الكتاب: شرح نهج البلاغة
المؤلف: ابن أبي الحديد
الجزء: ١٢
الوفاة: ٦٥٦
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ القسم العام
تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: مؤسسة إسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
ردمك:
ملاحظات:

شرح نهج البلاغة
لابن أبي الحديد
بتحقيق
محمد أبو الفضل إبراهيم
الجزء الثاني عشر
عيسى البابي الحلبي وشركاؤه
1

الطبعة الثانية
(1378 ه‍ - 1967 م)
جميع الحقوق محفوظة
منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
قم - إيران 1404 ه‍ ق
2

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد العدل
(223)
الأصل:
ومن كلام له عليه السلام:
لله بلاد فلان، فلقد قوم الأود وداوى العمد، وأقام السنة، وخلف الفتنة!
ذهب نقى الثوب، قليل العيب، أصاب خيرها، وسبق شرها.
أدى إلى الله طاعته، واتقاه بحقه. رحل وتركهم في طرق متشعبة، لا يهتدى
بها الضال، ولا يستيقن المهتدي
* * *
الشرح:
العرب تقول: لله بلاد فلان، ولله در فلان، ولله نادى فلان، ولله نائح
فلان! والمراد بالأول: لله البلاد التي أنشأته وأنبتته، وبالثاني: لله الثدي الذي أرضعه
وبالثالث: لله المجلس الذي ربى فيه، وبالرابع: لله النائحة التي تنوح عليه وتندبه!
ما ذا تعهد من محاسنه.
ويروى (لله بلاء فلان)، أي لله ما صنع! وفلان المكنى عنه عمر بن الخطاب، وقد
وجدت النسخة التي بخط الرضى أبى الحسن جامع (نهج البلاغة) وتحت (فلان) (عمر)،
3

حدثني بذلك فخار بن معد الموسوي الأودي الشاعر، وسألت عنه النقيب أبا جعفر يحيى
ابن أبي زيد العلوي، فقال لي: هو عمر، فقلت له أيثني عليه أمير المؤمنين عليه السلام
هذا الثناء؟ فقال: نعم اما الامامية فيقولون: إن ذلك من التقية واستصلاح أصحابه
واما الصالحيون (1) من الزيدية فيقولون: انه اثنى عليه حق الثناء، ولم يضع المدح الا في
موضعه ونصابه. واما الجارودية (2) من الزيدية فيقولون: انه كلام قاله في أمر عثمان
أخرجه مخرج الذم له، والتنقص (3) لأعماله، كما يمدح الان الأمير الميت في أيام الأمير الحي
بعده، فيكون ذلك تعريضا به.
فقلت له الا انه لا يجوز التعريض والاستزادة للحاضر بمدح الماضي، الا إذا كان
ذلك المدح صدقا لا يخالطه ريب ولا شبهة. فإذا اعترف أمير المؤمنين بأنه أقام السنة
وذهب نقى الثوب، قليل العيب، وانه أدى إلى الله طاعته واتقاه بحقه فهذا غاية
ما يكون من المدح وفيه ابطال قول من طعن على عثمان بن عفان.
فلم يجبني بشئ وقال هو ما قلت لك.
فاما الراوندي فإنه قال في الشرح انه عليه السلام مدح بعض أصحابه بحسن
السيرة وأن الفتنة هي التي وقعت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله من الاختيار والإثرة.
وهذا بعيد لان لفظ أمير المؤمنين يشعر اشعارا ظاهرا بأنه يمدح واليا ذا رعية وسيرة
الا تراه كيف يقول (فلقد قوم الأود وداوى العمد وأقام السنة وخلف الفتنة)
وكيف يقول (أصاب خيرها وسبق شرها)
وكيف يقول (أدى إلى الله طاعته) وكيف يقول (رحل وتركهم في طرق متشعبة).

(1) الصالحيون من الزيدية: أصحاب الحسن بن صالح وانظر آرائهم في الملل والنحل للشهرستاني 143
(2) الجارودية من الزيدية أصحاب أبي الجارود زياد بن أبي زياد الملل والنحل للشهرستاني 140
(3) كذا في ب وفي ا (النقض).
4

وهذا الضمير وهو الهاء والميم في قوله عليه السلام (وتركهم) هل يصح أن
يعود الا إلى الرعايا وهل يسوغ أن يقال هذا الكلام لسوقه من عرض الناس
وكل من مات قبل وفاة النبي صلى الله عليه وآله كان سوقه لا سلطان له فلا يصح أن
يحمل هذا الكلام على إرادة أحد من الذين قتلوا أو ماتوا قبل وفاة النبي صلى الله عليه وآله
كعثمان بن مظعون أو مصعب بن عمير أو حمزة بن عبد المطلب أو عبيدة بن الحارث وغيرهم
من الناس والتأويلات الباردة الغثة لا تعجبني على أن أبا جعفر محمد بن جرير الطبري
قد صرح أو كاد يصرح بان المعنى بهذا الكلام عمر قال الطبري لما مات عمر بكته النساء
فقالت إحدى نوادبه وا حزناه على عمر حزنا انتشر حتى ملا البشر (1) وقالت
ابنه أبى حثمة وا عمراه أقام الأود وأبرأ العمد وأمات الفتن وأحيا السنن
خرج نقى الثوب بريئا من العيب (2).
قال الطبري فروى صالح بن كيسان عن المغيرة بن شعبة (3) قال لما دفن عمر
اتيت عليا عليه السلام وانا أحب أن اسمع منه في عمر شيئا فخرج ينفض رأسه ولحيته
وقد اغتسل وهو ملتحف بثوب لا يشك أن الامر يصير إليه فقال رحم الله ابن
الخطاب لقد صدقت ابنه أبى حثمة (ذهب بخيرها ونجا من شرها) اما والله ما قالت
ولكن قولت).
وهذا كما ترى يقوى الظن أن المراد والمعنى بالكلام إنما هو عمر بن الخطاب.

(1) الطبري: (وا حري على عمر حرا انتشر فملأ البشر) وبعده وقالت أخرى (وأخرى
على عمر حرا انتشر حتى شاع في البشر).
(2) تاريخ الطبري 4: 218 (طبعة دار المعارف).
(3) في الطبري (حدثني عمر قال حدثني على قال حدثنا ابن دأب وسعيد
ابن خالد عن صالح بن كيسان عن المغيرة بن شعبة...).
5

قوله (فلقد قوم الأود) أي العوج أود الشئ بالكسر يأود أودا أي أعوج
وتأود العود يتأود.
والعمد انفضاخ (1) سنام البعير ومنه يقال للعاشق عميد القلب ومعموده.
قوله (أصاب خيرها) أي خير الولاية وجاء بضميرها ولم يجر ذكرها لعادة
العرب في أمثال ذلك كقوله تعالى (حتى توارت بالحجاب) (2).
وسبق شرها أي مات أو قتل قبل الاحداث والاختلاط الذي جرى بين المسلمين.
قوله (واتقاه بحقه) أي بأداء حقه والقيام به.
فان قلت وأي معنى في قوله (واتقاه بأداء حقه) وهل يتقى الانسان الله بأداء الحق
إنما قد تكون التقوى علة في أداء الحق فاما أن يتقى بأدائه فهو غير معقول.
قلت أراد عليه السلام انه اتقى الله ودلنا على أنه اتقى الله بأدائه حقه فأداء
الحق علة في علمنا بأنه قد اتقى الله سبحانه.
ثم ذكر انه رحل وترك الناس في طرق متشعبة متفرقة فالضال لا يهتدى فيها و
المهتدي لا يعلم أنه على المنهج القويم وهذه الصفات إذا تأملها المنصف وأماط عن
نفسه الهوى علم أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يعن بها الا عمر لو لم يكن قد روى لنا
توقيفا ونقلا أن المعنى بها عمر فكيف وقد رويناه عمن لا يتهم في هذا الباب
* * *
[نكت من كلام عمر وسيرته وأخلاقه]
ونحن نذكر في هذا الموضع نكتا من كلام عمر وسيرته وأخلاقه.

(1) انفضخ سنام البعير: انشدخ.
(2) سورة ص 32
6

أتي عمر بمال فقال له عبد الرحمن بن عوف يا أمير المؤمنين لو حبست من هذا
المال في بيت المال لنائبه تكون أو أمر يحدث فقال كلمه ما عرض بها الا شيطان
كفاني حجتها ووقاني فتنتها أعصي الله العام مخافة قابل أعد لهم تقوى الله قال الله
سبحانه (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) (1).
* * *
استكتب أبو موسى الأشعري نصرانيا فكتب إليه عمر اعزله واستعمل بدله
حنيفيا فكتب له أبو موسى إن من غنائه وخيره وخبرته كيت وكيت فكتب له عمر
ليس لنا أن نأتمنهم وقد خونهم الله ولا أن نرفعهم وقد وضعهم الله ولا أن
نستنصحهم في الدين وقد وترهم الاسلام ولا أن نعزهم وقد أمرنا بان يعطوا الجزية عن
يد وهم صاغرون.
فكتب أبو موسى إن البلد لا يصلح الا به فكتب إليه عمر مات النصراني
والسلام.
* * *
وكتب إلى معاوية إياك والاحتجاب دون الناس وائذن للضعيف وادنه حتى
ينبسط لسانه ويجترئ قلبه وتعهد الغريب (2) فإنه إذا طال حبسه ودام اذنه ضعف
قلبه وترك حقه
* * *
عزل عمر زيادا عن كتابه أبى موسى الأشعري في بعض قدماته عليه فقال له
عن عجز أم عن خيانة فقال لا عن واحدة منهما ولكني أكره أن احمل على العامة
فضل عقلك.

(1) سورة الطلاق 3.
(2) ب (القريب).
7

وقال إني والله لا ادع حقا لله لشكاية تظهر ولا لضب يحتمل ولا محاباة لبشر
وانك والله ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل إن تطيع الله فيه.
* * *
وكتب إلى سعد بن أبي وقاص يا سعد سعد بنى أهيب إن الله إذا أحب عبدا
حببه إلى خلقه فاعتبر منزلتك من الله بمنزلتك من الناس واعلم أن ما لك عند الله
مثل ما لله عندك.
* * *
وسال رجلا عن شئ فقال الله اعلم فقال قد شقينا إن كنا لا نعلم أن الله
اعلم إذا سئل أحدكم عما لا يعلم فليقل لا أدري.
* * *
وقال عبد الملك [على المنبر] (1) انصفونا يا معشر الرعية تريدون منا سيرة أبى بكر
وعمر ولم تسيروا في أنفسكم ولا فينا سيرة أبى بكر وعمر نسأل الله أن يعين كلا
على كل.
* * *
ودخل عمر على ابنه عبد الله فوجد عنده لحما عبيطا معلقا (2) فقال ما هذا اللحم
قال اشتهيت فاشتريت فقال أو كلما اشتهيت شيئا أكلته كفى بالمرء سرفا أن
اكل كل ما اشتهاه.
* * *
مر عمر على مزبلة فتأذى بريحها أصحابه فقال هذه دنياكم التي
تحرصون عليها.

(1) من ا
(2) لحم عبيط طري.
8

ومن كلامه للأحنف يا أحنف من كثر ضحكه قلت هيبته ومن مزح استخف
به ومن أكثر من شئ عرف به ومن كثر كلامه كثر سقطه ومن كثر سقطه قل
حياؤه ومن قل حياؤه قل ورعه ومن قل ورعه مات قلبه.
وقال لابنه عبد الله يا بنى اتق الله يقك واقرض الله يجزك واشكره يزدك
واعلم أنه لا مال لمن لا رفق له ولا جديد لمن لا خلق له ولا عمل لمن لا نية له.
* * *
وخطب يوم استخلف فقال أيها الناس انه ليس فيكم أحد أقوى عندي من
الضعيف حتى آخذ الحق له ولا أضعف من القوى حتى آخذ الحق منه.
وقال لابن عباس يا عبد الله أنتم أهل رسول الله وآله وبنو عمه فما تقول منع
قومكم منكم قال لا أدري علتها والله ما أضمرنا لهم الا خيرا قال اللهم غفرا
إن قومكم كرهوا أن يجتمع لكم النبوة والخلافة فتذهبوا في السماء شمخا وبذخا
ولعلكم تقولون إن أبا بكر أول من آخركم اما انه لم يقصد ذلك ولكن حضر أمر
لم يكن بحضرته أحزم مما فعل ولولا رأي أبى بكر في لجعل لكم من الامر نصيبا
ولو فعل ما هناكم مع قومكم انهم ينظرون إليكم نظر الثور إلى جازره.
* * *
وكان يقول ليت شعري متى أشفى من غيظي أحين أقدر فيقال لي لو عفوت
أم حين أعجل فيقال لو صبرت.
* * *
ورأي أعرابيا يصلى صلاة خفيفة فلما قضاها قال اللهم زوجني الحور العين
فقال له لقد أسأت النقد وأعظمت الخطبة.
وقيل له كان الناس في الجاهلية يدعون على من ظلمهم فيستجاب لهم ولسنا نرى
9

ذلك الان قال لان ذلك كان الحاجز بينهم وبين الظلم واما الان فالساعة موعدهم
والساعة أدهى وامر.
* * *
ومن كلامه من عرض نفسه للتهمة فلا يلومن من أساء به الظن ومن كتم سره
كانت الخيرة بيده.
ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك ولا تظن بكلمة خرجت
من أخيك المسلم شرا وأنت تجد لها في الخير محملا.
وعليك بإخوان الصدق وكيس أكياسهم فإنهم زينه في الرخاء وعده عند
البلاء ولا تتهاونن بالخلق فيهينك الله ولا تعترض بما لا يعنيك واعتزل عدوك وتحفظ
من خليلك الا الأمين فان الأمين من الناس لا يعادله شئ ولا تصحب الفاجر فيعلمك
من فجوره ولا تفش إليه (1) سرك واستشر في امرك أهل التقوى وكفى بك عيبا أن
يبدو لك من أخيك ما يخفى عليك من نفسك وأن تؤذى جليسك بما تأتى مثله.
وقال ثلاث يصفين لك الود في قلب أخيك أن تبدأه بالسلام إذا لقيته وأن
تدعوه بأحب أسمائه إليه وأن توسع له في المجلس.
وقال أحب أن يكون الرجل في أهله كالصبي وإذا أصيخ إليه كان رجلا.
* * *
بينا عمر ذات يوم إذا رأى شابا يخطر بيديه فيقول انا ابن بطحاء مكة كديها
وكداها (1) فناداه عمر فجاء فقال إن يكن لك دين فلك كرم وإن يكن لك عقل فلك
مروءة وإن يكن لك مال فلك شرف والا فأنت والحمار سواء.

(1) ساقطة من ب
(2) كدي وكذا موضعان وقيل هما جبلان بمكة وقد قيل كدا بالقصر (اللسان)
10

وقال يا معشر المهاجرين لا تكثروا الدخول على أهل الدنيا وأرباب الامرة
والولاية فإنه مسخطة للرب وإياكم والبطنة فإنها مكسلة عن الصلاة ومفسدة للجسد
مورثة للسقم وإن الله يبغض الحبر السمين ولكن عليكم بالقصد في قوتكم فإنه
أدنى من الاصلاح وابعد من السرف وأقوى على عبادة الله ولن يهلك عبد حتى
يؤثر شهوته على دينه.
وقال تعلموا أن الطمع فقر وأن الياس غنى ومن يئس من شئ استغنى عنه
والتؤدة في كل شئ خير الا ما كان من أمر الآخرة.
وقال من اتقى الله لم يشف الله غيظه ومن خاف الله لم يفعل ما يريد ولولا يوم
القيامة لكان غير ما ترون.
وقال إني لأعلم أجود الناس واحلم الناس أجودهم من أعطى من حرمة وأحلمهم
من عفا عمن ظلمة.
وكتب إلى ساكني الأمصار اما بعد فعلموا أولادكم العوم (1) والفروسية ورووهم
ما سار من المثل وحسن من الشعر.
وقال لا تزال العرب أعزة ما نزعت في القوس ونزت (2) في ظهور الخيل
وقال وهو يذكر النساء أكثروا لهن من قول (لا) فان (نعم) مفسد تغريهن
على المسألة.
وقال ما بال أحدكم يثنى الوسادة عند امرأة معزبة (3) إن المرأة لحم على وضم الا
ما ذب عنه.

(1) ب (العلوم) تصحيف.
(2) نزت: وثبت.
(3) المعربة: المرأة المتزوجة
11

وكتب إلى أبى موسى اما بعد فان للناس نفرة عن سلطانهم فأعوذ بالله أن
يدركني وإياك عمياء مجهولة وضغائن محموله وأهواء متبعه ودنيا مؤثرة أقم الحدود
واجلس للمظالم ولو ساعة من نهار وإذا عرض لك أمران أحدهما لله والاخر للدنيا
فابدأ بعمل الآخرة فان الدنيا تفنى والآخرة تبقى وكن من مال الله عز وجل على
حذر واجف الفساق واجعلهم يدا ويدا ورجلا ورجلا وإذا كانت بين القبائل
نائرة (1) يا لفلان يا لفلان فإنما تلك نجوى الشيطان فاضربهم بالسيف حتى يفيئوا إلى
أمر الله وتكون دعواهم إلى الله والى الاسلام وقد بلغني أن ضبه تدعو يا لضبة
وإني والله أعلم أن ضبة ما ساق الله بها خيرا قط ولا منع بها من سوء قط فإذا جاءك
كتابي هذا فأنهكهم (2) ضربا وعقوبة حتى يفرقوا إن لم يفقهوا والصق بغيلان بن
خرشة من بينهم وعد مرضى المسلمين واشهد جنائزهم وافتح لهم بابك وباشر
أمورهم بنفسك فإنما أنت رجل منهم غير أن الله قد جعلك أثقلهم حملا وقد بلغني
انه فشا لك ولأهل بيتك هيئة في لباسك ومطعمك ومركبك ليس للمسلمين مثلها
فإياك يا عبد الله بن قيس أن تكون بمنزلة البهيمة التي مرت بواد خصيب فلم يكن لها
همة الا السمن وإنما حظها من السمن لغيرها واعلم أن للعامل مردا إلى الله فإذا زاغ
العامل زاغت رعيته وإن أشقى الناس من شقيت به نفسه ورعيته والسلام
* * *
وخطب عمر فقال اما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله الذي يبقى ويفنى ما سواه
والذي بطاعته ينفع أولياءه وبمعصيته يضر أعداءه انه ليس لهالك هلك عذر في تعمد
ضلالة حسبها هدى ولا ترك حق حسبه ضلالة قد ثبتت الحجة ووضحت الطرق
وانقطع العذر ولا حجة لأحد على الله عز وجل الا إن أحق ما تعاهد به الراعي

(1) النائرة: العداوة والدعوة الشر.
(2) نهكه: بالغ في ضربه وعقوبته.
12

رعيته أن يتعاهدهم بالذي لله تعالى عليهم في وظائف دينهم الذي هداهم به وإنما علينا
أن نأمركم بالذي امركم الله به من طاعته وننهاكم عما نهاكم الله عنه من معصيته وأن
نقيم أمر الله في قريب الناس وبعيدهم ولا نبالي على من قال الحق ليتعلم الجاهل
ويتعظ المفرط و يقتدى المقتدى وقد علمت أن أقواما يتمنون في أنفسهم ويقولون
نحن نصلى مع المصلين ونجاهد مع المجاهدين الا إن الايمان ليس بالتمني ولكنه بالحقائق
الا من قام على الفرائض وسدد نيته واتقى الله فذلكم الناجي ومن زاد اجتهادا
وجد عند الله مزيدا.
وإنما المجاهدون الذين جاهدوا أهواءهم والجهاد اجتناب المحارم الا إن الامر جد
وقد يقاتل أقوام لا يريدون الا الذكر وقد يقاتل أقوام لا يريدون الا الاجر وإن الله
يرضى منكم باليسير وأثابكم على اليسير الكثير.
الوظائف الوظائف أدوها تؤدكم إلى الجنة والسنة السنة الزموها تنجكم
من البدعة.
تعلموا ولا تعجزوا فان من عجز تكلف وإن شرار الأمور محدثاتها وإن الاقتصاد
في السنة خير من الاجتهاد في الضلالة فافهموا ما توعظون به فان الحريب من حرب (1)
دينه وإن السعيد من وعظ بغيره.
وقال وعليكم بالسمع والطاعة فان الله قضى لهما بالعزة وإياكم والتفرق والمعصية
فان الله قضى لهما بالذلة.
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم.
بعث سعد بن أبي وقاص أيام القادسية إلى عمر قباء كسرى وسيفه ومنطقته

(1) حرب دينه: أي سلب.
13

وسراويله وتاجه وقميصه وخفيه فنظر عمر في وجوه القوم عنده فكان أجسمهم
وأمدهم قامه سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي فقال يا سراق قم فالبس قال سراقة
طمعت فيه فقمت فلبست فقال ادبر فأدبرت وقال اقبل فأقبلت فقال
بخ بخ اعرابي من بنى مدلج عليه قباء كسرى وسراويله وسيفه ومنطقته وتاجه وخفاه
رب يوم يا سراق لو كان فيه دون هذا من متاع كسرى وآل كسرى لكان شرفا لك
ولقومك انزع فنزعت فقال اللهم انك منعت هذا نبيك ورسولك وكان أحب
إليك منى وأكرم ومنعته أبا بكر وكان أحب إليك منى وأكرم ثم أعطيتنيه
فأعوذ بك أن تكون أعطيتنيه لتمكر بي ثم بكى حتى رحمه من كان عنده.
وقال لعبد الرحمن بن عوف أقسمت عليك لما بعته ثم قسمته قبل أن تمسي
فما أدركه المساء الا وقد بيع وقسم ثمنه على المسلمين.
* * *
جئ بتاج كسرى إلى عمر فاستعظم الناس قيمته للجواهر التي كانت عليه فقال
إن قوما أدوا هذا لأمناء فقال علي عليه السلام انك عففت فعفوا ولو رتعت لرتعوا (1).
* * *
كان عمر يعس ليلا فنزلت رفقه من التجار بالمصلى فقال لعبد الرحمن بن عوف
هل لك أن تحرسهم الليلة من السرق فباتا يحرسانهم ويصليان ما كتب الله لهما
فسمع عمر بكاء صبي فأصغى نحوه فطال بكاؤه فتوجه إليه فقال لامه اتقى الله
واحسني إلى صبيك ثم عاد إلى مكانه فسمع بكاءه فعاد إلى أمه فقال لها مثل
ذلك ثم عاد إلى مكانه فسمع بكاءه فأتى أمه فقال ويحك انى لأراك أم سوء
لا أرى ابنك يقر منذ الليلة فقالت يا عبد الله لقد آذيتني منذ الليلة انى أريغه

(1) يقال رتع فلان إذا اكل وشرب ما شاء.
14

على الفطام فيأبى قال ولم قالت لان عمر لا يفرض لرضيع وإنما يفرض للفطيم
قال وكم له قالت اثنا عشر شهرا قال ويحك لا تعجليه فصلى الفجر وما يستبين
الناس قراءته من غلبه البكاء عليه فلما سلم قال يا بؤسا لعمركم كم قتل من أولاد
المسلمين فطلب مناديا فنادى الا لا تعجلوا صبيانكم عن الرضاع ولا تفطموا قبل أوان
الفطام فانا نفرض لكل مولود في الاسلام.
وكتب بذلك إلى سائر الآفاق (1).
* * *
مر عمر بشاب من الأنصار وهو ظمآن فاستسقاه فخاض له عسلا فرده ولم يشرب
وقال إني سمعت الله سبحانه يقول (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا
واستمتعتم بها) (2) فقال الفتى انها والله ليست لك فاقرأ يا أمير المؤمنين ما قبلها
(ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا)
أفنحن منهم فشرب وقال كل الناس أفقه من عمر.
* * *
وأوصى عمر حين طعنه أبو لؤلؤة من يستخلفه المسلمون بعده من أهل الشورى فقال
أوصيك بتقوى الله لا شريك له وأوصيك بالمهاجرين الأولين خيرا أن تعرف لهم
سابقتهم وأوصيك بالأنصار خيرا اقبل من محسنهم وتجاوز عن مسيئهم وأوصيك
باهل الأمصار خيرا فإنهم ردء العدو وجباه الفئ لا تحمل فيئهم إلى غيرهم الا عن
فضل منهم وأوصيك باهل البادية خيرا فإنهم أصل العرب ومادة الاسلام
أن يؤخذ من حواشي أموالهم فيرد على فقرائهم وأوصيك باهل الذمة خيرا أن تقاتل

(1) تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي 48.
(2) سورة الأحقاف 20.
15

من ورائهم ولا تكلفهم فوق طاقتهم إذا أدوا ما عليهم للمسلمين طوعا أو عن يد
وهم صاغرون.
وأوصيك بتقوى الله وشدة الحذر منه ومخافة مقته أن يطلع منك على ريبة
وأوصيك أن تخشى الله في الناس ولا تخشى الناس في الله وأوصيك بالعدل في الرعية
والتفرغ لحوائجهم وثغورهم والا تعين غنيهم على فقيرهم فان في ذلك بإذن الله سلامة
لقلبك وحطا لذنوبك وخيرا في عاقبة امرك وأوصيك أن تشتد في أمر الله وفي حدوده
والزجر عن معاصيه على قريب الناس وبعيدهم ولا تأخذك الرأفة والرحمة في أحد منهم
حتى تنتهك منه مثل جرمه واجعل الناس عندك سواء لا تبال على من وجب الحق
لا تأخذك في الله لومة لائم وإياك والإثرة والمحاباة فيما ولاك الله مما أفاء الله على المسلمين
فتجور وتظلم وتحرم نفسك من ذلك ما قد وسعه الله عليك فإنك في منزلة من منازل
الدنيا وأنت إلى الآخرة جد قريب فان صدقت في دنياك عفه وعدلا فيما بسط لك
اقترفت رضوانا وايمانا وإن غلبك الهوى اقترفت فيه سخط الله ومقته.
وأوصيك الا ترخص لنفسك ولا لغيرك في ظلم أهل الذمة.
واعلم انى قد أوصيتك وخصصتك ونصحت لك ابتغى بذلك وجه الله والدار الآخرة
ودللتك على ما كنت دالا عليه نفسي فان عملت بالذي وعظتك وانتهيت إلى الذي
أمرتك اخذت منه نصيبا وافرا وحظا وافيا وإن لم تقبل ذلك ولم تعمل ولم تترك
معاظم الأمور عند الذي يرضى الله به سبحانه عنك يكن ذاك بك انتقاصا ويكن رأيك
فيه مدخولا فالأهواء مشتركة ورأس الخطيئة إبليس الداعي إلى كل هلكة قد أضل
القرون السالفة قبلك وأوردهم النار ولبئس الثمن أن يكون حظ امرئ من دنياه موالاة
عدو الله الداعي إلى معاصيه
اركب الحق وخض إليه الغمرات وكن واعظا لنفسك.
16

وأنشدك لما ترحمت إلى جماعة المسلمين وأجللت كبيرهم ورحمت صغيرهم
وقربت عالمهم لا تضربهم فيذلوا ولا تستأثر عليهم بالفئ فتغضبهم ولا تحرمهم
عطاياهم عند محلها فتفقرهم ولا تجمرهم (1) في البعوث فتقطع نسلهم ولا تجعل الأموال
دولة بين الأغنياء منهم ولا تغلق بابك دونهم فيأكل قويهم ضعيفهم.
هذه وصيتي إياك واشهد الله عليك واقرا عليك السلام والله على كل
شئ شهيد.
* * *
وخطب عمر فقال:
لا يبلغني أن امرأة تجاوز صداقها صداق زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم
الا ارتجعت ذلك منها فقامت إليه امرأة فقالت والله ما جعل الله ذلك لك انه تعالى
يقول (وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا) (2) فقال عمر الا
تعجبون من امام أخطأ وامرأة أصابت ناضلت إمامكم فنضلته (3).
* * *
وكان يعس ليله فمر بدار سمع فيها صوتا فارتاب وتسور فرأى رجلا عند
امرأة وزق خمر فقال يا عدو الله ا ظننت أن الله يسترك وأنت على معصيته فقال
لا تعجل يا أمير المؤمنين إن كنت أخطأت في واحدة فقد أخطأت في ثلاث قال: الله
تعالى: (ولا تجسسوا) (4) وقد تجسست، وقال: (وأتوا البيوت من أبوابها) (5)

(1) جمر الجيش: حبسه في أرض العدو ولم يقفلهم من التغر. وفي الحديث: لا تجمروا الجيش
فتفتنوهم.
(2) سورة النساء 20
(3) نضلته: سبقته وغلبته.
(4) سورة الحجرات 12
(5) سورة البقرة 189
17

وقد تسورت وقال: (فإذا دخلتم بيوتا فسلموا) (1) وما سلمت. فقال: هل عندك
من خير ان عفوت عنك؟ قال: نعم، والله لا أعود، فقال: اذهب فقد عفوت عنك.
* * *
وخطب يوما، فقال: أيها الناس، ما الجزع مما لابد منه! وما الطمع فيما لا يرجى
وما الحيلة فيما سيزول! وإنما الشئ من أصله وقد مضت قبلكم الأصول ونحن فروعها،
فما بقاء الفرع بعد ذهاب أصله!
إنما الناس في هذه الدنيا أغراض تنتبل فيهم المنايا نصب المصائب، في كل جرعة
شرق وفى كل اكلة غصص، لا تنالون نعمة الا بفراق أخرى ولا يستقبل معمر
من عمره يوما الا بهدم آخر من أجله، وهم أعوان الحتوف على أنفسهم، فأين المهرب مما
هو كائن! ما أصغر المصيبة اليوم، مع عظم الفائدة غدا! وما أعظم خيبة الخائب، وخسران
الخاسر، (يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من أتى الله بقلب سليم)!
وأكثر الناس روى هذا الكلام لعلى عليه السلام، وقد ذكره صاحب " نهج
البلاغة " وشرحناه فيما سبق.
* * *
حمل من العراق إلى عمر مال فخرج هو ومولى له; فنظر إلى الإبل فاستكثرها، فجعل
يقول: الحمد لله يكررها ويرددها، وجعل مولاه يقول: هذا من فضل الله ورحمته.
ويكررها ويرددها.
فقال عمر: كذبت لا أم لك! أظنك ذهبت إلى أن هذا هو ما عناه سبحانه

(1) سورة النور 61
18

بقوله: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا)، وإنما ذلك الهدى، اما تسمعه
يقول: (هو خير مما يجمعون) (1) وهذا مما يجمعون.
* * *
وروى الأحنف بن قيس قال: قدمنا على عمر بفتح عظيم نبشره به، فقال: أين
نزلتم؟ قلنا: في مكان كذا، فقام معنا حتى انتهينا إلى مناخ ركابنا وقد أضعفها الكلال
وجهدها السير، فقال هلا اتقيتم الله في ركابكم هذه؟ اما علمتم ان لها عليكم حقا! هلا
أرحتموها؟ هلا حللتم بها فأكلت من نبات الأرض؟ فقلنا: يا أمير المؤمنين، إنا
قدمنا بفتح عظيم، فأحببنا التسرع إليك والى المسلمين بما يسرهم.
فانصرف راجعا ونحن معه فأتى رجل فقال يا أمير المؤمنين ان فلانا ظلمني
فاعدني (2) عليه فرفع في السماء درته، وضرب بها رأسه، وقال: تدعون عمر وهو معرض
لكم حتى إذا شغل في أمر المسلمين أتيتموه: أعدني أعدني! فانصرف الرجل يتذمر
فقال عمر: على بالرجل، فجئ به فألقى إليه المخفقة (3)، فقال: اقتص، قال: بل ادعه لله
ولك، قال: ليس كذلك، بل تدعه اما لله وإرادة ما عنده، وإما تدعه لي، قال: أدعه
لله، قال: انصرف ثم جاء حتى دخل منزله ونحن معه، فصلى ركعتين خفيفتين ثم
جلس فقال: يا بن الخطاب، كنت وضيعا فرفعك الله، وكنت ضالا فهداك الله، وكنت
ذليلا فأعزك الله، ثم حملك على رقاب الناس، فجاء رجل يستعديك على من ظلمه.
فضربته، ماذا تقول لربك غدا! فجعل يعاتب نفسه معاتبة ظننت انه من خير
أهل الأرض.

(1) سورة يونس 58
(2) أعدني عليه: انصرني وأعنى.
(3) المخففة: الدرد يضرب بها.
19

وذكر أبو عبيد القاسم بن سلام في " غريب الحديث " ان رجلا أتى عمر يسأله
ويشكو إليه الفقر، فقال: هلكت يا أمير المؤمنين فقال: أهلكت وأنت تنث
نثيث الحميت (1) اعطوه. فاعطوه ربعة (2) من مال الصدقة، تبعها ظئراها. ثم أنشأ يحدث
عن نفسه، فقال: لقد رأيتني وأختا لي نرعى على أبوينا ناضحا (3) لنا، قد ألبستنا أمنا
نقبتها (4) وزودتنا يمنتيها هبيدا (5) فنخرج بناضحنا، فإذا طلعت الشمس، ألقيت النقبة
إلى أختي، وخرجت أسعى عريان، فنرجع إلى امنا، وقد جعلت لنا لفيتة (6) من
ذلك الهبيد، فيا خصباه.
* * *
وروى ابن عباس رضي الله عنه، قال: دخلت على عمر في أول خلافته وقد ألقى
له صاع من تمر على خصفة (7) فدعاني إلى الاكل، فأكلت تمرة واحدة واقبل يأكل
حتى أتى عليه، ثم شرب من جر (8) كان عنده واستلقى على مرفقة له وطفق يحمد الله
يكرر ذلك، ثم قال: من أين جئت يا عبد الله؟ قلت: من المسجد، قال: كيف خلفت
ابن عمك؟ فظننته يعنى عبد الله بن جعفر قلت: خلفته يلعب مع أترابه، قال: لم اعن
ذلك، إنما عنيت عظيمكم أهل البيت قلت: خلفته يمتح بالغرب (9) على نخيلات من
فلان وهو يقرأ القرآن قال: يا عبد الله عليك دماء البدن إن كتمتنيها! هل بقي في نفسه

(1) قال ابن الأثير: نث الزق ينث: إذا رشح ما فيه من السمن. أراد: أتهلك وجسدك كأنه يقطر دسما!
والنثيث: إن يرشح ويعرق من كثرة لحمه. ويروى: (تمث) بالميم. والحنث: الزق والنحى.
(2) الربعة: مؤنث الربع، وهو الفصيل ينتج في الربيع.
(3) الناضح: البعير يستقي عليه، ثم استعمل في كل بعير وإن لم يحمل الماء
(4) النقبة: ثوب كالإزاء، ويجعل له حجزة مخيطة.
(5) الهيد، حب الحنظل
(6) اللفيتة: العصيدة المغلظة، لأنها تلفت، أي تلوى.
(7) الخصفة، محركة: الجلة تعمل من الحوض للتمر.
(8) الجر بفتح الجيم وتشديد الراء: آنية من خزف، الواحدة حرة.
(9) الغرب: الدلو
20

شئ من أمر الخلافة؟ قلت: نعم، قال: أيزعم ان رسول الله صلى الله عليه وآله نص
عليه؟ قلت: نعم، وأزيدك سالت أبى عما يدعيه، فقال: صدق، فقال عمر: لقد كان
من رسول الله صلى الله عليه وآله في امره ذرو (1) من قول لا يثبت حجة، ولا
يقطع عذرا ولقد كان يربع في امره وقتا ما ولقد أراد في مرضه ان يصرح باسمه فمنعت
من ذلك إشفاقا وحيطة على الاسلام لا ورب هذه البنية لا تجتمع عليه قريش ابدا
ولو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها، فعلم رسول الله صلى الله عليه وآله انى علمت
ما في نفسه، فامسك وأبى الله إلا امضاء ما حتم.
ذكر هذا الخبر أحمد بن أبي طاهر صاحب كتاب تاريخ بغداد في كتابه مسندا.
* * *
ابتنى أبو سفيان دارا بمكة فأتى أهلها عمر، فقالوا: انه قد ضيق علينا الوادي، وأسال
علينا الماء، فاتاه عمر فقال: خذ هذا الحجر فضعه هناك، وارفع هذا واخفض هذا،
ففعل، فقال: الحمد لله الذي أذل أبا سفيان بأبطح مكة.
* * *
وقال عمر: والله لقد لان قلبي في الله حتى لهو ألين من الزبد، ولقد اشتد قلبي في
الله حتى لهو أشد من الحجر.
* * *
كان عمر إذا اتاه الخصمان برك على ركبتيه وقال: اللهم أعني عليهما. فان كلا
منهما يريدني عن ديني.

(1) ذرو: طرف
21

وخطب عمر، فقال: أيها الناس، إنما كنا نعرفكم والنبي صلى الله عليه وآله بين
أظهرنا، إذ ينزل الوحي وإذ ينبئنا الله من أخباركم، الا وإن النبي صلى الله عليه وسلم
قد انطلق، والوحي قد انقطع وإنما نعرفكم بما يبدو منكم. من أظهر خيرا ظننا به خيرا
وأحببناه عليه من أظهر شرا ظننا به شرا وأبغضناه عليه. سرائركم بينكم وبين ربكم
الا انه قد أتى على حين وانا أحسب انه لا يقرا القرآن أحد الا يريد به وجه الله
وما عند الله وقد خيل إلى باخرة، ان رجالا قد قرأوه يريدون به ما عند الناس
فأريدوا الله بقرائتكم، وأريدوا الله بأعمالكم.
الا وإني لا أرسل عمالي إليكم أيها الناس ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا
أموالكم ولكن أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنتكم، فمن فعل به سوى ذلك
فليرفعه إلي لأقتص له، فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله يقتص من نفسه.
الا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتفقروهم، ولا تنزلوهم
الغياض فتضيعوهم.
* * *
وقال مرة: قد أعياني أهل الكوفة ان استعملت عليهم لينا استضعفوه وان
استعملت عليهم شديدا شكوه! ولوددت انى وجدت رجلا قويا أمينا استعمله عليهم.
فقال له رجل: انا أدلك يا أمير المؤمنين على الرجل القوى الأمين قال: من هو؟ قال:
عبد الله بن عمر، قال: قاتلك الله! والله ما أردت الله بها، لاها الله! لا استعمله عليها
ولا على غيرها وأنت فقم فأخرج، فمذ الان لا أسميك إلا المنافق. فقام الرجل وخرج.
وكتب إلى سعد بن أبي وقاص ان شاور طليحة بن خويلد وعمرو بن معديكرب
فإن كل صانع اعلم بصنعته، ولا تولهما من أمر المسلمين شيئا.
22

وغضب عمر على بعض عماله، فكلم امرأة من نساء عمر في أن تسترضيه له فكلمته
فيه فغضب وقال: وفيم أنت من هذا يا عدوة الله؟ إنما أنت لعبة نلعب بك
وتفركين (1).
* * *
ومن كلامه: أشكو إلى الله جلد الخائن وعجز الثقة.
قال عمرو بن ميمون: لقد رأيت عمر بن الخطاب قبل ان يصاب بأيام واقفا على
حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف وهو يقول لهما: أتخافان ان تكونا حملتما الأرض
ما لا تطيقه؟ فقالا: لا إنما حملناها أمرا هي له مطيقة، فأعاد عليهما القول: انظرا ان
تكونا حملتما الأرض ما لا تطيقه، فقالا: لا، فقال عمر: ان عشت لأدعن أرامل العراق
لا يحتجن بعدي إلى رجل ابدا فما أتت عليه رابعة حتى أصيب.
* * *
كان عمر إذا استعمل عاملا كتب عليه كتابا واشهد عليه رهطا من المسلمين
الا يركب برذونا، ولا يأكل نقيا (2) ولا يلبس رقيقا ولا يغلق بابه دون حاجات
المسلمين ثم يقول: اللهم اشهد.
* * *
واستعمل عمر النعمان بن عدي بن نضلة على ميسان، فبلغه عنه الشعر الذي
قاله وهو:
ومن مبلغ الحسناء ان حليلها * بميسان يسقى من زجاج وحنتم! (3)
إذا شئت غنتني دهاقين قرية * وصناجة تحدو على كل منسم

(1) تفركين: تبغضين.
(2) النقي: الشحم.
(3) الحنتم: الجرة الخضراء.
23

فان كنت ندماني فبالأكبر اسقني * ولا تسقني بالأصغر المتثلم
لعل أمير المؤمنين يسوءه * تنادمنا بالجوسق المتهدم
فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم (حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم *
غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب * ذي الطول لا إله الا هو إليه المصير) (1)
اما بعد فقد بلغني قولك:
لعل أمير المؤمنين يسوءه * البيت
وأيم الله انه ليسوءني فاقدم فقد عزلتك.
فلما قدم عليه قال: يا أمير المؤمنين والله ما شربتها قط، وإنما هو شعر طفح على
لساني وإني لشاعر.
فقال عمر: أظن ذاك، ولكن لا تعمل لي على عمل ابدا.
* * *
استعمل عمر رجلا من قريش على عمل، فبلغه عنه أنه قال:
اسقني شربة تروى عظامي * واسق بالله مثلها ابن هشام
فأشخصه إليه وفطن القرشي، فضم إليه بيتا آخر، فلما مثل بين يديه قال له
أنت القائل:
اسقني شربة تروى عظامي
قال: نعم يا أمير المؤمنين، فهلا أبلغك الواشي ما بعده؟ قال: ما الذي بعده؟ قال:
عسلا باردا بماء غمام * إنني لا أحب شرب المدام
قال آلله آلله! ثم قال: ارجع إلى عملك.

(1) سورة غافر 1 - 3
24

قال عمر: أيما عامل من عمالي ظلم أحدا: ثم بلغتني مظلمته، فلم أغيرها، فانا
الذي ظلمته.
* * *
وقال للأحنف بن قيس وقد قدم عليه فاحتبسه عنده حولا: يا أحنف انى قد
خبرتك وبلوتك، فرأيت علانيتك حسنة وانا أرجو أن تكون سريرتك مثل
علانيتك وان كنا لنحدث انه إنما يهلك هذه الأمة كل منافق عليم.
* * *
وكتب عمر إلى سعد بن أبي وقاص: ان (مترس) (1) بالفارسية هو الأمان فمن
قلتم له ذلك ممن لا يفقه لسانكم فقد أمنتموه.
* * *
وقال لأمير من أمراء الشام: كيف سيرتك؟ كيف تصنع في القرآن والاحكام؟
فأخبره، فقال: أحسنت اذهب فقد أقررتك على عملك. فلما ولى رجع فقال: يا أمير
المؤمنين انى رأيت البارحة رؤيا أقصها عليك رأيت الشمس والقمر يقتتلان ومع كل
واحد منهما جنود من الكواكب فقال: فمع أيهما كنت؟ قال: مع القمر فقال:
قد عزلتك قال الله تعالى: (وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا
آية النهار مبصرة). (2)
* * *
كان عمر جالسا في المسجد فمر به رجل، فقال: ويل لك يا عمر من النار! فقال:
قربوه إلى، فدنا منه، فقال: لم قلت لي ما قلت؟ قال: تستعمل عمالك وتشترط عليهم

(1) في الألفاظ الفارسية لأدى شبر 143: (المتراس: ما يستتر به من حائط ونحوه من العدو،
وخشبة توضع خلف الباب).
(2) سورة الإسراء 12.
25

ثم لا تنظر هل وفوا لك بشروط أم لا؟ قال: وما ذاك؟ قال: عاملك على مصر اشترطت
عليه فترك ما أمرته به، وارتكب ما نهيته عنه، ثم شرح له كثيرا من امره. فأرسل
عمر رجلين من الأنصار، فقال لهما: انتهيا إليه، فاسألا عنه، فإن كان كذب عليه فأعلماني
وان رأيتما ما يسوءكما فلا تملكاه من امره شيئا حتى تاتيا به، فذهبا فسألا عنه فوجداه
قد صدق عليه، فجاءا إلى بابه فاستأذنا عليه، فقال حاجبه: انه ليس عليه اليوم اذن
قالا: ليخرجن إلينا أو لنحرقن عليه بابه
وجاء أحدهما بشعلة من نار فدخل الاذن
فأخبره فخرج إليهما، قالا: انا رسولا عمر إليك لتأتيه، قال: ان لنا حاجة، تمهلانني
لأتزود قالا: انه عزم علينا الا نمهلك، فاحتملاه فأتيا به عمر، فلما اتاه سلم عليه فلم
يعرفه، وقال: من أنت؟ وكان رجلا أسمر، فلما أصاب من ريف مصر ابيض وسمن
فقال: انا عاملك على مصر، انا فلان، قال: ويحك! ركبت ما نهيت عنه، وتركت
ما أمرت به! والله لأعاقبنك عقوبة أبلغ إليك فيها، آتوني بكساء من صوف وعصا،
وثلاثمائة شاة من غنم الصدقة، فقال: البس هذه الدراعة (1)، فقد رأيت أباك
وهذه خير من دراعته وخذ هذه العصا فهي خير من عصا أبيك، واذهب
بهذه الشياه فارعها في مكان كذا - وذلك في يوم صائف - ولا تمنع السابلة من البانها
شيئا الا آل عمر، فإني لا اعلم أحدا من آل عمر أصاب من البان غنم الصدقة
ولحومها شيئا.
فلما ذهب رده، وقال: أفهمت ما قلت! فضرب بنفسه الأرض، وقال يا أمير المؤمنين،
لا أستطيع هذا، فان شئت فاضرب عنقي، قال: فان رددتك فأي رجل تكون؟
قال: والله لا يبلغك بعدها الا ما تحب. فرده، فكان نعم الرجل. وقال عمر: والله

الدراعة، كرمانة: جبة مشقوقة المقدم، ولا تكون إلا من صوف
26

لا أنزعن فلانا من القضاء حتى استعمل عوضه رجلا إذا رآه الفاجر فرق.
* * *
وروى عبد الله بن بريدة قال: بينا عمر يعس ذات ليلة انتهى إلى باب متجاف
وامرأة تغنى نسوة
هل من سبيل إلى خمر فأشربها * أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج
فقال عمر: اما ما عشت فلا.
فلما أصبح دعا نصر بن حجاج - وهو نصر بن الحجاج بن علابط البهزي السلمي -
فأبصره وهو من أحسن الناس وجها، وأصبحهم وأملحهم حسنا، فامر ان يطم (1) شعره،
فخرجت جبهته فازداد حسنا، فقال له عمر: اذهب فاعتم فاعتم فبدت وفرته (2) فامر بحلقها
فازداد حسنا، فقال له: فتنت نساء المدينة يا بن حجاج! لا تجاورني في بلدة انا مقيم بها
ثم سيره إلى البصرة.
فروى الأصمعي قال: أبرد عمر بريدا إلى عتبة بن أبي سفيان بالبصرة فأقام بها
أياما ثم نادى منادى عتبة: من أراد ان يكتب إلى أهله بالمدينة أو إلى أمير المؤمنين
شيئا فليكتب فان بريد المسلمين خارج.
فكتب الناس، ودس نصر بن حجاج كتابا فيه:
لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصر بن حجاج، سلام عليك، اما بعد،
يا أمير المؤمنين:
لعمري لئن سيرتني أو حرمتني * لما نلت من عرضي عليك حرام
أئن غنت الذلفاء يوما بمنية * وبعض أماني النساء غرام

(1) طم شعره: عقصه.
(2) الوفرة: ما سأل على الاذنين من الشعر
27

ظننت بي الظن الذي ليس بعده * بقاء فما لي في الندى كلام
وأصبحت منفيا على غير ريبة * وقد كان لي بالمكتين مقام (1)
سيمنعني مما تظن تكرمي * وآباء صدق سالفون كرام
ويمنعها مما تمنت صلاتها * وحال لها في دينها وصيام
فهاتان حالانا فهل أنت راجع * فقد جب منى كاهل وسنام (2)
فقال عمر: اما ولى ولاية فلا. وأقطعه أرضا بالبصرة ودارا.
فلما قتل عمر ركب راحلته ولحق بالمدينة.
وذكر المبرد محمد بن يزيد الثمالي قال: كان (3) عمر أصلع فلما حلق وفرة نصر
ابن حجاج (4) قال نصر وكان شاعرا:
تضن ابن خطاب على بجمة * إذا رجلت تهتز هز السلاسل
فصلع رأسا لم يصلعه ربه * يرف رفيفا بعد اسود جائل (5)
لقد حسد الفرعان أصلع لم يكن * إذا ما مشى بالفرع بالمتخايل.
محمد بن سعيد قال: بينا يطوف عمر في بعض سكك المدينة، إذ سمع امرأة تهتف
من خدرها:
هل من سبيل إلى خمر فأشربها * أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج

(1) أي مكة والمدينة، مثنى على التغليب.
(2) جب: قطع.
(3) الكامل 2: 176
(4) في الكامل 2: 176، وفيه: (وكان نصر بن حجاج السلمي ثم البهزي جميلا، نعثر عليه
عمر بن الخطاب رحمة الله في أمر - الله أعلم به - فخلق رأسه، وكان عمر أصلع لم يبق من شعره
إلا حفاف، كذلك قال الأصمعي، فقال نصر بن حجاج)، وأورد الأبيات..
(5) الجائل: الشعر الكثير الملتف.
(6) الفرعان: جمع أفرع، وهو الوافي الشعر. قال المبرد، قوله: (بالفرع بالمتخايل) ليس أنه
جعل (بالفرع) من صلة المتخايل، فيكون قد قدم الصلة على الموصول، ولكنه جعل قوله: (بالفرع)
تبيننا، فصار بمنزلة (بك) التي تقع بعد (مرحبا) للتبيين.
28

إلى فتى ماجد الأعراق مقتبل * سهل المحيا كريم غير ملجاج (1)
تنميه أعراق صدق حين تنسبه * أخي قداح عن المكروب فراج
سامي النواظر من بهز له قدم * تضئ صورته في الحالك الداجي
فقال عمر: الا لا أدري معي رجلا يهتف به العواتق في خدورهن! على بنصر
ابن حجاج فأتى به، فإذا هو أحسن الناس وجها وعينا وشعرا، فامر بشعره فجز
فخرجت له وجنتان كأنه قمر، فأمره ان يعتم فاعتم ففتن النساء بعينيه، فقال عمر: لا ولله
لا تساكنني بأرض أنا بها، قال: ولم يا أمير المؤمنين قال: هو ما أقول لك فسيره
إلى البصرة.
وخافت المرأة (2) التي سمع عمر منها ما سمع ان يبدر إليها منه شئ، فدست إليه أبياتا
قل للأمير الذي تخشى بوادره * ما لي وللخمر أو نصر بن حجاج
انى بليت أبا حفص بغيرهما * شرب الحليب وطرف فاتر ساج
لا تجعل الظن حقا أو تبينه * ان السبيل سبيل الخائف الراجي
ما منية قلتها عرضا بضائرة * والناس من هالك قدما ومن ناج
ان الهوى رعية التقوى تقيده * حتى أقر بإلجام وإسراج
فبكى عمر وقال: الحمد لله الذي قيد الهوى بالتقوى.
واتته يوما أم نصر حين اشتدت عليها غيبة ابنها، فتعرضت لعمر بين الأذان والإقامة
فقعدت له على الطريق فلما خرج يريد الصلاة هتفت به، وقالت: يا أمير المؤمنين
لأجاثينك (3) غدا بين يدي الله عز وجل ولأخاصمنك إليه، يبيت عاصم وعبد الله إلى

(1) الملجاج: من الملاجة، وهي التمادي في الخصومة.
(2) ذكروا أن المرأة المتمنية هي الفارعة بنت همام بن عروة بن مسعود الثقفي.
(3) الجثو: الجلوس على الركبتين للخصومة.
29

جانبيك وبيني وبين ابني الفيافي والقفار والمفاوز والجبال! قال: من هذه؟ قيل:
أم نصر بن حجاج، فقال: يا أم نصر، ان عاصما وعبد الله لم تهتف بهما العواتق من
وراء الخدور.
ويروى ان نصر بن الحجاج لما سيره عمر إلى البصرة نزل بها على مجاشع بن مسعود
السلمي وكان خليفة أبى موسى عليها، وكانت له امرأة شابة جميلة فهويت نصرا، وهويها
فبينا الشيخ جالس ونصر عنده إذ كتب في الأرض شيئا، فقرأته المرأة، فقالت:
(انا والله) فقال مجاشع: ما قال لك؟ قالت: أنه قال: ما أصفى لقحتكم هذه؟ فقال
مجاشع: ان الكلمة التي قلت ليست أختا لهذا الكلام، عزمت عليك لما أخبرتني!
قالت: أنه قال: ما أحسن سوار ابنتكم هذه؟ قال: ولا هذه، فإنه كتب في الأرض
فرأى الخط فدعا باناء فوضعه عليه، ثم أحضر غلاما من غلمانه، فقال: اقرأ فقرأه
وإذا هو: انا والله أحبك، فقال: هذه لهذه، اعتدى أيتها المرأة وتزوجها يا بن أخي
ان أردت.
ثم غدا على أبى موسى فأخبره، فقال أبو موسى أقسم ما أخرجه عمر عن المدينة
من خير، ثم طرده إلى فارس وعليها عثمان بن أبي العاص الثقفي، فنزل على دهقانه
فأعجبها فأرسلت إليه، فبلغ خبرها عثمان، فبعث إليه ان اخرج عن ارض فارس، فإنك
لم تخرج عن المدينة والبصرة من خير، فقال: والله لئن أخرجتموني لألحقن ببلاد
الشرك، فكتب بذلك إلى عمر، فكتب ان جزوا شعره وشمروا قميصه
وألزموه المساجد.
* * *
وروى عبد الله بن بريدة ان عمر خرج ليلا يعس، فإذا نسوة يتحدثن وإذا هن
30

يقلن: أي فتيان المدينة أصبح؟ فقالت: امرأة منهن أبو ذؤيب والله. فلما أصبح عمر
سأل عنه فإذا هو من بنى سليم، وإذا هو ابن عم نصر بن حجاج، فأرسل إليه، فحضر
فإذا هو أجمل الناس وأملحهم، فلما نظر إليه، قال: أنت والله ذئبها! يكررها
ويرددها، لا والذي نفسي بيده لا تجامعني بأرض ابدا.
فقال يا أمير المؤمنين ان كنت لابد مسيري فسيرني حيث سيرت ابن عمى نصر
ابن حجاج فامر بتسييره إلى البصرة فأشخص إليها.
* * *
خطب عمر في الليلة التي دفن فيها أبو بكر فقال: ان الله تعالى نهج سبيله وكفانا
برسوله، فلم يبق الا الدعاء والاقتداء. الحمد لله الذي ابتلاني بكم وابتلاكم بي وأبقاني
فيكم بعد صاحبي، وأعوذ بالله ان أزل أو أضل، فأعادي له وليا، أو أوالي له عدوا. الا انى
وصاحبي كنفر ثلاثة قفلوا من طيبة فاخذ أحدهم مهلة إلى داره وقراره فسلك أرضا
مضيئة متشابهة الاعلام، فلم يزل عن الطريق ولم يحرم السبيل، حتى أسلمه إلى أهله
ثم تلاه الاخر فسلك سبيله، واتبع اثره، فأفضى إليه ولقى صاحبه، ثم تلاهما الثالث،
فإن سلك سبيلهما واتبع أثرهما أفضى إليهما ولاقاهما، وان زل يمينا أو شمالا
لم يجامعهما ابدا.
الا وان العرب جمل أنف (1) قد أعطيت خطامه، الا وإني حامله على المحجة
ومستعين بالله عليه.
الا وإني داع فأمنوا، اللهم إني شحيح فسخني، اللهم إني غليظ فليني اللهم إني
ضعيف فقوني. اللهم أوجب لي بموالاتك وموالاة أوليائك ولايتك ومعونتك، وأبرئني

