياه، وهذا إشارة إلى قوله تعالى (يسومونكم سوء
169

العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم
عظيم) (1).
والمرار بضم الميم شجر مر في الأصل، واستعير شرب المرار لكل من يلقى
شديد المشقة.
ورأي الله منهم جد الصبر، أي أشده.
وأئمة أعلاما، أي يهتدى بهم، كالعلم في الفلاة.
* * *
الأصل:
فانظروا كيف كانوا حيث كانت الاملاء مجتمعة، والأهواء مؤتلفة، والقلوب
معتدلة، والأيدي مترادفة، والسيوف متناصرة، والبصائر نافذة، والعزائم واحدة.
ألم يكونوا أربابا في أقطار الأرضين، وملوكا على رقاب العالمين.
فانظروا إلى ما صاروا إليه في آخر أمورهم، حين وقعت الفرقة، وتشتت
الألفة، واختلفت الكلمة والأفئدة; تشعبوا مختلفين، وتفرقوا متحاربين، وقد
خلع الله عنهم لباس كرامته، وسلبهم غضارة نعمته، وبقى قصص اخبارهم
فيكم عبره للمعتبرين منكم.
* * *
الشرح:
الاملاء الجماعات، الواحد ملا.

(1) سورة البقرة 49.
170

ومترادفة متعاونة. البصائر نافذة، يقال نفذت بصيرتي في هذا الخبر، أي
اجتمع همي عليه، ولم يبق عندي تردد فيه، لعلمي به وتحقيقي إياه.
وأقطار الأرضين نواحيها، وتشتت تفرقت.
وتشعبوا صاروا شعوبا وقبائل مختلفين.
وتفرقوا متحزبين اختلفوا أحزابا، وروى (متحازبين).
وغضارة النعمة الطيب اللين منها.
والقصص الحديث.
يقول انظروا في اخبار من قبلكم من الأمم، كيف كانت حالهم في العز والملك لما
كانت كلمتهم واحدة، والى ماذا آلت حالهم حين اختلفت كلمتهم فاحذروا إن تكونوا
مثلهم، وان يحل بكم إن اختلفتم مثل ما حل بهم.
* * *
الأصل:
فاعتبروا بحال ولد إسماعيل وبنى إسحاق وبنى إسرائيل عليهم السلام; فما
أشد اعتدال الأحوال، وأقرب اشتباه الأمثال.
تأملوا أمرهم في حال تشتتهم وتفرقهم، ليالي كانت الأكاسرة والقياصرة
أربابا لهم، يحتازونهم عن ريف الآفاق، وبحر العراق، وخضرة الدنيا، إلى منابت
الشيح، ومهافي الريح، ونكد المعاش، فتركوهم عالة مساكين، اخوان دبر
ووبر. أذل الأمم دارا، وأجدبهم قرارا، لا يأوون إلى جناح دعوة يعتصمون
بها، ولا إلى ظل ألفة يعتمدون على عزها، فالأحوال مضطربة والأيدي مختلفة،
والكثرة متفرقة، في بلاء أزل، واطباق جهل، من بنات موؤودة، وأصنام معبودة،
وأرحام مقطوعة، وغارات مشنونة.
171

الشرح:
لقائل أن يقول ما نعرف أحدا من بنى اسحق وبنى إسرائيل احتازتهم الأكاسرة
والقياصرة عن ريف الآفاق إلى البادية ومنابت الشيح، الا أن يقال يهود خيبر
والنضير وبنى قريظة وبنى قينقاع، وهؤلاء نفر قليل لا يعتد بهم. ويعلم من فحوى
الخطبة انهم غير مرادين بالكلام، ولأنه عليه السلام قال تركوهم اخوان دبر ووبر،
وهؤلاء لم يكونوا من أهل الوبر والدبر، بل من أهل المدر; لأنهم كانوا ذوي حصون
وآطام. والحاصل إن الذين احتازتهم الأكاسرة والقياصرة من الريف إلى البادية،
وصاروا أهل وبر ولد إسماعيل; لا بنو إسحاق وبنو إسرائيل.
والجواب انه عليه السلام ذكر في هذه الكلمات، وهي قوله (فاعتبروا بحال
ولد إسماعيل وبنى إسحاق وبنى إسرائيل المقهورين والقاهرين جميعا); اما المقهورون
فبنو إسماعيل، واما القاهرون فبنو إسحاق وبنو إسرائيل، لان الأكاسرة من بنى إسحاق;
ذكر كثير من أهل العلم أن فارس من ولد إسحاق، والقياصرة من ولد إسحاق أيضا،
لان الروم بنو العيص بن إسحاق، وعلى هذا يكون الضمير في (أمرهم)، و (تشتتهم)
و (تفرقهم) يرجع إلى بنى إسماعيل خاصة.
فان قلت فبنو إسرائيل، أي مدخل لهم هاهنا؟ قلت لان بني إسرائيل لما كانوا ملوكا بالشام في أيام أجاب الملك، وغيره حاربوا
العرب من بنى إسماعيل غير مرة، وطردوهم عن الشام وألجئوهم على المقام ببادية الحجاز.
ويصير تقدير الكلام فاعتبروا بحال ولد إسماعيل مع بنى إسحاق وبنى إسرائيل; فجاء بهم
في صدر الكلام على العموم، ثم خصص فقال الأكاسرة والقياصرة، وهم داخلون في
عموم ولد إسحاق، وإنما لم يخصص عموم بني إسرائيل لان العرب لم تكن تعرف ملوك
172

ولد يعقوب، فيذكر لهم أسماءهم في الخطبة، بخلاف ولد إسحاق فإنهم كانوا يعرفون
ملوكهم من بنى ساسان ومن بنى الأصفر.
* * *
قوله عليه السلام (فما أشد اعتدال الأحوال)، أي ما أشبه الأشياء بعضها
ببعض وان حالكم لشبيهة بحال أولئك فاعتبروا بهم.
قوله (يحتازونهم عن الريف) يبعدونهم عنه، والريف الأرض ذات الخصب
والزرع، والجمع أرياف; ورافت الماشية أي رعت الريف، وقد أرفنا أي صرنا إلى
الريف، وأرافت الأرض أي أخصبت، وهي ارض ريفة، بتشديد الياء.
وبحر العراق دجلة والفرات، اما الأكاسرة فطردوهم عن بحر العراق، واما
القياصرة فطردوهم عن ريف الآفاق، أي عن الشام وما فيه من المرعى والمنتجع.
قوله عليه السلام (أربابا لهم)، أي ملوكا، وكانت العرب تسمى الأكاسرة
أربابا، ولما عظم أمر حذيفة بن بدر عندهم سموه رب معد.
ومنابت الشيح ارض العرب، والشيح نبت معروف.
ومهافي الريح المواضع التي تهفو فيها، أي تهب وهي الفيافي والصحارى.
ونكد المعاش ضيقه وقلته.
وتركوهم عالة، أي فقراء، جمع عائل، والعائل ذو العيلة والعيلة: الفقر، قال
تعالى (وان خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله) (1)، قال الشاعر:
تعيرنا إننا عالة * صعاليك نحن وأنتم ملوك.

(1) سورة التوبة 28.
173

نظيره قائد وقادة، وسائس وساسه.
وقوله (اخوان دبر ووبر)، الدبر مصدر دبر البعير، أي عقره القتب. والوبر
للبعير بمنزلة الصوف للضان والشعر للمعز.
قوله (أذل الأمم دارا)، لعدم المعاقل والحصون المنيعة فيها.
وأجذبهم قرارا، لعدم الزرع والشجر والنخل بها. والجدب المحل.
ولا يأوون لا يلتجئون ولا ينضمون.
والأزل الضيق. واطباق جهل جمع طبق أي جهل متراكم بعضه فوق بعض.
وغارات مشنونة متفرقة، وهي أصعب الغارات
[فصل في ذكر الأسباب التي دعت العرب إلى وأد البنات]
من بنات موءودة; كان قوم من العرب يئدون البنات، قيل إنهم بنو تميم
خاصة، وانه استفاض منهم في جيرانهم وقيل بل كان ذلك في تميم، وقيس، وأسد،
وهذيل، وبكر بن وائل، قالوا وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله دعا عليهم،
فقال (اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعل عليهم سنين كسني يوسف)، فأجدبوا
سبع سنين حتى أكلوا الوبر بالدم، وكانوا يسمونه العلهز، فوأدوا البنات لإملاقهم
وفقرهم، وقد دل على ذلك بقوله (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق) (1)، قال
(ولا يقتلن أولادهن) (2).
وقال قوم بل وأدوا البنات أنفة، وزعموا أن تميما منعت النعمان الإتاوة سنة من

(1) سورة الإسراء 31.
(2) سورة الممتحنة 12.
174

السنين، فوجه إليهم أخاه الريان بن المنذر، وجل من معه من بكر بن وائل، فاستاق
النعم وسبى الذراري، وفى ذلك يقول بعض بنى يشكر:
لما رأوا راية النعمان مقبلة * قالوا الا ليت أدنى دارنا عدن
يا ليت أم تميم لم تكن عرفت * مرا وكانت كمن أودى به الزمن
إن تقتلونا فأعيار مخدعة * أو تنعموا فقديما منكم المنن منكم
زهير وعتاب ومحتضن * وابنا لقيط وأودى في الوغى قطن.
فوفدت بنو تميم إلى النعمان، واستعطفوه، فرق عليهم، وأعاد عليهم السبي،
وقال كل امرأة اختارت أباها ردت إليه، وإن اختارت صاحبها تركت عليه، فكلهن
اخترن آباءهن، الا ابنة قيس بن عاصم، فإنها اختارت من سباها، وهو عمرو بن
المشمرخ اليشكري فنذر قيس بن عاصم المنقري التميمي الا يولد له بنت الا وأدها،
والوأد أن يخنقها في التراب ويثقل وجهها به حتى تموت. ثم اقتدى به كثير من بنى
تميم، قال سبحانه (وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت) (1)، أي على طريق
التبكيت والتوبيخ لمن فعل ذلك أو أجازه، كما قال سبحانه (يا عيسى بن مريم
أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي الهين من دون الله) (2).
ومن جيد شعر الفرزدق قوله في هجاء جرير:
ألم تر انا بنى دارم * زرارة منا أبو معبد (3)
ومنا الذي منع الوائدات * وأحيا الوليد فلم يوأد (4)
السنا بأصحاب يوم النسار * وأصحاب ألوية المربد

(1) سورة التكوير 8، 9.
(2) سورة المائدة 116.
(3) ديوانه 202، 203.
(4) يعني جده صعصعة بن ناجية.
175

السنا الذين تميم بهم * تسامى وتفخر في المشهد
وناجية الخير والأقرعان * وقبر بكاظمة المورد (1)
إذا ما أتى قبره عائذ * أناخ على القبر بالأسعد (2)
أيطلب مجد بنى دارم * عطية كالجعل الأسود
قرنبي يحك قفا مقرف * لئيم مآثره قعدد (3)
ومجد بنى دارم فوقه * مكان السماكين والفرقد
وفى الحديث أن صعصعة بن ناجية بن عقال لما وفد على رسول الله صلى الله عليه
وآله قال يا رسول الله، انى كنت اعمل في الجاهلية عملا صالحا، فهل ينفعني ذلك
اليوم قال عليه السلام وما عملت قال ضللت ناقتين عشراوين، (4) فركبت جملا
ومضيت في بغائهما (5)، فرفع لي بيت حريد (6)، فقصدته، فإذا شيخ جالس بفنائه فسألته
عن الناقتين، فقال ما نارهما (7) قلت ميسم بنى دارم، قال هما عندي قد أحيا
الله بهما قوما من أهلك من مضر، فجلست معه ليخرجهما إلى، فإذا عجوز قد خرجت
من كسر البيت، فقال لها ما وضعت إن كان سقبا (8) شاركنا في أموالنا، وإن كان
حائلا (9) وأدناها، فقالت العجوز وضعت أنثى، فقلت له أتبيعها قال وهل تبيع العرب
أولادها قلت إنما اشترى حياتها، ولا اشترى رقها، قال فبكم قلت احتكم، قال
بالناقتين والجمل، قلت ذاك لك على أن يبلغني الجمل وإياها قال بعتك، فاستنقذتها

(1) ناجية هو محمد بن عقال بن سفيان بن مجاشع. والأقرعان: الأقرع وفراس ابنا حابس بن عقال.
(2) الأسعد: نجم طالعه سعد.
(3) القرنبي: ضرب من الخنافس ارقط طويل القوائم، والقعدد: اللئيم الاباء.
(4) العشراء من النياق: التي مضى لحملها عشرة أشهر، كالنفساء.
(5) في بغائهما: في طلبهما.
(6) الحريد: المعتزل المتنحي.
(7) في النهاية واللسان: ما ناراهما؟ والنار هنا: السمة بالمكوى سميت باسم النار.
(8) السقب: ولد الناقة ساعة يولد; وهو خاص بالذكر.
(9) الحائل: الأنثى من ولد الناقة ساعة تولد; ولا يقال: (سقبة).
176

منه بالجمل والناقتين، وآمنت بك يا رسول الله، وقد صارت لي سنة في العرب أن
اشترى كل موءودة بناقتين عشراوين وجمل، فعندي إلى هذه الغاية ثمانون ومائتا
موءودة قد أنقذتهن، قال عليه السلام (لا ينفعك ذاك لأنك لم تبتغ به وجه الله،
وان تعمل في إسلامك عملا صالحا تثب عليه) (1).
وروى الزبير في " الموفقيات " أن أبا بكر قال في الجاهلية لقيس بن عاصم
المنقري ما حملك على أن وأدت قال مخافة أن يخلف عليهن مثلك.
* * *
الأصل:
فانظروا إلى مواقع نعم الله عليهم حين بعث إليهم رسولا، فعقد بملته
طاعتهم، وجمع على دعوته ألفتهم، كيف نشرت النعمة عليهم جناح كرامتها،
وأسالت لهم جداول نعيمها، والتفت الملة بهم في عوائد بركتها، فأصبحوا في نعمتها
غرقين، وفي خضرة عيشها فاكهين، قد تربعت الأمور بهم، في ظل سلطان
قاهر، وآوتهم الحال إلى كنف عز غالب، وتعطفت الأمور عليهم في ذرى ملك
ثابت، فهم حكام على العالمين، وملوك في أطراف الأرضين، يملكون الأمور
على من كان يملكها عليهم، ويمضون الاحكام فيمن كان يمضيها فيهم، لا تغمز
لهم قناة، ولا تقرع لهم صفاة.
* * *
الشرح:
لما ذكر ما كانت العرب عليه من الذل والضيم والجهل، عاد فذكر ما أبدل الله

(1) انظر الفائق 3: 133.
177

به حالهم، حين بعث إليهم محمدا صلى الله عليه وآله، فعقد عليهم طاعتهم كالشئ المنتشر
المحلول، فعقدها بملة محمد صلى الله عليه وآله.
والجداول الأنهر.
والتفت الملة بهم، أي كانوا متفرقين فالتفت ملة محمد بهم، أي جمعتهم، ويقال
التف الحبل بالحطب، أي جمعه، والتف الحطب بالحبل، أي اجتمع به.
و (في) في قوله (في عوائد بركتها) متعلقة بمحذوف; وموضع الجار والمجرور نصب
على الحال، أي جمعتهم الملة كائنة في عوائد بركتها، و العوائد جمع عائدة، وهي المنفعة.
تقول هذا أعود عليك، أي أنفع لك. وروى (والتقت الملة) بالقاف أي اجتمعت
بهم من اللقاء والرواية الأولى أصح.
وأصبحوا في نعمتها غرقين، مبالغة في وصف ما هم فيه من النعمة.
وفاكهين ناعمين وروى (فكهين) أي أشرين وقد قرئ بهما في قوله تعالى
(ونعمة كانوا فيها فاكهين) (1)، وقال الأصمعي فاكهين مازحين، والمفاكهة،
الممازحة ومن أمثالهم (لا تفاكه أمة، ولا تبل على اكمة); فاما قوله تعالى
(فظلتم تفكهون) (2)، فقيل تندمون، وقيل تعجبون.
و (عن) في قوله (وعن خضرة عيشها)، متعلقة بمحذوف، تقديره فأصبحوا
فاكهين فكاهة صادرة عن خضرة عيشها، أي خضرة عيش النعمة سبب لصدور
الفكاهة والمزاح عنه.
وتربعت الأمور بهم، أي أقامت، من قولك ربع بالمكان، أي أقام به.

(1) سورة الدخان 27.
(2) سورة الواقعة 65.
178

وآوتهم الحال، بالمد أي ضمتهم وأنزلتهم، قال تعالى (آوى إليه أخاه) (1)، أي ضمه
إليه وأنزله، ويجوز (أوتهم) بغير مد. أفعلت في هذا المعنى وفعلت واحد; عن أبي زيد.
والكنف الجانب، وتعطفت الأمور عليهم كناية عن السيادة والاقبال، يقال
قد تعطف الدهر على فلان، أي اقبل حظه وسعادته، بعد أن لم يكن كذلك
وفى ذرا ملك بضم الذال أي في أعاليه، جمع ذروة، ويكنى عن العزيز الذي
لا يضام، فيقال لا يغمز له قناة، أي هو صلب. والقناة إذا لم تلن في يد الغامز كانت
أبعد عن الحطم والكسر.
ولا تقرع لهم صفاة; مثل يضرب لمن لا يطمع في جانبه لعزته وقوته.
* * *
الأصل:
ألا وانكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطاعة، وثلمتم حصن الله المضروب
عليكم بأحكام الجاهلية، فان الله سبحانه قد امتن على جماعة هذه الأمة; فيما
عقد بينهم من حبل هذه الألفة التي ينقلبون في ظلها، ويأوون إلى كنفها،
بنعمة لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة، لأنها أرجح من كل ثمن، وأجل من كل خطر.
واعلموا انكم صرتم بعد الهجرة اعرابا، وبعد الموالاة أحزابا، ما تتعلقون
من الاسلام الا باسمه، ولا تعرفون من الايمان الا رسمه، تقولون النار
ولا العار كأنكم تريدون أن تكفئوا الاسلام على وجهه انتهاكا لحريمه،
ونقضا لميثاقه الذي وضعه الله لكم حرما في ارضه، وأمنا بين خلقه.
وانكم إن لجأتم إلى غيره حاربكم أهل الكفر، ثم لا جبرائيل

(1) سورة يوسف 69.
179

ولا ميكائيل، ولا مهاجرين ولا أنصار ينصرونكم، الا المقارعة بالسيف حتى
يحكم الله بينكم.
وان عندكم الأمثال من باس الله وقوارعه، وأيامه ووقائعه، فلا تستبطئوا
وعيده جهلا بأخذه، وتهاونا ببطشه، ويأسا من بأسه، فان الله سبحانه لم يلعن
القرون الماضية بين أيديكم الا لتركهم الامر بالمعروف والنهى عن المنكر،
فلعن الله السفهاء لركوب المعاصي، والحلماء لترك التناهي.
* * *
الشرح:
نفضتم أيديكم كلمه تقال في اطراح الشئ وتركه، وهي أبلغ من أن تقول تركتم
حبل الطاعة، لان من يخلى الشئ من يده ثم ينفض يده منه يكون أشد تخلية له ممن
لا ينفضها بل يقتصر على تخليته فقط، لان نفضها اشعار وإيذان بشدة
الإطراح والاعراض.
والباء في قوله (بأحكام الجاهلية) متعلقه ب‍ ثلمتم)، أي ثلمتم حصن الله بأحكام
الجاهلية التي حكمتم بها في ملة الاسلام.
والباء في قوله (بنعمة لا يعرف)، متعلقة ب‍ (امتن). و (في) من قوله (فيما عقد)
متعلقة بمحذوف، وموضعها نصب على الحال، وهذا إشارة إلى قوله تعالى (لو أنفقت ما في
الأرض جميعا ما الفت بين قلوبهم ولكن الله الف بينهم) (1) وقوله (فأصبحتم
بنعمته إخوانا) (2).
وروى (تتقلبون في ظلها)
.

(1) سورة الأنفال 63.
(2) سورة آل عمران 79.
180

قوله (صرتم بعد الهجرة اعرابا); الاعراب على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله من
آمن به من أهل البادية، ولم يهاجر إليه، وهم ناقصو المرتبة عن المهاجرين لجفائهم وقسوتهم
وتوحشهم، ونشئهم في بعد من مخالطة العلماء، وسماع كلام الرسول صلى الله عليه وآله،
وفيهم انزل (الاعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر الا يعلموا حدود ما انزل الله
على رسوله) (1); وليست هذه الآية عامة في كل الاعراب بل خاصة ببعضهم، وهم الذين
كانوا حول المدينة وهم جهينة، وأسلم وأشجع، وغفار، واليهم أشار سبحانه بقوله
(وممن حولكم من الاعراب منافقون) (2) وكيف يكون كل الاعراب مذموما،
وقد قال تعالى (ومن الاعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق
قربات عند الله) (1)، وصارت هذه الكلمة جارية مجرى المثل.
وأنشد الحجاج على منبر الكوفة:
قد لفها الليل بعصلبي (4) * أروع خراج من الدوي (5)
* مهاجر ليس بأعرابي (6) *.
وقال عثمان لأبي ذر أخشى أن تصير بعد الهجرة أعرابيا.
وروى (ولا يعقلون من الايمان).
وقولهم (النار ولا العار)، منصوبتان باضمار فعل، أي ادخلوا النار ولا تلتزموا
العار، وهي كلمه جارية مجرى المثل أيضا، يقولها أرباب الحمية والإباء، فإذا قيلت في حق
كانت صوابا، وإذا قيلت في باطل كانت خطا.
واكفات الاناء وكفأته لغتان أي كببته.

(1) سورة التوبة 97.
(2) سورة التوبة 101.
(3) سورة التوبة 99.
(4) العصلبي: الشديد الخلق.
(5) أروع أي ذكى. يقول: خراج من كل غماء شديد. ويقال للصحراء: دوية، وهي التي
لا تكاد تنقضي، منسوبة إلى الدو، والدو: صحراء ملساء لا علم بها.
(6) الكامل للمبرد 1: 381 (طبعة نهضة مصر).
181

قوله (ثم لا جبرائيل ولا ميكائيل ولا مهاجرين)، الرواية المشهورة هكذا بالنصب،
وهو جائز على التشبيه بالنكرة، كقولهم معضلة ولا أبا حسن لها قال الراجز:
* لا هيثم الليلة للمطي *.
وقد روى بالرفع في الجميع.
والمقارعة منصوبة على المصدر وقال الراوندي هي استثناء منقطع، والصواب
ما ذكرناه، وقد روى (إلا المقارعة) بالرفع، تقديره ولا نصير لكم بوجه من الوجوه
الا المقارعة.
والأمثال التي أشار إليها أمير المؤمنين عليه السلام هي ما تضمنه القرآن من أيام
الله ونقماته على أعدائه، وقال تعالى (وضربنا لكم الأمثال) (1).
والتناهي مصدر تناهى القوم عن كذا، أي نهى بعضهم بعضا، يقول لعن الله
الماضين من قبلكم، لان سفهاءهم ارتكبوا المعصية، وحلماءهم لم ينهوهم عنها، وهذا من قوله
تعالى (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) (2).
* * *
الأصل:
الا وقد قطعتم قيد الاسلام، وعطلتم حدوده، وأمتم احكامه.
الا وقد امرني الله بقتال أهل البغي والنكث والفساد في الأرض، فاما
الناكثون فقد قاتلت، واما القاسطون فقد جاهدت، واما المارقة فقد دوخت،
واما شيطان الردهة فقد كفيته بصعقة سمعت لها وجبة قلبه، ورجة صدره،

(1) سورة إبراهيم 45.
(2) سورة المائدة 79.
182

وبقيت بقية من أهل البغي; ولئن اذن الله في الكرة عليهم، لأديلن منهم الا
ما يتشذر في أطراف البلاد تشذرا.
* * *
الشرح:
قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال له عليه السلام (ستقاتل بعدي
الناكثين والقاسطين والمارقين)، فكان الناكثون أصحاب الجمل، لأنهم نكثوا
بيعته عليه السلام، وكان القاسطون أهل الشام بصفين، وكان المارقون الخوارج في
النهروان، وفى الفرق الثلاث قال الله تعالى (فمن نكث فإنما ينكث على
نفسه) (1)، وقال (واما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا) (2)، وقال النبي صلى
الله عليه وآله (يخرج من ضئضئ هذا قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من
الرمية، ينظر أحدكم في النصل فلا يجد شيئا، فينظر في الفوق (3)، فلا يجد شيئا،
سبق الفرث والدم). وهذا الخبر من اعلام نبوته صلى الله عليه وآله ومن اخباره
المفصلة بالغيوب.
واما شيطان الردهة، فقد قال قوم انه ذو الثدية صاحب النهروان، ورووا في
ذلك خبرا عن النبي صلى الله عليه وآله، وممن ذكر ذلك واختاره الجوهري صاحب
" الصحاح " (4) وهؤلاء يقولون إن ذا الثدية لم يقتل بسيف، ولكن الله رماه يوم
النهروان بصاعقة، واليها أشار عليه السلام بقوله (فقد كفيته بصعقة سمعت لها وجبه

(1) سورة الفتح 10.
(2) سورة الجن 15.
(3) الفوق: مشق رأس السهم حيث يقع الوتر.
(4) الصحاح 8: 2232، وفيه: قال الخليل: الردهة: شبه أكمة كثيرة الحجارة. وفي الحديث
أنه صلى الله عليه وآله وسلم ذكر المقتول بالنهروان فقال: (شيطان الردهة).
183

قلبه) وقال قوم شيطان الردهة أحد الأبالسة المردة من أعوان عدو الله إبليس،
ورووا في ذلك خبرا عن النبي صلى الله عليه وآله، وانه كان يتعوذ منه والردهة
شبه نقرة في الجبل يجتمع فيها الماء، وهذا مثل قوله عليه السلام (هذا أزب العقبة)،
أي شيطانها، ولعل أزب العقبة هو شيطان الردهة بعينه، فتارة يرد بهذا اللفظ، وتارة
يرد بذلك اللفظ. وقال قوم شيطان الردهة مارد يتصور في صورة حية، ويكون على
الردهة. و إنما أخذوا هذا من لفظة (الشيطان) لان الشيطان الحية، ومنه قولهم
شيطان الحماطة، والحماطة شجرة مخصوصة، ويقال انها كثيرة الحيات.
قوله (ويتشذر في أطراف الأرض)، يتمزق ويتبدد ومنه قولهم ذهبوا
شذر مذر.
والبقية التي بقيت من أهل البغي معاوية وأصحابه، لأنه عليه السلام لم يكن أتى
عليهم بأجمعهم، وإنما وقفت الحرب بينه وبينهم بمكيدة التحكيم.
قوله عليه السلام (ولئن اذن الله في الكرة عليهم)، أي إن مد لي في العمر
لأديلن منهم، أي لتكونن الدولة لي عليهم، أدلت من فلان أي غلبته وقهرته،
وصرت ذا دولة عليه.
[استدلال قاضى القضاة على امامة أبى بكر ورد المرتضى عليه]
واعلم إن أصحابنا قد استدلوا على صحة امامة أبى بكر بقوله تعالى (يا أيها الذين
آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة
184

على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة
لائم) (1)، ثم قال قاضى القضاة في المعنى وهذا خبر من الله تعالى، ولا بد أن يكون
كائنا على ما أخبر به، والذين قاتلوا المرتدين هم أبو بكر وأصحابه، فوجب أن يكونوا
هم الذين عناهم الله سبحانه بقوله (يحبهم ويحبونه)، وذلك يوجب أن يكونوا
على صواب.
واعترض المرتضى رحمه الله على هذا الاحتجاج في " الشافي " فقال من أين قلت
إن الآية نزلت في أبى بكر وأصحابه فان قال لأنهم الذين قاتلوا المرتدين بعد رسول الله
صلى الله عليه وآله، ولا أحد قاتلهم سواهم، قيل له ومن الذي سلم لك ذلك أوليس
أمير المؤمنين عليه السلام قد قاتل الناكثين والقاسطين و المارقين بعد الرسول صلى الله
عليه وآله وهؤلاء عندنا مرتدون عن الدين ويشهد بصحة التأويل زائدا على احتمال
القول له، ما روى عن أمير المؤمنين عليه السلام من قوله يوم البصرة والله ما قوتل أهل
الآية حتى اليوم، وتلاها وقد روى عن عمار وحذيفة وغيرهما مثل ذلك.
فان قال دليلي على أنها في أبى بكر وأصحابه قول أهل التفسير; قيل له أو كل
أهل التفسير قال ذلك فان قال نعم، كابر لأنه قد روى عن جماعة التأويل الذي
ذكرناه، ولو لم يكن الا ما روى عن أمير المؤمنين عليه السلام ووجوه أصحابه الذين
ذكرناهم لكفى، وان قال حجتي قول بعض المفسرين، قلنا وأي حجة في قول
البعض ولم صار البعض الذي قال ما ذكرت أولى بالحق من البعض الذي
قال ما ذكرنا.
ثم يقال له قد وجدنا الله تعالى قد نعت المذكورين في الآية بنعوت يجب أن

(1) سورة المائدة 54.
185

نراعيها، لنعلم أفي صاحبنا هي أم في صاحبك وقد جعله الرسول صلى الله عليه وآله في
خيبر حين فر من فر من القوم عن العدو صاحب هذه الأوصاف، فقال لأعطين الراية
غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كرارا غير فرار; فدفعها إلى أمير
المؤمنين عليه السلام.
ثم قوله تعالى (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) (1)، يقتضى ما ذكرنا،
لأنه من المعلوم بلا خلاف حال أمير المؤمنين عليه السلام في التخاشع والتواضع، وذم
نفسه، وقمع غضبه، وانه ما رئي قط طائشا ولا متطيرا في حال من الأحوال، ومعلوم حال
صاحبيكم في هذا الباب، اما أحدهما فإنه اعترف طوعا بان له شيطانا يعتريه عند
غضبه، واما الاخر فكان معروفا بالجد والعجلة، مشهورا بالفظاظة والغلظة، واما العزة
على الكافرين، فإنما تكون بقتالهم وجهادهم والانتقام منهم، وهذه حال لم يسبق أمير
المؤمنين عليه السلام إليها سابق، ولا لحقه فيها لاحق.
ثم قال تعالى (يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) (1)، وهذا
وصف أمير المؤمنين المستحق له بالاجماع، وهو منتف عن أبي بكر وصاحبه اجماعا، لأنه
لا قتيل لهما في الاسلام، ولا جهاد بين يدي الرسول صلى الله عليه وآله، وإذا كانت
الأوصاف المراعاة في الآية حاصلة لأمير المؤمنين عليه السلام، وغير حاصلة لمن ادعيتم، لأنها
فيهم على ضربين ضرب معلوم انتفاؤه كالجهاد، وضرب مختلف فيه كالأوصاف التي هي
غير الجهاد، وعلى من أثبتها لهم الدلالة على حصولها، ولا بد أن يرجع في ذلك إلى غير
ظاهر الآية، لم يبق في يده من الآية دليل.
هذه جملة ما ذكره المرتضى رحمه الله، ولقد كان يمكنه التخلص من الاحتجاج بالآية

(1) سورة المائدة 54.
186

على وجه الطف وأحسن وأصح مما ذكره، فيقول المراد بها من ارتد على عهد رسول
الله صلى الله عليه وآله في واقعة الأسود العنسي باليمن، فان كثيرا من المسلمين ضلوا به
وارتدوا عن الاسلام، وادعوا له النبوة، واعتقدوا صدقه، والقوم الذين يحبهم الله
ويحبونه القوم الذين كاتبهم رسول الله صلى الله عليه وآله وأغراهم بقتله، والفتك به،
وهم فيروز الديلمي وأصحابه والقصة مشهورة.
وقد كان له أيضا أن يقول لم قلت إن الذين قاتلهم أبو بكر وأصحابه كانوا مرتدين
فان المرتد من ينكر دين الاسلام بعد أن كان قد تدين به، والذين منعوا الزكاة لم ينكروا
أصل دين الاسلام، وإنما تأولوا فأخطأوا; لأنهم تأولوا قول الله تعالى (خذ من
أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم) (1);
فقالوا إنما ندفع زكاة أموالنا إلى من صلاته سكن لنا، ولم يبق بعد وفاة النبي صلى الله
عليه وآله من هو بهذه الصفة، فسقط عنا وجوب الزكاة، ليس هذا من الردة في شئ،
وإنما سماهم الصحابة أهل الردة على سبيل المجاز، اعظاما لما قالوه وتأولوه.
فان قيل إنما الاعتماد على قتال أبى بكر وأصحابه لمسيلمة وطليحة اللذين ادعيا
النبوة، وارتد بطريقهما كثير من العرب، لا على قتال مانعي الزكاة.
قيل إن مسيلمة وطليحة جاهدهما رسول الله صلى الله عليه وآله قبل موته بالكتب
والرسل، وأنفذ لقتلهما جماعة من المسلمين، وأمرهم أن يفتكوا بهما غيلة إن أمكنهم ذلك;
واستنفر عليهما قبائل من العرب، وكل ذلك مفصل مذكور في كتب السيرة والتواريخ،
فلم لا يجوز أن يكون أولئك النفر الذين بعثهم رسول الله صلى الله عليه وآله للفتك بهما،
هم المعنيون بقوله (يحبهم ويحبونه) إلى آخر الآية ولم يقل في الآية (يجاهدون

(1) سورة التوبة 103.
187

فيقتلون)، وإنما ذكر الجهاد فقط، وقد كان الجهاد من أولئك النفر حاصلا وان لم يبلغوا
الغرض، كما كان الجهاد حاصلا عند حصار الطائف وإن لم يبلغ فيه الغرض.
وقد كان له أيضا أن يقول سياق الآية لا يدل على ما ظنه المستدل بها; من أنه
من يرتدد عن الدين، فان الله يأتي بقوم يحبهم ويحبونه يحاربونه لأجل ردته، وإنما
الذي يدل عليه سياق الآية انه من يرتد منكم عن دينه بترك الجهاد مع رسول الله صلى
الله عليه وآله - وسماه ارتدادا على سبيل المجاز - فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه،
يجاهدون في سبيل الله معه عوضا عنكم، وكذلك كان كل من خذل النبي صلى الله
عليه وآله وقعد عن النهوض معه في حروبه، أغناه الله تعالى عنه بطائفة أخرى من المسلمين
جاهدوا بين يديه.
واما قول المرتضى رحمه الله انها أنزلت في الناكثين والقاسطين والمارقين الذين
حاربهم أمير المؤمنين عليه السلام فبعيد، لأنهم لا يطلق عليهم لفظ (الردة) عندنا، ولا عند
المرتضى وأصحابه، اما اللفظ فبالاتفاق وان سموهم كفارا. واما المعنى فلان في مذهبهم
إن من ارتد - وكان قد ولد على فطرة الاسلام - بانت امرأته منه، وقسم ماله بين ورثته،
وكان على زوجته عده المتوفى عنها زوجها; معلوم أن أكثر محاربي أمير المؤمنين عليه
السلام كانوا قد ولدوا في الاسلام، ولم يحكم فيهم بهذه الأحكام.
وقوله (إن الصفات غير متحققة في صاحبكم)، فلعمري أن حظ أمير المؤمنين
عليه السلام منها هو الحظ الأوفى، ولكن الآية ما خصت الرئيس بالصفات المذكورة،
وإنما أطلقها على المجاهدين، هم الذين يباشرون الحرب، فهب إن أبا بكر وعمر ما كانا
بهذه الصفات، لم لا يجوز أن يكون مدحا لمن جاهد بين أيديهما من المسلمين، وباشر
الحرب، وهم شجعان المهاجرين والأنصار الذين فتحوا الفتوح، ونشروا الدعوة،
وملكوا الأقاليم.
188

وقد استدل قاضى القضاة أيضا عن صحه امامة أبى بكر; وأسند هذا الاستدلال إلى
شيخنا أبى على بقوله تعالى (سيقول لك المخلفون من الاعراب شغلتنا أموالنا
وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم) (1) وقال تعالى (فان
رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي ابدا ولن
تقاتلوا معي عدوا انكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين) (2)،
وقال تعالى) (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم
يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل) (3)،
يعنى قوله تعالى (لن تخرجوا معي ابدا ولن تقاتلوا معي عدوا) ثم قال سبحانه
(قل للمخلفين من الاعراب ستدعون إلى قوم أولي باس شديد تقاتلونهم
أو يسلمون * فان تطيعوا يؤتكم الله اجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل
يعذبكم عذابا أليما) (4)، فبين أن الذي يدعو هؤلاء المخلفين من الاعراب إلى قتال
قوم أولي باس شديد غير النبي صلى الله عليه وآله، لأنه تعالى قد بين انهم لا يخرجون
معه ولا يقاتلون معه عدوا، بآية متقدمة، ولم يدعهم بعد النبي صلى الله عليه وآله إلى
قتال الكفار الا أبو بكر وعمر وعثمان، لان أهل التأويل لم يقولوا في هذه الآية غير
وجهين من التأويل، فقال بعضهم عنى بقوله (ستدعون إلى قوم أولي باس شديد)
بنى حنيفة، وقال بعضهم عنى فارس والروم، وأبو بكر هو الذي دعا إلى قتال بنى حنيفة
وقتال آل فارس والروم، ودعاهم بعده إلى قتال فارس والروم عمر، فإذا كان الله تعالى
قد بين انهم بطاعتهم لهما يؤتهم اجرا حسنا، وان تولوا عن طاعتهما يعذبهم عذابا أليما،
صح انهما على حق، وأن طاعتهما طاعة لله تعالى وهذا يوجب صحة إمامتهما.

(1) سورة الفتح 11.
(2) سورة التوبة 83.
(3) سورة الفتح 15.
(4) سورة الفتح 16.
189

فان قيل إنما أراد الله بذلك أهل الجمل وصفين
قيل هذا فاسد من وجهين أحدهما قوله تعالى (تقاتلونهم أو يسلمون)،
والذين حاربوا أمير المؤمنين كانوا على الاسلام، ولم يقاتلوا على الكفر. والوجه الثاني
انا لا نعرف من الذين عناهم الله تعالى بهذا من بقي إلى أيام أمير المؤمنين عليه السلام،
كما علمنا أنهم كانوا باقين في أيام أبى بكر.
اعترض المرتضى رحمه الله على هذا الكلام من وجهين أحدهما انه نازع في اقتضاء الآية
داعيا يدعو هؤلاء المخلفين غير النبي صلى الله عليه وآله، وذلك لان قوله تعالى (سيقول
لك المخلفون من الاعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم
ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد
بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون
إلى أهليهم ابدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا) (1).
إنما أراد به سبحانه الذين تخلفوا عن الحديبية بشهادة جميع أهل النقل وإطباق المفسرين.
ثم قال تعالى (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا
نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل
فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون الا قليلا) (1)، وإنما التمس هؤلاء
المخلفون أن يخرجوا إلى غنيمة خيبر، فمنعهم الله تعالى من ذلك، وامر نبيه أن يقول لهم
لن تتبعونا إلى هذه الغزاة، لان الله تعالى كان حكم من قبل بان غنيمة خيبر لمن شهد
الحديبية، وانه لاحظ لمن لم يشهدها، وهذا هو معنى قوله تعالى (يريدون أن يبدلوا
كلام الله)، وقوله (كذلكم قال الله من قبل)، ثم قال تعالى (قل للمخلفين

(1) سورة الفتح 11، 12.
190

من الاعراب ستدعون إلى قوم أولي باس شديد تقاتلونهم أو يسلمون)، وإنما
أراد أن الرسول سيدعوكم فيما بعد إلى قتال قوم أولي باس شديد، وقد دعاهم النبي صلى
الله عليه وآله بعد ذلك إلى غزوات كثيرة، إلى قوم أولي باس شديد، كمؤتة وحنين و
تبوك وغيرهما، فمن أين يجب أن يكون الداعي لهؤلاء غير النبي صلى الله عليه وآله، مع ما
ذكرناه من الحروب التي كانت بعد خيبر.
وقوله إن معنى قوله تعالى (كذلكم قال الله من قبل)، إنما أراد به ما بينه في
قوله (فان رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي
ابدا ولن تقاتلوا معي عدوا)، بتبوك سنة تسع، وآية الفتح نزلت في سنة ست،
فكيف يكون قبلها.
وليس يجب أن يقال في القرآن بالإرادة، وبما يحتمل من الوجوه في كل موضع
دون الرجوع إلى تاريخ نزول الآي، والأسباب التي وردت عليها، وتعلقت بها.
ومما يبين لك أن هؤلاء المخلفين غير أولئك لو لم نرجع في ذلك إلى نقل وتاريخ،
قوله تعالى في هؤلاء (فان تطيعوا يؤتكم الله اجرا حسنا وان تتولوا كما توليتم
من قبل يعذبكم عذابا أليما) (1)، فلم يقطع منهم على طاعة ولا معصية، بل ذكر الوعد
والوعيد على ما يفعلونه من طاعة أو معصية، وحكم المذكورين في آية سورة التوبة بخلاف
هذه لأنه تعالى بعد قوله (انكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين *
ولا تصل على أحد منهم مات ابدا ولا تقم على قبره انهم كفروا بالله ورسوله وماتوا
وهم فاسقون * ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها
في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون) (2)، واختلاف أحكامهم وصفاتهم يدل

(1) سورة الفتح: 16.
(2) سورة التوبة 83 - 85.
191

على اختلافهم، وان المذكورين في آية سورة الفتح غير المذكورين في آية
سوره التوبة.
واما قوله لان أهل التأويل لم يقولوا في هذه الآية غير وجهين من التأويل فذكرهما
باطل، لان أهل التأويل قد ذكروا شيئا آخر لم يذكره، لان المسيب روى عن أبي
روق عن الضحاك في قوله تعالى (ستدعون إلى قوم أولي باس شديد) (1) الآية،
قال هم ثقيف وروى هشيم عن أبي يسر سعيد بن جبير، قال هم هوازن
يوم حنين.
وروى الواقدي، عن معمر عن قتادة، قال هم هوازن وثقيف، فكيف ذكر من
أقوال المفسرين ما يوافقه مع اختلاف الرواية عنهم على انا لا نرجع في كل ما يحتمله تأويل
القرآن إلى أقوال المفسرين، فإنهم ربما تركوا مما يحتمله القول وجها صحيحا، وكم استخرج
جماعة من أهل العدل في متشابه القرآن من الوجوه الصحيحة التي ظاهر
التنزيل بها أشبه، ولها أشد احتمالا، مما لم يسبق إليه المفسرون، ولا دخل في جملة
تفسيرهم وتأويلهم.
والوجه الثاني سلم فيه أن الداعي هؤلاء المخلفين غير النبي صلى الله عليه وآله، وقال
لا يمتنع أن يعنى بهذا الداعي أمير المؤمنين عليه السلام، لأنه قاتل بعده الناكثين
والقاسطين والمارقين. وبشره النبي صلى الله عليه وآله بأنه يقاتلهم، وقد كانوا أولي باس
شديد بلا شبهة.
قال فاما تعلق صاحب الكتاب بقوله (أو يسلمون)، وان الذين حاربهم
أمير المؤمنين عليه السلام كانوا مسلمين، فأول ما فيه انهم غير مسلمين عنده وعند أصحابه،
لان الكبائر تخرج من الاسلام عندهم كما تخرج عن الايمان إذ كان الايمان هو الاسلام

(1) سورة الفتح 16.
192

على مذهبهم ثم إن مذهبنا في محاربي أمير المؤمنين عليه السلام معروف، لأنهم عندنا
كانوا كفارا بمحاربته لوجوه:
الأول منها إن من حاربه كان مستحلا لقتاله، مظهرا انه في ارتكابه على حق،
ونحن نعلم أن من أظهر استحلال شرب جرعة خمر هو كافر بالاجماع، واستحلال دماء
المؤمنين فضلا عن أفاضلهم وأكابرهم أعظم من شرب الخمر واستحلاله، فيجب أن يكونوا
من هذا الوجه كفارا.
الثاني انه عليه السلام قال له بلا خلاف بين أهل النقل (حربك يا علي حربي،
وسلمك سلمى) ونحن نعلم أنه لم يرد الا التشبيه بينهما في الاحكام، ومن احكام محاربي
النبي صلى الله عليه وآله الكفر بلا خلاف.
الثالث إن النبي صلى الله عليه وآله قال له بلا خلاف أيضا (اللهم وال من والاه،
وعاد من عاداه وانصر من نصره، واخذل من خذله)، وقد ثبت عندنا أن العداوة
من الله لا تكون الا للكفار الذين يعادونه دون فساق أهل الملة.
الرابع قوله انا لا نعلم ببقاء هؤلاء المخلفين إلى أيام أمير المؤمنين عليه السلام
فليس بشئ، لأنه إذا لم يكن ذلك معلوما ومقطوعا عليه، فهو مجوز وغير معلوم خلافه،
والجواز كاف لنا في هذا الموضع.
ولو قيل له من أين علمت بقاء المخلفين المذكورين في الآية على سبيل القطع إلى أيام
أبى بكر لكان يفزع إلى أن يقول حكم الآية يقتضى بقاءهم حتى يتم كونهم مدعوين
إلى قتال أولي الباس الشديد على وجه يلزمهم فيه الطاعة، وهذا بعينه يمكن أن يقال له،
ويعتمد في بقائهم إلى أيام أمير المؤمنين عليه السلام على ما يوجبه حكم الآية.
فان قيل كيف يكون أهل الجمل وصفين كفارا ولم يسر أمير المؤمنين عليه السلام
193

فيهم بسيره الكفار، لأنه ما سباهم، ولا غنم أموالهم، ولا تبع موليهم
قلنا احكام الكفر تختلف، وان شملهم اسم (الكفر)، لان في الكفار من يقتل
ولا يستبقى، وفيهم من يؤخذ منه الجزية ولا يحل قتله الا بسبب طارئ غير الكفر،
ومنهم من لا يجوز نكاحه على مذهب أكثر المسلمين، فعلى هذا يجوز أن يكون أكثر
هؤلاء القوم كفارا، وإن لم يسر فيهم بجميع سيرة أهل الكفر، لأنا قد بينا اختلاف
احكام الكفار، ويرجع في أن حكمهم مخالف لأحكام الكفار إلى فعله عليه السلام
وسيرته فيهم. على انا لا نجد في الفساق من حكمه أن يقتل مقبلا، ولا يقتل موليا،
ولا يجهز على جريحه، إلى غير ذلك من الاحكام التي سيرها في أهل البصرة وصفين.
فإذا قيل في جواب ذلك احكام الفسق مختلفة، وفعل أمير المؤمنين هو الحجة في
أن حكم أهل البصرة وصفين ما فعله.
قلنا مثل ذلك حرفا بحرف، ويمكن مع تسليم أن الداعي لهؤلاء المخلفين أبو بكر،
أن يقال ليس في الآية دلالة على مدح الداعي ولا على إمامته، لأنه قد يجوز أن يدعو
إلى الحق والصواب من ليس عليهما، فيلزم ذلك الفعل من حيث كان واجبا في نفسه،
لا لدعاء الداعي إليه، وأبو بكر إنما دعا إلى دفع أهل الردة عن الاسلام، وهذا يجب
على المسلمين بلا دعاء داع، والطاعة فيه طاعة لله تعالى، فمن أين له أن الداعي كان على
حق وصواب وليس في كون ما دعا إليه طاعة ما يدل على ذلك.
ويمكن أيضا أن يكون قوله تعالى (ستدعون)، إنما أراد به دعاء الله تعالى لهم
بايجاب القتال عليهم، لأنه إذا دلهم على وجوب قتال المرتدين، ورفعهم عن بيضة
الاسلام، فقد دعاهم إلى القتال، ووجبت عليهم الطاعة، ووجب لهم الثواب إن أطاعوا،
وهذا أيضا تحتمله الآية.
194

فهذه جملة ما ذكره المرتضى رحمه الله في هذا الموضع، وأكثره جيد لا اعتراض
عليه، وقد كان يمكنه أن يقول لو سلمنا بكل هذا لكان ليس في قوله (لن تخرجوا
معي ابدا) الآية ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله لا يكون هو الداعي لهم إلى
القوم أولي الباس الشديد، لأنه ليس فيها الا محض الاخبار عنهم بأنهم لا يخرجون
معه، ولا يقاتلون العدو معه، وليس في هذا ما ينفى كونه داعيا لهم، كما أنه عليه السلام
قال (أبو لهب لا يؤمن بي)، لم يكن هذا القول نافيا لكونه يدعوه إلى الاسلام.
وقوله (فاقعدوا مع الخالفين) ليس بأمر على الحقيقة، وإنما هو تهديد كقوله
(اعملوا ما شئتم) (1) ولا بد للمرتضى ولقاضي القضاة جميعا من أن يحملا صيغة
(افعل) على هذا المحمل، لأنه ليس لأحدهما بمسوغ أن يحمل الامر على حقيقته، لان
الشارع لا يأمر بالقعود وترك الجهاد مع القدرة عليه، وكونه قد تعين وجوبه.
فان قلت لو قدرنا أن هذه الآية، وهي قوله تعالى (قل للمخلفين من الاعراب
ستدعون إلى قوم أولي باس شديد)، أنزلت بعد غزوة تبوك، وبعد نزول سورة
(براءة)، التي تتضمن قوله تعالى (لن تخرجوا معي ابدا)، وقدرنا أن قوله
تعالى (لن تخرجوا معي ابدا ليس) اخبارا محضا كما تأولته أنت وحملت الآية عليه،
بل معناه لا أخرجكم معي ولا أشهدكم حرب العدو، هل كان يتم الاستدلال؟
قلت لا لان للامامية أن تقول يجوز أن يكون الداعي إلى حرب القوم أولي
الباس الشديد مع تسليم هذه المقدمات كلها هو رسول الله صلى الله عليه وآله، لأنه
دعاهم إلى حرب الروم في سرية أسامة بن زيد في صفر من سنة إحدى عشرة،
لما سيره إلى البلقاء، وقال له سر إلى الروم مقتل أبيك فأوطئهم الخيول وحشد معه
أكثر المسلمين، فهذا الجيش قد دعى فيه المخلفون من الاعراب الذين قعدوا عن الجهاد

(1) سورة الشورى: 40.
195

في غزاة تبوك إلى قوم أولي باس شديد، ولم يخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله،
ولا حاربوا معه عدوا.
فان قلت إذا خرجوا مع أسامة، فكأنما خرجوا مع رسول الله، وإذا حاربوا
مع أسامة العدو، فكأنما حاربوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله، وقد كان سبق انهم
لا يخرجون مع رسول الله صلى الله عليه وآله ولا يحاربون معه عدوا.
قلت وإذا خرجوا مع خالد بن الوليد وغيره في أيام أبى بكر، ومع أبى عبيدة
وسعد في أيام عمر; فكأنما خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله، وحاربوا العدو
معه أيضا.
فان اعتذرت بأنه وإن شابه الخروج معه والحرب معه الا انه على الحقيقة ليس
معه وإنما هو مع امرئ من قبل خلفائه.
قيل لك وكذلك خروجهم مع أسامة ومحاربة العدو معه، وان شابه الخروج مع
النبي ومحاربة العدو معه، الا انه على الحقيقة ليس معه، وإنما هو مع بعض أمرائه.
ويمكن أن يعترض الاستدلال بالآية، فيقال لا يجوز حملها على بنى حنيفة، لأنهم
كانوا مسلمين، وإنما منعوا الزكاة مع قولهم (لا إله إلا الله محمد رسول الله) صلى الله
عليه وآله، ومنع الزكاة لا يخرج به الانسان عن الاسلام عند المرجئة، والامامية مرجئة;
ولا يجوز حملها على فارس والروم، لأنه تعالى أخبر انه لا واسطة بين قتالهم وإسلامهم،
كما تقول اما كذا واما كذا، فيقتضى ذلك نفى الواسطة، وقتال فارس والروم بينه
وبين اسلامهم واسطة، وهو دفع الجزية، وإنما تنتفى هذه الواسطة في قتال العرب، لان
مشركي العرب لا تؤخذ منهم الجزية، فالآية اذن دالة على أن المخلفين سيدعون إلى قوم
أولي باس شديد الحكم فيهم اما قتالهم واما اسلامهم، وهؤلاء هم مشركو العرب
ولم يحارب مشركي العرب، الا رسول الله صلى الله عليه وآله، فالداعي لهم إذا هو
رسول الله، وبطل الاستدلال بالآية
196

الأصل:
انا وضعت بكلاكل العرب، وكسرت نواجم قرون ربيعة ومضر. وقد
علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عليه وآله، بالقرابة القريبة، والمنزلة
الخصيصة، وضعني في حجره، وانا وليد يضمني إلى صدره، ويكنفني في فراشه،
ويمسني جسده، ويشمني عرفه، وكان يمضغ الشئ ثم يلقمنيه، وما وجد لي
كذبة في قول، ولا خطلة في فعل.
ولقد قرن الله به صلى الله عليه وآله من لدن إن كان فطيما أعظم ملك من
ملائكته، يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره.
ولقد كنت اتبعه اتباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه
علما، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه، ولا
يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الاسلام غير رسول الله صلى الله عليه
وآله وخديجة وانا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة.
ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى الله عليه وآله، فقلت
يا رسول الله، ما هذه الرنة فقال هذا الشيطان، قد أيس من عبادته، انك تسمع
ما اسمع، وترى ما أرى، الا انك لست بنبي، ولكنك لوزير، وانك
لعلى خبر.
* * *
الشرح:
الباء في قوله (بكلاكل العرب) زائدة والكلاكل الصدور، الواحد
كلكل، والمعنى انى أذللتهم صرعتهم إلى الأرض.
197

ونواجم قرون ربيعة ومضر من نجم منهم وظهر، وعلا قدره، وطار صيته.
فان قلت اما قهره لمضر فمعلوم، فما حال ربيعة، ولم نعرف انه قتل منهم أحدا قلت
بلى قد قتل بيده وبجيشه كثيرا من رؤسائهم في صفين والجمل، فقد تقدم ذكر أسمائهم من
قبل، وهذه الخطبة خطب بها بعد انقضاء أمر النهروان.
والعرف بالفتح الريح الطيبة، ومضغ الشئ يمضغه بفتح الضاد.
والخطلة في الفعل الخطا فيه، وايقاعه على غير وجهه.
وحراء اسم جبل بمكة معروف.
والرنة الصوت.
[ذكر ما كان من صلة على برسول الله في صغره]
والقرابة القريبة بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله دون غيره من الأعمام،
كونه رباه في حجره، ثم حامى عنه ونصره عند اظهار الدعوة دون غيره من بني هاشم،
ثم ما كان بينهما من المصاهرة التي أفضت إلى النسل الأطهر دون غيره من الأصهار. ونحن
نذكر ما ذكره أرباب السير من معاني هذا الفصل.
روى الطبري في تاريخه، قال حدثنا ابن حميد، قال حدثنا سلمة، قال حدثني محمد
ابن إسحاق قال حدثني عبد الله بن نجيح، عن مجاهد، قال كان من نعمة الله عز وجل على
علي بن أبي طالب عليه السلام، وما صنع الله له، وأراده به من الخير، أن قريشا أصابتهم أزمة
شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثير، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله للعباس - وكان
من أيسر بني هاشم يا عباس، إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد ترى ما أصاب الناس
من هذه الأزمة، فانطلق بنا، فلنخفف عنه من عياله، آخذ من بيته واحدا، وتأخذ واحدا،
198

فنكفيهما عنه فقال العباس نعم، فانطلقا حتى أتيا أبا طالب، فقالا له انا نريد أن
نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه، فقال لهما إن تركتما لي عقيلا
فاصنعا ما شئتما فاخذ رسول الله صلى الله عليه وآله عليا فضمه إليه، واخذ العباس جعفرا
رضي الله عنه، فضمه إليه فلم يزل علي بن أبي طالب عليه السلام مع رسول الله صلى الله
عليه وآله حتى بعثه الله نبيا، فاتبعه علي عليه السلام فأقر به وصدقه، ولم يزل جعفر
عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه (1).
قال الطبري وحدثنا ابن حميد، قال حدثنا سلمه، قال حدثنا محمد بن إسحاق،
قال كان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة،
وخرج معه علي بن أبي طالب عليه السلام مستخفيا من عمه أبى طالب، ومن جميع أعمامه
وسائر قومه، فيصليان الصلوات فيها، فإذا أمسيا رجعا، فمكثا كذلك ما شاء الله
أن يمكثا.
ثم إن أبا طالب عثر عليهما وهما يصليان، فقال لرسول الله صلى الله عليه وآله يا بن
أخي، ما هذا الذي أراك تدين به قال يا عم هذا دين الله ودين ملائكته ودين رسله
ودين أبينا إبراهيم - أو كما قال - بعثني الله به رسولا إلى العباد، وأنت يا عم أحق من
بذلت له النصيحة، ودعوته إلى الهدى، وأحق من أجابني إليه، وأعانني عليه - أو كما
قال - فقال أبو طالب يا بن أخي، انى لا أستطيع أن أفارق ديني ودين آبائي، وما كانوا
عليه، ولكن والله لا يخلص إليك شئ تكرهه ما بقيت.
قال الطبري وقد روى هؤلاء المذكورون أن أبا طالب قال لعلي عليه السلام
يا بنى، ما هذا الذي أنت عليه فقال يا أبت، انى آمنت بالله وبرسوله، وصدقته بما

(1) تاريخ الطبري 2: 313 (طبعة المعارف).
199

جاء به، وصليت لله معه، قال فزعموا أنه قال له اما انه لا يدعو الا إلى خير
فالزمه (1).
وروى الطبري في تاريخه أيضا، قال حدثنا أحمد بن الحسين الترمذي، قال
حدثنا عبد الله بن موسى، قال أخبرنا العلاء، عن المنهال بن عمر، وعن عبد الله بن
عبد الله، قال سمعت عليا عليه السلام، يقول انا عبد الله، وأخو رسوله، وانا الصديق
الأكبر، لا يقولها بعدي الا كاذب مفتر، صليت قبل الناس بسبع سنين (2).
وفى غير رواية الطبري انا الصديق الأكبر وانا الفاروق الأول، أسلمت قبل اسلام
أبى بكر، وصليت قبل صلاته بسبع سنين كأنه عليه السلام لم يرتض أن يذكر عمر
ولا رآه أهلا للمقايسة بينه وبينه، وذلك لان اسلام عمر كان متأخرا.
وروى الفضل بن عباس رحمه الله قال سالت أبى عن ولد رسول الله صلى الله
عليه وآله الذكور، أيهم كان رسول الله صلى الله عليه وآله له أشد حبا فقال علي بن أبي طالب
عليه السلام، فقلت له سألتك عن بنيه، فقال إنه كان أحب إليه من
بنيه جميعا وأرأف، ما رأيناه زايله يوما من الدهر منذ كان طفلا، الا أن يكون في
سفر لخديجة، وما رأينا أبا أبر بابن منه لعلى، ولا ابنا أطوع لأب من على له.
وروى الحسين بن زيد بن علي بن الحسين عليه السلام، قال سمعت زيدا أبى عليه
السلام يقول كان رسول الله يمضغ اللحمة والتمرة حتى تلين، ويجعلهما في فم علي عليه
السلام وهو صغير في حجره، وكذلك كان أبى علي بن الحسين عليه السلام يفعل بي،
ولقد كان يأخذ الشئ من الورك وهو شديد الحرارة، فيبرده في الهواء أو ينفخ عليه حتى
يبرد، ثم يلقمنيه، أفيشفق على من حرارة لقمة ولا يشفق على من النار لو كان أخي
إماما بالوصية كما يزعم هؤلاء، لكان أبى أفضى بذلك إلى ووقاني من حر جهنم.

(1) تاريخ الطبري 2: 314 (المعارف).
(2) تاريخ الطبري 2: 310 (المعارف).
200

وروى جبير بن مطعم، قال قال أبى مطعم بن عدي لنا ونحن صبيان بمكة الا ترون
حب هذا الغلام - يعنى عليا - لمحمد واتباعه له دون أبيه واللات والعزى، لوددت أن
ابني بفتيان بنى نوفل جميعا.
وروى سعيد بن جبير، قال سالت انس بن مالك، فقلت أرأيت قول عمر عن
الستة إن رسول الله صلى الله عليه وآله مات وهو عنهم راض ألم يكن راضيا عن غيرهم
من أصحابه فقال بلى، مات رسول الله صلى الله عليه وآله وهو راض عن كثير من
المسلمين، ولكن كان عن هؤلاء أكثر رضا، فقلت له فأي الصحابة كان رسول الله
صلى الله عليه وآله له احمد؟ أو كما قال - قال ما فيهم أحد الا وقد سخط منه فعلا،
وأنكر عليه أمرا، الا اثنان علي بن أبي طالب وأبو بكر بن أبي قحافة، فإنهما لم يقترفا
منذ أتى الله بالاسلام أمرا أسخطا فيه رسول الله صلى الله عليه وآله.
[ذكر حال رسول الله في نشوئه]
وينبغي أن نذكر الان ما ورد في شان رسول الله صلى الله عليه وآله وعصمته بالملائكة،
ليكون ذلك تقريرا وإيضاحا لقوله عليه السلام (ولقد قرن الله به من لدن كان فطيما
أعظم ملك من ملائكته)، وان نذكر حديث مجاورته عليه السلام بحراء، وكون علي عليه
السلام معه هناك، وان نذكر ما ورد في أنه لم يجمع بيت واحد يومئذ في الاسلام غير
رسول الله صلى الله عليه وآله وعليا وخديجة، وان نذكر ما ورد في سماعه رنة الشيطان، وان
نذكر ما ورد في كونه عليه السلام وزيرا للمصطفى صلى الله عليه وآله.
اما المقام الأول فروى محمد بن إسحاق بن يسار في كتاب " السيرة النبوية "،
ورواه أيضا محمد بن جرير الطبري في تاريخه، قال كانت حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية
201

أم رسول الله صلى الله عليه وآله التي أرضعته تحدث انها خرجت من بلدها ومعها زوجها
وابن لها ترضعه في نسوة من بنى سعد بن بكر يلتمسن الرضاع (1) بمكة، في سنة شهباء (2)
لم تبق شيئا، قالت فخرجت على أتان لنا قمراء (3) عجفاء، ومعنا شارف (4) لنا، ما تبض (5)
بقطرة، ولا ننام ليلنا أجمع من بكاء صبينا الذي معنا من الجوع، ما في ثديي ما يغنيه،
ولا في شارفنا ما يغديه، (6) ولكنا نرجو الغيث والفرج فخرجت على أتاني تلك، ولقد
أراثت بالركب ضعفا وعجفا، (7) حتى شق ذلك عليهم، حتى قدمنا مكة نلتمس الرضاع (8)
فما منا امرأة الا وقد عرض عليها محمد صلى الله عليه وآله فتأباه إذا قيل لها انه يتيم،
وذلك انا إنما كنا نرجو المعروف من أبى الصبي، فكنا نقول يتيم، ما عسى أن تصنع
أمه وجده فكنا نكرهه لذلك، فما بقيت امرأة ذهبت معي الا اخذت رضيعا غيري،
فلما اجتمعنا للانطلاق قلت لصاحبي والله انى لأكره أن ارجع من بين صواحبي
لم آخذ رضيعا، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه، قال لا عليك أن تفعلي وعسى
الله أن يجعل لنا فيه بركة، فذهبت إليه فأخذته، وما يحملني على اخذه الا انى لم أجد
غيره قالت فلما اخذته رجعت إلى رحلي، فلما وضعته في حجري اقبل عليه ثدياي
بما شاء من لبن، فرضع حتى روى وشرب معه أخوه حتى روى، وما كنا ننام قبل ذلك
من بكاء صبينا جوعا، فنام، وقام زوجي إلى شارفنا تلك فنظر إليها فإذا انها حافل (9)،
فحلب منها ما شرب وشربت انتهينا ريا وشبعا، فبتنا بخير ليلة، قالت يقول

(1) ابن هشام (تلتمس الرضعاء).
(2) سنة شهباء، تريد بها سنة الجدب، وذلك أن الأرض حينئذ تكون بيضاء لا نبات فيها.
(3) القمرة بالضم: لون إلى الخضرة أو بياض فيه كدرة وحمار أقمر وأتان قمراء. القاموس.
(4) الشارف: الناقة المسنة.
(5) قال أبو ذر الخشني: ما تبض بالضاد المعجمة، معناه: ما تنشغ ولا ترشح، ومن رواه بالصاد
المهملة، فمعناه: (لا يبرق عليها أثر لين، من البصيص وهو اللمعان).
(6) قال ابن هشام: (ما يغذيه).
(7) ابن هشام: (فلقد أدمت بالركب حتى شق ذلك عليهم ضعفا وعجفا).
(8) ابن هشام: (الرضعاء).
(9) حافل: اي ممتلئة الضرع.
202

صاحبي حين أصبحنا أتعلمين (1) والله يا حليمة لقد اخذت نسمة مباركة، فقلت والله
انى لأرجو ذلك، ثم خرجنا وركبت أتاني تلك، وحملته معي عليها، فوالله لقطعت
بالركب ما يقدر عليها شئ من حميرهم (2) حتى إن صواحبي ليقلن لي ويحك يا بنت أبي
ذؤيب اربعي (3) علينا، أليس هذه أتانك التي كنت خرجت عليها فأقول لهن
بلى والله، انها لهي، فيقلن والله إن لها لشأنا.
قالت ثم قدمنا منازلنا من بلاد بنى سعد - وما اعلم أرضا من ارض العرب أجدب
منها - فكانت غنمي تروح على حين قدمنا به معنا شباعا ملأى (4) لبنا، فكنا نحتلب
ونشرب، وما يحلب انسان قطرة لبن، ولا يجدها في ضرع، حتى إن الحاضر من قومنا
ليقولون لرعاتهم ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعى ابنة أبى ذؤيب فيفعلون، فتروح
أغنامهم جياعا ما تبض بقطرة، وتروح غنمي شباعا لبنا، فلم نزل نعرف من الله الزيادة
والخير به حتى مضت سنتاه وفصلته، فكان يشب شبابا لا يشبه الغلمان [فلم يبلغ
سنتيه] (5)، حتى كان غلاما جفرا (6)، فقدمنا به على أمه آمنة بنت وهب، ونحن أحرص
شئ على مكثه فينا، لما كنا نرى من بركته، فكلمنا أمه، وقلنا لها لو تركته عندنا حتى
يغلظ فانا نخشى عليه (7) وباء مكة، فلم نزل بها حتى ردته معنا.
فرجعنا به إلى بلاد بنى سعد، فوالله انه لبعد ما قدمنا بأشهر مع أخيه في بهم (8) لنا
خلف بيوتنا، إذ أتانا أخوه يشتد، فقال لي ولأبيه ها هو ذاك أخي القرشي، قد جاءه

(1) ابن هشام: (تعلمي).
(2) ابن هشام: (حمرهم).
(3) اربعي علينا، اي أقيمي وانتظري، يقال: ربع فلان على فلان، إذا أقام عليه وانتظره.
(4) ابن هشام: (لبنا) بالتشديد، اي غزيرات اللبن.
(5) من ابن هشام.
(6) جفرا، اي قويا شديدا.
(7) الوباء، مهموز ومقصور: كثرة الأمراض والموت.
(8) البهم: الصغار من الغنم، واحدها بهمة.
203

رجلان عليهما ثياب بياض، فأضجعاه وشقا بطنه، فهما يسوطانه (1) قالت فخرجت
انا وأبوه نشتد نحوه، فوجدناه قائما (2) ممتقعا وجهه، فالتزمته والتزمه أبوه، وقلنا ما لك
يا بنى قال جاءني رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاني ثم شقا بطني، فالتمسا فيه شيئا
لا أدري ما هو
قالت فرجعنا به إلى خبائنا، وقال لي أبوه يا حليمة، لقد خشيت أن يكون هذا
الغلام قد أصيب، فالحقيه باهله.
قالت فاحتملته حتى قدمت به على أمه، فقالت ما أقدمك به يا ظئر وقد كنت
حريصة عليه وعلى مكثه عندك فقلت لها قد بلغ الله بابني، وقضيت الذي على،
وتخوفت عليه الاحداث وأديته إليك كما تحبين قالت أتخوفت عليه الشيطان قلت
نعم قالت كلا والله ما للشيطان عليه من سبيل، وان لابني شانا، أفلا أخبرك خبره
قلت بلى، قالت رأيت حين حملت به انه خرج منى نور أضاءت له قصور بصرى
من (3) الشام، ثم حملت به، فوالله ما رأيت حملا قط كان أخف ولا أيسر منه،
ثم وقع حين ولدته وانه لواضع يديه بالأرض، ورافع رأسه إلى السماء، دعيه عنك وانطلقي
راشدة (4).
قال وروى الطبري في " تاريخه " عن شداد بن أوس، قال سمعت رسول
الله صلى الله عليه وآله يحدث عن نفسه، ويذكر ما جرى له وهو طفل في ارض
بنى سعد بن بكر، قال لما ولدت استرضعت في بنى سعد، فبينا انا ذات يوم منتبذ من

(1) يسوطانه، قال أبو ذر الخشني: يقال: (سطت اللبن والدم وغيرهما أسوطه، إذا ضربت بعضه
ببعض وحركته، واسم العود الذي يضرب به المسوط).
(2) ممتقعا: متغيرا، وفي ابن هشام: (منتقعا)، وهما سواء.
(3) قال السهيلي: (ذلك ما فتح الله عليه من تلك البلاد، حتى كانت الخلافة فيها مدة بني أمية،
واستضاءت تلك البلاد وغيرها بنوره صلى الله عليه وآله وسلم).
(4) سيرة ابن هشام 1: 173 - 177 (نشرة المكتبة التجارية).
204

أهلي في بطن واد مع أتراب لي من الصبيان، نتقاذف بالجلة، إذا أتاني رهط ثلاثة، معهم
طشت من ذهب مملوءة ثلجا، فأخذوني من بين أصحابي، فخرج أصحابي هرابا حتى انتهوا
إلى شفير الوادي، ثم عادوا إلى الرهط، فقالوا ما أربكم إلى هذا الغلام، فإنه ليس
منا هذا ابن سيد قريش، وهو مسترضع فينا، غلام يتيم ليس له أب، فما ذا يرد عليكم
قتله وما ذا تصيبون من ذلك ولكن إن كنتم لا بد قاتليه، فاختاروا منا أينا شئتم
فاقتلوه مكانه، ودعوا هذا الغلام، فإنه يتيم.
فلما رأى الصبيان أن القوم لا يحيرون لهم جوابا، انطلقوا هرابا مسرعين إلى الحي
يؤذنونهم ويستصرخونهم على القوم، فعمد أحدهم، فأضجعني اضجاعا لطيفا، ثم شق
ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي، وانا انظر إليه فلم أجد لذلك حسا، ثم اخرج
بطني فغسلها بذلك الثلج، فأنعم غسلها، ثم أعادها مكانها، ثم قام الثاني منهم، فقال
لصاحبه تنح، فنحاه عنى، ثم ادخل يده في جوفي، واخرج قلبي، وانا انظر إليه فصدعه
ثم اخرج منه مضغة سوداء فرماها، ثم قال بيده يمنة (1) منه وكأنه (2) يتناول شيئا،
فإذا في يده خاتم من نور، تحار ابصار الناظرين دونه، فختم به قلبي، ثم أعاده مكانه
فوجدت برد ذلك الخاتم في قلبي دهرا، ثم قال الثالث لصاحبه تنح عنه، فامر يده
ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي، فالتام ذلك الشق، ثم اخذ بيدي فأنهضني من
مكاني إنهاضا لطيفا، وقال للأول الذي شق بطني زنه بعشرة من أمته، فوزنني بهم
فرجحتهم، فقال دعوه، فلو وزنتموه بأمته كلها لرجحهم، ثم ضموني إلى صدرهم، وقبلوا
رأسي وما بين عيني، وقالوا يا حبيب الله، لا ترع، انك لو تدرى ما يراد بك من الخير
لقرت عيناك فبينا انا كذلك إذا انا بالحي قد جاءوا بحذافيرهم، وإذا أمي - وهي

(1) في الأصول: (نميه) تصحيف.
(2) الطبري: (وكأنه).
205

ظئري - امام الحي تهتف بأعلى صوتها، وتقول يا ضعيفاه فانكب على أولئك الرهط
فقبلوا رأسي وما بين عيني، وقالوا حبذا أنت من ضعيف ثم قالت ظئري يا وحيداه
فانكبوا على، وضموني إلى صدورهم، وقبلوا رأسي وما بين عيني، ثم قالوا حبذا أنت
من وحيد وما أنت بوحيد إن الله وملائكته معك والمؤمنون من أهل الأرض، ثم فالت
ظئري يا يتيماه استضعفت من بين أصحابك، فقتلت لضعفك، فانكبوا علي وضموني
إلى صدورهم، وقبلوا رأسي وما بين عيني، وقالوا حبذا أنت من يتيم ما أكرمك على
الله لو تعلم ما يراد بك من الخير فال فوصل الحي إلى شفير الوادي، فلما بصرت بي
أمي - وهي ظئري - نادت يا بني، الا أراك حيا بعد فجاءت حتى انكبت علي،
وضمتني إلى صدرها، فوالذي نفسي بيده، إني لفي حجرها فد ضمتني إليها، وان يدي
لفي يد بعضهم، فجعلت التفت إليهم، وظننت أن القوم يبصرونهم، فإذا هم لا يبصرونهم،
فيقول بعض القوم إن هذا الغلام قد أصابه لمم، أو طائف من الجن، فانطلقوا به إلى
كاهن بني فلان، حتى ينظر إليه ويداويه، فقلت ما بي شئ مما يذكرون، نفسي سليمة،
وان فؤادي صحيح، ليست بي قلبة (1) فقال أبي - وهو زوج ظئري: الا ترون كلامه
صحيحا اني أرجو الا يكون على ابني باس.
فاتفق القوم على أن يذهبوا إلى الكاهن بي، فاحتملوني حتى ذهبوا بي إليه، فقصوا
عليه قصتي، فقال اسكتوا حتى اسمع من الغلام، فهو اعلم بأمره منكم، فسألني فقصصت
عليه أمري، وانا يومئذ ابن خمس سنين، فلما سمع قولي وثب وقال يا للعرب اقتلوا هذا الغلام
فهو واللات والعزى لئن عاش ليبدلن دينكم وليخالفن امركم، وليأتينكم بما لم تسمعوا به
قط، فانتزعتني ظئري من حجره، وقالت لو علمت إن هذا يكون من قولك ما أتيتك به،

(1) ليس بي قلبة، اي ليس به شئ واصله من القلاب، وهو داء يأخذ الإبل في رؤوسها، فيقلبها
إلى فوق، قال في اللسان: (ولا يستعمل الا في النفي).
206

ثم احتملوني فأصبحت وقد صار في جسدي أثر الشق، ما بين صدري إلى منتهى عانتي
كأنه الشراك (1).
وروى أن بعض أصحاب أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام سأله عن قول الله
عز وجل (الا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه
رصدا) (2). فقال عليه السلام يوكل الله تعالى بأنبيائه ملائكة يحصون أعمالهم،
ويؤدون إليه تبليغهم الرسالة، ووكل بمحمد صلى الله عليه وآله ملكا عظيما منذ فصل
عن الرضاع يرشده إلى الخيرات ومكارم الأخلاق، ويصده عن الشر ومساوئ
الأخلاق، وهو الذي كان يناديه السلام عليك يا محمد يا رسول الله وهو شاب لم يبلغ
درجة الرسالة بعد، فيظن أن ذلك من الحجر والأرض، فيتأمل فلا يرى شيئا.
وروى الطبري في " التاريخ " عن محمد بن الحنفية، عن أبيه علي عليه السلام،
قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول (ما هممت بشئ مما كان أهل الجاهلية
يعملون به غير مرتين، كل ذلك يحول الله تعالى بيني وبين ما أريد من ذلك، ثم ما
هممت بسوء حتى أكرمني الله برسالته، قلت ليلة الغلام من قريش كان يرعى معي
بأعلى مكة لو أبصرت لي غنمي حتى ادخل مكة، فأسمر بها كما يسمر الشباب، فخرجت
أريد ذلك، حتى إذا جئت أول دار من دور مكة، سمعت عزفا بالدف (3) والمزامير،
فقلت ما هذا قالوا هذا فلان تزوج ابنة فلان، فجلست انظر إليهم، فضرب الله
على أذني فنمت، فما أيقظني الا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي، فقال ما فعلت
فقلت ما صنعت شيئا، ثم أخبرته الخبر، ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك، فقال
افعل، فخرجت فسمعت حين دخلت مكة مثل ما سمعت حين دخلتها تلك الليلة، فجلست

(1) الخبر بتفصيل أو في الطبري: 2: 161 - 165 (طبع المعارف).
(2) سورة الجن 27.
(3) الطبري: (بالدفوف).
207

انظر، فضرب الله على أذني، فما أيقظني الا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي، فأخبرته
الخبر، ثم ما هممت بعدها بسوء، حتى أكرمني الله برسالته (1).
وروى محمد بن حبيب في أماليه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله
أذكر وانا غلام ابن سبع سنين، وقد بنى ابن جدعان دارا له بمكة، فجئت مع الغلمان
نأخذ التراب والمدر في حجورنا فننقله، فملأت حجري ترابا فانكشفت عورتي،
فسمعت نداء من فوق رأسي يا محمد، ارخ إزارك، فجعلت ارفع رأسي فلا أرى شيئا،
الا انى اسمع الصوت، فتماسكت ولم أرخه، فكان انسانا ضربني على ظهري، فخررت
لوجهي، وانحل إزاري فسترني، وسقط التراب إلى الأرض، فقمت إلى دار
أبى طالب عمى ولم أعد.
واما حديث مجاورته عليه السلام بحراء فمشهور، وقد ورد في الكتب
الصحاح انه كان يجاور في حراء من كل سنة شهرا، وكان يطعم في ذلك الشهر من جاءه
من المساكين، فإذا قضى جواره من حراء، كان أول ما يبدأ به إذا انصرف أن يأتي باب
الكعبة قبل أن يدخل بيته، فيطوف بها سبعا، أو ما شاء الله من ذلك، ثم يرجع إلى
بيته، حتى جاءت السنة التي أكرمه الله فيها بالرسالة، فجاور في حراء شهر رمضان، ومعه
أهله خديجة وعلي بن أبي طالب وخادم لهم، فجاءه جبريل بالرسالة، وقال عليه الصلاة
والسلام جائني وانا نائم بنمط فيه كتاب، فقال اقرأ قلت ما اقرأ فغتني (2) حتى ظننت
انه الموت، ثم أرسلني فقال (اقرأ باسم ربك الذي خلق)، إلى قوله (علم الانسان

(1) تاريخ الطبري 2: 279 (المعارف).
(2) غتني، قال ابن الأثير: (الغت والغط سواء، كأنه أراد: عصرني عصرا شديدا حتى وجدت
منه المشقة كما يجد من يغمس في الماء قهرا. النهاية 3: 149.
208

ما لم يعلم (1). فقراته ثم انصرف عنى فانتبهت من نومي، وكأنما كتب في قلبي
كتاب، وذكر تمام الحديث.
واما حديث أن الاسلام لم يجتمع عليه بيت واحد يومئذ الا النبي وهو - عليهما السلام -
وخديجة، فخبر عفيف الكندي مشهور، وقد ذكرناه من قبل، وان أبا طالب قال له
أتدري من هذا قال لا قال هذا ابن أخي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وهذا ابني
علي بن أبي طالب، وهذه المرأة خلفهما خديجة بنت خويلد; زوجة محمد ابن أخي، وأيم
الله ما اعلم على الأرض كلها أحدا على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة.
واما رنة الشيطان، فروى أبو عبد الله أحمد بن حنبل في مسنده، عن علي بن أبي طالب
عليه السلام، قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله صبيحة الليلة التي
أسرى به فيها، وهو بالحجر يصلى، فلما قضى صلاته، وقضيت، صلاتي سمعت رنة
شديدة، فقلت يا رسول الله، ما هذه الرنة قال الا تعلم هذه رنة الشيطان، علم انى
أسرى بي الليلة إلى السماء، فأيس من أن يعبد في هذه الأرض.
وقد روى عن النبي صلى الله عليه وآله ما يشابه هذا، لما بايعه الأنصار السبعون ليلة
العقبة سمع من العقبة صوت عال في جوف الليل يا أهل مكة، هذا مذمم والصباة
معه قد اجمعوا على حربكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله للأنصار الا تسمعون
ما يقول هذا أزب العقبة يعنى شيطانها، وقد روى (أزبب العقبة). ثم التفت
إليه فقال (2) استمع يا عدو الله، اما والله لأفرغن لك.