(1) البعير الانف: الذلول الذي يأنف من الزجر والضرب ويعطى ما عنده من السير عفوا سهلا.
31

من الآفات بمعاداة أعدائك، وتوفني مع الأبرار، ولا تحشرني في زمرة الأشقياء، اللهم
لا تكثر لي من الدنيا فأطغى ولا تقلل لي فأشقى، فان ما قل وكفى خير
مما كثر وإلهي.
* * *
وفد على عمر قوم من أهل العراق منهم جرير بن عبد الله، فأتاهم بجفنة قد صبغت
بخل وزيت وقال: خذوا فأخذوا أخذا ضعيفا فقال: ما بالكم تقرمون (1) قرم الشاة
الكسيرة! أظنكم تريدون حلوا وحامضا، وحارا وباردا، ثم قذفا في البطون، لو شئت
ان أدهمق (2) لكم لفعلت، ولكنا نستبقي من دنيانا ما نجده في آخرتنا، ولو شئنا ان نأمر
بصغار الضان فتسمط (3) ولبات الخبز فيخبز ونأمر بالزبيب فينبذ لنا (4) في الأسعان (5)
حتى إذا صار مثل عين اليعقوب (6) أكلنا هذا وشربنا هذا لفعلت! والله انى ما أعجز عن
كراكر (7) وأسنمه وصلائق (8)، وصناب لكن الله تعالى قال لقوم عيرهم أمرا
فعلوه (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا) (10). إني نظرت في هذا الامر

(1) القوم: الاكل.
(2) في اللسان: (دهمق الطحين: دققه ولينه، وفي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو شئت
أن يدهمق لي لفعلت، ولكن الله تعالى عاب قوما فقال: (أذهبتم طيباتكم في حياتكم
الدنيا واستمتعتم بها)، معناه: لو شئت أن يلين لي الطعام ويجود).
(3) يقال: سمط الجدي والحمل يسمطه - أي نتف عنه الصوف ونطفة من الشعر.
(4) النبذ في الأصل: طرحت الشئ من يدك أمامك أو وراءك، قالوا: وإنما سمى النبيذ نبيذا،
لان الذي يتخذه يأخذ تمرا أو زبيبا فينبذه، أي يطرحه في وعاء أو سقاء عليه الماء ويتركه حتى يفور.
(5) الأسعان: جمع سعن، وهو قربة أو إداوة يقطع أسفلها ويشد عنقها وتعلق إلى خشبة أو جذع
نخلة ثم ينبذ فيها، ثم يبرد، وهو شبيه بدلو السقائين. قال في اللسان: ومنه حديث عمر: أمرت بصاع
من زبيب فجعل في سعن.
(6) اليعقوب: ذكر الحجل.
(7) الكركرة: الصدر من ذي الخف.
(8) الصلائق: ما عمل بالنار طبخا وشيا.
(9) الصناب: صباغ يتخذ من الخردل والزبيب.
(10) سورة الأحقاف 20
32

فجعلت ان أردت الدنيا أضررت بالآخرة، وان أردت الآخرة أضررت بالدنيا وإذا
كان الامر هكذا، فأضروا بالفانية.
* * *
خرج عمر يوما إلى المسجد، وعليه قميص في ظهره أربع رقاع، فقرأ حتى انتهى
إلى قوله: (وفاكهة وأبا) (1) فقال: ما الأب؟ ثم قال: ان هذا لهو التكلف! وما عليك
يا بن الخطاب الا تدرى ما الأب!
* * *
وجاء قوم من الصحابة إلى حفصة فقالوا: لو كلمت أباك في أن يلين من عيشه، لعله
أقوى له على النظر في أمور المسلمين! فجاءته فقالت: إن ناسا من قومك كلموني في أن
أكلمك في أن تلين من عيشك. فقال: يا بنية، غششت أباك ونصحت لقومك.
* * *
وروى سالم بن عبد الله بن عمر، قال: لما ولى عمر قعد على رزق أبى بكر الذي
كان فرضه لنفسه، فاشتدت حاجته، فاجتمع نفر من المهاجرين، منهم على وعثمان وطلحة والزبير
وقالوا: لو قلنا (3) لعمر يزيد في رزقه! فقال عثمان: انه عمر، فهلموا فلنستبن (3) ما عنده
من وراء وراء، نأتي حفصة فنكلمها ونستكتمها أسماءنا. فدخلوا عليها، وسألوها
ان تكلمه ولا تخبره بأسماء من اتاها الا ان يقبل. فلقيت عمر في ذلك، فرأت الغضب
في وجهه، وقال: من اتاك؟ قالت: لا سبيل إلى ذلك، فقال: لو علمت من هم
لسوأت أوجههم، أنت بيني وبينهم! نشدتك الله ما أفضل ما اقتنى رسول الله صلى الله
عليه وآله في بيتك من الملبس؟ قالت: ثوبان ممشقان (4)، كان يلبسهما للوفد ويخطب

(1) سورة عبس 31. وفى الكشاف 4: 563 (الأب: المرعى، لأنه يؤب، أي يؤم وينتج.
وروى عن أبي يكر أنه سئل عن الأب، فقال: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب
الله مالا علم لي به)!
(2) ا: (كلمنا عمر).
(3) ب: (فلنستبرئ).
(4) ثوب ممشق: مصبوغ.
33

فيهما في الجمع، قال: فأي طعام ناله عندك ارفع؟ قالت: خبزنا مره خبزة شعير
فصببت عليها - وهي حارة أسفلها - عكة (1) لنا كان فيها سمن وعسل فجعلتها هشة حلوة
دسمة، فاكل منها فاستطابها، قال: فأي مبسط كان يبسط عندك أوطأ؟ قالت:
كساء ثخين كنا نرقعه في الصيف فنجعله ثخينا فإذا كان الشتاء بسطنا نصفه، وتدثرنا
بنصفه، قال: فأبلغهم أن رسول الله صلى الله عليه وآله قدر فوضع الفضول مواضعها،
وتبلغ ما أبر، وإني قدرت فوالله لأضعن الفضول مواضعها، ولا تبلغن ما أبر حبة.
* * *
وفد على عمر وفد فيه رجال الناس من الآفاق فوضع لهم بسطا من عباء، وقدم إليهم
طعاما غليظا فقالت له: ابنته حفصة أم المؤمنين: انهم وجوه الناس وكرام العرب
فأحسن كرامتهم. فقال: يا حفصة، أخبريني بالين فراش فرشته لرسول الله صلى الله عليه
وسلم، وأطيب طعام اكله عندك قالت: أصبنا كساء ملبدا عام خيبر، فكنت أفرشه له
فينام عليه، وإني رفعته ليلة، فلما أصبح قال: ما كان فراشي الليلة؟ قلت: فراشك كل
ليلة الا، أنى الليلة رفعته لك ليكون أوطأ، فقال: أعيديه لحالته الأولى فان وطاءته
منعتني الليلة من الصلاة.
وكان لنا صاع من دقيق سلت (2)، فنخلته يوما وطبخته له، وكان لنا قعب من
سمن فصببته عليه، فبينا هو عليه السلام يأكل إذ دخل أبو الدرداء، فقال: أرى
سمنكم قليلا، وان لنا لقعبا من سمن قال عليه السلام: فأرسل فأت به، فجاء به فصبه
عليه فاكل، فهذا أطيب طعام أكله عندي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأرسل عمر عينيه بالبكاء وقال لها: والله لا أزيدهم على ذلك العباء وذلك الطعام

(1) العكة: للسمن، كالشكوة للبن، وقيل: العكة أصغر من القربة للسمن، وهي زقيق صغير.
(2) السلت، بالضم: ضرب من الشعير، أو هو الشعير بعينه.
34

شيئا وهذا فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا طعامه.
* * *
لما قدم عتبة بن مرثد أذربيجان أتى بالخبيص (1)، فلما اكله وجد شيئا حلوا طيبا
فقال: لو صنعت من هذا لأمير المؤمنين! فجعل له خبيصا في منقلين عظيمين، وحملهما على
بعيرين إلى المدينة، فقال عمر: ما هذا؟ قالوا الخبيص (2) فذاقه فوجده
حلوا فقال:
للرسول: ويحك! أكل المسلمين عندكم يشبع من هذا؟ قال: لا، قال: فارددهما ثم
كتب إلى عتبة: أما بعد، فان خبيصك الذي بعثته ليس من كد أبيك ولا من كد
أمك أشبع المسلمين مما تشبع منه في رحلك ولا تستأثر، فان الأثرة شر والسلام.
* * *
روى عتبة بن مرثد أيضا قال: قدمت على عمر بحلواء من بلاد فارس، في
سلال عظام فقال: ما هذه قلت طعام طيب أتيتك به قال: ويحك ولم
خصصتني به؟ قلت: أنت رجل تقضى حاجات الناس أول النهار، فأحببت إذا رجعت
إلى منزلك أن ترجع إلى طعام طيب، فتصيب منه فتقوى على القيام بأمرك. فكشف
عن سلة منها فذاق فاستطاب، فقال: عزمت عليك يا عتبة إذا رجعت الا رزقت كل
رجل من المسلمين مثله! قلت: والذي يصلحك يا أمير المؤمنين لو أنفقت عليه أموال قيس
كلها لما وسع ذلك، قال: فلا حاجة لي فيه إذا ثم دعا بقصعة من ثريد، ولحم غليظ،
وخبز خشن، فقال: كل، ثم جعل يأكل اكلا شهيا، وجعلت أهوى إلى البضعة
البيضاء أحسبها سناما، وإذا هي عصبة وأهوى إلى البضعة من اللحم أمضغها،

(1) الخبيص: ضرب من الحلواء.
(2) ا: (هذا الخبيص).
35

فلا أسيغها، وإذا هي من علباء العنق (1) فإذا غفل عنى جعلتها بين الخوان والقصعة،
فدعا بعس (2) من نبيذ كاد يكون خلا، فقال: اشرب فلم أستطعه ولم أسغه أن
اشرب فشرب، ثم نظر إلي وقال: ويحك انه ليس بدرمك (3) العراق وودكه (4)
ولكن ما تأكله أنت وأصحابك.
ثم قال: اسمع إنا ننحر كل يوم جزورا فأما أوراكها وودكها وأطايبها فلمن
حضرنا من المهاجرين، والأنصار وأما عنقها فلآل عمر، واما عظامها وأضلاعها فلفقراء
المدينة نأكل من هذا اللحم الغث، ونشرب من هذا النبيذ الخاثر (5)، وندع لين الطعام
ليوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها.
* * *
حضر عند عمر قوم من الصحابة، فأثنوا عليه، وقالوا: والله ما رأينا يا أمير المؤمنين
رجلا أقضى منك بالقسط، ولا أقول بالحق، ولا أشد على المنافقين منك! إنك لخير
الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال عوف بن مالك: كذبتم والله أبو بكر بعد رسول الله، خير أمته
رأينا أبا بكر.
فقال عمر: صدق عوف والله وكذبتم! لقد كان أبو بكر والله أطيب من ريح
المسك، وأنا أضل من بعير أهلي.
* * *
لما أتى عمر الخبر بنزول رستم القادسية، كان يخرج فيستخبر الركبان كل يوم عن أهل
القادسية من حين يصبح إلى انتصاف النهار، ثم يرجع إلى أهله، فلما جاء البشير بالفتح،

(1) العلباء عصبة صفراء في صفحة العنق.
(2) العس: القدح الكبير.
(3) الدرمك: دقيق الحواري.
(4) الودك، محركة: الدسم من اللحم والشحم.
(5) خثر النبيذ: ثخن واشتد.
36

لقيه كما يلقى الركبان من قبل، فسأله فأخبره، فجعل يقول: يا عبد الله، إيه! حدثني!
فيقول له: هزم الله العدو، وعمر يحث معه، ويسأله وهو راجل، والبشير يسير على ناقته
ولا يعرفه، فلما دخل المدينة إذا الناس يسلمون عليه باسمه بأمرة المؤمنين ويهنئونه
فنزل الرجل، وقال: هلا أخبرتني يا أمير المؤمنين رحمك الله! وجعل عمر يقول: لا عليك
يا بن أخي، لا عليك يا بن أخي!.
* * *
وروى أبو العالية الشامي، قال: قدم عمر الجابية على جمل أورق (1)، تلوح صلعته،
ليس عليه قلنسوة، تصل رجلاه بين شعبتي رحله بغير ركاب، وطاؤه كساء أنبجاني (2)
كثير الصوف، وهو وطاؤه إذا ركب، وفراشه إذا نزل، وحقيبته نمرة محشوة ليفا هي
حقيبته إذا ركب، ووسادته إذا نزل، وعليه قميص من كرابيس (3) قد دسم وتخرق جيبه
فقال: ادعوا إلي رأس القرية. فدعوه له، فقال: اغسلوا قميصي هذا وخيطوه
وأعيروني قميصا ريثما يجف قميصي، فأتوه بقميص كتان، فعجب منه، فقال: ما هذا
قالوا: كتان. قال: وما الكتان؟ فأخبروه، فلبسه ثم غسل قميصه، وأتى به فنزع
قميصهم ولبس قميصه، فقال له رأس القرية: أنت ملك العرب، وهذه بلاد لا يصلح بها
ركوب الإبل، فأتى ببرذون (4)، فطرحت عليه قطيفة بغير سرج فركبه فهملج (5)
تحته فقال، للناس: احبسوا، فحبسوه فقال: ما كنت أظن الناس يركبون الشيطان قبل
هذا! قدموا لي جملي فجئ. به فنزل عن البرذون وركبه.

(1) الأورق من الإبل: ما في لونه بياض إلى السواد. وقالوا: هو من أطيب الإبل لحما، لا سيرا وعملا.
(2) أنبجاني، منسوب إلى منبج، على غير قياس.
(3) الكرابيس: جمع كرباس، وهو الثوب الخشن، معرب (كرباس) بالفارسية.
(4) البرذون: ضرب من الدواب دون الخيل وأقدر من الحمر، يقع على الذكر والأنثى.
(5) هملج البرذون: مشى مشية سهلة في سرعة، والهملجة: حسن سير الدابة.
37

قدم عمر الشام فلقيه أمراء الأجناد وعظماء تلك الأرض فقال: وأين أخي؟
قالوا: من هو؟ قال: أبو عبيدة، قالوا: سيأتيك الان، فجاء أبو عبيدة على ناقة مخطومة
بحبل فسلم عليه ورد له، ثم قال للناس: انصرفوا عنا فسار معه حتى أتى منزله فنزل
عليه، فلم ير فيه الا سيفا وترسا، فقال له: لو اتخذت متاع! البيت قال: حسبي هذا
يبلغني المقيل.
* * *
وروى طارق بن شهاب ان عمر لما قدم الشام عرضت له مخاضة (1) فنزل عن
بعيره، ونزع جرموقيه (2) فأمسكهما بيده، وخاض الماء وزمام بعيره في يده الأخرى،
فقال له أبو عبيدة: لقد صنعت اليوم صنيعا عظيما عند أهل هذه الأرض! فصك في
صدره، وقال: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! انكم كنتم أذل الناس وأحقر الناس وأقل
الناس فأعزكم الله بالاسلام، فمهما تطلبوا العز بغيره يرجعكم إلى الذل.
* * *
وروى محمد بن سعد صاحب الواقدي، أن عمر قال يوما على المنبر: لقد رأيتني وما لي
من أكال (3) يأكله الناس إلا أن لي خالات من بنى مخزوم، فكنت استعذب (4)
لهن الماء، فيقبضن لي القبضات من الزبيب، فلما نزل قيل له: ما أردت بهذا قال: وجدت
في نفسي بأوا فأردت أن أطأطئ منها.

(1) المخاضنة: موضع الخوض من الماء.
(2) الجرموق: ما يلبس فوق الخف وقاية له.
(3) الأكال، كسحاب: الطعام، ويقولون: (ما ذقت أكالا).
(4) يستعذب الماء: أي يطلب الماء العذب.
(5) البأو: العجب والخيلاء.
38

ومن كلام عمر: رحم الله امرأ أهدى إلى عيوبي.
* * *
قدم عمرو بن العاص على عمر وكان واليا لمصر فقال له: في كم سرت قال:
في عشرين، قال عمر: لقد سرت سير عاشق فقال عمرو: انى والله ما تأبطتني
الإماء ولا حملتني في غبرات المآلي، فقال عمر: والله ما هذا بجواب الكلام الذي سألتك
عنه! وإن الدجاجة لتفحص في الرماد فتضع لغير الفحل، وإنما تنسب البيضة إلى طرقها
فقام عمرو مربد الوجه.
قلت: المآلي: خرق سود يحملها النوائح ويسرن بها بأيديهن عند اللطم
وأراد خرق الحيص هاهنا وشبهها بتلك، وأنكر عمر فخره بالأمهات وقال: إن الفخر
للأب الذي إليه النسب وسألت النقيب أبا جعفر عن هذا الحديث في عمر فقال: إن
عمرا فخر على عمر لان أم الخطاب زنجية، وتعرف بباطحلي، تسمى صهاك، فقلت
له: وأم عمرو النابغة أمة من سبايا العرب، فقال: أمة عربية من عنزة سبيت في بعض
الغارات فليس يلحقها من النقص عندهم ما يلحق الإماء الزنجيات. فقلت له: أكان
عمرو يقدم على عمر بمثل ما قلت؟ قال: قد يكون بلغه عنه قول قدح في نفسه فلم
يحتمله له ونفث بما في صدره منه، وإن لم يكن جوابا مطابقا للسؤال.
وقد كان عمر مع خشونته يحتمل نحو هذا، فقد جبهه الزبير مرة وجعل يحكى كلامه
يمططه، وجبهه سعد بن أبي وقاص أيضا فأغضي عنه ومر يوما في السوق على ناقة له
فوثب غلام من بنى ضبة فإذا هو خلفه، فالتفت إليه، فقال: فممن أنت قال: ضبي
قال: جسور والله فقال: الغلام على: العدو، قال عمر: وعلى الصديق أيضا ما حاجتك
فقضى حاجته، ثم قال: دع الان لنا ظهر راحلتنا.
39

ومن كلام عمر أخشع عند القبور إذا نظرت إليها واستعص عند المعصية وذل
عند الطاعة ولا تبذلن كلامك الا عند من يشتهيه ويتخذه غنما ولا تستعن على
حاجتك إلا بمن يحب نجاحها لك وآخ الاخوان على التقوى وشاور في أمرك كله
وإذا اشترى أحدكم بعيرا فليشتره جسيما، فإن أخطأته النجابة لم يخطئه السوق.
* * *
أوفد بشر بن مروان وهو على العراق رجلا إلى عبد الملك، فسأله عن بشر فقال:
يا أمير المؤمنين، هو اللين في غير ضعف الشديد في غير عنف فقال عبد الملك: ذاك
الأحوذي (1) ابن حنتمة (2) الذي كان يأمن عنده البرئ ويخافه السقيم، ويعاقب على
الذنب، ويعرف موضع العقوبة لأبشر بن مروان!.
* * *
أذن عمر يوما للناس، فدخل شيخ كبير يعرج، وهو يقود ناقة رجيعا (3) يجاذبها
حتى وقف بين ظهراني الناس، ثم قال:
وإنك مسترعى وإنا رعية * وإنك مدعو بسيماك يا عمر
لدى يوم شر شره لشراره * وخير لمن كانت مؤانسه الخير.
فقال عمر: لا حول ولا قوة الا بالله من أنت قال: عمرو بن براقة قال: ويحك
فما منعك أن تقول (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول) (4)
ثم قرأها إلى آخرها وأمر بناقته فقبضت، وحمله على غيرها وكساه وزوده.

(1) الأحوذي: الرجل الذي يسوق الأمور أحسن مساق لعلمه بها.
(2) حنتمة: أم عمر بن الخطاب.
(3) ناقة رجيع سفر، أي رجعت فيه مرات.
(4) سورة الأنفال 41.
40

بينا عمر يسير في طريق مكة يوما إذا بالشيخ بين يديه يرتجز ويقول
ما إن رأيت كفتي الخطاب * أبر بالدين وبالأحساب
* بعد النبي صاحب الكتاب *
فطعنه عمر بالسوط في ظهره، فقال: ويلك! وأين الصديق! قال: ما لي بأمره
علم يا أمير المؤمنين، قال: أما إنك لو كنت عالما، ثم قلت هذا لأوجعت ظهرك.
* * *
قال زيد بن أسلم: كنت عند عمر وقد كلمه عمرو بن العاص في الحطيئة وكان
محبوسا، فأخرجه من السجن ثم أنشده
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ * زغب الحواصل لا ماء ولا شجر (1)
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة * فاغفر عليك سلام الله يا عمر
أنت الامام الذي من بعد صاحبه * ألقت إليه مقاليد النهى البشر
ما آثروك بها إذ قدموك لها * لكن لأنفسهم كانت بك الأثر. (2)
فبكى عمر لما قال له: (ماذا تقول لأفراخ) فكان عمرو بن العاص بعد ذلك
يقول: ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء أتقى من رجل يبكى خوفا من حبس (3) الحطيئة!
ثم قال عمر لغلامه يرفأ: على بالكرسي، فجلس عليه ثم قال: على بالطست، فأتى بها
ثم قال: على بالمخصف، لا بل على بالسكين، فأتى بها فقال: لا بل على بالموسى، فإنها
أوجى، فأتى بموسى ثم قال: أشيروا على في الشاعر فإنه يقول الهجر، وينسب بالحرم
ويمدح الناس ويذمهم بغير ما فيهم وما أراني إلا قاطعا لسانه! فجعل الحطيئة يزيد خوفا
فقال: من حضر إنه لا يعود يا أمير المؤمنين، وأشاروا إليه قل لا أعود يا أمير المؤمنين
فقال: النجاء النجاء! فلما ولى ناداه: يا حطيئة فرجع مرعوبا فقال: كأني بك يا حطيئة

(1) ديوانه 8.
(2) أي الخلافة. وفي الديوان: (لم يؤثروك).
(3) كذا في ا، وفي ب: (حبسه).
41

عند فتى من قريش، قد بسط لك نمرقة وكسر لك أخرى ثم قال: غننا يا حطيئة فطفقت
تغنيه بأعراض الناس قال: يا أمير المؤمنين لا أعود ولا يكون ذلك.
قال: زيد بن أسلم ثم رأيت الحطيئة يوما بعد ذلك عند عبيد الله بن عمر قد بسط
له نمرقة وكسر له أخرى ثم قال: تغنينا يا حطيئة وهو يغنيه فقلت يا حطيئة
أما تذكر قول عمر لك! ففزع وقال: رحم الله ذلك المرء أما لو كان حيا ما فعلنا
هذا. قال: فقلت لعبيد الله بن عمر: سمعت أباك يذكر كذا فكنت أنت
ذلك الفتى.
* * *
كان عمر يصادر خونه العمال، فصادر أبا موسى الأشعري وكان عامله على البصرة
وقال له: بلغني أن لك جاريتين وأنك تطعم الناس من جفنتين و أعاده بعد المصادرة
إلى عمله.
وصادر أبا هريرة وأغلظ عليه وكان عامله على البحرين فقال له: ألا تعلم أنى
استعملتك على البحرين، وأنت حاف لا نعل في رجلك وقد بلغني أنك بعت أفراسا
بألف وستمائة دينار قال أبو هريرة: كانت لنا أفراس فتناتجت فقال: قد حبست لك
رزقك ومؤنتك وهذا فضل قال أبو هريرة: ليس ذلك لك قال: بلى والله وأوجع
ظهرك! ثم قام إليه بالدرة فضرب ظهره حتى أدماه ثم قال إئت بها فلما أحضرها
قال أبو هريرة: سوف احتسبها عند الله قال عمر: ذاك لو أخذتها من حل وأديتها
طائعا أما والله ما رجت فيك أميمة أن تجبى أموال هجر واليمامة وأقصى البحرين لنفسك،
لا لله و لا للمسلمين، ولم ترج فيك أكثر من رعية الحمر وعزله.
وصادر الحارث بن وهب أحد بنى ليث بكر بن كنانة وقال له: ما قلاص وأعبد بعتها
بمائة دينار قال: خرجت بنفقة لي فاتجرت فيها، قال: وإنا والله ما بعثناك للتجارة
42

أدها، قال: إما والله لا أعمل لك بعدها. قال: أنا والله لا أستعملك بعدها. ثم صعد المنبر
فقال: يا معشر الامراء، إن هذا المال لو رأينا أنه يحل لنا لأحللنا لكم فأما إذ لم نره يحل
لنا وظلفنا (1) أنفسنا عنه فأظلفوا عنه أنفسكم فإني والله ما وجدت لكم مثلا إلا عطشان
ورد اللجة ولم ينظر الماتح، فلما روى غرق.
* * *
وكتب عمر إلى عمرو بن العاص وهو عامله في مصر:
أما بعد فقد بلغني أنه قد ظهر لك مال من إبل وغنم وخدم وغلمان ولم يكن لك
قبله مال، ولا ذلك من رزقك، فأنى لك هذا ولقد كان لي من السابقين الأولين من
هو خير منك، ولكني استعملتك لغنائك، فإذا كان عملك لك وعلينا بم نؤثرك على
أنفسنا فاكتب إلى من أين مالك وعجل. والسلام.
فكتب إليه عمرو بن العاص: قرأت كتاب أمير المؤمنين ولقد صدق فأما ما ذكره
من مالي، فإني قدمت بلدة: الأسعار فيها رخيصة والغزو فيها كثير فجعلت فضول
ما حصل لي من ذلك فيما ذكره أمير المؤمنين والله يا أمير المؤمنين لو كانت خيانتك لنا
حلالا ما خناك حيث ائتمنتنا فأقصر عنا عناك فإن لنا أحسابا إذا رجعنا إليها أغنتنا
عن العمل لك وأما من كان لك من السابقين الأولين، فهلا استعملتهم! فوالله
ما دققت لك بابا.
فكتب إليه عمر: أما بعد، فإني لست من تسطيرك وتشقيقك الكلام في شئ،
إنكم معشر الامراء أكلتم الأموال وأخلدتم إلى الاعذار فإنما تأكلون النار وتورثون
العار وقد وجهت إليك محمد بن مسلمة ليشاطرك على ما في يديك والسلام.

(1) ظلف نفسه عن الشئ: منعها.
43

فلما قدم إليه محمد اتخذ له طعاما وقدمه إليه فأبى أن يأكل فقال: ما لك
لا تأكل طعامنا؟ قال: إنك عملت لي طعاما هو تقدمة للشر ولو كنت عملت لي طعام
الضيف لأكلته فأبعد عنى طعامك، وأحضر لي مالك. فلما كان الغد وأحضر ماله
جعل محمد يأخذ شطرا ويعطى عمرا شطرا فما رأى عمرو ما حاز محمد من المال قال:
يا محمد أقول؟ قال: قل ما تشاء: قال: لعن الله يوما كنت فيه واليا لابن الخطاب!
والله لقد رأيته ورأيت أباه وإن على كل واحد منهما عباءة قطوانية مؤتزرا بها
ما تبلغ مأبض ركبتيه وعلى عنق كل واحد منهما حزمة من حطب وإن العاص
ابن وائل لفي مزررات الديباج فقال: محمد إيها يا عمرو! فعمر والله خير منك، وأما أبوك
وأبوه ففي النار ووالله لولا ما دخلت فيه من الاسلام لألفيت معتلفا شاة يسرك غزرها
ويسوءك بكؤها. قال: صدقت فاكتم على قال: أفعل.
* * *
جاءت سرية لعبيد الله بن عمر إلى عمر تشكوه، فقالت: يا أمير المؤمنين ألا تعذرني
من أبى عيسى، قال: ومن أبو عيسى قالت: ابنك عبيد الله قال: ويحك وقد
تكنى بأبي عيسى! ودعاه، وقال: إيها اكتنيت بأبي عيسى! فحذر وفزع، فاخذ يده
فعضها حتى صاح، ثم ضربه وقال: ويلك! هل لعيسى أب أما تدرى ما كنى العرب؟
أبو سلمه أبو حنظلة أبو عرفطة أبو مرة.
كان عمر إذا غضب على بعض أهله لم يشتف حتى يعض يده، وكان عبد الله بن الزبير
كذلك يقال إنه لم يل ولاية من ولد عمر وال عادل

(1) المأبض: كل ما يثبت عليه فخذك، وقبل: المأبضان ما تحت الفخذين.
44

وقال مالك بن أنس: إن عمر بن الخطاب استفرغ كل عدل في ولده فلم يعدل بعده
أحد منهم في ولاية وليها.
كان عمر ومن بعده من الولاة إذا أخذوا العصاة نزعوا عمائمهم وأقاموهم
للناس، حتى جاء زياد فضربهم بالسياط فجاء مصعب فحلق مع الضرب، فجاء
بشر بن مروان، فكان يصلب تحت الإبطين، ويضرب الأكف بالمسامير. فكتب
إلى بعض الجند قوم من أهله يستزيرونه، ويتشوقونه وقد أخرجه بشر إلى الري
فكتب إليهم:
لولا مخافة بشر أو عقوبته * أو أن يرى شانئ كفي بمسمار
إذا لعطلت ثغرى ثم زرتكم * إن المحب المعنى جد زوار.
فلما جاء الحجاج قال: كل هذا لعب فقتل العصاة بالسيف.
* * *
زيد بن أسلم، عن أبيه قال: خلا عمر لبعض شأنه وقال: أمسك على الباب
فطلع الزبير فكرهته حين رأيته فأراد أن يدخل فقلت هو على حاجة فلم يلتفت
إلى وأهوى ليدخل فوضعت يدي في صدره فضرب أنفى فأدماه ثم رجع فدخلت
على عمر فقال: ما بك؟ قلت: الزبير!.
فأرسل إلى الزبير فلما دخل جئت فقمت لأنظر ما يقول له فقال: ما حملك على
ما صنعت أدميتني للناس فقال الزبير: يحكيه ويمطط في كلامه (أدميتني!)
أتحتجب عنا يا بن الخطاب! فوالله ما احتجب منى رسول الله ولا أبو بكر فقال عمر:
كالمعتذر إني كنت في بعض شأني!.
قال: أسلم فلما سمعته يعتذر إليه يئست من أن يأخذ لي بحقي منه.
45

فخرج الزبير فقال عمر: إنه الزبير وآثاره ما تعلم فقلت حقي حقك.
* * *
وروى الزبير بن بكار في كتاب الموفقيات عن عبد الله بن عباس قال: إني
لأماشي عمر بن الخطاب في سكة من سكك المدينة إذ قال لي: يا بن عباس ما أرى
صاحبك إلا مظلوما فقلت في نفسي: والله لا يسبقني بها، فقلت يا أمير المؤمنين
فاردد إليه ظلامته، فانتزع يده من يدي ومضى يهمهم ساعة ثم وقف فلحقته،
فقال: يا بن عباس؟ ما أظنهم منعهم عنه إلا أنه استصغره! قومه فقلت في نفسي: هذه
شر من الأولى! فقلت: والله ما استصغره الله ورسوله حين أمراه أن يأخذ براءة
من صاحبك (1).
فأعرض عنى وأسرع فرجعت عنه.
* * *
وقال ابن عباس: قلت لعمر لقد أكثرت التمني للموت حتى خشيت أن يكون
عليك غير سهل عند أوانه فماذا سئمت من رعيتك أن تعين صالحا أو تقوم فاسدا!.
قال: يا بن عباس إني قائل قولا فخذه إليك كيف لا حب فراقهم وفيهم من
هو فاتح فاه للشهوة من الدنيا، إما لحق لا ينوء به، وإما لباطل لا يناله والله لولا أن
أسأل عنكم لبرئت منكم فأصبحت الأرض منى بلاقع، ولم أقل ما فعل فلان
وفلان.
* * *
جاءت امرأة إلى عمر بن الخطاب فقالت: يا أمير المؤمنين إن زوجي يصوم

(1) انظر الرياض النضرة 2: 173.
46

النهار ويقوم الليل وإني أكره أن أشكوه وهو يعمل بطاعة الله فقال: نعم الزوج
زوجك! فجعلت تكرر عليه القول وهو يكرر عليها الجواب.
فقال له كعب بن سور: يا أمير المؤمنين، إنها تشكو زوجها في مباعدته إياها عن
فراشه ففطن عمر حينئذ، وقال له: قد وليتك الحكم بينهما!.
فقال كعب: على بزوجها، فأتى به فقال: إن زوجتك هذه تشكوك قال: في
طعام أو شراب قال: لا قالت المرأة:
أيها القاضي الحكيم رشده * ألهى خليلي عن فراشي مسجده
زهده في مضجعي تعبده * نهاره وليله ما يرقده
* فلست في أمر النساء أحمده *.
فقال زوجها:
زهدني في فرشها وفى الحجل * أنى امرؤ أذهلني ما قد نزل
في سورة النمل وفى السبع الطول * وفى كتاب الله تخويف جلل.
قال كعب:
إن لها حقا عليك يا رجل * تصيبها من أربع لمن عقل
* فاعطها ذاك ودع عنك العلل *.
فقال لعمر: يا أمير المؤمنين إن الله أحل له من النساء مثنى ثلاث ورباع فله
ثلاثة أيام ولياليهن يعبد فيها ربه ولها يوم وليلة.
فقال عمر: والله ما أعلم من أي أمريك أعجب أمن فهمك أمرهما أم من حكمك بينهما
أذهب فقد وليتك قضاء البصرة.
* * *
وروى زيد بن أسلم عن أبيه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب وهو يطوف بالليل
47

فنظر إلى نار شرقي حرة المدينة فقال: إن هؤلاء الركب لم ينزلوا هاهنا إلا
الليلة! ثم أهوى (1) لهم فخرجت معه حتى دنونا، فسمعنا تضاغى (2) الصبيان
وبكاءهم.
فقال: السلام عليكم يا أصحاب الضوء، هل ندنو منكم! واحتبسنا قليلا، فقالت:
امرأة منهم: إدنوا بسلام! فأقبلنا حتى وقفنا عليها، فقال: ما يبكى هؤلاء الصبيان؟
قالت: الجوع، قال: فما هذا القدر على النار قالت: ماء أعللهم به، قال: انتظريني فإني
بالغك إن شاء الله! ثم خر يهرول وأنا معه حتى جئنا دار الدقيق - وكانت دارا يطرح
فيها ما يجئ من دقيق العراق ومصر وقد كان كتب إلى عمرو بن العاص وأبي موسى
حين أمحلت السنة: الغوث، الغوث احملوا إلى أحمال الدقيق واجعلوا فيها جمائد
الشحم. فجاء إلى عدل منها فطأطأ ظهره، ثم قال: أحمله على ظهري يا أسلم فقلت:
أنا أحمله عنك! فنظر إلى وقال: أنت تحمل عنى وزري يوم القيامة لا أبا لك! قلت
لا قال: فاحمله على ظهري إذا ففعلت، وخرج به يدلج (3) وأنا معه حتى ألقاه
عند المرأة.
ثم قال: لي ذر (4) على ذرور الدقيق لا يتعرد وأنا أخزر ثم أخذ المسواط (5)
يخزر ثم جعل ينفخ تحت البرمة وأنا أنظر إلى الدخان يخرج من خلل لحيته
ويقول لا تعجل حتى ينضج، ثم قال: ألق على من الشحم فإن القفار
يوجع البطن.

(1) أهوى لهم: نزل عليهم.
(2) التضاعي: الصياح والتضور من الجوع.
(3) الإدلاج: السير أول الليل.
(4) ذر الشئ: أخذه بأطراف أصابعه، ثم نثره على الشئ.
(5) الخزيرة. العصيدة.
(6) السوط: خلط الشئ بعضه ببعض، والمسوط والمسواط: ما سيط به.
48

ثم أنزل القدر و قال للمرأة لا تعجلي لا تعطيهم حارا وأنا أسطح لك فجعل
يسطح بالمسواط ويبرد طعامهم حتى إذا شبعوا ترك عندها الفضل ثم قال لها: إئتي
أمير المؤمنين غدا فإنك عسيت أن تجديني قريبا منه فأشفع لك بخير، وهي تقول
من أنت يرحمك الله! وتدعو له وتقول: أنت أولى بالخلافة من أمير المؤمنين، فيقول
قولي خيرا يرحمك الله لا يزيد على هذا.
ثم انصرف حتى إذا كان قريبا جلس فأقعى وجعل يسمع طويلا حتى سمع
التضاحك منها ومن الصبيان، وأنا أقول يا أمير المؤمنين، قد فرغت من هذه ولك شغل
في غيرها ويقول: لا تكلمني، حتى إذا هدأ حسهم قام فتمطى وقال ويحك إني
سمعت الجوع أسهرهم فأحببت ألا أبرح حتى أسمع الشبع أنامهم.
* * *
ومن كلامه: الرجال ثلاثة الكامل ودون الكامل ولا شئ فالكامل
ذو الرأي يستشير الناس فيأخذ من آراء الرجال إلى رأيه ودون الكامل من يستبد به
ولا يستشير ولا شئ من لا رأى له ولا يستشير.
والنساء ثلاث تعين أهلها على الدهر ولا تعين الدهر على أهلها وقلما تجدها وامرأة
وعاء للولد ليس فيها غيره والثالثة غل قمل (1) يجعله الله في رقبة من يشاء ويفكه إذا شاء.
* * *
لما أخرج عمر الحطيئة من حبسه قال له إياك والشعر قال لا أقدر على تركه
يا أمير المؤمنين مأكله عيالي ونملة تدب على لساني قال فشبب بأهلك وإياك

(1) في اللسان: (في حديث عمر في صفة النساء: منهن غل قمل، أي ذو قمل، كانوا يغلون الأسير
بالقد وعليه الشعر فيقمل، ولا يستطيع دفعه عنه بحيلة).
49

وكل مدحه مجحفة قال وما المجحفة قال تقول إن بنى فلان خير من بنى فلان
امدح ولا تفضل أحدا قال أنت والله يا أمير المؤمنين أشعر منى!.
* * *
وروى الزبير في الموفقيات عن عبد الله بن عباس قال خرجت أريد عمر بن
الخطاب فلقيته راكبا حمارا، وقد ارتسنه بحبل أسود في رجليه نعلان مخصوفتان
وعليه إزار وقميص صغير، وقد انكشفت منه رجلاه إلى ركبتيه فمشيت إلى جانبه
وجعلت أجذب الإزار وأسويه عليه كلما سترت جانبا انكشف جانب فيضحك
ويقول: إنه لا يطيعك، حتى جئنا العالية فصلينا، ثم قدم بعض القوم إلينا طعاما من
خبز ولحم وإذا عمر صائم فجعل ينبذ (2) إلى طيب اللحم، ويقول: كل لي ولك، ثم
دخلنا حائطا فألقى إلى رداءه وقال اكفنيه وألقى قميصه بين يديه، وجلس يغسله
وأنا أغسل رداءه ثم جففناهما وصلينا العصر، فركب ومشيت إلى جانبه، ولا ثالث لنا.
فقلت يا أمير المؤمنين إني في خطبة فأشر على، قال: ومن خطبت قلت
فلانة ابنة فلان، قال: النسب كما تحب وكما قد علمت ولكن في أخلاق أهلها دقة (3)
لا تعدمك أن تجدها في ولدك! قلت: فلا حاجة لي إذا فيها قال: فلم لا تخطب إلى
ابن عمك - يعنى عليا؟ قلت ألم تسبقني إليه؟ قال: فالأخرى قلت هي لابن أخيه
قال يا بن عباس إن صاحبكم إن ولى هذا الامر أخشى عجبه بنفسه أن يذهب به
فليتني أراكم بعدي!
قلت يا أمير المؤمنين إن صاحبنا ما قد علمت إنه ما غير ولا بدل ولا أسخط
رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام صحبته له.

(1) ينبذ: يطرح.
(2) الدقة الخساسة.
50

قال فقطع على الكلام فقال ولا في ابنه أبى جهل لما أراد ان يخطبها
على فاطمة!.
قلت قال الله تعالى ولم نجد له عزما وصاحبنا لم يعزم على سخط
رسول الله صلى الله عليه وآله ولكن الخواطر التي لا يقدر أحد على دفعها عن نفسه
وربما كان من الفقيه في دين الله العالم العامل بأمر الله.
فقال: يا بن عباس، من ظن أنه يرد بحوركم فيغوص فيها معكم حتى يبلغ قعرها
فقد ظن عجزا! أستغفر الله لي ولك خذ في غيرها.
ثم أنشأ يسألني عن شئ من أمور الفتيا وأجيبه فيقول أصبت أصاب الله بك
أنت والله أحق أن تتبع!.
* * *
أشرف عبد الملك على أصحابه وهم يتذاكرون سيرة عمر فغاظه ذلك وقال
إيها عن ذكر سيرة عمر فإنها مزراة على الولاة مفسدة للرعية.
* * *
قال ابن عباس: كنت عند عمر فتنفس نفسا ظننت أن أضلاعه قد انفرجت
فقلت ما أخرج هذا النفس منك يا أمير المؤمنين: إلا هم شديد! قال أي والله يا بن
عباس! إني فكرت فلم أدر فيمن أجعل هذا الامر بعدي! ثم قال: لعلك ترى
صاحبك لها أهلا قلت: وما يمنعه من ذلك مع جهاده وسابقته وقرابته وعلمه! قال
صدقت، ولكنه امرؤ فيه دعا به، قلت: فأين أنت عن طلحة قال ذو البأو
وبإصبعه المقطوعة! قلت: فعبد الرحمن؟ قال: رجل ضعيف لو صار الامر إليه لوضع
خاتمه في يد امرأته قلت: فالزبير؟ قال شكس لقس (3) يلاطم في النقيع في صاع

(1) سورة طه 115.
(2) البأو: العجب والتفاخر.
(3) اللقس الشكس: سئ الخلق، كذا فسره صاحب اللسان، وأورد الخبر.
51

من بر! قلت: فسعد بن أبي وقاص؟ قال صاحب سلاح ومقنب (1)، قلت:
فعثمان؟ قال أوه! ثلاثا، والله لئن وليها ليحملن بنى أبى معيط على رقاب الناس، ثم
لتنهض العرب إليه.
ثم قال: يا بن عباس، إنه لا يصلح لهذا الامر إلا خصيف (2) العقدة، قليل الغرة
لا تأخذه في الله لومة لائم ثم يكون شديدا من غير عنف لينا من غير ضعف سخيا
من غير سرف ممسكا من غير وكف (3) قال بن عباس وكانت والله هي صفات عمر.
قال: ثم أقبل على بعد أن سكت هنيهة وقال: أجرؤهم والله إن وليها أن
يحملهم على كتاب ربهم وسنة نبيهم لصاحبك! أما إن ولى أمرهم حملهم على المحجة
البيضاء والصراط المستقيم.
* * *
وروى عبد الله بن عمر قال: كنت عند أبي يوما، وعنده نفر من الناس فجرى
ذكر الشعر، فقال من أشعر العرب فقالوا: فلان وفلان فطلع عبد الله بن عباس
فسلم وجلس فقال عمر قد جاءكم الخبير من أشعر الناس يا عبد الله؟ قال: زهير
ابن أبي سلمى قال فأنشدني مما تستجيده له. فقال: يا أمير المؤمنين إنه مدح
قوما من غطفان، يقال لهم بنو سنان فقال
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم * قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا
قوم أبوهم سنان حين تنسبهم * طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا
إنس إذا أمنوا جن إذا فزعوا * مرزؤون بها ليل إذا جهدوا

(1) المقنب: جماعة الخيل
(2) قال المحب الطبري في الرياض النضرة 2: 60: (خصيف العقدة: مستحكمها، واستخصف
الشئ: استحكم، والخصيف: الرجل المحكم العقل، وكني بذلك عمر عن الاشتداد في دين الله وقوة الايمان به.
(3) الوكف: العيب.
52

محسدون على ما كان من نعم * لا بنزع الله منهم ماله حسدوا.
فقال عمر والله لقد أحسن وما أرى هذا المدح يصلح إلا لهذا البيت من هاشم
لقرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ابن عباس: وفقك الله يا أمير المؤمنين
فلم تزل موفقا، فقال: يا بن عباس، أتدري ما منع الناس منكم؟ قال لا يا أمير المؤمنين
قال لكني أدرى قال ما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: كرهت قريش أن تجتمع لكم
النبوة والخلافة فيجخفوا جخفا (1) فنظرت قريش لنفسها فاختارت ووفقت فأصابت (2).
فقال ابن عباس: أيميط أمير المؤمنين عنى غضبه فيسمع! قال: قل ما تشاء قال
أما قول أمير المؤمنين: إن قريشا كرهت، فإن الله تعالى قال لقوم (ذلك بأنهم
كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم) (3).
وأما قولك: (إنا كنا نجخف) فلو جخفنا بالخلافة جخفنا بالقرابة ولكنا قوم
أخلاقنا مشتقة من خلق رسول الله صلى الله عليه وآله الذي قال الله تعالى (وإنك لعلى
خلق عظيم) (4) وقال له (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين).
وأما قولك (فإن قريشا اختارت) فإن الله تعالى يقول: (وربك يخلق
ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة) (6) وقد علمت يا أمير المؤمنين أن الله اختار
من خلقه لذلك من اختار، فلو نظرت قريش من حيث نظر الله لها لوفقت
وأصابت قريش.
فقال عمر: على رسلك يا بن عباس أبت قلوبكم يا بني هاشم إلا غشا في أمر
قريش لا يزول وحقدا عليها لا يحول فقال ابن عباس: مهلا يا أمير المؤمنين!

(1) جخف: تكبر.
(2) الشعر والحبر إلى هنا، في ديوان زهير وشرحه 281 - 283.
(3) سورة الأحزاب 19.
(4) سورة ن 5.
(5) سورة الشعراء 215.
(6) سورة القصص 68.
53

لا تنسب هاشما إلى الغش فإن قلوبهم من قلب رسول الله الذي طهره الله وزكاه وهم
أهل البيت الذين قال الله تعالى لهم (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل
البيت ويطهركم تطهيرا) وأما قولك (حقدا) فكيف لا يحقد من غصب شيئه
ويراه في يد غيره!.
فقال عمر: أما أنت يا بن عباس فقد بلغني عنك كلام أكره أن أخبرك به
فتزول منزلتك عندي، قال: وما هو يا أمير المؤمنين أخبرني به فان يك باطلا فمثلي
أماط الباطل عن نفسه، وإن يك حقا فإن منزلتي عندك لا تزول به.
قال: بلغني إنك لا تزال تقول: أخذ هذا الامر منك حسدا وظلما قال أما قولك
يا أمير المؤمنين (حسدا) فقد حسد إبليس آدم فأخرجه من الجنة فنحن بنو
آدم المحسود.
وأما قولك ظلما فأمير المؤمنين يعلم صاحب الحق من هو!.
ثم قال يا أمير المؤمنين، ألم تحتج العرب على العجم بحق رسول الله واحتجت
قريش على سائر العرب بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم! فنحن أحق برسول الله من
سائر قريش.
فقال له عمر: قم الان فارجع إلى منزلك. فقام فلما ولى هتف به عمر: أيها المنصرف
إني على ما كان منك لراع حقك!.
فالتفت ابن عباس فقال: إن لي عليك يا أمير المؤمنين وعلى كل المسلمين حقا
برسول الله صلى الله عليه وسلم فمن حفظ فحق نفسه حفظ، ومن أضاعه فحق نفسه
أضاع ثم مضى.

(1) سورة الأحزاب 33.
54

فقال عمر لجلسائه واها لابن عباس ما رأيته لاحى أحدا قط إلا خصمه!.
* * *
لما توفى عبد الله بن أبي رأس المنافقين في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء
ابنه وأهله فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلى عليه فقام بين يدي الصف
يريد ذلك فجاء عمر فجذبه من خلفه وقال ألم ينهك الله أن تصلى على المنافقين فقال
إني خيرت فاخترت فقيل لي (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين
مرة فلن يغفر الله لهم) (1) ولو أنى أعلم أنى إذا زدت على السبعين غفر له لزدت
ثم صلى رسول الله عليه ومشى معه وقام على قبره.
فعجب الناس من جرأة عمر على رسول الله صلى الله عليه وآله، فلم يلبث الناس
إلا أن نزل قوله تعالى: (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره..) (1)
فلم يصل عليه السلام بعدها على أحد من المنافقين (2).
* * *
وروى أبو هريرة قال كنا قعودا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر فقام
من بين أظهرنا فأبطأ علينا وخشينا أن يقطع دوننا فقمنا وكنت أول من فزع
فخرجت أبتغيه حتى أتيت حائطا (3) للأنصار لقوم من بنى النجار، فلم أجد له بابا إلا ربيعا
فدخلت في جوف الحائط - والربيع الجدول - فدخلت منه بعد أن احتفرته فإذا
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو هريرة! قلت: نعم، قال: ما شأنك؟ قلت:
كنت بين أظهرنا فقمت فأبطأت عنا، فخشينا أن تقتطع دوننا ففزعنا - وكنت أول
من فزع فأتيت هذا الحائط فاحتفرته كما يحتفر الثعلب، والناس من ورائي

(1) سورة التوبة 80، 84
(2) الرياض النضرة 1: 140
(3) الحائط هنا: البستان.
55

. فقال يا أبا هريرة اذهب بنعلي هاتين، فمن لقيته وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله
إلا الله، مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة فخرجت فكان أول من لقيت عمر،
فقال: ما هذان النعلان؟ قلت: نعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني بهما وقال:
من لقيته يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة.
فضرب عمر في صدري فخررت لإستي، وقال: ارجع إلى رسول الله صلى الله
عليه وآله.
فأجهشت بالبكاء راجعا، فقال رسول الله: ما بالك؟ قلت: لقيت عمر فأخبرته
بالذي بعثتني به فضرب صدري ضربة خررت لإستي، وقال ارجع إلى
رسول الله.
فخرج رسول الله فإذا عمر، فقال: ما حملك يا عمر على ما فعلت فقال عمر أنت بعثت
أبا هريرة بكذا قال: نعم، قال: فلا تفعل فإني أخشى أن يتكل الناس عليها
فيتركوا العمل خلهم يعملون
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: خلهم يعملون
* * *
وروى أبو سعيد الخدري قال: أصابت الناس مجاعة في غزاة تبوك فقالوا:
يا رسول الله، لو أذنت لنا فذبحنا نواضحنا (1) وأكلنا شحمها ولحمها! فقال افعلوا،
فجاء عمر فقال: يا رسول الله إنهم إن فعلوا قل الظهر ولكن ادعهم بفضلات
أزوادهم فاجمعها ثم ادع لهم عليها بالبركة لعل الله يجعل في ذلك خيرا

(1) الناضح: البعير يستقي عليه، ثم استعمل في كل بعير، وإن لم يحمل الماء.
56

ففعل رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك، فأكل الخلق الكثير من طعام قليل
ولم تذبح النواضح
* * *
وروى ابن عباس رضي الله عنه أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر
له ذنبا أذنبه فأنزل الله تعالى في أمره (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن
الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين) (1) فقال يا رسول الله، لي
خاصة أم للناس عامة.
* * *
فضرب عمر صدره بيده وقال لا ونعمى عين بل للناس عامة فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: بل للناس عامة.
وكان عمر يقول: وافقني ربى في ثلاث: قلت: يا رسول الله لو اتخذنا من مقام
إبراهيم مصلى؟ فنزلت (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) (2).
وقلت: يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرتهن أن
يحتجبن! فنزلت آية الحجاب.
وتمالأ عليه نساؤه غيرة فقلت له: (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا
خيرا منكن) (3) فنزلت بهذا اللفظ (4).
* * *
وقال عبد الله بن مسعود فضل عمر الناس بأربع: برأيه في أسارى بدر فنزل القرآن بموافقته: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) (5)
وبرأيه في حجاب نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل قوله تعالى (وإذا سألتموهن

(1) سورة هود 114
(2) سورة البقرة 125.
(3) سورة التحريم 5
(4) الرياض النضرة 1: 240.
(5) سورة الأنفال 67.
57

متاعا فاسألوهن من وراء حجاب) (1) وبدعوة النبي صلى الله عليه وسلم (اللهم أيد
الاسلام بأحد الرجلين) وبرأيه في أبى بكر كان أول من بايعه (2).
* * *
وروت عائشة قالت كنت آكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حيسا (3) قبل
أن تنزل آية الحجاب، ومر عمر فدعاه فأكل فأصابت يده إصبعي، فقال: حس (4)
لو أطاع فيكن ما رأتكن عين فنزلت آية الحجاب (5).
* * *
جاء عيينة بن حصن والأقرع بن حابس إلى أبى بكر، فقالا: يا خليفة رسول الله
إن عندنا أرضا سبخة ليس فيها كلا ولا منفعة فإن رأيت أن تقطعناها لعلنا نحرثها
أو نزرعها! ولعل الله أن ينفع بها بعد اليوم! فقال أبو بكر لمن حوله من الناس المسلمين:
ما ترون؟ قالوا: لا بأس فكتب لهما بها كتابا وأشهد فيه شهودا. وعمر ما كان
حاضرا، فانطلقا إليه ليشهد في الكتاب، فوجداه قائما يهنأ (6) بعيرا، فقالا إن خليفة
رسول الله صلى الله عليه وآله كتب لنا هذا الكتاب وجئناك لتشهد على ما فيه
أفتقرؤه أم نقرؤه عليك؟ قال: أعلى الحال التي تريان! إن شئتما فاقرآه، وإن شئتما
فانتظرا حتى أفرغ.
قالا بل نقرؤه عليك، فلما سمع ما فيه، أخذه منهما، ثم تفل فيه، فمحاه، فتذامرا
وقالا مقالة سيئة.

(1) سورة الأحزاب 53.
(2) الرياض النضرة 1: 202
(3) الرياض النضرة: (حيسا في قعب).
(4) قال المحب الطبري: (حس، هي بكسر السين والتشديد: كلمة يقولها الانسان إذا أصابه
ما مضه وأحرقه كالجمرة والضربة ونحوهما.
(5) الرياض النضرة 1: 202
(6) يهنأ بعيره: يطلبه بالقطران علاجا له من الجرب.
58

فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألفكما والاسلام يومئذ ذليل، وإن
الله تعالى قد أعز الاسلام، فاذهبا فاجهدا جهدكما، لا رعى الله عليكما إن رعيتما!.
فذهبا إلى أبى بكر، وهما يتذمران، فقالا: والله ما ندري أنت أمير أم عمر؟ فقال:
بل هو لو شاء كان.
* * *
وجاء عمر وهو مغضب، حتى وقف على أبى بكر فقال أخبرني عن هذه الأرض
التي أقطعتها هذين الرجلين أهي لك خاصة أم بين المسلمين عامة! فقال: بين المسلمين
عامة قال: فما حملك على أن تخص بها هذين دون جماعة المسلمين قال: استشرت
الذين حولي فأشاروا بذلك، فقال أفكل المسلمين أوسعتهم مشورة ورضا! فقال أبو
بكر فلقد كنت قلت لك: إنك أقوى على هذا الامر منى لكنك غلبتني!.
* * *
لما كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتاب الصلح في الحديبية بينه وبين سهيل
ابن عمرو كان في الكتاب أن من خرج من المسلمين إلى قريش لا يرد ومن خرج من
المشركين إلى النبي صلى الله عليه وسلم يرد عليهم فغضب عمر وقال لأبي بكر: ما هذا
يا أبا بكر! أيرد المسلمون إلى المشركين! ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فجلس بين يديه وقال يا رسول الله ألست رسول الله حقا! قال بلى قال:
ونحن المسلمون حقا! قال: نعم
قال: وهم الكافرون حقا! قال: نعم، قال:
فعلام نعطي الدنية في ديننا فقال رسول الله: أنا رسول الله افعل ما يأمرني به
ولن يضيعني.
فقام عمر مغضبا وقال لو أجد أعوانا ما أعطيت الدنية أبدا وجاء إلى أبى بكر
59

فقال له: يا أبا بكر، ألم يكن وعدنا أننا سندخل مكة، فأين ما وعدنا به؟ فقال أبو بكر:
أقال لك: إنه العام يدخلها؟ قال: لا قال: فسيدخلها، فقال: فما هذه الصحيفة التي
كتبت؟ وكيف نعطي الدنية من أنفسنا! فقال أبو بكر: يا هذا الزم غرزه (1) فوالله انه
لرسول الله وإن الله لا يضيعه.
فلما كان يوم الفتح وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة قال:
ادعوا لي عمر، فجاء فقال: هذا الذي كنت وعدتكم به (2).
* * *
لما قتل المشركون يوم بدر أسر منهم سبعون أسيرا، فاستشار رسول الله صلى الله
عليه وسلم فيهم أبا بكر وعمر فقال أبو بكر يا رسول الله هؤلاء بنو العم والعشيرة
والاخوان، وأرى أن تأخذ منهم الفدية فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على المشركين
وعسى أن يهديهم الله بعد اليوم، فيكونوا لنا عذرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ما تقول أنت يا عمر؟ قال: أرى أن تمكنني من فلان - قريب لعمر - فأضرب عنقه
وتمكن عليا من عقيل، فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من أخيه فيضرب عنقه حتى
يعلم الله أنه ليس في قلوبنا هوادة للمشركين. اقتلهم يا رسول الله، فإنهم صناديدهم وقادتهم
فلم يهو رسول الله ما قاله عمر.
قال عمر: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدته قاعدا وأبو بكر وهما
يبكيان، فقلت: ما يبكيكما؟ حدثاني، فإن وجدت بكاء بكيت وإلا تباكيت فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبكى لاخذ الفداء لقد عرض على عذابكم أدنى من
هذه الشجرة - لشجرة قريبة منه.