(1) سورة اقرأ: 5.
(2) في اللسان: (كانت العرب تسمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصابئ لأنه خرج من دين قريش إلى
الاسلام، ويسمون من دخل في دين الاسلام مصبوا، لأنهم كانوا لا يهمزون، فأبدلوا من الهمزة واوا،
ويسمون المسلمين الصباة من غير همز، كأنه جمع الصابي).
209

وروى عن جعفر بن محمد الصادق عليه السلام، قال كان علي عليه السلام يرى
مع رسول الله صلى الله عليه وآله قبل الرسالة الضوء ويسمع الصوت، وقال له صلى الله
عليه وآله (لولا انى خاتم الأنبياء لكنت شريكا في النبوة، فان لا تكن نبيا فإنك
وصى نبي ووارثه، بل أنت سيد الأوصياء وامام الأتقياء).
واما خبر الوزارة، فقد ذكره الطبري في تاريخه عن عبد الله بن عباس عن علي بن أبي طالب
عليه السلام، قال لما أنزلت هذه الآية (وأنذر عشيرتك الأقربين) (1)،
على رسول الله صلى الله عليه وآله دعاني، فقال يا علي، إن الله امرني أن أنذر عشيرتك
الأقربين، فضقت بذلك ذرعا، وعلمت انى متى أنادهم بهذا الامر أر منهم ما أكره،
فصمت حتى جاءني جبريل عليه السلام، فقال يا محمد، انك إن لم تفعل ما أمرت به
يعذبك ربك، فاصنع لنا صاعا من طعام، واجعل عليه رجل شاة، واملأ لنا عسا من لبن، ثم أجمع بنى عبد المطلب حتى أكلمهم، وأبلغهم ما أمرت به ففعلت ما امرني به،
ثم دعوتهم وهم يومئذ أربعون رجلا، يزيدون رجلا أو ينقصونه، وفيهم أعمامه أبو طالب،
وحمزة، والعباس، وأبو لهب، فلما اجتمعوا إليه دعا بالطعام الذي صنعت لهم، فجئت به،
فلما وضعته تناول رسول الله صلى الله عليه وآله بضعة (2) من اللحم فشقها بأسنانه، ثم ألقاها
في نواحي الصحفة، ثم قال كلوا باسم الله، فأكلوا حتى ما لهم إلى شئ من حاجة،
وأيم الله الذي نفس على بيده، إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمته لجميعهم،
ثم قال اسق القوم يا علي، فجئتهم بذلك العس فشربوا منه، حتى رووا جميعا، وأيم
الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله أن
يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام، فقال لشد ما سحركم صاحبكم فتفرق القوم،
ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال من الغد يا علي، إن هذا الرجل قد سبقني

(1) سورة الشعراء 214.
(2) البضعة بالفتح، وقد تكسر: القطعة من اللحم.
210

إلى ما سمعت من القول، فتفرق القوم قبل أن أكلمهم، فعد لنا اليوم إلى مثل ما صنعت
بالأمس، ثم اجمعهم لي ففعلت ثم جمعتهم، ثم دعاني بالطعام، فقربته لهم، ففعل كما
فعل
بالأمس، فأكلوا حتى مالهم بشئ حاجة، ثم قال أسقهم، فجئتهم بذلك العس،
فشربوا منه جميعا، حتى رووا، ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال يا بنى
عبد المطلب، انى والله ما اعلم أن شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به،
انى قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد امرني الله أن أدعوكم إليه، فأيكم يوازرني
على هذا الامر، على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم فأحجم القوم عنها جميعا،
وقلت انا (1) - وأني لأحدثهم سنا وأرمصهم (2) عينا، وأعظمهم بطنا، وأحمشهم (3)
ساقا انا يا رسول الله أكون وزيرك عليه، فأعاد القول، فأمسكوا واعدت ما قلت،
فاخذ برقبتي، ثم قال لهم هذا أخي ووصيي و خليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا. فقام
القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب قد امرك أن تسمع لابنك وتطيع (4).
ويدل على أنه وزير رسول الله صلى الله عليه وآله من نص الكتاب والسنة قول
الله تعالى (واجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي * اشدد به أزري * وأشركه
في أمري) (5). وقال النبي صلى الله عليه وآله في الخبر المجمع على روايته بين سائر
فرق الاسلام (أنت منى بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبي بعدي)، فأثبت له
جميع مراتب هارون عن موسى، فأذن هو وزير رسول الله صلى الله عليه وآله، وشاد
إزره، ولولا أنه خاتم النبيين لكان شريكا في امره

(1) ساقطة من التاريخ.
(2) الرمص في العين: كالغمص، وهو قذى تلفظ به كناية عن صغر سنه.
(3) حمش الساقين: رفيعهما.
(4) تاريخ الطبري 2: 319 - 321 (المعارف)، وتفسير الطبري 19: 74، 75 (بولاق)،
بتفصيل أوفى.
(5) سورة طه 29 - 31.
211

وروى أبو جعفر الطبري أيضا في التاريخ أن رجلا قال لعلي عليه السلام
يا أمير المؤمنين، بم ورثت ابن عمك دون عمك فقال علي عليه السلام هاؤم ثلاث
مرات، حتى اشراب الناس، ونشروا آذانهم، ثم قال جمع رسول الله صلى الله عليه
وآله بنى عبد المطلب بمكة، وهم رهطه (1) كلهم، يأكل الجذعة، ويشرب الفرق (2)،
فصنع مدا من طعام، حتى أكلوا وشبعوا وبقى الطعام كما هو، كأنه لم يمس، ثم دعا
بغمر (3)، فشربوا ورووا، وبقى الشراب كأنه لم يشرب، ثم قال يا بنى عبد المطلب،
انى بعثت إليكم خاصة، والى الناس عامة، فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي،
ووارثي فلم يقم إليه أحد، فقمت إليه، وكنت من أصغر القوم، فقال اجلس،
ثم قال ذلك ثلاث مرات، كل ذلك أقوم إليه، فيقول اجلس، حتى كان في الثالثة،
فضرب بيده على يدي، فعند ذلك ورثت ابن عمى دون عمى (4).
* * *
الأصل:
ولقد كنت معه صلى الله عليه وآله، لما اتاه الملا من قريش، فقالوا له
يا محمد، انك قد ادعيت عظيما لم يدعه آباؤك، ولا أحد من بيتك، ونحن نسألك
أمرا إن أنت أجبتنا إليه وأريتناه، علمنا انك نبي ورسول، وان لم تفعل
علمنا انك ساحر كذاب.
فقال صلى الله عليه وآله وما تسألون قالوا تدعو لنا هذه الشجرة، حتى
تنقلع بعروقها، وتقف بين يديك. فقال صلى الله عليه وآله إن الله على كل

(1) في الأصول: (رهط)، وأثبت ما في الطبري.
(2) الفرق، بكسر الفاء وبعضهم يقول بالفتح: مكيال كبير لأهل المدينة يكال به اللبن.
(3) الغمر: القدح الصغير.
(4) تاريخ الطبري 2: 321، 322.
212

شئ قدير، فان فعل الله لكم ذلك، أتؤمنون وتشهدون بالحق قالوا نعم،
قال فإني سأريكم ما تطلبون، وإني لأعلم انكم لا تفيئون إلى خير، وإن فيكم
من يطرح في القليب، ومن يحزب الأحزاب ثم قال صلى الله عليه وآله يا أيتها
الشجرة، إن كنت تؤمنين بالله واليوم الآخر، وتعلمين انى رسول الله، فانقلعي
بعروقك حتى تقفي بين يدي بإذن الله، والذي بعثه بالحق لانقلعت بعروقها،
وجاءت ولها دوي شديد، وقصف كقصف أجنحة الطير، حتى وقفت بين يدي
رسول الله صلى الله عليه وآله مرفرفة، وألقت بغصنها الأعلى على رسول الله صلى
الله عليه وآله وببعض أغصانها على منكبي، وكنت عن يمينه صلى الله عليه وآله،
فلما نظر القوم إلى ذلك قالوا علوا واستكبارا فمرها فليأتك نصفها، ويبقى نصفها،
فأمرها فاقبل إليه نصفها كأعجب اقبال وأشده دويا، فكادت تلتفت برسول الله
صلى الله عليه وآله، فقالوا كفرا وعتوا فمر هذا النصف فليرجع إلى نصفه
كما كان، فأمره صلى الله عليه وآله فرجع، فقلت انا لا إله إلا الله، انى
أول مؤمن بك يا رسول الله، وأول من أقر بان الشجرة فعلت ما فعلت بأمر الله
تعالى تصديقا بنبوتك، وإجلالا لكلمتك فقال القوم كلهم بل ساحر كذاب،
عجيب السحر خفيف فيه، وهل يصدقك في امرك الا مثل هذا يعنونني -
وإني لمن قوم لا تأخذهم في الله لومة لائم، سيماهم سيما الصديقين، وكلامهم
كلام الأبرار، عمار الليل، ومنار النهار، متمسكون بحبل القرآن، يحيون
سنن الله وسنن رسوله، لا يستكبرون ولا يعلون، ولا يغلون ولا يفسدون،
قلوبهم في الجنان، وأجسادهم في العمل.
213

الشرح:
الملا الجماعة ولا تفيئون لا ترجعون ومن يطرح في القليب، كعتبة وشيبة ابني
ربيعة بن عبد شمس وعمرو بن هشام بن المغيرة، المكنى أبا جهل وغيرهم، طرحوا في قليب
بدر بعد انقضاء الحرب، ومن يحزب الأحزاب، أبو سفيان صخر بن حرب بن أمية.
والقصف والقصيف الصوت. وسيماهم علامتهم ومثله (سيمياء).
ومعنى قوله عليه السلام (قلوبهم في الجنان، وأجسادهم في العمل)، أن قلوبهم
ملتذة بمعرفة الله تعالى وأجسادهم نصبة بالعبادة.
واما أمر الشجرة التي دعاها رسول الله صلى الله عليه وآله، فالحديث الوارد فيها كثير
مستفيض، قد ذكره المحدثون في كتبهم، وذكره المتكلمون في معجزات الرسول صلى الله
عليه وآله، والأكثرون رووا الخبر فيها على الوضع الذي جاء في خطبة أمير المؤمنين،
ومنهم من يروى ذلك مختصرا انه دعا شجرة فأقبلت تخد إليه الأرض خدا.
وقد ذكر البيهقي في كتاب دلائل النبوة حديث الشجرة، ورواه أيضا محمد بن
إسحاق بن يسار في كتاب السيرة والمغازي على وجه آخر، قال محمد بن إسحاق كان
ركانة (1) بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف أشد قريش كلها، فخلا يوما برسول
الله صلى الله عليه وآله في بعض شعاب مكة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله
يا ركانة، تتقى الله، وتقبل ما أدعوك إليه قال لو اعلم أن الذي تقول حق لاتبعتك،
قال أفرأيت إن صرعتك، أتعلم أن ما أقول لك حق قال نعم، قال فقم حتى أصارعك، فقام
ركانة، فلما بطش به رسول الله صلى الله عليه وآله اضجعه لا يملك من نفسه شيئا، فقال
عد يا محمد، فعاد فصرعه، فقال يا محمد، إن هذا لعجب حين تصرعني (2)، فقال رسول الله
صلى الله عليه وآله واعجب من ذلك إن شئت أريتكه، إن اتقيت الله، واتبعت أمري،

(1) كذا ضبطه صاحب الاشتقاق 78، بضم الراء.
(2) ب: (حتى)، تصحيف، وفي ابن هشام: (أتصرعني).
214

قال ما هو قال ادعو لك هذه الشجرة التي تراها، فتأتي، قال فادعها، فدعاها،
فأقبلت حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله، ثم قال ارجعي إلى مكانك،
فرجعت إلى مكانها، فرجع ركانة، إلى قومه، وقال يا بنى عبد مناف، ساحروا (1)
بصاحبكم أهل الأرض فما رأيت أسحر منه قط، ثم أخبرهم بالذي رأى، والذي صنع (2).
[القول في اسلام أبى بكر وعلى وخصائص كل منهما]
وينبغي أن نذكر في هذا الموضع ملخص ما ذكره الشيخ أبو عثمان الجاحظ في كتابه
المعروف بكتاب العثمانية في تفضيل اسلام أبى بكر على اسلام علي عليه السلام،
لان هذا الموضع يقتضيه، لقوله عليه السلام حكاية عن قريش لما صدق رسول الله صلى الله
عليه وآله وهل يصدقك في امرك الا مثل هذا لأنهم استصغروا سنه، فاستحقروا أمر محمد
رسول الله صلى الله عليه وآله حيث لم يصدقه في دعواه الا غلام صغير السن، وشبهة
العثمانية التي قررها الجاحظ من هذه الشبهة نشأت، ومن هذه الكلمة تفرعت، لان
خلاصتها أن أبا بكر أسلم وهو ابن أربعين سنة، وعلى أسلم ولم يبلغ الحلم، فكان اسلام أبى بكر أفضل.
ثم نذكر ما اعترض به شيخنا أبو جعفر الإسكافي على الجاحظ في كتابه المعروف
ب‍ " نقض العثمانية "، ويتشعب الكلام بينهما حتى يخرج عن البحث في الإسلامين إلى
البحث في أفضلية الرجلين وخصائصهما، فان ذلك لا يخلو عن فائدة جليلة، ونكتة

(1) ساحروا: اي غالبوهم بالسحر.
(2) سيرة ابن هشام 1: 418 (نشرة المكتبة التجارية).
215

لطيفة، لا يليق أن يخلو كتابنا هذا عنها، ولان كلامهما بالرسائل والخطابة أشبه، وفى
الكتابة أقصد وادخل، وكتابنا هذا موضوع لذكر ذلك أمثاله.
قال أبو عثمان قالت العثمانية أفضل الأمة وأولاها بالإمامة أبو بكر بن أبي قحافة
لاسلامه على الوجه الذي لم يسلم عليه أحد في عصره، وذلك إن الناس اختلفوا
في أول الناس اسلاما، فقال قوم أبو بكر، وقال قوم زيد بن حارثة، وقال قوم
خباب بن الأرت.
وإذا تفقدنا اخبارهم، وأحصينا أحاديثهم، وعددنا رجالهم، ونظرنا في صحة
أسانيدهم، كان الخبر في تقدم اسلام أبى بكر أعم ورجاله أكثر، وأسانيده أصح،
وهو بذاك أشهر، واللفظ فيه أظهر، مع الاشعار الصحيحة، والأخبار المستفيضة في حياة
رسول الله صلى الله عليه وآله وبعد وفاته، وليس بين الاشعار والاخبار فرق إذا امتنع في
مجيئها، واصل مخرجها التباعد والاتفاق والتواطؤ، ولكن ندع هذا المذهب جانبا،
ونضرب عنه صفحا، اقتدارا على الحجة، ووثوقا بالفلج والقوة، ونقتصر على أدنى نازل
في أبى بكر، وننزل على حكم الخصم، فنقول انا وجدنا من يزعم أنه أسلم قبل زيد
وخباب، ووجدنا من يزعم أنهما أسلما قبله، وأوسط الأمور أعدلها، وأقربها من محبة
الجميع، ورضا المخالف، أن نجعل اسلامهم كان معا، إذ الاخبار متكافئة، والآثار متساوية
على ما تزعمون، وليست إحدى القضيتين أولى في صحة العقل من الأخرى، ثم نستدل
على امامة أبى بكر بما ورد فيه من الحديث، وبما أبانه به الرسول صلى الله عليه وآله
من غيره.
قالوا فمما روى من تقدم اسلامه ما حدث به أبو داود وابن مهدي عن شعبة، وابن
عيينة عن الجريري، عن أبي هريرة، قال أبو بكر انا أحقكم بهذا الامر - يعنى
الخلافة - الست أول من صلى.
216

روى عباد بن صهيب، عن يحيى بن عمير، عن محمد بن المنكدر، أن رسول الله
صلى الله عليه وآله قال (إن الله بعثني بالهدى ودين الحق إلى الناس كافة، فقالوا
كذبت، وقال أبو بكر صدقت).
وروى يعلى بن عبيد، قال جاء رجل إلى ابن عباس، فسأله من كان أول
الناس اسلاما فقال اما سمعت قول حسان بن ثابت:
إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة * فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا (1)
الثاني التالي المحمود مشهده * وأول الناس منهم صدق الرسلا (2).
وقال أبو محجن:
سبقت إلى الاسلام والله شاهد * وكنت حبيبا بالعريش المشهر (3).
وقال كعب بن مالك:
سبقت أخا تيم إلى دين احمد * وكنت لدى الغيران في الكهف صاحبا (4)
وروى ابن أبي شيبة، عن عبد الله بن إدريس ووكيع، عن شعبة، عن عمرو بن مرة،
قال: قال النخعي أبو بكر أول من أسلم.
وروى هيثم عن يعلى بن عطاء، عن عمرو بن عنبسة، قال اتيت النبي صلى الله
عليه وآله وهو بعكاظ، فقلت من بايعك على هذا الامر فقال بايعني حر وعبد،
فلقد رأيتني يومئذ وانا رابع الاسلام.

(1) ديوانه 299، والعثمانية 111.
(2) بعده في الديوان والعثمانية:
وثاني اثنين في الغار المنيف وقد * طاف العداة به إذ صعد الجبلا
خير البرية اتقاها وأطهرها * الا النبي وأوفاها بما حملا
(3) في الأصول: (المشهرا)، وأثبت ما في العثمانية، من أبيات ثلاثة أوردها على قافية الراء المكسورة.
(4) العثمانية 111.
217

قال بعض أصحاب الحديث يعنى بالحر أبا بكر وبالعبد بلالا.
وروى الليث بن سعد، عن معاوية بن صالح، عن سليم بن عامر، عن أبي أمامة،
قال حدثني عمرو بن عنبسة، انه سال النبي صلى الله عليه وآله وهو بعكاظ، فقال له
من تبعك قال تبعني حر وعبد أبو بكر وبلال.
وروى عمرو بن إبراهيم الهاشمي، عن عبد الملك بن عمير، عن أسيد بن صفوان،
صاحب النبي صلى الله عليه وآله قال لما قبض أبو بكر جاء علي بن أبي طالب عليه
السلام، فقال رحمك الله أبا بكر كنت أول الناس اسلاما.
وروى عباد، عن الحسن بن دينار، عن بشر بن أبي زينب، عن عكرمة مولى
ابن عباس، قال إذا لقيت الهاشميين قالوا علي بن أبي طالب أول من أسلم، وإذا
لقيت الذين يعلمون، قالوا أبو بكر أول من أسلم.
قال أبو عثمان الجاحظ قالت العثمانية فان قال قائل فما بالكم لم تذكروا على
ابن أبي طالب في هذه الطبقة، وقد تعلمون كثرة مقدمية والرواية فيه
قلنا قد علمنا الرواية الصحيحة، والشهادة القائمة، انه أسلم وهو حدث غرير،
وطفل صغير، فلم نكذب الناقلين، ولم نستطع أن نلحق اسلامه باسلام البالغين، لان
المقلل زعم أنه أسلم، وهو ابن خمس سنين، والمكثر زعم أنه أسلم وهو ابن تسع سنين،
فالقياس أن يؤخذ بالأوسط بين الروايتين، وبالأمر بين الامرين، وإنما يعرف حق
ذلك من باطله، بان نحصي سنيه التي ولى فيها الخلافة، وسني عمر، وسني عثمان، وسني
أبى بكر، ومقام النبي صلى الله عليه وآله بالمدينة، ومقامه بمكة عند اظهار الدعوة، فإذا
فعلنا ذلك صح انه أسلم وهو ابن سبع سنين، فالتاريخ المجمع عليه انه قتل عليه السلام
في شهر رمضان سنه أربعين.
218

قال شيخنا أبو جعفر الإسكافي (1) لولا ما غلب على الناس من الجهل وحب التقليد،
لم نحتج إلى نقض ما احتجت به العثمانية، فقد علم الناس كافة، أن الدولة والسلطان لأرباب
مقالتهم، وعرف كل أحد علو أقدار شيوخهم وعلمائهم وأمرائهم، وظهور كلمتهم، وقهر
سلطانهم وارتفاع التقية عنهم والكرامة، والجائزة لمن روى الاخبار والأحاديث في فضل
أبى بكر، وما كان من تأكيد بني أمية لذلك، وما ولده المحدثون من الأحاديث طلبا
لما في أيديهم، فكانوا لا يألون جهدا في طول ما ملكوا أن يخملوا ذكر علي عليه
السلام وولده، ويطفئوا نورهم، ويكتموا فضائلهم ومناقبهم وسوابقهم، ويحملوا على شتمهم
وسبهم ولعنهم على المنابر، فلم يزل السيف يقطر من دمائهم، مع قلة عددهم وكثرة عدوهم،
فكانوا بين قتيل وأسير، وشريد وهارب، ومستخف ذليل، وخائف مترقب، حتى أن
الفقيه والمحدث والقاضي والمتكلم، ليتقدم إليه ويتوعد بغاية الإيعاد وأشد العقوبة،
الا يذكروا شيئا من فضائلهم، ولا يرخصوا لأحد أن يطيف بهم، وحتى بلغ من
تقية المحدث انه إذا ذكر حديثا عن علي عليه السلام كنى عن ذكره، فقال قال
رجل من قريش، وفعل رجل من قريش، ولا يذكر عليا عليه السلام،
ولا يتفوه باسمه.
ثم رأينا جميع المختلفين قد حاولوا نقض فضائله، ووجهوا الحيل والتأويلات نحوها،
من خارجي مارق، وناصب حنق، وثابت مستبهم، وناشئ معاند، ومنافق مكذب،
وعثماني حسود، يعترض فيها ويطعن، ومعتزلي قد نقض في الكلام، وابصر علم الاختلاف،

(1) هو محمد بن عبد الله أبو جعفر المعروف بالإسكافي، ذكره الخطيب في تاريخ بغداد 5: 416،
وقال عنه: (أحد المتكلمين من معتزلة البغداديين، وله تصانيف معروفة... وبلغني انه مات في سنة
أربعين ومائتين).
219

وعرف الشبه ومواضع الطعن وضروب التأويل، قد التمس الحيل في ابطال مناقبه وتأول
مشهور فضائله، فمرة يتأولها بما لا يحتمل، ومرة يقصد أن يضع من قدرها بقياس
منتقض، ولا يزداد مع ذلك الا قوة ورفعة، ووضوحا واستنارة، وقد علمت أن معاوية
ويزيد ومن كان بعدهما من بنى مروان أيام ملكهم - وذلك نحو ثمانين سنة - لم يدعوا
جهدا في حمل الناس على شتمه ولعنه واخفاء فضائله، وستر مناقبه وسوابقه.
روى خالد بن عبد الله الواسطي، عن حصين بن عبد الرحمن، عن هلال بن يساف،
عن عبد الله بن ظالم، قال لما بويع لمعاوية أقام المغيرة بن شعبة خطباء يلعنون عليا عليه
السلام، فقال سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل الا ترون إلى هذا الرجل الظالم يأمر
بلعن رجل من أهل الجنة.
روى سليمان بن داود، عن شعبة، عن الحر بن الصباح، قال سمعت عبد الرحمن بن
الأخنس، يقول شهدت المغيرة بن شعبة خطب فذكر عليا عليه السلام، فنال منه.
روى أبو كريب، قال حدثنا أبو أسامة، قال حدثنا صدقة بن المثنى النخعي
عن رياح بن الحارث، قال بينما المغيرة بن شعبة بالمسجد الأكبر، وعنده ناس إذ جاءه
رجل يقال له قيس بن علقمة، فاستقبل المغيرة، فسب عليا عليه السلام.
روى محمد بن سعيد الأصفهاني، عن شريك، عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن علي
ابن الحسين، عن أبيه علي بن الحسين عليه السلام، قال قال لي مروان ما كان
في القوم ادفع عن صاحبنا من صاحبكم قلت فما بالكم تسبونه على المنابر قال إنه
لا يستقيم لنا الامر الا بذلك.
روى مالك بن إسماعيل أبو غسان النهدي، عن ابن أبي سيف، قال خطب مروان
والحسن عليه السلام، جالس فنال من علي عليه السلام فقال الحسن ويلك يا مروان
أهذا الذي تشتم شر الناس قال لا، ولكنه خير الناس.
220

وروى أبو غسان أيضا، قال قال عمر بن عبد العزيز كان أبى يخطب فلا يزال
مستمرا في خطبته، حتى إذا صار إلى ذكر على وسبه تقطع لسانه، واصفر وجهه، وتغيرت
حاله، فقلت له في ذلك، فقال أو قد فطنت لذلك، إن هؤلاء لو يعلمون من على ما يعلمه
أبوك ما تبعنا منهم رجل.
وروى أبو عثمان، قال حدثنا أبو اليقظان، قال قام رجل من ولد عثمان إلى
هشام بن عبد الملك يوم عرفة، فقال إن هذا يوم كانت الخلفاء تستحب فيه لعن
أبى تراب.
وروى عمرو بن الفناد، عن محمد بن فضيل، عن أشعث بن سوار، قال سب عدى بن
أرطاة عليا عليه السلام على المنبر، فبكى الحسن البصري وقال لقد سب هذا اليوم رجل
انه لأخو رسول الله صلى الله عليه وآله في الدنيا والآخرة.
وروى عدى بن ثابت عن إسماعيل بن إبراهيم، قال كنت انا وإبراهيم بن يزيد
جالسين في الجمعة مما يلي أبواب كندة فخرج المغيرة فخطب، فحمد الله، ثم ذكر ما شاء أن
يذكر، ثم وقع في علي عليه السلام، فضرب إبراهيم على فخذي أو ركبتي، ثم قال اقبل
على، فحدثني فانا لسنا في جمعة، الا تسمع ما يقول هذا.
وروى عبد الله بن عثمان الثقفي، قال حدثنا ابن أبي سيف، قال قال ابن لعامر
ابن عبد الله بن الزبير لولده لا تذكر يا بنى عليا الا بخير، فان بنى أمية لعنوه على منابرهم
ثمانين سنة، فلم يزده الله بذلك الا رفعة، إن الدنيا لم تبن شيئا قط الا رجعت على ما بنت
فهدمته، وان الدين لم يبن شيئا قط وهدمه.
وروى عثمان بن سعيد، قال حدثنا مطلب بن زياد، عن أبي بكر بن عبد الله
الأصبهاني، قال كان دعى لبني أمية يقال له خالد بن عبد الله، لا يزال يشتم عليا عليه
221

السلام، فلما كان يوم جمعة، وهو يخطب الناس، قال والله إن كان رسول الله ليستعمله،
وانه ليعلم ما هو ولكنه كان ختنه، وقد نعس سعيد بن المسيب ففتح عينيه، ثم قال ويحكم ما قال هذا الخبيث رأيت القبر انصدع ورسول الله صلى الله عليه وآله يقول
كذبت يا عدو الله.
وروى القناد (1)، قال حدثنا أسباط بن نصر الهمداني، عن السدى، قال بينما
انا بالمدينة عند أحجار الزيت، إذ اقبل راكب على بعير، فوقف فسب عليا عليه السلام،
فحف به الناس ينظرون إليه، فبينما هو كذلك إذ اقبل سعد بن أبي وقاص، فقال
اللهم إن كان سب عبدا لك صالحا، فار المسلمين خزيه، فما لبث أن نفر به بعيره فسقط،
فاندقت عنقه.
وروى عثمان بن أبي شيبة، عن عبد الله بن موسى، عن فطر بن خليفة، عن أبي
عبد الله الجدلي، قال دخلت على أم سلمة رحمها الله فقالت لي أيسب رسول الله
صلى الله عليه وآله فيكم وأنتم احياء قلت وأنى يكون هذا قالت أليس يسب علي عليه
السلام ومن يحبه.
وروى العباس بن بكار الضبي، قال حدثني أبو بكر الهذلي، عن الزهري،
قال: قال ابن عباس لمعاوية، الا تكف عن شتم هذا الرجل قال ما كنت لأفعل
حتى يربو عليه الصغير ويهرم فيه الكبير فلما ولى عمر بن عبد العزيز كف عن شتمه،
فقال الناس ترك السنة.
قال وقد روى عن ابن مسعود اما موقوفا عليه أو مرفوعا، كيف أنتم إذا شملتكم
فتنة يربو عليها الصغير ويهرم فيها الكبير، يجرى عليها الناس فيتخذونها سنة، فإذا غير
منها شئ قيل غيرت السنة.

(1) القناد، بنون مشددة، وانظر تهذيب التهذيب 12: 330.
222

قال أبو جعفر وقد تعلمون أن بعض الملوك ربما أحدثوا قولا، أو دينا لهوى فيحملون
الناس على ذلك، حتى لا يعرفوا غيره، كنحو ما اخذ الناس الحجاج بن يوسف بقراءة
عثمان، وترك قراءة ابن مسعود وأبي بن كعب، وتوعد على ذلك بدون ما صنع هو وجبابرة
بنى أمية وطغاة مروان بولد علي عليه السلام وشيعته، وإنما كان سلطانه نحو عشرين
سنة، فما مات الحجاج حتى اجتمع أهل العراق على قراءة عثمان، ونشأ أبناؤهم ولا يعرفون
غيرها لإمساك الاباء عنها، وكف المعلمين عن تعليمها، حتى لو قرأت عليهم قراءة
عبد الله وأبى ما عرفوها، ولظنوا بتأليفها الاستكراه والاستهجان، لألف العادة وطول
الجهالة، لأنه إذا استولت على الرعية الغلبة، وطالت عليهم أيام التسلط، وشاعت فيهم
المخافة، وشملتهم التقية، اتفقوا على التخاذل والتساكت، فلا تزال الأيام تأخذ من بصائرهم،
وتنقص من ضمائرهم، وتنقض من مرائرهم، حتى تصير البدعة التي أحدثوها غامرة للسنة
التي كانوا يعرفونها، ولقد كان الحجاج ومن ولاه، كعبد الملك والوليد ومن كان قبلهما
وبعدهما من فراعنة بنى أمية على إخفاء محاسن علي عليه السلام وفضائله وفضائل ولده
وشيعته، واسقاط أقدارهم، أحرص منهم على اسقاط قراءة عبد الله وأبى، لان تلك
القراءات لا تكون سببا لزوال ملكهم، وفساد أمرهم، وانكشاف حالهم، وفي اشتهار
فضل علي عليه السلام وولده واظهار محاسنهم بوارهم، وتسليط حكم الكتاب المنبوذ عليهم،
فحرصوا واجتهدوا في اخفاء فضائله، وحملوا الناس على كتمانها وسترها، وأبى الله أن يزيد
امره وامر ولده الا استنارة واشراقا، وحبهم الا شغفا وشدة، وذكرهم الا انتشارا
وكثرة، وحجتهم الا وضوحا وقوة، وفضلهم الا ظهورا، وشأنهم الا علوا، واقدارهم
الا اعظاما، حتى أصبحوا بإهانتهم إياهم أعزاء، وبإماتتهم ذكرهم احياء، وما أرادوا به
وبهم من الشر تحول خيرا، فانتهى إلينا من ذكر فضائله وخصائصه ومزاياه وسوابقه
ما لم يتقدمه السابقون، ولا ساواه فيه القاصدون، ولا يلحقه الطالبون، ولولا أنها كانت
223

كالقبلة المنصوبة في الشهرة، وكالسنن المحفوظة في الكثرة، لم يصل إلينا منها في دهرنا
حرف واحد، إذا كان الامر كما وصفناه.
قال فاما ما احتج به الجاحظ بامامة أبى بكر، بكونه أول الناس اسلاما،
فلو كان هذا احتجاجا صحيحا، لاحتج به أبو بكر يوم السقيفة، وما رأيناه صنع ذلك لأنه
اخذ بيد عمر ويد أبى عبيده بن الجراح، وقال للناس قد رضيت لكم أحد هذين
الرجلين، فبايعوا منهما من شئتم، ولو كان هذا احتجاجا صحيحا لما قال عمر كانت بيعه
أبى بكر فلتة وقى الله شرها، ولو كان احتجاجا صحيحا لادعى واحد من الناس لأبي بكر
الإمامة في عصره أو بعد عصره، بكونه سبق إلى الاسلام، وما عرفنا أحدا ادعى له ذلك،
على أن جمهور المحدثين لم يذكروا أن أبا بكر أسلم الا بعد عدة من الرجال، منهم على
ابن أبي طالب، وجعفر أخوه، وزيد بن حارثة، وأبو ذر الغفاري، وعمرو بن عنبسة
السلمي، وخالد بن سعيد بن العاص، وخباب بن الأرت، وإذا تأملنا الروايات
الصحيحة، والأسانيد القوية والوثيقة، وجدناها كلها ناطقة بان عليا عليه السلام أول
من أسلم.
فاما الرواية عن ابن عباس أن أبا بكر أولهم اسلاما فقد روى عن ابن عباس خلاف
ذلك، بأكثر مما رووا وأشهر، فمن ذلك ما رواه يحيى بن حماد، عن أبي عوانه وسعيد
ابن عيسى، عن أبي داود الطيالسي، عن عمرو بن ميمون، عن ابن عباس، أنه قال
أول من صلى من الرجال علي عليه السلام.
وروى الحسن البصري، قال حدثنا عيسى بن راشد، عن أبي بصير عن
عكرمة، عن ابن عباس، قال فرض الله تعالى الاستغفار لعلى عليه السلام في القرآن
224

على كل مسلم، بقوله تعالى (ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان) (1)
فكل من أسلم بعد على فهو يستغفر لعلى عليه السلام.
وروى سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال
السباق ثلاثة سبق يوشع بن نون إلى موسى، وسبق صاحب (يس) إلى عيسى،
وسبق علي بن أبي طالب إلى محمد عليه وعليهم السلام.
فهذا قول ابن عباس في سبق علي عليه السلام إلى الاسلام، وهو أثبت من حديث
الشعبي وأشهر، على أنه قد روى عن الشعبي خلاف ذلك من حديث أبي بكر الهذلي
وداود بن أبي هند عن الشعبي، قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله لعلى عليه السلام
(هذا أول من آمن بي وصدقني وصلى معي).
قال فاما الأخبار الواردة بسبقه إلى الاسلام المذكورة في الكتب الصحاح
والأسانيد الموثوق بها، فمنها ما روى شريك بن عبد الله، عن سليمان بن المغيرة، عن زيد
ابن وهب، عن عبد الله بن مسعود، أنه قال أول شئ علمته من أمر رسول الله صلى
الله عليه وآله انى قدمت مكة مع عمومة لي وناس من قومي، وكان من أنفسنا شراء عطر،
فأرشدنا إلى العباس بن عبد المطلب، فانتهينا إليه، وهو جالس إلى زمزم، فبينا نحن
عنده جلوسا، إذ اقبل رجل من باب الصفا، وعليه ثوبان أبيضان، وله وفرة إلى
انصاف اذنيه جعدة، أشم أقنى، أدعج العينين، كث اللحية، براق الثنايا، أبيض
تعلوه حمرة، كأنه القمر ليلة البدر، وعلى يمينه غلام مراهق أو محتلم، حسن الوجه،
تقفوهم امرأة، قد سترت محاسنها، حتى قصدوا نحو الحجر، فاستلمه واستلمه الغلام، ثم
استلمته المرأة، ثم طاف بالبيت سبعا، والغلام والمرأة يطوفان معه، ثم استقبل الحجر،

(1) سورة الحشر 10.
(2) د: (فأرشدونا).
225

فقام ورفع يديه وكبر، وقام الغلام إلى جانبه، وقامت المرأة خلفهما، فرفعت يديها،
وكبرت، فأطال القنوت، ثم ركع وركع الغلام والمرأة، ثم رفع رأسه فأطال، ورفع الغلام
والمرأة معه يصنعان مثل ما يصنع، فلما رأينا شيئا ننكره، لا نعرفه بمكة، أقبلنا على العباس،
فقلنا يا أبا الفضل، إن هذا الدين ما كنا نعرفه فيكم، قال اجل والله، قلنا فمن
هذا قال هذا ابن أخي، هذا محمد بن عبد الله، وهذا الغلام ابن أخي أيضا، هذا علي بن أبي طالب
، وهذه المرأة زوجة محمد، هذه خديجة بنت خويلد، والله ما على وجه الأرض أحد
يدين بهذا الدين، الا هؤلاء الثلاثة.
ومن حديث موسى بن داود، عن خالد بن نافع، عن عفيف بن قيس الكندي،
وقد رواه عن عفيف أيضا، مالك بن إسماعيل النهدي والحسن بن عنبسة الوراق وإبراهيم
ابن محمد بن ميمونة، قالوا جميعا حدثنا سعيد بن جشم، عن أسد بن عبد الله البجلي، عن
يحيى بن عفيف بن قيس، عن أبيه، قال كنت في الجاهلية عطارا، فقدمت مكة،
فنزلت على العباس بن عبد المطلب، فبينا انا جالس عنده، انظر إلى الكعبة، وقد تحلقت
الشمس في السماء، اقبل شاب كان في وجهه القمر، حتى رمى ببصره إلى السماء، فنظر
إلى الشمس ساعة، ثم اقبل حتى دنا من الكعبة، فصف قدميه يصلى، فخرج على اثره
فتى كأن وجهه صفيحة يمانية، فقام عن يمينه، فجاءت امرأة متلففة في ثيابها، فقامت
خلفهما، فأهوى الشاب راكعا، فركعا معه، ثم أهوى إلى الأرض ساجدا، فسجدا معه،
فقلت للعباس يا أبا الفضل أمر عظيم فقال أمر والله عظيم أتدري من هذا الشاب
قلت لا، قال هذا ابن أخي، هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، أتدري من هذا
الفتى قلت لا، قال هذا ابن أخي علي بن أبي طالب بن عبد المطلب، أتدري من
المرأة قلت لا، قال هذه ابنة خويلد بن أسد بن عبد العزى، هذه خديجة زوج محمد
هذا (1)، وأن محمدا هذا يذكر أن إلهه إله السماء والأرض، وأمره بهذا الدين فهو عليه كما ترى،

(1) ا: (زوج هذا).
226

ويزعم أنه نبي، وقد صدقه على قوله على ابن عمه هذا الفتى، وزوجته خديجة،
هذه المرأة، والله ما اعلم على وجه الأرض كلها أحدا على هذا الدين غير هؤلاء
الثلاثة قال عفيف فقلت له فما تقولون أنتم قال ننتظر الشيخ ما يصنع يعنى
أبا طالب أخاه.
وروى عبد الله بن موسى، والفضل بن دكين، والحسن بن عطية، قالوا حدثنا
خالد بن طهمان، عن نافع بن أبي نافع، عن معقل بن يسار، قال كنت أوصي النبي
صلى الله عليه وآله، فقال لي هل لك أن نعود فاطمة قلت نعم يا رسول الله، فقام
يمشى متوكئا على، وقال اما انه سيحمل ثقلها غيرك، ويكون اجرها لك، قال
فوالله كأنه لم يكن على من ثقل النبي صلى الله عليه وآله شئ، فدخلنا على فاطمة عليها
السلام، فقال لها صلى الله عليه وآله كيف تجدينك قالت لقد طال أسفي،
واشتد حزني، وقال لي النساء زوجك أبوك فقيرا لا مال له فقال لها اما ترضين
انى زوجتك أقدم أمتي سلما، وأكثرهم علما، وأفضلهم حلما قالت بلى رضيت
يا رسول الله.
وقد روى هذا الخبر يحيى بن عبد الحميد وعبد السلام بن صالح، عن قيس بن
الربيع، عن أبي أيوب الأنصاري، بألفاظه أو نحوها.
وروى عبد السلام بن صالح، عن إسحاق الأزرق، عن جعفر بن محمد، عن آبائه،
أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما زوج فاطمة، دخل النساء عليها، فقلن يا بنت
رسول الله، خطبك فلان وفلان، فردهم عنك، وزوجك فقيرا لا مال له، فلما دخل
عليها أبوها صلى الله عليه وآله رأى ذلك في وجهها، فسألها فذكرت له ذلك، فقال
يا فاطمة، إن الله امرني فأنكحتك أقدمهم سلما، وأكثرهم علما، وأعظمهم حلما،
وما زوجتك الا بأمر من السماء، اما علمت أنه أخي في الدنيا والآخرة
227

وروى عثمان بن سعيد عن الحكم بن ظهير، عن السدى، أن أبا بكر وعمر خطبا
فاطمة عليه السلام، فردهما رسول الله صلى الله عليه وآله، وقال لم أومر بذلك، فخطبها
علي عليه السلام، فزوجه إياها، وقال لها زوجتك أقدم الأمة اسلاما... وذكر
تمام الحديث قال وقد روى هذا الخبر جماعة من الصحابة، منهم أسماء بنت عميس،
وأم أيمن، وابن عباس وجابر بن عبد الله.
قال وقد روى محمد بن عبد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن جده أبى رافع، قال
اتيت أبا ذر بالربذة أودعه، فلما أردت الانصراف، قال لي ولأناس معي ستكون
فتنة، فاتقوا الله، وعليكم بالشيخ علي بن أبي طالب، فاتبعوه، فإني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وآله يقول (له أنت أول من آمن بي، وأول من يصافحني يوم القيامة،
وأنت الصديق الأكبر، وأنت الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل، وأنت يعسوب
المؤمنين، والمال يعسوب الكافرين، وأنت أخي ووزيري، وخير من اترك بعدي،
تقضى ديني وتنجز موعدي).
قال وقد روى ابن أبي شيبة، عن عبد الله بن نمير، عن العلاء بن صالح، عن
المنهال بن عمرو، عن عباد بن عبد الله الأسدي، قال سمعت علي بن أبي طالب، يقول
انا عبد الله وأخو رسوله، وانا الصديق الأكبر، لا يقولها غيري الا كذاب، ولقد
صليت قبل الناس سبع سنين.
وروت معاذة بنت عبد الله العدوية، قالت سمعت عليا عليه السلام، يخطب على
منبر البصرة، ويقول انا الصديق الأكبر، آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر، وأسلمت
قبل أن يسلم.
وروى حبة بن جوين العرني انه سمع عليا عليه السلام، يقول انا أول رجل أسلم
228

مع رسول الله صلى الله عليه وآله. رواه أبو داود الطيالسي، عن شعبة، عن سفيان
الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن حبة بن جوين.
وروى عثمان بن سعيد الخراز (1)، عن علي بن حرار، عن علي بن عامر، عن أبي
الحجاف، عن حكيم مولى زاذان، قال سمعت عليا عليه السلام، يقول صليت
قبل الناس سبع سنين، وكنا نسجد ولا نركع، وأول صلاة ركعنا فيها صلاة العصر،
فقلت يا رسول الله، ما هذا قال أمرت به.
وروى إسماعيل بن عمرو، عن قيس بن الربيع، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن
جابر بن عبد الله، قال صلى رسول الله صلى الله عليه وآله يوم الاثنين، وصلى على يوم
الثلاثاء بعده. وفى الرواية الأخرى، عن انس بن مالك استنبئ النبي صلى الله عليه وآله
يوم الاثنين، وأسلم على يوم الثلاثاء بعده.
وروى أبو رافع أن رسول الله صلى الله عليه وآله صلى أول صلاة صلاها غداة
الاثنين، وصلت خديجة آخر نهار يومها ذلك، وصلى علي عليه السلام يوم الثلاثاء غدا
ذلك اليوم.
قال وقد روى بروايات مختلفة كثيرة متعددة، عن زيد بن أرقم، وسلمان الفارسي،
وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، أن عليا عليه السلام أول من أسلم، وذكر
الروايات والرجال بأسمائهم
وروى سلمة بن كهيل، عن رجاله الذين ذكرهم أبو جعفر في الكتاب أن رسول
الله صلى الله عليه وآله قال (أولكم ورودا على الحوض أولكم اسلاما، علي بن أبي طالب).
وروى ياسين بن محمد بن أيمن، عن أبي حازم، مولى ابن عباس، عن ابن عباس،

(1) ب: (الحرار).
229

قال سمعت عمر بن الخطاب وهو يقول كفوا عن علي بن أبي طالب، فإني سمعت من
رسول الله صلى الله عليه وآله يقول (1) فيه خصالا، لو أن خصلة منها في جميع آل الخطاب،
كان أحب لي مما طلعت عليه الشمس، كنت ذات يوم وأبو بكر وعثمان وعبد الرحمن
ابن عوف وأبو عبيدة مع نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله نطلبه، فانتهينا إلى
باب أم سلمة، فوجدنا عليا متكئا على نجاف (2) الباب، فقلنا أردنا رسول الله صلى
الله عليه وآله، فقال هو في البيت، رويدكم فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله
فسرنا حوله، فاتكا على علي عليه السلام وضرب بيده على منكبه، فقال ابشر يا علي
ابن أبي طالب، انك مخاصم، وانك تخصم (3) الناس بسبع لا يجاريك أحد في واحدة
منهن، أنت أول الناس اسلاما، وأعلمهم بأيام الله..) وذكر الحديث.
قال وقد روى أبو سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وآله مثل
هذا الحديث.
قال روى أبو أيوب الأنصاري، عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال
(لقد صلت الملائكة على وعلى علي عليه السلام، سبع سنين) وذلك أنه لم يصلى
معي رجل فيها غيره.
قال أبو جعفر فاما ما رواه الجاحظ من قوله صلى الله عليه وآله (إنما تبعني
حر وعبد)، فإنه لم يسم في هذا الحديث أبا بكر وبلالا، وكيف وأبو بكر لم يشتر بلالا
الا بعد ظهور الاسلام بمكة، فلما أظهر بلال اسلامه عذبه أمية بن خلف ولم يكن
ذلك حال إخفاء رسول الله صلى الله عليه وآله الدعوة، ولا في ابتداء أمر الاسلام،

(1) ساقطة من ا.
(2) النجاف: هو ما بني ناتئا فوق الباب.
(3) تخصم الناس: تغلبهم في الخصومة.
230

وقد قيل إنه عليه السلام إنما عنى بالحر علي بن أبي طالب، وبالعبد زيد بن حارثة.
وروى ذلك محمد بن إسحاق، قال وقد روى إسماعيل بن نصر الصفار، عن محمد
ابن ذكوان، عن الشعبي، قال قال الحجاج للحسن، وعنده جماعة من التابعين وذكر
علي بن أبي طالب ما تقول أنت يا حسن فقال ما أقول هو أول من صلى إلى
القبلة، وأجاب دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله، وان لعلى منزلة من ربه، وقرابة
من رسوله، وقد سبقت له سوابق لا يستطيع ردها أحد فغضب الحجاج غضبا شديدا،
وقام عن سريره، فدخل بعض البيوت وامر بصرفنا.
قال الشعبي وكنا جماعة ما منا الا من نال من علي عليه السلام مقاربة للحجاج،
غير الحسن بن أبي الحسن رحمه الله.
وروى محرز بن هشام، عن إبراهيم بن سلمه، عن محمد بن عبيد الله، قال قال رجل
للحسن ما لنا لا نراك تثنى على على وتقرظه قال كيف وسيف الحجاج يقطر دما
انه لأول من أسلم، وحسبكم بذلك.
قال فهذه الأخبار.
واما الاشعار المروية فمعروفة كثيرة منتشرة، فمنها قول عبد الله بن أبي سفيان بن
الحارث بن عبد المطلب مجيبا للوليد بن عقبه بن أبي معيط:
وان ولى الامر بعد محمد * علي وفى كل المواطن صاحبه
وصى رسول الله حقا وصنوه * وأول من صلى ومن لان جانبه.
وقال خزيمة بن ثابت في هذا:
وصى رسول الله من دون أهله * وفارسه مذ كان في سالف الزمن
وأول من صلى من الناس كلهم * سوى خيرة النسوان والله ذو منن.
231

وقال أبو سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس حين بويع أبو بكر:
ما كنت أحسب أن الامر منصرف * عن هاشم ثم منها عن أبي حسن
أليس أول من صلى لقبلتهم * واعلم الناس بالأحكام والسنن.
وقال أبو الأسود الدؤلي يهدد طلحة والزبير:
وان عليا لكم مصحر * يماثله الأسد الأسود
اما انه أول العابدين * بمكة والله لا يعبد.
وقال سعيد بن قيس الهمداني يرتجز بصفين:
هذا على وابن عم المصطفى * أول من أجابه فيما روى
* هو الامام لا يبالي من غوى *.
وقال زفر بن يزيد بن حذيفة الأسدي:
فحوطوا عليا وانصروه فإنه * وصى وفى الاسلام أول أول
وان تخذلوه والحوادث جمة * فليس لكم عن أرضكم متحول
قال والاشعار كالاخبار، إذا امتنع في مجئ القبيلين التواطؤ والاتفاق، كان
ورودهما حجة.
فاما قول الجاحظ فأوسط الأمور أن نجعل اسلامهما معا، فقد أبطل بهذا ما احتج
به لامامة أبى بكر، لأنه احتج بالسبق، وقد عدل الان عنه.
قال أبو جعفر ويقال لهم لسنا نحتاج من ذكر سبق علي عليه السلام الا
مجامعتكم إيانا على أنه أسلم قبل الناس، ودعواكم انه أسلم وهو طفل دعوى غير
مقبولة لا بحجة.
فان قلتم ودعوتكم انه أسلم وهو بالغ دعوى غير مقبولة الا بحجة
232

قلنا قد ثبت اسلامه بحكم إقراركم، ولو كان طفلا لكان في الحقيقة غير مسلم،
لان اسم الايمان والاسلام والكفر والطاعة والمعصية إنما يقع على البالغين دون الأطفال
والمجانين، وإذا أطلقتم وأطلقنا اسم الاسلام، فالأصل في الاطلاق الحقيقة، كيف وقد
قال النبي صلى الله عليه وآله (أنت أول من آمن بي، وأنت أول من صدقني)
وقال لفاطمة (زوجتك أقدمهم سلما - أو قال اسلاما -) فان قالوا إنما دعاه
النبي صلى الله عليه وآله إلى الاسلام على جهة العرض لا التكليف.
قلنا قد وافقتمونا على الدعاء، وحكم الدعاء حكم الامر والتكليف ثم ادعيتم
إن ذلك كان على وجه العرض، وليس لكم أن تقبلوا معنى الدعاء [عن وجهه] (1)
الا لحجة.
فان قالوا لعله كان على وجه التأديب والتعليم، كما يعتمد مثل ذلك مع الأطفال
قلنا إن ذلك إنما يكون إذا تمكن الاسلام باهله، أو عند النشوء عليه والولادة
فيه، فاما في دار الشرك فلا يقع مثل ذلك، لا سيما إذا كان الاسلام غير معروف ولا
معتاد بينهم، على أنه ليس من سنة النبي صلى الله عليه وآله دعاء أطفال المشركين إلى
الاسلام والتفريق بينهم وبين آبائهم، قبل أن يبلغوا الحلم.
وأيضا فمن شان الطفل اتباع أهله وتقليد أبيه، والمضي على منشئه ومولده، وقد
كانت منزلة النبي صلى الله عليه وآله حينئذ منزلة ضيق وشدة ووحدة، وهذه منازل
لا ينتقل إليها الا من ثبت الاسلام عنده بحجة، ودخل اليقين قلبه بعلم ومعرفة.
فان قالوا إن عليا عليه السلام كان يألف النبي صلى الله عليه وآله، فوافقه على
طريق المساعدة له.
قلنا إنه وإن كان يألفه أكثر من أبويه وإخوته وعمومته وأهل بيته، ولم يكن
الألف ليخرجه عما نشأ عليه، ولم يكن الاسلام مما غذي (2) به وكرر على سمعه،

(1) تكملة من ا.
(2) ب: (عدي)، تصحيف، وأثبت ما في ا.
233

لان الاسلام هو خلع الأنداد والبراءة ممن أشرك بالله، وهذا لا يجتمع في
اعتقاد طفل.
ومن العجب قول العباس لعفيف بن قيس ننتظر الشيخ وما يصنع فإذا كان
العباس وحمزة ينتظران أبا طالب، ويصدران عن رأيه، فكيف يخالفه ابنه، ويؤثر
القلة على الكثرة، ويفارق المحبوب إلى المكروه، والعز إلى الذل، والامن إلى
الخوف، عن غير معرفة ولا علم بما فيه.
فاما قوله إن المقلل يزعم أنه أسلم وهو ابن خمس سنين، والمكثر يزعم أنه أسلم
وهو ابن تسع سنين، فأول ما يقال في ذلك أن الاخبار جاءت في سنه عليه السلام يوم
أسلم على خمسة أقسام فجعلناه في قسمين:
القسم الأول الذين قالوا أسلم وهو ابن خمس عشرة سنة، حدثنا بذلك أحمد بن
سعيد الأسدي، عن إسحاق بن بشر القرشي، عن الأوزاعي، عن حمزة بن حبيب،
عن شداد بن أوس، قال سالت خباب بن الأرت عن اسلام على، فقال أسلم وهو
ابن خمس عشرة سنة، ولقد رايته يصلى قبل الناس مع النبي صلى الله عليه وآله وهو
يومئذ بالغ مستحكم البلوغ وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، عن الحسن،
إن أول من أسلم علي بن أبي طالب، وهو ابن خمس عشرة سنة.
القسم الثاني الذين قالوا إنه أسلم وهو ابن أربع عشرة سنة، رواه أبو قتادة
الحراني، عن أبي حازم الأعرج، عن حذيفة بن اليمان، قال كنا نعبد الحجارة،
ونشرب الخمر وعلى من أبناء أربع عشرة سنة قائم يصلى مع النبي صلى الله عليه وآله
ليلا ونهارا، وقريش يومئذ تسافه رسول الله صلى الله عليه وآله، ما يذب عنه الا على
234

عليه السلام. وروى ابن أبي شيبة عن جرير بن عبد الحميد، قال أسلم على وهو ابن
أربع عشرة سنة.
القسم الثالث الذين قالوا أسلم وهو ابن إحدى عشرة سنة، رواه إسماعيل بن
عبد الله الرقي، عن محمد بن عمر، عن عبد الله بن سمعان، عن جعفر بن محمد عليه السلام،
عن أبيه عن محمد بن علي عليه السلام، أن عليا حين أسلم كان ابن إحدى عشرة سنة. وروى
عبد الله بن زياد المدني، عن محمد بن علي الباقر عليه السلام، قال أول من آمن بالله علي بن أبي
طالب، وهو ابن إحدى عشرة سنة وهاجر إلى المدينة وهو ابن أربعة وعشرين سنة.
القسم الرابع الذين قالوا إنه أسلم وهو ابن عشر سنين رواه نوح بن دراج،
عن محمد بن إسحاق، قال أول ذكر آمن وصدق بالنبوة علي بن أبي طالب عليه
السلام، وهو ابن عشر سنين، ثم أسلم زيد بن حارثة، ثم أسلم أبو بكر وهو ابن ست
وثلاثين سنة فيما بلغنا.
القسم الخامس الذين قالوا إنه أسلم وهو ابن تسع سنين، رواه الحسن بن عنبسة
الوراق، عن سليم مولى الشعبي، عن الشعبي، قال أول من أسلم من الرجال على
ابن أبي طالب وهو ابن تسع سنين، وكان له يوم قبض رسول الله صلى الله عليه وآله
تسع وعشرون سنة.
قال شيخنا أبو جعفر فهذه الأخبار كما تراها، فاما أن يكون الجاحظ جهلها، أو
قصد العناد.
فاما قوله (فالقياس أن نأخذ بأوسط الامرين من الروايتين)، فنقول انه أسلم وهو ابن
سبع سنين فان هذا تحكم منه، ويلزمه مثله في رجل ادعى قبل رجل عشرة
235

دراهم، فأنكر ذلك وقال إنما يستحق قبلي أربعة دراهم، فينبغي أن نأخذ الامر المتوسط
ويلزمه سبعة دراهم، ويلزمه في أبى بكر حيث قال قوم كان كافرا، وقال قوم كان إماما
عادلا ان نقول أعدل الأقاويل أوسطها وهو منزلة (1) بين المنزلتين، فنقول كان فاسقا
ظالما، وكذلك في جميع الأمور المختلف فيها.
فاما قوله وإنما يعرف حق ذلك من باطله، بان نحصي سنى ولاية عثمان وعمر
وأبى بكر وسني الهجرة، ومقام النبي صلى الله عليه وآله بمكة بعد الرسالة إلى أن هاجر،
فيقال له لو كانت الروايات متفقة على هذه التاريخات، لكان لهذا القول مساغ، ولكن
الناس قد اختلفوا في ذلك، فقيل إن رسول الله صلى الله عليه وآله أقام بمكة بعد
الرسالة خمس عشرة سنة، رواه ابن عباس، وقيل ثلاث عشرة سنة، وروى عن ابن
عباس أيضا، وأكثر الناس يرونه وقيل عشر سنين، رواه عره بن الزبير، وهو
قول الحسن البصري وسعيد بن المسيب. واختلفوا في سن رسول الله صلى الله عليه
وآله، فقال، قوم كان ابن خمس وستين، وقيل كان ابن ثلاث وستين، وقيل كان
ابن ستين. واختلفوا في سن علي عليه السلام، فقيل كان ابن سبع وستين، وقيل
كان ابن خمس وستين وقيل ابن ثلاث وستين، وقيل ابن ستين، وقيل ابن تسع
وخمسين.
فكيف يمكن مع هذه الاختلافات تحقيق هذه الحال وإنما الواجب أن يرجع إلى
اطلاق قولهم أسلم على، فان هذا الاسم لا يكون مطلقا الا على البالغ، كما لا يطلق
اسم الكافر الا على البالغ، على إن ابن إحدى عشرة سنة يكون بالغا، ويولد له
الأولاد، فقد روت الرواة أن عمرو بن العاص لم يكن أسن من ابنه عبد الله

(1) ا: (أن ننزله).
236

الا باثنتي عشرة سنة، وهذا يوجب انه احتلم وبلغ في أقل من إحدى
عشرة سنة.
وروى أيضا أن محمد بن عبد الله بن العباس كان أصغر من أبيه علي بن عبد الله
ابن العباس، بإحدى عشرة سنة، فيلزم الجاحظ أن يكون عبد الله بن العباس حين مات
رسول الله صلى الله عليه وآله غير مسلم على الحقيقة، ولا مثاب ولا مطيع بالاسلام، لأنه
كان يومئذ ابن عشر سنين رواه هشيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال توفى
رسول الله صلى الله عليه وآله وانا ابن عشر سنين.
قال الجاحظ فان قالوا فلعله وهو ابن سبع سنين (1 أو ثماني سنين 1)، قد بلغ
من فطنته وذكائه وصحة لبه وصدق حدسه (2) وانكشاف العواقب له وان لم يكن جرب
الأمور، ولا فاتح الرجال، ولا نازع الخصوم، ما يعرف به جميع ما يحب على البالغ معرفته
والاقرار به.
قيل (3) لهم إنما نتكلم على ظواهر الأحوال، وما شاهدنا عليه طبائع الأطفال، فانا
وجدنا حكم ابن سبع سنين أو ثمان - ما لم يعلم باطن امره وخاصة طبعه - حكم الأطفال،
وليس لنا أن نزيل ظاهر حكمه والذي نعرف من حال أبناء جنسه بلعل وعسى، لأنا
وان كنا لا ندري، لعله قد كان ذا فضيلة في الفطنة فلعله قد كان ذا نقص فيها.
هذا على تجويز أن يكون علي عليه السلام في الغيب (4) قد أسلم وهو ابن سبع أو ثمان
اسلام البالغ، غير أن الحكم على مجرى أمثاله وأشكاله الذين أسلموا وهم في مثل سنه
إذ كان اسلام هؤلاء عن تربية الحاضن، وتلقين القيم، ورياضة السائس.
فاما عند التحقيق، فإنه لا تجويز لمثل ذلك، لأنه لو كان أسلم، وهو ابن سبع

(1 - 1) ساقط من ا.
(2) العثمانية: (حسه).
(3) العثمانية: (قيل).
(4) العثمانية (المغيب).
237

أو ثمان وعرف فضل ما بين الأنبياء والكهنة، وفرق ما بين الرسل والسحرة، وفرق ما بين خبر
النبي والمنجم، وحتى عرف كيد الأريب (1)، وموضع الحجة، و (2 وبعد غور المتنبي 2)، كيف يلبس
على العقلاء، وتستمال عقول الدهماء، وعرف الممكن في الطبع من الممتنع، ما يحدث بالاتفاق مما
يحدث بالأسباب، وعرف قدر القوى وغاية الحيلة ومنتهى التمويه والخديعة، وما لا يحتمل
أن يحدثه الا الخالق سبحانه، وما يجوز على الله في حكمته مما لا يجوز، وكيف التحفظ
من الهوى والاحتراس من الخداع، لكان كونه على هذه الحال وهذه مع فرط الصبا
و الحداثة وقلة التجارب والممارسة خروجا من العادة. ومن المعروف مما عليه تركيب هذه
الخلقة، وليس يصل أحد إلى معرفه نبي وكذب متنبئ، حتى يجتمع فيه هذه المعارف
التي ذكرناها، والأسباب التي وصفناها وفصلناها، ولو كان علي عليه السلام على هذه
الصفة ومعه هذه الخاصية لكان حجة على العامة، وآية تدل على النبوة، ولم يكن الله
عز وجل ليخصه بمثل هذه الأعجوبة الا وهو يريد أن يحتج بها، ويجعلها قاطعة لعذر
الشاهد وحجة على الغائب. ولولا إن الله أخبر عن يحيى بن زكريا انه اتاه الحكم صبيا،
وانه أنطق عيسى في المهد ما كانا في الحكم [ولا في المغيب]، (3) الا كسائر الرسل،
وما عليه جميع البشر. فإذا لم ينطق لعلى عليه السلام بذلك قرآن، ولا جاء الخبر به مجئ
الحجة القاطعة والمشاهدة القائمة، فالمعلوم عندنا في الحكم أن طباعه كطباع عميه حمزة
والعباس، وهما أمس بمعدن جماع الخير منه، أو كطباع جعفر وعقيل من رجال قومه، وسادة
رهطه. ولو أن انسانا ادعى مثل ذلك لأخيه جعفر أو لعميه حمزة والعباس، ما كان
عندنا في امره الا مثل ما عندنا فيه (4).
أجاب شيخنا أبو جعفر رحمه الله فقال هذا كله مبنى على أنه أسلم وهو ابن سبع
أو ثمان، ونحن قد بينا انه أسلم بالغا ابن خمس عشره سنه أو ابن أربع عشره سنة، على

(1) العثمانية: (المريب).
(2 - 2) في الأصول: (وفقد التمييز)، وأثبت ما في العثمانية.
(3) من العثمانية.
(4) العثمانية 6 - 8.
238

انا لو نزلنا على حكم الخصوم، وقلنا ما هو الأشهر والأكثر من الرواية، وهو انه
أسلم وهو ابن عشر لم يلزم ما قاله الجاحظ، لان ابن عشر قد يستجمع عقله، ويعلم
من مبادئ المعارف ما يستخرج به كثيرا من الأمور المعقولة، ومتى كان الصبي عاقلا
مميزا كان مكلفا بالعقليات، وإن كان تكليفه بالشرعيات موقوفا على حد آخر
وغاية أخرى، فليس بمنكر أن يكون علي عليه السلام وهو ابن عشر قد عقل
المعجزة، فلزمه الاقرار بالنبوة، وأسلم اسلام عالم عارف، لا اسلام مقلد تابع، وإن كان
ما نسقه الجاحظ وعدده من معرفه السحر والنجوم والفصل بينهما وبين النبوة، ومعرفة
ما يجوز في الحكمة مما لا يجوز، وما لا يحدثه الا الخالق، والفرق بينه وبين ما يقدر
عليه القادرون بالقدرة، ومعرفة التمويه والخديعة، والتلبيس والمماكرة، شرطا في صحة
الاسلام لما صح اسلام أبى بكر ولا عمر ولا غيرهما من العرب، وإنما التكليف
لهؤلاء بالجمل ومبادئ المعارف لا بدقائقها والغامض منها، وليس يفتقر الاسلام إلى
أن يكون المسلم قد فاتح الرجال وجرب الأمور ونازع الخصوم، وإنما يفتقر إلى صحة
الغريزة وكمال العقل وسلامة الفطرة، الا ترى أن طفلا لو نشأ في دار لم يعاشر الناس
بها، ولا فاتح الرجال، ولا نازع الخصوم، ثم كمل عقله، وحصلت العلوم البديهية
عنده، لكان مكلفا بالعقليات.
فاما توهمه أن عليا عليه السلام أسلم عن تربية الحاضن، وتلقين القيم، ورياضة
السائس، فلعمري أن محمدا صلى الله عليه وآله كان حاضنه وقيمه وسائسه، ولكن لم
يكن منقطعا عن أبيه أبى طالب ولا عن إخوته طالب، وعقيل وجعفر، ولا عن عمومته
وأهل بيته، وما زال مخالطا لهم، ممتزجا بهم، مع خدمته لمحمد صلى الله عليه وآله، فما باله
لم يمل إلى الشرك وعبادة الأصنام لمخالطته إخوته وأباه وعمومته وأهله، وهم كثير ومحمد
صلى الله عليه وآله واحد وأنت تعلم إن الصبي إذا كان له أهل ذوو كثرة، وفيهم واحد
239

يذهب إلى رأى مفرد، لا يوافقه عليه غيره منهم، فإنه إلى ذوي الكثرة أميل،
وعن ذي الرأي الشاذ المنفرد أبعد، وعلى إن عليا عليه السلام لم يولد في دار الاسلام،
وإنما ولد في دار الشرك وربى بين المشركين، وشاهد الأصنام، وعاين بعينه أهله ورهطه
يعبدونها، فلو كان في دار الاسلام لكان في القول مجال، ولقيل انه ولد بين المسلمين،
فإسلامه عن تلقين الظئر وعن سماع كلمة الاسلام ومشاهدة شعاره لأنه لم يسمع غيره، ولا خطر
بباله سواه، فلما لم يكن ولد كذلك، ثبت إن اسلامه اسلام المميز العارف بما دخل عليه.
ولولا أنه كذلك لما مدحه رسول الله صلى الله عليه وآله بذلك، ولا أرضى ابنته فاطمة
لما وجدت من تزويجه بقوله لها زوجتك أقدمهم سلما، ولا قرن إلى قوله (وأكثرهم
علما، وأعظمهم حلما)، والحلم العقل، وهذان الأمران غاية الفضل، فلو لا انه أسلم اسلام
عارف عالم مميز لما ضم اسلامه إلى العلم والحلم اللذين وصفه بهما وكيف يجوز أن
يمدحه بأمر لم يكن مثابا عليه، ولا معاقبا به لو تركه، ولو كان اسلامه عن تلقين وتربية
لما افتخر هو عليه السلام [به] (1) على رؤوس الاشهاد، ولا خطب على المنبر، وهو بين
عدو ومحارب، وخاذل منافق، فقال انا عبد الله وأخو رسوله وانا الصديق الأكبر
والفاروق الأعظم، صليت قبل الناس سبع سنين، وأسلمت قبل اسلام أبى بكر،
وآمنت قبل ايمانه فهل بلغكم أن أحدا من أهل ذلك العصر أنكر ذلك أو عابه أو
ادعاه لغيره، أو قال له إنما كنت طفلا أسلمت على (2) تربية محمد صلى الله عليه وآله
ذلك، وتلقينه إياك، كما يعلم الطفل الفارسية والتركية منذ يكون رضيعا فلا فخر له في
تعلم ذلك، وخصوصا في عصر قد حارب فيه أهل البصرة والشام والنهروان، وقد اعتورته
الأعداء وهجته الشعراء، فقال فيه النعمان بن بشير:

(1) تكملة من ا.
(2) (عن).
240

لقد طلب الخلافة من بعيد * وسارع في الضلال أبو تراب
معاوية الامام وأنت منها * على وتح بمنقطع السراب (1)
وقال فيه أيضا بعض الخوارج:
دسسنا له تحت الظلام ابن ملجم * جزاء إذا ما جاء نفسا كتابها
أبا حسن خذها على الرأس ضربة * بكف كريم، بعد موت ثوابها.
وقال عمران بن حطان يمدح قاتله:
يا ضربه من تقى ما أراد بها * الا ليبلغ من ذي العرش رضوانا (2)
انى لأذكره حينا فأحبسه * أوفى البرية عند الله ميزانا
فلو وجد هؤلاء سبيلا إلى دحض حجة فيما كان يفخر به من تقدم اسلامه، لبدأوا
بذلك، وتركوا ما لا معنى له.
وقد أوردنا ما مدحه الشعراء به من سبقه إلى الاسلام، فكيف لم يرد على هؤلاء
الذين مدحوه بالسبق شاعر واحد من أهل حربه ولقد قال في أمهات الأولاد قولا خالف
فيه عمر، فذكروه بذلك وعابوه، فكيف تركوا أن يعيبوه بما كان يفتخر به مما لا فخر
فيه عندهم، وعابوه بقوله في أمهات الأولاد.
ثم يقال له خبرنا عن عبد الله بن عمر، وقد أجازه النبي صلى الله عليه وآله يوم الخندق،
ولم يجزه يوم أحد، هل كان يميز ما ذكرته وهل كان يعلم فرق ما بين النبي والمتنبي،
ويفصل بين السحر والمعجزة، إلى غيره مما عددت وفصلت.
فان قال نعم، وتجاسر على ذلك، قيل له فعلي عليه السلام بذلك أولى من ابن
عمر، لأنه أذكى وأفطن بلا خلاف بين العقلاء، وأنى يشك في ذلك، وقد رويتم انه

(1) الوتح: القليل.
(2) الكامل 3: 169.
241

لم يميز بين الميزان والعود بعد طول السن، وكثرة التجارب، ولم يميز أيضا بين امام الرشد
وامام الغي، فإنه امتنع من بيعة علي عليه السلام. وطرق على الحجاج بابه ليلا ليبايع
لعبد الملك، كيلا يبيت تلك الليلة بلا امام، زعم. لأنه روى عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال
(من مات ولا امام له مات ميته جاهلية)، وحتى بلغ من احتقار الحجاج له واسترذاله
حاله، أن اخرج رجله من الفراش، فقال اصفق بيدك عليها، فذلك تمييزه بين الميزان
والعود، وهذا اختياره في الأئمة، وحال علي عليه السلام في ذكائه وفطنته، وتوقد حسه،
وصدق حدسه، معلومة مشهورة، فإذا جاز أن يصح اسلام ابن عمر، ويقال عنه انه
عرف تلك الأمور التي سردها الجاحظ ونسقها، وأظهر فصاحته وتشدقه فيها، فعلى بمعرفة
ذلك أحق، وبصحة اسلامه أولى.
وان قال لم يكن ابن عمر يعلم ويعرف ذلك، فقد أبطل اسلامه، وطعن في رسول
الله صلى الله عليه وآله حيث حكم بصحة اسلامه وأجازه يوم الخندق، لأنه عليه السلام كان
قال لا أجيز الا البالغ العاقل، ولذلك لم يجزه يوم أحد.
ثم يقال له إن ما نقوله في بلوغ علي عليه السلام الحد الذي يحسن فيه التكليف
العقلي بل يجب - وهو ابن عشر سنين - ليس بأعجب من مجئ الولد لستة أشهر، وقد صحح
ذلك أهل العلم، واستنبطوه من الكتاب، وإن كان خارجا من التعارف والتجارب
والعادة. وكذلك مجئ الولد لسنتين خارج أيضا عن التعارف والعادة، وقد صححه
الفقهاء والناس.
ويروى أن معاذا لما نهى عمر عن رجم الحامل تركها حتى ولدت غلاما قد نبتت
ثنيتاه، فقال أبوه ابني ورب الكعبة فثبت ذلك سنة يعمل بها الفقهاء، وقد وجدنا
العادة تقضى بان الجارية تحيض لاثنتي عشرة سنة، وانه أقل سن تحيض فيه المرأة، وقد
242

يكون في الأقل نساء يحضن لعشر ولتسع، وقد ذكر ذلك الفقهاء، وقد قال الشافعي في
اللعان لو جاءت المرأة بحمل وزوجها صبي له دون عشر سنين، لم يكن ولدا له، لان من
لم يبلغ عشر سنين من الصبيان لا يولد له، وإن كان له عشر سنين جاز أن يكون الولد له،
وكان بينهما لعان إذا لم يقر به.
وقال الفقهاء أيضا إن نساء تهامة يحضن لتسع سنين، لشدة الحر ببلادهن.
قال الجاحظ ولو لم يعرف باطل هذه الدعوى من آثر التقوى، وتحفظ من الهوى،
الا بترك علي عليه السلام ذكر ذلك لنفسه والاحتجاج به على خصمه، وقد نازع الرجال
وناوى الأكفاء، وجامع أهل الشورى، لكان كافيا، ومتى لم تصح لعلى عليه
السلام هذه الدعوى في أيامه، ولم يذكرها أهل عصره، فهي عن ولده أعجز،
ومنهم أضعف.
ولم ينقل أن عليا عليه السلام احتج بذلك في موقف، ولا ذكره في مجلس،
ولا قام به خطيبا، ولا أدلى به واثقا، لا سيما وقد رضيه الرسول صلى الله عليه وآله
عندكم مفزعا ومعلما، وجعله للناس إماما. ولا ادعى له أحد ذلك في عصره، كما
لم يدعه لنفسه، حتى يقول انسان واحد: الدليل على إمامته أن النبي صلى الله عليه وآله
دعاه إلى الاسلام أو كلفه التصديق قبل بلوغه، ليكون ذلك آية للناس في عصره،
وحجة له ولولده من بعده، فهذا كان أشد على طلحة والزبير وعائشة من كل ما ادعاه من
فضائله وسوابقه وذكر قرابته (1).
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله إن مثل الجاحظ مع فضله وعلمه، لا يخفى عليه كذب