(1) الزم غرزه، أي أمره ونهيه
(2) الرياض النضرة 2: 44
60

قال عبد الله بن عمر: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كدنا أن يصيبنا
شر في مخالفة عمر.
* * *
وقال عمر في خلافته: لئن عشت إن شاء الله لأسيرن في الرعية حولا فإني أعلم
أن للناس حوائج تقتطع دوني أما عما لهم فلا يرفعونها إلى وأما هم فلا يصلون إلى
أسير إلى الشام فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى الجزيرة فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى
مصر فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى البحرين فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى الكوفة
فأقيم بها شهرين ثم إلى البصرة فأقيم بها شهرين، والله لنعم الحول هذا!.
* * *
وقال أسلم: بعثني عمر بابل من إبل الصدقة إلى الحمى، فوضعت جهازي على ناقة
منها كريمة، فلما أردت أن أصدرها قال: اعرضها على فعرضتها عليه فرأى متاعي
على ناقة حسناء، فقال لا أم لك، عمدت إلى ناقة تغنى أهل بيت من المسلمين فهلا
ابن لبون (1) بوال أو ناقة شصوص (2).
* * *
وقيل لعمر إن هاهنا رجلا من الأحبار نصرانيا، له بصر بالديوان لو اتخذته كاتبا!
فقال: لقد اتخذت إذا بطانة من دون المؤمنين!.
* * *
قال وقد خطب الناس: والذي بعث محمد بالحق لو أن جملا هلك ضياعا بشط الفرات
خشيت أن يسأل الله عنه آل الخطاب.

(1) ابن اللبون: ولد الناقة إذا في العام الثاني.
(2) الشصوص: الناقة الغليظة اللبن.
61

قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يعنى بال الخطاب نفسه ما يعنى غيرها.
* * *
وكتب إلى أبى موسى: إنه لم يزل للناس وجوه من الامر فأكرم من قبلك من
وجوه الناس وبحسب المسلم الضعيف من بين القوم أن ينصف في الحكم وفى القسم.
* * *
أتى أعرابي عمر، فقال: إن ناقتي بها نقبا ودبرا، فاحملني، فقال له: والله ما ببعيرك
من نقب (1) ولا دبر (2) فقال:
أقسم بالله أبو حفص عمر * ما مسها من نقب ولا دبر
* فاغفر له اللهم إن كان فجر *
فقال عمر اللهم اغفر لي ثم دعاه فحمله.
* * *
جاء رجل إلى عمر وكانت بينهما قرابة يسأله فزبره (3) وأخرجه فكلم فيه وقيل:
يا أمير المؤمنين زبرته وأخرجته قال: إنه سألني من مال الله، فما معذرتي إذا لقيته ملكا
خائنا؟ فلو سألني من مالي!
ثم بعث إليه ألف درهم من ماله.

(1) نقب البعير: حفى، وقيل: رقت أخفافه.
(2) الدبر: إصابة البعير بالدبرة، وهي قرحة من الرحل.
(3) زبره: نهره.
62

وكان يقول في عماله: اللهم إني لم أبعثهم ليأخذوا أموال المسلمين ولا ليضربوا
أبشارهم من ظلمه أميره فلا إمرة عليه دوني
* * *
بينا عمر ذات ليلة يعس سمع صوت امرأة من سطح وهي تنشد:
تطاول هذا الليل وأزور جانبه * وليس إلى جنبي خليل ألاعبه
فوالله لولا الله تخشى عواقبه * لزعزع من هذا السرير جوانبه
مخافة ربى والحياء يصدني * وأكرم بعلي أن تنال مراكبه
[ولكنني أخشى رقيبا موكلا * بأنفسنا لا يفتر الدهر كاتبه]
فقال عمر: لا حول ولا قوة إلا بالله! ماذا صنعت يا عمر بنساء المدينة
ثم جاء فضرب على حفصة ابنته، فقالت: ما جاء بك في هذه الساعة قال:
أخبريني كم تصبر المرأة المغيبة عن بعلها قالت: أقصاه أربعة أشهر.
فلما أصبح كتب إلى أمرائه في جميع النواحي ألا تجمر (2) البعوث وألا يغيب رجل
عن أهله أكثر من أربعة أشهر (3).
* * *
وروى أسلم، قال: كنت مع عمر، وهو يعس بالمدينة إذ سمع امرأة تقول
لبنتها: قومي يا بنية إلى ذلك اللبن بعد المشرقين فامذقيه (4)، قالت:: أو ما علمت ما كان
من عزمة أمير المؤمنين بالأمس؟ قالت: وما هو؟ قالت: إنه أمر مناديا فنادى ألا يشاب
اللبن بالماء، قالت: فإنك بموضع لا يراك أمير المؤمنين ولا منادى أمير المؤمنين! قالت:

(1) من الرياض النضرة
(2) تجمر: تحبس في الغزو
(3) ابن الجوزي 60، والرياض النضرة 2: 58
(4) امذقيه، أي اخلطيه بالماء.
63

والله ما كنت لأطيعه في الملا وأعصيه في الخلاء - وعمر يسمع ذلك - فقال: يا أسلم
اعرف الباب، ثم مضى في عسه، فلما أصبح قال: يا أسلم امض إلى الموضع، فانظر
من القائلة ومن المقول لها؟ وهل لهما من بعل؟
قال أسلم: فأتيت الموضع، فنظرت فإذا الجارية أيم وإذا المتكلمة بنت لها، ليس
لهما رجل.
فجئت فأخبرته، فجمع عمر ولده، وقال: هل يريد أحد أن يتزوج فأزوجه امرأة
صالحة فتاة لو كان في أبيكم حركة إلى النساء لم يسبقه أحد إليها؟ فقال عاصم ابنه: أنا،
فبعث إلى الجارية فزوجها ابنه عاصما، فولدت له بنتا هي المكناة أم عاصم وهي أم
عمر بن عبد العزيز بن مروان.
* * *
حج عمر فلما كان بضجنان (1) قال لا إله إلا الله العلي العظيم، المعطى ما يشاء لمن
يشاء أذكر وأنا أرعى إبل الخطاب بهذا الوادي في مدرعة صوف - وكان فظا يتعبني
إذا عملت، ويضربني إذا قصرت - وقد أمسيت اليوم وليس بيني وبين الله أحد
ثم تمثل:
لا شئ مما يرى تبقى بشاشته * يبقى الاله، ويؤدي المال والولد
لم تغن عن هرمز يوما خزائنه * والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
ولا سليمان إذ تجرى الرياح له * والانس والجن فيما بينها يرد
أين الملوك التي كانت منازلها * من كل أوب إليها راكب يفد
حوض هنالك مورود بلا كذب * لا بد من ورده يوما كما وردوا.

(1) ضنجان: موضع بناحية مكة.
(2) الرياض النضرة 2: 50
64

وروى محمد بن سيرين أن عمر في آخر أيامه اعتراه نسيان حتى كان ينسى عدد
ركعات الصلاة، فجعل أمامه رجلا يلقنه فإذا أومى إليه أن يقوم أو يركع، فعل.
* * *
وسمع عمر منشدا ينشد قول طرفة:
فلولا ثلاث هن من عيشه الفتى * وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبقي العاذلات بشربه * كميت متى ما تعل بالماء تزبد
وكرى إذا نادى المضاف محنبا * كسيد الغضا نبهته المتوسد
وتقصير يوم الدجن و الدجن معجب * ببهكنه تحت الطراف الممدد.
فقال وانا لولا ثلاث هن من عيشه الفتى لم أحفل متى قام عودي ان أجاهد
في سبيل الله، وأن أضع وجهي في التراب لله، وإن أجالس قوما يلتقطون طيب القول
كما يلتقط طيب التمر.
* * *
وروى عبد الله بن بريدة، قال: كان عمر ربما يأخذ بيد الصبي فيقول ادع لي
فإنك لم تذنب بعد
* * *
وكان عمر كثير المشاورة كان يشاور في أمور المسلمين حتى المرأة.
* * *
وروى يحيى بن سعيد قال، أمر عمر الحسين بن علي عليه السلام أن يأتيه

(1) المعلقة - بشرح التبريزي 81، 82
(2) الكميت من الخمر التي تضرب إلى السواد.
(3) كرى: عطفي. والمحنب من التحنيب، وهو احديداب في وظيفي يدي الفرس. والسيد: الذئب.
والغضا: شجر، وذئابه أخبث الذئاب.
(4) الدجن: إلباس الغيم السماء. والبهكنة: التامة الخلق.
65

في بعض الحاجة فلقى الحسين عليه السلام من عبد الله بن عمر فسأله من أين جاء
قال استأذنت على أبى فلم يأذن لي، فرجع الحسين ولقيه عمر من الغد، فقال: ما منعك
يا حسين أن تأتيني قال: قد أتيتك ولكن أخبرني ابنك عبد الله انه لم يؤذن له عليك
فرجعت فقال عمر: وأنت عندي مثله! وهل أنبت الشعر على الرأس غيركم!.
* * *
قال عمر يوما، والناس حوله: والله ما أدرى أخليفة أنا أم ملك! فإن كنت
ملكا، فقد ورطت في أمر عظيم فقال له قائل: يا أمير المؤمنين إن بينهما فرقا،
وإنك إن شاء الله لعلى خير، قال كيف قال: إن الخليفة لا يأخذ إلا حقا ولا يضعه
إلا في حق، وأنت بحمد الله كذلك، والملك يعسف الناس ويأخذ مال هذا
فيعطيه هذا.
فسكت عمر وقال: أرجو أن أكونه.
* * *
وروى مالك عن نافع، عن ابن عمر، أن عمر تعلم سورة البقرة في اثنتي عشرة سنة
فلما ختمها نحر جزورا.
وروى أنس قال: كان يطرح لعمر كل يوم صاع من تمر فيأكله حتى حشفه.
* * *
وروى يوسف بن يعقوب الماجشون، قال: قال لي ابن شهاب ولأخ لي وابن عم لنا
ونحن صبيان أحداث لا تحتقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم، فإن عمر كان إذا نزل به
الامر المعضل، دعا الصبيان فاستشارهم، يبتغى حده (2) عقولهم.

(1) ب: (قلت): والصواب ما أثبته من ا.
(2) ساقطة من ب.
66

وروى الحسن، قال: كان رجل لا يزال يأخذ من لحية عمر شيئا فاخذ يوما من لحيته
فقبض على يده فإذا فيها بشئ، فقال: إن الملق من الكذب ثم علاه بالدرة.
* * *
انقطع شسع نعل عمر فاسترجع (1) وقال: كل ما ساءك فهو مصيبة.
* * *
وقف أعرابي على عمر، فقال له:
يا بن خطاب جزيت الجنة * اكس بنياتي وأمهنه
* أقسم بالله لتفعلنه *
فقال عمر: إن لم أفعل يكون ماذا؟
قال:
* إذا أبا حفص لأمضينه *
فقال إذا مضيت يكون ماذا؟
قال:
تكون عن حالي لتسألنه * يوم تكون الأعطيات جنة
والواقف المسؤول يبهتنه * إما إلى نار وإما جنه
فبكى عمر ثم قال لغلامه: أعطه قميصي هذا لذلك اليوم، لا لشعره، والله ما أملك
ثوبا غيره.
* * *
وروى ابن عباس قال: قال لي عمر ليلة: أنشدني لشاعر الشعراء، قلت: ومن
هو؟ قال: زهير الذي يقول:

(1) استرجع أي قال: إنا لله وإنا إليه راجعون.
67

إذا ابتدرت قيس بن عيلان غاية من المجد من يسبق إليها يسود (1).
فأنشدته حتى برق الفجر، فقال: أيها الان! اقرأ يا عبد الله قلت: ما أقرأ؟ قال:
سورة الواقعة.
* * *
سمع عمر صوت بكاء في بيت، فدخل وبيده الدرة، فمال عليهم ضربا حتى بلغ
النائحة، فضربها حتى سقط خمارها، ثم قال لغلامه: اضرب النائحة ويلك! اضربها
فإنها نائحة لا حرمة لها لأنها لا تبكي بشجوكم، إنها تهريق دموعها على أخذ دراهمكم،
إنها تؤذى أمواتكم في قبورهم، وأحياءكم في دورهم، إنها تنهى عن الصبر، وقد أمر
الله به وتأمر بالجزع وقد نهى الله عنه.
* * *
ومن كلامه من أتجر: في شئ ثلاث مرات فلم يصب فيه، فليتحول عنه إلى غيره.
ومن كلامه: لو كنت تاجرا لما اخترت على العطر شيئا، إن فاتني ربحه لم يفتني ريحه.
ومن كلامه: تفقهوا قبل أن تسودوا.
ومن كلامه: تعلموا المهنة، فإنه يوشك أحدكم يحتاج إلى مهنته.
ومن كلامه: مكسبة فيها بعض الدناءة، خير من مسألة الناس.
ومن كلامه: أعقل الناس أعذرهم لهم.
* * *
رأى عمر ناسا يتبعون أبي بن كعب، فرفع عليه الدرة، فقال: يا أمير المؤمنين، اتق
الله، قال: فما هذه الجموع خلفك يا بن كعب! أما علمت أنها فتنة للمتبوع، مذلة للتابع.
* * *
جاء رجل إلى عمر، فقال: إن بنتا لي واريتها في الجاهلية، فاستخرجناها قبل أن

(1) ديوانه 234.
68

تموت فأدركت معنا الاسلام فأسلمت، ثم قارفت حدا من حدود الله، فأخذت
الشفرة لتذبح نفسها، فأدركناها وقد قطعت بعض أوداجها، فداويناها حتى برئت
وتابت توبة حسنة، وقد خطبها قوم، أفأخبرهم بالذي كان من شأنها؟ فقال عمر: أتعمد
إلى ما ستره الله فتبديه والله لئن أخبرت بشأنها أحدا لأجعلنك نكالا لأهل الأمصار!
أنكحها نكاح العفيفة السليمة.
* * *
أسلم غيلان بن سلمه الثقفي من عشر نسوة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اختر
منهن أربعا، وطلق ستا: فلما كان على عهد عمر طلق نساءه الأربع، وقسم ماله بين
بنيه فبلغ ذلك عمر، فأحضره فقال له: إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع، سمع
بموتك فقذفه في نفسك، ولعلك لا تمكث إلا قليلا، وإيم الله لتراجعن نساءك
ولترجعن في مالك، أو لأورثنهن منك، ولآمرن بقبرك فيرجم، كما رجم قبر
أبى رغال
* * *
وقال عمر: أن الجزف في المعيشة أخوف عندي عليكم من العيال، إنه لا يبقى مع
الفساد شئ، ولا يقل مع الاصلاح شئ.
وكان عمر يقول: أدبوا الخيل، وانتضلوا، واقعدوا في الشمس، ولا يجاورنكم
الخنازير، ولا تقعدوا على مائدة يشرب عليها الخمر، أو يرفع عليها الصليب، وأياكم
وأخلاق العجم، ولا يحل لمؤمن (1) أن يدخل الحمام إلا مؤتزرا، ولا لامرأة أن تدخل
الحمام إلا من سقم، فإذا وضعت المرأة خمارها في غير بيت زوجها، فقد هتكت الستر
بينها وبين الله تعالى.

(1) ا: (لأحد).
69

وكان يكره أن يتزيا الرجال بزي النساء وألا يزال الرجل يرى مكتحلا مدهنا
وأن يحف لحيته وشاربه كما تحف المرأة.
* * *
سمع عمر سائلا يقول: من يعشي السائل؟ فقال: عشوا سائلكم، ثم جاء إلى دار
إبل (1) الصدقة يعشيها، فسمع صوته مرة أخرى: من يعشي السائل؟ فقال: ألم آمركم أن
تعشوه! فقالوا: قد عشيناه فأرسل إليه عمر، وإذا معه جراب مملوء خبزا، فقال: إنك
لست سائلا، إنما أنت تاجر تجمع لأهلك فأخذ بطرف الجراب فنبذه بين يدي الإبل.
* * *
وقال عمر: من مزح استخف به وقال: أتدرون لم سمى المزاح مزاحا لأنه أزاح
الناس عن الحق.
ومن كلامه: لن يعطى أحد بعد الكفر بالله شرا من زوجة حديدة اللسان، سيئة
الخلق، عقيم. ولن يعطى أحد بعد الايمان بالله خيرا من زوجة كريمة ودود ولود
حسنة الخلق.
وكان يقول: إن شقاشق الكلام من شقاشق اللسان، فأقلوا ما استطعتم.
ونظر إلى شاب قد نكس رأسه خشوعا، فقال يا هذا، ارفع رأسك، فإن الخشوع
لا يزيد على ما في القلب فمن أظهر للخلق خشوعا فوق ما في قلبه فإنما أظهر نفاقا.
ومن كلامه إن أحبكم إلينا ما لم نركم أحسنكم أسماء، فإذا رأيناكم فأحبكم إلينا
أحسنكم أخلاقا فإذا بلوناكم فأحبكم إلينا أعظمكم أمانه وأصدقكم حديثا.
* * *
وكان يقول: لا تنظروا إلى صلاة امرئ ولا صيامه، ولكن انظروا إلى
عقله وصدقه.

(1) ب: (أهل) تحريف، وصوابه من ا
70

ومن كلامه: إن العبد إذا تواضع لله رفع حكمته (1)، وقال له: انتعش نعشك الله فهو
في نفسه صغير وفى أعين الناس عظيم. وإذا تكبر وعتا وهضه (2) الله إلى
الأرض وقال
اخسأ خسأك الله! فهو في نفسه عظيم، وفى أعين الناس حقير حتى يكون عندهم أحقر
من الخنزير.
وقال الانسان لا يتعلم العلم لثلاث ولا يتركه لثلاث: لا يتعلمه ليماري به
ولا ليباهي به ولا ليرائي به. ولا يتركه حياء من طلبه، ولا زهادة فيه ولا رضا بالجهل
بدلا منه.
وقال: تعلموا أنسابكم تصلوا أرحامكم.
وقال: إني لا أخاف عليكم أحد الرجلين، مؤمنا قد تبين إيمانه وكافرا
قد تبين كفره، ولكن أخاف عليكم منافقا يتعوذ بالايمان ويعمل بغيره.
ومن كلامه: إن الرجف (3) من كثره الزنا، وإن قحوط المطر من قضاة السوء
وأئمة الجور.
وقال في النساء: استعينوا عليهن بالعرى، فإن إحداهن إذا كثرت ثيابها وحسنت
زينتها أعجبها الخروج.
ومن كلامه إن الجبت السحر، وإن الطاغوت الشيطان وإن الجبن والشجاعة
غرائز تكون في الرجال يقاتل الشجاع عمن لا يعرف ويفر الجبان عن أمه وإن
كرم الرجل دينه، وحسب الرجل خلقه وإن كان فارسيا أو نبطيا.
وقال تفهموا العربية، فإنها تشحذ العقل، وتزيد في المروءة.
وقال النساء ثلاث: امرأة هينة لينة عفيفة ودود ولود، تعين بعلها على الدهر
ولا تعين الدهر على بعلها، وقلما تجدها. وأخرى وعاء للولد لا تزيد على ذلك شيئا
والثالثة غل قمل يجعله الله في عنق من يشاء وينزعه إذا شاء.

(1) الحكمة، بالتحريك: الشأن والامر.
(2) الوهضة: المطمئن من الأرض
(3) الرجف: الاضطراب.
71

والرجال ثلاثة: رجل عاقل يورد الأمور ويصدرها، فيحسن إيرادا وإصدارا، وآخر
يشاور الرجال، ويقف عند آرائهم، والثالث حائر بائر لا يأتمر رشدا ولا يطيع مرشدا.
* * *
وقال: ما يمنعكم إذا رأيتم السفيه يخرق أعراض النساء أن تعربوا (1) عليه، قالوا:
نخاف لسانه، قال: ذاك أدنى الا تكونوا شهداء.
ورأي رجلا عظيم البطن فقال: ما هذا؟ قال: بركة من الله.
وقال إذا رزقت مودة من أخيك فتشبث بها ما استطعت.
وقال لقوم يحصدون الزرع: إن الله جعل ما أخطأت أيديكم رحمة لفقرائكم فلا
تعودوا فيه.
وقال: ما ظهرت قط نعمة على أحد إلا وجدت له حاسدا ولو أن امرأ كان أقوم
من قدح لوجدت له غامزا.
وقال إياكم والمدح فإنه الذبح.
وقال لقبيصة بن ذؤيب: أنت رجل حديث السن، فصيح اللسان. وإنه يكون
في الرجل تسعة أخلاق حسنة وخلق واحد سيئ فيغلب الواحد التسعة فتوق
عثرات (2) السيئات.
وقال يحسب امرئ من الغي أن يؤذى جليسه، أو يتكلف ما لا يعنيه، أو يعيب
الناس بما يأتي مثله، ويظهر له منهم ما يخفى عليهم من نفسه.
وقال: احترسوا من الناس بسوء الظن.
وقال في خطبه له: لا يعجبنكم من الرجل طنطنته ولكن من أدى الأمانة
وكف عن أعراض الناس فهو الرجل.
وقال: الراحة في مهاجرة خلطاء السوء.

(1) التعريب: أن يتكلم بالكلمة فيفحش فيها أو يخطئ، فيقول له الاخر: ليس كذا ولكنه كذا
للذي هو أصوب. كذا فسره صاحب اللسان، وذكر قول عمر.
(2) ب: (عشرات)، وما أثبته من ا.
72

وقال: إن لؤما بالرجل أن يرفع يديه من الطعام قبل أصحابه.
وأثنى رجل على رجل عند عمر، فقال له: أعاملته؟ قال: لا قال: أصحبته في السفر؟
قال: لا، قال: فأنت إذا القائل ما لا يعلم.
وقال: لان أموت بين شعبتي رحلي، أسعى في الأرض، أبتغي من فضل الله كفاف
وجهي أحب إلى من أن أموت غازيا.
* * *
وكان عمر قاعدا والدرة معه، والناس حوله إذ أقبل الجارود العامري، فقال رجل:
هذا سيد ربيعة، فسمعها عمر ومن حوله، وسمعها الجارود، فلما دنا منه، خفقه بالدرة!
فقال: ما لي ولك يا أمير المؤمنين قال ويلك! سمعتها! قال: وسمعتها فمه! قال:
خشيت أن تخالط القوم ويقال: هذا أمير فأحببت أن أطأطئ منك.
وقال من أحب أن يصل أباه في قبره، فليصل إخوان أبيه من بعده.
وقال: إن أخوف ما أخاف أن يكون إعجاب المرء برأيه فمن قال: إني عالم
فهو جاهل ومن قال: إني في الجنة فهو في النار.
* * *
وخرج للحج فسمع غناء راكب يغنى وهو محرم، فقيل: يا أمير المؤمنين، ألا تنهاه
عن الغناء وهو محرم فقال: دعوه فإن الغناء زاد الراكب.
* * *
وقال: يثغر (1) الغلام لسبع، ويحتلم لأربع عشرة وينتهي طوله لإحدى وعشرين
ويكمل عقله لثمان وعشرين ويصير رجلا كاملا لأربعين.

(1) أثغر الغلام: أي سقطت أسنانه
73

وروى سعيد بن المسيب، أن عمر لما صدر من الحج في الشهر الذي قتل فيه، كوم
كومة من بطحاء، وألقى عليها طرف ثوبه، ثم استلقى عليها، ورفع يديه إلى السماء،
وقال اللهم كبرت سنى، وضعفت قوتي، وانتشرت (1) رعيتي، فاقبضني إليك غير
مضيع ولا مفرط.
ثم قدم المدينة فخطب الناس فقال:
أيها الناس قد فرضت لكم الفرائض وسننت لكم السنن، وتركتكم على
الواضحة إلا أن تضلوا بالناس يمينا وشمالا إياكم أن تنتهوا عن آية الرجم وأن يقول
قائل: لا نجد ذلك حدا في كتاب الله فقد رأيت رسول الله رجم ورجمنا بعده، ولولا
أن يقول الناس: إن ابن الخطاب أحدث آية في كتاب الله لكتبتها، ولقد كنا
نقرؤها (والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة فما انسلخ ذو الحجة حتى طعن
* * *
دفع إلى عمر صك (2) محلة في شعبان، فقال: أي شعبان؟ الذي مضى أم الذي
نحن فيه؟ ثم جمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، وقال: ضعوا للناس تاريخا
يرجعون إليه، فقال قائل منهم: اكتبوا على تاريخ الروم، فقيل: إنه يطول، وإنه
مكتوب من عهد ذي القرنين. وقال قائل: بل اكتبوا على تاريخ الفرس، [فقيل إن
الفرس] (3) كلما قام ملك طرحوا ما كان قبله فقال علي عليه السلام: اكتبوا تاريخكم
منذ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من دار الشرك إلى دار النصرة وهي دار الهجرة
فقال عمر: نعم ما أشرت به، فكتب للهجرة، بعد مضى سنتين ونصف من خلافة عمر (4).

(1) انتشرت الرعية: أي تفرقت في شتى النواحي.
(2) الصك: كتاب الاقرار بالمال.
(3) تكملة من تاريخ الطبري.
(4) الخبر في تاريخ الطبري 2: 253 (الحسينية)، وفيه: (فاجتمع رأيهم على أن ينظروا كم أقام
رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فوجدوه عشر سنين، فكتب التاريخ من هجرة النبي صلى الله
عليه وسلم).
74

قال المؤرخون: إن عمر أول من سن قيام رمضان في جماعة وكتب به إلى البلدان
وأقام الحد في الخمر ثمانين، وأحرق بيت رويشد الثقفي، وكان نباذا، وأقام في عمله
بنفسه. وأول من حمل الدرة وأدب بها. وقيل بعده: كانت درة عمر أهيب من
سيف الحجاج.
وهو أول من فتح الفتوح، فتح العراق كله: السواد والجبال وأذربيجان وكور
البصرة وكور الكوفة والأهواز وفارس وفتح الشام كلها ما خلا أجنادين فإنها
فتحت في خلافة أبى بكر وفتح كور الجزيرة والموصل ومصر والإسكندرية وقتله
أبو لؤلؤة وخيله على الري.
وهو أول من مسح السواد ووضع الخراج على الأرض، والجزية على جماجم أهل
الذمة فيما فتحه من البلدان، وبلغ خراج السواد في أيامه مائة ألف ألف درهم وعشرين
ألف ألف درهم بالوافية، وهي وزن الدينار من الذهب. وهو أول من مصر الأمصار
وكوف الكوفة (1) وبصر البصرة، وأنزلها العرب، وأول من استقضى القضاة
في الأمصار وأول من دون الدواوين وكتب الناس على قبائلهم وفرض لهم
الأعطية، وهو أول من قاسم العمال وشاطرهم أموالهم وكان يستعمل قوما ويدع أفضل
منهم لبصرهم بالعمل وقال أكره أن أدنس هؤلاء بالعمل وهو الذي هدم مسجد
رسول الله صلى الله عليه وآله، وزاد فيه وأدخل دار العباس فيما زاد. وهو الذي أخرج
اليهود من الحجاز، وأجلاهم عن جزيرة العرب إلى الشام. وهو الذي فتح البيت المقدس
وحضر الفتح بنفسه. وهو الذي أخر المقام إلى موضعه اليوم، وكان ملصقا بالبيت وحج
بنفسه خلافته كلها إلا السنة الأولى فإنه استخلف على الحج عبد الرحمن بن عوف. وهو

(1) في اللسان عن المفضل: يقال: كونوا هذا الرمل، أي نحوه، ومنه سميت الكوفة.
75

الذي جاء بالحصى من العقيق فبسطه في مسجد المدينة وكان الناس إذا رفعوا رؤوسهم من
السجود نفضوا أيديهم.
* * *
وروى أبو هريرة قال: قدمت على عمر من عند أبي موسى بثمانمائة ألف درهم، فقال
لي: بما ذا قدمت؟ قلت بثمانمائة ألف درهم فقال ألم أقل لك إنك يمان أحمق ويحك!
إنما قدمت بثمانين ألف درهم فقلت: يا أمير المؤمنين إنما قدمت بثمانمائة ألف درهم
فجعل يعجب ويكررها، فقال: ويحك! وكم ثمانمائة ألف درهم؟ فعددت مائة ألف ومائة
ألف حتى بلغت ثمانية، فاستعظم ذلك، وقال أطيب هو ويحك! قلت: نعم فبات عمر ليلته
تلك أرقا حتى إذا نودي لصلاة الصبح قالت له امرأته: ما نمت هذه الليلة، قال: وكيف
أنام وقد جاء الناس ما لم يأتهم مثله منذ قام الاسلام، فظنت المرأة أنها داهية، فسألته
فقال: مال جم، حمله أبو موسى، قالت: فما بالك؟ قال: ما يؤمنني لومت وهذا المال
عندي لم أضعه في حقه! فخرج يصلى الصبح واجتمع الناس إليه، فقال لهم: قد رأيت في
هذا المال رأيا فأشيروا على، رأيت أن أكيله للناس بالمكيال، قالوا: لا يا أمير المؤمنين،
قال: لا بل أبدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم وبأهله ثم الأقرب فالأقرب فبدأ ببني
هاشم، ثم ببني المطلب، ثم بعبد شمس ونوفل، ثم بسائر بطون قريش.
* * *
قسم عمر مروطا بين نساء المدينة فبقي مرط (1) جيد له فقال بعض من عنده
اعط هذا يا أمير المؤمنين ابنة رسول الله التي عندك - يعنون أم كلثوم ابنه علي عليه

(1) المرط، بالكسر: كساء من صوف أو من خز أو من كتان يؤتزر به، وربما تلقيه المرأة على رأسها
وتتلفع به.
76

السلام - فقال: أم سليط أحق به فإنها ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت
تزفر لنا (1) [القرب] (2) يوم أحد.
* * *
وروى زيد بن أسلم عن أبيه، قال: خرجت مع عمر إلى السوق فلحقته امرأة شابة
فقالت: يا أمير المؤمنين هلك زوجي وترك صبية صغارا لا ينضحون كراعا (3) لا زرع
لهم ولا ضرع، وقد خشيت عليهم الضيعة وأنا ابنه خفاف بن أسماء الغفاري وقد شهد
أبى الحديبية فوقف عمر معها ولم يمض، وقال مرحبا بنسيب قريب! ثم انصرف إلى
بعير ظهير (4) كان مربوطا في الدار فحمل عليه غرارتين ملأهما طعاما وجعل بينهما
نفقة وثيابا ثم ناولها خطامه وقال: اقتاديه فلن يفنى هذا حتى يأتيكم الله بخير. فقال له
رجل: لقد أكثرت لها يا أمير المؤمنين! فقال: ثكلتك أمك! والله لكأني أرى أبا
هذه وأخاها، وقد حاصرا حصنا فافتتحاه. فافترقنا، ثم أصبحنا نستقرئ سهماننا فيه.
* * *
وروى الأوزاعي أن طلحة تبع عمر ليلة، فرآه دخل بيتا ثم خرج، فلما أصبح ذهب
طلحة إلى ذلك البيت فرأى امرأة عمياء مقعدة، فقال لها: ما بال رجل أتاك الليلة؟
قالت: إنه رجل يتعاهدني منذ كذا وكذا يأتيني بما يصلحني، فقال طلحة: ثكلتك
أمك يا طلحة! تريد تتبع عمر!.
خرج عمر إلى الشام حتى إذا كان ببعض الطريق، لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة
ابن الجراح وأصحابه فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام، فقال لابن عباس ادع لي
المهاجرين، فدعاهم فسألهم فاختلفوا عليه، فقال بعضهم خرجت: لأمر ولا نرى أن

(1) تزفر القرب: أي تحمل القرب مملوءة بالماء لنسقي الناس. نهاية ابن الأثير واللسان - زفر.
(2) من اللسان والنهاية.
(3) الكراع: مستدق الساق: ويقال للضعيف الدفاع عن نفسه: ما ينضح كراعا.
(4) بعير ظهير: قوي.
77

ترجع عنه وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى
أن تقدمهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عنى، ثم قال لابن عباس: ادع لي الأنصار
فدعاهم فاستشارهم، فاختلفوا عليه اختلاف المهاجرين، فقال لابن عباس: ادع لي من
كان من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح فدعاهم فقالوا بأجمعهم: نرى أن ترجع
بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر
فأصبحوا عليه فقال له أبو عبيدة بن الجراح أفرارا من قدر الله تعالى، فقال عمر:
لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله أرأيت لو كان لك إبل
فهبطت واديا له عدوتان، إحداهما خصبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت الخصبة
رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله! فجاء عبد الرحمن بن عوف - وكان
متغيبا في بعض حاجته - فقال: إن عندي من هذا علما، سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: (إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا
فرارا منه). فحمد عمر الله عز وجل وانصرف إلى المدينة.
* * *
وروى ابن عباس، قال: خرجت مع عمر إلى الشام في إحدى خرجاته، فانفرد
يوما يسير على بعيره فاتبعته، فقال لي: يا بن عباس، أشكو إليك ابن عمك، سألته أن
يخرج معي فلم يفعل ولم أزل أراه واجدا، فيم تظن موجدته؟ قلت: يا أمير المؤمنين
إنك لتعلم، قال أظنه لا يزال كئيبا لفوت الخلافة (1) قلت: هو ذاك، إنه يزعم أن
رسول الله أراد الامر له، فقال: يا بن عباس، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الامر له
فكان ما ذا إذا لم يرد الله تعالى ذلك! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أمرا (2)، وأراد

(1) كذا في، وفي ا: (على الخلافة).
(2) ا: (ذلك).
78

الله غيره، فنفذ مراد الله تعالى ولم ينفذ مراد رسوله أو كلما أراد رسول الله صلى الله
عليه وسلم كان! إنه أراد إسلام عمه ولم يرده الله فلم يسلم!.
وقد روى معنى هذا الخبر بغير هذا اللفظ، وهو قوله: إن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أراد أن يذكره للامر في مرضه، فصددته عنه خوفا من الفتنة وانتشار أمر
الاسلام، فعلم رسول الله ما في نفسي وأمسك وأبى الله الا إمضاء ما حتم.
* * *
وحدثني الحسين بن محمد السيني، قال: قرأت على ظهر كتاب، أن عمر نزلت به
نازلة، فقام لها وقعد، وترنح لها وتقطر (1) وقال لمن عنده معشر الحاضرين
ما تقولون في هذا الامر؟، فقالوا: يا أمير المؤمنين أنت المفزع والمنزع، فغضب وقال:
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا) (2)، ثم قال: أما والله إني
وإياكم لنعلم ابن بجدتها والخبير بها، قالوا: كأنك أردت ابن أبي طالب! قال:
وأنى يعدل بي عنه، وهل طفحت حرة مثله قالوا: فلو دعوت به يا أمير المؤمنين!
قال هيهات! إن هناك شمخا من هاشم وأثره من علم، ولحمة من رسول الله صلى الله
عليه وسلم، يؤتى ولا يأتي، فامضوا بنا إليه فانقصفوا نحوه (3) وأفضوا إليه فألفوه
في حائط له، عليه تبان (4) وهو يتركل (5) على مسحاته، ويقرأ: (أيحسب الانسان
أن يترك سدى) (6) إلى آخر السورة، ودموعه تهمي على خديه، فأجهش الناس لبكائه
فبكوا، ثم سكت وسكتوا فسأله عمر عن تلك الواقعة فأصدر جوابها، فقال عمر:
أما

(1) تقطر: شمخ برأسه كبرا.
(2) سورة الأحزاب 70.
(3) انقصفوا نحوه: اجتمعوا.
(4) التبان: سراويل صغير.
(5) يتركل على مسحاته: أي يضربها برجله لتغيب في الأرض. والمسحاة: ما يسحى به الطين عن
الأرض، أي يحرف.
(6) سورة القيامة 36.
79

والله لقد أرادك الحق ولكن أبى قومك، فقال: يا أبا، حفص خفض عليك من هنا
ومن هنا (إن يوم الفصل كان ميقاتا) (1) فوضع عمر إحدى يديه على الأخرى
وأطرق إلى الأرض، وخرج كأنما ينظر في رماد.
قلت: أجدر بهذا الخبر أن يكون موضوعا وفيه ما يدل على ذلك، من كون
عمر أتى عليا يستفتيه في المسألة، والاخبار كثيرة بأنه ما زال يدعوه إلى منزلة وإلى
المسجد، وأيضا فإن عليا لم يخاطب عمر منذ ولى الخلافة بالكنية وإنما كان يخاطبه بأمره
المؤمنين هكذا تنطق كتب الحديث وكتب السير والتواريخ كلها.
وأيضا فإن هذا الخبر لم يسند إلى كتاب معين ولا إلى راو معين بل ذكر ذلك
أنه قرأه على ظهر كتاب فيكون مجهولا، والحديث المجهول غير الصحيح.
فأما ثناء عمر على أمير المؤمنين فصحيح غير منكر وفى الروايات منه الكثير
الواسع، ولكنا أنكرنا هذا الخبر بعينه خاصة وقد روى عن ابن عباس أيضا، قال:
دخلت على عمر يوما، فقال: يا بن العباس لقد، أجهد هذا الرجل نفسه في العبادة حتى
نحلته، رياء. قلت: من هو؟ فقال: هذا ابن عمك - يعنى عليا - قلت: وما يقصد
بالرياء أمير المؤمنين؟ قال يرشح نفسه بين الناس للخلافة، قلت: وما يصنع بالترشيح!
قد رشحه لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصرفت عنه. قال: إنه كان شابا حدثا
فاستصغرت العرب سنه، وقد كمل الان، ألم تعلم أن الله تعالى لم يبعث نبيا إلا بعد
الأربعين! قلت يا أمير المؤمنين، أما أهل الحجى والنهى فإنهم ما زالوا يعدونه كاملا
منذ رفع الله منار الاسلام، ولكنهم يعدونه محروما مجدودا، فقال: أما إنه سيليها بعد
هياط ومياط (2)، ثم تزل فيها قدمه ولا يقضى منها أربه، ولتكونن شاهدا ذلك
يا عبد الله، ثم يتبين الصبح لذي عينين وتعلم العرب صحة رأى المهاجرين الأولين

(1) سورة النبأ 17.
(2) في اللسان عن اللحياني: (الهياط: الاقبال، والمياط الادبار). وقال غيره: (الهياط:
اجماع الناس للصلح، والمياط: التفرق عن ذلك).
80

الذين صرفوها عنه بادئ بدء فليتني أراكم بعدي يا عبد الله! إن الحرص محرمة، وإن
دنياك كظلك كلما هممت به ازداد عنك بعدا.
نقلت هذا الخبر من (أمالي أبى جعفر محمد بن حبيب) رحمه الله.
ونقلت منه أيضا ما رواه عن ابن عباس، قال: تبرم عمر بالخلافة في آخر أيامه،
وخاف العجز، وضجر من سياسة الرعية، فكان لا يزال يدعو الله بأن يتوفاه، فقال
لكعب الأحبار يوما وانا عنده: إني قد أحببت أن أعهد إلى من يقوم بهذا الامر
وأظن وفاتي قد دنت، فما تقول في علي؟ أشر على في رأيك وأذكرني ما تجدونه
عندكم، فإنكم تزعمون أن أمرنا هذا مسطور في كتبكم، فقال: أما من طريق الرأي
فإنه لا يصلح، إنه رجل متين الدين، لا يغضي على عورة ولا يحلم عن زلة ولا يعمل
باجتهاد رأيه وليس هذا من سياسة الرعية في شئ وأما ما نجده في كتبنا فنجده
لا يلي الامر ولا ولده، وإن وليه كان هرج شديد، قال: كيف ذاك؟ قال: لأنه أراق
الدماء، فحرمه الله الملك. إن داود لما أراد أن يبنى حيطان بيت المقدس أوحى الله إليه
إنك لا تبنيه لأنك أرقت الدماء وإنما يبنيه سليمان، فقال عمر: أليس بحق أراقها؟
، قال كعب: وداود بحق أراقها يا أمير المؤمنين، قال: فإلى من يفضي الامر تجدونه
عندكم؟ قال: نجده ينتقل بعد صاحب الشريعة والاثنين من أصحابه، إلى أعدائه
الذين حاربهم وحاربوه، وحاربهم على الدين. فاسترجع عمر مرارا، وقال أتستمع
يا بن عباس! أما والله لقد سمعت من رسول الله ما يشابه هذا، سمعته يقول: ليصعدن
بنو أمية على منبري، ولقد أريتهم في منامي ينزون عليه نزو القردة " وفيهم أنزل
(وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن) (1)

(1) سورة الإسراء 60.
81

وقد روى الزبير بن بكار في (الموفقيات) ما يناسب هذا عن المغيرة بن شعبة
قال: قال لي عمر يوما: يا مغيرة هل أبصرت بهذه عينك العوراء منذ أصيبت؟
قلت: لا، قال: أما والله ليعورن بنو أمية الاسلام كما أعورت عينك هذه، ثم ليعمينه
حتى لا يدرى أين يذهب ولا أين يجئ؟ قلت: ثم ما ذا يا أمير المؤمنين؟ قال: ثم يبعث
الله تعالى بعد مائه وأربعين أو بعد مائة وثلاثين وفدا كوفد الملوك طيبة ريحهم
يعيدون إلى الاسلام بصره وشتاته. قلت: من هم يا أمير المؤمنين قال: حجازي
وعراقي، وقليلا ما كان، وقليلا ما دام.
* * *
وروى أبو بكر الأنباري في (أماليه) أن عليا عليه السلام جلس إلى عمر في
المسجد، وعنده ناس، فلما قام عرض واحد بذكره، ونسبه إلى التيه والعجب، فقال
عمر: حق لمثله أن يتيه! والله لولا سيفه لما قام عمود الاسلام، وهو بعد أقضى الأمة
وذو سابقتها وذو شرفها، فقال له ذلك القائل: فما منعكم يا أمير المؤمنين عنه؟ قال:
كرهناه على حداثة السن وحبه بنى عبد المطلب.
قلت سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن محمد بن أبي زيد وقد قرأت عليه هذه الأخبار
- فقلت له: ما أراها إلا تكاد تكون دالة على النص، ولكني أستبعد أن
يجتمع الصحابة على دفع نص رسول الله صلى الله عليه وآله على شخص بعينه كما استبعدنا
من الصحابة على رد نصه على الكعبة وشهر رمضان وغيرهما من معالم الدين، فقال
لي رحمه الله: أبيت إلا ميلا إلى المعتزلة! ثم قال: إن القوم لم يكونوا يذهبون في الخلافة
إلى أنها من معالم، الدين وأنها جارية مجرى العبادات الشرعية، كالصلاة والصوم، ولكنهم
كانوا يجرونها مجرى الأمور الدنيوية ويذهبون لهذا (1) مثل تأمير الامراء وتدبير الحروب وسياسة
الرعية وما كانوا يبالون في أمثال هذا من مخالفة نصوصه صلى الله عليه وآله إذا رأوا المصلحة في

(1) ا: (هذا).
82

غيرها ألا تراه كيف نص على إخراج أبى بكر وعمر في جيش أسامة ولم يخرجا لما رأيا
أن في مقامهما مصلحة للدولة (1) وللملة وحفظا للبيضة ودفعا للفتنة وقد كان رسول الله
صلى الله عليه وآله يخالف وهو حي في أمثال ذلك فلا ينكره لا يرى به بأسا ألست
تعلم أنه نزل في غزاة بدر منزلا على أن يحارب قريشا فيه، فخالفته الأنصار وقالت له: ليس
الرأي في نزولك هذا المنزل فاتركه، وانزل في منزل كذا، فرجع إلى آرائهم! وهو الذي قال
للأنصار عام قدم إلى المدينة: (لا تؤبروا النخل)، فعملوا على قوله فحالت نخلهم في
تلك السنة ولم تثمر حتى قال لهم: (أنتم أعرف بأمر دنياكم وأنا أعرف بأمر دينكم)
وهو الذي أخذ الفداء من أسارى بدر فخالفه عمر، فرجع إلى تصويب رأيه بعد أن
فات الامر وخلص الأسرى ورجعوا إلى مكة، وهو الذي أراد أن يصالح الأحزاب على ثلث
تمر المدينة ليرجعوا عنه، فأتى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فخالفاه، فرجع إلى قولهما
وقد كان قال لأبي هريرة: اخرج فناد في الناس (من قال لا إله إلا الله مخلصا بها قلبه دخل
الجنة) فخرج أبو هريرة فأخبر عمر بذلك فدفعه في صدره، حتى وقع على الأرض، فقال:
لا تقلها، فإنك إن تقلها يتكلوا عليها، ويدعوا العمل فأخبر أبو هريرة رسول الله صلى الله
عليه وآله بذلك، فقال: (لا تقلها وخلهم يعملون)، فرجع إلى قول عمر!
وقد أطبقت الصحابة إطباقا واحدا على ترك كثير من النصوص لما رأوا المصلحة في
ذلك كإسقاطهم سهم ذوي القربى وإسقاط سهم المؤلفة قلوبهم وهذان الأمران أدخل
في باب الدين منهما في باب الدنيا وقد عملوا بآرائهم أمورا لم يكن لها ذكر في الكتاب (2)
والسنة، كحد الخمر فإنهم عملوه اجتهادا، ولم يحد رسول الله صلى الله عليه وآله شاربي
الخمر وقد شربها الجم الغفير في زمانه بعد نزول آية التحريم ولقد كان أوصاهم في مرضه

(1) كذا في ا، وفي ب: (لله).
(2) ساقطة من: ب.
83

أن أخرجوا نصارى نجران من جزيرة العرب فلم يخرجوهم حتى مضى صدر من خلافه
عمر، وعملوا في أيام أبى بكر برأيهم في ذلك باستصلاحهم وهم الذين هدموا المسجد بالمدينة
وحولوا المقام بمكة، وعملوا بمقتضى ما يغلب في ظنونهم من المصلحة ولم يقفوا مع موارد
النصوص، حتى اقتدى بهم الفقهاء من بعد، فرجح كثير منهم القياس على النص،
حتى استحالت الشريعة وصار أصحاب القياس أصحاب شريعة جديدة.
قال: النقيب: وأكثر ما يعملون بآرائهم فيما يجرى مجرى الولايات والتأمير والتدبير
وتقرير قواعد الدولة وما كانوا يقفون مع نصوص الرسول صلى الله عليه وآله وتدبيراته
إذا رأوا المصلحة في خلافها كأنهم كانوا يقيدون نصوصه المطلقة بقيد غير مذكور لفظا
وكأنهم كانوا يفهمونه من قرائن أحواله وتقدير ذلك القيد (افعلوا كذا إن
رأيتموه مصلحة).
قال: وأما مخالفتهم له فيما هو محض الشرع والدين وليس بمتعلق بأمور الدنيا
وتدبيراتها فإنه يقل جدا، نحو أن يقول: (الوضوء شرط في الصلاة)، فيجمعوا على رد
ذلك ويجيزوا الصلاة من غير وضوء، أو يقول: (صوم شهر رمضان واجب) فيطبقوا على
مخالفة ذلك ويجعلوا شوالا عوضا عنه، فإنه بعيد، إذ لا غرض لهم فيه، ولا يقدرون على
إظهار مصلحة عثروا عليها خفيت عنه صلى الله عليه وآله. والقوم الذين كانوا قد غلب على
ظنونهم أن العرب لا تطيع عليا عليه السلام، فبعضها للحسد، وبعضها للوتر والثأر
وبعضها لاستحداثهم سنة، وبعضها لاستطالته عليهم ورفعه عنهم،، وبعضها كراهة اجتماع
النبوة والخلافة في بيت واحد وبعضها للخوف من شدة وطأته وشدته في دين الله
وبعضها خوفا لرجاء تداول قبائل العرب الخلافة إذا لم يقتصر بها على بيت مخصوص عليه
فيكون رجاء كل حي لوصولهم إليها ثابتا مستمرا، وبعضها ببغضه، لبغضهم من قرابته
84

لرسول الله صلى الله وآله - وهم المنافقون من الناس، ومن في قلبه زيغ من أمر النبوة
فأصفق الكل إصفاقا واحدا على صرف الامر عنه لغيره، وقال رؤساؤهم: إنا خفنا
الفتنة وعلمنا أن العرب لا تطيعه ولا تتركه، وتأولوا عند أنفسهم النص، ولا ينكر
النص وقالوا: إنه النص ولكن الحاضر يرى ما لا يرى الغائب والغائب قد يترك
لأجل المصلحة الكلية وأعانهم على ذلك مسارعة الأنصار إلى ادعائهم الامر وإخراجهم
سعد بن عبادة من بيته وهو مريض لينصبوه خليفة - فيما زعموا - واختلط الناس
وكثر الخبط وكادت الفتنة أن تشتعل (1) نارها، فوثب رؤساء المهاجرين، فبايعوا أبا بكر
وكانت فلتة - كما قال قائلهم - وزعموا أنهم أطفئوا بها نائرة الأنصار، فمن سكت من
المسلمين، وأغضى ولم يتعرض فقد كفاهم أمر نفسه، ومن قال سرا أو جهرا: إن فلانا
قد كان رسول الله صلى الله عليه وآله ذكره أو نص عليه أو أشار إليه أسكتوه في الجواب
بأنا بادرنا إلى عقد البيعة مخافة الفتنة واعتذروا عنده ببعض ما تقدم، إما أنه حديث
السن أو تبغضه العرب، لأنه وترها وسفك دماءها، أو لأنه صاحب زهو وتيه، أو كيف
تجتمع النبوة والخلافة في مغرس واحد! بل قد قالوا في العذر ما هو أقوى من هذا وأوكد
قالوا: أبو بكر أقوى على هذا الامر منه لا سيما وعمر يعضده ويساعده والعرب تحب
أبا بكر ويعجبها لينه ورفقه وهو شيخ مجرب للأمور لا يحسده أحد ولا يحقد عليه
أحد، ولا يبغضه أحد، وليس بذي شرف في النسب فيشمخ على الناس بشرفه ولا بذي
قربى من الرسول صلى الله عليه وآله فيدل بقربه، ودع ذا كله فإنه فضل مستغنى عنه
قالوا: لو نصبنا عليا عليه السلام، ارتد الناس عن الاسلام وعادت الجاهلية كما كانت، فأيما
أصلح في الدين؟ الوقوف مع النص المفضى إلى ارتداد الخلق ورجوعهم إلى الأصنام والجاهلية
أم العمل بمقتضى الأصلح و استبقاء الاسلام واستدامه العمل بالدين وإن كان فيه
مخالفة النص!.