(1) العثمانية 9 - 12، مع تصرف واختصار.
243

هذه الدعوى وفسادها، ولكنه يقول ما يقوله تعصبا وعنادا، وقد روى الناس كافة، افتخار
علي عليه السلام بالسبق إلى الاسلام، وان النبي صلى الله عليه وآله استنبئ يوم الاثنين،
وأسلم على يوم الثلاثاء، وانه كان يقول صليت قبل الناس سبع سنين، وانه ما زال يقول
انا أول من أسلم، ويفتخر بذلك، ويفتخر له به أولياؤه ومادحوه وشيعته في عصره وبعد
وفاته. والامر في ذلك أشهر من كل شهير، وقد قدمنا منه طرفا، وما علمنا أحدا من
الناس فيما خلا استخف باسلام علي عليه السلام، ولا تهاون به، ولا زعم أنه أسلم اسلام
حدث غرير، وطفل صغير. ومن العجب أن يكون مثل العباس وحمزة ينتظران أبا طالب
وفعله، ليصدرا عن رأيه، ثم يخالفه على ابنه لغير رغبة ولا رهبة، يؤثر القلة على الكثرة،
والذل على العزة، من غير علم ولا معرفة بالعاقبة.
وكيف ينكر الجاحظ والعثمانية أن رسول الله صلى الله عليه وآله دعاه إلى الاسلام
وكلفه التصديق.
وقد روى في الخبر الصحيح انه كلفه في مبدأ الدعوة قبل ظهور كلمة الاسلام وانتشارها بمكة
أن يصنع له طعاما، وان يدعو له بنى عبد المطلب، فصنع له الطعام، ودعاهم له، فخرجوا
ذلك اليوم، ولم ينذرهم صلى الله عليه وآله لكلمة قالها عمه أبو لهب، فكلفه في اليوم الثاني
أن يصنع مثل ذلك الطعام، وان يدعوهم ثانية، فصنعه، ودعاهم فأكلوا، ثم كلمهم صلى
الله عليه وآله فدعاهم إلى الدين، ودعاه معهم لأنه من بنى عبد المطلب، ثم ضمن لمن يوازره
منهم وينصره على قوله، أن يجعله أخاه في الدين، ووصيه بعد موته، وخليفته من بعده،
فأمسكوا كلهم وأجابه هو وحده، وقال انا أنصرك على ما جئت به، وأوازرك وأبايعك،
فقال لهم لما رأى منهم الخذلان، ومنه النصر، وشاهد منهم المعصية ومنه الطاعة، وعاين
منهم الاباء ومنه الإجابة هذا أخي ووصيي وخليفتي من بعدي، فقاموا يسخرون
ويضحكون، ويقولون لأبي طالب اطع ابنك، فقد امره عليك، فهل يكلف عمل
244

الطعام ودعاء القوم صغير مميز وغر غير عاقل وهل يؤتمن على سر النبوة طفل ابن خمس
سنين أو ابن سبع وهل يدعى في جملة الشيوخ والكهول الا عاقل لبيب وهل يضع
رسول الله صلى الله عليه وآله يده في يده، ويعطيه صفقة يمينه، بالاخوة والوصية والخلافة
الا وهو أهل لذلك، بالغ حد التكليف، محتمل لولاية الله وعداوة أعدائه وما بال
هذا الطفل لم يأنس بأقرانه، ولم يلصق بأشكاله، ولم ير مع الصبيان في ملاعبهم بعد
اسلامه، وهو كأحدهم في طبقته، كبعضهم في معرفته.
وكيف لم ينزع إليهم في ساعة من ساعاته، فيقال دعاه داعي الصبا وخاطر من
خواطر الدنيا، وحملته الغرة والحداثة على حضور لهوهم والدخول في حالهم، بل ما رأيناه
الا ماضيا على اسلامه، مصمما في امره، محققا لقوله بفعله، قد صدق اسلامه بعفافه وزهده،
ولصق برسول الله صلى الله عليه وآله من بين جميع من بحضرته، فهو أمينه وأليفه في دنياه
وآخرته، وقد قهر شهوته، وجاذب خواطره، صابرا على ذلك نفسه، لما يرجو من فوز العاقبة
وثواب الآخرة، وقد ذكر هو عليه السلام في كلامه وخطبة بدء حاله، وافتتاح امره،
حيث أسلم لما دعا رسول الله صلى الله عليه وآله الشجرة، فأقبلت تخد الأرض، فقالت
قريش ساحر خفيف السحر فقال علي عليه السلام يا رسول الله، انا أول من يؤمن
بك، آمنت بالله ورسوله وصدقتك فيما جئت به، وانا اشهد أن الشجرة فعلت ما فعلت
بأمر الله تصديقا لنبوتك، وبرهانا على صحة دعوتك، فهل يكون ايمان قط أصح
من هذا الايمان وأوثق عقدة، واحكم مرة ولكن حنق العثمانية وغيظهم، وعصبية
الجاحظ وانحرافه مما لا حيلة فيه. ثم لينظر المنصف وليدع الهوى جانبا، ليعلم نعمة الله على
علي عليه السلام بالاسلام حيث أسلم على الوضع الذي أسلم عليه، فإنه لولا الألطاف التي
خص بها، والهداية التي منحها، لما كان الا كبعض أقارب محمد صلى الله عليه وآله وأهله،
فقد كان ممازجا له كممازجته، ومخالطا له كمخالطة كثير من أهله ورهطه، ولم يستجب منهم
245

أحد له الا بعد حين. ومنهم من لم يستجب له أصلا، فان جعفرا عليه السلام كان
ملتصقا به، ولم يسلم حينئذ، وكان عتبة بن أبي لهب ابن عمه وصهره زوج ابنته ولم يصدقه،
بل كان شديدا عليه، وكان لخديجة بنون من غيره، ولم يسلموا حينئذ، وهم ربائبه (1) ومعه
في دار واحدة. وكان أبو طالب أباه في الحقيقة وكافله وناصره، والمحامي عنه، ومن
لولاه لم تقم له قائمة، ومع ذلك لم يسلم في أغلب الروايات، وكان العباس عمه وصنو أبيه،
وكالقرين له في الولادة والمنشأ والتربية، ولم يستجب له الا بعد حين طويل، وكان أبو لهب
عمه، وكدمه ولحمه، ولم يسلم، وكان شديدا عليه، فكيف ينسب اسلام علي عليه السلام
إلى الألف والتربية والقرابة واللحمة والتلقين والحضانة، والدار الجامعة، وطول العشرة
والانس والخلوة وقد كان كل ذلك حاصلا لهؤلاء أو لكثير منهم، ولم يهتد أحد منهم
إذ ذاك، بل كانوا بين [من] (2) جحد وكفر ومات على كفره، ومن أبطأ وتأخر،
وسبق بالاسلام وجاء سكيتا، وقد فاز بالمنزلة غيره.
وهل يدل تأمل حال علي عليه السلام مع الانصاف الا على أنه أسلم، لأنه شاهد
الاعلام، ورأي المعجزات، وشم ريح النبوة، ورأي نور الرسالة، وثبت اليقين في
قلبه بمعرفة وعلم ونظر صحيح، لا بتقليد ولا حمية، ولا رغبة ولا رهبة، الا فيما يتعلق
بأمور الآخرة.
قال الجاحظ فلو أن عليا عليه السلام كان بالغا حيث أسلم، لكان اسلام أبى بكر
وزيد بن حارثة وخباب بن الأرت أفضل من اسلامه، لان اسلام المقتضب (4) الذي
لم يعتد به ولم يعوده، ولم يمرن عليه، أفضل من اسلام الناشئ الذي ربى فيه، ونشأ وحبب

(1) الربائب: أولاد الزوج.
(2) من ا.
(3) السكيت: الفرس يجئ آخر الحلبة.
(4) المقتضب: غير المستعد للشئ.
246

إليه، وذلك لان صاحب التربية يبلغ حيث يبلغ وقد أسقط الفه عنه مؤنة الروية
والخاطر، وكفاه علاج القلب واضطراب النفس، وزيد وخباب وأبو بكر يعانون من
كلفة النظر ومؤنة التأمل ومشقة الانتقال من الدين الذي قد طال الفهم له ما هو غير خاف.
ولو كان على حيث أسلم بالغا مقتضبا كغيره ممن عددنا، كان اسلامهم أفضل من
اسلامه، لان من أسلم وهو يعلم أن له ظهرا كأبي طالب، وردءا كبني هاشم، وموضعا
في بنى عبد المطلب، ليس كالحليف والمولى، والتابع والعسيف (1)، وكالرجل من عرض
قريش (2). أو لست تعلم أن قريشا خاصة وأهل مكة عامة لم يقدروا على أذى النبي صلى
الله عليه وآله، ما كان أبو طالب حيا وأيضا فان أولئك اجتمع عليهم مع فراق الألف
مشقة الخواطر، وعلي عليه السلام كان بحضرة رسول الله صلى الله عليه وآله، يشاهد
الاعلام في كل وقت، ويحضر منزل الوحي، فالبراهين له أشد انكشافا، والخواطر
على قلبه أقل اعتلاجا، وعلى قدر الكلفة والمشقة يعظم الفضل ويكثر الاجر (3).
قال أبو جعفر رحمه الله ينبغي أن ينظر أهل الانصاف هذا الفصل، ويقفوا على قول
الجاحظ والأصم في نصرة العثمانية واجتهادهم في القصد إلى فضائل هذا الرجل، وتهجينها،
فمرة يبطلان معناها، ومرة يتوصلان إلى حط قدرها، فلينظر في كل باب اعترضا فيه،
أين بلغت حيلتهما، وما صنعا في احتيالهما في قصصهما وسجعهما أليس إذا تأملتها علمت أنها
ألفاظ ملفقة بلا معنى، وانها عليها شجى وبلاء والا فما عسى أن تبلغ حيلة
الحاسد ويغني كيد الكائد الشانئ (4) لمن قد جل قدره عن النقص، وأضاءت فضائله
إضاءة الشمس وأين قول الجاحظ، من دلائل السماء، وبراهين الأنبياء، وقد علم

(1) العسيف: الأجير.
(2) من عرض قريش اي من دهائهم.
(3) العثمانية 22 - 24. مع تصرف واختصار كبير.
(4) ب (الثاني)، تحريف وصوابه من ا.
247

الصغير والكبير، والعالم والجاهل، ممن بلغه ذكر علي عليه السلام، وعلم مبعث
النبي صلى الله عليه وآله أن عليا عليه السلام لم يولد في دار الاسلام، ولا غذي في حجر
الايمان، وإنما استضافه رسول الله صلى الله عليه وآله إلى نفسه سنة القحط والمجاعة،
وعمره يومئذ ثماني سنين، فمكث معه سبع سنين حتى اتاه جبرئيل بالرسالة، فدعاه وهو
بالغ كامل العقل إلى الاسلام، فأسلم بعد مشاهدة المعجزة، وبعد اعمال النظر والفكرة،
وإن كان قد ورد في كلامه انه صلى سبع سنين قبل الناس كلهم، فإنما يعنى ما بين
الثمان والخمس عشرة، ولم يكن حينئذ دعوة ولا رسالة، ولا ادعاء نبوة، وإنما كان رسول الله
صلى الله عليه وآله يتعبد على ملة إبراهيم ودين الحنيفية، ويتحنث ويجانب الناس، ويعتزل
ويطلب الخلوة، وينقطع في جبل حراء، وكان علي عليه السلام معه كالتابع والتلميذ، فلما
بلغ الحلم، وجاءت النبي صلى الله عليه وآله الملائكة، وبشرته بالرسالة، دعاه فأجابه
عن نظر ومعرفة بالأعلام المعجزة، فكيف يقول الجاحظ إن اسلامه لم يكن مقتضبا.
وإن كان اسلامه ينقص عن اسلام غيره في الفضيلة لما كان يمرن عليه من التعبد مع
رسول الله صلى الله عليه وآله قبل الدعوة، لتكونن طاعة كثير من المكلفين أفضل
من طاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وأمثاله من المعصومين، لان العصمة عند أهل
العدل لطف يمنع من اختص به من ارتكاب القبيح، فمن اختص بذلك اللطف كانت
الطاعة عليه أسهل، فوجب أن يكون ثوابه أنقص من ثواب من أطاع مع تلك الألطاف.
وكيف يقول الجاحظ إن اسلامه ناقص عن اسلام غيره، وقد جاء في الخبر انه أسلم يوم
الثلاثاء، واستنبئ النبي صلى الله عليه وآله يوم الاثنين، فمن هذه حالة لم تكثر حجج الرسالة
على سمعه، ولا تواترت اعلام النبوة على مشاهدته، ولا تطاول الوقت عليه لتخف محنته،
ويسقط ثقل تكليفه، بل بان فضله، وظهر حسن اختياره لنفسه، إذ أسلم في حال بلوغه،
وعانى نوازع طبعه، ولم يؤخر ذلك بعد سماعه.
248

وقد غمر الجاحظ في كتابه هذا أن أبا بكر كان قبل اسلامه مذكورا، ورئيسا
معروفا، يجتمع إليه كثير من أهل مكة فينشدون الاشعار، ويتذاكرون الاخبار: ويشربون
الخمر، وقد كان سمع دلائل النبوة وحجج الرسل، وسافر إلى البلدان، ووصلت إليه
الاخبار، وعرف دعوى الكهنة وحيل السحرة، ومن كان كذلك كان انكشاف
الأمور له أظهر والاسلام عليه أسهل، والخواطر على قلبه أقل اعتلاجا، وكل ذلك
عون لأبي بكر على الاسلام، ومسهل إليه سبيله، ولذلك لما قال النبي صلى الله عليه
وآله (اتيت بيت المقدس) سأله أبو بكر عن المسجد ومواضعه، فصدقه وبان له امره،
وخفت مؤنته لما تقدم من معرفته بالبيت، فخرج إذا اسلام أبى بكر على قول الجاحظ
من معنى المقتضب وفى ذلك رويتم عنه صلى الله عليه وآله أنه قال ما دعوت أحدا
إلى الاسلام الا وكان له تردد ونبوة، الا ما كان من أبى بكر، فإنه لم يتلعثم حتى هجم
به اليقين إلى المعرفة والاسلام، فأين هذا واسلام من خلى وعقله، والجئ إلى نظره،
مع صغر سنه، واعتلاج الخواطر على قلبه ونشأته، في ضد ما دخل فيه، والغالب على
أمثاله وأقرانه حب اللعب واللهو فلجا إلى ما ظهر له من دلائل الدعوة، ولم يتأخر
اسلامه فيلزمه التقصير بالمعصية، فقهر شهوته، وغالب خواطره وخرج من عادته وما كان
غذي به لصحة نظره، ولطافة فكره وغامض فهمه، فعظم استنباطه، ورجح فضله،
وشرف قدر اسلامه، ولم يأخذ من الدنيا بنصيب، ولا تنعم فيها بنعيم حدثا ولا كبيرا،
وحمى نفسه عن الهوى، وكسر شره حداثته بالتقوى، واشتغل بهم الدين عن نعيم
الدنيا، واشغل هم الآخرة قلبه، ووجه إليه رغبته، فإسلامه هو السبيل الذي لم يسلم
عليه أحد غيره، وما سبيله في ذلك الا كسبيل الأنبياء، ليعلم أن منزلته من النبي
صلى الله عليه وآله كمنزلة هارون من موسى، وانه وإن لم يكن نبيا، فقد كان في سبيل
الأنبياء سالكا، ولمنهاجهم متبعا، وكانت حاله كحال إبراهيم عليه السلام، فان
249

أهل العلم ذكروا انه لما كان صغيرا جعلته أمه في سرب لم يطلع عليه أحد، فلما نشأ
ودرج وعقل قال لامه من ربى قالت أبوك، قال فمن رب أبى فزبرته ونهرته،
إلى أن طلع من شق السرب، فرأى كوكبا، فقال هذا ربى فلما أفل قال لا أحب
الآفلين، فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربى، فلما أفل قال لئن لم يهدني ربى لأكونن
من القوم الضالين، فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربى هذا أكبر، فلما أفلت قال
يا قوم انى برئ مما تشركون، انى وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا،
وما انا من المشركين، وفى ذلك يقول الله جل ثناؤه (وكذلك نرى إبراهيم ملكوت
السماوات والأرض وليكون من الموقنين) (1) وعلى هذا كان اسلام الصديق
الأكبر عليه السلام، لسنا نقول إنه كان مساويا له في الفضيلة، ولكن كان مقتديا بطريقه
على ما قال الله تعالى (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين
آمنوا والله ولى المؤمنين) (2). واما اعتلال الجاحظ بان له ظهرا كأبي طالب وردءا
كبني هاشم، فإنه يوجب عليه أن تكون محنة أبى بكر وبلال ثوابهما وفضل اسلامهما
أعظم مما لرسول الله صلى الله عليه وآله، لان أبا طالب ظهره وبنى هاشم ردؤه، وحسبك
جهلا من معاند لم يستطع حط قدر علي عليه السلام الا بحطه من قدر رسول الله صلى الله
عليه وآله ولم يكن أحد أشد على رسول الله صلى الله عليه وآله من قراباته، الأدنى منهم
فالأدنى، كأبي لهب عمه وامرأة أبى لهب، وهي أم جميل بنت حرب بن أمية وإحدى أولاد
عبد مناف، ثم ما كان من عقبة بن أبي معيط، وهو ابن عمه، وما كان من النضر بن الحارث،
وهو من بنى عبد الدار بن قصي، وهو ابن عمه أيضا، وغير هؤلاء ممن يطول تعداده، وكلهم
كان يطرح الأذى في طريقه، وينقل اخباره، ويرميه بالحجارة، ويرمى الكرش

(1) سورة الأنعام 75.
(2) سورة آل عمران 68.
250

والفرث عليه، وكانوا يؤذون عليا عليه السلام كأذاه، ويجتهدون في غمه ويستهزئون به،
وما كان لأبي بكر قرابة تؤذيه كقرابة على ولما كان بين على، وبين النبي صلى الله عليه
وآله من الاتحاد والألف والاتفاق، أحجم المنافقون بالمدينة عن أذى رسول الله صلى الله
عليه وآله خوفا من سيفه، ولأنه صاحب الدار والجيش، وأمره مطاع، وقوله نافذ،
فخافوا على دمائهم منه، فاتقوه، وأمسكوا عن اظهار بغضه، وأظهروا بغض علي عليه
السلام وشنآنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله في حقه في الخبر الذي روى في جميع
الصحاح (لا يحبك الا مؤمن، ولا يبغضك الا منافق) وقال كثير من اعلام الصحابة -
كما روى في الخبر المشهور بين المحدثين (ما كنا نعرف المنافقين الا ببغض على
ابن أبي طالب) وأين كان ظهر أبى طالب عن جعفر، وقد أزعجه الأذى عن وطنه، حتى
هاجر إلى بلاد الحبشة وركب البحر، أيتوهم الجاحظ أن أبا طالب نصر عليا،
وخذل جعفرا.
قال الجاحظ ولأبي بكر فضيلة في اسلامه انه كان قبل اسلامه كثير الصديق، عريض
الجاه، ذا يسار وغنى، يعظم لماله، ويستفاد من رأيه، فخرج من عز الغنى وكثرة الصديق
إلى ذل الفاقة وعجز الوحدة، وهذا غير اسلام من لا حراك به، ولا عز له، تابع غير
متبوع، لان من أشد ما يبتلى الكريم به، السب بعد التحية، والضرب بعد الهيبة،
والعسر بعد اليسر. ثم كان أبو بكر دعية من دعاة الرسول، وكان يتلوه في جميع أحواله،
فكان الخوف إليه أشد، والمكروه نحوه أسرع، وكان ممن تحسن مطالبته، ولا يستحيى
من ادراك الثار عنده، لنباهته، وبعد ذكره، والحدث الصغير يزدري ويحتقر لصغر سنه
وخمول ذكره (1).

(1) العثمانية 25، 26، مع تصرف واختصار.
251

قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله اما ما ذكر من كثرة المال والصديق، واستفاضة
الذكر وبعد الصيت وكبر السن، فكله عليه لا له، وذلك لأنه قد علم أن من سيرة
العرب وأخلاقها حفظ الصديق والوفاء بالذمام والتهيب لذي الثروة واحترام ذي السن
العالية، وفى كل هذا ظهر شديد، وسند وثقة يعتمد عليها عند المحن، ولذلك كان المرء
منهم إذا تمكن من صديقه أبقى عليه، واستحيا منه، وكان ذلك سببا لنجاته والعفو عنه،
على أن علي بن أبي طالب عليه السلام إن لم يكن شهره سنه، فقد شهره نسبه وموضعه
من بني هاشم، وإن لم يستفض ذكره بلقاء الرجال، وكثرة الاسفار استفاض بأبي طالب،
فأنتم تعلمون انه ليس تيم في بعد الصيت كهاشم، ولا أبو قحافة كأبي طالب، وعلى حسب
ذلك يعلو ذكر الفتى على ذي السن ويبعد صيت الحدث على الشيخ، ومعلوم أيضا
أن عليا على أعناق المشركين أثقل، إذ كان هاشميا، وإن كان أبوه حامى رسول الله صلى
الله عليه وآله، والمانع لحوزته، وعلى هو الذي فتح على العرب باب الخلاف، واستهان
بهم، بما أظهر من الاسلام والصلاة، وخالف رهطه وعشيرته، وأطاع ابن عمه فيما
لم يعرف من قبل، ولا عهد له نظير، كما قال تعالى (لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم
غافلون) (1) ثم كان بعد صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله، ومشتكى حزنه،
وأنيسه في خلوته، وجليسه وأليفه في أيامه كلها، وكل هذا يوجب التحريض عليه،
ومعاداة العرب له، ثم أنتم معاشر العثمانية، تثبتون لأبي بكر فضيلة بصحبة الرسول
صلى الله عليه وآله من مكة إلى يثرب، ودخوله معه في الغار، فقلتم مرتبة شريفة وحالة
جليلة، إذ كان شريكه في الهجرة، وأنيسه في الوحشة، فأين هذه من صحبة علي عليه
السلام له في خلوته، وحيث لا يجد أنيسا غيره، ليله ونهاره، أيام مقامه بمكة يعبد الله

(1) سورة يس 6.
252

معه سرا، ويتكلف له الحاجة جهرا، ويخدمه كالعبد يخدم مولاه، ويشفق عليه
ويحوطه، وكالولد يبر والده، ويعطف عليه ولما سئلت عائشة من كان أحب الناس
إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، قالت اما من الرجال فعلى، واما من النساء
ففاطمة.
قال الجاحظ وكان أبو بكر من المفتونين المعذبين بمكة قبل الهجرة، فضربه نوفل
ابن خويلد المعروف بابن العدوية مرتين، حتى أدماه وشده مع طلحة بن عبيد الله في
قرن، وجعلهما في الهاجرة عمير بن عثمان بن مرة بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة،
ولذلك كانا يدعيان القرينين، ولو لم يكن له غير ذلك لكان لحاقه عسيرا، وبلوغ
منزلته شديدا، ولو كان يوما واحدا لكان عظيما، وعلي بن أبي طالب رافه وادع،
ليس بمطلوب ولا طالب، وليس انه لم يكن في طبعه الشهامة والنجدة، وفى غريزته
البسالة في الشجاعة، لكنه لم يكن قد تمت أداته، ولا استكملت آلته، ورجال الطلب
وأصحاب الثار يغمصون ذا الحداثة ويزدرون بذي الصبا والغرارة، إلى أن يلحق
بالرجال، ويخرج من طبع الأطفال (1).
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله اما القول فممكن والدعوى سهلة، سيما على مثل
الجاحظ، فإنه ليس على لسانه من دينه وعقله رقيب، وهو من دعوى الباطل غير بعيد،
فمعناه نزر، وقوله لغو، ومطلبه سجع، وكلامه لعب ولهو، يقول الشئ وخلافه،
ويحسن القول وضده، ليس له من نفسه واعظ ولا لدعواه حد قائم، والا فكيف
تجاسر على القول بان عليا حينئذ لم يكن مطلوبا ولا طالبا، وقد بينا بالأخبار الصحيحة،
والحديث المرفوع المسند انه كان يوم أسلم بالغا كاملا منابذا بلسانه وقلبه لمشركي قريش،

(1) العثمانية 27، 28.
253

ثقيلا على قلوبهم، وهو المخصوص دون أبى بكر بالحصار في الشعب، وصاحب الخلوات
برسول الله صلى الله عليه وآله في تلك الظلمات، المتجرع لغصص المرار من أبى لهب
وأبى جهل وغيرهما، والمصطلي لكل مكروه والشريك لنبيه في كل أذى، قد نهض
بالحمل الثقيل، وبان بالامر الجليل، ومن الذي كان يخرج ليلا من الشعب على هيئة
السارق، يخفى نفسه، ويضائل شخصه، حتى يأتي إلى من يبعثه إليه أبو طالب من
كبراء قريش، كمطعم بن عدي وغيره، فيحمل لبني هاشم على ظهره أعدال الدقيق
والقمح، وهو على أشد خوف من أعدائهم، كأبي جهل وغيره، لو ظفروا به لأراقوا
دمه. أعلي كان يفعل دلك أيام الحصار في الشعب، أم أبو بكر وقد ذكر هو
عليه السلام حاله يومئذ، فقال في خطبة له مشهورة فتعاقدوا الا يعاملونا ولا يناكحونا،
وأوقدت الحرب علينا نيرانها، واضطرونا إلى جبل وعر، مؤمننا يرجو الثواب،
وكافرنا يحامى عن الأصل، ولقد كانت القبائل كلها اجتمعت عليهم، وقطعوا عنهم
المارة والميرة، فكانوا يتوقعون الموت جوعا، صباحا ومساء، لا يرون وجها ولا
فرجا، قد اضمحل عزمهم، وانقطع رجاؤهم، فمن الذي خلص إليه مكروه تلك المحن
بعد محمد صلى الله عليه وآله الا علي عليه السلام وحده وما عسى أن يقول الواصف
والمطنب في هذه الفضيلة، من تقصى معانيها، وبلوغ غاية كنهها، وفضيلة الصابر
عندها ودامت هذه المحنة عليهم ثلاث سنين، حتى انفرجت عنهم بقصة الصحيفة، د
والقصة مشهورة.
وكيف يستحسن الجاحظ لنفسه أن يقول في علي عليه السلام انه قبل الهجرة
كان وادعا رافها لم يكن مطلوبا ولا طالبا، وهو صاحب الفراش الذي فدى رسول الله
صلى الله عليه وآله بنفسه، ووقاه بمهجته، واحتمل السيوف ورضح الحجارة دونه
وهل ينتهى الواصف وان أطنب، والمادح وان أسهب، إلى الإبانة عن مقدار هذه
الفضيلة، والايضاح بمزية هذه الخصيصة.
254

فاما قوله أن أبا بكر عذب بمكة، فانا لا نعلم أن العذاب كان واقعا الا بعبد
أو عسيف (1)، أو لمن لا عشيرة له تمنعه، فأنتم في أبى بكر بين أمرين تارة تجعلونه
دخيلا ساقطا، وهجينا رذيلا مستضعفا ذليلا، وتارة تجعلونه رئيسا متبعا، وكبيرا مطاعا،
فاعتمدوا على أحد القولين لنكلمكم بحسب ما تختارونه لأنفسكم. ولو كان الفضل في
الفتنة والعذاب، لكان عمار وخباب وبلال وكل معذب بمكة أفضل من أبى بكر،
لأنهم كانوا من العذاب في أكثر مما كان فيه، ونزل فيهم من القرآن ما لم ينزل فيه،
كقوله تعالى (والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا) (2) قالوا نزلت في
خباب وبلال، ونزل في عمار قوله (الا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان) (3)
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يمر على عمار وأبيه وأمه، وهم يعذبون، يعذبهم
بنو مخزوم لأنهم كانوا حلفاءهم، فيقول (صبرا آل ياسر فان موعدكم الجنة)، وكان
بلال يقلب على الرمضاء، وهو يقول أحد أحد وما سمعنا لأبي بكر في شئ من ذلك
ذكرا، ولقد كان لعلى عليه السلام عنده يد غراء، إن صح ما رويتموه في تعذيبه،
لأنه قتل نوفل بن خويلد وعمير بن عثمان يوم بدر، ضرب نوفلا فقطع ساقه، فقال
أذكرك الله والرحم فقال قد قطع الله كل رحم وصهر الا من كان تابعا لمحمد، ثم
ضربه أخرى ففاضت نفسه، وصمد لعمير بن عثمان التميمي، فوجده يروم الهرب، وقد
ارتج عليه المسلك، فضربه على شراسيف صدره، فصار نصفه الأعلى بين رجليه، وليس
أن أبا بكر لم يطلب بثاره منهما، ويجتهد، لكنه لم يقدر على أن يفعل فعل علي عليه
السلام، فبان علي عليه السلام بفعله دونه
قال الجاحظ ولأبي بكر مراتب لا يشركه فيها على ولا غيره، وذلك قبل الهجرة

(1) العسيف: الأجير.
(2) سورة النحل 41.
(3) سورة النحل 106.
255

فقد علم الناس أن عليا عليه السلام إنما ظهر فضله، وانتشر صيته، وامتحن ولقى المشاق
منذ يوم بدر، وانه إنما قاتل في الزمان الذي استوفى فيه أهل الاسلام، وأهل الشرك،
وطمعوا في أن يكون الحرب بينهم سجالا، وأعلمهم الله تعالى أن العاقبة للمتقين،
وأبو بكر كان قبل الهجرة معذبا ومطرودا مشردا، في الزمان الذي ليس بالاسلام وأهله
نهوض ولا حركة، ولذلك قال أبو بكر في خلافته طوبى لمن مات في فأفأة الاسلام
يقول في ضعفه (1).
قال أبو جعفر رحمه الله لا أشك أن الباطل خان أبا عثمان، والخطأ أقعده، والخذلان
أصاره إلى الحيرة، فما علم وعرف حتى قال ما قال، فزعم أن عليا عليه السلام قبل الهجرة لم يمتحن
ولم يكابد المشاق، وانه إنما قاسى مشاق التكليف ومحن الابتلاء منذ يوم بدر، ونسي
الحصار في الشعب، وما منى به منه، وأبو بكر وادع رافه، يأكل ما يريد، ويجلس مع
من يحب، مخلى سربه، طيبة نفسه، ساكنا قلبه، وعلى يقاسي الغمرات، ويكابد
الأهوال، ويجوع ويظمأ، ويتوقع القتل صباحا ومساء، لأنه كان هو المتوصل المحتال في
احضار قوت زهيد من شيوخ قريش وعقلائها سرا، ليقيم به رمق رسول الله صلى الله عليه
وآله وبنى هاشم، وهم في الحصار، ولا يأمن في كل وقت مفاجأة أعداء رسول الله صلى الله
عليه وآله له بالقتل، كأبي جهل بن هشام وعقبه بن أبي معيط، والوليد بن المغيرة، وعتبة
ابن ربيعة وغيرهم من فراعنة قريش وجبابرتها، ولقد كان يجيع نفسه ويطعم رسول الله
صلى الله عليه وآله زاده، ويظمئ نفسه ويسقيه ماءه وهو كان المعلل له إذا مرض،
والمؤنس له إذا استوحش، وأبو بكر بنجوة عن ذلك لا يمسه مما يمسهم ألم، ولم يلحقه مما يلحقهم
مشقة، ولا يعلم بشئ من اخبارهم وأحوالهم، الا على سبيل الاجمال دون التفصيل، ثلاث
سنين، محرمة معاملتهم ومناكحتهم ومجالستهم، محبوسين محصورين ممنوعين من الخروج

(1) العثمانية 39، 40 مع تصرف واختصار.
256

والتصرف في أنفسهم، فكيف أهمل الجاحظ هذه الفضيلة، ونسي هذه الخصيصة،
ولا نظير لها ولكن لا يبالي الجاحظ بعد أن يسوغ له لفظه، وتنسق له خطابته، ما ضيع
من المعنى، ورجع عليه من الخطا.
فاما قوله واعلموا أن العاقبة للمتقين، ففيه إشارة إلى معنى غامض قصده الجاحظ -
يعنى أن لا فضيلة لعلى عليه السلام في الجهاد، لان الرسول كان أعلمه انه منصور، وان
العاقبة له - وهذا من دسائس الجاحظ وهمزاته ولمزاته، وليس بحق ما قاله، لان رسول
الله صلى الله عليه وآله اعلم أصحابه جملة أن العاقبة لهم، ولم يعلم واحدا منهم بعينه انه لا يقتل،
لا عليا ولا غيره، وان صح انه كان أعلمه انه لا يقتل، فلم يعلمه انه لا يقطع عضو من
أعضائه، ولم يعلمه انه لا يمسه ألم جراح في جسده، ولم يعلمه انه لا يناله الضرب الشديد.
وعلى أن رسول الله صلى الله عليه وآله قد اعلم أصحابه قبل يوم بدر - وهو يومئذ بمكة -
أن العاقبة لهم، كما اعلم أصحابه بعد الهجرة ذلك، فإن لم يكن لعلى والمجاهدين فضيلة في
الجهاد بعد الهجرة لإعلامه إياهم ذلك، فلا فضيلة لأبي بكر وغيره في احتمال المشاق قبل
الهجرة لإعلامه إياهم بذلك، فقد جاء في الخبر انه وعد أبا بكر قبل الهجرة بالنصر، وانه
قال له أرسلت إلى هؤلاء بالذبح، وان الله تعالى سيغنمنا أموالهم، ويملكنا ديارهم،
فالقول في الموضعين متساو ومتفق.
قال الجاحظ وأن بين المحنة في الدهر الذي صار فيه أصحاب النبي صلى الله عليه
وآله مقرنين لأهل مكة ومشركي قريش، ومعهم أهل يثرب أصحاب النخيل والآطام و
الشجاعة والصبر والمواساة، والايثار والمحاماة والعدد الدثر، والفعل الجزل، وبين الدهر
الذي كانوا فيه بمكة يفتنون ويشتمون، ويضربون ويشردون، ويجوعون ويعطشون،
257

مقهورين لا حراك بهم، وأذلاء لا عز لهم، وفقراء لا مال عندهم، ومستخفين لا يمكنهم
اظهار دعوتهم، لفرقا واضحا، ولقد كانوا في حال أحوجت لوطا وهو نبي إلى أن قال
(لو أن لي بكم قوه أو آوى إلى ركن شديد) (1) وقال النبي صلى الله عليه وآله
(عجبت من أخي لوط، كيف قال أو آوى إلى ركن شديد، وهو يأوي إلى الله تعالى)
ثم لم يكن ذلك يوما ولا يومين ولا شهرا ولا شهرين، ولا عاما ولا عامين، ولكن
السنين بعد السنين وكان أغلظ القوم وأشدهم محنة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله
أبو بكر، لأنه أقام بمكة ما أقام رسول الله صلى الله عليه وآله ثلاث عشرة سنة، وهو أوسط
ما قالوا في مقام النبي صلى الله عليه وآله (2).
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله ما نرى الجاحظ احتج لكون أبى بكر أغلظهم
وأشدهم محنة، الا بقوله لأنه أقام بمكة مدة مقام الرسول صلى الله عليه وآله بها، وهذه
الحجة لا تخص أبا بكر وحده، لان عليا عليه السلام أقام معه هذه المدة، وكذلك طلحة
وزيد وعبد الرحمن وبلال وخباب وغيرهم، وقد كان الواجب عليه أن يخص أبا بكر
وحده بحجة تدل على أنه كان أغلظ الجماعة، وأشدهم محنة بعد رسول الله صلى الله
عليه وآله، فالاحتجاج في نفسه فاسد.
ثم يقال له ما بالك أهملت أمر مبيت علي عليه السلام على الفراش بمكة ليلة
الهجرة هل نسيته أم تناسيته فإنها المحنة العظيمة والفضيلة الشريفة التي متى امتحنها
الناظر، وأجال فكره فيها، رأى تحتها فضائل متفرقة ومناقب متغايرة، وذلك أنه لما استقر
الخبر عند المشركين أن رسول الله صلى الله عليه وآله مجمع على الخروج من بينهم للهجرة

(1) سورة هود 80.
(2) العثمانية 41.
258

إلى غيرهم قصدوا إلى معاجلته، وتعاقدوا على أن يبيتوه في فراشه، وان يضربوه بأسياف
كثيرة، بيد كل صاحب قبيلة من قريش سيف منها، ليضيع دمه بين الشعوب، ويتفرق
بين القبائل، ولا يطلب بنو هاشم بدمه قبيلة واحدة بعينها من بطون قريش، وتحالفوا
على تلك الليلة، واجتمعوا عليها، فلما علم رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك من أمرهم،
دعا أوثق الناس عنده، أمثلهم في نفسه، وأبذلهم في ذات الاله لمهجته، وأسرعهم
أجابه إلى طاعته، فقال له إن قريشا قد تحالفت على أن تبيتني هذه الليلة، فامض إلى
فراشي، ونم في مضجعي، والتف في بردى الحضرمي ليروا انى لم اخرج، وإني خارج
إن شاء الله. فمنعه أولا من التحرز وإعمال الحيلة، وصده عن الاستظهار لنفسه بنوع
من أنواع المكايد والجهات التي يحتاط بها الناس لنفوسهم، والجاه إلى أن يعرض نفسه
لظبات السيوف الشحيذة من أيدي أرباب الحنق والغيظة، فأجاب إلى ذلك سامعا
مطيعا طيبة بها نفسه، ونام على فراشه صابرا محتسبا، واقيا له بمهجته، ينتظر القتل، ولا نعلم
فوق بذل النفس درجه يلتمسها صابر، ولا يبلغها طالب، (والجود بالنفس أقصى غاية
الجود)، ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وآله علم أنه أهل لذلك، لما أهله، ولو كان
عنده نقص في صبره أو في شجاعته أو في مناصحته لابن عمه، واختير لذلك، لكان من
اختاره صلى الله عليه وآله منقوضا في رأيه، مضرا في اختياره، ولا يجوز أن يقول هذا
أحد من أهل الاسلام، وكلهم مجمعون على أن الرسول صلى الله عليه وآله عمل الصواب،
وأحسن في الاختيار.
ثم في ذلك - إذا تأمله المتأمل - وجوه من الفضل:
منها انه وإن كان عنده في موضع الثقة، فإنه غير مأمون عليه الا يضبط السر
فيفسد التدبير بافشائه تلك الليلة إلى من يلقيه إلى الأعداء.
ومنها انه وإن كان ضابطا للسر وثقه عند من اختاره، فغير مأمون عليه الجبن عند
259

مفاجأة المكروه، ومباشرة الأهوال، فيفر من الفراش، فيفطن لموضع الحيلة، ويطلب
رسول الله صلى الله عليه وآله فيظفر به.
ومنها انه وإن كان ضابطا للسر، شجاعا نجدا، فلعله غير محتمل للمبيت على
الفراش، لان هذا أمر خارج عن الشجاعة إن كان قد قامه مقام المكتوف الممنوع،
بل هو أشد مشقة من المكتوف الممنوع، لان المكتوف الممنوع يعلم من نفسه انه
لا سبيل له إلى الهرب، وهذا يجد السبيل إلى الهرب والى الدفع عن نفسه، ولا يهرب
ولا يدافع.
ومنها انه وإن كان ثقة عنده، ضابطا للسر، شجاعا محتملا للمبيت على الفراش،
فإنه غير مأمون أن يذهب صبره عند العقوبة الواقعة، والعذاب النازل بساحته، حتى يبوح
بما عنده، ويصير إلى الاقرار بما يعلمه، وهو انه اخذ طريق كذا فيطلب فيؤخذ، فلهذا
قال علماء المسلمين إن فضيلة علي عليه السلام تلك الليلة لا نعلم أحدا من البشر نال مثلها،
الا ما كان من إسحاق وإبراهيم عند استسلامه للذبح، ولولا أن الأنبياء لا يفضلهم غيرهم
لقلنا إن محنة على أعظم، لأنه قد روى أن إسحاق تلكأ لما امره أن يضطجع، وبكى
على نفسه، وقد كان أبوه يعلم أن عنده في ذلك وقفه، ولذلك قال له (فانظر ماذا
ترى) (1) وحال علي عليه السلام بخلاف ذلك، لأنه ما تلكأ ولا تتعتع، ولا تغير لونه
ولا اضطربت أعضاؤه، ولقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وآله يشيرون عليه بالرأي
المخالف لما كان أمر به، وتقدم فيه فيتركه ويعمل بما أشاروا به، كما جرى يوم الخندق في
مصانعته الأحزاب بثلث تمر المدينة، فإنهم أشاروا عليه بترك ذلك فتركه، وهذه
كانت قاعدته معهم، وعادته بينهم، وقد كان لعلى عليه السلام أن يعتل بعلة، وان يقف
ويقول يا رسول الله، أكون معك أحميك من العدو، وأذب بسيفي عنك، فلست

(1) سورة الصافات 102.
260

مستغنيا في خروجك عن مثلي، ونجعل عبدا من عبيدنا في فراشك، قائما مقامك، يتوهم
القوم - برؤيته نائما في بردك - انك لم تخرج، ولم تفارق مركزك، فلم يقل ذلك،
ولا تحبس ولا توقف، ولا تلعثم، وذلك لعلم كل واحد منهما صلى الله عليه وآله أن أحدا
لا يصبر على ثقل هذه المحنة، ولا يتورط هذه الهلكة، الا من خصه الله تعالى بالصبر على
مشقتها، والفوز بفضيلتها، وله من جنس ذلك أفعال كثيرة، كيوم دعا عمرو بن عبد ود
المسلمين إلى المبارزة، فأحجم الناس كلهم عنه، لما علموا من بأسه وشدته، ثم كرر النداء،
فقام علي عليه السلام، فقال انا أبرز إليه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله
انه عمرو قال نعم، وانا على فأمره بالخروج إليه، فلما خرج قال صلى الله عليه وآله
(برز الايمان كله إلى الشرك كله)، وكيوم أحد حيث حمى رسول الله صلى الله عليه
وآله من ابطال قريش وهم يقصدون قتله، فقتلهم دونه، حتى قال جبرئيل عليه السلام
(يا محمد إن هذه هي المواساة) فقال (انه منى وانا منه)، فقال جبريل
(وانا منكما) ولو عددنا أيامه ومقاماته التي شرى فيها نفسه لله تعالى لأطلنا وأسهبنا.
قال الجاحظ فان احتج محتج لعلى عليه السلام بالمبيت على الفراش، فبين الغار
والفراش فرق واضح، لان الغار وصحبة أبى بكر للنبي صلى الله عليه وآله قد نطق به القرآن،
فصار كالصلاة والزكاة وغيرهما مما نطق به الكتاب، وامر علي عليه السلام ونومه على
الفراش، وإن كان ثابتا صحيحا، الا انه لم يذكر في القرآن، وإنما جاء مجئ الروايات
والسير، وهذا لا يوازن هذا ولا يكايله (1).
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله هذا فرق غير مؤثر، لأنه قد ثبت بالتواتر حديث

(1) العثمانية 44.
261

الفراش، فلا فرق بينه وبين ما ذكر في نص الكتاب، ولا يجحده الا مجنون أو غير
مخالط لأهل الملة، أرأيت كون الصلوات خمسا، وكون زكاة الذهب ربع العشر، وكون
خروج الريح ناقضا للطهارة، وأمثال ذلك مما هو معلوم بالتواتر حكمه هل هو مخالف لما
نص في الكتاب عليه من الاحكام هذا مما لا يقوله رشيد ولا عاقل، على أن الله تعالى
لم يذكر اسم أبى بكر في الكتاب، وإنما قال (إذ يقول لصاحبه) (1)، وإنما علمنا أنه
أبو بكر بالخبر وما ورد في السيرة، وقد قال أهل التفسير إن قوله تعالى (ويمكر
الله والله خير الماكرين) (2) كناية عن علي عليه السلام، لأنه مكر بهم، وأول
الآية (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون
ويمكر الله والله خير الماكرين) (2) أنزلت في ليلة الهجرة، ومكرهم كان توزيع
السيوف على بطون قريش، ومكر الله تعالى هو منام علي عليه السلام على الفراش، فلا
فرق بين الموضعين في أنهما مذكوران كناية لا تصريحا وقد روى المفسرون كلهم إن
قول الله تعالى (ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله) (3)، أنزلت في
علي عليه السلام ليلة المبيت على الفراش، فهذه مثل قوله تعالى (إذ يقول لصاحبه)
لا فرق بينهما.
قال الجاحظ وفرق آخر وهو انه لو كان مبيت علي عليه السلام على الفراش،
جاء مجئ كون أبى بكر في الغار، لم يكن له في ذلك كبير طاعة، لان الناقلين نقلوا انه
صلى الله عليه وآله قال له (نم فلن يخلص إليك شئ تكرهه)، ولم ينقل ناقل انه

(1) سورة التوبة 40.
(2) سورة الأنفال 30.
(3) سورة البقرة 207.
262

قال لأبي بكر في صحبته إياه وكونه معه في الغار مثل ذلك، ولا قال له أنفق واعتق
فإنك لن تفتقر، ولن يصل إليك مكروه (1).
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله هذا هو الكذب الصراح، والتحريف والادخال
في الرواية ما ليس منها، والمعروف المنقول انه صلى الله عليه وآله قال له اذهب فاضطجع
في مضجعي، وتغش ببردي الحضرمي، فان القوم سيفقدونني، ولا يشهدون مضجعي،
فلعلهم إذا رأوك يسكنهم ذلك حتى يصبحوا، فإذا أصبحت فاغد في أداء أمانتي، ولم ينقل
ما ذكره الجاحظ، وإنما ولده أبو بكر الأصم، واخذه الجاحظ، ولا أصل له، ولو كان
هذا صحيحا لم يصل إليه منهم مكروه، وقد وقع الاتفاق على أنه ضرب ورمى بالحجارة
قبل أن يعلموا من هو حتى تضور، وانهم قالوا له رأينا تضورك، فانا كنا نرمي محمدا
ولا يتضور، ولان لفظة المكروه إن كان قالها إنما يراد بها القتل، فهب انه امن القتل،
كيف يأمن من الضرب والهوان، ومن أن ينقطع بعض أعضائه، وبان سلمت نفسه
أليس الله تعالى قال لنبيه (بلغ ما انزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت
رسالته والله يعصمك من الناس) (2) ومع ذلك فقد كسرت رباعيته وشج وجهه،
وأدميت ساقه، وذلك لأنها عصمة من القتل خاصة، وكذلك المكروه الذي أومن علي عليه
السلام منه - وإن كان صح ذلك في الحديث - إنما هو مكروه القتل.
ثم يقال له وأبو بكر لا فضيلة له أيضا في كونه في الغار، لان النبي صلى الله عليه
وآله قال له (لا تحزن إن الله معنا)، ومن يكن الله معه فهو آمن لا محالة من كل
سوء، فكيف قلت ولم ينقل ناقل أنه قال لأبي بكر في الغار مثل ذلك فكل ما يجيب
به عن هذا فهو جوابنا عما أورده، فنقول له هذا ينقلب عليك في النبي صلى الله عليه وآله

(1) العثمانية 45.
(2) سورة المائدة 67.
263

لان الله تعالى وعده بظهور دينه، وعاقبة امره فيجب على قولك الا يكون مثابا
عند الله تعالى على ما يحتمله من المكروه، ولا ما يصيبه من الأذى إذ كان قد أيقن
بالسلامة والفتح في عدته.
قال الجاحظ ومن جحد كون أبى بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله فقد
كفر لأنه جحد نص الكتاب، ثم انظر إلى قوله تعالى (إن الله معنا) (1) من
الفضيلة لأبي بكر، لأنه شريك رسول الله صلى الله عليه وآله في كون الله تعالى معه وإنزال
السكينة، قال كثير من الناس انه في الآية مخصوص بأبي بكر، لأنه كان محتاجا إلى السكينة
لما تداخله من رقة الطبع البشرى، والنبي صلى الله عليه وآله كان غير محتاج إليها، لأنه
يعلم أنه محروس من الله تعالى، فلا معنى لنزول السكينة عليه، وهذه فضيلة ثالثة
لأبي بكر.
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله إن أبا عثمان يجر على نفسه ما لا طاقة له به من
مطاعن الشيعة، ولقد كان في غنية عن التعلق بما تعلق به، لان الشيعة تزعم أن هذه الآية،
بان تكون طعنا وعيبا على أبى بكر، أولى من أن تكون فضيلة ومنقبة له، لأنه لما
قال له (لا تحزن) دل على أنه قد كان حزن وقنط وأشفق على نفسه، وليس هذا من
صفات المؤمنين الصابرين، ولا يجوز أن يكون حزنه طاعة، لان الله تعالى لا ينهى عن
الطاعة، فلو لم يكن ذنبا لم ينه عنه، وقوله (إن الله معنا) أي إن الله عالم بحالنا
وما نضمره من اليقين أو الشك، كما يقول الرجل لصاحبه لا تضمرن سوءا ولا تنوين
قبيحا، فان الله تعالى يعلم ما نسره وما نعلنه، وهذا مثل قوله تعالى (ولا أدنى من
ذلك ولا أكثر الا هو معهم أينما كانوا) (2)، أي هو عالم بهم، واما السكينة

(1) سورة التوبة 40.
(2) سورة المجادلة 7.
264

فكيف يقول إنها ليست راجعة إلى النبي صلى الله عليه وآله وبعدها قوله (وأيده
بجنود لم تروها)، أترى المؤيد بالجنود كان أبا بكر أم رسول الله صلى الله
عليه وآله.
وقوله انه مستغن عنها، ليس بصحيح ولا يستغنى أحد عن ألطاف الله وتوفيقه
وتأييده وتثبيت قلبه، وقد قال الله تعالى في قصة حنين (وضاقت عليكم الأرض
بما رحبت ثم وليتم مدبرين * ثم انزل الله سكينته على رسوله) (1) صلى الله
عليه وآله.
واما الصحبة فلا تدل الا على المرافقة والاصطحاب لا غير، وقد يكون حيث
لا ايمان، كما قال تعالى (قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك) (2)،
ونحن وان كنا نعتقد إخلاص أبى بكر و ايمانه الصحيح السليم وفضيلته التامة، الا انا
لا نحتج له بمثل ما احتج به الجاحظ من الحجج الواهية، ولا نتعلق بما يجر علينا دواهي
الشيعة ومطاعنها.
قال الجاحظ وإن كان المبيت على الفراش فضيلة، فأين هي من فضائل أبى بكر
أيام مكة، من عتق المعذبين وإنفاق المال وكثرة المستجيبين، مع فرق ما بين الطاعتين،
لان طاعة الشاب الغرير والحدث الصغير الذي في عز صاحبه عزه، ليست كطاعة
الحليم الكبير الذي لا يرجع تسويد صاحبه إلى رهطه وعشيرته.
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله اما كثرة المستجيبين، فالفضل فيها راجع إلى المجيب

(1) سورة التوبة 25، 26.
(2) سورة الكهف 34.
265

لا إلى المجاب، على انا قد علمنا أن من استجاب لموسى عليه السلام أكثر ممن استجاب
لنوح عليه السلام، وثواب نوح أكثر، لصبره على الأعداء، ومقاساة خلافهم وعنتهم.
واما انفاق المال، فأين محنة الغنى من محنة الفقير وأين يعتدل اسلام من أسلم وهو غنى، إن
جاع اكل، وإن أعيا ركب، وإن عرى لبس، قد وثق بيساره واستغنى بماله، واستعان
على نوائب الدنيا بثروته، ممن لا يجد قوت يومه، وان وجد لم يستأثر به، فكان الفقر
شعاره، وفى ذلك قيل الفقر شعار المؤمن. وقال الله تعالى لموسى (يا موسى إذا رأيت
الفقر مقبلا فقل مرحبا بشعار الصالحين)، وفى الحديث (إن الفقراء يدخلون الجنة قبل
الأغنياء بخمسمائة عام)، وكان النبي صلى الله عليه وآله يقول (اللهم احشرني في زمرة
الفقراء)، ولذلك أرسل الله محمدا صلى الله عليه وآله فقيرا، وكان بالفقر سعيدا، فقاسى
محنة الفقر ومكابدة الجوع، حتى شد الحجر على بطنه، وحسبك بالفقر فضيلة في دين
الله لمن صبر عليه، فإنك لا تجد صاحب الدنيا يتمناه، لأنه مناف لحال الدنيا وأهلها،
وإنما هو شعار أهل الآخرة.
واما طاعة علي عليه السلام، وكون الجاحظ زعم أنها كانت لان في عز محمد
عزه وعز رهطه، بخلاف طاعة أبى بكر، فهذا يفتح عليه أن يكون جهاد حمزة كذلك،
وجهاد عبيدة بن الحارث، وهجرة جعفر إلى الحبشة، بل لعل محاماة المهاجرين من قريش
على رسول الله صلى الله عليه وآله كانت لان في دولته دولتهم، وفي نصرته استجداد
ملك لهم، وهذا يجر إلى الالحاد، ويفتح باب الزندقة، ويفضي إلى الطعن
في الاسلام والنبوة.
قال الجاحظ وعلى انا لو نزلنا إلى ما يريدونه، جعلنا الفراش كالغار، وخلصت
فضائل أبى بكر في غير ذلك عن معارض.
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله قد بينا فضيلة المبيت على الفراش على فضيلة الصحبة
266

في الغار، بما هو واضح لمن أنصف، ونزيد هاهنا تأكيدا بما لم نذكره فيما تقدم فنقول
إن فضيلة المبيت على الفراش على الصحبة في الغار لوجهين:
أحدهما أن عليا عليه السلام قد كان انس بالنبي صلى الله عليه وآله وحصل له
بمصاحبته قديما انس عظيم، وألف شديد، فلما فارقه عدم ذلك الانس، وحصل به
أبو بكر، فكان ما يجده علي عليه السلام من الوحشة وألم الفرقة موجبا زيادة ثوابه، لان
الثواب على قدر المشقة.
وثانيهما أن أبا بكر كان يؤثر الخروج من مكة، وقد كان خرج من قبل فردا،
فازداد كراهية للمقام، فلما خرج مع رسول الله صلى الله عليه وآله وافق ذلك هوى قلبه،
ومحبوب نفسه، فلم يكن له من الفضيلة ما يوازى فضيلة من احتمل المشقة العظيمة،
وعرض نفسه لوقع السيوف، لرضخ الحجارة، لأنه على قدر سهولة العبادة يكون
نقصان الثواب.
قال الجاحظ ثم الذي لقى أبو بكر في مسجده الذي بناه على بابه في بنى جمح، فقد
كان بنى مسجدا يصلى فيه، ويدعو الناس إلى الاسلام، وكان له صوت رقيق، ووجه
عتيق، وكان إذا قرا بكى، فيقف عليه المارة من الرجال والنساء والصبيان والعبيد، فلما
أوذي في الله، ومنع من ذلك المسجد، استأذن رسول الله صلى الله عليه وآله في الهجرة
فأذن له، فاقبل يريد المدينة، فتلقاه الكناني (1)، فعقد له جوارا، وقال والله لا ادع مثلك
يخرج من مكة، فرجع إليها وعاد لصنيعه في المسجد، فمشت قريش إلى جاره الكناني،
وأجلبوا عليه، فقال له دع المسجد وادخل بيتك، واصنع فيه ما بدا لك (2).

(1) الكناني هو مالك بن الدغنة، أحد بني الحارث بن بكر بن عبد مناة.
(2) العثمانية 28، 29 مع تصرف واختصار.
267

قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله كيف كانت بنو جمح تؤذى عثمان بن مظعون
وتضربه، وهو فيهم ذو سطوة وقدر، وتترك أبا بكر يبنى مسجدا يفعل فيه ما ذكرتم،
وأنتم الذين رويتم عن ابن مسعود أنه قال (ما صلينا ظاهرين حتى أسلم عمر بن الخطاب)،
والذي تذكرونه من بناء المسجد كان قبل اسلام عمر، فكيف هذا.
واما ما ذكرتم من رقة صوته وعتاق وجهه، فكيف يكون ذلك وقد روى الواقدي
وغيره أن عائشة رأت رجلا من العرب خفيف العارضين، معروق الخدين، غائر العينين،
أجنأ (1) لا يمسك إزاره، فقالت ما رأيت أشبه بأبي بكر من هذا فلا نراها دلت
على شئ من الجمال في صفته.
قال الجاحظ وحيث رد أبو بكر جوار الكناني، وقال لا أريد جارا سوى الله،
لقى من الأذى والذل والاستخفاف والضرب ما بلغكم، وهذا موجود في جميع السير،
وكان آخر ما لقى هو وأهله في أمر الغار، وقد طلبته قريش وجعلت فيه مائة بعير، كما جعلت
في النبي صلى الله عليه وآله، فلقى أبو جهل أسماء بنت بكر، فسألها فكتمته،
فلطمها حتى رمت قرطا كان في اذنها (2).
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله هذا الكلام وهجر السكران سواء، في تقارب المخرج،
واضطراب المعنى، وذلك أن قريشا لم تقدر على أذى النبي صلى الله عليه وآله، وأبو طالب
حي يمنعه، فلما مات طلبته لتقتله، فخرج تارة إلى بنى عامر، وتارة إلى ثقيف، وتارة إلى بنى
شيبان، ولم يكن يتجاسر على المقام بمكة الا مستترا، حتى أجاره مطعم بن عدي، ثم خرج
إلى المدينة، فبذلت فيه مائة بعير لشدة حنقها عليه حين فاتها، فلم تقدر عليه، فما بالها
بذلت في أبى بكر مائة بعير أخرى، وقد كان رد الجوار، وبقى بينهم فردا لا ناصر له

(1) الأجنأ، من الجنأ وهو ميل الظهر.
(2) العثمانية 29، مع تصرف واختصار.
268

ولا دافع عنده، يصنعون به ما يريدون اما أن يكونوا أجهل البرية كلها أو يكون العثمانية
أكذب جيل في الأرض وأوقحه وجها فهذا مما لم يذكر في سيره ولا روى في أثر،
ولا سمع به بشر، ولا سبق الجاحظ به أحد.
* * *
قال الجاحظ ثم الذي كان من دعائه إلى الاسلام وحسن احتجاجه، حتى أسلم على
يديه طلحة والزبير وسعد وعثمان وعبد الرحمن، لأنه ساعة أسلم دعا إلى الله
والى رسوله (1).
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله ما أعجب هذا القول، إذ تدعى العثمانية لأبي بكر
الرفق في الدعاء وحسن الاحتجاج، وقد أسلم ومعه في منزله ابنه عبد الرحمن، فما قدر أن
يدخله في الاسلام طوعا برفقة ولطف احتجاجه، ولا كرها بقطع النفقة عنه وإدخال المكروه
عليه، ولا كان لأبي بكر عند ابنه عبد الرحمن من القدر ما يطيعه فيما يأمره به، ويدعوه
إليه، كما روى أن أبا طالب فقد النبي صلى الله عليه وآله يوما، وكان يخاف عليه من
قريش أن يغتالوه، فخرج ومعه ابنه جعفر يطلبان النبي صلى الله عليه وآله، فوجده
قائما في بعض شعاب مكة يصلى، وعلي عليه السلام معه عن يمينه، فلما رآهما أبو طالب،
قال لجعفر تقدم وصل جناح ابن عمك، فقام جعفر عن يسار محمد صلى الله عليه
وآله، فلما صاروا ثلاثة تقدم رسول الله صلى الله عليه وآله وتأخر الاخوان، فبكى
أبو طالب، وقال:
إن عليا وجعفرا ثقتي * عند ملم الخطوب والنوب (2)
لا تخذلا وانصرا ابن عمكما * أخي لأمي من بينهم وأبى
والله لا أخذل النبي ولا * يخذله من بنى ذو حسب

(1) العثمانية 31 مع تصرف واختصار.
(2) ديوانه 42.
269

فتذكر الرواة أن جعفرا أسلم منذ ذلك اليوم، لان أباه امره بذلك وأطاع امره، وأبو بكر
لم يقدر على ادخال ابنه عبد الرحمن في الاسلام حتى أقام بمكة على كفره ثلاث عشرة سنة،
وخرج يوم أحد في عسكر المشركين ينادى انا عبد الرحمن بن عتيق، هل من مبارز
ثم مكث بعد ذلك على كفره، حتى أسلم عام الفتح، وهو اليوم الذي دخلت فيه قريش
في الاسلام طوعا وكرها، ولم يجد أحد منها إلى ترك ذلك سبيلا وأين كان رفق أبى بكر
وحسن احتجاجه عند أبيه أبى قحافة وهما في دار واحدة هلا رفق به ودعاه إلى الاسلام
فأسلم وقد علمتم انه بقي على الكفر إلى يوم الفتح، فأحضره ابنه عند النبي صلى الله
عليه وآله وهو شيخ كبير رأسه كالثغامة (1)، فنفر رسول الله صلى الله عليه وآله منه، وقال
غيروا هذا، فخضبوه، ثم جاءوا به مرة أخرى، فأسلم. وكان أبو قحافة فقيرا مدقعا سيئ
الحال، وأبو بكر عندهم كان مثريا فائض المال، فلم يمكنه استمالته إلى الاسلام بالنفقة
والاحسان، وقد كانت امرأة أبى بكر أم عبد الله ابنه - واسمها نملة بنت عبد العزى بن
أسعد بن عبد بن ود العامرية - لم تسلم، وأقامت على شركها بمكة، وهاجر أبو بكر وهي
كافرة، فلما نزل قوله تعالى (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) (2)، فطلقها أبو بكر، فمن
عجز عن ابنه وأبيه وامرأته فهو عن غيرهم من الغرماء أعجز، ومن لم يقبل منه أبوه وابنه
وامرأته لا برفق واحتجاج، ولا خوفا من قطع النفقة عنهم، وادخال المكروه عليهم فغيرهم
أقل قبولا منه، وأكثر خلافا عليه.
قال الجاحظ وقالت أسماء بنت أبي بكر ما عرفت أبى الا وهو يدين بالدين، ولقد
رجع إلينا يوم أسلم، فدعانا إلى الاسلام، فما رمنا حتى أسلمنا، وأسلم أكثر جلسائه،
ولذلك قالوا من أسلم بدعاء أبى بكر أكثر ممن أسلم بالسيف، ولم يذهبوا في ذلك
إلى العدد، بل عنوا الكثرة في القدر، لأنه أسلم على يديه خمسة من أهل الشورى،

(1) الثغام: كسحاب: ضرب من النبات أبيض.
(2) سورة الممتحنة 10.
270

كلهم يصلح للخلافة، وهم أكفاء علي عليه السلام، ومنازعوه الرياسة والإمامة، فهؤلاء
أكثر من جميع الناس (1).
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله أخبرونا من هذا الذي أسلم ذلك اليوم من أهل بيت
أبى بكر إذا كانت امرأته لم تسلم وابنه عبد الرحمن لم يسلم، وأبو قحافة لم يسلم، وأخته أم فروة
لم تسلم، وعائشة لم تكن قد ولدت في ذلك الوقت، لأنها ولدت بعد مبعث النبي صلى الله
عليه وآله بخمس سنين، ومحمد بن أبي بكر ولد بعد مبعث رسول الله صلى الله عليه وآله بثلاث
وعشرين سنة، لأنه ولد في حجة الوداع، وأسماء بنت أبي بكر التي قد روى الجاحظ
هذا الخبر عنها كانت يوم بعث رسول الله صلى الله عليه وآله بنت أربع سنين - وفى رواية
من يقول بنت سنتين - فمن الذي أسلم من أهل بيته يوم أسلم نعوذ بالله من الجهل
والكذب والمكابرة وكيف أسلم سعد والزبير وعبد الرحمن بدعاء أبى بكر وليسوا من
رهطه ولا من أترابه ولا من جلسائه، ولا كانت بينهم قبل ذلك صداقة متقدمة، ولا انس
وكيد وكيف ترك أبو بكر عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، لم يدخلهما في الاسلام
برفقه وحسن دعائه، وقد زعمتم انهما كانا يجلسان إليه لعلمه وطريف حديثه وما باله
لم يدخل جبير بن مطعم في الاسلام، وقد ذكرتم انه أدبه وخرجه، ومنه اخذ جبير العلم
بأنساب قريش ومآثرها فكيف عجز عن هؤلاء الذين عددناهم، وهم منه بالحال التي
وصفنا، ودعا من لم يكن بينه وبينه انس ولا معرفة، الا معرفة عيان وكيف لم يقبل منه
عمر بن الخطاب، وقد كان شكله، أقرب الناس شبها به في أغلب أخلاقه ولئن رجعتم
إلى الانصاف لتعلمن أن هؤلاء لم يكن اسلامهم الا بدعاء الرسول صلى الله عليه وآله لهم،
وعلى يديه أسلموا، ولو فكرتم في حسن التأتي في الدعاء، ليصحن لأبي طالب في ذلك

(1) العثمانية 31 - 32، مع تصرف واختصار.
271

على شركه اضعاف ما ذكرتموه لأبي بكر، لأنكم رويتم أن أبا طالب قال لعلي عليه
السلام: يا بنى ألزمه، فإنه لن يدعوك الا إلى خير، وقال لجعفر صل جناح ابن عمك،
فأسلم بقوله، ولأجله أصفق بنو عبد مناف على نصرة رسول الله صلى الله عليه وآله بمكة
من بنى مخزوم، وبنى سهم، وبنى جمح، ولأجله صبر بنو هاشم على الحصار في الشعب،
وبدعائه وإقباله على محمد صلى الله عليه وآله أسلمت امرأته فاطمة بنت أسد، فهو أحسن
رفقا، وأيمن نقيبة من أبى بكر وغيره، وإنما منعه عن الاسلام أن ثبت انه لم يسلم
الا تقية، وأبو بكر لم يكن له الا ابن واحد، وهو عبد الرحمن، فلم يمكنه أن يدخله في
الاسلام، ولا أمكنه إذ لم يقبل منه الاسلام أن يجعله كبعض مشركي قريش في قلة الأذى
لرسول الله صلى الله عليه وآله، وفيه (انزل والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني
أن اخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق
فيقول ما هذا الا أساطير الأولين) (1)، وإنما يعرف حسن رفق الرجل وتأتيه بان
يصلح أولا أمر بيته وأهله، ثم يدعو الأقرب فالأقرب، فان رسول الله صلى الله عليه وآله
لما بعث كان أول من دعا زوجته خديجة، ثم مكفوله وابن عمه عليا عليه السلام، ثم
مولاه زيدا، ثم أم أيمن خادمته، فهل رأيتم أحدا ممن كان يأوي إلى رسول الله صلى الله
عليه وآله لم يسارع وهل التاث عليه أحد من هؤلاء فهكذا يكون حسن التأتي والرفق
في الدعاء هذا ورسول الله مقل، وهو من جملة عيال خديجة حين بعثه الله تعالى، وأبو
بكر عندكم كان موسرا، وكان أبوه مقترا، وكذلك ابنه وامرأته أم عبد الله، والموسر
في فطرة العقول أولى أن يتبع من المقتر، وإنما حسن التأتي والرفق في الدعاء ما صنعه
مصعب بن عمير لسعد بن معاذ لما دعاه، وما صنع سعد بن معاذ ببني عبد الأشهل لما دعاهم
وما صنع بريدة بن الحصيب بأسلم لما دعاهم، قالوا أسلم بدعائه ثمانون بيتا من قومه،

(1) سورة الأحقاف 17.
272

وأسلم بنو عبد الأشهل بدعاء سعد في يوم واحد، واما من لم يسلم ابنه ولا امرأته، ولا أبوه
ولا أخته بدعائه فهيهات أن يوصف ويذكر بالرفق في الدعاء وحسن التأتي والأناة.
قال الجاحظ ثم أعتق أبو بكر بعد ذلك جماعة من المعذبين في الله، وهم ست رقاب،
منهم بلال وعامر بن فهيرة، وزنيرة النهدية، وابنتها ومر بجارية يعذبها عمر بن الخطاب
فابتاعها منه، وأعتقها، واعتق أبا عيسى فأنزل الله فيه (فاما من أعطى واتقى * وصدق
بالحسنى * فسنيسره لليسرى...) (1)، إلى آخر السورة.
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله اما بلال وعامر بن فهيرة، فإنما اعتقهما رسول الله
صلى الله عليه وآله، روى ذلك الواقدي وابن إسحاق وغيرهما، واما باقي مواليهم الأربعة،
فان سامحناكم في دعواكم لم يبلغ ثمنهم في تلك الحال لشدة بغض مواليهم لهم الا مائة درهم
أو نحوها، فأي فخر في هذا واما الآية فان ابن عباس قال في تفسيرها (فاما من أعطى
واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى)، أي لان يعود.
وقال غيره نزلت في مصعب بن عمير.
قال الجاحظ وقد علمتم أبو بكر في ماله، وكان ماله أربعين ألف درهم، فأنفقه
في نوائب الاسلام وحقوقه، ولم يكن خفيف الظهر، قليل العيال والنسل، فيكون فاقد
جميع اليسارين، بل كان ذا بنين وبنات وزوجة وخدم وحشم، ويعول والديه وما ولدا،
ولم يكن النبي صلى الله عليه وآله قبل ذلك عنده مشهورا، فيخاف العار في ترك مواساته،
فكان انفاقه على الوجه الذي لا نجد في غاية الفضل مثله، ولقد قال النبي صلى الله عليه
وآله (ما نفعني مال كما نفعني مال أبى بكر).

(1) سورة الليل 5.
273

قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله، أخبرونا على أي نوائب الاسلام أنفق هذا المال،
وفى أي وجه وضعه فإنه ليس بجائز أن يخفى ذلك ويدرس حتى يفوت حفظه، وينسى
ذكره، وأنتم فلم تقفوا على شئ أكثر من عتقه بزعمكم ست رقاب لعلها لا يبلغ ثمنها
في ذلك العصر مائة درهم. وكيف يدعى له الانفاق الجليل، وقد باع من رسول الله صلى
الله عليه وآله بعيرين عند خروجه إلى يثرب، واخذ منه الثمن في مثل تلك الحال، وروى
ذلك جميع المحدثين، وقد رويتم أيضا انه كان حيث كان بالمدينة غنيا موسرا، ورويتم
عن عائشة انها قالت هاجر أبو بكر وعنده عشرة آلاف درهم، وقلتم إن الله تعالى انزل
فيه (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى) (1)، قلتم هي
في أبى بكر ومسطح بن أثاثة، فأين الفقر الذي زعمتم انه أنفق حتى تخلل بالعباءة ورويتم
إن لله تعالى في سمائه ملائكة قد تخللوا بالعباءة وان النبي صلى الله عليه وآله رآهم ليلة
الاسراء، فسال جبرائيل عنهم فقال هؤلاء ملائكة تأسوا بأبي بكر بن أبي قحافة
صديقك في الأرض، فإنه سينفق عليك ماله، حتى يخلل عباءة في عنقه، وأنتم أيضا
رويتم إن الله تعالى لما انزل آية النجوى، فقال (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول
فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم) (2)، الآية لم يعمل بها الا على
ابن أبي طالب وحده، مع إقراركم بفقره وقلة ذات يده، وأبو بكر في الحال التي ذكرنا
من السعة أمسك عن مناجاته، فعاتب الله المؤمنين في ذلك، فقال (أأشفقتم أن تقدموا
بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم)، فجعله سبحانه ذنبا
يتوب عليهم منه، وهو إمساكهم عن تقديم الصدقة، فكيف سخت نفسه بإنفاق أربعين
ألفا وامسك عن مناجاة الرسول، وإنما كان يحتاج فيها إلى اخراج درهمين.
واما ما ذكر من كثره عياله ونفقته عليهم، فليس في ذلك دليل على تفضيله، لان

(1) سورة النور 22.
(2) سورة المجادلة 12.
274

نفقته على عياله واجبة، مع أن أرباب السيرة ذكروا انه لم يكن ينفق على أبيه شيئا، وانه
كان أجيرا لابن جدعان على مائدته يطرد عنها الذبان.
قال الجاحظ وقد تعلمون ما كان يلقى أصحاب النبي صلى الله عليه وآله ببطن مكة
من المشركين، وحسن صنيع كثير منهم، كصنيع حمزة حين ضرب أبا جهل بقوسه ففلق
هامته، وأبو جهل يومئذ سيد البطحاء ورئيس الكفر، وامنع أهل مكة، وقد عرفتم أن
الزبير سل سيفه، واستقبل به المشركين، لما أرجف أن محمدا صلى الله عليه وآله قد قتل،
وأن عمر بن الخطاب قال حين أسلم لا يعبد الله سرا بعد اليوم، وان سعدا ضرب بعض
المشركين بلحى جمل، فأراق دمه، فكل هذه الفضائل لم يكن لعلي بن أبي طالب فيها
ناقة ولا جمل، وقد قال الله تعالى (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل
أولئك أعظم درجة من الذين انفقوا من بعد وقاتلوا) (1)، فإذا كان الله تعالى قد
فضل من أنفق قبل الفتح، لأنه لا هجرة بعد الفتح، على من أنفق بعد الفتح، فما ظنكم
بمن أنفق من قبل الهجرة، ومن لدن مبعث النبي صلى الله عليه وآله إلى الهجرة والى بعد الهجرة (2).
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله إننا لا ننكر فضل الصحابة وسوابقهم، ولسنا
كالإمامية الذين يحملهم الهوى على جحد الأمور المعلومة، ولكننا ننكر تفضيل أحد
من الصحابة على علي بن أبي طالب، ولسنا ننكر غير ذلك، وننكر تعصب الجاحظ
للعثمانية، وقصده إلى فضائل هذا الرجل ومناقبه بالرد والابطال واما حمزة فهو عندنا
ذو فضل عظيم، ومقام جليل، وهو سيد الشهداء الذين استشهدوا على عهد رسول الله
.