(1) ا: (يضطرم).
85

قال رحمه الله: وسكت الناس عن الانكار، فإنهم كانوا متفرقين فمنهم من هو
مبغض شانئ لعلى عليه السلام، فالذي تم من صرف الامر عنه هو قرة عينه، وبرد
فؤاده، ومنهم ذو الدين وصحة اليقين، إلا أنه لما رأى كبراء الصحابة قد اتفقوا على
صرف الامر عنه، ظن أنهم إنما فعلوا ذلك لنص سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وآله
ينسخ ما قد كان سمعه من النص على أمير المؤمنين عليه السلام لا سيما ما رواه
أبو بكر من قول النبي صلى الله عليه وآله (الأئمة من قريش) فإن كثيرا من الناس
توهموا أنه ناسخ للنص الخاص، وأن معنى الخبر أنكم مباحون في نصب إمام من
قريش من أي بطون قريش كان فإنه يكون إماما.
وأكد أيضا في نفوسهم رفض النص الخاص ما سمعوه من قول رسول الله صلى الله
عليه وآله: (ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن)، وقوله عليه السلام: (سألت الله
ألا يجمع أمتي على ضلال، فأعطانيها فأحسنوا الظن بعاقدي البيعة).
وقالوا: هؤلاء أعرف بأغراض رسول الله صلى الله عليه وآله من كل أحد
فأمسكوا وكفوا عن الانكار ومنهم فرقة أخرى - وهم الأكثرون - أعراب وجفاة، وطغام
أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، فهؤلاء مقلدون لا يسألون ولا ينكرون،
ولا يبحثون، وهم مع أمرائهم وولاتهم، لو أسقطوا عنهم الصلاة الواجبة لتركوها، فلذلك
أمحق النص وخفى ودرس، وقويت كلمة العاقدين لبيعة أبى بكر، وقواها زيادة على ذلك
اشتغال على وبنى هاشم برسول الله صلى الله عليه وآله وإغلاق، بابهم عليهم وتخليتهم
الناس يعملون ما شاءوا وأحبوا من غير مشاركة لهم فيما هم فيه، لكنهم أرادوا استدراك
ذلك بعد ما فات، وهيهات الفائت لا رجعة له!.
وأراد علي عليه السلام بعد ذلك نقض البيعة فلم يتم له ذلك وكانت العرب لا ترى
86

الغدر، ولا تنقض البيعة صوابا كانت أو خطأ وقد قالت له الأنصار وغيرها: أيها الرجل
لو دعوتنا إلى نفسك قبل البيعة لما عدلنا بك أحدا ولكنا قد بايعنا فكيف السبيل
إلى نقض البيعة بعد وقوعها!.
* * *
قال النقيب: ومما جرأ عمر على بيعه أبى بكر والعدول عن علي - مع ما كان يسمعه من
الرسول صلى الله عليه وآله في أمره - أنه أنكر مرارا على الرسول صلى الله عليه وآله
أمورا اعتمدها فلم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وآله إنكاره بل رجع في كثير
منها إليه وأشار عليه بأمور كثيرة نزل القرآن فيها بموافقته، فأطمعه ذلك في الاقدام على اعتماد
كثير من الأمور التي كان يرى فيها المصلحة، مما هي خلاف النص، وذلك نحو إنكاره
عليه في الصلاة على عبد الله بن أبي المنافق، وإنكاره فداء أسارى بدر وإنكاره
عليه تبرج نسائه للناس، وإنكاره قضية الحديبية وإنكاره أمان العباس لأبي سفيان
ابن حرب وإنكاره واقعة أبى حذيفة بن عتبة وإنكاره أمره بالنداء: (من قال
لا إله إلا الله دخل الجنة) وإنكاره أمره بذبح النواضح وإنكاره على النساء بحضرة
رسول الله صلى الله عليه وآله هيبتهن له دون رسول الله
صلى الله عليه وآله... إلى غير ذلك
من أمور كثيرة تشتمل عليها كتب الحديث ولو لم يكن الا
إنكاره قول رسول الله
صلى الله عليه وآله في مرضه: (ائتوني بدواة وكتف أكتب لكم ما لا تضلون بعدي)
وقوله ما قال، وسكوت رسول الله صلى الله عليه وآله عنه. وأعجب الأشياء أنه قال ذلك
اليوم: حسبنا كتاب الله، فافترق الحاضرون من المسلمين في الدار فبعضهم، يقول
القول ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وبعضهم يقول: القول ما قال عمر، فقال
رسول الله: وقد كثر اللغط، وعلت الأصوات (قوموا عنى فما ينبغي لنبي أن يكون عنده
هذا التنازع) فهل بقي للنبوة مزية أو فضل إذا كان الاختلاف قد وقع بين القولين وميل
87

المسلمون بينهما، فرجح قوم هذا وقوم هذا فليس ذلك دالا على أن القوم سووا بينه
وبين عمر وجعلوا القولين مسألة خلاف، ذهب كل فريق إلى نصرة واحد منهما، كما
يختلف اثنان من عرض المسلمين في بعض الأحكام فينصر قوم هذا وينصر ذاك آخرون
فمن بلغت قوته وهمته إلى هذا كيف ينكر منه أنه يبايع أبا بكر لمصلحة رآها، ويعدل
عن النص! ومن الذي كان ينكر عليه ذلك، وهو في القول الذي قاله للرسول صلى الله
عليه وآله في وجهه غير خائف من الأنصار ولا ينكر عليه أحد لا رسول الله صلى الله
عليه وآله ولا غيره وهو أشد من مخالفة النص في الخلافة وأفظع وأشنع
قال النقيب: على أن الرجل ما أهمل أمر نفسه، بل أعد أعذارا وأجوبة وذلك
لأنه قال لقوم عرضوا له بحديث النص: إن رسول الله صلى الله عليه وآله رجع عن ذلك
بإقامته أبا بكر في الصلاة مقامه وأوهمهم أن ذلك جار مجرى النص عليه بالخلافة، وقال
يوم السقيفة: أيكم يطيب نفسا أن يتقدم قدمين قدمهما رسول الله صلى الله عليه وآله في
الصلاة! ثم أكد ذلك بأن قال لأبي بكر وقد عرض عليه البيعة: أنت صاحب رسول
الله صلى الله عليه وسلم في المواطن كلها، شدتها ورخائها، رضيك لديننا أفلا نرضاك لدنيانا.
ثم عاب عليا بخطبته بنت أبي جهل فأوهم أن رسول الله صلى الله عليه وآله كرهه لذلك
ووجد عليه، وأرضاه عمرو بن العاص، فروى حديثا افتعله واختلقه على رسول الله قال:
سمعته يقول: (إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالح المؤمنين) فجعلوا
ذلك كالناسخ لقوله صلى الله عليه وآله: (من كنت مولاه فهذا مولاه).
قلت للنقيب: أيصح النسخ في مثل هذا؟ أليس هذا نسخا للشئ قبل تقضى وقت
فعله؟ فقال: سبحان الله! من أين تعرف العرب هذا! وأنى لها أن تتصوره فضلا عن أن
تحكم بعدم جوازه فهل يفهم حذاق الأصوليين هذه المسألة، فضلا عن حمقى العرب! هؤلاء
قوم ينخدعون بأدنى شبهة ويستمالون بأضعف (1) سبب وتبنى الأمور معهم على ظواهر

(1) ا: (بأدنى).
88

النصوص وأوائل الأدلة وهم أصحاب جهل وتقليد لا أصحاب تفضيل ونظر.
قال: ثم أكد حسن ظن الناس بهم أنهم أطلقوا أنفسهم عن الأموال وزهدوا في
متاع الدنيا وزخرفها وسلكوا مسلك الرفض لزينتها والرغبة عنها والقناعة بالطفيف
النزر منها وأكلوا الخشن ولبسوا الكرابيس ولما ألقت إليهم الدنيا أفلاذ كبدها
وفرقوا الأموال على الناس، وقسموها بينهم ولم يتدنسوا منها بقليل ولا كثير فمالت إليهم
القلوب وأحبتهم النفوس وحسنت فيهم الظنون، وقال: من كان في نفسه شبهة منهم
أو وقفة في أمرهم لو كان هؤلاء قد خالفوا النص لهوى أنفسهم لكانوا أهل الدنيا
ولظهر عليهم الميل إليها والرغبة فيها والاستئثار بها وكيف يجمعون على أنفسهم مخالفة
النص وترك لذات الدنيا ومآربها فيخسروا الدنيا والآخرة! وهذا لا يفعله عاقل والقوم
عقلاء ذوو الباب وآراء صحيحة، فلم يبق عند أحد شك في أمرهم ولا ارتياب لفعلهم
وثبتت العقائد على ولايتهم وتصويب أفعالهم ونسوا لذة الرياسة وإن أصحاب الهمم
العالية لا يلتفون إلى المأكل والمشرب والمنكح، وأنما يريدون الرياسة ونفوذ الامر كما
قال الشاعر:
وقد رغبت عن لذة المال أنفس * وما رغبت عن لذة النهى والامر
قال رحمه الله: والفرق بين الرجلين وبين الثالث، ما أصيب به الثالث وقتل تلك
القتلة وخلعه الناس وحصروه وضيقوا عليه بعد أن توالي إنكارهم أفعاله وجبهوه في
وجهه وفسقوه، وذلك لأنه استأثر هو وأهله بالأموال وانغمسوا فيها واستبدوا بها
فكانت طريقته وطريقتهم مخالفة لطريق الأولين، فلم تصبر العرب على ذلك ولو كان
عثمان سلك طريق عمر في الزهد، وجمع الناس، وردع الامراء والولاة عن الأموال وتجنب
استعمال أهل بيته ووفر أعراض الدنيا وملاذها وشهواتها على الناس زاهدا فيها تاركا
لها، معرضا عنها لما ضره شئ قط ولا أنكر عليه أحد قط ولو حول الصلاة من
89

الكعبة إلى بيت المقدس، بل لو أسقط عن الناس إحدى الصلوات الخمس واقتنع منهم
بأربع وذلك لان همم الناس مصروفة إلى الدنيا والأموال، فإذا وجدوها سكتوا، وإذا فقدوها
هاجوا واضطربوا ألست ترى رسول الله صلى الله عليه وآله كيف قسم غنائم هوازن
على المنافقين وعلى أعدائه الذين يتمنون قتله وموته وزوال دولته فلما أعطاهم أحبوه
إما كلهم أو أكثرهم ومن لم يحبه منهم بقلبه جامله وداراه، وكف عن إظهار عداوته
والإجلاب عليه ولو أن عليا صانع أصحابه بالمال وأعطاه الوجوه والرؤساء لكان
أمره إلى الانتظام والإطراد أقرب، ولكنه رفض جانب التدبير الدنيوي وآثر لزوم
الدين وتمسك بأحكام الشريعة، والملك أمر آخر غير الدين فاضطرب عليه أصحابه
وهرب كثير منهم إلى عدوه.
وقد ذكرت في هذا الفصل خلاصه ما حفظته عن النقيب أبى جعفر ولم يكن إمامي
المذهب، ولا كان يبرأ من السلف ولا يرتضى قول المسرفين من الشيعة ولكنه كلام
أجراه على لسانه البحث والجدل بيني وبينه على أن العلوي لو كان كراميا لا بد أن
يكون عنده نوع من تعصب وميل على الصحابة وإن قل.
* * *
ولنرجع إلى ذكر كلام عمر من خطبته وسيرته.
كتب عمر إلى أبى موسى لما استعمله قاضيا وبعثه إلى العراق
من عبد الله أمير المؤمنين عمر إلى عبد الله بن قيس سلام عليك أما بعد فإن
القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة فافهم إذا أدلى إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق
لا نفاد له آس (1) بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريف في

(1) قال أبو العباس المبرد: (قوله: آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك، أي سوء بينهم.
وتقديره: اجعل بعضهم أسوة بعض).
90

حيفك (1) ولا ييأس ضعيف من عدلك البينة على من ادعى واليمين على من أنكر
والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا لا يمنعنك قضاء
قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق فان الحق
ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل الفهم الفهم فيما تلجلج (2) في صدرك
مما ليس في كتاب ولا سنة ثم اعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور عند ذلك واعمد
إلى أقربها إلى الله عز وجل وأشبهها بالحق واجعل لمن ادعى حقا غائبا أو بينه أمدا
ينتهى إليه فإن أحضر بينته أخذت له بحقه وإلا استحللت عليه القضية فإنه أنفى للشك
وأجلى للعمى. المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد أو مجربا عليه شهادة
زور أو ظنينا (3) في ولاء أو نسب فإن الله عز وجل تولى منكم السرائر ودرأ عنكم (4)
بالبينات والايمان الشبهات إياك والغلق (5) والضجر والتأذي بالخصوم والتنكر عند
الخصومات فإن الحق في مواطن الحق يعظم الله به الاجر، ويحسن به الذخر، فمن
صحت نيته وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس ومن تخلق للناس بما يعلم
الله عز وجل منه أنه ليس من نفسه، شانه الله، فما ظنك بثواب الله في عاجل رزقه
وخزائن رحمته، والسلام.
ذكر هذه الرسالة أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في كتاب (الكامل) (6)
وأطراها فقال: إنه جمع فيها جمل الاحكام واختصرها بأجود الكلام وجعل الناس
بعده يتخذونه إماما فلا يجد محق عنها معدلا ولا ظالم عن حدودها محيصا.

(1) حيفك: ميلك.
(2) تلجلج: تردد.
(3) الظنين: المتهم.
(4) درأ بالبينات: دفع.
(5) الغلق: ضيق الصدر وقلة الصبر.
(6) الكامل 1: 12 - 14 (طبعة نهضة مصر)
91

وكتب عمر إلى عماله يوصيهم، فقال في جملة الكتاب: ارتدوا، وائتزروا، وانتعلوا،
وألقوا الخفاف والسراويلات والقوا الركب (1) وانزوا نزوا على الخيل واخشوشنوا وعليكم
بالمعدية - أو قال: وتمعددوا وارموا الأغراض، وعلموا فتيانكم العوم والرماية، وذروا
التنعم وزي العجم، وإياكم والحرير، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله نهى عنه وقال:
(لا تلبسوا من الحرير إلا ما كان هكذا) وأشار بأصبعه.
* * *
وكتب إلى بعض عماله إن أسعد الرعاة من سعدت به رعيته وإن أشقى الرعاة من
شقيت به رعيته فإياك أن تزيغ فتزيغ رعيتك فيكون مثلك عند الله مثل البهيمة رأت
الخضرة في الأرض فرعت فيها تبغى السمن، وحتفها في سمنها
* * *
وكتب إلى أبى موسى وهو بالبصرة، بلغني أنك تأذن للناس الجماء (2) الغفير فإذا
جاءك كتابي هذا فإذن لأهل الشرف وأهل القرآن والتقوى والدين، فإذا أخذوا مجالسهم
فأذن للعامة، ولا تؤخر عمل اليوم لغد فتتداك عليك الأعمال فتضيع، وإياك واتباع
الهوى فإن للناس أهواء متبعة ودنيا مؤثرة، وضغائن محمولة وحاسب نفسك في الرخاء
قبل حساب الشدة فإنه من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة كان مرجعه إلى
الرضا والغبطة ومن ألهته حياته، وشغلته أهواؤه، عاد أمره إلى الندامة والحسرة
إنه لا يقيم أمر الله في الناس إلا خصيف العقدة (3) بعيد القرارة لا يحنق على جرة
ولا يطلع الناس منه على عورة، ولا يخاف في الحق لومه لائم الزم أربع خصال يسلم لك دينك
تحيط بأفضل حظك: إذا حضر الخصمان فعليك بالبينات العدول والايمان القاطعة ثم ائذن

(1) الركب: جمع ركاب، وهو للسرج كالغرز للرحل.
(2) أي القوم مجتمعين.
(3) أي الذي يحكم أمره.
92

للضعيف حتى ينبسط لسانه ويجترئ قلبه وتعاهد الغريب فإنه إذا طال حبسه ترك
حاجته وانصرف إلى أهله واحرص على الصلح ما لم يبن لك القضاء والسلام عليك.
* * *
وكان رجل من الأنصار لا يزال يهدى لعمر فخذ جزور إلى أن جاء ذات يوم مع
خصم له فجعل في أثناء الكلام يقول: يا أمير المؤمنين، إفصل القضاء بيني وبينه كما يفصل
فخذ الجزور.
قال عمر: فما زال يرددها حتى خفت على نفسي فقضيت. عليه وكتبت إلى عمالي:
أما بعد فإياكم والهدايا، فإنها من الرشا. ثم لم أقبل له هدية فيما بعد، ولا لغيره.
* * *
وكان عمر يقول: اكتبوا عن الزاهدين في الدنيا ما يقولون، فإن الله عز وجل وكل
بهم ملائكة واضعة أيديهم على أفواههم فلا يتكلمون إلا بما هيأه الله لهم.
* * *
وروى أبو جعفر الطبري في تاريخه قال: كان عمر يقول: جردوا القرآن ولا
تفسروه، وأقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا شريككم.
وقال أبو جعفر: وكان عمر إذا أراد أن ينهى الناس عن شئ جمع أهله، فقال:
إني عسيت أن أنهى الناس عن كذا، وأن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم
وأقسم بالله لا أجد أحدا منكم يفعل إلا أضعفت عليه العقوبة.
قال أبو جعفر: وكان عمر شديدا على أهل الريب وفى حق الله، صليبا حتى يستخرجه
ولينا سهلا فيما يلزمه حتى يؤديه وبالضعيف رحيما.
93

وروى زيد بن أسلم، عن أبيه إن نفرا من المسلمين كلموا عبد الرحمن بن عوف
فقالوا: كلم لنا عمر بن الخطاب فقد والله أخشانا حتى لا نستطيع أن نديم إليه أبصارنا،
فذكر عبد الرحمن له ذلك، فقال: أو قد قالوا ذلك! والله لقد لنت لهم حتى تخوفت الله
في أمرهم وقد تشددت عليهم حتى خفت الله في أمرهم، وأنا والله أشد فرقا
لله منهم لي.
* * *
وروى جابر بن عبد الله قال: قال رجل لعمر يا خليفة الله، قال: خالف الله بك،
قال: جعلني الله فداك! قال: إذن يهينك الله.
* * *
وروى أبو جعفر قال: استشار عمر في أمر المال كيف يقسمه، فقال له: علي بن أبي
طالب عليه السلام: تقسم كل سنة ما اجتمع معك من المال ولا تمسك منه شيئا وقال عثمان
ابن عفان: أرى مالا كثيرا يسع الناس وإن لم يحصوا حتى يعرف من أخذ ممن لم يأخذ
خشيت أن ينتشر الامر. فقال الوليد بن هشام بن المغيرة: يا أمير المؤمنين قد جئت
الشام فرأيت ملوكها قد دونوا ديوانا وجندوا جنودا وفرضوا لهم أرزاقا فأخذ بقوله
فدعا عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل وجبير بن مطعم - وكانوا نساب قريش - وقال:
اكتبوا الناس على منازلهم فكتبوا فبدءوا ببني هاشم ثم أتبعوهم أبا بكر وقومه، ثم عمر
وقومه، على ترتيب الخلافة، فلما نظر إليه قال: وددت أنه كان هكذا، لكن أبدأ بقرابة
النبي صلى الله عليه وآله الأقرب فالأقرب، حتى تضعوا عمر حيث وضعه الله.
قال أبو جعفر: جاءت بنو عدى إلى عمر، فقالوا له يا عمر، أنت خليفة رسول الله
94

صلى الله عليه وآله، قال: أو خليفة أبى بكر وأبو بكر خليفة رسول الله صلى الله
عليه وسلم قالوا: وذاك، فلو جعلت نفسك حيث جعلك هؤلاء القوم! فقال: بخ بخ
يا بنى عدى! أردتم الاكل على ظهري وأن أذهب حسناتي لكم! لا والله ولو كتبتم
آخر الناس، أن لي صاحبين سلكا طريقا، فإن أنا خالفتهما خولف بي والله
ما أدركنا الفضل في الدنيا إلا بمحمد ولا نرجو ما نرجو من الآخرة وثوابها إلا بمحمد
صلى الله عليه وآله فهو شرفنا، وقومه أشرف العرب ثم الأقرب منه فالأقرب
وما بيننا وبين أن نلقاه ثم لا نفارقه إلى آدم الا آباء يسيرة، والله لئن جاءت الأعاجم
بالاعمال وجئنا بغير عمل فإنهم أولى بمحمد صلى الله عليه وآله منا يوم القيامة
لا ينظرن رجل إلى قرابته وليعمل بما عند الله، فإن من قصر به عمله لم يسرع
به نسبه.
* * *
وروى السائب بن يزيد قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول والله ما من أحد
إلا له في هذا المال حق أعطيه أو منعه وما أحد أحق به من أحد إلا عبد مملوك
وما أنا فيه إلا كأحدكم ولكنا على منازلنا من كتاب الله، وقسمنا من رسول الله صلى
الله عليه وآله فالرجل وبلاؤه في الاسلام والرجل وغناؤه والرجل وحاجته والله
لئن بقيت ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من المال وهو مكانه.
* * *
وروى نافع مولى آل الزبير قال: سمعت أبا هريرة يقول رحم الله أبن حنتمة (1)
لقد رأيته عام الرمادة وإنه ليحمل على ظهره جرابين، وعكة زيت في يده وإنه
ليعتقب (2) هو وأسلم فلما رآني قال: من أين يقال: من أين يا أبا هريرة؟ قلت قريبا، فأخذت

(1) حنتمة بفتح الحاء، أم عمر بن الخطاب، وبنت عبد الرحمن بن الحارث (القاموس).
(2) يعتقب أي يركب هذا عقبه وهذا عقبه، والعقبة: النوبة.
95

أعقبه فحملناه حتى انتهينا إلى ضرار فإذا صرم (1) من نحو عشرين بيتا من محارب
فقال عمر: ما أقدمكم؟ قالوا الجهد وأخرجوا لنا جلد الميتة مشويا كانوا يأكلونه
ورمة العظام مسحوقة كانوا يستفونها فرأيت عمر طرح رداءه ثم برز فما زال يطبخ
لهم حتى شبعوا وأرسل أسلم إلى المدينة فجاء بأبعره فحملهم عليها، ثم أنزلهم الجبانة،
ثم كساهم وكان يختلف إليهم وإلى غيرهم حتى كفى الله ذلك.
* * *
وروى راشد بن سعد أن عمر أتى بمال، فجعل يقسم بين الناس، فازدحموا عليه
فاقبل سعد بن أبي وقاص يزاحم الناس حتى خلص إليه فعلاه عمر بالدرة وقال: إنك
أقبلت، لا تهابن سلطان الله في الأرض، فأحببت بأن أعلمك أن سلطان
الله لا يهابك.
* * *
وقالت: الشفاء ابنة عبد الله - ورأت فتيانا من النساك يقتصدون في المشي
ويتكلمون رويدا: ما هؤلاء فقيل؟ نساك، فقالت كان عمر بن الخطاب هو الناسك
حقا، وكان إذا تكلم أسمع، وإذا مشى أسرع وإذا ضرب أوجع.
* * *
أعان عمر رجلا على حمل شئ، فدعا له الرجل وقال: نفعك بنوك يا أمير المؤمنين!
قال: بل أغناني الله عنهم.
من كلامه القوة في العمل ألا يؤخر عمل اليوم لغد والأمانة، ألا تخالف
سريرتك علانيتك والتقوى بالتوقي، ومن يتق الله يقه.

(1) الصوم، بالكسر: الجماعة.
96

وقال عمر: كنا نعد المقرض بخيلا، إنما كانت المواساة.
* * *
أتى رهط إلى عمر فقالوا يا أمير المؤمنين كثر العيال واشتدت المؤونة فزدنا في
أعطياتنا (1) فقال: فعلتموها! جمعتم بين الضرائر، واتخذتم الخدم من مال الله! أما لوددت
أنى وإياكم في سفينتين في لجة البحر، تذهب بنا شرقا وغربا، فلن يعجز الناس أن يولوا
رجلا منهم فإن استقام اتبعوه وإن جنف قتلوه. فقال طلحة: وما عليك لو قلت
وإن أعوج عزلوه! فقال: القتل أرهب لمن بعده، احذروا فتى قريش فإنه كريمها
الذي لا ينام إلا على الرضا ويضحك عند الغضب، ويتناول ما فوقه من تحته.
* * *
وكان يقول في آخر أيامه عند تبرمه بالامر وضجره من الرعية اللهم ملوني ومللتهم
وأحسست من نفسي وأحسوا منى! ولا أدرى بأينا يكون اللوت (2) وقد أعلم أن لهم قتيلا
منهم فاقبضني إليك.
* * *
وذكر قوم من الصحابة لعمر رجلا، فقالوا: فاضل لا يعرف الشر، قال: ذاك
أوقع له فيه
* * *
وروى الطبري في التاريخ أن عمر استعمل عتبه بن أبي سفيان على عمل (3) فقدم منه
بمال فقال له: ما هذا يا عتبة؟ قال: مال خرجت به معي وتجرت فيه قال: وما لك تخرج
المال معك إلى هذا الوجه؟ فأخذ المال منه فصيره في بيت المال فلما قام عثمان قال لأبي سفيان:

(1) ب: إعطائنا
(2) اللوت: النقص.
(3) الطبري: (على كنانة).
97

إنك إن طلبت ما أخذه عمر من عتبه رددته عليك (1) فقال له أبو سفيان: إياك وما هممت
به إنك إن خالفت صاحبك قبلك ساء رأى الناس فيك إياك أن ترد على من كان
قبلك فيرد عليك من بعدك (2).
* * *
وروى الطبري أيضا إن هندا بنت عتبة بن ربيعة قامت إلى عمر فسألته أن يقرضها
من بيت المال أربعة آلاف درهم تتجر فيها وتضمنها. فخرجت بها إلى بلاد كلب،
فباعت واشترت وبلغها أن أبا سفيان قد أتى معاوية يستميحه ومعه ابنة عمرو بن أبي
سفيان، فعدلت إليه من بلاد كلب - وكان أبو سفيان قد طلقها - فقال معاوية: ما أقدمك
يا أمه؟ قالت: النظر إليك يا بنى إنه عمر وإنما يعمل لله وقد أتاك أبوك فخشيت أن
تخرج إليه من كل شئ، وأهل ذلك هو! ولكن لا يعلم عمر من أين أعطيته، فيؤنبوك
ويؤنبك ولا تستقبلها أبدا فبعث معاوية إلى أبيه وأخيه مائة دينار وكساهما وحملهما
فسخطها عمر فقال أبو سفيان: لا تسخطها فإنها عطاء لم تغب عنه هند ورجع هو وابنه
إلى المدينة فسأله عمر بكم أجازك معاوية؟ فقال: بمائة دينار، فسكت عمر (3).
* * *
وروى الأحنف قال: أتى عبد الله بن عمير عمر وهو يقرض الناس، فقال: يا أمير
المؤمنين أقرض لي، فلم يلتفت إليه فنخسه، فقال عمر: حس (4) وأقبل عليه، فقال: من
أنت فقال: عبد الله بن عمير -: وكان أبوه استشهد يوم حنين - فقال: يا يرفأ
أعطه ستمائة فأعطاه ستمائة فلم يقبلها لو رجع إلى عمر فأخبره فقال: يا يرفأ، أعطه

(1) الطبري: (عليه)
(2) تاريخ الطبري 1: 2766 (طبع أوروبا).
(3) تاريخ الطبري 1: 2767
(4) حس: كلمة يقولها الانسان إذا أصابه ما أمضه
98

ستمائة حلة فأعطاه فلبس الحلة التي كساه عمر ورمى ما كان عليه، فقال له: خذ
ثيابك هذه فلتكن في مهنة أهلك وهذه لزينتك.
* * *
وروى إياس بن سلمه عن أبيه قال: مر عمر في السوق ومعه الدرة فخفقني
خفقه فأصاب طرف ثوبي وقال: أمط (1) عن الطريق فلما كان في العام المقبل لقيني
فقال: يا سلمه أتريد الحج؟ قلت: نعم فأخذ بيدي وانطلق بي إلى منزله فأعطاني
ستمائة درهم، وقال: استعن بها على حجك واعلم أنها بالخفقة التي خفقتك، فقلت
يا أمير المؤمنين، ما ذكرتها قال: وأنا منسيتها.
* * *
وخطب عمر فقال: أيتها الرعية إن لنا عليكم حقا النصيحة بالغيب والمعاونة
على الخير إنه ليس من حلم أحب إلى الله ولا أعم نفعا من حلم إمام ورفقه وليس من
جهل أبغض إلى الله من جهل امام وخرفه (2) أيها الرعية إنه من يأخذ بالعافية من بين
ظهرانيه فوته الله العافية من فوقه.
وروى الربيع بن زياد قال: قدمت على عمر بمال من البحرين فصليت معه
العشاء ثم سلمت عليه فقال: ما قدمت به قلت: خمسمائة ألف، قال: ويحك! إنما
قدمت بخمسين ألفا، قلت: بل خمسمائة الف قال: كم يكون ذلك؟ قلت: مائة ألف
ومائه ألف ومائة ألف، حتى عددت خمسا فقال: إنك ناعس إرجع إلى بيتك
ثم اغد، على فغدوت عليه. فقال: ما جئت به قلت ما قلته لك قال: كم هو؟
قلت خمسمائة ألف قال: أطيب هو؟ قلت: نعم، لا أعلم إلا ذلك فاستشار الصحابة
فيه، فأشير عليه بنصب الديوان فنصبه وقسم المال بين المسلمين ففضلت عنده فضله

(1) أمط: تنح.
(2) الخرف: فساد العقل. وفي ا: (وخرقه).
99

فأصبح فجمع المهاجرين والأنصار وفيهم علي بن أبي طالب وقال للناس: ما ترون في
فضل فضل عندنا من هذا المال؟ فقال الناس: يا أمير المؤمنين إنا شغلناك بولاية أمورنا
عن أهلك وتجارتك وصنعتك فهو لك فالتفت إلى علي فقال: ما تقول أنت قال:
قد أشاروا عليك قال: فقل أنت
فقال: له لم تجعل يقينك ظنا؟ فلم يفهم عمر قوله
فقال: لتخرجن مما قلت قال: أجل والله لأخرجن منه أتذكر حين بعثك رسول
الله صلى الله عليه وآله (1) ساعيا فأتيت العباس بن عبد المطلب فمنعك صدقته
فكان بينكما شئ فجئتما إلى وقلتما انطلق معنا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله
فجئنا إليه فوجدناه خاثرا (2) فرجعنا، ثم غدونا عليه فوجدناه طيب النفس فأخبرته
بالذي صنع العباس فقال: لك يا عمر أما علمت أن عم الرجل صنو أبيه! فذكرنا له
ما رأينا من خثوره في اليوم الأول وطيب نفسه في اليوم الثاني فقال: إنكم أتيتم
في اليوم الأول وقد بقي عندي من مال الصدقة ديناران فكان ما رأيتم من خثوري
لذلك وأتيتم في اليوم الثاني وقد وجهتهما، فذاك الذي رأيتم من طيب نفسي أشير
عليك ألا تأخذ من هذا الفضل شيئا، وأن تفضه على فقراء المسلمين، فقال: صدقت والله
لأشكرن لك والأولى والأخيرة.
* * *
وروى أبو سعيد الخدري قال: حججنا مع عمر أول حجة حجها في خلافته، فلما
دخل المسجد الحرام، دنا من الحجر الأسود فقبله واستلمه، وقال: إني لأعلم أنك حجر
لا تضر ولا تنفع ولولا أنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله قبلك واستلمك لما
قبلتك ولا استلمتك، فقال له: على بلى يا أمير المؤمنين إنه ليضر وينفع ولو علمت
تأويل ذلك من كتاب الله لعلمت أن الذي أقول لك كما أقول قال: الله تعالى
(وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست

(1) الساعي: من يجمع الزكاة.
(2) خاثرا: فاترا.
100

بربكم قالوا بلى) (1) فلما أشهدهم وأقروا له أنه الرب عز وجل وأنهم العبيد
كتب ميثاقهم في رق ثم ألقمه هذا الحجر وإن له لعينين ولسانا وشفتين تشهد
لمن وافاه بالموافاة فهو أمين الله عز وجل في هذا المكان فقال عمر: لا أبقاني الله بأرض
لست بها يا أبا الحسن.
قلت قد وجدنا في الآثار والاخبار في سيرة عمر أشياء تناسب قوله في هذا الحجر
الأسود كما أمر بقطع الشجرة التي بويع رسول الله صلى الله عليه وآله تحتها بيعه الرضوان
في عمرة الحديبية لان المسلمين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله كانوا يأتونها
فيقيلون تحتها، فلما تكرر ذلك أوعدهم عمر فيها ثم أمر بها فقطعت.
وروى المغيرة بن سويد قال: خرجنا مع عمر في حجة حجها فقرأ بنا في الفجر
(ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل) (2) و (لإيلاف قريش) (3) فلما فرغ رأى
الناس يبادرون إلى مسجد هناك، فقال: ما بالهم؟ قالوا: مسجد صلى فيه النبي صلى الله عليه
وسلم والناس يبادرون إليه فناداهم فقال: هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم! اتخذوا آثار
أنبيائهم بيعا من عرضت له صلاة في هذا المسجد فليصل ومن لم تعرض له
صلاة فليمض.
* * *
وأتى رجل من المسلمين إلى عمر فقال: إنا لما فتحنا المدائن أصبنا كتابا فيه علم
من علوم الفرس، وكلام معجب، فدعا بالدرة فجعل يضربه بها ثم قرأ (نحن نقص
عليك أحسن القصص) (4) ويقول ويلك! أقصص أحسن من كتاب الله! إنما هلك

(1) سورة الأعراف 172.
(2) سورة الفيل: 1.
(3) سورة قريش: 2.
(4) سورة يوسف 3.
101

من كان قبلكم، لأنهم أقبلوا على كتب علمائهم وأساقفتهم وتركوا التوراة والإنجيل
حتى درسا وذهب ما فيهما من العلم.
* * *
وجاء رجل إلى عمر فقال: إن ضبيعا التميمي لقينا يا أمير المؤمنين فجعل يسألنا عن
تفسير حروف من القرآن فقال: اللهم أمكني منه فبينا عمر يوما جالس يغدى الناس
إذ جاءه الضبيع وعليه ثياب وعمامة فتقدم فأكل حتى إذا فرغ قال: يا أمير المؤمنين
ما معنى قوله تعالى (والذاريات ذروا * فالحاملات وقرا) (1)؟ قال: ويحك أنت هو!
فقام إليه فحسر عن ذراعيه فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته، فإذا له ضفيرتان، فقال:
والذي نفس عمر بيده لو وجدتك محلوقا لضربت رأسك ثم أمر به فجعل في بيت، ثم
كان يخرجه كل يوم فيضربه مائة فإذا برأ أخرجه فضربه مائة أخرى ثم حمله على
قتب وسيره إلى البصرة وكتب إلى أبى موسى يأمره أن يحرم على الناس مجالسته وأن
يقوم في الناس خطيبا ثم يقول إن ضبيعا قد ابتغى العلم فأخطأه فلم يزل وضيعا في
قومه وعند الناس حتى هلك وقد كان من قبل سيد قومه.
وقال عمر: على المنبر الا إن أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها
فأفتوا بآرائهم فضلوا وأضلوا ألا إنا نقتدي ولا نبتدي ونتبع ولا نبتدع إنه ما ضل
متمسك بالأثر
* * *
وروى زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر يقول في الحج: فيم الرملان (1)
الان والكشف عن المناكب وقد أظهر الله الاسلام ونفى الكفر وأهله ومع ذلك
لا ندع شيئا كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله.

(1) سورة الذاريات: 1، 2.
(2) الرملان: الهرولة حول البيت.
102

مر عمر برجل فسلم عليه فرد عليه، فقال: ما اسمك؟ قال: جمرة، قال: أبو من؟
قال: أبو شهاب، قال: ممن؟ قال: من الحرقة، قال: وأين مسكنك؟ قال: بحرة النار
قال: بأيها؟ قال: بذات لظى، فقال: ويحك! أدرك أهلك فقد احترقوا فمضى عليهم
فوجدهم قد احترقوا.
* * *
وروى الليث بن سعد، قال: أتى عمر بفتى أمرد قد وجد قتيلا ملقى على وجه
الطريق فسأل عن أمره واجتهد فلم يقف له على خبر فشق عليه فكان يدعو
ويقول اللهم أظفرني بقاتله حتى إذا كان رأس الحول أو قريبا من ذلك وجد طفل
مولود ملقى في موضع ذلك القتيل فأتى به عمر، فقال: ظفرت بدم القتيل إن شاء الله
تعالى! فدفع الطفل إلى امرأة، وقال: لها قومي بشأنه وخذي منا نفقته وانظري من
يأخذه منك، فإذا وجدت امرأة تقبله وتضمه إلى صدرها فأعلميني مكانها فلما شب
الصبي جاءت جارية، فقالت: للمرأة إن سيدتي بعثتني إليك لتبعثي إليها بهذا الصبي
فتراه وترده إليك قالت: نعم ذهبي به إليها وأنا معك فذهبت بالصبي حتى
دخلت على امرأة شابة فأخذت الصبي فجعلت تقبله وتفديه وتضمه إليها وإذا هي
بنت شيخ من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءت المرأة وأخبرت
عمر، فاشتمل على سيفه وأقبل إلى منزلها، فوجد أباها متكئا على الباب، فقال له:
ما الذي تعلم من حال ابنتك؟ قال: أعرف الناس بحق الله وحق أبيها مع حسن
صلاتها وصيامها والقيام بدينها فقال: إني أحب أن أدخل إليها وأزيدها رغبة في الخير
فدخل الشيخ، ثم خرج فقال: الدخل يا أمير المؤمنين فدخل وأمر أن يخرج كل من
في الدار إلا أباها ثم سألها عن الصبي فلجلجت فقال: لتصدقيني ثم انتضى
السيف فقالت: على رسلك يا أمير المؤمنين! فوالله! لأصدقنك إن عجوزا كانت تدخل
على فاتخذتها أما وكانت تقوم في أمري بما تقوم به الوالدة وأنا لها بمنزلة البنت
103

فمكثت كذلك حينا ثم قالت: إنه قد عرض لي سفر ولى بنت أتخوف عليها بعدي
الضيعة وأنا أحب أن أضمها إليك حتى أرجع من سفري ثم عمدت إلى ابن لها أمرد
فهيأته وزينته كما تزين المرأة وأتتني به ولا أشك أنه جارية فكان يرى منى ما ترى
المرأة من المرأة فاغتفلني يوما وأنا نائمة فما شعرت به حتى علاني وخالطني فمددت يدي
إلى شفره كانت عندي فقتلته ثم أمرت به فألقى حيث رأيت فاشتملت منه على هذا
الصبي فلما وضعته ألقيته في موضع أبيه هذا والله خبرهما على ما أعلمتك
فقال عمر: صدقت بارك الله فيك ثم! أوصاها ووعظها وخرج
وكان عمر يقول لو أدركت عروة وعفراء لجمعت بينهما.
* * *
ذكر عمرو بن العاص يوما عمر فترحم عليه وقال: ما رأيت أحدا أتقى منه
ولا أعمل بالحق منه لا يبالي على من وقع الحق من ولد أو والد إني لفي منزلي بمصر
ضحى إذ أتاني آت فقال: قدم عبد الله وعبد الرحمن ابنا عمر غازيين فقلت أين
نزلا؟ قال: في موضع كذا - لأقصى مصر - وقد كان عمر كتب إلى إياك وأن يقدم
عليك أحد من أهل بيتي فتجيزه أو تحبوه بأمر لا تصنعه بغيره فأفعل بك ما أنت أهله
فضقت ذرعا بقدومهما ولا أستطيع أن أهدى لهما ولا أن آتيهما في منزلهما خوفا من
أبيهما فوالله إني لعلى ما أنا عليه وإذا قائل يقول هذا عبد الرحمن بن عمر بالباب وأبو
سروعة يستأذنان عليك فقلت: يدخلان فدخلا وهما منكسران فقالا: أقم علينا
حد الله فإنا أصبنا الليلة شرابا فسكرنا فزبرتهما وطردتهما وقلت ابن أمير المؤمنين
وآخر معه من أهل بدر! فقال عبد الرحمن: إن لم تفعل أخبرت أبى إذا قدمت عليه
أنك لم تفعل فعلمت أنى إن لم أقم عليهما الحد غضب عمر وعزلني فنحن على ما نحن عليه
104

إذ دخل عبد الله بن عمر فقمت إليه ورحبت به، وأردت أن أجلسه في صدر مجلسي
فأبى على وقال: إن أبى نهاني أن أدخل عليك إلا ألا أجد من الدخول بدا وإني
لم أجد من الدخول عليك بدا إن أخي لا يحلق على رؤوس الناس أبدا فأما الضرب
فاصنع ما بدا لك - قال: وكانوا يحلقون مع الحد - فأخرجتهما إلى صحن الدار وضربتهما
الحد ودخل عبد الله بن عمر بأخيه عبد الرحمن إلى بيت من الدار فحلق رأسه وحلق
أبا سروعة والله ما كتبت إلى عمر بحرف مما كان وإذا كتابه قد ورد
من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى العاصي ابن العاصي عجبت لك يا بن العاصي
ولجرأتك على ومخالفتك عهدي أما إني خالفت فيك أصحاب بدر ومن هو خير منك
واخترتك وأنت الخامل وقدمتك وأنت المؤخر وأخبرني الناس بجرأتك وخلافك
وأراك كما أخبروا وما أراني إلا عازلك فمسئ عزلك ويحك! تضرب عبد الرحمن
ابن عمر في داخل بيتك وتحلق رأسه في داخل بيتك وقد عرفت أن في هذا مخالفتي!
وإنما عبد الرحمن رجل من رعيتك تصنع به ما تصنع بغيره من المسلمين، ولكن قلت:
هو ولد أمير المؤمنين وقد عرفت ألا هوادة لأحد من الناس عندي في حق يجب لله
عز وجل فإذا جاءك كتابي هذا فابعث به في عباءة على قتب، حتى يعرف سوء ما صنع
قال: فبعثت به كما قال أبوه: وأقرأت أخاه عبد الله كتاب أبيهما وكتبت إلى عمر كتابا
أعتذر فيه وأخبرته أنى ضربته في صحن الدار، وحلفت بالله الذي لا يحلف بأعظم منه
أنه الموضع الذي أقيم فيه الحدود على المسلم والذمي وبعثت بالكتاب مع عبد الله بن
عمر فذكر أسلم مولى عمر قال:
قدم عبد الله بأخيه عبد الرحمن على أبيهما فدخل عليه في عباءة وهو لا يقدر
على المشي من مركبه فقال: يا عبد الرحمن فعلت وفعلت! السياط السياط فكلمه
105

عبد الرحمن بن عوف وقال: يا أمير المؤمنين قد أقيم عليه الحد مرة، فلم يلتفت إليه
وزبره فأخذته السياط، وجعل يصيح: أنا مريض وأنت والله قاتلي! فلم يرق له حتى
استوفى الحد وحبسه ثم مرض شهرا ومات.
* * *
وروى الزبير بن بكار، قال: خطب عمر أم كلثوم بنت علي عليه السلام فقال له:
انها صغيرة، فقال زوجنيها يا أبا الحسن فإني أرصد من كرامتها ما لا يرصده أحد فقال:
انا أبعثها إليك، فان رضيتها زوجتكها. فبعثها إليه ببرد وقال لها قولي: هذا البرد الذي
ذكرته لك. فقالت له ذلك، فقال: قولي له: قد رضيته رضى الله عنك - ووضع يده على
ساقها - فقالت له: أتفعل هذا لولا انك أمير المؤمنين لكسرت انفك ثم جاءت أباها
فأخبرته الخبر، وقالت بعثتني إلى شيخ سوء! قال: مهلا يا بنية، انه زوجك، فجاء عمر
إلى مجلس المهاجرين في الروضة، وكان يجلس فيها المهاجرون الأولون فقال: رفئوني (1)
رفئوني، قالوا: بماذا يا أمير المؤمنين؟ قال تزوجت أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب،
سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: (كل سبب ونسب وصهر ينقطع يوم القيامة
الا سببي ونسبي وصهري).
* * *
وكتب عثمان إلى أبى موسى: إذا جاءك كتابي هذا فاعط الناس أعطياتهم واحمل
ما بقي إلى. ففعل وجاء زيد بن ثابت بالمال فوضعه بين يدي عثمان، فجاء ابن لعثمان،
فاخذ منه أستاندانة من فضة، فمضى بها فبكى زيد، قال عثمان: ما يبكيك؟ قال:
اتيت عمر مثل ما أتيتك به، فجاء ابن له فاخذ درهما فامر به فانتزع منه، حتى أبكى

(1) رفأه: إذا قاله له: بالرفاء والبنين.
106

الغلام، وان ابنك قد اخذ هذه فلم أر أحدا قال شيئا. فقال عثمان: ان عمر كان يمنع
أهله وقرابته ابتغاء وجه الله، وانا أعطي أهلي وأقاربي ابتغاء وجه الله، ولن تلقى
مثل عمر.
* * *
وروى إسماعيل بن خالد، قال: قيل لعثمان: ألا تكون مثل عمر! قال: لا أستطيع
ان أكون مثل لقمان الحكيم.
* * *
ذكرت عائشة عمر، فقالت: كان أجودنا، نسيج وحده، قد أعد
للأمور أقرانها.
* * *
جاء عبد الله بن سلام بعد أن صلى الناس على عمر، فقال: ان كنتم سبقتموني بالصلاة
عليه فلا تسبقوني بالثناء عليه، ثم قال: نعم أخو الاسلام كنت يا عمر! جوادا بالحق
بخيلا بالباطل، ترضى حين الرضا وتسخط حين السخط، لم تكن مداحا ولا معيابا
طيب الطرف، عفيف الطرف.
* * *
وروى جويرية بن قدامة قال: دخلت مع أهل العراق على عمر حين أصيب،
فرأيته قد عصب بطنه بعمامة سوداء والدم يسيل، فقال له الناس: أوصنا، فقال عليكم
بكتاب الله، فإنكم لن تضلوا ما اتبعتموه فأعدنا القول عليه ثانية: أوصنا، قال: أوصيكم
بالمهاجرين، فان الناس سيكثرون ويقلون وأوصيكم بالأنصار، فإنهم شعب الاسلام
الذي لجأ إليه وأوصيكم بالأعراب فإنهم أصلكم الذي لجأتم إليه ومأواكم وأوصيكم
باهل الذمة، فإنهم عهد نبيكم ورزق عيالكم، قوموا عنى.
107

فلم احفظ من كلامه الا هذه الكلمات.
* * *
وروى عمرو بن ميمون، قال: سمعت عمر وهو يقول - وقد أشار إلى الستة ولم يكلم
أحدا منهم الا علي بن أبي طالب وعثمان، ثم أمرهم بالخروج فقال لمن كان عنده: إذا
اجتمعوا على رجل فمن خالف فلتضرب رقبته، ثم قال: ان يولوها الأجلح (1) يسلك بهم
الطريق، فقال له قائل: فما يمنعك من العهد إليه؟ قال: أكره ان أتحملها حيا وميتا
* * *
[خطب عمر الطوال]
وقال الجاحظ في كتاب " البيان والتبيين ": لم يكن عمر من أهل الخطب الطوال
وكان كلامه قصيرا، وإنما صاحب الخطب الطوال علي بن أبي طالب عليه السلام.
وقد وجدت انا لعمر خطبا فيها بعض الطول، ذكرها أبو جعفر محمد بن جرير
الطبري في التاريخ.
* * *
فمنها خطبة خطب بها حين ولى الخلافة، وهي بعد حمد الله والثناء عليه
وعلى رسوله:
أيها الناس، انى وليت عليكم ولولا رجاء ان أكون خيركم لكم، وأقواكم عليكم
وأشدكم استضلاعا بما ينوب من مهم أموركم، ما توليت ذلك منكم، ولكفى عمر فيها
مجزي (2) العطاء موافقة الحساب، بأخذ حقوقكم كيف آخذها ووضعها أين أضعها

(1) الجلح: انحسار الشعر عن جانبي الرأس، ويريد بالأجلح علي بن أبي طالب.
(2) الطبري: (ولكفى مهما محزنا انتظار موافقة الحساب).
108

وبالسير فيكم كيف أسير! فربي المستعان، فان عمر لم يصبح يثق بقوة ولا حيلة، ان
لم يتداركه الله برحمته وعونه. (1)
أيها الناس ان الله قد ولاني امركم، وقد علمت أنفع مالكم وأسأل الله ان يعينني
عليه وان يحرسني عنده، كما حرسني عند غيره، وان يلهمني العدل في قسمكم كالذي
أمر به، فإني امرؤ مسلم وعبد ضعيف الا ما أعان الله، ولن يغير الذي وليت من
خلافتكم من خلقي شيئا إن شاء الله. إنما العظمة لله، وليس للعباد منها شئ فلا يقولن
أحدكم ان عمر تغير منذ ولى، وإني أعقل الحق من نفسي، وأتقدم وأبين لكم
أمري، فأيما رجل كانت له حاجة أو ظلم مظلمة أو عتب علينا في خلق، فليؤذني، فإنما
انا رجل منكم، فعليكم بتقوى الله في سركم وعلانيتكم وحرماتكم وأعراضكم
وأعطوا الحق من أنفسكم، ولا يحمل بعضكم بعضا على الا تتحاكموا إلى، فإنه ليس
بيني وبين أحد هوادة وانا حبيب إلى صلاحكم، عزيز على عنتكم، وأنتم أناس
عامتكم حضر في بلاد الله وأهل بلد لا زرع فيه ولا ضرع الا ما جاء الله به إليه، وان
الله عز وجل قد وعدكم كرامة كبيرة، وانا مسؤول عن أمانتي وما أنا فيه ومطلع على
ما يحضرني بنفسي إن شاء الله لا اكله إلى أحد، ولا أستطيع ما بعد منه الا بالامناء
وأهل النصح منكم للعامة، ولست أحمل أمانتي إلى أحد سواهم إن شاء الله. (2)
* * *
وخطب عمر مرة أخرى، فقال بعد حمد الله والصلاة على رسول الله صلى الله
عليه وآله:

(1) الطبري 5: 25، وهي آخر الخطبة هنا: وما يليها خطبة أخرى.
(2) تاريخ الطبري 5: 25، 26
109

أيها الناس، ان [بعض] (1) الطمع فقر، وان بعض اليأس غنى، وإنكم تجمعون
ما لا تأكلون وتؤملون ما لا تدركون، وأنتم مؤجلون في دار غرور، وقد كنتم على عهد
رسول الله صلى الله عليه وآله تؤخذون بالوحي، ومن أسر شيئا اخذ بسريرته، ومن أعلن
شيئا اخذ بعلانيته، فأظهروا لنا حسن أخلاقكم، والله أعلم بالسرائر، فإنه من أظهر لنا
قبيحا وزعم أن سريرته حسنة لم نصدقه، ومن أظهر لنا علانية حسنة ظننا [به حسنا] (1).
واعلموا ان بعض الشح شعبة من النفاق، فانفقوا خيرا لأنفسكم، ومن يوق شح نفسه
فأولئك هم المفلحون.
أيها الناس، أطيبوا مثواكم، وأصلحوا أموركم، واتقوا الله ربكم ولا تلبسوا
نساءكم القباطي (2) فإنه إن لم يشف (3) فإنه يصف.
أيها الناس، انى لوددت ان أنجو كفافا لا لي ولا على انى لأرجو ان عمرت فيكم
يسيرا أو كثيرا، ان اعمل فيكم بالحق إن شاء الله، والا يبقى أحد من المسلمين - وإن
كان في بيته - إلا اتاه حقه ونصيبه من مال الله، وان لم يعمل إليه نفسه، ولم ينصب
إليه بدنه، فأصلحوا أموالكم التي رزقكم الله، فقليل في رفق خير من كثير
في عنف.
واعلموا ان القتل حتف من الحتوف يصيب البر والفاجر - والشهيد من احتسب
نفسه، وإذا أراد أحدكم بعيرا فليعمد إلى الطويل العظيم فليضربه بعصاه، فان وجده
حديد الفؤاد فليشتره.
* * *
وخطب عمر مرة أخرى فقال:

(1) تكملة من تاريخ الطبري.
(2) القباطي: ثياب كتان بيض رقاق كانت تعمل في مصر.
(3) يشف: يرق حتى يحكى ما تحته.
(3) تاريخ الطبري 6: 26
110

ان الله سبحانه قد استوجب عليكم الشكر، واتخذ عليكم الحجج فيما
اتاكم من كرامة الدنيا والآخرة من غير مسالة منكم، لا رغبة منكم فيه إليه، فخلقكم
- تبارك وتعالى - ولم تكونوا شيئا لنفسه وعبادته، وكان قادرا ان يجعلكم لاهون خلقه عليه
فجعلكم عامة خلقه، ولم يجعلكم لشئ غيره، وسخر لكم ما في السماوات والأرض،
وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة وحملكم في البر والبحر، ورزقكم من الطيبات
لعلكم تشكرون. ثم جعل لكم سمعا وبصرا. ومن نعم الله عليكم نعم عم بها بني آدم
ومنها نعم اختص بها أهل دينكم، ثم صارت تلك النعم خواصها في دولتكم وزمانكم
وطبقتكم، وليس من تلك النعم نعمة وصلت إلى امرئ خاصة الا لو قسمتم ما وصل منها
بين الناس كلهم أتعبهم شكرها، وفدحهم حقها الا بعون الله مع الايمان بالله ورسوله
فأنتم مستخلفون في الأرض قاهرون لأهلها، قد نصر الله دينكم فلم تصبح أمة مخالفة
لدينكم، إلا أمتين أمة مستعبدة للاسلام وأهله، يتجرون لكم، تستصفون (1) معايشهم
وكدائحهم، ورشح جباههم، عليهم المؤنة، ولكم المنفعة، وأمة تنتظر وقائع الله وسطواته في
كل يوم وليلة، قد ملا الله قلوبهم رعبا، فليس لهم معقل يلجئون إليه ولا مهرب يتقون به،
قد دهمتهم جنود الله ونزلت بساحتهم، مع رفاغة (2) العيش واستفاضة المال وتتابع البعوث
وسد الثغور بإذن الله، في العافية الجليلة العامة التي لم تكن الأمة على أحسن منها منذ
كان الاسلام، والله المحمود مع الفتوح العظام في كل بلد فما عسى ان يبلغ شكر الشاكرين،
وذكر الذاكرين واجتهاد المجتهدين، مع هذه النعم التي لا يحصى عددها، ولا يقدر
قدرها، ولا يستطاع أداء حقها إلا بعون الله ورحمته ولطفه! فنسأل الله الذي أبلانا هذا
ان يرزقنا العمل بطاعته، والمسارعة إلى مرضاته. واذكروا عباد الله بلاء الله عندكم
واستتموا نعمة الله عليكم وفى مجالسكم مثنى وفرادى، فإن الله تعالى قال لموسى:

(1) استصفى الشئ: أخذ منه صفوه.
(2) الرفاغة: سعة العيش وطيبه.
111

(اخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله) (1) وقال لمحمد صلى الله
عليه وسلم: (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض) (2) فلو كنتم إذ كنتم
مستضعفين محرومين
خير الدنيا على شعبة من الحق تؤمنون بها، وتستريحون إليها،
مع المعرفة بالله وبدينه، وترجون الخير فيما بعد الموت، ولكنكم كنتم أشد الناس عيشة
وأعظم الناس بالله جهالة، فلو كان هذا الذي ابتلاكم به لم يكن معه حظ في دنياكم غير أنه
ثقة لكم في آخرتكم التي إليها المعاد والمنقلب، وأنتم من جهد المعيشة على ما كنتم عليه
كنتم أحرياء ان تشحوا على نصيبكم منه، ون تظهروه على غيره فبله (3). أما انه قد جمع لكم
فضيلة الدنيا وكرامة الآخرة، أو لمن شاء ان يجمع ذلك منكم، فأذكركم الله الحائل بينكم
وبين قلوبكم الا ما عرفتم حق الله وعملتم له، وسيرتم أنفسكم على طاعته، وجمعتم مع
السرور بالنعم خوفا لزوالها وانتقالها، ووجلا من تحويلها، فإنه لا شئ اسلب للنعمة من
كفرانها وان الشكر امن للغير، ونماء للنعمة، واستجلاب للزيادة، وهذا على في
امركم ونهيكم واجب إن شاء الله.
* * *
وروى أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتاب " مقاتل الفرسان " قال: كتب عمر إلى
سلمان بن ربيعة الباهلي - أو إلى النعمان بن مقرن:
ان في جندك رجلين من العرب: عمرو بن معديكرب طليحة بن خويلد،
فأحضرهما الناس وأدبهما وشاورهما في الحرب، وابعثهما في الطلائع، ولا تولهما عملا من
أعمال المسلمين، وإذا وضعت الحرب أوزارها، فضعهما حيث وضعا أنفسهما. قال: وكان
عمرو ارتد، وطليحة تنبأ.

(1) سورة إبراهيم: 5
(2) سورة الأنفال: 26
(3) بله: اسم فعل بمعنى دع واترك.
112

وروى أبو عبيدة أيضا في هذا الكتاب، قال: قدم عمرو بن معديكرب والأجلح بن
وقاص الفهمي على عمر، فأتياه وبين يديه مال يوزن، فقال: متى قدمتما؟ قالا: يوم
الخميس، قال: فما حبسكما عنى؟ قالا: شغلنا المنزل يوم قدمنا، ثم كانت الجمعة، ثم غدونا
عليك اليوم. فلما فرغ من وزن المال نحاه، وأقبل عليهما، فقال: هيه! فقال عمرو بن
معديكرب يا أمير المؤمنين هذا الأجلح بن وقاص، الشديد المرة البعيد الغرة،
الوشيك الكرة، والله ما رأيت مثله حين الرجال صارع ومصروع والله لكأنه لا يموت.
فقال عمر للأجلح - واقبل عليه، وقد عرف الغضب في وجهه: هيه يا أجلح! فقال
الأجلح: يا أمير المؤمنين تركت الناس خلفي صالحين، كثيرا نسلهم، دارة أرزاقهم
خصبة بلادهم، أجرياء على عدوهم، فأكلا عدوهم عنهم، فسيمتع الله بك، فما رأينا مثلك
إلا من سبقك، فقال: ما منعك ان تقول في صاحبك مثل ما قال فيك؟ قال: ما رأيت
من وجهك، قال: أصبت، اما انك لو قلت فيه مثل الذي قال فيك لأوجعتكما ضربا
وعقوبة فإذ تركتك لنفسك فسأتركه لك، والله لوددت لو سلمت لكم حالكم، ودامت
عليكم أموركم. أما انه سيأتي عليك يوم تعضه وينهشك، وتهره وينبحك، ولست له
يومئذ وليس لك، فان لا يكن بعهدكم، فما أقربه منكم.
* * *
لما أسر الهرمزان صاحب الأهواز وتستر وحمل إلى عمر، حمل ومعه رجال من المسلمين،
فيهم الأحنف بن قيس وأنس بن مالك فأدخلوه في المدينة في هيئته، وعليه تاجه الذهب
وكسوته، فوجدوا عمر نائما في جانب المسجد، فجلسوا عنده ينتظرون انتباهه، فقال
الهرمزان: أين عمر؟ فقالوا: هو ذا، قال: وأين حراسه وحجابه؟ قالوا: لا حارس له
ولا حاجب، قال: فينبغي ان يكون هذا نبيا! قالوا: انه يعمل عمل الأنبياء.
113

فاستيقظ عمر فقال: الهرمزان! قالوا: نعم، قال: لا أكلمه حتى لا يبقى عليه من
حليته شئ، فرموا بالحلية وألبسوه ثوبا ضعيفا، فقال عمر: يا هرمزان كيف رأيت وبال
الغدر؟ - وقد كان صالح المسلمين مرة ثم نكث - فقال: يا عمر انا وإياكم في الجاهلية
كنا نغلبكم إذ لم يكن الله معكم ولا معنا، فلما كان الله معكم غلبتمونا، قال: فما عذرك
في انتقاضك مرة بعد مرة؟ قال: أخاف إن قلت إن تقتلني، قال: لا باس عليك!
فأخبرني، فاستسقى ماء فاخذه وجعلت يده ترعد، قال: مالك؟ قال: أخاف ان تقتلني
وانا اشرب، قال: لا باس عليك حتى تشربه، فألقاه من يده، فقال: ما بالك! أعيدوا
عليه الماء ولا تجمعوا عليه بين القتل والعطش، قال: كيف تقتلني وقد أمنتني؟ قال:
كذبت! قال: لم أكذب، فقال انس: صدق يا أمير المؤمنين، قال: ويحك يا انس!
انا أؤمن قاتل مجزاة بن ثور والبراء بن مالك! والله لتأتيني بالمخرج أو لأعاقبنك! قال:
انك قلت: (لا باس عليك حتى تخبرني ولا باس عليك حتى تشرب) وقال له ناس من
المسلمين مثل قول انس، فاقبل على الهرمزان، فقال: تخدعني! والله لا تخدعني الا ان
تسلم، فأسلم، ففرض له ألفين، وأنزله المدينة.
* * *
بعث عمر عمير بن سعيد الأنصاري عاملا على حمص، فمكث حولا لا يأتيه خبره،
ثم كتب إليه بعد حول: إذا أتاك كتابي هذا فأقبل واحمل ما جبيت من مال المسلمين،
فاخذ عمير جرابه، وجعل فيه زاده وقصعته، وعلق أداته، وأخذ عنزته (1) وأقبل
ماشيا من حمص حتى دخل المدينة وقد شحب لونه، واغبر وجهه، وطال شعره. فدخل
على عمر فسلم، فقال عمر: ما شأنك يا عمير؟ قال: ما ترى من شأني، ألست تراني صحيح
البدن، ظاهر الدم، معي الدنيا اجرها بقرنيها؟ قال: وما معك - فظن عمر أنه قد جاء

العنزة: عصا مثل الحربة
114

بمال، قال: معي جرابي اجعل فيه زادي، وقصعتي آكل فيها واغسل منها رأسي وثيابي،
وأداتي أحمل فيها وضوئي وشرابي، وعنزتي أتوكأ عليها وأجاهد بها عدوا ان عرض لي.
قال عمر: أفجئت ماشيا؟ قال: نعم، لم يكن لي دابة: قال: أفما كان في رعيتك أحد يتبرع
لك بدابة تركبها؟ قال: ما فعلوا، ولا سألتهم ذلك، قال عمر: بئس المسلمون خرجت من
عندهم! قال عمير: اتق الله يا عمر، ولا تقل الا خيرا، قد نهاك الله عن الغيبة وقد رأيتهم
يصلون! قال عمر: فماذا صنعت في أمارتك؟ قال: وما سؤالك؟ قال: سبحان الله! قال:
أما إني لولا أخشى ان اعمل ما أخبرتك. أتيت البلد، فجمعت صلحاء أهله فوليتهم جبايته
ووضعه في مواضعه ولو أصابك منه شئ لأتاك، قال: أفما جئت بشئ؟ قال: لا، فقال:
جددوا لعمير عهدا، قال: ان ذلك لشئ لا أعمله بعد لك، ولا لأحد بعدك، والله ما كدت
أسلم - بل لم أسلم، قلت لنصراني معاهد: أخزاك الله، فهذا ما عرضتني له يا عمر! ان أشقى
أيامي ليوم صحبتك! ثم استأذنه في الانصراف، فأذن له، ومنزله بقباء بعيدا عن المدينة،
فأمهله عمر أياما ثم بعث رجلا يقال له الحارث، فقال: انطلق إلى عمير بن سعد وهذه
مائة دينار، فإن وجدت عليه أثرا فاقبل على بها، وان رأيت حالا شديدة فادفع إليه هذه
المائة، فانطلق الحارث فوجد عميرا جالسا يفلي قميصا له إلى جانب حائط، فسلم عليه، فقال عمير:
انزل رحمك الله! فنزل فقال: من أين جئت؟ قال: من المدينة، قال: كيف تركت أمير المؤمنين؟
قال: صالحا، قال: كيف تركت المسلمين؟ قال: صالحين، قال: أليس عمر يقيم الحدود؟
قال: بلى، ضرب ابنا له على فاحشة فمات من ضربه، فقال عمير: اللهم أعن عمر، فإني
لا أعلمه إلا شديدا حبه لك! قال: فنزل به ثلاثة أيام، وليس لهم الا قرص من شعير
كانوا يخصونه كل يوم به ويطوون، حتى نالهم الجهد، فقال له عمير: إنك قد أجعتنا،
فإن رأيت أن تتحول عنا فافعل، فأخرج الحارث الدنانير فدفعها إليه، وقال: بعث بها
أمير المؤمنين فاستغن بها، فصاح وقال: ردها، لا حاجة لي فيها، فقالت المرأة: خذها
115

ثم ضعها في موضعها، فقال: مالي شئ أجعلها فيه! فشقت أسفل درعها (1) فأعطته خرقه
فشدها فيها، ثم خرج فقسمها كلها بين أبناء الشهداء والفقراء فجاء الحارث إلى عمر فأخبره،
فقال: رحم الله عميرا! ثم لم يلبث ان هلك، فعظم مهلكه على عمر، وخرج مع رهط من
أصحابه ماشين إلى بقيع الغرقد، فقال لأصحابه: ليتمنين كل واحد منا أمنيته، فكل واحد تمنى شيئا، وانتهت الأمنية إلى عمر، فقال: وددت أن لي رجلا مثل عمير بن سعد استعين به
على أمور المسلمين!
* * *
[نبذ من كلام عمر]
ومن كلام عمر: إياكم وهذه المجازر، فان لها ضراوة كضراوة الخمر.
وقال: إياكم والراحة فإنها غفلة.
وقال: السمن غفلة.
وقال: لا تسكنوا نساءكم الغرف، ولا تعلموهن الكتابة، واستعينوا عليهن بالعرى
وعودوهن قول (لا) فإن (نعم) تجرئهن على المسألة.
وقال: تبين عقل المرء في كل شئ، حتى في علته، فإذا رأيته يتوقى على نفسه الصبر
عن شهوته، ويحتمي من مطعمه ومشربه، عرفت ذلك في عقله، وما سألني رجل عن
شئ قط الا تبين لي عقله في ذلك.
وقال: إن للناس حدودا ومنازل، فانزلوا كل رجل منزلته، وضعوا كل انسان في
حده، واحملوا كل امرئ بفعله على قدره.
وقال: اعتبروا عزيمة الرجل بحميته، وعقله بمتاع بيته. قال أبو عثمان الجاحظ: لأنه

(1) الدرع: القميص.
116

ليس من العقل أن يكون فرشه لبدا ومرقعته طبرية.
وقال: من يئس من شئ استغنى عنه، وعز المؤمن استغناؤه عن الناس.
وقال: لا يقوم بأمر الله الا من لا يصانع، ولا يصارع ولا يتبع المطامع.
وقال: لا تضعفوا همتكم فإني لم أر شيئا اقعد برجل عن مكرمة من
ضعف همته.
ووعظ رجلا فقال: لا تلهك الناس عن نفسك، فان الأمور إليك تصل دونهم،
ولا تقطع النهار سادرا، فإنه محفوظ عليك، فإذا أسأت فأحسن، فإني لم أر شيئا أشد
طلبا، ولا أسرع إدراكا من حسنة حديثة لذنب قديم.
وقال: احذر من فلتات السباب، وكل ما أورثك النبز (1) وأعلقك اللقب،
فإنه إن يعظم بعده شأنك يشتد على ذلك ندمك.
وقال: كل عمل كرهت من اجله الموت فاتركه، ثم لا يضرك متى مت.
وقال: أقلل من الدين تعش حرا، واقلل من الذنوب يهن عليك الموت، وانظر
في أي نصاب تضع ولدك، فإن العرق دساس.
وقال: ترك الخطيئة أسهل من معالجة التوبة.
وقال: احذروا النعمة حذركم المعصية، وهي أخفهما عليكم عندي.
وقال: احذروا عاقبة الفراغ، فإنه أجمع لأبواب المكروه من السكر.
وقال، أجود الناس من يجود على من لا يرجو ثوابه، وأحلمهم من عفا بعد
القدرة، وأبخلهم من بخل بالسلام، وأعجزهم من عجز في دعائه.
وقال: رب نظرة زرعت شهوة، ورب شهوة أورثت حزنا دائما.

(1) النبز: اللقب المعيب، ومنه قوله تعالى: (ولا تنابزوا بالألقاب).
117

وقال: ثلاث خصال من لم تكن فيه لم ينفعه الايمان: حلم يرد به جهل الجاهل،
وورع يحجزه عن المحارم، وخلق يدارى به الناس.
* * *
[اخبار عمر مع عمرو بن معديكرب]
وذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتاب " مقاتل الفرسان " أن سعد بن أبي
وقاص أوفد عمرو بن معديكرب بعد فتح القادسية إلى عمر، فسأله عمر عن سعد: كيف
تركته، وكيف رضا الناس عنه؟ فقال: يا أمير المؤمنين، هو لهم كالأب يجمع لهم
جمع الذرة، اعرابي في نمرته (1)، أسد في تامورته (2) نبطي في جبايته، يقسم
بالسوية، ويعدل في القضية، وينفر في السرية.
وكان سعد كتب يثنى على عمرو، فقال عمر: لكأنما تعاوضتما الثناء! كتب
يثنى عليك وقدمت تثنى عليه! فقال: لم أثن الا بما رأيت، قال دع عنك سعدا،
وأخبرني عن مذحج قومك.
قال، في كل فضل وخير، قال: ما قولك في علة بن خالد؟ قال: أولئك فوارس
أعراضنا، أحثنا طلبا، وأقلنا هربا، قال: فسعد العشيرة؟ قال: أعظمنا خميسا (3)
وأكبرنا رئيسا، وأشدنا شريسا (4). قال: فالحارث بن كعب؟ قال: حكمة
لا ترام قال: فمراد؟ قال: الأتقياء البررة والمساعير الفجرة، ألزمنا قرارا،
وأبعدنا آثارا.

(1) النمرة: بردة من صوف يلبسها الاعراب.
(2) قال في اللسان: (وسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمرو بن معديكرب عن سعد فقال: أسد
في تامورته، أي في عرينه، وهو بيت الأسد الذي يكون فيه،. وفي في الأصل الصومعة. فاستعارها للأسد).
(3) الخميس: الجيش.
(4) شريسا، أي شراسة.
118

قال: فأخبرني عن الحرب، قال: مرة المذاق، إذا قلصت عن ساق، من صبر
فيها عرف، ومن ضعف عنها تلف، وإنها لكما قال الشاعر:
الحرب أول ما تكون فتية * تسعى بزينتها لكل جهول (1)
حتى إذا استعرت وشب ضرامها * عادت عجوزا غير ذات حليل
شمطاء جزت رأسها وتنكرت * مكروهة للشم والتقبيل.
قال فأخبرني عن السلاح، قال: سل عما شئت منه، قال: الرمح؟ قال: أخوك
وربما خانك، قال النبل؟ قال: منايا تخطئ وتصيب قال الترس؟ قال: ذاك
المجن وعليه تدور الدوائر، قال: الدرع؟ قال: مشغلة للراكب (2) متعبة للراجل
وانها لحصن حصين. قال: السيف؟ قال: هناك قارعت أمك الهبل، قال: بل أمك
قال: بل أمي والحمى أضرعتني (3) لك (4).
* * *
عرض سليمان بن ربيعة الباهلي جنده بأرمينية، فكان لا يقبل من الخيل الا عتيقا،
فمر عمرو بن معديكرب بفرس غليظ، فرده وقال: هذا هجين، قال عمرو: انه ليس
بهجين، ولكنه غليظ، قال: بل هو هجين، فقال عمرو: ان الهجين ليعرف الهجين.
فكتب بكلمته إلى عمر، فكتب إليه: اما بعد يا بن معديكرب، فإنك القائل لأميرك
ما قلت، فإنه بلغني ان عندك سيفا تسميه الصمصامة، وأن عندي سيفا اسميه مصمما،
وأقسم بالله لئن وضعته بين أذنيك لا يقلع حتى يبلغ قحفك.

(1) تنسب هذه الأبيات لامرئ القيس، ديوانه 353.
(2) في العقد: (مثقلة للراكب متعبة للفارس).
(3) أراد أن الاسلام قيده، ولو كان في الجاهلية ما استطاع عمر أن يكلمه بهذا الكلام.
(4) الخبر في العقد 1: 210، عيون الأخبار 1: 130
119

وكتب إلى سليمان بن ربيعة يلومه في حلمه عنه، فلما قرأ عمرو الكتاب، قال: من
ترونه يعنى؟ قالوا: أنت اعلم، قال هددني بعلي والله، وقد كان صلى بناره مرة في حياة
رسول الله صلى الله عليه وآله، وأفلت من يده بجريعة (1) الذقن، وذلك حين ارتدت
مذحج، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله أمر عليها فروة بن مسيك المرادي، فأساء
السيرة، و نابذ عمرو بن معد يكرب ففارقه في كثير من قبائل مذحج فاستجاش فروة
عليه و عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله، فأرسل خالد بن سعيد بن العاص في سرية
وخالد بن الوليد بعده في سرية ثانية وعلي بن أبي طالب عليه السلام في سرية ثالثة
وكتب إليهم كل واحد منكم أمير من معه فإذا اجتمعتم فعلى أمير على الكل
فاجتمعوا بموضع من أرض اليمن يقال له (كسر) فاقتتلوا هناك وصمد عمرو بن معد يكرب
لعلى عليه السلام - وكان يظن أن لا يثبت له أحد من شجعان العرب - فثبت له
فعلا عليه وعاين منه ما لم يكن يحتسبه ففر من بين يديه هاربا ناجيا بحشاشة نفسه بعد
أن كاد يقتله وفر معه رؤساء مذحج وفرسانهم وغنم المسلمون أموالهم وسبيت ذلك
اليوم ريحانه بنت معد يكرب أخت عمرو فأدى خالد بن سعيد بن العاص فداءها من
ماله فأصابه عمرو أخوها الصمصامة فلم يزل ينتقل في بنى أمية ويتداولونه واحدا بعد
واحد حتى صار إلى بنى العباس في أيام المهدى محمد بن المنصور أبى جعفر
* * *
[فصل فيما نقل عن عمر من الكلمات الغريبة]
فأما ما نقل عن عمر من الألفاظ الغريبة اللغوية التي شرحها المفسرون فنحن نذكر
من ذلك ما يليق بهذا الكتاب.

(1) أي قرب الموت منه كقرب الجريعة من الذقن، وذلك إذا أشرف على التلف ثم نجا، وهذا مثل
يضرب في إفلات الجبان. والجريعة: بقية الروح. وانظر الميداني 2: 69.
120

قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه: روى عبد الرحمن بن أبي زيد
عن عمران بن سودة الليثي، قال: صليت الصبح مع عمر، فقرأ (سبحان) وسورة معها
ثم انصرف، فقمت معه فقال أحاجة؟ قلت: حاجة قال: فالحق فلحقت، فلما
دخل أذن فإذا هو على رمال (1) سرير ليس فوقه شئ، فقلت: نصيحة! قال:
مرحبا بالناصح غدوا وعشيا قلت عابت أمتك - أو قال رعيتك - عليك أربعا
قال: فوضع عود الدرة ثم ذقن عليها - هكذا روى ابن قتيبة - وقال: أبو جعفر (فوضع
رأس درته في ذقنه) ووضع أسفلها على فخذه، وقال هات - قال: ذكروا أنك حرمت
المتعة في أشهر الحج - وزاد أبو جعفر (وهي حلال) - ولم يحرمها (2) رسول الله صلى الله
عليه وآله ولا أبو بكر فقال: أجل! إنكم إذا اعتمرتم في أشهر حجكم رأيتموها مجزئة
عن حجكم فقرع حجكم وكانت قابية قوب عامها والحج بهاء من بهاء الله وقد
أصبت قال: وذكروا أنك حرمت متعة النساء وقد كان رخصة من الله نستمتع
بقبضة ونفارق عن ثلاث، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله أحلها في زمان
ضرورة ورجع الناس إلى السعة ثم لم أعلم أحدا من المسلمين عاد إليها ولا عمل بها
فالآن من شاء نكح بقبضة وفارق عن ثلاث بطلاق وقد أصبت.
وقال ذكروا أنك أعتقت الأمة إذا وضعت ذا بطنها بغير عتاقة سيدها. قال: ألحقت
حرمة بحرمة وما أردت إلا الخير واستغفر الله.
قال وشكوا منك عنف السياق ونهر الرعية قال: فنزع الدرة ثم مسحها حتى
أتى على سيورها، وقال: وأنا زميل محمد رسول الله صلى الله عليه وآله في غزاة قرقرة

(1) ساقطة من تاريخ الطبري.
(2) الطبري: (ولم يفعل ذلك).
121

الكدر فوالله إني لأرتع فأشبع وأسقي فأروي وإني لأضرب العروض
وأزجر العجول وأؤدب قدري وأسوق خطوتي وأرد اللفوت وأضم العنود
وأكثر الضجر وأقل الضرب، وأشهر بالعصا وأدفع باليد ولولا ذلك لأعذرت.
قال أبو جعفر: فكان معاوية إذا حدث بهذا الحديث يقول: كان والله عالما برعيته.
قال ابن قتيبة: رملت السرير وأرملته إذا نسجته بشريط من خوص أو ليف.
وذقن عليها، أي وضع عليها ذقنه يستمع الحديث.
وقوله فقرع حجكم، أي خلت أيام الحج من الناس، وكانوا يتعوذون من قرع
الفناء وذلك ألا يكون عليه غاشية وزوار ومن قرع المراح وذلك ألا يكون فيه إبل.
والقابية قشر البيضة إذا خرج منها الفرخ.
والقوب الفرخ، قال الكميت:
لهن وللمشيب ومن علاه * من الأمثال قابية وقوب.
أراد أن النساء ينفرن من ذي الشيب ويفارقنه كما يفارق الفرخ البيضة فلا يعود
إليها بعد خروجه منها أبدا وروى عن عمر إنكم إذا رأيتم العمرة في أشهر الحج كافية
من الحج خلت مكة من الحجاج فكانت كبيضة فارقها فرخها
قوله (إني لأرتع فأشبع وأسقى فأروي) مثل مستعار من رعيت الإبل أي إذا
أرتعت الإبل أي أرسلتها ترعى تركتها حتى تشبع وإذا سقيتها تركتها حتى تروى.
وقوله (أضرب العروض) العروض الناقة تأخذ يمينا وشمالا ولا تلزم
المحجة يقول أضربها حتى تعود إلى الطريق. ومثله قوله: (وأضم العنود).
والعجول: البعير يند عن الإبل، يركب رأسه عجلا ويستقبلها.

(1) تاريخ الطبري 4: 225 (طبعة المعارف)
122

قوله (وأؤدب قدري) أي قدر طاقتي.
وقوله: (وأسوق خطوتي) أي قدر خطوتي.
واللفوت: البعير يلتفت يمينا وشمالا ويروغ.
وقوله: (وأكثر الزجر وأقل الضرب) أي أنه يقتصر من التأديب في السياسة على
ما يكتفى به حتى يضطر إلى ما هو أشد منه وأغلظ.
وقوله: (وأشهر بالعصا وأدفع باليد) يريد أنه يرفع العصا يرهب بها ولا يستعملها
ولكنه يدفع بيده.
قوله: (ولولا ذلك لأعذرت) أي لولا هذا التدبير وهذه السياسة لخلفت بعض
ما أسوق ويقال أعذر الراعي الشاة والناقة إذا تركها والشاة العذيرة وعذرت هي
إذا تخلفت عن الغنم.
قال ابن قتيبة، وهذه أمثال ضربها وأصلها في رعية الإبل وسوقها، وإنما يريد
بها حسن سياسته للناس في الغزاة التي ذكرها، يقول فإذا كنت أفعل كذا في أيام
رسول الله صلى الله عليه وآله مع طاعة الناس له وتعظيمهم إياه فكيف لا أفعله بعده!.
وعندي أن ابن قتيبة غالط في هذا التأويل وليس في كلام عمر ما يدل على ذلك وليس
عمر في غزاة قرقرة الكدر يسوس الناس ولا يأمرهم ولا ينهاهم، وكيف ورسول الله صلى
الله عليه وآله حاضر بينهم! ولا كان في غزاة قرقرة الكدر حرب ولا ما يحتاج فيه إلى
السياسة وهل كان لعمر أو لغير عمر ورسول الله صلى الله عليه وآله حي أن يرتع فيشبع
ويسقى فيروى! وهل تكون هذه الصفات وما بعدها إلا للرئيس الأعظم! والذي أراده عمر
ذكر حاله في خلافته رادا على عمران بن سوادة في قوله: (إن الرعية يشكون منك عنف
السياق وشدة النهر)، فقال: ليشكون! فوالله إني لرفيق بهم ومستقص في سياستهم،
123

ولا ناهك لهم عقوبة، وإني لأقنع بالهيبة والتهويل عليهم، ولا أعمل العصا حيث يمكنني
الاكتفاء باليد وإني أرد الشارد منهم وأعدل المائل...، إلى غير ذلك من الأمور
التي عددها وأحسن في تعديدها.
وإنما ذكر قوله: (أنا زميل رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة قرقرة الكدر) الكدر
على عادة العرب في الافتخار وقت المنافرة وعند ما تجيش النفس ويحمى القلب كما كان
علي عليه السلام يقول وقت الحاجة: (أنا عبد الله وأخو رسوله)، فيذكر أشرف أحواله
و المزية التي اختص بها عن غيره، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة قرقرة
الكدر أردف عمر معه على بعيره فكان عمر يفخر بها ويذكرها وقت الحاجة إليها.
* * *
وفى حديث عمر أنه خرج من الخلاء فدعا بطعام فقيل له: ألا تتوضأ فقال: لولا
التنطس ما باليت ألا أغسل يدي (1).
قال أبو عبيد القاسم بن سلام: قال ابن علية: التنطس التقذر وقال الأصمعي: هو
المبالغة في التطهر، فكل من أدق النظر في الأمور فاستقصى علمها فهو متنطس ومنه قيل
للطبيب: النطاسي والنطيس لدقة علمه بالطب.
* * *
وفى حديث عمر حين سأل الأسقف عن الخلفاء فحدثه حتى إذا انتهى إلى الرابع
فقال صدع من حديد، وقال عمر: وا دفراه (2).
قال أبو عبيدة، قال الأصمعي: كان حماد بن سلمة يقول: (صدأ من حديد وهذا أشبه
بالمعنى لان الصدأ له دفر وهو النتن، والصدع لا دفر له وقيل للدنيا أم دفر لما فيها من
الدواهي والآفات فأما الذفر بالذال المعجمة وفتح الفاء فهو الريح الذكية من طيب أو نتن.

(1) الفائق 3: 104
(2) نهاية ابن الأثير 2: 26.
124

عندي في هذا الحديث كلام والأظهر أن الرواية المشهورة هي الصحيحة وهي قوله:
(صدع من حديد) ولكن بفتح الدال وهو ما كان من الوعول، بين العظيم والشخت فان ثبتت الرواية بتسكين الدال فغير ممتنع أيضا يقال، رجل صدع إذا
كان ضربا من الرجال ليس برهل ولا غليظ.
ورابع الخلفاء هو علي بن أبي طالب عليه السلام وأراد بالأسقف مدحه.
وقول عمر (وا دفراه!) إشارة إلى نفسه كأنه استصغر نفسه وعابها بالنسبة إلى ما وصفه
الأسقف من مدح الرابع وإطرائه.
فأما تأويل أبى عبيدة فإنه ظن أن الرابع عثمان وجعل رسول الله صلى الله عليه وآله
معدودا من الجملة ليصح كون عثمان رابعا وجعل الدفر والنتن له وصرف اللفظ عن الرواية
المشهورة إلى غيرها فقال: (صدا حديد) ليطابق لفظة النتن على ما يليق بها فغير خاف
ما فيه من التعسف ورفض الرواية المشهورة.
وأيضا فان رسول الله صلى الله عليه وآله لا يجوز إدخاله في لفظ الخلفاء لأنه ليس
بخليفة لان الخليفة من يخلف غيره ورسول الله صلى الله عليه وآله مستخلف الناس
كلهم ليس بخليفة لأحد.
* * *
وفي حديث عمر، قال عند موته: (لو أن لي ما في الأرض جميعا لافتديت به
من هول المطلع) (1).
قال أبو عبيد: هو موضع الاطلاع من إشراف إلى انحدار أو من انحدار إلى اشراف
وهو من الأضداد، فشبه ما أشرف عليه من أمر الآخرة.

(1) الفائق 2: 88.
125

وفى حديث عمر حين بعث حذيفة وابن حنيف إلى السواد ففلجا الجزية
على أهله (1).
قال أبو عبيد: فلجا أي قسما بالفلج وأصله من الفلج وهو المكيال الذي يقال له
الفلج لان خراجهم كان طعاما.
* * *
وفي حديث عمر حين قال له حذيفة: إنك تستعين بالرجل الذي فيه - وبعضهم يرويه
بالرجل الفاجر فقال: (استعمله لأستعين بقوته ثم أكون على قفانه) (2).
قال أبو عبيد عن الأصمعي: قفان كل شئ جماعة واستقصاء معرفته، يقول: أكون
على تتبع أمره حتى أستقصي عمله وأعرفه.
قال أبو عبيد: ولا أحسب هذه الكلمة عربية وإنما أصلها (قبان) ومنه قول
العامة فلان قبان على فلان إذا كان بمنزلة الأمين عليه والرئيس الذي يتتبع أمره
ويحاسبه وبه سمى هذا الميزان الذي يقال له القبان.
* * *
وفي حديث عمر حين قال لابن عباس، وقد شاوره في شئ فأعجبه كلامه نشنشه [أعرفها]
من أخشن هكذا الرواية وأما أهل العلم فيقولون: (شنشنة أعرفها من أخزم) (3).
والشنشنة في بعض الأحوال قد تكون بمعنى المضغة أو القطعة تقطع من اللحم والقول
المشهور أن الشنشنة مثل الطبيعة والسجية فأراد عمر إني أعرف فيك مشابه من أبيك
في رأيه ويقال: إنه لم يكن لقرشي مثل رأى العباس.
قال: وقد قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: يجوز (شنشنة) و (نشنشة) وغيره
ينكر (نشنشة).

(1) الفائق 2: 269.
(2) النهاية 3: 296. والفائق 2: 365.
(3) والنهاية 2: 238
126

وفى حديث عمر يوم السقيفة، قال: (وقد كنت زورت في نفسي قالة أقوم بها
بين يدي أبى بكر فلم يترك أبو بكر شيئا مما زورته إلا تكلم به).
قال أبو عبيد: التزوير إصلاح الكلام وتهيئته كالتزويق (1).
* * *
وفي حديث عمر حين ضرب الرجل الذي أقسم على أم سلمة ثلاثين سوطا كلها
تبضع وتحدر (2).
قال أبو عبيد: أي تشق وتورم حدر الجلد يحدره وأحدره غيره.
* * *
وفي حديثه أنه قال لمؤذن بيت المقدس: (إذا أذنت فترسل) وإذا أقمت فاحذم (3).
قال أبو عبيدة: الحذم بالحاء المهملة الحدر في الإقامة وقطع التطويل وأصله في المشي
وهو الاسراع فيه وأن يكون مع هذا كأنه يهوى بيده إلى خلفه والجذم بالجيم أيضا
القطع وكذلك الخذم بالخاء المعجمة.
* * *
وفى حديثه أنه قال: (لا يقر رجل أنه كان يطأ جاريته إلا ألحقت به ولدها
فمن شاء فليمسكها ومن شاء فليرسلها).
قال أبو عبيد: هكذا الرواية بالسين المهملة والمعروف أنه (الإرشال) بالشين المعجمة
ولعله حول الشين إلى السين كما يقال سمت العاطش أي شمته
* * *
وفي حديثه: (كذب عليكم الحج كذب عليكم العمرة كذب عليكم الجهاد ثلاثة
أسفار كذبت عليكم (4).

(1) النهاية 2: 134
(2) النهاية 2: 83
(3) النهاية 1: 210.
(4) الفائق 2: 401، نهاية ابن الأثير 4: 12، اللسان (كذب).
127

قال أبو عبيد: معنى كذب عليكم الاغراء أي عليكم به وكان الأصل في هذا
أن يكون نصبا ولكنه جاء عنهم بالرفع شاذا على غير قياس ومما يحقق أنه مرفوع
قول الشاعر
كذبت عليك لا تزال تقوفني * كما قاف آثار الوثيقة قائف
فقوله (كذبت عليك) إنما أغراه بنفسه أي عليك بي فجعل (نفسه) في
موضع رفع ألا تراه قد جاء بالباء فجعلها اسمه.
وقال معقر بن حمار البارقي:
وذبيانية وصت بنيها * بأن كذب القراطف والقروف (1)
فرفع والشعر مرفوع ومعناه عليكم بالقراطف والقروف والقراطف القطف
واحدها قرطف والقروف الأوعية.
ومما يحقق الرفع أيضا قول عمر (كذبت عليكم) قال أبو عبيد: ولم أسمع النصب
في هذا إلا حرفا كان أبو عبيد يحكيه عن أعرابي نظر إلى ناقة نضو (2) لرجل، فقال:
كذب عليك البزر والنوى (2) لم أسمع في هذا نصبا غير هذا الحرف.
قال: والعرب تقول للمريض كذب عليك العسل (4) بالرفع أي عليك به.
* * *
وفي حديثه (ما يمنعكم إذا رأيتم الرجل يخرق أعراض الناس ألا تعربوا عليه)؟
قالوا نخاف لسانه، قال: (ذاك ألا تكونوا شهداء) (5).
قال أبو عبيد: (ألا تعربوا) أي إلا تفسدوا عليه كلامه وتقبحوه له.
* * *
وفي حديثه، أنه نهى عن الفرس في الذبيحة (6)

(1) الفائق 2: 401، اللسان 2: 205
(2) نضو: هزيلة.
(3) اللسان (كذب).
(4) اللسان (الكذب).
(5) الفائق 2: 134.
(6) الفائق 2: 265.
128

قال أبو عبيد: قيل في تفسيره: أن ينتهى بالذبح إلى النخاع وهو عظم في الرقبة
وربما فسر النخاع بأنه المخ الذي في فقار الصلب متصلا بالقفا، فنهى أن ينتهى بالذبح
إلى ذلك.
وقيل في تفسيره أيضا أن يكسر رقبة الذبيحة قبل أن تبرد ويؤكد هذا التفسير
قوله في تمام الحديث (ولا تعجلوا الأنفس حتى تزهق).
* * *
وفى حديثه حين أتاه رجل يسأله أيام المحل، فقال له: هلكت وأهلكت، فقال
عمر: (أهلكت وأنت تنث نثيث الحميت، أعطوه ربعه من الصدقة) فخرجت
يتبعها ظئراها (1).
قال أبو عبيد: قد روى تمث بالميم والمحفوظ بالنون وتنث أي ترشح
وتعرق من سمنك وكثرة لحمك.
والحميت: النحى وفيه الرب أو السمن أو نحوها والربعة ما ولد في أول النتاج
والذكر ربع.
* * *
وفى حديثه أنه خرج إلى المسجد للاستسقاء فصعد المنبر، فلم يزد على الاستغفار حتى
نزل فقيل: إنك لم تستسق، فقال: (لقد استسقيت بمجاديح السماء) (3).
قال أبو عبيد: جعل الاستغفار استسقاء تأول فيه قوله تعالى (استغفروا ربكم
إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا) (4) والمجاديح: جمع مجدح وهو
النجم الذي كانت العرب تزعم أنها تمطر به ويقال مجدح بضم الميم وإنما قال عمر:
ذلك على أنها كلمة جارية على ألسنة العرب ليس على تحقيق الأنواء ولا التصديق بها

(1) النهاية لابن الأثير 4: 125، الفائق 3: 210
(2) النهاية لابن الأثير 4: 77.
(3) نهاية ابن الأثير 1: 146
(4) سورة نوح 10، 11.
129

وهذا شبيه بقول ابن عباس في رجل جعل أمر امرأته بيدها فقالت له: أنت طالق
ثلاثا فقال: خطأ الله نوءها! إلا طلقت نفسها ثلاثا! ليس هذا دعاء منه ألا تمطر
إنما ذلك على الكلام المقول.
ومما يبين أن عمر أراد إبطال الأنواء والتكذيب بها قوله: (لقد استسقيت بمجاديح
السماء) التي يستسقى بها الغيث فجعل الاستغفار هو المجاديح لا الأنواء.
* * *
وفى حديثه وهو يذكر حال صباه في الجاهلية لقد رأيتني مرة وأختا لي نرعى
على أبوينا ناضحا لنا قد ألبستنا أمنا نقبتها وزودتنا يمينتيها من الهبيد فنخرج
بناضحنا فإذا طلعت الشمس ألقيت النقبة إلى أختي وخرجت أسعى عريان فنرجع
إلى أمنا وقد جعلت لنا لفيتة من ذلك الهبيد، فيا خصباه! (1).
قال أبو عبيد: الناضح البعير الذي يسنى عليه فيسقى به الأرض والأنثى ناضحة
وهي السانية أيضا والجمع سوان وقد سنت تسنو ولا يقال ناضح لغير المستسقى.
والنقبة أن تؤخذ القطعة من الثوب قدر السراويل فيجعل لها حجزة مخيطة من غير
نيفق (1)، وتشد كما تشد حجزة السراويل فإذا كان لها نيفق وساقان فهي سراويل.
وقال: والذي وردت به الرواية (زودتنا يمينتيها) والوجه في الكلام أن
يكون (يمينتيها) بالتشديد لأنه تصغير (يمين) بلا هاء وإنما قال: (يمينتيها) ولم
يقل: يديها ولا كفيها لأنه لم يرد أنها جمعت كفيها ثم أعطتنا بهما، وإنما أراد أنها
أعطت كل واحد كفا كفا بيمينها فهاتان يمينان.
الهبيد حب الحنظل زعموا أنه يعالج حتى يمكن أكله ويطيب

(1) الفائق 3: 211.
(2) نيفق السراويل: المتسع منها.
130

واللفتية: ضرب من الطبيخ كالحساء.
* * *
وفي حديثه: (إذا مر أحدكم بحائط فليأكل منه ولا يتخذ ثبانا) (1).
قال أبو عبيد: هو الوعاء الذي يحمل فيه الشئ فان حملته بين يديك فهو ثبان
وإن جعلته في حضنك فهي خبنة.
* * *
وفى حديثه (لو أشاء لدعوت بصلاء وصناب وصلائق وكراكرة وأسنمة وأفلاذ) (2).
قال أبو عبيد: الصلاء: الشواء. والصناب الخردل بالزبيب. والصلائق الخبز: الرقيق
ومن رواه (سلائق) بالسين أراد ما يسلق من البقول وغيرها والكراكر كراكر الإبل
والأفلاذ جمع فلذ وهو القطعة من الكبد.
* * *
وفى حديثه (لو شئت أن يدهمق لي لفعلت) (3)
قال أبو عبيد: دهمقت الطعام إذا لينته ورققته وطيبته.
* * *
وفى حديثه (لئن بقيت لأسوين بين الناس حتى يأتي الراعي حقه في صفنه لم
يعرق جبينه) (4).
الصفن خريطة للراعي فيها طعامه وما يحتاج إليه. وروى بفتح الصاد ويقال
أيضا (في صفينه).

(1) الفائق 1: 142
(2) الفائق 2: 34
(3) الفائق 1: 421
(4) النهاية 2: 268
131

وفى حديثه (لئن بقيت إلى قابل ليأتين كل مسلم حقه حتى يأتي الراعي بسرو
حمير لم يعرق جبينه (1)).
السرو مثل الخيف وهو ما انحدر عن الجبل وارتفع عن المسيل.
* * *
وفى حديثه (لئن عشت إلى قابل لألحقن آخر الناس بأولهم حتى يكونوا
ببانا واحدا (2)).
قال أبو عبيد: قال ابن مهدي: يعنى شيئا واحدا ولا أحسب هذه الكلمة عربية
ولم أسمعها في غير هذا الحديث.
* * *
وفي حديثه أنه خطب فقال: (ألا أن الأسيفع (2) - أسيفع جهينة (3) - رضى من
دينه وأمانته بأن يقال سابق الحاج أو قال: سبق الحاج - فادان معرضا فأصبح قد
رين به فمن كان له عليه دين فليغد بالغداة فلنقسم ماله بينهم بالحصص) (4).
قوله (فأدان معرضا) أي استدان معرضا، وهو الذي يعترض الناس فيستدين
ممن أمكنه، وكل شئ أمكنك من عرضه فهو معرض لك كقوله (والبحر معرضا
والسدير) (5).
ورين بالرجل إذا وقع فيما لا يمكنه الخروج منه

(1) النهاية لابن الأثير، والخبر هناك: (لولا أن أترك الناس بيانا واحدا ما فتحت على قرية إلا
قسمتها)، أي أتركهم شيئا واحدا.
(2) قال الزمخشري: (الأسيفع تصغير الأسفع، صفة وعلما).
(3) جهينة: من بطون قضاعة.
(4) الفائق 1: 600.
(5) قطعة من بيت لعدي بن زيد، والبيت بتمامه:
سره ماله وكثرة ما يملك والبحر معرضا والسدير.
132

منه. وفى حديثه أنه قال لمولاه أسلم - ورآه يحمل متاعه على بعير من إبل الصدقة -
فقال: (فهلا ناقة شصوصا أو ابن لبون بوالا!).
الشصوص: التي قد ذهب لبنها ووصف ابن اللبون بالبول وإن كانت كلها
تبول إنما أراد: ليس عنده سوى البول أي ليس عنده مما ينتفع به من ظهر ولا له
ضرع فيحلب لا يزيد على أنه بوال فقط.
* * *
وفى حديثه حين قيل له: إن النساء قد اجتمعن يبكين على خالد بن الوليد فقال:
(وما على نساء بنى المغيرة أن يسفكن من دموعهن على أبى سليمان، ما لم يكن نقع
ولا لقلقة!).
قيل النقع هاهنا طعام المأتم والأشبه أن النقع رفع الصوت واللقلقة مثله.
* * *
وفى حديثه: أن سلمان بن ربيعه الباهلي شكا إليه عاملا من عماله، فضربه بالدرة
حتى أنهج (3).
قال أبو عبيد: أي أصابه النفس والبهر من الإعياء.
وفى حديثه حين قدم عليه أحد بنى ثور فقال له: هل من مغربة خبر؟ فقال:
نعم أخذنا رجلا من العرب، كفر بعد إسلامه فقدمناه فضربنا عنقه، فقال: فهلا
أدخلتموه جوف بيت فألقيتم إليه كل يوم رغيفا ثلاثة أيام، لعله يتوب أو يراجع!
اللهم لم أشهد ولم آمر، ولم أرض إذ بلغني) (4).

(1) الفائق 1: 658
(2) نهاية ابن الأثير 4: 64، 172.
(3) نهاية ابن الأثير 4: 185، وقال في شرحه: (أي وقع عليه الربو - يعني عمر).
(4) الفائق 2: 221
133

يقال هل من مغربة خبر بكسر الراء ويروى بفتحها وأصله البعد ومنه
شاو مغرب.
* * *
وفى حديثه أنه قال: آلله ليضربن أحدكم أخاه بمثل آكلة اللحم ثم يرى أنه
لا أقيده والله (1) لأقيدنه (2).
قال أبو عبيد: آكلة اللحم: عصا محددة.
* * *
وفى حديثه (أعضل بي (3) أهل الكوفة ما يرضون بأمير ولا يرضاهم أمير (4))
هو من العضال وهو الداء والامر الشديد الذي لا يقوم له صاحبه (3).
* * *
وفى حديثه أنه خطب فذكر الربا فقال: (إن منه أبوابا لا تخفى على أحد
منها السلم في السن وأن تباع الثمرة وهي مغضفة ولما تطب وأن يباع الذهب
بالورق نساء (5).
قال أبو عبيد: السلم في السن أن يسف الرجل في الرقيق والدواب وغيرها من
الحيوان لأنه ليس له حد معلوم.
والمغضفة المتدلية في شجرها وكل مسترخ أغضف أي تكون غير مدركة.
* * *
وفى حديثه أنه خطب فقال: ألا لا تغالوا في صداق النساء فان الرجل يغالي بصداق
المرأة حتى يكون ذلك لها في قلبه عداوة تقول جشمت إليك عرق القربة (6).

(1) في الفائق: (الله) بالجر، قال: وأصله: (أبالله)، فأضمر الباء
(2) الفائق 1: 38.
(3) وفي رواية نقلها الزمخشري: (غلبني أهل الكوفة).
(4) الفائق 2: 163، وتمام الرواية: (أستعمل عليهم المؤمن فيضعف، وأستعمل عليهم الفاجر
فيفجر).
(5) نهاية ابن الأثير 3: 164، والفائق 1: 618.
(6) الفائق 2: 135
134

قال: معناه تكلفت لك حتى عرقت عرق القربة وعرقها: سيلان مائها
* * *
وفى حديثه: أنه رفع إليه غلام ابتهر جارية في شعره فقال: (انظروا إليه فلم
يوجد أنبت فدرأ عنه الحد (1).
قال أبو عبيد: ابتهرها أي قذفها بنفسه، فقال: فعلت بها.
* * *
وفى حديثه أنه قضى في الأرنب بحلان إذا قتلها المحرم (2).
قال: الحلان الجدي.
* * *
وفي حديثه أنه قال: (حجة هاهنا، ثم أحدج هاهنا حتى تفنى) (3).
قال: يأمر بحجة الاسلام لا غير ثم بعدها الغزو في سبيل الله.
حتى تفنى أي حتى تهرم.
* * *
وفي حديثه: أنه سافر في عقب رمضان، وقال: (إن الشهر قد تسعسع، فلو صمنا
بقيته) (4).
قال أبو عبيد: السين مكررة مهملة والعين مهملة أي أدبر وفنى.
وفى حديثه - وقد سمع رجلا خطب فأكثر - فقال: (إن كثيرا من الخطب من
شقاشق الشيطان) (5).
الواحدة شقشقة وهو ما يخرج من شدق الفحل عند نزوانه شبيهة بالرئة والشيطان (5)

(1) النهاية 1: 100
(2) الفائق 1: 286
(3) النهاية 1: 208
(4) الفائق 2: 175
(5) الفائق 1: 671.
135

لا شقشقة له إنما هذا مثل لما يدخل في الخطب من الكلام المكذوب وتزوير الباطل.
* * *
وفى حديثه: أنه قدم مكة فأذن أبو محذورة فرفع صوته فقال له: (أما خشيت
يا أبا محذورة أن ينشق مريطاؤك (1)!).
قال: المريطاء ما بين السرة إلى العانة ويروى بالقصر.
* * *
وفى حديثه: أنه سئل عن المذي، فقال هو الفطر وفيه الوضوء (2).
قال: سماه فطرا (3) من قولهم: فطرت الناقة فطرا إذا حلبتها بأطراف الأصابع فلا
يخرج اللبن إلا قليلا وكذلك المذي وليس المنى كذلك لأنه يخرج منه مقدار كثير.
* * *
وفى حديثه: أنه سئل عن حد الأمة الزانية فقال: (إن الأمة ألقت فروة رأسها
من وراء الدار) (4).
قال: الفروة: جلدة الرأس، وهذا مثل إنما أراد أنها ألقت القناع وتركت
الحجاب وخرجت إلى حيث لا يمكنها أن تمتنع من الفجور نحو رعاية الغنم فكأنه
يرى أن لأحد عليها.
* * *
وفى حديثه أنه أتى بشارب فقال لأبعثنك إلى رجل لا تأخذه فيك هوادة فبعث
به إلى مطيع بن الأسود العدوي (5)، فقال: إذا أصبحت غدا فاضربه الحد فجاء عمر

(1) الفائق 3: 20
(2) الفائق 2: 286
(3) قال الزمخشري: وروى (الفطر) بالضم
(4) الفائق 2: 265.
(5) الفائق: (العبدي).
136

وهو يضربه ضربا شديدا فقال: قتلت الرجل كم ضربته؟ قال ستين، قال
(أقص عنه بعشرين (1)).
قال: معناه اجعل شدة هذا الضرب قصاصا بالعشرين التي بقيت من الحد فلا
تضربه إياها.
* * *
وفي حديثه أن رجلا أتاه فذكر له أن شهادة الزور قد كثرت في أرضهم، فقال
(لا يؤسر أحد في الاسلام بشهادة (2) الزور فانا لا نقبل إلا العدول) (3).
قال لا يؤسر لا يحبس ومنه الأسير المسجون.
* * *
وفى حديثه: أنه جدب السمر بعد عتمة (4).
جدبه (5) أي عابه ووصمه.
ومثل هذا الحديث في كراهيته السمر حديثه الاخر أنه كان ينش الناس بعد
العشاء بالدرة ويقول انصرفوا إلى بيوتكم (6).
قال: هكذا روى بالشين المعجمة وقيل إن الصحيح (ينس) بالسين المهملة
والأظهر أنه ينوش الناس بالواو، من التناوش قال تعالى (وأنى لهم التناوش) (7).
* * *
وفى حديثه (هاجروا ولا تهجروا واتقوا الأرنب أن يحذفها أحدكم بالعصا
ولكن ليذك لكم الأسل الرماح والنبل) (8).

(1) الفائق 3: 229
(2) الفائق: (لشهداء السوء).
(3) الفائق 1: 31.
(4) الفائق: (الثمر).
(5) الفائق 1: 164.
(6) النهاية لابن الأثير 4: 145.
(7) سورة سبأ 52.
(8) الفائق 2: 445.
137

قال: رواه زر بن حبيش قال قدمت المدينة فخرجت في يوم عيد فإذا رجل
متلبب أعسر أيسر يمشى مع الناس كأنه راكب وهو يقول كذا وكذا، فإذا هو
عمر يقول: هاجروا وأخلصوا الهجرة ولا تهجروا.
ولا تشبهوا بالمهاجرين على غير صحة منكم كقولك: تحلم الرجل، وليس بحليم
وتشجع وليس بشجاع.
والذكاة: الذبح والأسل أعم من الرماح وأكثر ما يستعمل في الرماح خاصة.
والمتلبب المتحزم بثيابه.
وفلان أعسر يسر: يعمل بكلتا يديه والذي جاء في الرواية (أيسر) بالهمزة.
* * *
وفى حديثه أنه أفطر في رمضان وهو يرى أن الشمس قد غربت ثم نظر فإذا
الشمس طالعة فقال: (لا نقضيه، ما تجانفنا فيه الاثم) (1).
يقول لم نتعمد فيه الاثم ولا ملنا إليه والجنف: الميل.
* * *
وفى حديثه: أنه قال لما مات عثمان بن مظعون على فراشه (هبنه الموت عندي منزلة
حين (2) لم يمت شهيدا فلما مات رسول الله صلى الله عليه وآله على فراشه وأبو بكر
علمت أن موت الأخيار على فرشهم (3).
هبته أي طأطأه وحط من قدره.
وفى حديثه أن رجلا من الجن لقيه فقال: هل لك أن تصارعني فإن صرعتني

(1) الفائق 1: 218.
(2) اللسان: (حيث لم يمت شهيدا).
(3) الفائق: 3: 189.
138

علمتك آية إذا قرأتها حين تدخل بيتك لم يدخله شيطان فصارعه فصرعه عمر، وقال له
إني أراك ضئيلا شخيتا كان ذراعيك ذراعا كلب أفهكذا أنتم كلكم أيها الجن أم
أنت من بينهم؟ فقال: إني من بينهم لضليع فعاودني فصارعه فصرعه الإنسي فقال:
أتقرأ آية الكرسي؟ فإنه لا يقرؤها أحد إذا دخل بيته إلا خرج الشيطان منه وله خبج
كخبج الحمار (1).
قال: رواه عبد الله بن مسعود وقال: خرج رجل من الانس، فلقيه رجل من
الجن... ثم ذكر الحديث، فقيل له هو عمر فقال: ومن عسى أن يكون إلا عمر! الشخيت النحيف الجسم ومثله الشخت.
والضليع العظيم (2) الخلق.
والخبج الضراط.
* * *
وفى حديثه أنه كان يطوف بالبيت وهو يقول: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفى
الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) (3) ماله هجيرى غيرها (4).
قال: هجيرى الرجل دأبه وديدنه وشأنه (5).
ومثلها من قول عمر: لو أطيق الاذان مع الخليقي لأذنت.
ومثلها من قول عمر بن عبد العزيز لا رد يدي في الصدقة (6) أي لا ترد.
ومثلها قول العرب: كانت بينهم رميا أي مراماة ثم حجزت بينهم حجيزي أي
محاجزة.

(1) الفائق 2: 48، 49.
(2) في الفائق: (والضليع: المجفر الجنين
الوافر الأضلاع، وقد ضلع ضلاعة.
(3) سورة البقرة 201.
(4) الفائق 3: 195.
(5) 3: 194
(6) الفائق 1: 475.
139

وفى حديثه حين قال للرجل الذي وجد منبوذا فأتاه به فقال: عسى الغوير
أبؤسا (1) قال عريفه: يا أمير المؤمنين إنه وإنه... (2) فأثنى عليه خيرا، وقال فهو حر
ولاؤه لك (3).
الا بؤس جمع بأس (4) والمثل قديم مشهور ومراد عمر: لعلك أنت صاحب هذا
المنبوذ! كأنه اتهمه وساء ظنه فيه فلما أثنى عليه عريفه - أي كفيله - قال له هذا المنبوذ
حر وولاؤه لك لأنه بانقاذه إياه من الهلكة كأنه أعتقه.
* * *
وفي حديثه إن قريشا تريد أن تكون مغويات لمال الله (5).
هكذا يروى بالتخفيف والكسر، والمعروف (مغويات) بتشديد الياء وفتحها واحدتها
مغواة هي حفرة كالزبية تحفر للذئب ويجعل فيها جدي فإذا نظر إليها الذئب سقط
يريده فيصاد ولهذا قيل: لكل مهلكة مغواة.
* * *
وفى حديثه (فرقوا عن المنية واجعلوا الرأس رأسين ولا تلثوا بدار معجزة
وأصلحوا مثاويكم وأخيفوا الهوام قبل أن تخيفكم واخشوشنوا واخشوشبوا
وتمعددوا (6)).

(1) الفائق: (الغوير ماء الكلب، وهذا مثل، أول من تكلم به الزباء الملكة حين رأت الإبل
عليها الصناديق، فاستنكرت شأن قصير إذ أخذ على غير الطريق، أرادت: عسى أن يأتي ذلك الطريق
بشر، ومراد عمر رضي الله عنه اتهام الرجل بأن يكون صاحب المنبوذ، حتى أثنى عليه عريفه خيرا).
(2) قال في الفائق: (إنه إنه، أراد أنه أمين عفيف، وما أشبه ذلك فحذف
(3) الفائق 2: 239
(4) الفائق: (انتصابه بعسى على أنه خبره على ما عليه أصل القياس).
(5) الفائق 2: 240 (6) الفائق 2: 265.
140

قال (فرقوا عن المنية واجعلوا الرأس رأسين أي إذا أراد أحدكم أن يشترى شيئا
من الحيوان كمملوك أو دابة فلا يغالين به فإنه لا يدرى ما يحدث فيه ولكن ليجعل
ثمنه في رأسين وإن كان كل واحد منهما دون الأول فان مات أحدهما بقي الاخر.
وقوله (ولا تلثوا بدار معجزة) فالإلثاث الإقامة أي لا تقيموا ببلد يعجزكم
فيه الرزق ولكن اضطربوا في البلاد للكسب.
وهذا شبيه بحديثه الاخر (إذا أتجر أحدكم في شئ ثلاث مرات فلم يرزق
منه فليدعه).
والمثاوي: المنازل جمع مثوى.
وأخيفوا الهوام أي اقتلوا ما يظهر في دوركم من الحيات والعقارب لتخافكم
فلا تظهر.
واخشوشنوا أمر بالخشونة في العيش ومثله (اخشوشبوا) بالباء أراد ابتذال النفس
في العمل والاحتفاء في المشي ليغلظ الجلد ويجسو.
وتمعددوا قيل إنه من الغلظ أيضا يقال للغلام إذا أنبت وغلظ قد تمعدد.
وقيل أراد تشبهوا بمعد بن عدنان وكانوا أهل قشف وغلظ في المعاش أي دعوا
التنعم وزي العجم.
وقد جاء عنه في حديث آخر مثله (عليكم باللبسة المعدية).
* * *
وفى حديثه: أنه كتب إلى خالد بن الوليد (أنه بلغني أنك دخلت حماما بالشام وأن
من بها من الأعاجم أعدوا لكم دلوكا عجن بخمر وإني أظنكم آل المغيرة
ذرو النار (1)).

(1) الفائق 1: 407.
141

الدلوك ما يتدلك به كالسحور والفطور ونحوهما.
وذرو النار خلق النار ويروى (ذرء النار) بالهمزة من ذرأ الله الناس أي
صورهم وأوجدهم.
* * *
وفي حديثه (املكوا العجين فإنه أحد الريعين) (1).
ملكت العجين: أجدت عجنه.
والريع الزيادة والريع الثاني ما يزيد عند خبزه في التنور
* * *
وفى حديثه حين طعن فدخل عليه ابن عباس فرآه مغتما بمن يستخلف بعده فذكر
عثمان فقال كلف بأقاربه (2) قال: فعلى؟ قال: فيه دعابة قال فطلحة؟ قال:
لولا بأو فيه قال فالزبير؟ قال: وعقه لقس (4) قال فعبد الرحمن؟ قال: أوه!
ذكرت رجلا صالحا ولكنه ضعيف وهذا الامر لا يصلح له إلا اللين من غير
ضعف والقوى من غير عنف (5) قال: فسعد (6) قال: ذاك يكون في مقنب من
مقانبكم (7).
قوله (كلف بأقاربه) أي شديد الحب لهم.
والدعابة المزاح.