(1) سورة الحديد 20.
(2) العثمانية 37، مع تصرف واختصار.
275

صلى الله عليه وآله، واما فضل عمر فغير منكر وكذلك الزبير وسعد، وليس فيما ذكر
ما يقتضى كون علي عليه السلام مفضولا لهم أو لغيرهم، الا قوله (وكل هذه الفضائل لم يكن
لعلى عليه السلام فيها ناقة ولا جمل)، فان هذا من التعصب البارد، والحيف الفاحش،
وقد قدمنا من آثار علي عليه السلام قبل الهجرة وما له إذ ذاك من المناقب والخصائص،
ما هو أفضل وأعظم وأشرف من جميع ما ذكر لهؤلاء، على أن أرباب السيرة يقولون إن
الشجة التي شجها سعد، وان السيف الذي سله الزبير، هو الذي جلب الحصار في الشعب
على النبي صلى الله عليه وآله وبنى هاشم، وهو الذي سير جعفرا وأصحابه إلى الحبشة، وسل
السيف في الوقت الذي لم يؤمر المسلمون فيه بسل السيف غير جائز، قال تعالى (ألم تر
إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم
القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله) (1)، فتبين أن التكليف له أوقات،
فمنها وقت لا يصلح فيه سل السيف، ومنها وقت يصلح فيه ويجب، فاما قوله تعالى
(لا يستوي منكم من أنفق) فقد ذكرنا ما عندنا من دعواهم لأبي بكر انفاق المال.
وأيضا فان الله تعالى لم يذكر انفاق المال مفردا، وإنما قرن به القتال، ولم يكن أبو بكر
صاحب قتال وحرب، فلا تشمله الآية، وكان علي عليه السلام صاحب قتال وإنفاق قبل
الفتح، اما قتاله فمعلوم بالضرورة، واما انفاقه فقد كان على حسب حاله وفقره، وهو الذي
أطعم الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا، وأنزلت فيه وفى زوجته وابنيه سورة (2) كاملة
من القرآن، وهو الذي ملك أربعة دراهم فأخرج منها درهما سرا ودرهما علانية ليلا،
ثم اخرج منها في النهار درهما سرا ودرهما علانية، فأنزل فيه قوله تعالى (الذين ينفقون
أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية) (3)، وهو الذي قدم بين يدي نجواه صدقة

(1) سورة النساء 77.
(2) زعم بعض غلاة الشيعة، انه أنزلت فيهم سورة مختلفة،
وانظر فصل الخطاب لحسين بن محمد الطبرسي 156، وحواشي ملحق العثمانية 319.
(3) سورة البقرة 247.
276

دون المسلمين كافة، وهو الذي تصدق بخاتمه وهو راكع، فأنزل الله فيه (إنما وليكم
الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم
راكعون) (1).
قال الجاحظ والحجة العظمى للقائلين بتفضيل علي عليه السلام قتله الاقران،
وخوضه الحرب، وليس له في ذلك كبير فضيلة، لان كثرة القتل والمشي بالسيف إلى
الاقران، لو كان من أشد المحن وأعظم الفضائل، وكان دليلا على الرياسة والتقدم،
لوجب أن يكون للزبير وأبى دجانة ومحمد بن مسلمة، وابن عفراء، والبراء بن مالك
من الفضل ما ليس لرسول الله صلى الله عليه وآله، لأنه لم يقتل بيده الا رجلا واحدا
ولم يحضر الحرب يوم بدر، ولا خالط الصفوف وإنما كان معتزلا عنهم في العريش
ومعه أبو بكر، وأنت ترى الرجل الشجاع قد يقتل الاقران، ويجندل الابطال، وفوقه من
العسكر من لا يقتل ولا يبارز، وهو الرئيس أو ذوي الرأي، والمستشير في الحرب، لان
للرؤساء من الاكتراث والاهتمام وشغل البال والعناية والتفقد ما ليس لغيرهم، ولان الرئيس
هو المخصوص بالمطالبة، وعليه مدار الأمور، وبه يستبصر المقاتل، ويستنصر، وباسمه ينهزم
العدو، ولو لم يكن له الا أن الجيش لو ثبت وفر هو لم يغن ثبوت الجيش كله، وكانت
الدبرة عليه، ولو ضيع القوم جميعا وحفظ هو لانتصر وكانت الدولة له، ولهذا لا يضاف
النصر والهزيمة الا إليه، ففضل أبى بكر بمقامه في العريش مع رسول الله يوم بدر أعظم من
جهاد علي عليه السلام ذلك اليوم، وقتله ابطال قريش.
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله لقد أعطى أبو عثمان مقولا وحرم معقولا، إن كان

(1) سورة المائدة 55.
277

يقول هذا على اعتقاد وجد، ولم يذهب به مذهب اللعب والهزل، أو على طريق التفاصح
والتشادق واظهار القوة، والسلاطة وذلاقة اللسان وحدة الخاطر والقوة على جدال الخصوم،
ألم يعلم أبو عثمان أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان أشجع البشر، وانه خاض
الحروب، وثبت في المواقف التي طاشت فيها الألباب، وبلغت القلوب الحناجر، فمنها
يوم أحد، ووقوفه بعد أن فر المسلمون بأجمعهم، ولم يبق معه الا أربعة على والزبير،
وطلحة، وأبو دجانة، فقاتل ورمى بالنبل حتى فنيت نبله، وانكسرت سية قوسه،
وانقطع وتره، فامر عكاشة بن محصن أن يوترها، فقال يا رسول الله لا يبلغ الوتر،
فقال أوتر ما بلغ قال عكاشة فوالذي بعثه بالحق لقد أوترت حتى بلغ، وطويت
منه شبرا على سية القوس، ثم اخذها فما زال يرميهم، حتى نظرت إلى قوسه قد تحطمت
وبارز أبي بن خلف، فقال له أصحابه إن شئت عطف عليه بعضنا فأبى، وتناول الحربة
من الحارث بن الصمة ثم انتقض بأصحابه، كما ينتقض البعير، قالوا فتطايرنا عنه تطاير
الشعارير (1)، فطعنه بالحربة، فجعل يخور كما يخور الثور، ولو لم يدل على ثباته حين
انهزم أصحابه وتركوه الا قوله تعالى (إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول
يدعوكم في أخراكم) (2)، فكونه عليه السلام في أخراهم وهم يصعدون ولا يلوون،
هاربين، دليل على أنه ثبت ولم يفر، وثبت يوم حنين في تسعة من أهله ورهطه
الأدنين، وقد فر المسلمون كلهم والنفر التسعة محدقون به والعباس آخذ بحكمة
بغلته، وعلى بين يديه مصلت سيفه، والباقون حول بغلة رسول الله صلى الله عليه وآله
يمنة ويسرة، وقد انهزم المهاجرون والأنصار، وكلما فروا أقدم هو صلى الله عليه وآله
وصمم مستقدما، يلقى السيوف والنبال بنحره وصدره، ثم اخذ كفا من

(1) الشعارير: ما يجتمع على دبرة البعير من الذبان، فإذا هيجت تطايرت عنها.
(2) سورة آل عمران 151.
278

البطحاء، وحصب المشركين، وقال شاهت الوجوه والخبر المشهور عن علي عليه السلام،
وهو أشجع البشر (كنا إذا اشتد الباس، وحمى الوطيس اتقينا برسول الله صلى الله
عليه وآله ولذنا به)، فكيف يقول الجاحظ انه ما خاض الحرب، ولا خالط الصفوف
وأي فرية أعظم من فرية من نسب رسول الله صلى الله عليه وآله إلى الاحجام واعتزال
الحرب ثم أي مناسبة بين أبى بكر ورسول الله صلى الله عليه وآله في هذا المعنى ليقيسه
وينسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله صاحب الجيش والدعوة، ورئيس الاسلام والملة،
والملحوظ بين أصحابه وأعدائه بالسيادة، واليه الايماء والإشارة، وهو الذي أحنق قريشا
والعرب، وروى أكبادهم بالبراءة من آلهتهم، وعيب دينهم وتضليل أسلافهم، ثم وترهم
فيما بعد بقتل رؤسائهم وأكابرهم وحق لمثله إذا تنحى عن الحرب واعتزلها أن يتنحى
ويعتزل، لان ذلك شان الملوك والرؤساء، إذا كان الجيش منوطا بهم وببقائهم، فمتى
هلك الملك هلك الجيش، ومتى سلم الملك أمكن أن يبقى عليه ملكه، وان عطب جيشه
فإنه يستجد جيشا آخر، ولذلك نهى الحكماء أن يباشر الملك الحرب بنفسه، وخطئوا
الإسكندر لما بارز قوسرا ملك الهند، ونسبوه إلى مجانبة الحكمة ومفارقة الصواب والحزم،
فليقل لنا الجاحظ أي مدخل لأبي بكر في هذا المعنى ومن الذي كان يعرفه من
أعداء الاسلام ليقصده بالقتل وهل هو الا واحد من عرض المهاجرين، حكمه
حكم عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان، وغيرهما بل كان عثمان أكثر منه
صيتا، وأشرف منه مركبا، والعيون إليه أطمح، والعدو إليه أحنق وأكلب،
ولو قتل أبو بكر في بعض تلك المعارك، هل كان يؤثر قتله في الاسلام ضعفا، أو يحدث
فيه وهنا أو يخاف على الملة لو قتل أبو بكر في بعض تلك الحروب أن تندرس وتعفى
آثارها، وينطمس منارها ليقول الجاحظ أن أبا بكر كان حكمه حكم رسول الله صلى الله عليه
وآله في مجانبة الحروب واعتزالها، نعوذ بالله من الخذلان وقد علم العقلاء كلهم ممن له
279

بالسير معرفة، وبالآثار والاخبار ممارسة، حال حروب رسول الله صلى الله عليه وآله كيف
كانت، وحاله عليه السلام فيها كيف كان، ووقوفه حيث وقف، وحربه حيث حارب،
وجلوسه في العريش يوم جلس، وان وقوفه صلى الله عليه وآله وقوف رياسة وتدبير،
ووقوف ظهر وسند، يتعرف أمور أصحابه، ويحرس صغيرهم وكبيرهم بوقوفه من ورائهم،
وتخلفه عن التقدم في أوائلهم، لأنهم متى علموا انه في أخراهم اطمأنت قلوبهم، ولم تتعلق
بأمره نفوسهم، فيشتغلوا بالاهتمام به عن عدوهم، ولا يكون لهم فئة يلجئون إليها، وظهر
يرجعون إليه، ويعلمون انه متى كان خلفهم تفقد أمورهم، وعلم مواقفهم، وآوى كل انسان
مكانه في الحماية والنكاية وعند المنازلة في الكر والحملة، فكان وقوفه حيث وقف
أصلح لأمرهم، وأحمى واحرس لبيضتهم، ولأنه المطلوب من بينهم، إذ هو مدبر أمورهم،
ووالى جماعتهم، الا ترون أن موقف صاحب اللواء موقف شريف، وان صلاح الحرب
في وقوفه، وان فضيلته في ترك التقدم في أكثر حالاته، فللرئيس حالات:
الأولى حالة يتخلف ويقف آخرا ليكون سندا وقوة، وردءا وعدة، وليتولى تدبير
الحرب، ويعرف مواضع الخلل.
والحالة الثانية يتقدم فيها في وسط الصف ليقوى الضعيف، ويشجع الناكص (1).
وحالة ثالثة وهي إذا اصطدم الفيلقان، وتكافح السيفان، اعتمد ما تقتضيه
الحال من الوقوف حيث يستصلح، أو من مباشرة الحرب بنفسه، فإنها آخر المنازل، وفيها
تظهر شجاعة الشجاع النجد، وفسالة الجبان المموه.
فأين مقام الرئاسة العظمى لرسول الله صلى الله عليه وآله وأين منزله أبى بكر ليسوي
بين المنزلتين، ويناسب بين الحالتين.
ولو كان أبو بكر شريكا لرسول الله صلى الله عليه وآله في الرسالة، وممنوحا من الله

(1) ب: (الناكس).
280

بفضيلة النبوة، وكانت قريش والعرب تطلبه كما تطلب محمدا صلى الله عليه وآله، وكان يدبر
من أمر الاسلام وتسريب العساكر وتجهيز السرايا، وقتل الأعداء، ما يدبره محمد
صلى الله عليه وآله، لكان للجاحظ أن يقول ذلك، فاما وحاله حاله، وهو أضعف
المسلمين جنانا، وأقلهم عند العرب ترة، لم يرم قط بسهم، ولا سل سيفا، ولا أراق
دما، وهو أحد الاتباع، غير مشهور ولا معروف، ولا طالب ولا مطلوب، فكيف
يجوز أن يجعل مقامه ومنزلته مقام رسول الله صلى الله عليه وآله ومنزلته ولقد خرج ابنه
عبد الرحمن مع المشركين يوم أحد فرآه أبو بكر، فقام مغيظا عليه، فسل من السيف
مقدار إصبع، يريد البروز إليه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله (يا أبا بكر، شم
سيفك (1) وأمتعنا بنفسك)، ولم يقل له (وأمتعنا بنفسك) الا لعلمه بأنه ليس أهلا
للحرب وملاقاة الرجال، وانه لو بارز لقتل.
وكيف يقول الجاحظ لا فضيلة لمباشرة الحرب، ولقاء الاقران، وقتل ابطال الشرك
وهل قامت عمد الاسلام الا على ذلك وهل ثبت الدين واستقر الا بذلك أتراه لم يسمع
قول الله تعالى (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان
مرصوص) (2) والمحبة من الله تعالى هي إرادة الثواب، فكل من كان أشد ثبوتا في
هذا الصف، وأعظم قتالا، كان أحب إلى الله، ومعنى الأفضل هو الأكثر ثوابا، فعلي عليه السلام
إذا هو أحب المسلمين إلى الله، لأنه أثبتهم قدما في الصف المرصوص،
لم يفر قط باجماع الأمة، ولا بارزه قرن الا قتله.
أتراه لم يسمع قول الله تعالى (وفضل الله المجاهدين على القاعدين اجرا عظيما) (3)
وقوله (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بان لهم الجنة يقاتلون

(1) شم سيفك، اي أغمده وهو من الأضداد.
(2) سورة الصف 4.
(3) سورة النساء 95.
281

في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن) (1)،
ثم قال سبحانه مؤكدا لهذا البيع والشراء (ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا
ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم) (1)، وقال الله تعالى (ذلك
بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ
الكفار ولا ينالون من عدو نيلا الا كتب لهم به عمل صالح) (2).
فمواقف الناس في الجهاد على أحوال، وبعضهم في ذلك أفضل من بعض، فمن
دلف إلى الاقران، واستقبل السيوف والأسنة، كان أثقل على أكتاف الأعداء، لشدة
نكايته فيهم، ممن وقف في المعركة، وأعان ولم يقدم، وكذلك من وقف في المعركة،
وأعان ولم يقدم، الا انه بحيث تناله السهام والنبل أعظم غناء، وأفضل ممن وقف حيث
لا يناله ذلك، ولو كان الضعيف والجبان يستحقان الرياسة بقله بسط الكف وترك
الحرب، وان ذلك يشاكل فعل النبي صلى الله عليه وآله، لكان أوفر الناس حظا
في الرياسة، وأشدهم لها استحقاقا حسان بن ثابت، وان بطل فضل علي عليه السلام
في الجهاد، لان النبي صلى الله عليه وآله كان أقلهم قتالا، كما زعم الجاحظ ليبطلن
على هذا القياس فضل أبى بكر في الانفاق، لان رسول الله صلى الله عليه وآله كان
أقلهم مالا.
وأنت إذا تأملت أمر العرب وقريش، ونظرت السير، وقرات الاخبار، عرفت
انها كانت تطلب محمدا صلى الله عليه وآله وتقصد قصده، وتروم قتله، فان أعجزها وفاتها
طلبت عليا عليه السلام، وأرادت قتله، لأنه كان أشبههم بالرسول حالا، وأقربهم
منه قربا، وأشدهم عنه دفعا، وانهم متى قصدوا عليا فقتلوه أضعفوا أمر محمد صلى
الله عليه وآله وكسروا شوكته، إذ كان أعلى من ينصره في الباس والقوة والشجاعة

(1) سورة التوبة 111.
(2) سورة التوبة 120.
282

والنجدة والاقدام والبسالة الا ترى إلى قول عتبة بن ربيعة يوم بدر، وقد خرج هو
وأخوه شيبة وابنه الوليد بن عتبة، فأخرج إليه الرسول نفرا من الأنصار، فاستنسبوهم
فانتسبوا لهم، فقالوا ارجعوا إلى قومكم ثم نادوا يا محمد اخرج إلينا أكفاءنا من قومنا،
فقال النبي صلى الله عليه وآله لأهله الأدنين قوموا يا بني هاشم، فانصروا حقكم الذي
آتاكم الله على باطل هؤلاء قم يا علي، قم يا حمزة، قم يا عبيدة، الا ترى ما جعلت هند
بنت عتبة لمن قتله يوم أحد، لأنه اشترك هو وحمزة في قتل أبيها يوم بدر، ألم تسمع
قول هند ترثى أهلها:
ما كان عن عتبة لي من صبر * أبي وعمي وشقيق صدري
أخي الذي كان كضوء البدر * بهم كسرت يا علي ظهري.
وذلك لأنه قتل أخاها الوليد بن عتبة، وشرك في قتل أبيها عتبة، واما عمها شيبة،
فان حمزة تفرد بقتله.
وقال جبير بن مطعم لوحشي مولاه يوم أحد إن قتلت محمدا فأنت حر، وإن
قتلت عليا فأنت حر، وإن قتلت حمزة فأنت حر فقال اما محمد فسيمنعه أصحابه،
واما على فرجل حذر كثير الالتفات في الحرب، ولكني سأقتل حمزة، فقعد له وزرقه
بالحربة فقتله.
ولما قلنا من مقاربة حال علي عليه السلام في هذا الباب لحال رسول الله صلى الله
عليه وآله ومناسبتها إياها ما وجدناه في السير والاخبار، من اشفاق رسول الله صلى الله عليه
وآله وحذره عليه، ودعائه له بالحفظ والسلامة، قال صلى الله عليه وآله يوم الخندق،
وقد برز على إلى عمرو، ورفع يديه إلى السماء بمحضر من أصحابه (اللهم انك اخذت منى
283

حمزة يوم أحد، وعبيدة يوم بدر، فاحفظ اليوم على عليا (رب لا تذرني فردا
وأنت خير الوارثين) (1)، ولذلك ضن به عن مبارزة عمرو حين دعا عمرو الناس إلى نفسه
مرارا، في كلها يحجمون ويقدم على، فيسأل الاذن له في البراز حتى قال له رسول
الله صلى الله عليه وآله (انه عمرو)، فقال (وانا على)، فأدناه وقبله وعممه بعمامته،
وخرج معه خطوات كالمودع له، القلق لحاله، المنتظر لما يكون منه، ثم لم يزل صلى الله عليه
وآله رافعا يديه إلى السماء، مستقبلا لها بوجهه، والمسلمون صموت حوله، كأنما على رؤوسهم
الطير، حتى ثارت الغبرة، وسمعوا التكبير من تحتها، فعلموا أن عليا قتل عمرا، فكبر
رسول الله صلى الله عليه وآله وكبر المسلمون تكبيرة سمعها من وراء الخندق من عساكر
المشركين، ولذلك قال حذيفة بن اليمان لو قسمت فضيلة علي عليه السلام بقتل عمرو يوم
الخندق بين المسلمين بأجمعهم لوسعتهم وقال ابن عباس في قوله تعالى (وكفى الله
المؤمنين القتال) (2) قال بعلي بن أبي طالب.
قال الجاحظ على أن مشى الشجاع بالسيف إلى الاقران، ليس على ما توهمه من لا يعلم
باطن الامر، لان معه في حال مشيه إلى الاقران بالسيف أمورا أخرى لا يبصرها الناس،
وإنما يقضون على ظاهر ما يرون من اقدامه وشجاعته، فربما كان سبب ذلك الهوج،
وربما كان الغرارة والحداثة، وربما كان الإحراج والحمية، وربما كان لمحبة النفخ
والأحدوثة، وربما كان طباعا كطباع القاسي والرحيم والسخي والبخيل (3)

(1) سورة الأنبياء 89.
(2) سورة الأحزاب 25.
(3) العثمانية 47، مع تصرف واختصار.
284

قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله فيقال للجاحظ فعلى أيها كان مشى علي بن أبي طالب
إلى الاقران بالسيف فأيما قلت من ذلك بانت عداوتك لله تعالى ولرسوله، وإن كان
مشيه ليس على وجه مما ذكرت، وإنما كان على وجه النصرة والقصد إلى المسابقة إلى
ثواب الآخرة، والجهاد في سبيل الله، وإعزاز الدين، كنت بجميع ما قلت معاندا، وعن
سبيل الانصاف خارجا، وفى امام المسلمين طاعنا، وان تطرق مثل هذا الوهم على علي
عليه السلام ليتطرقن مثله على أعيان المهاجرين والأنصار أرباب الجهاد والقتال،
الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وآله بأنفسهم ووقوه بمهجهم، وفدوه بأبنائهم
وآبائهم، فلعل ذلك كان لعلة من العلل المذكورة، وفى ذلك الطعن في الدين، وفى
جماعة المسلمين.
ولو جاز أن يتوهم هذا في علي عليه السلام وفى غيره، لما قال رسول الله صلى الله
عليه وآله حكاية عن الله تعالى لأهل بدر (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)،
ولا قال لعلي عليه السلام (برز الايمان كله إلى الشرك كله)، ولا قال (أوجب
طلحة) (1).
وقد علمنا ضرورة من دين الرسول صلى الله عليه وآله تعظيمه لعلى عليه السلام
تعظيما دينيا، لأجل جهاده ونصرته، فالطاعن فيه طاعن في رسول الله صلى الله عليه وآله،
إذ زعم أنه قد يمكن أن يكون جهاده لا لوجه الله تعالى، بل لأمر آخر من الأمور التي
عددها، وبعثه على التفوه بها إغواء الشيطان وكيده، والافراط في عداوة من أمر الله
بمحبته، ونهى عن بغضه وعداوته.

(1) أوجب طلحة، اي عمل عملا يدخله الجنة.
285

أترى رسول الله صلى الله عليه وآله خفى عليه من أمر علي عليه السلام ما لاح للجاحظ
والعثمانية فمدحه وهو غير مستحق للمدح.
قال الجاحظ فصاحب النفس المختارة المعتدلة يكون قتاله طاعة، وفراره معصية،
لان نفسه معتدلة، كالميزان في استقامة لسانه وكفتيه، فإذا لم يكن كذلك كان اقدامه
طباعا، وفراره طباعا (1).
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله فيقال له فلعل انفاق أبى بكر على ما تزعم أربعين
ألف درهم لا ثواب له، لان نفسه ربما تكون غير معتدلة، لأنه يكون مطبوعا
على الجود والسخاء، ولعل خروجه مع النبي صلى الله عليه وآله يوم الهجرة إلى الغار
لا ثواب له فيه، لان أسبابه كانت له مهيجة، ودواعيه غالبة، محبة الخروج، وبغض
المقام، ولعل رسول الله صلى الله عليه وآله في دعائه إلى الاسلام وإكبابه على الصلوات
الخمس في جوف الليل، وتدبيره أمر الأمة لا ثواب له فيه، لأنه قد تكون نفسه غير
معتدلة، بل يكون في طباعه الرياسة وحبها، والعبادة والالتذاذ بها، ولقد كنا نعجب
من مذهب أبي عثمان أن المعارف ضرورة، وانها تقع طباعا، وفى قوله بالتولد وحركة الحجر
بالطبع حتى رأينا من قوله ما هو أعجب منه، فزعم أنه ربما يكون جهاد علي عليه السلام
وقتله المشركين لا ثواب له فيه، لأنه فعله طبعا، وهذا اطرف من قوله في المعرفة
وفى التولد.
قال الجاحظ ووجه آخر أن عليا لو كان كما يزعم شيعته، ما كان له بقتل الاقران
كبير فضيلة، ولا عظيم طاعة، لأنه قد روى عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال له

(1) انظر العثمانية 47، 48.
286

(ستقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين)، فإذا كان قد وعده بالبقاء بعده فقد
وثق بالسلامة من الاقران، وعلم أنه منصور عليهم وقاتلهم، فعلى هذا يكون جهاد طلحة
والزبير أعظم طاعة منه (1).
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله هذا راجع على الجاحظ في النبي صلى الله عليه وآله،
لان الله تعالى قال له (والله يعصمك من الناس) (2)، فلم يكن له في جهاده كبير طاعة،
وكثير طاعة، وكثير من الناس يروى عنه صلى الله عليه وآله (اقتدوا باللذين من بعدي
أبى بكر وعمر) فوجب أن يبطل جهادهما، وقد قال للزبير (ستقاتل عليا، وأنت
ظالم له)، فأشعره بذلك انه لا يموت في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله، وقال في
الكتاب العزيز لطلحة (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا
أزواجه من بعده)، قالوا نزلت في طلحة، فأعلمه بذلك انه يبقى بعده، فوجب الا يكون
لهما كبير ثواب في الجهاد، والذي صح عندنا من الخبر وهو قوله (ستقاتل بعدي
الناكثين)، أنه قال لما وضعت الحرب أوزارها، ودخل الناس في دين الله أفواجا،
ووضعت الجزية، ودانت العرب قاطبة.
قال الجاحظ ثم قصد الناصرون لعلى، والقائلون بتفضيله إلى الاقران الذين قتلهم
فأطروهم وغلوا فيهم، وليسوا هناك فمنهم عمرو بن عبد ود تركتموه أشجع من عامر
ابن الطفيل وعتبة بن الحارث وبسطام بن قيس، وقد سمعنا بأحاديث حروب الفجار
وما كان بين قريش ودوس وحلف الفضول، فما سمعت لعمرو بن عبد ود ذكرا
في ذلك (3).

(1) انظر العثمانية 49، 50.
(2) سورة المائدة 67.
(3) انظر العثمانية 49، 50.
287

قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله أمر عمرو بن عبد ود أشهر وأكثر من أن يحتج له،
فلنتلمح كتب المغازي والسير، ولينظر ما رثته به شعراء قريش لما قتل، فمن ذلك ما ذكره
محمد بن إسحاق في مغازيه، قال وقال مسافع بن عبد مناف بن زهره بن حذافة بن جمح
يبكى عمرو بن عبد الله بن عبد ود حين قتله علي بن أبي طالب عليه السلام مبارزة لما جزع
المذاد (1) أي قطع الخندق.
عمرو بن عبد كان أول فارس * جزع المذاد وكان فارس مليل (2)
سمح الخلائق ماجد ذو مرة * يبغي القتال بشكة لم ينكل (3)
ولقد علمتم حين ولوا عنكم * أن ابن عبد منهم لم يعجل (4)
حتى تكنفه الكماة وكلهم * يبغي القتال له وليس بمؤتل (5)
ولقد تكنفت الفوارس فارسا * بجنوب سلع غير نكس أميل (6)
سال النزال هناك فارس غالب * بجنوب سلع ليته لم ينزل
فاذهب علي ما ظفرت بمثلها * فخرا ولو لاقيت مثل المعضل (7)
نفسي الفداء لفارس من غالب * لاقى حمام الموت لم يتحلحل (8)
أعني الذي جزع المذاد ولم يكن * فشلا وليس لدى الحروب بزمل (9)
وقال هبيرة بن أبي وهب المخزومي، يعتذر من فراره عن علي بن أبي طالب، وتركه
عمرا يوم الخندق ويبكيه:

(1) المذاد، بالذال المعجمة: موضع بالمدينة حيث حفر الخندق، وفي ط: (المزار) تصحيف، وجزع، اي قطع.
(2) مليل، واد ببدر.
(3) المرة: القوة، والشكة: السلاح.
(4) ابن هشام: (فيهم).
(5) تكنفه الكماة: أحاطوا به والتفوا حوله. وليس
بمؤتل اي ليس بمقصر.
(6) سلع: جبل بالمدينة. والنكس: الدنئ من الرجال. والأميل: الذي لا رمح معه.
(7) المعضل: الامر الشديد.
(8) لم يتحلحل: لم يبرح مكانه.
(9) الزمل: الضعيف الجبان.
288

لعمرك ما وليت ظهري محمدا * وأصحابه جبنا ولا خيفة القتل (1)
ولكنني قلبت أمري فلم أجد * لسيفي غناء إن وقفت ولا نبلي
وقفت فلما لم أجد لي مقدما * صدرت كضرغام هزبر إلى شبل (2)
ثنى عطفه عن قرنه حين لم يجد * مجالا (3) وكان الحزم والرأي من فعلى
فلا تبعدن يا عمرو حيا وهالكا * فقد مت محمود الثنا ماجد الفعل (4)
ولا تبعدن يا عمرو حيا وهالكا * فقد كنت في حرب العدا مرهف النصل
فمن لطراد الخيل تقدع بالقنا * وللبذل يوما عند قرقرة البزل (5)
هنالك لو كان ابن عمرو لزارها * وفرجها عنهم فتى غير ما وغل
كفتك على لن ترى مثل موقف * وقفت على شلو المقدم كالفحل (6)
فما ظفرت كفاك يوما بمثلها * أمنت بها ما عشت من زلة النعل.
وقال هبيرة بن أبي وهب أيضا، يرثى عمرا ويبكيه:
لقد علمت عليا لؤي بن غالب * لفارسها عمرو إذا ناب نائب (7)
وفارسها عمرو إذا ما يسوقه * علي وان الموت لا شك طالب (8)
عشية يدعوه على وانه * لفارسها إذ خام عنه الكتائب (9)

(1) سيرة ابن هشام 3: 301، 302.
(2) مقدما، اي لم أجد من يقدمني. وصدرت: اي رجعت. الضرغام: الأسد. الهزبر: الشديد: والشبل: ابن الأسد.
(3) ابن هشام: (لم يجد مكرا).
(4) الثنا: الذكر الطيب. والماجد: الشريف.
(5) تقدع: تكف. والقرقرة: أصوات فحول الإبل. والبزل: جمع بازل وهو في الأصل البعير الذي
فطر نابه، وذلك زمان اكتمال قوته.
(6) ابن هشام: (فعنك علي).
(7) إذا ناب نائب، اي إذا عرض اي مكروه.
(8) ابن هشام: (لفرسها عمرو إذا ما يسومه).
(9) خام: جبن ورجع هيبة وخوفا.
289

فيا لهف نفسي إن عمرا لكائن * بيثرب لا زالت هناك المصائب
لقد أحرز العليا على بقتله * وللخير يوما لا محالة جالب.
وقال حسان بن ثابت الأنصاري يذكر عمرا:
أمسى الفتى عمرو بن عبد ناظرا * كيف العبور وليته لم ينظر (1)
ولقد وجدت سيوفنا مشهورة * ولقد وجدت جيادنا لم تقصر (2)
ولقد لقيت غداة بدر عصبة * ضربوك ضربا غير ضرب الحسر
أصبحت لا تدعى ليوم عظيمة * يا عمرو أو لجسيم أمر منكر (3).
وقال حسان أيضا:
لقد شقيت بنو جمح بن عمرو * ومخزوم وتيم ما نقيل
وعمرو كالحسام فتى قريش * كان جبينه سيف صقيل
فتى من نسل عامر أريحي * تطاوله الأسنة والنصول
دعاه الفارس المقدام لما * تكشفت المقانب والخيول
أبو حسن فقنعه حساما * جرازا لا أفل ولا نكول
فغادره مكبا مسلحبا * على عفراء لا بعد القتيل.
فهذه الاشعار فيه بل بعض ما قيل فيه (4).
واما الآثار والاخبار، فموجودة في كتب السير وأيام الفرسان ووقائعهم، وليس

(1) رواية البيت في ابن هشام:
أمسى الفتى بن عمرو بن عبيد يبتغي * بجنوب يثرب ثأره لم ينظر.
(2) مشهورة اي قد شهرها أصحابها. ولم تقصر: لم تكف وتحبس عن التجوال.
(3) فال ابن هشام: (وبعض أهل العلم بالشعر ينكرها لحسان).
(4) سيرة ابن هشام 3: 298 - 304 (نشرة المكتبة التجارية)
290

أحد من أرباب هذا العلم يذكر عمرا الا قال كان فارس قريش وشجاعها، وإنما
قال له حسان
* ولقد لقيت غداة بدر عصبة *
لأنه شهد مع المشركين بدرا، وقتل قوما من المسلمين ثم فر مع من فر، ولحق
بمكة، وهو الذي كان قال وعاهد الله عند الكعبة الا يدعوه أحد إلى واحدة من
ثلاث الا إجابة وآثاره في أيام الفجار مشهورة تنطق بها كتب الأيام والوقائع،
ولكنه لم يذكر مع الفرسان الثلاثة وهم عتبة وبسطام وعامر، لأنهم كانوا أصحاب
غارات ونهب، وأهل بادية، وقريش أهل مدينة وساكنوا مدر وحجر، لا يرون
الغارات، ولا ينهبون غيرهم من العرب، وهم مقتصرون على المقام ببلدتهم وحماية
حرمهم، فلذلك لم يشتهر اسمه كاشتهار هؤلاء.
ويقال له إذا كان عمرو كما تذكر ليس هناك، فما باله لما جزع الخندق في (1)
ستة فرسان هو أحدهم، فصار مع أصحاب النبي صلى الله عليه وآله على ارض واحدة،
وهم ثلاثة آلاف، ودعاهم إلى البراز مرارا لم ينتدب أحد منهم للخروج إليه،
ولا سمح منهم أحد بنفسه، حتى وبخهم وقرعهم، وناداهم ألستم تزعمون أنه من قتل
منا فإلى النار، ومن قتل منكم فإلى الجنة أفلا يشتاق أحدكم إلى أن يذهب إلى
الجنة، أو يقدم عدوه إلى النار فجبنوا كلهم ونكلوا، وملكهم الرعب والوهل،
فاما أن يكون هذا أشجع الناس كما قيل عنه، أو يكون المسلمون كلهم أجبن
العرب وأذلهم وأفشلهم وقد روى الناس كلهم الشعر الذي أنشده لما نكل القوم
بجمعهم عنه، وانه جال بفرسه واستدار وذهب يمنة، ثم ذهب يسرة، ثم وقف تجاه
القوم، فقال
ولقد بححت من النداء * بجمعهم هل من مبارز

(1) جزع الخندق، اي عبره.
291

ووقفت إذ جبن المشيع وقفة القرن المناجز
وكذاك انى لم أزل * متسرعا نحو الهزاهز
إن الشجاعة في الفتى * والجود من خير الغرائز.
فلما برز إليه على أجابه، فقال له:
لا تعجلن فقد اتاك * مجيب صوتك غير عاجز
ذو نية وبصيرة * يرجو الغداة نجاة فائز
انى لأرجو أن أقيم * عليك نائحة الجنائز
من ضربة تفنى ويبقى * ذكرها عند الهزاهز.
ولعمري لقد سبق الجاحظ بما قاله بعض جهال الأنصار، لما رجع رسول الله
من بدر، وقال فتى من الأنصار شهد معه بدرا إن قتلنا الا عجائز صلعا فقال له
النبي صلى الله عليه وآله (لا تقل ذلك يا بن أخ، أولئك الملا).
* * *
قال الجاحظ وقد أكثروا في الوليد بن عتبة بن ربيعة قتيله يوم بدر، وما علمنا
الوليد حضر حربا قط قبلها، ولا ذكر فيها (1).
* * *
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله كل من دون اخبار قريش وآثار رجالها، وصف
الوليد بالشجاعة والبسالة، وكان مع شجاعته انه يصارع الفتيان فيصرعهم، وليس لأنه
لم يشهد حربا قبلها ما يجب أن يكون بطلا شجاعا، فان عليا عليه السلام لم يشهد قبل
بدر حربا، وقد رأى الناس آثاره فيها

(1) العثمانية 59.
292

قال الجاحظ وقد ثبت أبو بكر مع النبي صلى الله عليه وآله يوم أحد، كما ثبت على
فلا فخر لأحدهما على صاحبه في ذلك اليوم.
* * *
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله اما ثباته يوم أحد فأكثر المؤرخين وأرباب
السير ينكرونه، وجمهورهم يروى انه لم يبق مع النبي صلى الله عليه وآله الا على وطلحة
والزبير، وأبو دجانة، وقد روى عن ابن عباس أنه قال ولهم خامس وهو عبد الله بن
مسعود، ومنهم من أثبت سادسا، وهو المقداد بن عمرو، وروى يحيى بن سلمة بن كهيل
قال قلت لأبي كم ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وآله يوم أحد فقال اثنان، قلت
من هما قال على وأبو دجانة.
وهب أن أبا بكر ثبت يوم أحد كما يدعيه الجاحظ، أيجوز له أن يقول ثبت كما ثبت
على، فلا فخر لأحدهما على الاخر، وهو يعلم آثار علي عليه السلام ذلك اليوم، وانه
قتل أصحاب الألوية من بنى عبد الدار، منهم طلحة بن أبي طلحة، الذي رأى رسول
الله صلى الله عليه وآله في منامه انه مردف كبشا، فأوله وقال كبش الكتيبة نقتله.
فلما قتله علي عليه السلام مبارزة - وهو أول قتيل قتل من المشركين ذلك اليوم -
كبر رسول الله صلى الله عليه وآله، وقال (هذا كبش الكتيبة).
وما كان منه من المحاماة عن رسول الله صلى الله عليه وآله، وقد فر الناس وأسلموه،
فتصمد له كتيبة من قريش، فيقول (يا علي، اكفني هذه) فيحمل عليها فيهزمها،
ويقتل عميدها، حتى سمع المسلمون والمشركون صوتا من قبل السماء.
لا سيف الا ذو الفقار * ولا فتى الا علي
وحتى قال النبي صلى الله عليه وآله عن جبرائيل ما قال.
أتكون هذه آثاره وأفعاله، ثم يقول الجاحظ لا فخر لأحدهما على صاحبه.
293

(ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين) (1).
* * *
قال الجاحظ ولأبي بكر في ذلك اليوم مقام مشهور، خرج ابنه عبد الرحمن فارسا
مكفرا (2) في الحديد، يسال المبارزة، ويقول انا عبد الرحمن بن عتيق فنهض إليه
أبو بكر يسعى بسيفه، فقال له النبي صلى الله عليه وآله (شم سيفك وارجع إلى مكانك،
ومتعنا بنفسك (3)).
* * *
قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله ما كان أغناك يا أبا عثمان عن ذكر هذا المقام المشهور
لأبي بكر، فإنه لو تسمعه الامامية لأضافته إلى ما عندها من المثالب، لان قول
النبي صلى الله عليه وآله (ارجع) دليل على أنه لا يحتمل مبارزة أحد، لأنه إذا لم
يحتمل مبارزة ابنه، وأنت تعلم حنو الابن على الأب وتبجيله له، وإشفاقه عليه وكفه
عنه، لم يحتمل مبارزة الغريب الأجنبي.
وقوله له (ومتعنا بنفسك)، إيذان له بأنه كان يقتل لو خرج، ورسول الله كان
أعرف به من الجاحظ، فأين حال هذا الرجل من حال الرجل الذي صلى بالحرب،
ومشى إلى السيف بالسيف، فقتل السادة والقادة والفرسان والرجالة.
* * *
قال الجاحظ على أن أبا بكر - وان لم تكن آثاره في الحرب كآثار غيره - فقد
بذل الجهد، وفعل ما يستطيعه وتبلغه قوته، وإذا بذل المجهود فلا حال أشرف
من حاله (4).