(1) الفائق 1: 518.
(2) الفائق: (وروى أخشى حقده وأثرته).
(3) الفائق: الفائق: وروي أنه قال: (الأكنع قلما إن فيه بأو أو نخوة).
(4) الفائق: (وروى ضرس ضبيس أو قال: ضميس).
(5) الفائق: وروى لا يصلح أن يلي هذا الامر إلا حصيف العقدة، قليل الغرة، الشديد في غير
عنف، اللين في غير ضعف، الجواد في غير سرف، البخيل في غير وكف).
(6) ابن أبي وقاص.
(7) الفائق 4: 425، 426.
142

والبأو الكبر والعظمة.
وقوله (وعقة لقس) ويروى (ضبيس) ومعناه كله الشراسة وشد الخلق
وخبث النفس
والمقنب جماعة من الفرسان.
* * *
وفى حديثه: أنه قال عام الرمادة: لقد هممت أن أجعل مع كل أهل بيت من المسلمين
مثلهم فان الانسان لا يهلك على نصف شبعه فقال له رجل: لو فعلت يا أمير المؤمنين
ما كنت فيها ابن ثأداء.
قال: يريد أن الانسان إذا اقتصر على نصف شبعه، لم يهلك جوعا وابن ثأداء (1)
بفتح الهمزة ابن الأمة (2).
* * *
وفى حديثه أنه قرأ في صلاة الفجر بالناس سورة يوسف فلما انتهى إلى قوله تعالى:
(إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون) (3) بكى حتى سمع
نشيجه (4).
النشيج صوت البكاء يردده الصبي في صدره ولا يخرجه.
* * *
وفى حديثه أنه أتى في نساء - أو إماء - ساعيات (5) في الجاهلية فأمر بأولادهن أن
يقوموا على آبائهم فلا يسترقوا (6).

(1) في الفائق سكون الهمزة، وقال: الثأداة: الأمة، سميت بذلك لفسادها لوما ومهانة، من قولهم
ثئد المبرك على البعير، إذا انتل وفسد حتى لم يستقر عليه.
(2) الفائق 1: 141، وفيه رواية أخرى: (إن رجلا قال له عام الرمادة: لقد انكشت وما كنت
فيها ابن ثأداء، فقال: ذلك لو أنفقت عليهم من مال الخطاب).
(3) سورة يوسف: 86.
(4) النهاية لابن الأثير 4: 143.
(5) الفائق: (ساعين).
(6) الفائق 1: 595.
143

المساعاة زنا الإماء خاصة (1) قضى عمر في أولادهن في الجاهلية أن يسومن على
آبائهم بدفع الاباء قيمتهم إلى سادات الإماء ويصير الأولاد أحرارا لاحقي النسب
بآبائهم.
* * *
وفي حديثه (ليس على عربي ملك ولسنا بنازعين من يد رجل شيئا أسلم عليهم
ولكنا نقومهم الملة خمسا من الإبل) (2).
قال كانت العرب تسبى بعضها بعضا في الجاهلية فيأتي الاسلام والمسبي في يد
الانسان كالمملوك له فقضى عمر في مثل هذا أن يرد حرا إلى نسبه وتكون قيمته على
نفسه يؤديها إلى الذي سباه لأنه أسلم وهو في يده وقيمته كائنا ما كان خمس من
الإبل (3).
قوله (والملة) أي تقوم ملة الانسان وشرعها.
* * *
وفى حديثه لما ادعى الأشعث بن قيس رقاب أهل نجران لأنه كان سباهم في الجاهلية
واستعبدهم تغلبا فصاروا كمماليكه فلما أسلموا أبوا عليه فخاصموه عند عمر في رقابهم فقالوا:
يا أمير المؤمنين إنما كنا له عبيد مملكه ولم نكن عبيد قن فتغيظ عمر عليه وقال:
(أردت أن تتغفلني!) (4).
يعنى أردت غفلتي.

(1) الفائق: (ساعاها فلان، إذا فجر بها، وهو من السعي، كأن كل واحد منها يسعى
لصاحبه).
(2) النهاية: 4: 19
(3) في النهاية عن الأزهري: (كان أهل الجاهلية يطئون الإماء ويلدن لهم، فكانوا ينسبون إلي
آبائهم، وهم عرب، فرأى عمر أن يردهم على آبائهم، فيعتقون، ويأخذ من آبائهم لمواليهم عن كل واحد
خمسا من الإبل).
(4) الفائق 2: 380، وقال: (وروى أن تعنتني)، والتعنت طلب العنت.
144

وعبد قن ملك وملك أبواه وعبد مملكة بفتح اللام وضمها من غلب عليه
واستعبد وكان في الأصل حرا فقضى عمر فيهم أن صيرهم أحرارا بلا عوض لأنه ليس
بسباء على (1) الحقيقة.
* * *
وفى حديثه أنه قضى في ولد المغرور بغرة (2).
قال: هو الرجل يزوج رجلا آخر مملوكة لانسان آخر على أنها حرة فقضى عمر
أن يغرم الزوج لمولى الأمة غرة أي عبدا أو أمة ويكون ولده حرا ثم يرجع
الرجل الزوج على من غره بما غرم.
* * *
وفى حديثه أنه رأى جارية متكمكمة فسأل عنها فقالوا: أمة آل فلان فضربها
بالدرة ضربات وقال يا لكعاء أتشبهين بالحرائر (3).
قال متكمكمة لابسة قناع أصله من الكمة وهي كالقلنسوة والأصل مكممة
فأعاد الكاف كما قالوا: كفكف فلان عن كذا وتصرصر الباب.
ولكعاء ولكاع بالكسر والبناء شتم للأمة وللرجل يقال يا لكع.
* * *
وفى حديثه (ورع اللص ولا تراعه).
يقول ادفعه إذا رأيته في منزلك واكففه بما استطعت ولا تنتظر فيه شيئا وكل

(1) ا: (في الحقيقة).
(2) النهاية لابن الأثير 3: 156
(3) الفائق 2: 429
(4) نهاية ابن الأثير 4: 205
145

شئ كففته فقد ورعته وكل ما تنتظره فأنت تراعيه والمعنى أنه رخص في الاقدام
على اللص بالسلاح ونهى أن يمسك عنه نائما.
* * *
وفى حديثه أن رجلا أتاه، فقال: إن ابن عمى شج موضحة فقال أمن أهل
القرى أم من أهل البادية؟ قال من أهل البادية فقال عمر إنا لا نتعاقل المضغ بيننا (1).
قال سماها مضغا استصغارا لها ولأمثالها كالسن والإصبع.
قال ومثل ذلك لا تحمله العاقلة عند كثير من الفقهاء وكذلك كل ما كان دون الثلث.
* * *
وفي حديثه أنه لما حصب المسجد قال له فلان لم فعلت؟ قال: هو أغفر للنخامة
وألين في الموطئ (2).
أغفر لها: استر لها.
وحصب المسجد فرشه بالحصباء وهي رمل فيه حصى صغار.
* * *
وفي حديثه أن الحارث بن أوس سأله عن المرأة تطوف بالبيت ثم تنفر من غير
أن تطوف طواف الصدر إذا كانت حائضا فنهاه عمر عن ذلك فقال الحارث
كذلك أفتاني رسول الله صلى الله عليه وآله فقال عمر: أربت يداك! أتسألني وقد
سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم كي أخالفه (3)!
قال دعا عليه بقطع اليدين من قولك قطعت الشاة إربا إربا (4).

(1) الفائق 3: 168، ومضغ الأمور - كسكر - صغارها.
(2) 1: 265.
(3) الفائق 1: 23.
(4) الإرب: العضو.
146

وفى حديثه أنه سمع رجلا يتعوذ من الفتن فقال عمر: اللهم إني أعوذ بك من
الضفاطة أتسأل ربك ألا يرزقك مالا وولدا (1)!.
قال أراد قوله تعالى (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) (2) والضفاطة الحمق
وضعف العقل رجل ضفيط أي أحمق.
* * *
وفى حديثه (ما بال رجال لا يزال أحدهم كاسرا وسادة عند امرأة مغزية يتحدث
إليها وتتحد ث إليه! عليكم بالجنبة فإنها عفاف إنما النساء لجم على وضم إلا ما ذب
عنه (3).
قال: مغزية قد غزا زوجها فهو غائب عنها أغزت المرأة إذا كان بعلها غازيا
وكذلك أغابت فهي مغيبة.
وعليكم بالجنبة أي الناحية يقول تنحوا عنهن وكلموهن من خارج المنزل
والوضم: الخشبة أو البارية يجعل عليها اللحم.
قال: وهذا مثل حديثه الاخر (ألا لا يدخلن رجل على امرأة وإن قيل حموها
ألا حموها الموت) (4).
قال دعا عليها فإذا كان هذا رأيه في أبى الزوج وهو محرم لها فكيف بالغريب!
* * *
وفى حديثه (إن بيعة أبى بكر كانت فلتة وقى الله شرها فلا بيعة الا عن مشورة
وأيما رجل بايع رجلا عن غير مشورة فلا يؤمر واحد منهما تغره أن يقتلا (5).
قال: التغرة التغرير غررت بالقوم تغريرا وتغره كقولك: حللت اليمين تحليلا

(1) النهاية 3: 22
(2) سورة التغابن: 15.
(3) الفائق 2: 411
(4) الفائق: 1: 195
(5) الفائق 2: 297.
147

وتحله ومثله في المضاعف كثير أي أن في ذلك تغريرا بأنفسهما وتعريضا لهما أن يقتلا.
* * *
وفى حديثه (إن العبد إذا تواضع لله رفع الله حكمته وقال انتعش نعشك
الله وإذا تكبر وعدا طوره وهصه الله إلى الأرض) (1).
قال وهصه أي كسره وعدا طوره أي قدره.
* * *
وفى حديثه (حجوا بالذرية لا تأكلوا أرزاقها وتذروا أرباقها في أعناقها) (2).
قال أراد بالذرية هنا النساء ولم يرد الصبيان لأنه لا حج عليهم.
والإرباق جمع ربق وهو الحبل.
* * *
وفى حديثه أنه وقف بين الحرتين - وهما داران لفلان - فقال: (شوى (3) أخوك
حتى إذا أنضج رمد) (4).
هذا مثل يضرب للرجل يصنع معروفا ثم يفسده.
* * *
وفي حديثه (السائبة والصدقة ليومها) (5).
قال السائبة المعتق.

(1) الفائق 1: 279، وقال: (الحكمة من الانسان: أسفل وجهه، ورفع الحكمة، كناية
عن الإعزاز، لان من صفة الذليل أن ينكس ويضرب بذقنه وصدره. وقيل: الحكمة: القدر والمنزلة
من قولهم: لا يقدر على هذا من هو أعظم حكمة منك).
(2) الفائق 1: 428.
(3) في الأصول: (ثوى)، وما أثبته من الفائق، وشوى، أي ألقى الشواء في النار، قال
الزمخشري: (وهذا مثل، نحوه قولهم: (المنة تهدم الصنيعة).
(4) رمد: ألقاه في الرماد، والخبر في الفائق 1: 507
(5) الفائق 1: 630
148

وليومهما ليوم القيامة الذي فعل ما فعله لأجله.
* * *
وفى حديثه (لا تشتروا رقيق أهل الذمة فإنهم أهل خراج يؤدى بعضهم عن
بعض وأرضهم فلا تتنازعوها، ولا يقرن أحدكم بالصغار بعد إذ نجاه الله).
قال: كره أن يشترى أرضهم المسلمون وعليها خراج فيصير الخراج منتقلا إلى المسلم
وإنما منع من شراء رقيقهم لان جزيتهم تكثر على حسب كثرة رقيقهم فإذا ابتيع
رقيقهم قلت جزيتهم وإذا أقلت جزيتهم يقل بيت المال.
* * *
وفى حديثه في قنوت الفجر (وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك، ونخشى
عذابك إن عذابك بالكفار ملحق) (1).
قال: حفد العبد مولاه يحفد أي خدم، ومنه قوله تعالى (بنين وحفدة) (2)
أي خدما
وملحق اسم فاعل بمعنى لاحق من الحق وهو لغة في لحق يقال: لحقت زيدا
وألحقته بمعنى.
* * *
وفى حديثه (لا تشتروا الذهب بالفضة إلا يدا بيد هاء وهاء إني أخاف
عليكم الرماء) (3).
قال الرماء الزيادة وهو بمعنى الربا يقال أرميت على الخمسين أي زدت عليها.

(1) النهاية 1: 239
(2) سورة النحل 72.
(3) النهاية 2: 107 هاء وهاء: صوت بعني خذ.
149

وفى حديثه من لبد أو عقص أو ضفر فعليه الحلق) (1).
قال التلبيد أن تجعل في رأسك شيئا من صمغ أو عسل يمنع من أن يقمل.
والعقص والضفر فتل الشعر ونسجه
* * *
وفي حديثه ما تصعدتني خطبة (2) كما تصعدتني خطبة النكاح (3).
قال: معناه ما شق على وأصله من الصعود وهي العقبة المنكرة قال تعالى:
(سأرهقه صعودا) (4).
* * *
وفى حديثه أنه قال لمالك بن أوس (يا مالك إنه قد دفت علينا من قومك دافة
وقد أمرنا لهم برضخ فاقسمه فيهم) (5).
قال: الدافة جماعة تسير سيرا ليس بالشديد.
* * *
وفى حديثه أنه سأل جيشا فقال (هل ثبت لكم العدو قدر حلب شاة بكيئة (6)؟).
قال البكيئة القليلة اللبن.
* * *
وفى حديثه أنه قال في متعة الحج (قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
فعلها وأصحابه، ولكن كرهت أن يظلوا بهن معرسين تحت الأراك ثم يلبون بالحج
تقطر رؤوسهم) (7).

(1) الفائق 2: 446.
(2) الفائق: (شئ)، وفي اللسان: (ما تكاءدني شئ ما تكاءدني خطبة النكاح)
(3) الفائق 2: 24
(4) سورة المدثر 17.
(5) الفائق 1: 402
(6) نهاية ابن الأثير 1: 90.
(7) الفائق 2: 136.
150

قال: المعرس الذي يغشى امرأته قال: كره أن يحل الرجل من عمرته: ثم يأتي
النساء ثم يهل بالحج.
* * *
وفى حديثه (نعم المرء صهيب لو لم يخف الله لم يعصه).
قال: المعنى أنه لا يترك المعصية خوف العقاب بل يتركها لقبحها فلو كان لا يخاف
عقوبة الله لترك المعصية.
* * *
وفى حديثه أنه أتى بسكران في شهر رمضان، فقال: للمنخرين للمنخرين أصبياننا
صيام وأنت مفطر!.
قال معناه الدعاء عليه كقولك كبه الله للمنخرين! وكقولهم: لليدين وللفم!.
* * *
وفى حديثه أنه قال لما توفى رسول الله صلى الله عليه وآله قام أبو بكر فتلا هذه
الآية في خطبته (إنك ميت وإنهم ميتون) (1) قال عمر فعقرت حتى وقعت
إلى الأرض (2).
قال: يقال للرجل: إذا بهت وبقى متحيرا دهشا: قد عقر ومثله بعل وخرق.
* * *
وفي حديثه أنه كتب إلى أبى عبيدة وهو بالشام حين وقع بها الطاعون (إن الأردن
أرض غمقة وإن الجابية أرض نزهة فأظهر بمن معك من المسلمين إلى الجابية) (3).

(1) سورة الزمر 30
(2) النهاية 3: 114
(3) الفائق 2: 236
151

قال الغمقة الكثيرة الأنداء والوباء والنزهة البعيدة من ذلك.
* * *
وفى حديثه أنه قال لبعضهم في كلام كلمه به (بل تحوسك فتنة) (1).
قال معناه تخالطك وتحثك على ركوبها قال: وتحوس مثل: تجوس بالجيم، قال
تعالى (فجاسوا خلال الديار) (2).
* * *
وفى حديثه حين ذكر الجراد فقال: (وددت أن عندنا منه قفعة أو قفعتين) (3).
قال القفعة شئ شبيه بالزنبيل ليس بالكبير يعمل من خوص ليس له عرى
وهو الذي يسمى القفة.
* * *
في حديثه إن أذينة العبدي أتاه يسأله فقال: إني حججت من رأس هر أو خارك
أو بعض هذه المزالف فمن أين أعتمر؟ فقال: ائت عليا فاسأله فسألته
فقال من حيث ابتدأت (4).
قال رأس هر وخارك موضعان من ساحل فارس والمزالف كل قرية تكون
بين البر وبلاد الريف وهي المزارع أيضا كالأنبار وعين التمر والحيرة.
* * *
وفى حديثه أنه نهى عن المكايلة (5).
قال معناه مكافأة الفعل القبيح بمثله!.

(1) النهاية 1: 170.
(2) سورة الإسراء 5.
(3) النهاية لابن الأثير 1: 268.
(4) الفائق 1: 443.
(5) النهاية لابن الأثير 4: 42.
152

وفى حديثه (ليس الفقير الذي لا مال له إنما الفقير الأخلق الكسب) (1).
قال أراد الرجل الذي لا يرزأ في ماله ولا يصاب بالمصائب وأصله أن يقال للجبل
المصمت الذي لا يؤثر فيه شئ: أخلق وصخرة خلقاء إذا كانت كذلك فأراد عمر
أن الفقر الأكبر إنما هو فقر الآخرة لمن لم يقدم من ماله لنفسه شيئا يثاب عليه هناك
وهذا نحو قول النبي صلى الله عليه وآله (ليس الرقوب (2) الذي لا يبقى له ولد
إنما الرقوب الذي لم يقدم من ولده أحدا).
فهذا ما لخصته من غريب كلام عمر من كتاب أبى عبيد.
* * *
فأما ما ذكره ابن قتيبة من غريب حديثه في كتابه فأنا ألخص منه ما أنا ذاكره.
قال ابن قتيبة فمن غريب حديث عمر أنه خطب فقال إن أخوف ما أخاف
عليكم أن يؤخذ الرجل المسلم البرئ عند الله فيدسر كما يدسر الجزور ويشاط لحمه
كما يشاط لحم الجزور يقال عاص وليس بعاص فقال علي عليه السلام فكيف ذاك
ولما تشتد البلية وتظهر الحمية وتسبى الذرية وتدقهم الفتن دق الرحى بثفالها (3)!.
قال ابن قتيبة يدسر أي يدفع ومنه حديث ابن عباس ليس في العنبر زكاة
إنما هو شئ يدسره البحر (4).
ويشاط لحمه أي يقطع ويبضع والأصل في الإشاطة الاحراق فاستعير، وفى الحديث
(إن زيد بن حارثة قاتل يوم مؤتة حتى شاط في رماح القوم.
والثفال جلدة تبسط تحت الرحى فيقع عليها الدقيق.

(1) الفائق 1: 366
(2) نهاية ابن الأثير 2: 95.
(3) الفائق 1: 397.
(4) الفائق 1: 397 وفيه: (سره البحر)
153

وفى حديث عمر (القسامة (1) توجب العقل ولا تشيط الدم (2).
قال ابن قتيبة العقل الدية يقول إذا حلفت فإنما تجب الدية لا القود وقد روى
عن ابن الزبير وعمر بن عبد العزيز أنهما أقادا بالقسامة.
* * *
وفى حديثه (لا تفطروا حتى تروا الليل يغسق على الظراب) (3).
قال يغسق أي يظلم.
والظراب جمع ظرب وهو ما كان دون الجبل وإنما خص الظراب بالذكر
لقصرها أراد أن ظلمة الليل تقرب من الأرض.
* * *
وفي حديثه أن رجلا كسر منه عظم فأتى عمر يطلب القود فأبى أن يقتص له
فقال الرجل فكاسر عظمي إذن كالأرقم إن يقتل ينقم وإن يترك يلقم فقال عمر
(هو كالأرقم) (4).
قال: كانت الجاهلية تزعم أن الجن يتصور بعضهم في صورة الحيات وأن من قتل
حية منها طلبت الحية بالثأر فربما مات أو أصابه خبل فهذا معنى قوله (إن يقتل ينقم)
ومعنى (يلقم) يقول إن تركته أكلك وهذا مثل يضرب للرجل يجتمع عليه أمران من
الشر لا يدرى كيف يصنع فيهما ونحوه قولهم هو كالأشقر إن تقدم عقر وإن تأخر نحر.

(1) ان الفائق: (القسامة مخرجة على بناء الغرامة والحمالة لما يلزم أهل المحلة إذا وجد قتيل فيها لا يعلم
قاتله من الحكومة بأن يقسم خمسون رجلا منهم، ليس فيهم صبي ولا مجنون ولا امرأة ولا عبد، يتخيرهم الوالي
وقسمهم أن يقولوا: بالله ما قتلنا ولا علمنا له قاتلا، فإذا أقسموا قضى على أهل المحلة بالدية، وإن لم يكملوا
خمسين كررت عليهم الايمان حتى تبلغ خمسين يمينا).
(2) الفائق 2: 345
(3) الفائق 2: 226.
(4) النهاية 4: 64، 173.
154

قال وإنما لم يقده لأنه يخاف من القصاص في العظم الموت ولكن فيه الدية.
* * *
وفى حديثه أنه أتى مسجد قباء فرأى فيه شيئا من غبار وعنكبوت فقال لرجل
(ائتني بجريدة واتق العواهن) قال فجئته بها فربط كميه بوذمة ثم أخذ الجريدة
فجعل يتتبع بها الغبار (1).
قال الجريدة السعفة وجمعها جريد.
والعواهن السعفات التي يلين القلبة والقلبة جمع قلب وأهل نجد يسمون
العواهن الحواني وإنما نهاه عنها إشفاقا على القلب أن يضر به قطعها.
والوذمة سير من سيور الدلو يكون بين آذان الدلو والعراقي.
* * *
وفي حديثه (ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم
ولا تجمروهم فتفتنوهم) (2).
قال التجمير ترك الجيش في مغازيهم لا يقفلون.
* * *
وفي حديثه إنه أتى بمروط فقسمها بين نساء المسلمين ورفع مرطا بقي إلى
أم سليط الأنصارية وقال إنها كانت تزفر القرب يوم أحد تسقى المسلمين).
قال تزفرها تحملها ومنه زفر اسم رجل كان يحمل الأثقال.

(1) الفائق 1: 185.
(2) نهاية ابن الأثير 2: 127.
155

وفى حديثه أنه قال (أعطوا من الصدقة من أبقت له السنة غنما ولا تعطوا من
أبقت له السنة غنمين) (1).
قال: السنة هاهنا الأزمنة ومنه قوله تعالى (ولقد أخذنا آل فرعون
بالسنين) (2).
قال وكان عمر لا يجيز نكاحا في عام سنة يقول (لعل الضيعة تحملهم على أن
ينكحوا غير الأكفاء)
وكان أيضا لا يقطع سارقا في عام سنة.
وقوله (غنما) أي قطعة من الغنم يقال لفلان غنمان أي قطعتان من الغنم
وأراد عمر أن من له قطعتان غنى لا يعطى من الصدقة شيئا لأنها لم تكن قطعتين
إلا لكثرتها.
* * *
وفي حديثه أنه انكفأ لونه في عام الرمادة حين قال (لا آكل سمنا ولا سمينا
وأنه اتخذ أيام كان يطعم الناس قدحا فيه فرض فكان يطوف على القصاع فيغمز
القدح فإن لم تبلغ الثريدة الفرض قال: فانظر ماذا يفعل (3) بصاحب الطعام (4).
قال انكفأ تغير عن حاله وأصله الانقلاب، من كفأت الاناء.
وسمى عام الرمادة من قولهم أرمد الناس إذا جهدوا والرمد: الهلاك.
والقدح: السهم والفرض: الحز جعل عمر هذا الحز علامة لعمق الثريد
في الصفحة

(1) الفائق 1: 617.
(2) سورة الأعراف 130.
(3) الفائق: (بالذي ولي الطعام)
(4) الفائق 2: 417، 418.
156

وفى حديثه: أن عطاء بن يسار، قال قلت للوليد: بن عبد الملك روى لي أن
عمر بن الخطاب قال: وددت أنى سلمت من الخلافة كفافا لا على ولا لي فقال:
كذبت (1)! الخليفة يقول هذا فقلت: أو كذبت؟ فأفلت منه بجريعة الذقن (2).
قال يقال خلص من خصمه كفافا أي كف كل واحد منهما على صاحبه، فلم ينل
أحدهما من الاخر شيئا (3).
وأفلت فلان بجريعة ذقن أي أن نفسه قد صارت في فيه وجريعة
تصغير جرعة.
قلت وإنما استعظم الوليد ذلك لان بنى أمية كانوا يرون أن من ولى الخلافة
فقد وجبت له الجنة، ولهذا خطب هشام يوم ولى فقال: الحمد لله الذي أنقذني من النار
بهذا المقام
* * *
وفى حديثه أن سماك بن حرب قال رأيت عمر فرأيت رجلا أروح كأنه
راكب والناس يمشون كأنه من رجال بنى سدوس (4).
قال الا روح الذي تتدانى عقباه وتتباعد صدور قدميه يقال أروح بين
الروح والا فحج الذي تتدانى صدور قدميه وتتباعد عقباه وتتفحج ساقاه
والأوكع الذي يميل إبهام رجله على أصابعه حتى يزول فيرى شخص أصلها خارجا
وهو الوكع ومنه أمة وكعاء
وبنو سدوس: فخذ من بنى شيبان والطول أغلب عليهم.

(1) الأصول: (كذب)، وصوابه ما في الفائق.
(2) الفائق 2: 421
(3) فسره صاحب الفائق، وقال: (أي رأسا برأس
لا أرزأ منك ولا ترزأ مني وحقيقته، أكف عنك وتكف عني).
(4) النهاية لابن الأثير 2: 110.
157

وفى حديثه عن ابن عباس قال: دعاني فإذا حصير بين يديه عليه الذهب منثور
نثر الحثا فأمرني بقسمه (1).
قال الحثا التبن (2) مقصور، قال الراجز يهجو رجلا
ويأكل التمر ولا يلقى النوى * ولا يوارى فرجه إذا اصطلى
* كأنه غرارة ملأى حثا *
* * *
وفى حديثه أنه قال: (النساء ثلاث فهينة لينة عفيفة مسلمة تعين أهلها على
العيش ولا تعين العيش على أهلها وأخرى وعاء للولد وأخرى غل قمل يضعه الله
في عنق من يشاء ويفكه عمن يشاء والرجال ثلاثة رجل ذو رأى وعقل ورجل
إذا حزبه أمر أتى ذا رأى فاستشاره ورجل حائر بائر لا يأتمر رشدا ولا يطيع
مرشدا) (4).
قال البائر الهالك، قال تعالى (وكنتم قوما بورا) (5) والأصل في قوله
(غل قمل) أنهم كانوا يغلون بالقد وعليه الشعر فيقمل على الرجال.
ولا يأمر رشدا أي لا يأتي برشد من ذات نفسه يقال لمن فعل الشئ من غير
مشاورة قد ائتمر وبئس ما ائتمرت لنفسك قال النمر بن تولب
واعلمن أن كل مؤتمر * مخطئ في الرأي أحيانا.
* * *
وفى حديثه أنه خرج ليلة في شهر رمضان والناس أوزاع فقال (إني لأظن
لو جمعناهم على قارئ واحد كان أفضل) فأمر أبي بن كعب فأمهم ثم خرج ليلة وهم

(1) النهاية 1: 201.
(2) النهاية: (دقاق التبن).
(3) اللسان 18: 179، وذكر قبلة: تسألني عن زوجها أي فتى خب جروز وإذا جاع بكى
(4) الفائق 3: 224
(5) سورة الفتح 12.
158

يصلون بصلاته فقال (نعم البدعة هذه! والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون) (1).
قال الأوزاع الفرق يريد أنهم كانوا يصلون فرادى (2) يقال وزعت المال
بينهم أي فرقته.
* * *
وقوله (والتي ينامون عنها أفضل) يريد صلاة آخر الليل فإنها خير من
صلاة أوله.
وفي حديثه أن أصحاب محمد صلى الله عليه وآله تذاكروا الوتر فقال أبو بكر
أما أنا فأبدا بالوتر وقال عمر لكني أوتر حين ينام الضفطى (3).
قال هو جمع ضفيط وهو الرجل الجاهل الضعيف الرأي.
ومنه ما روى عن ابن عباس أنه قال لو لم يطلب الناس بدم عثمان لرموا بالحجارة
من السماء فقيل أتقول هذا وأنت عامل لفلان؟ فقال: إن في ضفطات، وهذه إحدى
ضفطاتي (4).
* * *
وفى حديثه أنه قال في وصيته (إن توفيت وفى يدي صرمة ابن الأكوع فسنتها
سنة ثمغ (5).

(1) الفائق 3: 159، 160.
(2) في الفائق: (يريد أنهم كانوا يتنفلون بعد صلاة العشاء فرقا، قال المسيب بن علس:
أحللت بيتك بالجميع وبعضهم * متفرق ليحل في الأوزاع
(3) الفائق 3: 67
(4) الفائق 3: 67.
(5) الفائق 2: 21.
159

قال الصرمة هاهنا: قطعة من النخل ويقال للقطعة الخفيفة من الإبل صرمة و
يقال لصاحبها مصرم ولعله قيل للمقل مصرم من هذا.
وثمغ: مال كان لعمر ووقفه.
* * *
وفى حديثه: أنه لما قدم الشام تفحل له أمراء الشام (1)
قال: أي اخشوشنوا له في الزي واللباس والمطعم تشبها به وأصله من الفحل لان
التصنع في اللباس والقيام على النفس إنما هو عندهم للإناث لا للفحول.
* * *
وفى حديثه أنه قدم مكة فسأل من يعلم موضع المقام - وكان السيل احتمله من
مكانه - فقال المطلب بن أبي وداعة السهمي يا أمير المؤمنين قد كنت قدرته وذرعته
بمقاط عندي (2).
قال المقاط الحبل وجمعه مقط.
* * *
وفى حديثه أنه قال للذي قتل الظبي وهو محرم (خذ شاة من الغنم فتصدق
بلحمها وأسق إهابها) (3).
قال الإهاب الجلد.
وأسقه أي اجعله سقاء لغيرك كما تقول أسقني عسلا أي اجعله لي سقاء وأقد بي
خيلا أي أعطني خيلا أقودها وأسقني إبلا أعطني إبلا أسوقها.

(1) الفائق 2: 250
(2) الفائق 3: 41.
(3) النهاية 2: 170.
160

وقالت بنو تميم للحجاج أقبرنا صالحا يعنون صالح بن عبد الرحمن وكان قتله
وصلبه فسألوه أن يمكنهم من دفنه.
* * *
وفى حديثه أنه ذكر عنده التمر والزبيب أيهما أفضل؟ ويروى أنه قال لرجل
من أهل الطائف: الحبلة أفضل أم النخلة؟ فأرسل إلى أبى حثمة الأنصاري فقال إن هؤلاء
اختلفوا في التمر والزبيب أيهما أفضل.
وفى رواية أخرى وجاء أبو عمرة عبد الرحمن بن محصن الأنصاري فقال أبو حثمة
ليس الصقر في رؤوس الرقل الراسخات في الوحل المطعمات في المحل تعله الصبي
وقرى الضيف وبه يحترش الضب في الأرض الصلعاء كزبيب إن أكلته ضرست
وإن تركته غرثت.
وفى الرواية الأخرى فقال أبو عمرة الزبيب إن آكله أضرس وإن أتركه
أغرث ليس كالصقر في رؤوس الرقل الراسخات في الوحل والمطعمات في المحل
خرفة الصائم وتحفة الكبير وصمتة الصغير وخرسة مريم ويحترش به الضباب
من الصلعاء (1).
قال الحبلة بفتح الحاء وتسكين الباء الأصل من الكرم وفى الحديث إن نوحا لما
خرج من السفينة غرس الحبلة وكانت لأنس بن مالك حبلة تحمل كذا وكان يسميها
أم العيال فأما الحبلة بالضم فثمر العضاه. ومنه الحديث كنا نغزو مع رسول الله صلى الله
عليه وآله وما لنا طعام الا الحبلة وورق السمر والحبلة بالضم أيضا ضرب من الحلي
يجعل في القلائد شبه بورق العضاه لأنه يصاغ على صورته.
وأغرث أجوع والغرث الجوع.

(1) الفائق 1: 231.
161

والصقر عسل الرطب.
والرقل: جمع رقلة وهي النخلة الطويلة.
وقوله (خرفة الصائم) اسم لما يخترف أي يجتني ونسبها إلى الصائم لأنهم
كانوا يحبون أن يفطروا على التمر.
وقوله (وصمته الصغير) لان الصغير كان إذا بكى عندهم سكتوه به. وتعلة
الصبي نحوه من التعليل.
وخرسة مريم الخرسة ما تطعمه النفساء عند ولادتها أشار إلى قوله تعالى
(وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا) (1) فأما الخرس بغير هاء فهو
الطعام الذي يصنع لأجل الولادة كالأعذار للختان والنقيعة للقادم والوكيرة للبناء.
ويحترش به الضب أي يصطاد، يقال إن الضب يعجب بالتمر والحارش
صائد الضباب.
والصلعاء: الصحراء التي لا نبات بها كرأس الأصلع.
* * *
وفى حديثه أنه قال للسائب (ورع عنى بالدرهم والدرهمين) (2).
قال أي كف الخصوم عنى في قدر الدرهم والدرهمين بأن تنظر في ذلك وتقضى
فيه بينهم وتنوب عنى وكل من كففته فقد ورعته ومنه الورع في الدين إنما
هو الكف عن المعاصي ومنه حديث عمر لا تنظروا إلى صلاة الرجل وصيامه ولكن
من إذا حدث صدق وإذا ائتمن أدى وإذا أشفى ورع أي إذا أشرف على المعصية
كف عنها.

(1) سورة مريم: 25.
(2) الفائق 3: 156
162

وفي حديثه أنه خطب الناس فقال (أيها الناس لينكح الرجل منكم لمته
من النساء ولتنكح المرأة لمتها من الرجال) (1)
قال لمة الرجل من النساء مثله في السن ومنه ما روى أن فاطمة عليه السلام
خرجت في لمة من نسائها [تتوطأ ذيلها] (2) حتى دخلت على أبى بكر (3).
وأراد عمر بن الخطاب: لا تنكح الشابة الشيخ الكبير ولا ينكح الشاب
العجوز وكان سبب هذه الخطبة أن شابة زوجها أهلها شيخا فقتلته.
* * *
وفى حديثه أن رجلا أتاه يشكو إليه النقرس فقال: كذبتك الظهائر (4).
قال الظهائر جمع ظهيرة وهي الهاجرة ووقت زوال الشمس.
وكذبتك أي عليك بها وهي كلمة معناها الاغراء يقولون كذبك كذا
أي عليك به.
ومنه الحديث المرفوع: [الحجامة على الريق فيها شفاء وبركة] فمن احتجم في يوم
الخميس ويوم الأحد كذباك! (5).
أي عليك بهما وإنما أمر عمر صاحب النقرس أن يبرز للحر في الهاجرة ويمشي
حافيا ويبتذل نفسه لان ذلك يذهب النقرس.
* * *
وفى حديثه أنه قال (من يدلني على نسيج وحده؟) فقال أبو موسى:
ما نعلمه غيرك، فقال: ما هي إلا إبل موقع ظهورها. (6)
قال معنى قولهم: (نسيج وحده) أي لا عيب فيه، ولا نظير له أصله من
الثوب النفيس لا ينسج على منواله غيره.

(1) الفائق 2: 156
(2) من الفائق.
(3) الفائق 2: 476
(4) الفائق 2: 400.
(5) النهاية لابن الأثير 3: 12 والتكملة من هناك.
(6) الفائق 3: 86.
163

والبعير الموقع الذي يكثر آثار الدبر بظهره لكثرة ما يركب وأراد عمر أنا
كلنا مثل ذلك في العيب.
* * *
وفى حديثه إن الطبيب الأنصاري سقاه لبنا حين طعن فخرج من الطعنة
أبيض يصلد (1).
قال أي يبرق ولم يتغير لونه
* * *
وفى حديثه أن نادبة عمر قالت: وا عمراه! أقام الأود وشفى العمد فقال علي عليه
السلام: أما والله ما قالته ولكن قولته (2).
والعمد ورم ودبر يكون في ظهر البعير وأراد علي عليه السلام أنه كأنما ألقى
هذا الكلام على لسانها لصحته وصدقه.
* * *
وفى حديثه أنه استعمل رجلا على اليمن فوفد إليه وعليه حلة مشتهرة وهو
مرجل دهين فقال أهكذا بعثناك! ثم أمر بالحلة فنزعت عنه وألبس جبة صوف
ثم سأل عن ولايته فلم يذكر إلا خيرا فرده على عمله ثم وفد إليه بعد ذلك فإذا
أشعث مغبر عليه أطلاس فقال ولا كل هذا إن عاملنا ليس بالشعث ولا العافي
كلوا واشربوا وادهنوا إنكم لتعلمون الذي أكره من أمركم (3)!.
قال ثياب أطلاس أي وسخة ومنه قيل للذئب أطلس.

(1) الفائق 2: 35
(2) الفائق 1: 50
(3) الفائق 1: 683.
164

والعافي الطويل الشعر، يقال عفى وبر البعير إذا طال ومنه الحديث المرفوع
(أمر أن تعفى اللحى وتحفي الشوارب).
* * *
وفى حديثه أنه قال للرجل أما تراني لو شئت أمرت بشاة فتية سمينة [أو قنية] (1)
فألقى عنها صوفها، ثم أمرت بدقيق فنخل في خرقة فجعل منه خبز مرقق وأمرت بصاع
من زبيب فجعل في سعن حتى يكون كدم الغزال (2).
قال السعن قربه أو إداوة ينتبذ فيها وتعلق بجذع.
* * *
وفي حديثه أنه رأى رجلا يأنح ببطنه فقال ما هذا؟ قال بركة من الله، قال
بل هو عذاب من الله يعذبك به (3).
قال: يأنح يصوت، وهو ما يعتري الانسان السمين من البهر إذا مشى أنح يأنح أنوحا.
* * *
وفى حديثه أنه لما دنا من الشام ولقيه الناس جعلوا يتراطنون فأشكعه ذلك
وقال لأسلم مولاه إنهم لم يروا على صاحبك بزة قوم غضب الله (4) عليهم.
قال أشكعه أغضبه قال أراد أنهم لم يتحاموا عنه اللغط والكلام بالفارسية
والنبطية بحضرته لأنهم لم يروه بعين الامارة والسلطان كما يرون أمراءهم لأنهم لم
يروا عليه بزة الامراء وزيهم.

(1) من الفائق، قال: (القنية: ما أفتى من شاة أو ناقة)
(2) الفائق 2: 379
(3) النهاية 1: 46
(4) الفائق 1: 48.
165

وفي حديثه أن عاملا على الطائف كتب إليه: إن رجالا منهم كلموني في خلايا لهم
أسلموا عليها وسألوني أن أحميها لهم فكتب إليه عمر: (إنها ذباب غيث فإن أدوا
زكاته فاحمه لهم) (1).
قال الخلايا موضع النحل التي تعسل الواحدة خلية وأراد بقوله (إنها ذباب
غيث) أنها تعيش بالمطر لأنها تأكل ما ينبت عنه فإذا لم يكن غيث فقدت ما تأكل
فشبهها بالسائم من النعم لا مؤنه على صاحبها منها وأوجب فيها الزكاة.
* * *
وفى حديثه أن سعد بن الأخرم قال كان بين الحي وبين عدى بن حاتم تشاجر
فأرسلوني إلى عمر فأتيته وهو يطعم الناس من كسور إبل وهو قائم متوكئ على عصا
مؤتزر إلى أنصاف ساقيه خدب من الرجال كأنه راعى غنم وعلى حله ابتعتها بخمسمائة
درهم فسلمت عليه فنظر إلى بذنب عينه وقال لي إما لك معوز؟ قلت: بلى، قال:
فألقها فألقيتها وأخذت معوزا ثم لقيته فسلمت فرد على السلام (2).
قال كسور (3) الإبل: أعضاؤها.
والخدب العظيم الجافي وكأنه راعى غنم يريد في الجفاء والبذاذة وخشونة
الهيئة واللبسة.
والمعوز الثوب الخلق والميم مكسورة وإنما ترك رد السلام عليه أولا لأنه أشهر
الحلة فأدبه بترك رد السلام فلما خلعها ولبس المعوز رده عليه.

(1) الفائق 1: 366.
(2) الفائق 2: 411.
(3) واحده كسر، بالفتح والكسر.
166

وفى حديثه أنه ذكر فتيان قريش وسرفهم في الانفاق فقال: لحرفة أحدهم أشد
على من عيلته (1).
قال الحرفة هاهنا أن يكون الرجل لا يتجر ولا يلتمس الرزق فيكون محدودا
لا يرزق إذا طلب ومنه قيل فلان محارف والعيلة: الفقر.
وفى حديثه أنه قال لرجل: ما مالك؟ قال: أقرن لي وآدمة في المنيئة قال:
قومها وزكها (2).
قال الأقرن جمع قرن وهي جعبة من جلود تكون للصيادين يشق منها
جانب ليدخلها الريح فلا يفسد الريش.
وآدمه جمع أديم كجريب وأجربة.
والمنيئة الدباغ وإنما أمره بتزكيتها لأنها كانت للتجارة.
* * *
وفى حديثه أن أبا وجزة السعدي قال شهدته يستقى فجعل يستغفر فأقول
ألا يأخذ فيما خرج له! ولا أشعر أن الاستسقاء هو الاستغفار فقلدتنا السماء قلدا كل
خمس عشرة ليلة حتى رأيت الأرنبة يأكلها صغار الإبل من وراء حقاق العرفط (3).
قال فقلدتنا مطرتنا لوقت معين ومنه قلد الحمى وقلد الزرع سقيه لوقت وهو
وقت الحاجة.
وقال رأيت الأرنب يحتملها السيل حتى تتعلق بالعرفط وهو شجر ذو شوك
وزاد في الأرنب هاء كما قالوا عقرب وعقربة وحقاق العرفط صغارها وقيل الأرنب

(1) الفائق 1: 252
(2) الفائق 2: 332
(3) الفائق 2: 371
167

ضرب من النبت لا يكاد يطول فأراد أنه طال بهذا المطر حتى أكلته صغار الإبل
من وراء شجر العرفط.
* * *
وفى حديثه أنه قال ما ولى أحد إلا حامى (1) على قرابته وقرى في عيبته
ولن يلي الناس قرشي عض على ناجذه (2).
قال حامى عليهم عطف عليهم وقرى في عيبته أي أختان وأصل قرى جمع.
* * *
وفى حديثه لن تخور قوى ما كان صاحبها ينزع وينزو (3).
يخور يضعف والنزع في القوس والنزو على الخيل.
وروى أن عمر كان يأخذ بيده اليمنى أذنه اليسرى ثم يجمع جراميزه ويثب فكأنما
خلق على ظهر فرسه.
* * *
وفى حديثه (تعلموا السنة والفرائض واللحن كما تتعلمون القرآن) (4).
قال اللحن هاهنا اللغة والنحو.
* * *
وفى حديثه أنه مر على راع فقال يا راعي عليك بالظلف [من الأرض] (5)
لا ترمض فإنك راع وكل راع مسؤول (6).
قال الظلف المواضع الصلبة أمره أن يرعى غنمه فيها ونهاه أن يرمض
وهو أن يرعى غنمه في الرمضاء وهي تشتد جدا في الدهاس والرمل وتخف في
الأرض الصلبة.

(1) الفائق: (حام)
(2) الفائق 1: 311.
(3) الفائق 1: 376
(4) الفائق 2: 457.
(5) من الفائق.
(6) الفائق 2: 101.
168

وفي حديثه أن رجلا قرأ عليه حرفا فأنكره فقال من أقرأك هذا؟ قال
أبو موسى فقال إن أبا موسى لم يكن من أهل البهش (1).
قال البهش المقل الرطب فإذا يبس فهو الخشل وأراد أن أبا موسى ليس من
أهل الحجاز لان المقل بالحجاز نبت والقرآن نزل بلغة الحجاز.
* * *
وفى حديثه أن عقبة بن أبي معيط لما قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أأقتل من بين
قريش؟ فقال عمر: حن قدح ليس منها (2).
قال: هذا مثل يضرب للرجل يدخل نفسه في القوم وليس منهم والقدح أحد
قداح الميسر وكانوا يستعيرون القدح يدخلونه في قداحهم يتيمنون به ويثقون بفوزه.
* * *
وفي حديثه أن أهل الكوفة لما أوفدوا العلباء بن الهيثم السدوسي إليه فرأى عمر
هيئته رثة وأعجبه كلامه وعمله قال لكل أناس في حميلهم خير.
قال: هذا مثل والمراد أنهم سودوه على معرفة منهم بما فيه من الخلال المحمودة
والمعنى أن خبره فوق منظره.
* * *
وفى حديثه أنه أخذ من القطنية الزكاة (3).
قال هي الحبوب كالعدس والحمص وفى أخذ الزكاة منها خلاف بين الفقهاء.

(1) الفائق 1: 118
(2) الفائق 1: 300.
(3) النهاية 3: 265.
169

وفى حديثه أنه كان يقول للخارص (1) (إذا وجدت قوما قد خرفوا في حائطهم
فانظر قدر ما ترى أنهم يأكلونه فلا تخرصه) (2).
قال خرفوا فيه أي نزلوا فيه أيام اختراف الثمرة.
* * *
وفى حديثه (إذا أجريت الماء على الماء جزى عنك) (3).
قال يريد صب الماء على البول في الأرض فإنه يطهر المكان ولا حاجة إلى غسله
وجزى قضى وأغنى من قوله تعالى: (لا تجزى نفس عن نفس شيئا) (4) فإن
أدخلت الألف قلت (أجزأك) وهمزت ومعناه كفاك.
* * *
وفى حديثه أنه قال (لا يعطى من المغانم شئ حتى تقسم إلا لراع والدليل
غير موليه) (5).
قال الراعي هاهنا الطليعة لأنه يرعى القوم أي يحفظهم.
وقوله (غير موليه) أي غير معطية شيئا لا يستحقه.
* * *
وفي حديثه (إن من الناس من يقاتل رياء وسمعة ومنهم من يقاتل وهو ينوى الدنيا
ومنهم من ألجمه القتال فلم يجد بدا، ومنهم من يقاتل صابرا محتسبا أولئك هم الشهداء)
قال: ألجمه القتال، أي رهقه وغشيه فلم يجد مخلصا.

(1) خرص النخلة: إذا حرز ما عليها من الرطب، من الخرص، وهو الظن.
(2) الفائق 1: 327
(3) النهاية لابن الأثير 1: 162.
(4) سورة البقرة 123
(5) النهاية 2: 88، 4: 232.
170

وفى حديثه أنه أرسل إلى أبى عبيدة رسولا فقال له حين رجع فكيف رأيت
أبا عبيدة؟ قال: رأيت بللا من عيش فقصر من رزقه، ثم أرسل إليه وقال للرسول
حين قدم: كيف رأيته؟ قال: رأيته حفوفا، قال: رحم الله أبا عبيد بسطنا له فبسط
وقبضنا له فقبض (1).
قال الحفوف والحفف واحد وهو ضيق العيش وشدته يقال ما عليهم حفف
ولا ضفف أي ما عليهم أثر عوز والشظف: مثل الحفف.
* * *
وفى حديثه أنه رئي في المنام فسئل عن حاله، فقال (ثل عرشي (2) لولا أنى
صادفت ربى رحيما).
قال ثل عرشه أي هدم.
* * *
وفى حديثه أنه قال لأبي مريم الحنفي (لأنا أشد بغضا لك من الأرض للدم)، قالوا:
كان عمر عليه غليظا كان قاتل زيد بن الخطاب أخيه فقال أينقصني ذلك من حقي
شيئا؟ قال لا، قال: فلا ضير (3).
قال هذا مثل لا الأرض لا يغوص فيها الدم كما يغوص الماء فهذا بغض الأرض
له ويقال إن دم البعير تنشفه الأرض وحده
وفى حديثه (إن اللبن يشبه عليه) (4).

(1) الفائق 1: 111.
(2) في النهاية: (كاد يثل عرشي).
(3) النهاية 1: 32.
(4) الفائق 1: 634.
171

قال: معناه أن الطفل ربما نزع به الشبه إلى الظئر من أجل لبنها فلا تسترضعوا
إلا من ترضون أخلاقها.
* * *
وفي حديثه (اغزوا والغزو حلو خضر، قبل أن يكون ثماما ثم يكون رماما
ثم يكون حطاما) (1).
قال: هذا مثل والثمام: نبت ضعيف.
والرمام بالضم والرميم واحد مثل طوال وطويل.
والحطام يبس النبت إذا ومعنى الكلام أنه أمرهم بالغزو حين عزائمهم
قويه وبواعثهم إليه شديدة فان مع ذلك يكون الظفر قبل أن يهي ويضعف فيكون
كالثمام الضعيف ثم كالرميم ثم يكون حطاما فيذهب.
* * *
وفى حديثه (إذا انتاطت المغازي واشتدت العزائم ومنعت الغنائم أنفسها فخير
غزوكم الرباط).
قال: انتاطت بعدت والنطئ البعيد.
واشتدت العزائم: صعبت ومنعت الغنائم أنفسها فخير غزوكم الرباط في سبيل الله.
* * *
وفى حديثه أنه وضع يده في كشية (2) ضب وقال إن النبي صلى الله عليه وآله
لم يحرمه ولكن (3) قذره.
قال كشية الضب شحم بطنه.

(1) الفائق 1: 352.
(2) ويروي: (كشه).
(3) الفائق 1: 169.
172

وقوله (وضع) أي أكل منه.
* * *
وفى حديثه (لا أوتى بأحد انتقص من سبل المسلمين إلى مثاباته شيئا إلا فعلت
به كذا) (1).
قال المثابات هاهنا المنازل يثوب أهلها إليها أي يرجعون والمراد من اقتطع
شيئا من طريق المسلمين وأدخله في داره.
* * *
وفى حديثه أنه كره النير (2).
قال هو علم الثوب وأظنه كرهه إذا كان حريرا.
* * *
وفى حديثه أنه انكسرت قلوص من إبل الصدقة فجفنها (3).
قال: اتخذ منها جفنه من طعام وأجمع عليه (4).
* * *
وفى حديثه (عجبت لتاجر هجر وراكب البحر) (5)!.
قال عجب كيف يختلف إلى هجر مع شدة وبائها وكيف يركب البحر مع
الخطار بالنفس!.
* * *
وفى حديثه: أنه قال ليلة لابن عباس في مسير له: أنشدنا لشاعر الشعراء قال ومن

(1) الفائق 1: 163
(2) الفائق 3: 139.
(3) النهاية 1: 168
(4) النهاية: (وجمع الناس عليه).
(5) نهاية ابن الأثير 4: 240.
173

هو؟ قال: الذي لم يعاظل بين القول ولم يتبع حوشي الكلام قال ومن هو؟ قال:
زهير فجعل ينشد إلى أن برق الصبح (1).
قال: هو مأخوذ من تعاظل الجراد إذا ركب بعضه بعضا.
وحوشي الكلام: وحشيه.
* * *
وفى حديثه أن نائلا مولى عثمان قال سافرت مع مولاي وعمر في حج أو عمرة
فكان عمر وعثمان وابن عمر لفا وكنت أنا وابن الزبير في شببة معنا لفا فكنا
نتمازح ونترامى بالحنظل فما يزيدنا عمر على أن يقول لنا كذاك لا تذعروا علينا
فقلنا لرياح بن العترف (2) لو نصبت لنا نصب العرب! فقال: [أقول] (3) مع عمر
فقلنا: افعل وإن نهاك فانته ففعل ولم يقل عمر شيئا حتى إذا كان في وجه السحر
ناداه يا رياح إتها اكفف فإنها ساعة ذكر (4).
قال لفا أي حزبا وفرقة.
وشببة جمع شاب مثل كاتب وكتبة وكاذب وكذبة وكافر وكفرة.
وقوله (كذاك) أي حسبكم.
وقوله (لا تذعروا علينا) أي لا تنفروا إبلنا.
ونصب العرب غناء لهم يشبه الحداء إلا أنه أرق منه.
* * *
وفي حديثه أنه كتب في الصدقة إلى بعض عماله كتابا فيه (ولا تحبس الناس أولهم
على آخرهم فان الرجن للماشية عليها شديد ولها مهلك وإذا وقف الرجل عليك غنمه
فلا تعتم من غنمه ولا تأخذ من أدناها وخذ الصدقة من أوسطها وإذا وجب على

(1) الفائق: 165
(2) الفائق: المغترف.
(3) من الفائق.
(4) الفائق 2: 469.
174

الرجل سن لم تجدها في إبله فلا تأخذ إلا تلك السن من شروى إبله أو قيمة عدل وانظر
ذوات الدر والماخض فتنكب عنها فإنها ثمال حاضريهم) (1).
قال الرجن الحبس رجن بالمكان أقام به ومثله دجن بالدال.
ولا تعتم لا تختر اعتام اعتياما أي اختار.
من شروى إبله أي من مثلها.
وذوات الدر ذوات اللبن.
والماخض الحامل.
وثمال حاضريهم عصمتهم وغياثهم وحاضريهم من يسكن الحضر.
* * *
وفى حديثه: أنه كان يلقط النوى من الطريق والنكث فإذا مر بدار قوم ألقاها
فيها وقال (ليأكل هذا داجنتكم وانتفعوا بباقيه) (2).
قال الداجنة ما يعلفه الناس في منازلهم من الشاة والدجاج والطير.
والنكث: الخيوط الخلق من صوف أو شعر أو وبر.
* * *
وفى حديثه (ثلاث من الفواقر جار مقامه إن رأى حسنة دفنها وإن رأى
سيئة أذاعها وامرأة إن دخلت عليها لسنتك وإن غبت عنها لم تأمنها وإمام إن
أحسنت لم يرض عنك وإن أسأت قتلك (3).

(1) الفائق 1: 466.
(2) الفائق 3: 134.
(3) الفائق: 290.
175

قال الفواقر الدواهي واحدتها فاقرة لأنها تكسر فقار الظهر.
ولسنتك أخذتك بلسانها.
* * *
وفي حديثه في خطبة له: (من أتى هذا البيت لا ينهره إليه غيره رجع وقد غفر له).
قال ينهره يدفعه يريد من حج لا ينوى بالحج إلا الطاعة غفر له.
* * *
وفى حديثه (اللبن لا يموت).
قال: قيل في معناه إن اللبن إذا أخذ من ميتة لم يحرم وكل شئ أخذ من الحي
فلم يحرم فإنه إن أخذ من الميت لم يحرم.
وقيل في معناه: إن رضع الطفل من امرأة ميتة حرم عليه من أولادها وقرابتها
من يحرم عليها منها لو كانت حية.
وقيل معناه: إن اللبن إذا انفصل من الضرع فأوجر به الصبي أو أدم به أو ديف له
في دواء وسقيه فإنه إن لم يسم في اللغة رضاعا إلا أنه يحرم به ما يحرم بالرضاع فقال اللبن
لا يموت أي لا يبطل عمله بمفارقة الثدي.
* * *
وفي حديثه: (من حظ المرء نفاق أيمه وموضع خفه) (1).
قال الأيم التي لا بعل لها والخف الإبل كما تسمى الحمر والبغال حافرا والبقر والغنم
ظلفا يريد من حظ الانسان أن يخطب إليه ويتزوج بناته وأخواته وأشباههن فلا يبرن

(1) النهاية 1: 270، وفيه: (موضع حقه)، وقال في شرحه: (وأن يكون حقه في ذمة
مأمون جحوده وتهضمه).
176

ومن حظه أيضا أن ينفق إبله حتى ينتابه التجار وغيرهم فيبتاعوها في مواضعها يستطرقونه
لا يحتاج أن يعرضها عليهم.
* * *
وفي حديثه أن العباس بن عبد المطلب سأله عن الشعراء فقال امرؤ القيس
سابقهم خسف لهم عين الشعر فافتقر عن معان عور أصح بصر (1).
قال خسف لهم من الخسيف وهي البئر تحفر في حجارة فيخرج منها ماء كثير
وجمعها خسف.
وقوله (افتقر) أي فتح وهو من الفقير والفقير فم القناة.
وقوله (عن معان عور) يريد أن امرأ القيس من اليمن واليمن ليست لهم فصاحة
نزار فجعل معانيهم عورا وفتح امرؤ القيس عنها أصح بصر
* * *
[ذكر الأحاديث الواردة في فضل عمر]
فأما الحديث الوارد في فضل عمر فمنه ما هو مذكور في الصحاح ومنه ما هو غير
مذكور فيها فمما ذكر في المسانيد الصحيحة من ذلك ما روت عائشة أن رسول الله صلى
الله عليه وآله وآله قال: (كان في الأمم محدثون فان يكن في أمتي فعمر) أخرجاه في الصحيحين
وروى سعد بن أبي وقاص قال: استأذن عمر على رسول الله صلى الله عليه وآله
وعنده نساء من قريش يكلمنه عالية أصواتهن فلما استأذن قمن يبتدرن الحجاب
فدخل ورسول الله صلى الله عليه وآله يضحك قال: أضحك الله سنك يا رسول الله! قال
عجبت من هؤلاء اللواتي كن عندي فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب فقال عمر أنت

(1) الفائق 6: 343.
177

أحق أن يهبن ثم قال أي عدوات أنفسهن أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله
عليه وسلم؟ قلن نعم أنت أغلظ وأفظ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (والذي
نفسي بيده ما لقيك الشيطان قط سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك) أخرجاه
في الصحيحين
وقد روى في فضله من غير الصحاح أحاديث
منها (إن السكينة لتنطق على لسان عمر)
ومنها (إن الله تعالى ضرب بالحق على لسان عمر وقلبه)
ومنها إن بين عيني عمر ملكا يسدده ويوفقه)
ومنها (لو لم أبعث فيكم لبعث عمر) ومنها (لو كان بعدي نبي لكان عمر)
ومنها (لو نزل إلى الأرض عذاب لما نجا منه إلا عمر)
منها (ما أبطأ عنى جبريل إلا ظننت إنه بعث إلى عمر)
ومنها (سراج أهل الجنة عمر)
ومنها: أن شاعرا أنشد النبي صلى الله عليه وآله شعرا فدخل عمر فأشار النبي صلى
الله عليه وآله إلى الشاعر أن اسكت فلما خرج عمر قال له عد فعاد فدخل عمر فأشار
النبي صلى الله عليه وآله بالسكوت مرة ثانية فلما خرج عمر سأل الشاعر رسول الله صلى
الله عليه وآله عن الرجل فقال (هذا عمر بن الخطاب وهو رجل لا يحب
الباطل)
ومنها: أن النبي صلى الله عليه وآله قال: (وزنت بأمتي فرجحت ووزن أبو بكر
بها فرجح ووزن عمر بها فرجح ثم رجح ثم رجح).
178

وقد رووا في فضله حديثا كثيرا غير هذا ولكنا ذكرنا الأشهر وقد طعن أعداؤه
ومبغضوه في هذه الأحاديث فقالوا: لو كان محدثا وملهما لما اختار معاوية الفاسق لولاية
الشام ولكن الله تعالى قد ألهمه وحدثه بما يواقع من القبائح والمنكرات والبغي
والتغلب على الخلافة والاستئثار بمال الفئ وغير ذلك من المعاصي الظاهرة
قالوا: وكيف لا يزال الشيطان يسلك فجا غير فجه وقد فر مرارا من الزحف في
أحد وحنين وخيبر والفرار من الزحف من عمل الشيطان وإحدى الكبائر الموبقة.
قالوا: وكيف يدعى له أن السكينة تنطق على لسانه: أترى كانت السكينة تلاحي
رسول الله صلى الله عليه وآله يوم الحديبية حتى أغضبه!.
قالوا: ولو كان ينطق على لسانه ملك أو بين عينيه ملك يسدده ويوفقه أو ضرب
الله بالحق على لسانه وقلبه لكان نظيرا لرسول الله صلى الله عليه وآله بل كان أفضل
منه لأنه صلى الله عليه وآله كان يؤدى الرسالة إلى الأمة عن ملك من الملائكة وعمر
قد كان ينطق على لسانه ملك وزيد ملكا آخر بين عينيه يسدده ويوفقه فهذا
الملك الثاني مما قد فضل به على رسول الله صلى الله عليه وآله وقد كان حكم في أشياء
فيخطئ فيها حتى يفهمه إياها علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وغيرهما حتى قال لولا
على لهلك عمر ولولا معاذ لهلك عمر وكان يشكل عليه الحكم فيقول لابن عباس
غص يا غواص فيفرج عنه فأين كان الملك الثاني المسدد له! وأين الحق الذي ضرب
به على لسان عمر؟ ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان ينتظر في الوقائع نزول
الوحي وعمر على مقتضى هذه الأخبار لا حاجة به إلى نزول ملك عليه لان
الملكين معه في كل وقت وكل حال ملك ينطق على لسانه وملك آخر بين عينيه
يسدده ويوفقه وقد عززا بثالث وهي السكينة فهو إذا أفضل من رسول الله
صلى الله عليه وآله!.
179

وقالوا: والحديث الذي مضمونه لو لم أبعث فيكم لبعث عمر فيلزم أن يكون
رسول الله صلى الله عليه وآله عذابا على عمر وأذى شديدا له لأنه لو لم يبعث لبعث
عمر نبيا ورسولا ولم تعلم رتبة أجل من رتبة الرسالة فالمزيل لعمر عن هذه الرتبة التي
ليس وراءها رتبة ينبغي ألا يكون في الأرض أحد أبغض إليه منه!.
قالوا واما كونه سراج أهل الجنة فيقتضى أنه لو لم يكن تجلى عمر لكانت الجنة
مظلمة لا سراج لها.
قالوا وكيف يجوز أن يقال لو نزل العذاب لم ينج منه إلا عمر والله تعالى
يقول (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) (1).
قالوا وكيف يجوز أن يقال إن النبي صلى الله عليه وآله كان يسمع الباطل ويحبه
ويشهده وعمر لا يسمع الباطل ولا يشهده ولا يحبه! أليس هذا تنزيها لعمر عما لم ينزه
عنه رسول الله صلى الله عليه وآله!.
قالوا: ومن العجب أن يكون النبي صلى الله عليه وآله أرجح من الأمة يسيرا وكذلك
أبو بكر ويكون عمر أرجح منهما كثيرا! فان هذا يقتضى أن يكون فضله أبين وأظهر
من فضل أبى بكر ومن فضل رسول الله صلى الله عليه وآله!.
والجواب أنه ليس يجب فيمن كان محدثا ملهما أن يكون محدثا ملهما في كل شئ
بل الاعتبار بأكثر أفعاله وظنونه وآرائه ولقد كان عمر كثير التوفيق مصيب الرأي
في جمهور أمره ومن تأمل سيرته علم صحه ذلك ولا يقدح في ذلك أن يختلف ظنه
في القليل من الأمور.
وأما الفرار من الزحف فإنه لم يفر إلا متحيزا (2) إلى فئة وقد استثنى الله تعالى
ذلك فخرج به عن الاثم.

(1) سورة الأنفال 33
(2) هو قوله تعالى في سورة الأنفال 16:
(ومن يولهم يومئذ دبره إلا منحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله)
180

وأما باقي الاخبار فالمراد بالملك فيها الاخبار عن صحة ظنه وصدق فراسته وهو كلام
يجرى مجرى المثل فلا يقدح فيه ما ذكروه.
وأما قوله صلى الله عليه وآله (لو نزل إلى الأرض عذاب لما نجا منه إلا عمر) فهو كلام
قاله عقيب أخذ الفدية من أسارى بدر فان عمر لم يشر عليه ونهاه عنه فأنزل الله تعالى
(لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) وإذا
كان القرآن قد نطق بذلك وشهد لم يلتفت إلى طعن من طعن في الخبر.
وأما قوله عليه السلام (سراج أهل الجنة عمر فمعناه سراج القوم الذين يستحقون
الجنة من أهل الدنيا أيام كونهم في الدنيا مع عمر أي يستضيئون بعلمه كما
يستضاء بالسراج.
وأما حديث منع الشاعر فان رسول الله صلى الله عليه وآله خاف أن يذكر في شعره
ما يقتضى الانكار فيعنف به عمر وكان شديد الغلظة فأراد النبي صلى الله عليه وآله أن
ينكر هو على الشاعر إن قال في شعره ما يقتضى ذلك على وجه اللطف والرفق وكان عليه
السلام رؤوفا رحيما كما قال الله تعالى (2).
وأما حديث الرجحان فالمراد به الفتوح وملك البلاد وتأويله أنه عليه السلام أرى
في منامه ما يدل على أنه يفتح الله عليه بلادا وعلى أبى بكر مثله ويفتح على عمر أضعاف
ذلك وهكذا وقع.
واعلم أن من تصدى للعيب وجده ومن قصر همته على الطعن على الناس انفتحت

(1) سورة الأنفال 68.
(2) وهو قوله تعالى في سورة التوبة 128 (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه
ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم).
181

له أبواب كثيرة والسعيد من أنصف من نفسه ورفض الهوى وتزود التقوى
وبالله التوفيق!
* * *
[ذكر ما ورد من الخبر عن إسلام عمر]
وأما إسلام عمر فإنه أسلم فكان تمام أربعين إنسانا في أظهر الروايات وذلك في
السنة السادسة من النبوة وسنه إذ ذاك ست وعشرون سنة وكان عمر ابنه عبد الله يومئذ
ست سنين
وأصح ما روى في إسلامه رواية أنس بن مالك عنه قال خرجت متقلدا سيفي
فلقيت رجلا من بنى زهرة فقال أين تعمد؟ قلت: أقتل محمدا قال وكيف تأمن
في بني هاشم وبنى زهرة؟ فقلت: ما أراك إلا صبوت! قال أفلا أدلك على العجب!
إن أختك وزوجها قد صبوا فمشى عمر فدخل عليهما ذامرا وعندهما رجل من أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وآله يقال له خباب بن الأرت فلما سمع خباب حس عمر
توارى فقال عمر ما هذه الهينمة (1) التي سمعتها عندكم؟ وكانوا يقرءون (طه) على
خباب فقال ما عندنا شئ إنما هو حديث كنا نتحدثه بيننا قال فلعلكما قد صبوتما (2)
فقال له ختنه أرأيت يا عمر إن كان الحق في غير دينك! فوثب عمر على ختنه فوطئه وطئا
شديدا فجاءت أخته فدفعته عن زوجها فنفحها بيده فأدمى وجهها فجاهرته فقالت
إن الحق في غير دينك وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فاصنع
ما بدا لك! فلما يئس قال أعطوني هذا الكتاب الذي عندكم فأقرؤه وكان عمر يقرأ الخط -

(1) الهيمنة: الصوت الخفي.
(2) صبا، أي خرج عن دينه.
182

فقالت له أخته إنك رجس وإن هذا الكتاب لا يمسه إلا المطهرون فقم فتوضأ فقام
فأصاب ماء ثم أخذ الكتاب فقرأ (طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى * إلا تذكرة
لمن يخشى) إلى قوله (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكرى)
فقال عمر دلوني على محمد فلما سمع خباب قول عمر ورأي منه الرقة خرج من
البيت فقال أبشر يا عمر فإني لأرجو أن تكون دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله
ليلة الخميس لك سمعته يقول (اللهم أعز الاسلام بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام) -
قال: ورسول الله صلى الله عليه وآله في الدار التي في أصل الصفا - فانطلق عمر حتى أتى
الدار وعلى الباب حمزة بن عبد المطلب وطلحة بن عبيد الله وناس من أهل رسول الله
صلى الله عليه وآله فلما رأى الناس عمر قد أقبل كأنهم وجدوا وقالوا قد جاء عمر
فقال حمزة قد جاء عمر فان يرد الله به خيرا يسلم وإن يرد غير ذلك كان قتله علينا
هينا قال والنبي صلى الله عليه وآله من داخل البيت يوحى إليه فسمع رسول الله
صلى الله عليه وآله كلام القوم فخرج مسرعا حتى انتهى إلى عمر فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل
سيفه وقال ما أنت منتهيا يا عمر حتى ينزل الله بك - يعنى من الخزي والنكال - ما أنزل
بالوليد بن المغيرة ثم قال اللهم هذا عمر اللهم أعز الاسلام بعمر! فقال: أشهد أن لا إله
إلا الله وأشهد أنك رسول الله فكبر أهل الدار ومن كان على الباب تكبيرة سمعها
من كان في المسجد من المشركين (1).
وقد روى أن عمر كان موعودا ومبشرا بما وصل إليه من قبل أن يظهر أمر الاسلام
قرأت في كتاب من تصانيف أبى أحمد العسكري رحمه الله أن عمر خرج عسيفا (2) مع الوليد
ابن المغيرة إلى الشام في تجارة للوليد وعمر يومئذ ابن ثماني عشرة سنة فكان يرعى

(1) الرياض النضرة 1: 191، 192
(2) الصيف: الأجير.
183

للوليد إبله ويرفع أحماله ويحفظ متاعه فلما كان بالبلقاء لقيه رجل من علماء الروم
فجعل ينظر إليه ويطيل النظر لعمر ثم قال أظن اسمك يا غلام (عامرا) أو (عمران)
أو نحو ذلك قال اسمي (عمر) قال: اكشف عن فخذيك فكشف فإذا على
أحدهما شامة سوداء في قدر راحة الكف فسأله أن يكشف عن رأسه فكشف فإذا
هو أصلع فسأله أن يعتمل بيده فاعتمل فإذا أعسر أيسر فقال له: أنت ملك العرب
وحق مريم البتول! قال فضحك عمر مستهزئا قال أو تضحك وحق مريم البتول
إنك ملك العرب وملك الروم وملك الفرس! فتركه عمر وانصرف مستهينا بكلامه
وكان عمر يحدث بعد ذلك ويقول تبعني ذلك الرومي وهو راكب حمارا فلم يزل
معي حتى باع الوليد متاعه وابتاع بثمنه عطرا وثيابا وقفل إلى الحجاز والرومي
يتبعني لا يسألني حاجة ويقبل يدي كل يوم إذا أصبحت كما تقبل يد الملك حتى
خرجنا من حدود الشام ودخلنا في أرض الحجاز راجعين إلى مكة فودعني ورجع
وكان الوليد يسألني عنه فلا أخبره ولا أراه إلا هلك ولو كان حيا لشخص إلينا
* * *
[تاريخ موت عمر والأخبار الواردة في ذلك]
فأما تاريخ موته فان أبا لؤلؤة طعنه يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة
من سنة ثلاث وعشرين ودفن يوم الأحد صباح هلال المحرم سنة أربع وعشرين
وكانت ولايته عشر سنين وستة أشهر وهو ابن ثلاث وستين في أظهر الأقوال وقد كان
قال على المنبر يوم جمعة وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وأبا بكر إني قد
رأيت رؤيا أظنها لحضور أجلى رأيت كأن ديكا نقرني نقرتين فقصصتها على أسماء

(1) الأعسر: الذي يعمل بيده اليسرى، وفي النهاية لابن الأثير: 4: 265: (كان عمر أعسر
أيسر) هكذا يروى، والصواب (أعسر يسر) وهو الذي يعمل بيديه جميعا، ويسمى الأضبط).
184

بنت عميس فقالت يقتلك رجل من العجم وإني أفكرت فيمن أستخلف ثم رأيت
أن الله لم يكن ليضيع دينه وخلافته التي بعث بها رسوله
وروى ابن شهاب قال كان عمر لا يأذن لصبي قد احتلم في دخول المدينة حتى
كتب المغيرة وهو على الكوفة يذكر له غلاما صنعا عنده ويستأذنه في دخول المدينة
ويقول: إن عنده أعمالا كثيرة فيها منافع للناس إنه حداد نقاش نجار فأذن له أن
يرسل به إلى المدينة وضرب عليه المغيرة مائة درهم في كل شهر فجاء إلى عمر يوما يشتكي
إليه الخراج فقال له عمر ما ذا تحسن من الأعمال؟ فعد له الأعمال التي يحسن فقال له
ليس خراجك بكثير في كنه عملك
هذا هو الذي رواه أكثر الناس من قوله له ومن الناس من يقول إنه جهر
بكلام غليظ واتفقوا كلهم على أن العبد انصرف ساخطا يتذمر فلبث أياما ثم مر بعمر
فدعاه فقال قد حدثت أنك تقول لو أشاء لصنعت رحا تطحن بالريح فالتفت العبد
عابسا ساخطا إلى عمر ومع عمر رهط من الناس فقال لاصنعن لك رحا يتحدث
الناس بها فلما ولى أقبل عمر على الرهط فقال ألا تسمعون إلى العبد! ما أظنه إلا أوعدني
آنفا! فلبث ليالي ثم اشتمل أبو لؤلؤة على خنجر ذي رأسين نصابه فوسطه
فكمن في زاوية من زوايا المسجد في غلس السحر فلم يزل هنالك حتى جاء عمر يوقظ
الناس لصلاة الفجر كما كان يفعل فلما دنا منه وثب عليه فطعنه ثلاث طعنات إحداهن
تحت السرة قد خرقت الصفاق (1) - وهي التي قتلته - ثم انحاز إلى أهل المسجد فطعن
فيهم من يليه حتى طعن أحد عشر رجلا سوى عمر ثم انتحر بخنجره فقال عمر حين
أدركه النزف قولوا لعبد الرحمن بن عوف فليصل بالناس ثم غلبه النزف فأغمي عليه

(1) الصفاق: الجلد الأسفل الذي تحت الجلد الذي عليه الشعر.
185

فاحتمل حتى أدخل بيته ثم صلى عبد الرحمن بالناس قال ابن عباس فلم أزل عند
عمر وهو مغمى عليه لم يزل في غشية واحدة حتى أسفر فلما أسفر أفاق فنظر في وجوه
من حوله وقال أصلى الناس؟ فقيل: نعم فقال لا إسلام لمن ترك الصلاة ثم دعا
بوضوء فتوضأ وصلى ثم قال اخرج يا بن عباس فاسأل من قتلني؟ فجئت حتى فتحت
باب الدار فإذا الناس مجتمعون فقلت من طعن أمير المؤمنين؟ قالوا: طعنه أبو لؤلؤة
غلام المغيرة قال ابن عباس فدخلت فإذا عمر ينظر إلى الباب يستأني خبر ما بعثني له
فقلت يا أمير المؤمنين زعم الناس أنه عدو الله أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة وأنه طعن
رهطا ثم قتل نفسه فقال الحمد لله الذي لم يجعل قاتلي يحاجني عند الله بسجدة سجدها له
قط ما كانت العرب لتقتلني ثم قال أرسلوا إلى طبيب ينظر جرحى فأرسلوا إلى طبيب
من العرب فسقاه نبيذا فخرج من الجرح فاشتبه عليهم الدم بالنبيذ ثم دعوا طبيبا آخر
فسقاه لبنا فخرج اللبن من الطعنة صلدا أبيض فقال الطبيب أعهد يا أمير المؤمنين
عهدك فقال لقد صدقني ولو قال غير ذلك لكذب فبكى عليه القوم حتى أسمعوا من
خارج الدار فقال لا تبكوا علينا ألا ومن كان باكيا فليخرج فان النبي صلى الله
عليه وآله قال (إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه).
وروى عن عبد الله بن عمر أنه قال سمعت أبي يقول لقد طعنني أبو لؤلؤة طعنتين
وما أظنه إلا كلبا حتى طعنني الثالثة
وروى أن عبد الرحمن بن عوف طرح على أبى لؤلؤة بعد أن طعن الناس خميصة (1)
كانت عليه فلما حصل فيها نحر نفسه فاحتز عبد الرحمن رأسه واجتمع البدريون وأعيان
المهاجرين والأنصار بالباب فقال عمر لابن عباس اخرج إليهم فاسألهم أعن ملا منكم

(1) الخميصة: كساء أسود مربع له علمان، فإن لم يكن معلما فليس بخميصة.
186

كان هذا الذي أصابني؟ فخرج يسألهم فقال القوم لا والله ولوددنا أن الله زاد في
عمره من أعمارنا!.
وروى عبد الله بن عمر قال كان أبى يكتب إلى أمراء الجيوش لا تجلبوا
إلينا من العلوج أحدا جرت عليه المواسي فلما طعنه أبو لؤلؤة قال من بي؟ قالوا
غلام المغيرة قال ألم أقل لكم لا تجلبوا إلينا من العلوج أحدا فغلبتموني!.
وروى محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه عن عمرو بن ميمون قال إني (1)
لقائم ما بيني وبين عمر إلا عبد الله بن عباس غداة أصيب وكان إذا مر بين الصفين
قال استووا حتى إذا لم ير بيننا (2) خللا تقدم فكبر وربما قرأ سورة يوسف أو
النحل في الركعة الأولى [أو نحو ذلك في الركعة الثانية] (3) حتى يجتمع الناس فما هو
إلا أن كبر فسمعته يقول قتلني - أو أكلني - الكلب وذلك حين طعنه العلج
بسكين ذات طرفين لا يمر على أحد يمينا ولا شمالا إلا طعنه حتى طعن ثلاثة عشر
رجلا مات منهم ستة (4) فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنسا فلما ظن
العلج إنه مأخوذ نحر نفسه وتناول عمر بيده عبد الرحمن بن عوف فقدمه فمن يلي عمر
فقد رأى الذي رأى وأما نواحي المسجد فإنهم لا يدرون غير أنهم فقدوا صوت عمر فهم
يقولون سبحان الله! فصلى عبد الرحمن صلاة خفيفة فلما انصرفوا قال يا بن عباس
انظر من قتلني؟ فجال ساعة ثم جاء فقال غلام المغيرة قال: الصنع! قال: نعم

(1) صدر الحديث كما في البخاري (رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل أن يصاب بأيام بالمدينة
وقف على حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف، قال: كيف فعلتما؟ أتخافان أن تكونا قد حملتما الأرض
مالا تطيق؟ قالا: حملناها أمرا هي له مطيقة، ما فيها كبير فضل، قال: انظرا أن تكونا حملتما الأرض
ما لا تطيق؟ قالا: لا، فقال عمر: لئن سلمني الله لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي
أبدا. قال: فما أتت عليه رابعة حتى أصيب، قال: إني لقائم...).
(2) البخاري: (فيهن)
(3) من رواية البخاري
(4) البخاري: (سبعة).
187

قال قاتله الله لقد أمرت به معروفا الحمد لله الذي لم يجعل منيتي (1) بيد رجل يدعى
الاسلام وقد كنت أنت وأبوك تحبان أن يكثر العلوج وكان العباس أكثرهم رقيقا
فقال إن شئت فعلنا (2) أي قتلناهم قال كذبت بعد أن تكلموا بلسانكم وصلوا قبلتكم
وحجوا حجكم فاحتمل إلى بيته وانطلقنا معه وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ
فقائل يقول لا بأس عليه وقائل يقول أخاف عليه فأتى بنبيذ فشربه فخرج من
جوفه ثم أتى بلبن فشربه فخرج من جوفه فعلموا أنه ميت فدخل الناس يثنون
عليه وجاء [رجل] (3) شاب فقال أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك صحبة
برسول الله وقدم في الاسلام ما قد علمت ثم وليت فعدلت ثم الشهادة فقال عمر
وددت أن ذلك كله كان كفافا لا على ولا لي فلما أدبر إذا رداؤه (4) يمس الأرض
فقال ردوا على الغلام فردوه فقال يا بن أخي ارفع ثوبك فإنه أبقى لثوبك
وأتقى لربك يا عبد الله بن عمر انظر ما على من دين فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفا
أو نحوه فقال إن وفى به مال آل عمر فأده من أموالهم وإلا فسل في بنى عدى بن كعب
فإن لم تف به أموالهم فسل في قريش ولا تعدهم إلى غيرهم وأد عنى هذا المال انطلق إلى
عائشة فقل لها يقرأ عليك السلام عمر - ولا تقل (أمير المؤمنين) فإني اليوم لست
للمؤمنين أمير أو قل يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه فمضى وسلم واستأذن
ودخل عليها فوجدها قاعدة تبكي، فقال يقرأ عليك عمر السلام ويستأذن أن يدفن مع
صاحبيه فقالت كنت أريده لنفسي - يعنى الموضع - ولأوثرنه اليوم على نفسي فلما أقبل
قيل هذا عبد الله قد جاء قال ارفعوني فأسندوه إلى رجل منهم قال يا عبد الله ما لديك؟
قال الذي تحب يا أمير المؤمنين قد أذنت قال الحمد لله ما كان شئ أهم إلى من

(1) البخاري: (ميتتي)
(2) البخاري: (فعلت).
(3) من صحيح البخاري.
(4) البخاري: (إزاره).
188

ذلك إذا أنا قبضت فاحملني ثم سلم عليها وقل يستأذن عمر بن الخطاب فان
أذنت لي فأدخلوني وإن ردتني فردوني إلى مقابر المسلمين وادفنوني بين المسلمين
وجاءت ابنته حفصة والنساء معها قال فلما رأيناها قمنا فولجت عليه فبكت
عنده ساعة واستأذن الرجال فولجت بيتا داخلا لهم فسمعنا بكاءها من البيت الداخل
فقال أوص يا أمير المؤمنين واستخلف فقال ما أجد أحق بهذا الامر من هؤلاء
النفر - أو قال الرهط - الذين توفى رسول الله صلى الله عليه وآله وهو عنهم راض فسمى
عليا وعثمان والزبير وطلحة وسعدا وعبد الرحمن وقال: يشهدكم عبد الله بن عمر وليس
له من الامر شئ - كهيئة التعزية له فان أصابت الامارة سعدا فهو أهل لذلك
وإلا فليستعن به أيكم أمر فإني لم أعزله عن عجز ولا عن خيانة ثم قال: أوصى
الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ويحفظ لهم حرمتهم وأوصيه
بالأنصار خيرا الذين تبوءوا الدار والايمان من قبلهم أن يقبل من محسنهم وأن يعفو عن
مسيئهم وأوصيه بأهل الأمصار خيرا فإنهم ردء الاسلام وجباة الأموال وغيظ العدو
ألا يأخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم وأوصيه بالأعراب خيرا فإنهم أصل العرب
ومادة الاسلام، أن يؤخذ من حواشي أموالهم ويرد على فقرائهم وأوصيه بذمة الله
وذمة رسوله أن يوفى لهم بعهدهم وأن يقاتل من وراءهم وألا يكلفوا إلا طاقتهم.
قال: فلما قبض خرجنا به فانطلقنا نمشي فسلم عبد الله بن عمر وقال: يستأذن عمر
ابن الخطاب فقالت: أدخلوه فأدخل فوضع هنالك مع صاحبيه (2).

(1) البخاري: (الامرة).
(2) صحيح البخاري 2: 297، - 299، وبقية الحديث: (فلما فرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط،
فقال عبد الرحمن: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم، فقال: الزبير، جعلت أمري إلى علي فقال طلحة قد
جعلت أمري إلى عثمان، وقال سعد: قد جعلت أمري إلى عثمان، وقال سعد: قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف، فقال عبد الرحمن:
أيكما تبرأ من هذا فنجعله عليه والله عليه، والاسلام لينظرن أفضلهم في نفسه؟ فأسكت الشيخان، فقال
عبد الرحمن: أفتجعلونه إلي، والله علي ألا آلوا عن أفضلكم؟ قالا: نعم فأخذ بيد أحدهما فقال:
لك قرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والقدم في الاسلام ما قد علمت، فالله عليك لئن أمرتك
لتعدلن! وإن أمرت عثمان لتسمعن ولتطيعن! ثم خلا بالآخر فقال مثل ذلك، فلما أخذ الميثاق قال:
ارفع يدك يا عثمان، فبايعه فبايع علي، وولج أهل الدار فبايعوه).
189

وقال ابن عباس أنا أول من أتى عمر حين طعن فقال احفظ عنى ثلاثا فإني
أخاف ألا يدركني الناس أما أنا فلم أقض في الكلالة ولم أستخلف على الناس وكل
مملوك لي عتيق فقلت له: أبشر بالجنة صاحبت رسول الله صلى الله عليه وآله فأطلت
صحبته ووليت أمر المسلمين فقويت عليه وأديت الأمانة
قال: أما تبشيرك لي بالجنة فوالله الذي لا إله إلا هو لو أن لي الدنيا بما فيها لافتديت
به من هول ما أمامي قبل أن أعلم ما الخبر وأما ما ذكرت من أمر المسلمين فلوددت أن
ذلك كان كفافا لا على ولا لي وأما ما ذكرت من صحبة رسول الله صلى الله عليه وآله
فهو ذلك
وروى معمر عن الزهري عن سالم عن عبد الله قال دخلت على أبى فقلت:
سمعت الناس يقولون مقالة: - وآليت أن أقولها لك - زعموا أنك غير مستخلف وأنه لو
كان لك راعى إبل أو غنم ثم جاءك وتركها رأيت أنه قد ضيع فرعاية الناس أشد
فوضع رأسه ثم رفعه فقال إن الله تعالى يحفظ دينه إن لم أستخلف فان رسول الله
صلى الله عليه وآله لم يستخلف وإن استخلفت فان أبا بكر قد استخلف فوالله ما هو
إلا أن ذكر رسول الله وأبا بكر، فعلمت أنه لم يكن يعدل برسول الله صلى الله عليه وآله
أحدا وأنه غير مستخلف.
وروى أنه قال وقد أذنت له عائشة في أن يدفن في بيتها إذا مت فاستأذنوها مرة
ثانية فان أذنت وإلا فاتركوها فإني أخشى أن تكون أذنت لي لسلطاني
فاستأذنوها بعد موته فأذنت.
190

وروى عمر بن ميمون قال لما طعن عمر دخل عليه كعب الأحبار فقال
(الحق من ربك فلا تكونن من الممترين) (1) قد أنبأتك أنك شهيد فقال
من أين لي بالشهادة وأنا بجزيرة العرب!.
وروى ابن عباس قال: لما طعن عمر وجئته بخبر أبى لؤلؤة أتيته والبيت
ملآن فكرهت أن أتخطى رقابهم - وكنت حديث السن - فجلست وهو مسجى
وجاء كعب الأحبار وقال لئن دعا أمير المؤمنين ليبقيه الله لهذه الأمة حتى يفعل فيها
كذا وكذا! حتى ذكر المنافقين فيمن ذكر فقلت: أبلغه ما تقول: قال: ما قلت إلا وأنا
أريد أن تبلغه فتشجعت وقمت فتخطيت رقابهم حتى جلست عند رأسه وقلت
إنك أرسلتني بكذا إن عبد المغيرة قتلك وأصاب معك ثلاثة عشر إنسانا وإن كعبا
هاهنا وهو يحلف بكذا فقال ادعو إلى كعبا فدعى فقال: ما تقول؟ قال: أقول كذا
قال لا والله لا أدعو ولكن شقي عمر إن لم يغفر الله له.
وروى المسور بن مخرمة أن عمر لما طعن أغمي عليه طويلا فقيل إنكم لم
توقظوه بشئ مثل الصلاة إن كانت به حياة! فقالوا! الصلاة يا أمير المؤمنين، الصلاة
قد صليت! فانتبه فقال: الصلاة لاها الله لا أتركها لاحظ في الاسلام لمن ترك
الصلاة! فصلى وإن جرحه لينثعب (2) دما.
وروى المسور بن مخرمة أيضا قال: لما طعن عمر جعل يألم ويجزع فقال ابن
عباس: ولا وكل ذلك يا أمير المؤمنين لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وآله فأحسنت
صحبته ثم فارقته وهو عنك راض وصحبت أبا بكر وأحسنت صحبته وفارقك وهو
عنك راض ثم صحبت المسلمين فأحسنت إليهم وفارقتهم وهم عنك راضون

(1) سورة البقرة 147
(2) ينثعب: يسيل.
191

قال أما ما ذكرت من صحبة رسول الله صلى الله عليه وآله وأبى بكر فذلك مما من
الله به على وأما ما ترى من جزعي فوالله لو أن لي بما في الأرض ذهبا لافتديت به من عذاب
الله قبل أن أراه - وفى رواية لافتديت به من هول المطلع. وفى رواية المغرور من غررتموه!
لو أن لي ما على ظهرها من صفراء وبيضاء لافتديت به من هول المطلع وفي رواية: في
الامارة على تثنى يا بن عباس! قلت: وفى غيرها، قال: والذي نفسي بيده لوددت أنى خرجت
منها كما دخلت فيها لا حرج ولا وزر وفى رواية لو كان لي ما طلعت عليه الشمس
لافتديت به من كرب ساعة - يعنى الموت - كيف ولم أرد الناس بعد! وفى رواية لو
أن لي الدنيا وما فيها لافتديت به من هول ما أمامي قبل أن أعلم ما الخبر.
قال ابن عباس فسمعنا صوت أم كلثوم وا عمراه! وكان معها نسوة يبكين فارتج
البيت بكاء فقال عمر: ويلم عمر إن الله لم يغفر له! فقلت: والله إني لأرجو ألا
تراها إلا مقدار ما قال الله تعالى (وإن منكم إلا واردها) (1) إن كنت - ما علمنا -
لأمير المؤمنين وسيد المسلمين تقضى بالكتاب وتقسم بالسوية.
فأعجبه قولي فاستوى جالسا فقال أتشهد لي بهذا يا بن عباس؟ فكععت - أي
جبنت - فضرب علي عليه السلام بين كتفي وقال: أشهد وفي رواية لم تجزع
يا أمير المؤمنين؟ فوالله لقد كان إسلامك عزا وإمارتك فتحا ولقد ملأت الأرض عدلا
فقال: أتشهد لي بذلك يا بن عباس؟ قال: فكأنه كره الشهادة فتوقف فقال له علي عليه
السلام قل: نعم، وأنا معك، فقال: نعم.
وفى رواية أنه قال: مسست جلده وهو ملقى فقلت: جلد لا تمسه النار أبدا فنظر إلى
نظرة جعلت أرثى له منها، قال: وما علمك بذلك؟ قلت: صحبت رسول الله صلى الله
عليه وآله فأحسنت صحبته... الحديث، فقال: لو أن لي ما في الأرض لافتديت

(1) سورة مريم 71.
192

به من عذاب الله قبل أن ألقاه أو أراه.
وفي رواية قال فأنكرنا الصوت وإذا عبد الرحمن بن عوف وقيل طعن
أمير المؤمنين فانصرف الناس وهو في دمه مسجى لم يصل الفجر بعد فقيل يا أمير
المؤمنين الصلاة! فرفع رأسه وقال لاها الله إذن لاحظ لامرئ في الاسلام ضيع صلاته. ثم
وثب ليقوم فانثعب جرحه دما فقال هاتوا لي عمامة فعصب بها جرحه ثم صلى وذكر
ثم التفت إلى ابنه عبد الله وقال ضع خدي إلى الأرض يا عبد الله قال عبد الله فلم
أعج بها وظننت أنها اختلاس من عقله فقالها مرة أخرى: ضع خدي إلى الأرض يا بنى
فلم أفعل فقال الثالثة: ضع خدي إلى الأرض لا أم لك! فعرفت أنه مجتمع
العقل ولم يمنعه أن يضعه هو إلا ما به من الغلبة فوضعت خده إلى الأرض حتى نظرت
إلى أطراف شعر لحيته خارجة من أضعاف التراب وبكى حتى نظرت إلى الطين قد لصق
بعينه فأصغيت أذني لأسمع ما يقول فسمعته يقول يا ويل عمر! وويل أم عمر إن
لم يتجاوز الله عنه
وقد جاء في رواية أن عليا عليه السلام جاء حتى وقف عليه فقال: ما أحد أحب
إلى أن ألقى الله بصحيفته من هذا المسجى!
وروى عن حفصة أم المؤمنين، قالت: سمعت أبي يقول في دعائه اللهم قتلا في
سبيلك ووفاة في بلد نبيك! قلت: وأنى يكون هذا؟ قال: يأتي به الله إذا شاء
ويروى أن كعبا كان يقول له نجدك في كتبنا تموت شهيدا فيقول كيف لي
بالشهادة وأنا في جزيرة العرب!.
وروى المقدام بن معد يكرب قال لما أصيب عمر دخلت عليه حفصة ابنته
فنادت يا صاحب رسول الله ويا صهر رسول الله ويا أمير المؤمنين! فقال لابنه عبد الله
أجلسني فلا صبر لي على ما أسمع فأسنده إلى صدره فقال لها: إني أحرج عليك
193

بما لي عليك من الحق أن تندبيني عينك فلن أملكها إنه ليس
من ميت يندب عليه بما ليس فيه إلا الملائكة تمقته.
وروى الأحنف قال: سمعت عمر يقول: إن قريشا رؤوس الناس ليس أحد منهم
يدخل من باب إلا دخل معه طائفة من الناس فلما أصيب عمر أمر صهيبا أن يصلى بالناس
ثلاثة أيام ويطعمهم حتى يجتمعوا على رجل فلما وضعت الموائد كف الناس عن
الطعام فقال العباس بن عبد المطلب أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات
فأكلنا بعده ومات أبو بكر فأكلنا بعده وإنه لا بد للناس من الاكل ثم مد يده
فأكل من الطعام فعرفت قول عمر.
ويروى كثير من الناس الشعر المذكور في الحماسة ويزعم أن هاتفا من الجن
هتف به وهو
جزيت عن الاسلام خيرا وباركت * يد الله في ذاك الأديم الممزق (1)
فمن يسع أو يركب جناحي نعامة * ليدرك ما قدمت بالأمس يسبق
قضيت أمورا ثم غادرت بعدها * بوائق في أكمامها لم تفتق (2)
أبعد قتيل بالمدينة أظلمت * له الأرض تهتز العضاد بأسوق! (3)
وما كنت أخشى أن تكون وفاته * بكفي سبنتي أزرق العين مطرق (4)
تظل الحصان البكر يلقى جنينها * نثا خبر فوق المطي معلق.
والأكثرون يروونها لمزرد أخي الشماخ ومنهم من يرويها للشماخ نفسه * (هامش)

(1) ديوان الحماسة - بشرح المرزوقي 3: 1090 ونسبها إلى الشماخ.
(2) البوائق: الدواهي العامة.
(3) العضاه: شجر.
(4) السبنتي، أصله في النمر، ويستعمل في الجرئ المقدم. والمطرق: الغليظ الجفن الثقيلة.
194

[فصل في ذكر ما طعن به على عمر والجواب عنه]
ونذكر في هذا الموضع به على عمر في (المغني) من المطاعن وما اعترض به الشريف
المرتضى على قاضى القضاة وما أجاب به قاضى القضاة في كتابه المعروف (بالشافي)
ونذكر ما عندنا في البعض من ذلك
* * *
الطعن الأول
قال قاضى القضاة: أول ما طعن به عليه قول من قال: إنه بلغ من قلة علمه أنه لم يعلم
أن الموت يجوز على النبي صلى الله عليه وآله وأنه أسوة الأنبياء في ذلك حتى قال
والله ما مات محمد ولا يموت حتى تقطع أيدي رجال وأرجلهم فلما تلا عليه أبو بكر
قوله تعالى (إنك ميت وإنهم ميتون) (1) وقوله (وما محمد إلا رسول قد خلت
من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم...) (2) الآية قال: أيقنت
بوفاته وكأني لم أسمع هذه الآية فلو كان يحفظ القرآن أو يفكر فيه لما قال ذلك وهذا
يدل على بعده من حفظ القرآن وتلاوته ومن هذا حاله لا يجوز أن يكون إماما.
قال قاضى القضاة وهذا لا يصح لأنه قد روى عنه أنه قال كيف يموت وقد قال
الله تعالى (ليظهره على الدين كله) (3) وقال: (وليبدلنهم من بعد خوفهم
أمنا) (4) ولذلك نفى موته عليه السلام لأنه حمل الآية على أنها خبر عنه في حال حياته

(1) سورة المؤمن 15
(2) سورة آل عمران 144.
(3) سورة التوبة 33
(4) سورة النور 55.
195

حتى قال له أبو بكر: إن الله وعده بذلك وسيفعله وتلا عليه ما تلا فأيقن عند ذلك
بموته وإنما ظن أن موته يتأخر عن ذلك الوقت لا أنه منع من موته.
ثم سأل (1) قاضى القضاة نفسه فقال: فإن قيل: فلم قال لأبي بكر عند قراءة الآية:
كأني لم أسمعها ووصف نفسه بأنه أيقن بالوفاة!.
وأجاب بأن قال: لما كان الوجه في ظنه ما أزال أبو بكر الشبهة فيه جاز أن يتيقن
ثم سأل نفسه عن سبب يقينه فيما لا يعلم إلا بالمشاهدة.
وأجاب بأن قرينة الحال عند سماع الخبر أفادته اليقين ولو لم يكن في ذلك إلا خبر أبي
بكر وادعاؤه لذلك والناس مجتمعون لحصل اليقين.
وقوله كأني لم أقرأ هذه الآية أو لم أسمعها تنبيه على (2) ذهوله عن الاستدلال بها
لا أنه على الحقيقة لم يقرأها ولم يسمعها ولا يجب فيمن ذهب عن بعض أحكام
الكتاب ألا يعرف القرآن لان ذلك لو دل لوجب ألا يحفظ القرآن إلا من يعرف
جميع أحكامه ثم ذكر أن حفظ القرآن كله غير واجب ولا يقدح الاخلال به في الفضل.
وحكى عن الشيخ أبى على أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يحط علمه بجميع الاحكام
ولم يمنع ذلك من فضله واستدل بما روى من قوله كنت إذا سمعت من رسول الله
صلى الله عليه وآله حديثا نفعني الله به ما شاء أن ينفعني وإذا حدثني غيره أحلفته
فان حلف لي صدقته وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر وذكر أنه لم يعرف أي موضع يدفن
فيه رسول الله صلى الله عليه وآله حتى رجع إلى ما رواه أبو بكر وذكر قصة الزبير في موالي
صفية وإن أمير المؤمنين عليه السلام أراد أن يأخذ ميراثهم كما أن عليه أن يحمل عقلهم
حتى أخبره عمر بخلاف ذلك من أن الميراث للأب والعقل على العصبة

(1) الشافي: (ثم قال).
(2) الشافي: (تنبيه عن ذهابه إلى الاستدلال).
196

. ثم سأل نفسه فقال: كيف يجوز ما ذكرتم على أمير المؤمنين عليه السلام مع قوله
(سلوني قبل أن تفقدوني) وقوله إن هاهنا علما جما) يومئ إلى قلبه وقوله
(لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم
وبين أهل الزبور بزبورهم وبين أهل القرآن بقرآنهم) وقوله: (كنت إذا سئلت
أجبت وإذا سكت ابتديت).
وأجاب عن ذلك بأن هذا إنما يدل على عظم المحل في العلم من غير أن يدل على
الإحاطة بالجميع.
وحكى عن أبي على استبعاده ما روى من قوله (لو ثنيت الوسادة) قال: لأنه
لا يجوز أن يصف نفسه بأنه يحكم بما لا يجوز ومعلوم أنه عليه السلام لا يحكم بين الجميع
إلا بالقرآن ثنيت له الوسادة أو لم تثن وهذا يدل على أن الخبر موضوع.
* * *
فاعترض الشريف المرتضى فقال: ليس يخلو خلاف عمر في وفاة رسول الله صلى
الله عليه وآله من أن يكون على سبيل الانكار لموته على كل حال والاعتقاد بأن الموت
لا يجوز عليه على كل وجه أو يكون منكرا لموته في تلك الحال من حيث لم يظهر دينه
على الدين كله وما أشبه ذلك مما قال صاحب الكتاب: إنها كانت شبهة في تأخر موته
عن تلك الحال.
فإن كان الوجه الأول فهو مما لا يجوز خلاف العقلاء في مثله والعلم بجواز الموت على
سائر البشر لا يشك فيه عاقل والعلم من دينه عليه السلام بأنه سيموت كما مات من قبله
ضروري وليس يحتاج في مثل هذا إلى الآيات التي تلاها أبو بكر من قوله تعالى (إنك
ميت وإنهم ميتون) وما أشبهها
وإن كان خلافه على الوجه الثاني تأول ما فيه أن هذا الخلاف لا يليق بما احتج
به أبو بكر من قوله تعالى (إنك ميت وإنهم ميتون) لأنه لم ينكر على هذا جواز
الموت وإنما خالف في تقدمه وقد كان يجب أن يقول له وأي حجة في هذه الآيات على
197

من جوز عليه صلى الله عليه وآله الموت في المستقبل وأنكره في هذه الحال!
وبعد فكيف دخلت الشبهة البعيدة على عمر من بين سائر الخلق! ومن أين زعم أنه
لا يموت حتى يقطع أيدي رجال وأرجلهم! وكيف حمل معنى قوله تعالى: (ليظهره على
الدين كله) وقوله (وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا) على أن ذلك لا يكون في
المستقبل بعد الوفاة! وكيف لم يخطر هذا إلا لعمر وحده ومعلوم أن ضعف الشبهة إنما يكون
من ضعف الفكرة وقلة التأمل والبصيرة! وكيف لم يوقن بموته لما رأى ما عليه أهل الاسلام
من اعتقاد موته وما ركبهم من الحزن والكآبة لفقده! وهلا دفع بهذا اليقين ذلك
التأويل البعيد فلم يحتج إلى موقف ومعرف! وقد كان يجب - إن كانت هذه شبهة - أن
يقول في حال مرض رسول الله صلى الله عليه وآله وقد رأى جزع أهله وأصحابه وخوفهم
عليه من الوفاة حتى يقول أسامة بن زيد معتذرا من تباطئه (1) عن الخروج في الجيش الذي
كان رسول الله صلى الله عليه وآله يكرر ويردد الامر حينئذ بتنفيذه لم أكن ذ
عنك الركب -: ما هذا الجزع والهلع وقد أمنكم الله من موته بكذا في وجه كذا وليس
هذا من أحكام الكتاب التي يعذر من لا يعرفها على ما ظنه صاحب الكتاب (2).
* * *
قلت الذي قرأناه ورويناه من كتب التواريخ يدل على إن عمر أنكر موت
رسول الله صلى الله عليه وآله من الوجهين المذكورين أنكر أولا أن يموت إلى يوم
القيامة واعتقد عمر أنه يعمر كما يعتقد كثير من الناس في الخضر فلما حاجه أبو بكر
بقوله تعالى (إنك ميت وإنهم ميتون) وبقوله (أفإن مات أو قتل)
رجع عن ذلك الاعتقاد.
وليس يرد على هذا ما اعترض به المرتضى لان عمر ما كان يعتقد استحالة الموت عليه
كاستحالة الموت على البارئ تعالى - أعني الاستحالة الذاتية بل اعتقد استمرار حياته إلى يوم

(1) الشافي: (من تأخره).
(2) الشافي 252.
(3) سورة الزمر 30
(4) سورة آل عمران 144.
198

القيامة مع كون الموت جائزا في العقل عليه ولا تناقض في ذلك فإن إبليس يبقى حيا
إلى يوم القيامة مع كون موته جائزا في العقل وما أورده أبو بكر عليه لازم على إن
يكون نفيه للموت على هذا أوجه.
وأما الوجه الثاني فهو أنه لما دفعه أبو بكر عن ذلك الاعتقاد وقف مع شبهه أخرى
اقتضت عنده أن موته يتأخر وإن لم يكن إلى يوم القيامة وذلك أنه تأول قوله تعالى
(هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله) (1) فجعل
الضمير عائدا على الرسول لا على الدين وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يظهر
بعد على سائر الأديان فوجب أن تستمر حياته إلى أن يظهر على الأديان بمقتضى الوعد
الذي لا يجوز عليه الخلف والكذب فحاجه أبو بكر من هذا المقام فقال له: إنما أراد
ليظهر دينه وسيظهره فيما بعد ولم يقل (ليظهره الان) فمن ثم قال له: ولو أراد
ليظهر الرسول صلى الله عليه وسلم على الدين كله لكان الجواب واحدا لأنه إذا ظهر
دينه فقد أظهره هو.
فأما قول المرتضى رحمه الله (وكيف دخلت هذه الشبهة على عمر من بين الخلق؟)
فهكذا تكون الخواطر والشبه! والاعتقادات تسبق إلى ذهن واحد دون غيره وكيف
دخلت الشبهة على جماعة منعوا الزكاة واحتجوا بقوله تعالى (وصل عليهم إن صلاتك
سكن لهم) (2) دون غيرهم من قبائل العرب! وكيف دخلت الشبهة على أصحاب الجمل
وصفين دون غيرهم! وكيف دخلت الشبهة على خوارج النهروان دون غيرهم! وهذا
باب واسع
فأما قوله (ومن أين زعم أنه لا يموت حتى تقطع أيدي رجال وأرجلهم) فإن الذي

(1) سورة التوبة 23
(2) سورة التوبة 96.
199

ذكره المؤرخون أنه قال: ما مات رسول الله صلى الله عليه وآله وإنما غاب عنا كما غاب
موسى عن قومه وسيعود فتقطع أيدي رجال وأرجلهم ممن أرجف بموته وهذه الرواية
تخالف ما ذكره المرتضى.
فأما قوله: وكيف حمل معنى قوله: (ليظهره على الدين كله) وقوله
(وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا) (1) على أن ذلك لا يكون في المستقبل! فقد بينا
الشبهة الداخلة عليه في ذلك وكونه ظن أن ذلك يكون معجلا على الفور وكذلك قوله
(وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما
استخلف الذين من قبلهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا) (1) فإنه ظن أن هذا العموم
يدخل فيه رسول الله صلى الله عليه وآله لأنه سيد المؤمنين وسيد الصالحين أو أنه
لفظ عام والمراد به رسول الله وحده كما ورد في كثير من آيات القرآن مثل ذلك فظن
أن هذا الاستخلاف في جميع الأرض وتبديل الخوف بالأمن إنما هو على الفور لا على
التراخي وليست هذه الشبهة بضعيفة جدا كما ظن المرتضى بل هي موضع نظر.
فأما قوله (كيف لم يؤمن بموته لما رأى من كآبة الناس وحزنهم!) فلان الناس
يبنون الامر على الظاهر وعمر نظر في أمر باطن دقيق فأعتقد أن الرسول لم يمت
وإنما ألقى شبهة على غيره كما ألقى شبه عيسى على غيره فصلب وعيسى قد رفع ولم يصلب
واعلم أن أول من سن لأهل الغيبة من الشيعة القول بأن الامام لم يمت
ولم يقتل وإن كان في الظاهر وفى مرأى العين قد قتل أو مات إنما هو عمر
ولقد كان يجب على المرتضى وطائفته أن يشكروه على ما أسس لهم من هذا
الاعتقاد.

(1) سورة النور 55.
200

فأما قوله فهلا قال في مرض رسول الله صلى الله عليه وآله لما رأى جزعهم لموته:
(قد أمنكم الله من موته)! فغير لازم لان الشبهة لا تجب أن تخطر بالبال في كل الأوقات
فلعله قد كان في ذلك الوقت غافلا عنها مشغول الذهن بغيرها ولو صح للمرتضى هذا
لوجب أن يدفع ويبطل كل ما يتجدد ويطرأ على الناس من الشبهة في المذاهب والآراء
فنقول: كيف طرأت عليهم هذه الشبهات الان ولم تطرأ عليهم من قبل؟ وهذا من
اعتراضات المرتضى الضعيفة على أنا قد ذكرنا نحن في الجزء الأول من هذا الكتاب
ما قصده عمر بقوله (أن رسول الله لم يمت) وقلنا فيه قولا شافيا لم نسبق إليه فليعاود
ثم قال المرتضى: فأما ما روى عن أمير المؤمنين عليه السلام من خبر الاستحلاف
في الاخبار فلا يدل على عدم علم أمير المؤمنين بالحكم لأنه يجوز أن يكون استحلافه
ليرهب المخبر ويخوفه من الكذب على النبي صلى الله عليه وآله لان العلم بصحة الحكم
الذي يتضمنه الخبر لا يقتضى صدق المخبر وأيضا فلا تاريخ لهذا الحديث (1) ويمكن أن
يكون استحلافه عليه السلام للرواة (2) إنما كان في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وفى
تلك الحال لم يكن محيطا بجميع الاحكام.
فأما حديث الدفن وإدخاله في باب أحكام الدين التي يجب معرفتها فطريف
وقد يجوز أن يكون أمير المؤمنين عليه وآله سمع من النبي صلى الله عليه وآله في باب
الدفن مثل ما سمعه أبو بكر وكان عازما على العمل به حتى روى أبو بكر ما رواه فعمل
بما كان يعلمه لا من طريق أبى بكر وظن الناس أن العمل لأجله ويجوز أن يكون
رسول الله صلى الله عليه وآله خير وصيه عليه السلام في موضع دفنه ولم يعين له موضعا
بعينه فلما روى أبو بكر ما رواه رأى موافقته فليس في هذا دلالة على أنه عليه السلام
استفاد حكما لم يكن عنده.

(1) الشافي: (الخبر).
(2) الشافي: (في الاخبار).
201

وأما موالي صفية فحكم الله فيهم ما أفتى به أمير المؤمنين عليه السلام وليس سكوته
حيث سكت عند عمر رجوعا عما أفتى به ولكنه كسكوته عن كثير من الحق تقيه
ومداراة للقوم.
وأما قوله عليه السلام (سلوني قبل أن تفقدوني) وقوله (إن هاهنا لعلما
جما) إلى غير ذلك فإنه لا يدل على عظم المحل في العلم فقط على ما ظنه صاحب
الكتاب بل هو قول واثق بنفسه آمن من أن يسأل عما لا يعلمه وكيف يجوز أن
يقول مثله على رؤوس الاشهاد وظهور المنابر (سلوني قبل أن تفقدوني) وهو يعلم أن
كثيرا من أحكام الدين يعزب عنه (1) وأين كان أعداؤه والمنتهزون لفرصته وزلته عن
سؤاله عن مشكل المسائل وغوامض الاحكام! والامر في هذا ظاهر.
فأما استبعاد أبى على لما روى عنه عليه السلام من قوله (لو ثنيت لي الوسادة)
للوجه الذي ظنه فهو البعيد فإنه لم يفطن لغرضه عليه السلام وإنما أراد: أنى
كنت أقاضيهم إلى كتبهم الدالة على البشارة بنبينا صلى الله عليه وآله وصحة شرعه
فأكون حاكما حينئذ عليهم بما تقتضيه كتبهم من هذه الشريعة وأحكام هذا القرآن
وهذا من جليل الأغراض وعظيمها (2).
* * *
الطعن الثاني
أنه أمر برجم حامل حتى نبهه معاذ وقال: إن يكن لك عليها سبيل فلا سبيل
لك على ما في بطنها فرجع عن حكمه وقال: لولا معاذ لهلك عمر ومن يجهل هذا القدر
لا يجوز أن يكون إماما لأنه يجرى مجرى أصول الشرع بل العقل يدل عليه لان
الرجم عقوبة ولا يجوز أن يعاقب من لا يستحق.
.