(1) سورة الأعراف 89.
(2) اي مستترا.
(3) العثمانية 62.
(4) العثمانية 62.
294

قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله اما قوله انه بذل الجهد، فقد صدق، واما قوله
(لا حال أشرف من حاله)، فخطا، لان حال من بلغت قوته فأعملها في قتل المشركين
أشرف من حال من نقصت قوته عن بلوغ الغاية، الا ترى أن حال الرجل أشرف في
الجهاد من حال المرأة، وحال البالغ الأيد أشرف من حال الصبي الضعيف.
* * *
فهذه جملة ما ذكره الشيخ أبو جعفر محمد بن عبد الله الإسكافي رحمه الله في نقض
العثمانية، اقتصرنا عليها هاهنا، وسنعود فيما بعد إلى ذكر جملة أخرى من كلامه، إذا
اقتضت الحال ذكره

(1) قام الأستاذ عبد السلام هارون بطبع كتاب العثمانية، طبعة علمية محققة، والحق بها ما عثر عليه
من نقضها للإسكافي وطبعت في دار الكتاب العربي سنة 1955.
295

(239)
الأصل:
ومن كلام له عليه السلام قاله لعبد الله بن عباس، وقد جاءه برسالة من عثمان،
وهو محصور يسأله فيها الخروج إلى ماله بينبع، ليقل هتف الناس باسمه للخلافة،
بعد أن كان سأله مثل ذلك من قبل.
فقال عليه السلام:
يا بن عباس، ما يريد عثمان الا أن يجعلني جملا ناضحا بالغرب، اقبل وأدبر
بعث إلى أن اخرج، ثم بعث إلى أن أقدم، ثم هو الان يبعث إلى أن اخرج
والله لقد دفعت عنه حتى خشيت أن أكون آثما.
* * *
الشرح:
ينبع على (يفعل) مثل يحلم ويحكم اسم موضع، كان فيه نخل لعلي بن أبي طالب
عليه السلام، وينبع الان بلد صغير من اعمال المدينة.
وهتف الناس باسمه نداؤهم ودعاؤهم، واصله الصوت، يقال هتف الحمام
يهتف هتفا، وهتف زيد بعمرو هتافا، أي صاح به، وقوس هتافه وهتفي، أي
ذات صوت.
والناضح البعير يستقى عليه، وقال معاوية لقيس بن سعد - وقد دخل عليه
296

في رهط من الأنصار - ما فعلت نواضحكم يهزأ به، فقال أنصبناها في طلب أبيك
يوم بدر.
والغرب الدلو العظيمة.
قوله (اقبل وأدبر)، أي يقول لي ذلك، كما يقال للناضح، وقد صرح العباس بن
مرداس بهذه الألفاظ فقال:
أراك إذا أصبحت للقوم ناضحا يقال له بالغرب أدبر واقبل.
قوله (لقد دفعت عنه حتى خشيت أن أكون آثما)، يحتمل أن يريد بالغت
واجتهدت في الدفاع عنه، حتى خشيت أن أكون آثما في كثرة مبالغتي واجتهادي في
ذلك، وانه لا يستحق الدفاع عنه لجرائمه واحداثه، وهذا تأويل من ينحرف عن عثمان،
ويحتمل أن يريد لقد دفعت عنه حتى كدت أن ألقى نفسي في الهلكة، وان يقتلني الناس
الذين ثاروا به، فخفت الاثم في تغريري بنفسي وتوريطها في تلك الورطة العظيمة، ويحتمل
أن يريد لقد جاهدت الناس دونه ودفعتهم عنه، حتى خشيت أن أكون آثما بما نلت
منهم من الضرب بالسوط، والدفع باليد، والإعانة بالقول، أي فعلت من ذلك
أكثر مما يحب.
[وصية العباس قبل موته لعلى]
قرأت في كتاب صنفه أبو حيان التوحيدي في تقريظ الجاحظ، قال نقلت من
خط الصولي قال الجاحظ إن العباس بن عبد المطلب أوصي علي بن أبي طالب عليه
السلام في علته التي مات فيها، فقال أي بنى انى مشف على الظعن عن الدنيا إلى الله،
الذي فاقتي إلى عفوه وتجوزه أكثر من حاجتي إلى ما أنصحك فيه، وأشير عليك به،
297

ولكن العرق نبوض (1)، والرحم عروض، وإذا قضيت حق العمومة، فلا أبالي بعد
إن هذا الرجل - يعنى عثمان - قد جاءني مرارا بحديثك، وناظرني ملاينا ومخاشنا في امرك،
ولم أجد عليك الا مثل ما أجد منك عليه، ولا رأيت منه لك الا مثل ما أجد منك له،
ولست تؤتى من قلة علم، ولكن من قلة قبول، ومع هذا كله فالرأي الذي أودعك به
أن تمسك عنه لسانك ويدك، وهمزك وغمزك، فإنه لا يبدؤك ما لم تبدأه، ولا يجيبك
عما لم يبلغه، وأنت المتجني وهو المتأني، وأنت العائب وهو الصامت. فان قلت كيف
هذا وقد جلس مجلسا انا به أحق، فقد قاربت ولكن ذاك بما كسبت يداك، ونكص
عنه عقباك، لأنك بالأمس الأدنى، هرولت إليهم تظن انهم يحلون جيدك، ويختمون
إصبعك، ويطأون عقبك، ويرون الرشد بك، ويقولون لا بد لنا منك، ولا معدل
لنا عنك، وكان هذا من هفواتك الكبر، وهناتك التي ليس لك منها عذر، والآن بعد
ما ثللت عرشك بيدك، ونبذت رأي عمك في البيداء يتدهده (2) في السافياء (3)، خذ
بأحزم مما يتوضح به وجه الامر لا تشار (4) هذا الرجل ولا تماره (5)، ولا يبلغنه عنك
ما يحنقه عليك، فإنه إن كاشفك أصاب أنصارا، وإن كاشفته لم تر الا ضرارا، ولم تستلج (6)
الا عثارا، واعرف من هو بالشام له، ومن هاهنا حوله من يطيع امره، ويمتثل قوله،
لا تغتر بالناس يطيفون بك، ويدعون الحنو عليك والحب لك، فإنهم بين مولى جاهل،
وصاحب متمن، وجليس يرعى العين ويبتدر المحضر، ولو ظن الناس بك ما تظن بنفسك
لكان الامر لك، والزمام في يدك، ولكن هذا حديث يوم مرض رسول الله صلى الله
عليه وآله فات، ثم حرم الكلام فيه حين مات، فعليك الان بالعزوف عن شئ عرضك

(1) كذا في ا، ونبوض: من نبض العرق ينبض نبوضا، وهو ضرباته وفي ب: (يبوض).
(2) يتدهده: يتدحرج.
(3) السافياء: الريح التي تحمل التراب.
(4) يقال: شاراه مشاراة، إذا لاجه.
(5) تماره: تجادله.
(6) تستلج: تدخل.
298

له رسول الله صلى الله عليه وآله، فلم يتم، وتصديت له مرة بعد مرة فلم يستقم، ومن ساور
الدهر غلب، ومن حرص على ممنوع تعب، فعلى ذلك فقد أوصيت عبد الله بطاعتك،
وبعثته على متابعتك، وأوجرته محبتك، ووجدت عنده من ذلك ظني به لك، لا توتر
قوسك الا بعد الثقة بها، وإذا أعجبتك فانظر إلى سيتها، ثم لا تفوق الا بعد العلم ولا تغرق
في النزع الا لتصيب الرمية، وانظر لا تطرف يمينك عينك، ولا تجن شمالك شينك،
ودعني بآيات من آخر سورة الكهف، وقم إذا بدا لك.
قلت الناس يستحسنون رأي العباس لعلى عليه السلام في الا يدخل في أصحاب الشورى
واما انا فإني استحسنه إن قصد به معنى، ولا استحسنه إن قصد به معنى آخر، وذلك لأنه إن
أجري بهذا الرأي إلى ترفعه عليهم، وعلو قدره عن أن يكون مماثلا لهم، أو أجري به إلى
زهده في الامارة، ورغبته عن الولاية، فكل هذا رأي حسن وصواب، وإن كان منزعه في
ذلك إلى انك إن تركت الدخول معهم، وانفردت بنفسك في دارك، أو خرجت عن
المدينة إلى بعض أموالك، فإنهم يطلبونك، ويضربون إليك آباط الإبل، حتى يولوك
الخلافة، وهذا هو الظاهر من كلامه، فليس هذا الرأي عندي بمستحسن، لأنه لو فعل
ذلك لولوا عثمان أو واحدا منهم غيره، ولم يكن عندهم من الرغبة فيه عليه السلام ما يبعثهم
على طلبه، بل كان تأخره عنهم قرة أعينهم، وواقعا بإيثارهم، فان قريشا كلها كانت
تبغضه أشد البغض، ولو عمر عمر نوح، وتوصل إلى الخلافة بجميع أنواع التوصل، كالزهد
فيها تارة، والمناشدة بفضائله تارة، وبما فعله في ابتداء الامر من اخراج زوجته وأطفاله
ليلا إلى بيوت الأنصار، وبما اعتمده إذ ذاك من تخلفه في بيته، واظهار انه قد انعكف
على جمع القرآن، وبسائر أنواع الحيل فيها، لم تحصل له الا بتجريد السيف، كما فعل
في آخر الامر، ولست ألوم العرب، لا سيما قريشا في بغضها له، وانحرافها عنه، فإنه
وترها، وسفك دماءها، وكشف القناع في منابذتها، ونفوس العرب وأكبادهم كما تعلم،
299

وليس الاسلام بمانع من بقاء الأحقاد في النفوس، كما نشاهده اليوم عيانا، والناس
كالناس الأول، والطبائع واحدة، فأحسب انك كنت من سنتين أو ثلاث جاهليا أو من
بعض الروم، وقد قتل واحد من المسلمين ابنك أو أخاك، ثم أسلمت، أكان إسلامك
يذهب عنك ما تجده من بغض ذلك القاتل وشنآنه كلا إن ذلك لغير ذاهب، هذا
إذا كان الاسلام صحيحا والعقيدة محققة، لا كإسلام كثير من العرب، فبعضهم تقليدا،
وبعضهم للطمع والكسب، وبعضهم خوفا من السيف، وبعضهم على طريق الحمية
والانتصار، أو لعداوة قوم آخرين من أضداد الاسلام وأعدائه.
واعلم أن كل دم أراقه رسول الله صلى الله عليه وآله بسيف علي عليه السلام
وبسيف غيره، فان العرب بعد وفاته عليه السلام عصبت تلك الدماء بعلي بن أبي طالب
عليه السلام وحده، لأنه لم يكن في رهطه من يستحق في شرعهم وسنتهم وعادتهم أن
يعصب به تلك الدماء الا بعلي وحده، وهذه عادة العرب إذا قتل منها قتلى طالبت بتلك
الدماء القاتل، فان مات، أو تعذرت عليها مطالبته، طالبت بها أمثل الناس من أهله.
لما قتل قوم من بنى تميم أخا لعمرو بن هند، قال بعض أعدائه يحرض عمرا
عليهم (1):
من مبلغ عمرا بان المرء لم يخلق صبارة (2)
وحوادث الأيام لا * يبقى لها الا الحجارة
ها إن عجزه أمة * بالسفح أسفل من أواره (3)
تسفى الرياح خلال كشحيه وقد سلبوا إزاره
فاقتل زرارة لا أرى * في القوم أمثل من زرارة.

(1) هو عمرو بن ملقط الطائي، والأبيات في تاريخ ابن الأثير 1: 335، ضمن خبره عن يوم أواره
الثاني، وهي أيضا في اللسان 6: 111.
(2) الصبارة: الحجارة الملس، كأنه يقول: ليس الانسان بحجر فيصبر على مثل هذا.
(3) أول ولد المرأة يقال له زكمة، والاخر عجزة.
300

فأمره أن يقتل زرارة بن عدس رئيس بنى تميم، ولم يكن قاتلا أخا الملك
ولا حاضرا قتله.
ومن نظر في أيام العرب ووقائعها ومقاتلها عرف ما ذكرناه.
سالت النقيب أبا جعفر يحيى بن أبي زيد رحمه الله، فقلت له: انى لأعجب من علي عليه
السلام كيف بقي تلك المدة الطويلة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، وكيف ما اغتيل (1)
وفتك به في جوف منزله، مع تلظى الأكباد عليه.
فقال لولا أنه أرغم أنفه بالتراب، ووضع خده في حضيض الأرض لقتل، ولكنه
أخمل نفسه، واشتغل بالعبادة والصلاة والنظر في القرآن، وخرج عن ذلك الزي الأول،
وذلك الشعار ونسي السيف، وصار كالفاتك يتوب ويصير سائحا في الأرض، أو راهبا في
الجبال، ولما أطاع القوم الذين ولوا الامر، وصار أذل لهم من الحذاء، تركوه وسكتوا
عنه، ولم تكن العرب لتقدم عليه الا بمواطاة من متولي الامر، وباطن في السر منه،
فلما لم يكن لولاه الامر باعث وداع إلى قتله وقع الامساك عنه، ولولا ذلك لقتل (2)، ثم
اجل بعد معقل حصين.
فقلت له أحق ما يقال في حديث خالد فقال إن قوما من العلوية
يذكرون ذلك.
ثم قال وقد روى أن رجلا جاء إلى زفر بن الهذيل، صاحب أبي حنيفة، فسأله
عما يقول أبو حنيفة في جواز الخروج من الصلاة بأمر غير التسليم، نحو الكلام والفعل
الكثير أو الحدث فقال إنه جائز، قد قال أبو بكر في تشهده ما قال، فقال الرجل

(1) ب: (ما قتل)، وأثبت ما في ا.
(2) ب: (لقتله).
301

وما الذي قاله أبو بكر قال لا عليك، فأعاد عليه السؤال ثانية وثالثة، فقال أخرجوه
أخرجوه، قد كنت أحدث انه من أصحاب أبي الخطاب.
قلت له فما الذي تقوله أنت قال انا استبعد ذلك وان روته الامامية.
ثم قال اما خالد فلا استبعد منه الاقدام عليه بشجاعته في نفسه، ولبغضه إياه،
ولكني استبعده من أبى بكر، فإنه كان ذا ورع، ولم يكن ليجمع بين اخذ الخلافة ومنع
فدك، وإغضاب فاطمة وقتل علي عليه السلام، حاش لله من ذلك فقلت له أكان
خالد يقدر على قتله قال نعم، ولم لا يقدر على ذلك، والسيف في عنقه، وعلى اعزل
غافل عما يراد به، قد قتله ابن ملجم غيلة، وخالد أشجع من ابن ملجم.
فسألته عما ترويه الامامية في ذلك، كيف ألفاظه فضحك وقال:
* كم عالم بالشئ وهو يسائل *.
ثم قال دعنا من هذا، ما الذي تحفظ في هذا المعنى قلت قول أبى الطيب:
نحن أدرى وقد سألنا بنجد * أطويل طريقنا أم يطول (1)
وكثير من السؤال اشتياق * وكثير من رده تعليل.
فاستحسن ذلك، وقال لمن عجز البيت الذي استشهدت به قلت لمحمد بن هانئ
المغربي، وأوله:
في كل يوم استزيد تجاربا * كم عالم بالشئ وهو يسائل (2).
فبارك على مرارا، ثم قال نترك الان هذا ونتمم ما كنا فيه، وكنت أقرأ عليه في
ذلك الوقت " جمهرة النسب " لابن الكلبي، فعدنا إلى القراءة، وعدلنا عن الخوض
عما كان اعترض الحديث فيه.

(1) ديوانه 3: 151، 152.
(2) ديوانه 114.
302

(240)
الأصل:
ومن كلام له عليه السلام اقتص فيه ذكر ما كان منه بعد هجرة النبي صلى
الله عليه وآله ثم لحاقه به:
فجعلت اتبع مأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله، فأطأ ذكره حتى
انتهيت إلى العرج.
في كلام طويل
قال الرضى رحمه الله تعالى قوله عليه السلام (فأطأ ذكره)، من
الكلام الذي رمى به إلى غايتي الايجاز والفصاحة، أراد انى كنت أعطي خبره
صلى الله عليه وآله من بدء خروجي إلى أن انتهيت إلى هذا الموضع، فكنى عن
ذلك بهذه الكناية العجيبة.
* * *
الشرح:
العرج منزل بين مكة والمدينة، إليه ينسب العرجي الشاعر، وهو عبد الله بن عمرو
ابن عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس.
قال محمد بن إسحاق في كتاب " المغازي " لم يعلم رسول الله صلى الله عليه وآله
أحدا من المسلمين ما كان عزم عليه من الهجرة الا علي بن أبي طالب وأبا بكر بن أبي
قحافة، اما على، فان رسول الله صلى الله عليه وآله أخبره بخروجه، وأمره أن يبيت على
303

فراشه، يخادع المشركين عنه ليروا انه لم يبرح فلا يطلبوه، حتى تبعد المسافة بينهم وبينه،
وان يتخلف بعده بمكة حتى يؤدى عن رسول الله صلى الله عليه وآله الودائع التي عنده
للناس، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله استودعه رجال من مكة ودائع لهم، لما يعرفونه
من أمانته، واما أبو بكر فخرج معه.
وسالت النقيب أبا جعفر يحيى بن أبي زيد الحسنى، رحمه الله فقلت إذا كانت
قريش قد محصت رأيها، وألقى إليها إبليس - كما روى - ذلك الرأي، وهو أن يضربوه
بأسياف من أيدي جماعة من بطون مختلفة، ليضيع دمه في بطون قريش فلا تطلبه بنو
عبد مناف، فلما ذا انتظروا به تلك الليلة الصبح فان الرواية جاءت بأنهم كانوا تسوروا
الدار، فعاينوا فيها شخصا مسجى بالبرد الحضرمي الأخضر، فلم يشكوا انه هو، فرصدوه
إلى أن أصبحوا، فوجدوه عليا. وهذا طريف، لأنهم كانوا قد اجمعوا على قتله تلك الليلة،
فما بالهم لم يقتلوا ذلك الشخص المسجى، وانتظارهم به النهار دليل على أنهم لم يكونوا أرادوا
قتله تلك الليلة.
فقال في الجواب لقد كانوا هموا من النهار بقتله تلك الليلة، وكان اجماعهم على ذلك،
وعزمهم في حقنه من بنى عبد مناف، لان الذين محصوا هذا الرأي واتفقوا عليه: النضر بن
الحارث من بنى عبد الدار، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام، وزمعة بن الأسود
ابن المطلب، هؤلاء الثلاثة من بنى أسد بن عبد العزى، وأبو جهل بن هشام، وأخوه
الحارث، وخالد بن الوليد بن المغيرة، هؤلاء الثلاثة من بنى مخزوم، ونبيه ومنبه ابنا
الحجاج، وعمرو بن العاص، هؤلاء الثلاثة من بنى سهم، وأمية بن خلف وأخوه أبي بن
خلف، هذان من بنى جمح، فنما هذا الخبر من الليل إلى عتبة بن ربيعة بن عبد شمس،
فلقى منهم قوما، فنهاهم عنه، وقال إن بنى عبد مناف لا تمسك عن دمه، ولكن صفدوه
304

في الحديد، واحبسوه في دار من دوركم، وتربصوا به أن يصيبه من الموت ما أصاب أمثاله
من الشعراء وكان عتبة بن ربيعه سيد بنى عبد شمس ورئيسهم، وهم من بنى عبد مناف،
وبنو عم الرجل ورهطه، فأحجم أبو جهل وأصحابه تلك الليلة عن قتله إحجاما، ثم تسوروا عليه،
وهم يظنونه في الدار، فلما رأوا انسانا مسجى بالبرد الأخضر الحضرمي لم يشكوا انه هو،
وائتمروا في قتله، فكان أبو جهل يذمرهم (1) عليه فيهمون ثم يحجمون ثم قال بعضهم
لبعض ارموه بالحجارة، فرموه، فجعل على يتضور منها، ويتقلب ويتأوه تأوها خفيفا،
فلم يزالوا كذلك في اقدام عليه وإحجام عنه، لما يريده الله تعالى من سلامته ونجاته، حتى
أصبح وهو وقيذ (2) من رمى الحجارة، ولو لم يخرج رسول الله صلى الله عليه وآله إلى
المدينة، وأقام بينهم بمكة، ولم يقتلوه تلك الليلة، لقتلوه في الليلة التي تليها، وان شبت
الحرب بينهم وبين عبد مناف، فان أبا جهل لم يكن بالذي ليمسك عن قتله، وكان فاقد
البصيرة، شديد العزم على الولوغ في دمه.
قلت للنقيب أفعلم رسول الله صلى الله عليه وآله وعلي عليه السلام بما كان من نهى
عتبة لهم قال لا، انهما لم يعلما ذلك تلك الليلة، وإنما عرفاه من بعد، ولقد قال رسول
الله صلى الله عليه وآله يوم بدر، لما رأى عتبة وما كان منه (إن يكن في القوم خير ففي
صاحب الجمل الأحمر). ولو قدرنا أن عليا عليه السلام علم ما قال لهم عتبة لم يسقط ذلك فضيلته
في المبيت، لأنه لم يكن على ثقة من أنهم يقبلون قول عتبة، بل كان ظن الهلاك
والقتل أغلب.
واما حال علي عليه السلام، فلما أدى الودائع، خرج بعد ثلاث من هجرة النبي

(1) يذمرهم: يحضهم.
(2) الوقيذ: المشرف على الهلاك.
305

صلى الله عليه وآله، فجاء إلى المدينة راجلا قد تورمت قدماه، فصادف رسول الله
صلى الله عليه وآله نازلا بقباء على كلثوم بن الهدم، فنزل معه في منزله.
وكان أبو بكر نازلا بقباء أيضا في منزل حبيب بن يساف، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه
وآله وهما معه من قباء، حتى نزل بالمدينة على أبى أيوب خالد بن يزيد الأنصاري،
وابتنى المسجد.
306

(241)
الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام:
فاعملوا وأنتم في نفس البقاء، والصحف منشورة، والتوبة مبسوطة، والمدبر
يدعى، والمسئ يرجى، قبل أن يخمد العمل، وينقطع المهل، وتنقضي المدة،
ويسد باب التوبة، وتصعد الملائكة، فاخذ امرؤ من نفسه لنفسه، واخذ من
حي لميت ومن فان لباق، ومن ذاهب لدائم، امرؤ خاف الله. وهو معمر
إلى اجله، ومنظور إلى عمله، امرؤ الجم نفسه بلجامها، وزمها بزمامها، فأمسكها
بلجامها عن معاصي الله، وقادها بزمامها إلى طاعة الله.
* * *
الشرح:
في نفس البقاء، بفتح الفاء، أي في سعته، تقول أنت في نفس من امرك، أي
في سعة.
والصحف منشورة، أي وأنتم بعد احياء، لأنه لا تطوى صحيفة الانسان الا إذا
مات. والتوبة مبسوطة لكم غير مقبوضة عنكم، ولا مردودة عليكم إن فعلتم، كما ترد
على الانسان توبته إذا احتضر.
والمدبر يدعى، أي من يدبر منكم، ويولي عن الخير يدعى إليه، وينادى يا فلان
اقبل على ما يصلحك.
307

والمسئ يرجى، أي يرجى عوده وإقلاعه.
قبل أن يجمد العمل، استعاره مليحة، لان الميت يجمد عمله ويقف، ويروى (يخمد)
بالخاء، من خمدت النار، والأول أحسن.
وينقطع المهل، أي العمر الذي أمهلتم فيه.
وتصعد الملائكة، لان الانسان عند موته تصعد حفظته إلى السماء، لأنه لم يبق لهم
شغل في الأرض.
قوله (فاخذ امرؤ) ماض يقوم مقام الامر، وقد تقدم شرح ذلك، والمعنى إن
من يصوم ويصلى فإنما يأخذ بعض قوة نفسه مما يلقى من المشقة.
لنفسه أي عدة وذخيرة لنفسه يوم القيامة، وكذلك من يتصدق، فإنه يأخذ من ماله، وهو جار مجرى
نفسه لنفسه.
واخذ من حي لميت، أي من حال الحياة لحال الموت، ولو قال من ميت لحى،
كان جيدا أيضا، لان الحي في الدنيا ليس بحي على الحقيقة، وإنما الحياة حياة الآخرة،
كما قال الله تعالى (وان الدار الآخرة لهي الحيوان) (1).
وروى (أمسكها بلجامها) بغير فاء.

(1) سورة العنكبوت 64.
308

(242)
الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام في شان الحكمين وذم أهل الشام:
جفاة طغام، عبيد أقزام، جمعوا من كل أوب، وتلقطوا من كل شوب،
ممن ينبغي أن يفقه ويؤدب، ويعلم ويدرب، ويولي عليه، ويؤخذ على
يديه، ليسوا من المهاجرين والأنصار، ولا من الذين تبوءوا الدار والايمان.
الا وإن القوم اختاروا لأنفسهم أقرب القوم مما يحبون، وانكم اخترتم
لأنفسكم أقرب القوم مما تكرهون وإنما عهدكم بعبد الله بن قيس، بالأمس
يقول إنها فتنة فقطعوا أوتاركم، وشيموا سيوفكم، فإن كان صادقا فقد أخطأ
بمسيره غير مستكره، وإن كان كاذبا فقد لزمته التهمة.
فادفعوا في صدر عمرو بن العاص بعبد الله بن العباس، وخذوا مهل الأيام،
وحوطوا قواصي الاسلام.
الا ترون إلى بلادكم تغزى، والى صفاتكم ترمى.
* * *
الشرح:
جفاة جمع جاف، أي هم اعراب أجلاف والطغام أوغاد الناس، الواحد
والجمع فيه سواء.
ويقال للأشرار واللئام عبيد، وان كانوا أحرارا.
309

والأقزام، بالزاي رذال الناس وسفلتهم، والمسموع قزم، الذكر والأنثى
والواحد والجمع فيه سواء، لأنه في معنى المصدر، قال الشاعر:
وهم إذا الخيل جالوا في كتائبها * فوارس الخيل لا ميل ولا قزم (1)
ولكنه عليه السلام قال (أقزام) ليوازن بها قوله (طغام)، وقد روى
(قزام)، وهي رواية جيدة، وقد نطقت العرب بهذه اللفظة وقال الشاعر:
أحصنوا أمهم من عبدهم * تلك أفعال القزام الوكعة (2)
وجمعوا من كل أوب، أي من كل ناحية.
وتلقطوا من كل شوب، أي من فرق مختلطة.
ثم وصف جهلهم وبعدهم عن العلم والدين، فقال ممن ينبغي أن يفقه ويؤدب،
أي يعلم الفقه والأدب ويدرب، أي يعود اعتماد الأفعال الحسنة والأخلاق الجميلة.
ويولي عليه، أي لا يستحقون أن يولوا أمرا، بل ينبغي أن يحجر عليهم كما يحجر
على الصبي والسفيه لعدم رشده وروى (ويولى عليه) بالتخفيف. ويؤخذ على
يديه، أي يمنع من التصرف.
قوله عليه السلام (ولا الذين تبوءوا الدار والايمان)، ظاهر اللفظ يشعر بان الأقسام
ثلاثة وليست الا اثنين، لان الذين تبوءوا الدار والايمان الأنصار، ولكنه عليه السلام
كرر ذكرهم تأكيدا، وأيضا فان لفظة (الأنصار) واقعه على كل من كان من الأوس
والخزرج، الذين أسلموا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله والذين تبوءوا الدار

(1) الصحاح 5: 2010، ونسبه إلى زياد بن منقذ.
(2) الصحاح 5: 2010، من غير نسبة، وأحصنوا اي زوجوا.
310

والايمان في (1) الآية، قوم مخصوصون منهم، وهم أهل الاخلاص والايمان التام فصار
ذكر الخاص بعد العام، كذكره تعالى جبرئيل وميكائيل، ثم قال (والملائكة
بعد ذلك ظهير) (2)، وهما من الملائكة ومعنى قوله تبوءوا الدار والايمان)
سكنوهما، وإن كان الايمان لا يسكن كما تسكن المنازل، لكنهم لما ثبتوا عليه، واطمأنوا
سماه منزلا لهم ومتبوأ، ويجوز أن يكون مثل قوله:
ورأيت زوجك في الوغى * متقلدا سيفا ورمحا (3)
ثم ذكر عليه السلام أن أهل الشام اختاروا لأنفسهم أقرب القوم مما يحبونه، وهو
عمرو بن العاص، وكرر لفظة (القوم)، وكان الأصل أن يقول الا وان القوم اختاروا
لأنفسهم أقربهم مما يحبون، فأخرجه مخرج قول الله تعالى (واتقوا الله إن الله عليم
بذات الصدور) (4) والذي يحبه أهل الشام هو الانتصار على أهل العراق والظفر بهم،
وكان عمرو بن العاص أقربهم إلى بلوغ ذلك، والوصول إليه بمكره وحيلته وخدائعه.
والقوم في قوله ثانيا (أقرب القوم)، بمعنى الناس كأنه قال واخترتم لأنفسكم أقرب
الناس، مما تكرهونه، وهو أبو موسى الأشعري، واسمه عبد الله بن قيس، والذي يكرهه
أهل العراق هو ما يحبه أهل الشام، وهو خذلان عسكر العراق وانكسارهم، واستيلاء
أهل الشام عليهم، وكان أبو موسى أقرب الناس إلى وقوع ذلك، وهكذا وقع لبلهه
وغفلته وفساد رأيه، وبغضه عليا عليه السلام من قبل.
ثم قال أنتم بالأمس، يعنى في واقعة الجمل، قد سمعتم أبا موسى ينهى أهل الكوفة

(1) وهو قوله تعالى في سورة الحشر 9: (والذين تبوؤا الدار والايمان من قبلهم
يحبون من هاجر إليهم).
(2) سورة التحريم 4.
(3) لعبد الله بن الزبعري، كما في حواشي ابن القوطية على الكامل
189 (ليبسك)، وانظر أمالي المرتضى 2: 260، وحواشي شرح المرزوقي للحماسة 1147.
(4) سورة المائدة 7.
311

عن نصرتي، ويقول لهم هذه هي الفتنة التي وعدنا بها، فقطعوا أوتار قسيكم وشيموا
سيوفكم، أي اغمدوها فإن كان صادقا فما باله سار إلى، وصار معي في الصف، وحضر
حرب صفين، وكثر سواد أهل العراق وإن لم يحارب، ولم يسل السيف، فان من
حضر في إحدى الجهتين وإن لم يحارب كمن حارب، وإن كان كاذبا فيما رواه من خبر
الفتنة فقد لزمته التهمة وقبح الاختلاف إليه في الحكومة، وهذا يؤكد صحة إحدى
الروايتين في أمر أبى موسى، فإنه قد اختلفت الرواية هل حضر حرب صفين مع
أهل العراق أم لا فمن قال حضر، قال: حضر ولم يحارب، وما طلبه اليمانيون من
أصحاب علي عليه السلام ليجعلوه حكما كالأشعث بن قيس وغيره الا وهو حاضر معهم
في الصف، ولم يكن منهم على مسافة، ولو كان على مسافة لما طلبوه، ولكان لهم فيمن
حضر غناء عنه، ولو كان على مسافة لما وافق علي عليه السلام على تحكيمه، ولا كان
علي عليه السلام ممن يحكم من لم يحضر معه.
وقال الأكثرون انه كان معتزلا للحرب بعيدا عن أهل العراق وأهل الشام.
فان قلت فلم لا يحمل قوله عليه السلام (فإن كان صادقا فقد أخطأ بسيره غير
مستكره) على مسيره إلى أمير المؤمنين عليه السلام وأهل العراق حيث طلبوه ليفوضوا
إليه أمر الحكومة؟
قلت لو حملنا كلامه عليه السلام على هذا لم يكن لازما لأبي موسى، وكان الجواب
عنه هينا، وذلك لان أبا موسى يقول إنما أنكرت الحرب وما سرت لأحارب
ولا لأشهد الحرب، ولا أغرى بالحرب، وإنما سرت للاصلاح بين الناس، وإطفاء
نائرة الفتنة، فليس يناقض ذلك ما رويته عن الرسول من خبر الفتنة، ولا ما قلته
في الكوفة في واقعة الجمل: (قطعوا أوتار قسيكم).
312

قوله عليه السلام (فادفعوا في صدر عمرو بن العاص بعبد الله بن العباس)، يقال
لمن يرام كفه عن أمر يتطاول له ادفع في صدره، وذلك لان من يقدم على أمر ببدنه
فيدفع دافع في صدره حقيقة، فإنه يرده أو يكاد، فنقل ذلك إلى الدفع المعنوي.
قوله عليه السلام (وخذوا مهل الأيام)، أي اغتنموا سعة الوقت. وخذوه مناهبه
قبل أن يضيق بكم أو يفوت.
قوله عليه السلام (وحوطوا قواصي الاسلام) ما بعد من الأطراف والنواحي.
ثم قال لهم (الا ترون إلى بلادكم تغزى)، هذا يدل على أن هذه الخطبة بعد
انقضاء أمر التحكيم، لان معاوية بعد أن تم على أبى موسى من الخديعة ما تم استعجل
امره، وبعث السرايا إلى اعمال أمير المؤمنين علي عليه السلام.
وتقول قد رمى فلان صفاة فلان، إذا دهاه بداهية قال الشاعر:
والدهر يوتر قوسه * يرمى صفاتك بالمعابل
واصل ذلك الصخرة الملساء، لا يؤثر فيها السهام ولا يرميها الرامي، الا بعد أن نبل
غيرها يقول قد بلغت غارات أهل الشام حدود الكوفة التي هي دار الملك وسرير
الخلافة، وذلك لا يكون الا بعد الإثخان في غيرها من الأطراف.
[فصل في نسب أبى موسى والرأي فيه عند المعتزلة]
ونحن نذكر نسب أبى موسى وشيئا من سيرته وحاله نقلا من كتاب " الاستيعاب "
لابن عبد البر المحدث، ونتبع ذلك بما نقلناه من غير الكتاب المذكور قال ابن عبد البر:
هو عبد الله بن قيس بن سليم بن حضارة بن حرب بن عامر بن عنز بن بكر بن عامر
313

ابن عذر بن وائل بن ناجية بن الجماهر بن الأشعر، وهو نبت بن أدد بن زيد بن يشجب بن
عريب بن كهلان بن سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان وأمه امرأة من عك،
أسلمت وماتت بالمدينة، واختلف في أنه هل هو من مهاجرة الحبشة أم لا والصحيح انه
ليس منهم، ولكنه أسلم ثم رجع إلى بلاد قومه، فلم يزل بها حتى قدم هو وناس من
الأشعريين على رسول الله صلى الله عليه وآله، فوافق قدومهم قدوم أهل السفينتين جعفر
ابن أبي طالب وأصحابه من ارض الحبشة، فوافوا رسول الله صلى الله عليه وآله بخيبر،
فظن قوم أن أبا موسى قدم من الحبشة مع جعفر.
وقيل إنه لم يهاجر إلى الحبشة، وإنما اقبل في سفينة مع قوم من الأشعريين، فرمت
الريح سفينتهم إلى ارض الحبشة، وخرجوا منها مع جعفر وأصحابه، فكان قدومهم
معا، فظن قوم انه كان من مهاجرة الحبشة.
قال وولاه رسول الله صلى الله عليه وآله من مخاليف اليمن زبيد، وولاه عمر
البصرة، لما عزل المغيرة عنها، فلم يزل عليها إلى صدر من خلافة عثمان فعزله عثمان عنها،
وولاها عبد الله بن عامر بن كريز، فنزل أبو موسى الكوفة حينئذ، وسكنها، فلما كره
أهل الكوفة سعيد بن العاص ودفعوه عنها، ولوا أبا موسى، وكتبوا إلى عثمان يسألونه
أن يوليه، فأقره على الكوفة، فلما قتل عثمان عزله علي عليه السلام عنها، فلم يزل واجدا
لذلك على علي عليه السلام، حتى جاء منه ما قال حذيفة فيه، فقد روى حذيفة فيه كلاما
كرهت ذكره والله يغفر له (1).
قلت الكلام الذي أشار إليه أبو عمر بن عبد البر ولم يذكره قوله فيه، وقد
ذكر عنده بالدين، اما أنتم فتقولون ذلك، واما انا فاشهد انه عدو لله ولرسوله، وحرب
لهما في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم، ولهم اللعنة ولهم

(1) الاستيعاب 380، 658، 659.
314

سوء الدار وكان حذيفة عارفا بالمنافقين، أسر إليه رسول الله صلى الله عليه وآله أمرهم،
وأعلمه أسماءهم.
وروى أن عمارا سئل عن أبي موسى، فقال لقد سمعت فيه من حذيفة قولا
عظيما، سمعته يقول صاحب البرنس الأسود، ثم كلح كلوحا علمت منه انه كان ليلة العقبة
بين ذلك الرهط.
وروى عن سويد بن غفلة قال كنت مع أبي موسى على شاطئ الفرات في خلافة
عثمان، فروى لي خبرا عن رسول الله صلى الله عليه وآله، قال سمعته يقول (إن بني إسرائيل
اختلفوا، فلم يزل الاختلاف بينهم، حتى بعثوا حكمين ضالين ضلا وأضلا
من اتبعهما، ولا ينفك أمر أمتي حتى يبعثوا حكمين يضلان ويضلان من تبعهما)، فقلت له
احذر يا أبا موسى أن تكون أحدهما قال فخلع قميصه، وقال أبرأ إلى الله من ذلك،
كما أبرأ من قميصي هذا.
فاما ما تعتقده المعتزلة فيه، فانا أذكر ما قاله أبو محمد بن متويه في كتاب " الكفاية "
قال رحمه الله:
اما أبو موسى فإنه عظم جرمه بما فعله، وأدى ذلك إلى الضرر الذي لم يخف حاله،
وكان علي عليه السلام يقنت عليه وعلى غيره، فيقول: اللهم العن معاوية أولا وعمرا
ثانيا، وأبا الأعور السلمي ثالثا، وأبا موسى الأشعري رابعا.
روى عنه عليه السلام انه كان يقول في أبى موسى صبغ بالعلم صبغا وسلخ
منه سلخا.
قال وأبو موسى هو الذي روى عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال كان في
315

بني إسرائيل حكمان ضالان، وسيكون في أمتي حكمان ضالان، ضال من اتبعهما.
وانه قيل له الا يجوز أن تكون أحدهما فقال لا - أو كلاما، ما هذا معناه - فلما
بلى به، قيل فيه البلاء موكل بالمنطق، ولم يثبت في توبته ما ثبت في توبة غيره، وإن كان
الشيخ أبو علي، قد ذكر في آخر كتاب الحكمين انه جاء إلى أمير المؤمنين عليه السلام
في مرض الحسن بن علي فقال له أجئتنا عائدا، أم شامتا فقال بل عائدا وحدث
بحديث في فضل العيادة.
قال ابن متويه، وهذه أمارة ضعيفة في توبته.
انتهى كلام ابن متويه وذكرته لك لتعلم انه عند المعتزلة من أرباب الكبائر،
وحكمه حكم أمثاله ممن واقع كبيرة ومات عليها.
قال أبو عمر بن عبد البر واختلف في تاريخ موته، فقيل سنة اثنتين وأربعين،
وقيل سنة أربع وأربعين، وقيل سنة خمسين، وقيل سنة اثنتين وخمسين.
واختلف في قبره، فقيل مات بمكة ودفن بها، وقيل مات بالكوفة
ودفن بها.
316

(243)
الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام يذكر فيها آل محمد صلى الله عليه وآله:
هم عيش العلم، وموت الجهل، يخبركم حلمهم عن علمهم، وظاهرهم عن
باطنهم، وصمتهم عن حكم منطقهم. لا يخالفون الحق، ولا يختلفون فيه، وهم
دعائم الاسلام، وولائج الاعتصام، بهم عاد الحق إلى نصابه، وانزاح الباطل عن
مقامه، وانقطع لسانه عن منبته، عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية، لا عقل سماع
ورواية، فان رواة العلم كثير، ورعاته قليل.
* * *
الشرح:
يقول بهم يحيا العلم ويموت الجهل، فسماهم حياة ذاك، وموت هذا، نظرا إلى
السببية، يدلكم حلمهم وصفحهم عن الذنوب على علمهم وفضائلهم، ويدلكم ما ظهر
منهم من الأفعال الحسنة على ما بطن من إخلاصهم، ويدلكم صمتهم وسكوتهم عما
لا يعنيهم، عن حكمة منطقهم.
ويروى (ويدلكم صمتهم على منطقهم)، وليس في هذه الرواية
لفظة (حكم).
لا يخالفون الحق لا يعدلون عنه، ولا يختلفون فيه كما يختلف غيرهم من الفرق
وأرباب المذاهب، فمنهم من له في المسألة قولان وأكثر، ومنهم من يقول قولا ثم يرجع
عنه، ومنهم من يرى في أصول الدين رأيا ثم ينفيه ويتركه.
317

ودعائم الاسلام أركانه.
والولائج جمع وليجة، وهي الموضع يدخل إليه ويستتر فيه، ويعتصم به.
وعاد الحق إلى نصابه رجع إلى مستقره وموضعه وانزاح الباطل زال. وانقطع
لسانه انقطعت حجته.
عقلوا الدين عقل رعاية، أي عرفوا الدين وعلموه معرفة من وعى الشئ وفهمه
وأتقنه.
ووعاية، أي وعوا الدين وحفظوه وحاطوه، ليس كما يعقله غيرهم عن سماع
ورواية، فان من يروى العلم ويسنده إلى الرجال ويأخذه من أفواه الناس كثير، ومن
يحفظ العلم حفظ فهم وادراك، أصالة لا تقليدا قليل. تم الجزء الثالث عشر من شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد،
ويليه الجزء الرابع عشر.
318