(1) الشافي: (يغرب).
(2) الشافي 252، 253.
202

اعتذر قاضى القضاة عن هذا فقال: إنه ليس في الخبر إنه أمر برجمها مع علمه بأنها
حامل لأنه ليس ممن يخفى عليه هذا القدر وهو أن الحامل لا ترجم حتى تضع وإنما
ثبت عنده زناها فأمر برجمها على الظاهر وإنما قال: ما قال: في معاذ لأنه نبهه على
أنها حامل.
ثم سأل (1) نفسه فقال: فإن قيل: إذا لم تكن منه معصية فكيف يهلك لولا معاذ!
وأجاب بأنه لم يرد لهلك من جهة العذاب وإنما أراد أنه كان يجرى بقوله قتل
من لا يستحق القتل ويجوز أن يريد بذلك تقصيره في تعرف حالها لان ذلك لا يمتنع
أن يكون بخطيئة وإن صغرت.
اعترض المرتضى على هذا الاعتذار فقال: لو كان (2) الامر على ما ظننته لم يكن تنبيه
معاذ له على هذا الوجه بل كان يجب أن ينبهه بأن يقول له: هي حامل ولا يقول له:
إن كان لك سبيل عليها فلا سبيل لك على ما في بطنها لان هذا قول من عنده أنه أمر
برجمها مع العلم بحملها وأقل ما يجب لو كان الامر كما ظنه صاحب الكتاب أن يقول لمعاذ
ما ذهب على أن الحامل لا ترجم وإنما أمرت برجمها لفقد علمي بحملها فكان ينفى بهذا
القول عن نفسه الشبهة! وفى إمساكه عنه مع شدة الحاجة إليه دليل على صحة قولنا وقد
كان يجب أيضا أن يسأل عن الحمل لأنه أحد الموانع من الرجم فإذا علم انتفاءه وارتفاعه
أمر بالرجم وصاحب الكتاب قد أعترف بأن ترك المسألة عن ذلك تقصير وخطيئة
وادعى أنها صغيرة ومن أين له ذلك ولا دليل يدل عنده في غير الأنبياء عليه السلام
إن معصية بعينها صغيرة.
فأما إقراره بالهلاك لولا تنبيه معاذ فإنه يقتضى التعظيم والتفخيم لشأن الفعل ولا يليق
ذلك إلا بالتقصير الواقع أما في الامر برجمها مع العلم بأنها حامل أو ترك البحث عن ذلك

(1) الشافي: (قال: (فإن قيل).
(2) الشافي: (يقال له: ما تأولت به في الخبر من التأويل
البعيد، لان لو كان الامر على ما ظنه...).
203

والمسألة عنه وأي لوم عليه في أن يجرى بقوله قتل من لا يستحق القتل إذا لم يكن ذلك
عن تفريط منه ولا تقصير (1).
* * *
قلت أما ظاهر لفظ معاذ فيشعر بما قاله المرتضى ولم يمتنع أن يكون عمر لم يعلم أنها
حامل وأن معاذا قد كان من الأدب أن يقول له حامل يا أمير المؤمنين فعدل عن هذا
اللفظ بمقتضى أخلاق العرب وخشونتهم فقال له: إن كان لك عليها سبيل فلا سبيل لك
على ما في بطنها فنبهه على العلة والحكم معا وكان الأدب أن ينبهه على العلة فقط.
وأما عدول عمر عن أن يقول أنا أعلم أن الحامل لا ترجم وإنما أمرت برجمها
لأني لم أعلم أنها حامل فلأنه إنما يجب أن يقول مثل هذا من يخاف من اضطراب حاله
أو نقصان ناموسه وقاعدته إن لم يقله وعمر كان أثبت قدما في ولايته وأشد تمكنا من
أن يحتاج إلى الاعتذار بمثل هذا.
وأما قول المرتضى كان يجب أن يسأل عن الحمل لأنه أحد الموانع من الرجم فكلام
صحيح لازم ولا ريب أن ترك السؤال عن ذلك نوع من الخطأ ولكن المرتضى قد ظلم
قاضى القضاة لأنه زعم أنه ادعى أن ذلك صغيرة ثم أنكر عليه ذلك ومن أين له ذلك!
وأي دليل دل على أن هذه المعصية صغيرة وقاضي القضاة ما ادعى أن ذلك صغيرة! بل
قال: لا يمتنع أن يكون ذلك خطيئة وإن صغرت والعجب أنه حكى لفظ قاضى القضاة
بهذه الصورة، ثم قال: إنه ادعى أنها صغيرة، وبين قول القائل (لا يمتنع أن يكون
صغيرة) وقوله (هي صغيرة) لا محالة فرق عظيم.
وأما قول عمر: لولا معاذ لهلك عمر فان ظاهر اللفظ يشعر بما يريده المرتضى وينحو
إليه ولا يمتنع أن يكون المقصود به ما ذكره قاضى القضاة وإن كان مرجوحا فإن القائل خطأ

(1) الشافي 353.
204

قد يقول: هلكت ليس يعنى به العقاب يوم القيامة بل لوم الناس وتعنيفهم إياه على ترك
الاحتراس وإهمال التثبت
* * *
الطعن الثالث
خبر المجنونة التي أمر برجمها، فنبهه أمير المؤمنين عليه السلام، وقال: إن القلم
مرفوع عن المجنون حتى يفيق فقال: لولا على لهلك عمر (1)! وهذا يدل على أنه لم يكن
يعرف الظاهر من الشريعة.
أجاب قاضى القضاة فقال: ليس في الخبر أنه عرف جنونها فيجوز أن يكون الذي
نبه عليه هو جنونها دون الحكم لأنه كان يعلم أن الحد لا يقام في حال الجنون وإنما قال: لولا
على لهلك عمر لا من جهة المعصية والاثم لكن لان حكمه لو نفذ لعظم غمه ويقال: في
شدة الغم إنه هلاك كما يقال: في الفقر وغيره وذلك مبالغة منه لما كان يلحقه من الغم الذي
زال بهذا التنبيه على أن هذا الوجه مما لا يمتنع في الشرع أن يكون صحيحا وأن يقال:
إذا كانت مستحقة للحد فإقامته عليها تصح وإن لم يكن لها عقل لأنه لا يخرج الحد
من أن يكون واقعا موقعه ويكون قوله عليه السلام: (رفع القلم عن ثلاث) يراد به زوال
التكليف عنهم دون زوال إجراء الحكم عليهم ومن هذه حاله لا يمتنع أن يكون مشتبها
فرجع فيه إلى غيره ولا يكون الخطأ فيه مما يعظم فيمنع من صحة الإمامة.
* * *
اعترض الشريف المرتضى هذا فقال: لو كان أمر برجم المجنونة من غير علم بجنونها
لما قال: له أمير المؤمنين أما علمت أن القلم مرفوع عن المجنون حتى يفيق! بل كان يقول
له بدلا من ذلك هي مجنونة وكان ينبغي أن يقول عمر متبرئا من الشبهة ما علمت بجنونها
ولست ممن يذهب عليه أن المجنون لا يرجم فلما رأيناه استعظم ما أمر به وقال: لولا

(1) بعدها في الشافي: (ويرى ذلك لمعاذ).
205

على لهلك عمر دلنا على أنه كان تأثم وتحرج بوقوع الامر بالرجم وأنه مما لا يجوز ولا يحل
وإلا فلا معنى لهذا الكلام وأما ذكر الغم فأي غم كان يلحقه إذا فعل ما له أن يفعله!
ولم يكن منه تفريط ولا تقصير لأنه إذا كان جنونها لم يعلم به فكانت المسألة عن حالها
والبحث لا يجبان عليه فأي وجه لتألمه وتوجعه واستعظامه لما فعله! وهل هذا إلا كرجم
المشهود عليه بالزنا في أنه لو ظهر للامام بعد ذلك براءة ساحته لم يجب أن يندم على فعله
ويستعظمه لأنه وقع صوابا مستحقا.
وأما قوله إنه كان لا يمتنع في الشرع أن يقام الحد على المجنون وتأوله الخبر المروى
على أنه يقتضى زوال التكليف دون الاحكام فان أراد أنه لا يمتنع في العقل أن يقام على
المجنون ما هو من جنس الحد بغير استخفاف ولا إهانة فذلك صحيح كما يقام على التائب
وأما الحد في الحقيقة وهو الذي تضمنه الاستخفاف والإهانة فلا يجوز إلا على المكلفين
ومستحقي العقاب وبالجنون قد أزيل التكليف فزال استحقاق العقاب الذي
تبعه الحد.
وقوله: لا يمتنع أن يرجع فيما هذه حاله من المشتبه إلى غيره فليس هذا من المشتبه
الغامض بل يجب أن يعرفه العوام فضلا عن العلماء على أنا قد بينا إنه لا يجوز أن
يرجع الإمام في جلى ولا مشتبه من أحكام الدين إلى غيره.
وقوله: إن الخطأ في ذلك لا يعظم فيمنع من صحة الإمامة اقتراح بغير حجة لأنه
إذا اعترف بالخطأ فلا سبيل للقطع على أنه صغير (1).
قلت لو كان قد نقل أن أمير المؤمنين قال له: (أما علمت) لكان قول المرتضى قويا
ظاهرا إلا أنه لم ينقل هذه الصيغة بعينها والمعروف المنقول أنه قال له: قال رسول الله صلى
الله عليه وآله: (رفع القلم عن ثلاث) فرجع عن رجمها ويجوز أن يكون أشعره بالعلة

(1) الشافي 353، 354.
206

والحكم معا لان هذا الموضع أكثر اشتباها من حديث رجم الحامل فغلب على ظن
أمير المؤمنين أنه لو اقتصر على قوله: إنها مجنونة لم يكن ذلك دافعا لرجمها فأكده
برواية الحديث واعتذار قاضى القضاة بالغم جيد وقول المرتضى أي غم كان يلحقه
إذا فعل ما له أن يفعله! ليس بإنصاف ولا مثل هذا يقال فيه إنه فعل ما له أن يفعله
ولا يقال في العرف لمن قتل إنسانا خطأ إنه فعل ما له أن يفعله والمرجوم في الزنا إذا
ظهر للامام بعد قتله براءة ساحته قد يغتم بقتله غما كثيرا بالطبع البشرى ويتألم وإن لم
يكن آثما وليس من توابع الاثم ولوازمه.
وقول المرتضى لم يجب أن يندم على ما فعله كلام خارج عما هو بصدده لأنه لم
يجر ذكر للندم وإنما الكلام في الغم ولا يلزم أن يكون كل مغتم نادما.
وأما اعتراضه على قاضى القضاة في قوله لا يمتنع في الشرع أن ترجم المجنونة فلما
اشتبه على عمر الامر سأل غيره عنه بقوله (أن أردت الحد الحقيقي فمعلوم وإن أردت
ما هو جنس الحد فمسلم) فليس بجيد لان هذا إنما يكون طعنا على عمر بتقدير ثلاثة
أمور: أحدها أن يكون النبي صلى الله عليه وآله قد قال: (أقيموا الحد على الزاني)
بهذا اللفظ أعني أن يكون في لفظ النص ذكر الحد وثانيها أن يكون الحد في اللغة
العربية أو في عرف الشرع الذي يتفاهمه الصحابة هو العقوبة المخصوصة التي يقارنها
الاستخفاف والإهانة وثالثها ألا يصح إهانة المجنون والاستخفاف به وأن يعلم عمر
ذلك فإذا اجتمعت هذه الأمور الثلاثة ثم أمر عمر بأن يقام الحد على المجنونة فقد توجه
الطعن ومعلوم أنه لم تجتمع هذه الأمور الثلاثة فإنه ليس في القرآن ولا في السنة ذكر
الحد بهذا اللفظ ولا الحد في اللغة العربية هو العقوبة التي يقارنها الاستخفاف والإهانة
ولا عرف الشرع ومواضعة الصحابة يشتمل على ذلك وإنما هذا شئ استنبطه المتكلمون
المتأخرون بأذهانهم وأفكارهم ثم بتقدير تسليم هذين المقامين لم قال: إن المجنون
207

لا يصح عليه الاستخفاف والإهانة؟ فمن الجائز أن يصح ذلك عليه وإن لم يتألم
بالاستخفاف والإهانة كما يتألم بالعقوبة وإذا صح عليه أن يألم بالعقوبة صح عليه
أن يألم بالاستخفاف والإهانة لان الجنون لا يبلغ - وإن عظم - مبلغا يبطل تصور
الانسان لإهانته ولاستخفافه وبتقدير ألا يصح على المجنون الاستخفاف والإهانة
من أين لنا أن عمر علم أن ذلك لا يصح عليه! فمن الممكن أن يكون ظن أن ذلك يصح
عليه لان هذا مقام اشتباه والتباس.
فاما قوله (قد بينا أنه لا يجوز أن يرجع الإمام أصلا إلى غيره) فهو مبنى على
مذهبهم وقواعدهم وقوله معترضا على كلام قاضى القضاة: إن الخطأ في ذلك قد لا يعظم
ليمنع من صحة الإمامة إن هذا اقتراح بغير حجة لأنه إذا اعترف بالخطأ فلا سبيل إلى
القطع على أنه صغير غير لازم لان قاضى القضاة لم يقطع بأنه صغير بل قال: لا يمتنع
وإذا جاز أن يكون صغيرا لم نكن قاطعين على فساد الإمامة به.
فإن قال المرتضى كما أنكم لا تقطعون على أنه صغير فتكون الإمامة مشكوكا
فيها، قيل له الأصل عدم الكبير، فإذا حصل الشك في أمر هل هو صغير أم
كبير تساقط التعارض ورجعنا إلى الأصل وهو عدم كون ذلك الخطأ كبيرا فلا
يمنع ذلك من صحة الإمامة.
* * *
الطعن الرابع
حديث أبي العجفاء وأن عمر منع من المغالاة في صدقات النساء اقتداء بما كان
من النبي صلى الله عليه وآله في صداق فاطمة حتى قامت المرأة ونبهته بقوله تعالى
(وآتيتم إحداهن قنطارا) (1) على جواز ذلك فقال: كل النساء أفقه من عمر!

(1) سورة النساء 20.
208

بما روى أنه تسور على قوم ووجدهم على منكر فقالوا له: إنك أخطأت من جهات
تجسست وقال الله تعالى: (ولا تجسسوا) (1) ودخلت بغير إذن ولم تسلم (2).
أجاب قاضى القضاة فقال: علمنا بتقدم عمر في العلم وفضله فيه ضروري فلا يجوز
أن يقدح فيه بأخبار أحاديث غير مشهورة وإنما أراد في المشهور أن المستحب الاقتداء
برسول الله صلى الله عليه وآله وأن المغالاة فيها ليس بمكرمة ثم عند التنبيه علم أن ذلك
مبنى على طيب النفس فقال: ما قاله على جهة التواضع لان من أظهر الاستفادة من
غيره - وإن قل علمه - فقد تعاطى الخضوع ونبه على أن طريقته أخذ الفائدة أينما وجدها
وصير نفسه قدوة في ذلك وأسوة وذلك حسن من الفضلاء وأما حديث التجسس فإن
كان فعله فقد كان له ذلك لان للامام أن يجتهد في إزالة المنكر بهذا الجنس من الفعل
وإنما لحقه - على ما (3) يروى في الخبر - الخجل لأنه لم يصادف الامر على ما ألقي إليه
في إقدامهم على المنكر
اعترض المرتضى على هذا الجواب فقال له: أما تعويلك على العلم الضروري بكونه
من أهل العلم والاجتهاد فذلك إذا صح لم ينفعك لأنه قد يذهب على من هو بهذه الصفة
كثير من الاحكام حتى ينبه عليها ويجتهد فيها وليس العلم الضروري ثابتا بأنه عالم بجميع
أحكام الدين فيكون قاضيا على هذه الأخبار فأما تأوله الحديث وحمله على الاستحباب
فهو دفع للعيان لان المروى أنه منع من ذلك وحظره حتى قالت المرأة ما قالت ولو كان
غير حاظر للمغالاة لما كان في الآية حجة ولا كان لكلام المرأة موقع ولا كان يعترف لها بأنها
أفقه منه بل كان الواجب أن يرد عليها ويوبخها ويعرفها أنه ما حظر لذلك وإنما تكون
.

(1) سورة الحجرات 12
(2) ا: (ودخلت ولم تسلم).
(3) ا: (روى).
209

الآية حجة عليه لو كان حاظر مانعا فأما التواضع فلا يقتضى إظهار القبيح وتصويب الخطأ
ولو كان الامر على ما توهمه صاحب الكتاب لكان هو المصيب والمرأة مخطئة فكيف
يتواضع بكلام يوهم أنه المخطئ وهي المصيبة! فأما التجسس فهو محظور بالقرآن والسنة
وليس للامام أن يجتهد فيما يؤدى إلى مخالفه الكتاب والسنة وقد كان يجب إن كان هذا
عذرا صحيحا أن يعتذر به إلى من خطأه في وجهه وقال له: إنك أخطأت السنة من وجوه فإنه
بمعاذير نفسه أعلم من صاحب الكتاب وتلك الحال حال تدعو إلى الاحتجاج
وإقامة العذر (1).
قلت قصارى هذا الطعن إن عمر اجتهد في حكم أو أحكام فأخطأ فلما نبه عليها
رجع وهذا عند المعتزلة وأكثر المسلمين غير منكر وإنما ينكر أمثال هذا من يبطل
الاجتهاد ويوجب عصمة الامام فإذا هذا البحث ساقط على أصول المعتزلة والجواب
عنه غير لازم علينا.
* * *
الطعن الخامس
أنه كان يعطى من بيت المال ما لا يجوز حتى إنه كان يعطى عائشة وحفصة عشرة
آلاف درهم في كل سنة منع أهل البيت خمسهم الذي يجرى مجرى الواصل إليهم من
قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وأنه كان عليه ثمانون ألف درهم من بيت المال على
سبيل القرض.
أجاب قاضى القضاة: بأن دفعه إلى الأزواج جائز من حيث أن لهن حقا في بيت

(1) الشافي 254، وزاد بعدها: (وكل هذا تلزيق وتلفيق).
210

المال وللامام أن يدفع ذلك على قدر ما يراه وهذا الفعل قد فعله من قبله ومن بعده ولو كان
منكرا لما استمر عليه أمير المؤمنين عليه السلام وقد ثبت استمراره عليه ولو كان ذلك
طعنا لوجب - إذا كان يدفع إلى الحسن والحسين وإلى عبد الله بن جعفر وغيرهم من بيت
المال شيئا - أن يكون في حكم الخائن وكل ذلك يبطل ما قالوه لان بيت المال إنما
يراد لوضع الأموال في حقوقها ثم الاجتهاد وإلى المتولي للامر في الكثرة والقلة.
فأما أمر الخمس فمن باب الاجتهاد وقد اختلف الناس فيه فمنهم من جعله حقا
لذوي القربى وسهما مفردا لهم على ما يقتضيه ظاهر الآية ومنهم من جعله حقا لهم من جهة
الفقر وأجراهم مجرى غيرهم وإن كانوا قد خصوا بالذكر كما أجرى الأيتام - وإن خصوا
بالذكر - مجرى غيرهم في أنهم يستحقون بالفقر والكلام في ذلك يطول فلم يخرج عمر بما
حكم به عن طريقة الاجتهاد ومن قدح في ذلك فإنما يقدح في الاجتهاد الذي هو
طريقه الصحابة.
فأما اقتراضه من بيت المال فان صح فهو غير محظور بل ربما كان أحوط إذا كان
على ثقة من رده بمعرفة الوجه الذي يمكنه منه الرد وقد ذكر الفقهاء ذلك وقال:
أكثرهم إن الاحتياط في مال الأيتام وغيرهم أن يجعل في ذمة الغنى المأمون لبعده عن
الخطر ولا فرق بين أن يقرض الغير أو يقترضه لنفسه ومن بلغ في أمره أن يطعن على عمر
بمثل هذه الأخبار - مع ما يعلم من سريرته وتشدده في ذات الله واحتياطه فيما يتصل بملك
الله وتنزهه عنه حتى فعل بالصبي الذي أكل من تمر الصدقة واحدة ما فعل وحتى كان
يرفع نفسه عن الامر الحقير ويتشدد على كل أحد حتى على ولده - فقد أبعد في القول.
اعترض المرتضى فقال: أما تفصيل الأزواج فإنه لا يجوز لأنه لا سبب فيهن
211

يقتضى ذلك وإنما يفضل الامام في العطاء ذوي الأسباب المقتضية لذلك مثل الجهاد وغيره
من الأمور العام نفعها للمسلمين.
وقوله إن لهن حقا في بيت المال صحيح إلا أنه لا يقتضى تفضيلهن على غيرهن
وما عيب بدفع حقهن إليهن وإنما عيب بالزيادة عليه وما يعلم أن أمير المؤمنين عليه
السلام استمر على ذلك - وإن كان صحيحا كما ادعى - فالسبب الداعي إلى الاستمرار عليه
هو السبب الداعي إلى الاستمرار على جميع الأحكام فأما تعلقه بدفع أمير المؤمنين إلى
الحسن والحسين وغيرهما شيئا من بيت المال فعجب! لأنه لم يفضل هؤلاء في العطية فيشبه
ما ذكرناه في الأزواج وإنما أعطاهم حقوقهم وسوى بينهم وبين غيرهم.
فأما الخمس فهو للرسول ولأقربائه على ما نطق به القرآن وإنما عنى تعالى بقوله
(ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) (1) من كان من آل الرسول
خاصة لأدلة كثيرة لا حاجة بنا إلى ذكرها هاهنا وقد روى سليم بن قيس الهلالي قال:
سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول: نحن والله الذين عنى الله بذي القربى قرنهم
الله بنفسه ونبيه صلى الله عليه وآله فقال: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى
فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) (2) كل هؤلاء
منا خاصة ولم يجعل لنا سهما في الصدقة أكرم الله تعالى نبيه وأكرمنا أن يطعمنا أوساخ
ما في أيدي الناس وروى يزيد بن هرم قال: كتب نجده إلى ابن عباس يسأله عن
الخمس لمن هو؟ فكتب إليه كتبت تسألني عن الخمس لمن هو؟ وإنا كنا نزعم أنه لنا
فأبى قومنا علينا ذلك فصبرنا عليه.
قال: وأما الاجتهاد الذي عول عليه فليس عذرا في إخراج الخمس عن أهله
فقد أبطلناه.

(1) سورة الأنفال 41.
(2) سورة الحشر 7.
212

وأما الاقتراض من بيت المال فهو مما يدعو إلى الريبة ومن كان من التشدد والتحفظ
والتقشف على الحد الذي ذكره كيف تطيب نفسه بالاقتراض من بيت المال وفيه حقوق
وربما مست الحاجة إلى الاخراج منها وأي حاجة لمن كان جشب المأكل خشن الملبس
يتبلغ بالقوت إلى اقتراض الأموال!.
فأما حكايته عن الفقهاء أن الاحتياط أن يحفظ مال الأيتام في ذمة الغنى المأمون
فذلك إذا صح لم يكن نافعا له لان عمر لم يكن غنيا ولو كان غنيا لما اقترض فقد
خرج اقتراضه عن أن يكون من باب الاحتياط وإنما اشترط (1) الفقهاء مع الأمانة الغنى
لئلا تمس الحاجة إليه فلا يمكن ارتجاعه ولهذا قلنا إن اقتراضه لحاجته إلى المال لم يكن
صوابا وحسن نظر للمسلمين (2).
* * *
قلت أما قوله: لا يجوز للامام أن يفضل في العطاء الا لسبب يقتضى ذلك كالجهاد
فليست أسباب التفضيل مقصورة على الجهاد وحده فقد يستحق الانسان التفضيل في
العطاء على غيره لكثرة عبادته أو لكثرة علمه أو انتفاع الناس به فلم لا يجوز أن يكون
عمر فضل الزوجات لذلك!.
وأيضا فان الله تعالى فرض لذوي القربى من رسول الله صلى الله عليه وآله نصيبا
في الفئ والغنيمة ليس إلا لأنهم ذوو قرابته فقط فما المانع من أن يقيس عمر على ذلك
ما فعله في العطاء فيفضل ذوي قرابة رسول في ذلك على غيرهم ليس إلا لأنهم ذوو قرابته
والزوجات وإن لم يكن لهن قربى النسب فلهن قربى الزوجية وكيف يقول المرتضى
ما جاز أن يفضل أحدا إلا بالجهاد! وقد فضل الحسن والحسين على كثير من أكابر
المهاجرين والأنصار وهما صبيان ما جاهدا ولا بلغا الحلم بعد وأبوهما أمير المؤمنين

(1) الشافي: (شرط).
(2) الشافي 255، وبعدها: (وفيه كفاية).
213

موافق على ذلك راض به غير منكر له وهل فعل عمر ذلك الا لقربهما من رسول
الله صلى الله عليه وآله!.
ونحن نذكر ما فعله عمر في هذا الباب مختصرا نقلناه من كتاب أبى الفرج عبد الرحمن
ابن علي بن الجوزي المحدث في (أخبار عمر وسيرته).
روى أبو الفرج عن أبي سلمه بن عبد الرحمن قال: استشار عمر الصحابة بمن يبدأ
في القسم والفريضة فقالوا: ابدأ بنفسك فقال: بل أبدأ بآل رسول الله صلى الله عليه
وآله وذوي قرابته فبدأ بالعباس
قال: ابن الجوزي وقد وقع الاتفاق على أنه لم يفرض لأحد أكثر مما فرض له.
وروى أنه فرض له اثنى عشر ألفا وهو الأصح ثم فرض لزوجات رسول الله صلى
الله عليه وآله لكل واحدة عشرة آلاف وفضل عائشة عليهن بألفين فأبت فقال:
ذلك بفضل منزلتك عند رسول الله صلى الله عليه وآله فإذا أخذت فشأنك واستثنى
من الزوجات جويرية وصفية وميمونة ففرض لكل واحدة منهن ستة آلاف فقالت
عائشة: إن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يعدل بيننا فعدل عمر بينهن وألحق هؤلاء
الثلاث بسائرهن ثم فرض للمهاجرين الذين شهدوا بدرا لكل واحد خمسه آلاف
ولمن شهدها من الأنصار لكل واحد أربعة آلاف.
وقد روى أنه فرض لكل واحد ممن شهد بدرا من المهاجرين أو من الأنصار أو من
غيرهم من القبائل خمسه آلاف ثم فرض لمن شهد أحدا وما بعدها إلى الحديبية أربة
آلاف ثم فرض لكل من شهد المشاهد بعد الحديبية ثلاثة آلاف ثم فرض لكل
من شهد المشاهد بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله ألفين وخمسمائة، وألفين، وألفا

(1) سيرة عمر بن الخطاب لابن الجوزي 80.
214

وخمسمائة وألفا واحدا إلى مائتين وهم أهل هجر ومات عمر على ذلك (1).
قال ابن الجوزي: وأدخل عمر في أهل بدر ممن لم يحضر بدرا أربعة وهم الحسن
والحسين وأبو ذر وسلمان ففرض لكل واحد منهم خمسة آلاف.
قال ابن الجوزي: وروى السدى أن عمر كسا أصحاب النبي صلى الله عليه وآله
فلم يرتض في الكسوة ما يستصلحه للحسن والحسين عليهما السلام فبعث إلى اليمن فأتى
لهما بكسوة فاخرة فلما كساهما قال: الان طابت نفسي.
قال ابن الجوزي: فأما ما اعتمده في النساء فإنه جعل نساء أهل بدر على خمسمائة ونساء
من بعد بدر إلى الحديبية على أربعمائة ونساء من بعد ذلك على ثلاثمائة وجعل نساء أهل
القادسية على مائتين مائتين ثم سوى بين النساء بعد ذلك.
ولو لم يدل على تصويب عمر فيما فعله إلا إجماع الصحابة واتفاقهم عليه وترك الانكار
لذلك كان كافيا.
فأما الخمس والخلاف فيه فإنها مسألة اجتهادية والذي يظهر لنا فيه ويغلب (2) عندنا
من أمرها أن الخمس حق صحيح ثابت وأنه باق إلى الان على ما يذهب إليه الشافعي
وأنه لم يسقط بموت رسول الله صلى الله عليه وآله ولكنا لا نرى ما يعتقده المرتضى من
أن الخمس لآل الرسول صلى الله عليه وآله وأن الأيتام أيتامهم والمساكين مساكينهم
وابن السبيل منهم لأنه على خلاف ما يقتضيه ظاهر الآية والعطف ويمكن أن يحتج
على ذلك بأن قوله تعالى في سورة الحشر (للفقراء المهاجرين) يبطل هذا القول
لأن هذه اللام لا بد أن تتعلق بشئ وليس قبلها ما تتعلق به أصلا إلا أن تجعل بدلا
من اللام التي قبلها في قولا (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول

(1) سيرة عمر بن الخطاب 81
(2) ب: (يتغلب).
215

ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل وليس يجوز أن تكون بدلا
من اللام في (لله) ولا من اللام في قوله (وللرسول) فبقي أن تكون بدلا من اللام في
قوله (ولذي القربى) أما الأول فتعظيما له سبحانه وأما الثاني فلأنه تعالى قد أخرج
رسوله من الفقراء بقوله (وينصرون الله ورسوله) ولأنه يجب أن يرفع رسول الله
صلى الله عليه وآله عن التسمية بالفقير وأما الثالث فإما أن يفسر هذا البدل وما عطف عليه
المبدل منه أو يفسر هذا البدل وحده دون ما عطف عليه المبدل منه والأول لا يصح
لان المعطوف على هذا البدل ليس من أهل القرى وهم الأنصار ألا ترى كيف قال
سبحانه: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم...) (2) الآية ثم قال سبحانه:
(والذين تبوءوا الدار والايمان من قبلهم) (3) وهم الأنصار وإن كان الثاني صار
تقدير الآية أن الخمس لله وللرسول ولذي القربى الذين وصفهم الله ونعتهم بأنهم هاجروا
وأخرجوا من ديارهم وللأنصار فيكون هذا مبطلا لما يذهب إليه المرتضى في قصر الخمس
على ذوي القربى.
ويمكن أن يعترض هذا الاحتجاج فيقال: لم لا يجوز أن يكون قوله (والذين
تبوءوا الدار والايمان) ليس بعطف ولكنه كلام مبتدأ وموضع (الذين) رفع
بالابتداء وخبره (يحبون)؟.
وأيضا فإن هذه الحجة لا يمكن التمسك بها في آية الأنفال وهو قوله تعالى
(واعلموا أنما غنمتم من شئ) (4).
فأما رواية سليم بن قيس الهلالي فليست بشئ وسليم معروف المذهب ويكفي
في رد روايته كتابه المعروف بينهم المسمى (كتاب سليم).

(1) سورة الحشر 7
(2) سورة الحشر 8.
(3) سورة الحشر 9
(4) سورة الأنفال 41.
216

على أنى قد سمعت من بعضهم من يذكر أن هذا الاسم على غير مسمى وأنه لم
يكن في الدنيا أحد يعرف بسليم بن قيس الهلالي وأن (1) الكتاب المنسوب إليه منحول
موضوع لا أصل له وإن كان بعضهم يذكره في اسم الرجال والرواية المذكورة عن
ابن عباس في كتابه إلى نجدة الحروري صحيحة ثابتة وليس فيها ما يدل على مذهب
المرتضى من أن الخمس كله لذوي القربى لان نجده إنما سأله عن خمس الخمس لا عن
الخمس كله.
وينبغي أن يذكر في هذا الموضع اختلاف الفقهاء في الخمس
أما أبو حنيفة فعنده أن قسمة الخمس كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله
على خمسة أسهم سهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسهم لذوي قرباه من بني هاشم
وبني المطلب دون بنى عبد شمس ونوفل استحقوه حينئذ بالنصرة والمظاهرة لما روى
عن عثمان بن عفان وجبير بن مطعم أنهما قالا لرسول الله صلى الله عليه وآله هؤلاء
إخوتك من بني هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله منهم أرأيت إخواننا
بني المطلب أعطيتهم وحرمتنا! وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة فقال صلى الله عليه وآله:
(إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام إنما بنو هاشم وبنو المطلب شئ واحد) وشبك
بين أصابعه وثلاثة أسهم ليتامى المسلمين ومساكينهم وأبناء السبيل منهم وأما بعد
رسول الله صلى الله عليه وآله فسهمه ساقط بموته وكذلك سهم ذوي القربى وإنما
يعطون لفقرهم فهم إسوة سائر الفقراء ولا يعطى أغنياؤهم فيقسم الخمس إذن على
ثلاثة أسهم: اليتامى والمساكين وابن السبيل.
وأما الشافعي فيقسم الخمس عنده بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله على خمسة
أسهم سهم لرسول الله صلى الله عليه وآله يصرف إلى ما كان يصرفه إليه رسول الله
صلى الله عليه وآله أيام حياته من مصالح المسلمين كعدة الغزاة من الكراع والسلاح

(1) ب: (فإن).
217

ونحو ذلك وسهم لذوي القربى من أغنيائهم وفقرائهم يقسم بينهم للذكر مثل حظ
الأنثيين من بني هاشم وبني المطلب والباقي للفرق الثلاث.
وأما مالك بن أنس فعنده إن الامر في هذه المسألة مفوض إلى اجتهاد الامام
إن رأى قسمه بين هؤلاء وإن رأى أعطاه بعضهم دون بعض وإن رأى الامام
غيرهم أولى وأهم فغيرهم.
وبقى الان البحث عن معنى قوله سبحانه وتعالى (فلله وللرسول) وما المراد
بسهم الله سبحانه؟ وكيف يقول الفقهاء الخمس مقسوم خمسة أقسام وظاهر الآية يدل
على ستة أقسام؟ فنقول:
يحتمل أن يكون معنى قوله سبحانه (لله وللرسول) لرسول الله كقوله
(والله ورسوله أحق أن يرضوه) (1) أي ورسول الله أحق ومذهب أبي حنيفة
والشافعي يجئ على هذا الاحتمال.
ويحتمل أن يريد بذكره إيجاب سهم سادس يصرف إلى وجه من وجوه القرب
ومذهب أبي العالية يجئ على هذا الاحتمال لأنه يذهب إلى أن الخمس يقسم ستة أقسام:
أحدها سهمه تعالى يصرف إلى رتاج الكعبة وقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وآله
كان يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه فيأخذ منه قبضة فيجعلها للكعبة ويقول: سهم الله
تعالى ثم يقسم ما بقي على خمسه أقسام.
وقال قوم: سهم الله لبيت الله.
ويحتمل احتمالا ثالثا وهو أن يراد بقوله (فأن لله خمسه) إن من حق الخمس
أن يكون متقربا به إليه سبحانه لا غير ثم خص من وجوه القرب هذه الخمسة تفضيلا لها

(1) سورة التوبة 13.
218

على غيرها كقوله (وجبريل وميكال) (1) ومذهب مالك يجئ على هذا
الاحتمال
وقد روى عن ابن عباس رضي الله عنه إنه كان على ستة: لله وللرسول سهمان
وسهم لأقاربه وثلاثة أسهم للثلاثة حتى قبض عليه السلام فاسقط أبو بكر ثلاثة
أسهم وقسم الخمس كله على ثلاثة أسهم وكذلك فعل عمر
وروى أن أبا بكر منع بني هاشم الخمس وقال: إنما لكم أن نعطي فقيركم ونزوج
أيمكم ونخدم من لا خادم له منكم وأما الغنى منكم فهو بمنزلة ابن سبيل غنى لا يعطى
شيئا ولا يتيم موسر
وقد روى عن زيد بن علي عليه السلام مثل ذلك قال: ليس لنا أن نبني منه
القصور ولا أن نركب منه البراذين فأما مذهب الإمامية فإن الخمس كله للقرابة.
ويروون عن أمير المؤمنين عليه السلام إنه قال: أيتامنا ومساكيننا فإن صح
عنه ذلك فقوله عندنا أولى بالاتباع وإنما الكلام في صحته.
فأما اقتراض عمر من بيت المال ثمانين ألفا فليس بمعروف والمعروف المشهور أنه كان
يظلف (2) نفسه عن الدرهم الواحد منه.
وقد روى ابن سعد في كتاب (الطبقات) أن عمر خطب فقال: إن قوما
يقولون: إن هذا المال حلال لعمر وليس كما قالوا لاها الله إذن! أنا أخبركم بما أستحل
منه يحل لي منه حلتان حله في الشتاء وحلة في القيظ وما أحج عليه وأعتمر من
الظهر وقوتي وقوت أهلي كقوت رجل من قريش ليس بأغناهم ولا أفقرهم ثم أنا
بعد رجل من المسلمين يصيبني ما أصابهم. (1)

(1) سورة البقرة 98.
(2) يظلف نفسه يمنعها.
(3) نقله ابن الجوزي في كتابه سيرة عمر ص 75، 76.
219

وروى ابن سعد أيضا إن عمر كان إذا احتاج أتى إلى صاحب بيت المال فاستقرضه
فربما عسر عليه القضاء فيأتيه صاحب بيت المال فيتقاضاه فيحتال له وربما خرج عطاؤه
فقضاه ولقد اشتكى مرة فوصف له الطبيب العسل فخرج حتى صعد المنبر وفي بيت
المال عكة (1) فقال: إن أذنتم لي فيها أخذتها وإلا فهي على حرام فأذنوا له فيها
ثم قال: إن مثلي ومثلكم كقوم سافروا فدفعوا نفقاتهم إلى رجل منهم لينفق عليهم
فهل يحل له أن يستأثر منها بشئ!.
وروى ابن سعد أيضا قال: مكث عمر زمانا لا يأكل من مال المسلمين شيئا
حتى أصابته خصاصة فأرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله فاستشارهم
فقال لهم: قد شغلت نفسي بأمركم فما الذي يصلح أن أصيبه من مالكم فقال عثمان:
كل واطعم وكذلك قال سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: فتركهما وأقبل على علي عليه السلام
فقال: ما تقول أنت؟ قال: غداء وعشاء قال أصبت وأخذ بقوله (2)
وروى أبو الفرج بن الجوزي في كتاب (سيرة عمر) عن نائلة عن ابن عمر قال:
جمع عمر الناس لما انتهى إليه فتح القادسية ودمشق فقال: إني كنت امرأ تاجرا يغنى الله
عيالي بتجارتي وقد شغلتموني عن التجارة بأمركم فما ترون إنه يحل لي من هذا المال؟
فقال: القوم فأكثروا وعلي عليه السلام ساكت فقال عمر: ما تقول أنت يا أبا الحسن؟
قال: ما أصلحك وأصلح عيالك بالمعروف وليس لك من هذا المال غيره فقال: القول
ما قاله أبو الحسن وأخذ به (2).
وروى عبد اللبن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده إن عبد الله وعبيد الله ابني عمر
مرا بأبي موسى وهو على العراق وهما مقبلان من أرض فارس فقال: مرحبا بابني أخي

(1) العكة: زقيق صغير.
(2) سيرة عمر لابن الجوزي 76.
220

لو كان عندي شئ وبلى قد اجتمع هذا المال عندي فخذاه واشتريا به متاعا فإذا قدمتما
فبيعاه ولكما ربحه وأديا إلى أمير المؤمنين رأس المال ففعلا فلما قدما على عمر بالمدينة
أخبراه فقال: أكل أولاد المهاجرين يصنع بهم أبو موسى مثل ذلك فقالا: لا، قال:
فان عمر يأبى أن يجيز ذلك وجعل قرضا.
وروى عن قتادة قال: كان معيقيب على بيت المال لعمر فكسح عمر بيت
المال يوما وأخرجه إلى المسلمين فوجد معيقيب فيه درهما فدفعه إلى ابن عمر قال:
معيقيب ثم انصرفت إلى بيتي فإذا رسول عمر قد جاء يدعوني فجئت فإذا الدرهم في
يده فقال: ويحك يا معيقيب! أوجدت على في نفسك شيئا قلت: وما ذاك؟ قال:
أردت أن تخاصمني أمة محمد في هذا الدرهم يوم القيامة (1)!.
وروى عمر بن شبة عن عبد الله بن الأرقم - وكان خازن عمر - فقال: إن عندنا
حلية من حلية جلولاء وآنية من فضة فانظر ما تأمر فيها؟ قال: إذا رأيتني فارغا
فآذني فجاءه يوما فقال: إني أراك اليوم فارغا فما تأمر بتلك الحلية؟ قال: ابسط
لي نطعا فبسطه ثم أتى بذلك المال فصب عليه فرفع يديه وقال: اللهم إنك ذكرت
هذا المال فقلت (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة
من الذهب و الفضة) (1) ثم قلت (لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما
آتاكم) (2) اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينت لنا اللهم إني أسألك أن تضعه في
حقه وأعوذ بك من شره ثم ابتدأ فقسمه بين الناس فجاءه ابن بنت له فقال: يا أبتاه!
هب لي منه خاتما فقال: اذهب إلى أمك تسقك سويقا فلم يعطه شيئا (3).
وروى الطبري في تاريخه أن عمر خطب أم كلثوم بنت أبي بكر فأرسل فيها إلى

(1) سورة آل عمران 14
(2) سورة الحديد 23.
(3) سيرة عمر بن الخطاب لابن الجوزي 78.
221

عائشة فقالت الامر إليها فقالت أم كلثوم لا حاجة لي فيه قالت لها عائشة: ويلك!
أترغبين عن أمير المؤمنين؟ قالت: نعم إنه يغلق بابه ويمنع خيره ويدخل عابسا
ويخرج عابسا فأرسلت عائشة إلى عمرو بن العاص فأخبرته فقال: أنا أكفيك
فأتى عمر فقال: يا أمير المؤمنين بلغني خبر أعيذك بالله منه قال: ما هو؟ قال خطبت
أم كلثوم بنت أبي بكر؟ قال: نعم أفترغب بي عنها أم ترغب بها عنى قال: لا واحدة
ولكنها حدثة نشأت تحت كنف أم المؤمنين في لين ورفق وفيك غلظة ونحن نهابك
ولا نستطيع أن نردك عن خلق من أخلاقك فكيف بها إن خالفتك في شئ فسطوت
بها! كنت قد خلفت أبا بكر في ولده بغير ما يحق عليك قال: فكيف لي بعائشة وقد
كلمتها فيها؟ قال: أنا لك بها وأدلك على خير منها أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب
تعلق منها بسبب من رسول الله فصرفه عنها إلى أم كلثوم بنت فاطمة.
وروى عاصم بن عمر قال: بعث إلى عمر عند الهاجرة - أو قال: عند صلاة الصبح -
فأتيته فوجدته جالسا في المسجد فقال: يا بنى إني لم أكن أرى شيئا من هذا المال يحل لي
قبل أن إلى إلا بحقه وما كان أحرم على منه حين وليته فعاد أمانتي وإني كنت أنفقت
عليك من مال الله شهرا ولست بزائدك عليه وقد أعطيتك تمري بالعالية فبعه وخذ
ثمنه ثم ائت رجلا من تجار قومك فكن إلى جانبه فإذا ابتاع شيئا فاستشركه
وأنفق ما تربحه عليك وعلى أهلك قال: فذهبت ففعلت (1).
وروى الحسن البصري أن عمر كان يمشى يوما في سكة من سكك المدينة إذ
صبية تطيش على وجه الأرض تقعد مرة وتقوم أخرى من الضعف والجهد فقال
عمر: ما بال هذه؟ قال عبد الله ابنه: أما تعرف هذه؟ قال: لا، قال: إنها إحدى بناتك

(1) سيرة عمر 78.
222

فأنكر عمر ذلك فقال: هذه ابنتي من فلانة! قال: ويحك وما صيرها إلى ما أرى قال:
منعك [ما عندك] (1) قال أنا منعتك ما عندي فما الذي منعك أن تطلب لبناتك ما يكسب
الأقوام (2) لبناتهم! إنه والله ما لك عندي غير سهمك في المسلمين وسعك أو عجز عنك
وكتاب الله بيني وبينك (3).
وروى سعيد بن المسيب قال: كتب عمر لما قسم العطاء وفضل من فضل للمهاجرين
الذين شهدوا بدرا خمسة آلاف وكتب لمن لم يشهد بدرا أربعة آلاف فكان منهم
عمر بن أبي سلمة المخزومي وأسامة بن زيد بن حارثة ومحمد بن عبد الله بن جحش
وعبد الله بن عمر بن الخطاب فقال عبد الرحمن بن عوف وهو الذي كان يكتب: يا أمير
المؤمنين إن عبد الله بن عمر ليس من هؤلاء إنه وأنه... يطريه ويثني عليه فقال له
عمر: ليس له عندي إلا مثل واحد منهم فتكلم عبد الله وطلب الزيادة وعمر ساكت
فلما قضى كلامه قال عمر لعبد الرحمن: اكتبه على خمسة آلاف واكتبني على أربعة
آلاف فقال عبد الله: لا أريد هذا فقال عمر: والله لا أجتمع أنا وأنت على خمسة آلاف
قم إلى منزلك فقام عبد الله كئيبا
وقال أبو وائل: استعملني ابن زياد على بيت المال بالكوفة فأتاني رجل بصك
يقول فيه أعط صاحب المطبخ ثمانمائة درهم فقلت له مكانك ودخلت على ابن زياد
فقلت له: إن عمر استعمل عبد الله بن مسعود بالكوفة على القضاء وبيت المال واستعمل
عثمان بن حنيف على سقى الفرات واستعمل عمار بن ياسر على الصلاة والجند فرزقهم
كل يوم شاة واحدة فجعل نصفها وسقطها وأكارعها لعمار لأنه كان على الصلاة والجند
وجعل لابن مسعود ربعها ولابن حنيف ربعها ثم قال: إن مالا يؤخذ منه كل يوم
شاة إن ذلك فيه لسريع فقال: ابن زياد ضع المفتاح فاذهب حيث شئت.

(1) من سيرة عمر.
(2) سيرة عمر: (الأقوياء).
(3) سيرة عمر 77، 78.
223

وروى أبو جعفر الطبري في التاريخ أن عمر بعث سلمة بن قيس الأشجعي إلى
طائفة من الأكراد كانوا على الشرك فخرج إليهم في جيش سرحه معه من المدينة
فلما انتهى إليهم دعاهم إلى الاسلام أو إلى أداء الجزية فأبوا فقاتلهم فنصره الله عليهم
فقتل المقاتلة وسبى الذرية وجمع الرثة (1) ووجد حلية وفصوصا وجواهر فقال: لأصحابه
أتطيب أنفسكم أن نبعث بهذا إلى أمير المؤمنين؟ فإنه غير صالح لكم وإن على
أمير المؤمنين لمؤنة وأثقالا! قالوا: نعم قد طابت أنفسنا فجعل تلك الجواهر في سفط
وبعث به مع واحد من أصحابه وقال له: سر فإذا أتيت البصرة فاشتر راحلتين
فأوقرهما زادا لك ولغلامك وسر إلى أمير المؤمنين قال: ففعلت فأتيت عمر وهو يغدى
الناس قائما متكئا على عصا كما يصنع الراعي وهو يدور على القصاع فيقول يا يرفأ زد
هؤلاء لحما زد هؤلاء خبزا زد هؤلاء مرقة فجلست في أدنى الناس فإذا طعام فيه
خشونة طعامي الذي معي أطيب منه فلما فرغ أدبر فاتبعته فدخل دارا فاستأذنت
ولم أعلم حاجبه من أنا فأذن لي فوجدته في صفة جالسا على مسح متكئا
على وسادتين من أدم محشوتين ليفا وفى الصفة عليه ستر من صوف فنبذ إلى إحدى
الوسادتين فجلست عليها فقال: يا أم كلثوم ألا تغدوننا! فأخرج إليه خبزة بزيت
في عرضها ملح لم يدق فقال: يا أم كلثوم ألا تخرجين إلينا تأكلين معنا؟ فقالت:
إني أسمع عندك حس رجل قال: نعم ولا أراه من أهل هذا البلد قال: قذاك حين عرفت
أنه لم يعرفني - فقالت لو أردت أن أخرج إلى الرجال لكسوتني كما كسا الزبير امرأته
وكما كسا طلحة امرأته قال: أو ما يكفيك أنك أم كلثوم ابنة علي بن أبي طالب
وزوجة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب! قالت: إن ذاك عنى لقليل الغناء قال: كل
فلو كانت راضية لأطعمتك أطيب من هذا فأكلت قليلا وطعامي الذي معي أطيب منه

(1) الرثة: المتاع.
224

وأكل فما رأيت أحدا أحسن أكلا منه ما يتلبس طعامه بيده ولا فمه ثم قال:
اسقونا فجاءوا بعس من سلت (1) فقال: أعط الرجل فشربت قليلا وإن سويقي
الذي معي لأطيب منه ثم أخذه فشربه حتى قرع القدح جبهته ثم قال: الحمد لله الذي
أطعمنا فأشبعنا وسقانا فأروانا إنك يا هذا لضعيف الاكل ضعيف الشرب فقلت
يا أمير المؤمنين إن لحاجة قال: ما حاجتك؟ قلت: أنا رسول سلمة بن قيس فقال:
مرحبا بسلمة ورسوله فكأنما خرجت من صلبه حدثني عن المهاجرين كيف هم؟
قلت كما تحب يا أمير المؤمنين من السلامة والظفر والنصر على عدوهم قال: كيف
أسعارهم؟ قلت: أرخص أسعار قال: كيف اللحم فيهم فإنه شجرة العرب ولا تصلح
العرب إلا على شجرتها؟ قلت: البقرة فيهم بكذا، والشاة فيهم بكذا ثم سرنا
يا أمير المؤمنين حتى لقينا عدونا من المشركين فدعوناهم إلى الذي أمرت به من الاسلام
فأبوا فدعوناهم إلى الخراج فأبوا فقاتلناهم فنصرنا الله عليهم فقتلنا المقاتلة وسبينا
الذرية وجمعنا الرثة (2) فرأى سلمة في الرثة حلية فقال للناس: إن هذا لا يبلغ
فيكم شيئا أفتطيب أنفسكم أن أبعث به إلى أمير المؤمنين؟ قالوا: نعم ثم استخرجت
سفطي ففتحته (3) فلما نظر إلى تلك الفصوص من بين أحمر وأخضر وأصفر وثب وجعل
يده في خاصرته يصيح صياحا عاليا ويقول لا أشبع الله إذن بطن عمر! يكررها فظن
النساء أنى جئت لأغتاله فجئن إلى الستر فكشفنه فسمعنه يقول لف ما جئت به يا يرفأ
جاء عنقه (4) قال: فأنا أصلح سفطي ويرفأ يجأ عنقي. ثم قال: النجاء النجاء!
قلت يا أمير المؤمنين انزع بي فاحملني فقال: يا يرفأ أعطه راحلتين من إبل الصدقة

(1) السلت: شعير لا قشر له، يتبرد بسويقه.
(2) الطبري: (الرشة).
(3) السفط وعاء كالجوالق.
(4) جاء: اضرب.
225

فإذا لقيت أفقر إليهما منك فادفعهما إليه، وقال: أظنك ستبطئ أما والله لئن تفرق
المسلمون في مشاتيهم قبل أن يقسم هذا فيهم لأفعلن بك وبصاحبك الفاقرة (1).
قال: فارتحلت حتى أتيت إلى سلمة بن قيس فقلت ما بارك الله فيما اختصصتني به
أقسم هذا في الناس قبل أن تصيبني وإياك فاقرة فقسمه فيهم. فإن الفص ليباع بخمسة
دراهم وبستة وهو خير من عشرين ألفا (1).
وجملة الامر أن عمر لا يجوز أن يطعن فيه بمثل هذا ولا ينسب إلى شره وحب
للمال، فان طريقته في التعفف والتقشف وخشونة العيش والزهد أظهر من كل ظاهر
وأوضح من كل واضح وحاله في ذلك معلومة وعلى كل تقدير سواء كان يفعل ذلك
دينا أو ورعا - كما هو الظاهر من حاله - أو كان يفعل ذلك ناموسا وصناعة ورياء وحيلة
- كما تزعم الشيعة - فإنه عظيم لأنه أما أن يكون على غاية الدين والتقى أو يكون أقوى
الناس نفسا وأشدهم عزما وكلا الامرين فضيلة.
والذي ذكره المحدثون وأرباب السير أن عمر لما طعن واحتمل في دمه إلى بيته
وأوصى بما أوصى قال: لابنه عبد الله انظروا ما على من دين فحسبوه فوجدوه ستمائة
وثمانين ألف درهم هكذا ورد في الاخبار أنها كانت ديونا للمسلمين ولم تكن من
بيت المال فقال عمر: انظر يا عبد الله فان وفى به مال آل عمر فأده من أموالهم
وإلا فسل في بنى عدى بن كعب فإن لم تف به أموالهم فسل في قريش ولا تعدهم
إلى غيرهم فهكذا وردت الرواية فلذلك قال قاضى القضاة: فإن صح فالعذر كذا
وكذا لأنه لم يثبت عنده صحة اقتراضه هذا المقدار من بيت المال.
وقد روى أن عمر كان له نخل بالحجاز غلته كل سنة أربعون ألفا يخرجها في

(1) الفاقرة: الداهية.
(2) تاريخ الطبري 1: 2713 - 2721 (طب أوروبا) مع اختلاف في الرواية.
226

النوائب والحقوق ويصرفها إلى بنى عدى بن كعب إلى فقرائهم وأراملهم وأيتامهم روى
ذلك ابن جرير الطبري في التاريخ.
فأما قول المرتضى أي حاجة بخشن العيش وجشب المأكل إلى اقتراض الأموال؟
فجوابه أن المتزهد المتقشف قد يضيق على نفسه ويوسع على غيره إما من باب
التكرم والاحسان أو من باب الصدقة وابتغاء الثواب وقد يصل رحمه وإن قتر على نفسه.
وقد روى الطبري إن عمر دفع إلى أم كلثوم بنت أمير المؤمنين عليه السلام صداقها
يوم تزوجها أربعين ألف درهم فلعل هذا الاقتراض من الناس كان لهذا الوجه ولغيره
من الوجوه التي قل أن يخلو أحد منها
* * *
الطعن السادس
إنه عطل حد الله في المغيرة بن شعبة لما شهد (1) عليه بالزنا ولقن الشاهد الرابع
الامتناع عن الشهادة اتباعا لهواه فلما فعل ذلك عاد إلى الشهود فحدهم وضربهم (2)
فتجنب أن يفضح المغيرة وهو واحد وفضح الثلاثة مع تعطيله لحكم الله ووضعه في
غير موضعه.
أجاب قاضى القضاة فقال: إنه لم يعطل الحد إلا من حيث لم تكمل الشهادة
وبإرادة الرابع لئلا يشهد لا تكمل البينة وإنما تكمل بالشهادة.
وقال إن قوله (أرى وجه رجل لا يفضح الله به رجلا من المسلمين) يجرى في أنه
سائغ صحيح مجرى ما روى عن النبي صلى الله عليه وآله من أنه أتى بسارق فقال: (لا تقر).

(1) الشافي: (شهدوا).
(2) كذا في الشافي، وفي الأصول: (فضحهم).
227

وقال عليه السلام لصفوان بن أمية لما أتاه بالسارق وأمر بقطعه فقال: هو له - يعنى
ما سرق هلا قبل أن تأتيني به! فلا يمتنع من عمر ألا يحب أن تكمل الشهادة وينبه
الشاهد على ألا يشهد وقال: إنه جلد الثلاثة من حيث صاروا قذفه وإنه ليس حالهم
- وقد شهدوا - كحال من لم تتكامل الشهادة عليه لان الحيلة في إزالة الحد عنه - ولما
تتكامل الشهادة عليه - ممكنة بتلقين وتنبيه غيره ولا حيلة فيما قد وقع من الشهادة
فلذلك حدهم.
قال: وليس في إقامة الحد عليهم من الفضيحة ما في تكامل الشهادة على المغيرة
لأنه يتصور بأنه زان ويحكم بذلك وليس كذلك حال الشهود لأنهم لا يتصورون
بذلك وإن وجب في الحكم أن يجعلوا في حكم القذفة.
وحكى عن أبي على إن الثلاثة كان القذف قد تقدم منهم للمغيرة بالبصرة لأنهم
صاحوا به من نواحي المسجد بأنا نشهد أنك زان فلو لم يعيدوا الشهادة لكان يحدهم
لا محالة فلم يمكن في إزالة الحد عنهم ما أمكن في المغيرة.
وحكى عن أبي على في جواب اعتراضه عن نفسه بما روى عن عمر إنه كان رآه
يقول لقد خفت أن يرميني الله عز وجل بحجارة من السماء إن هذا الخبر غير صحيح
ولو كان حقا لكان تأويله التخويف وإظهار قوة الظن لصدق القوم الذين شهدوا
عليه ليكون ردعا له وذكر أنه غير ممتنع أن يحب ألا يفتضح لما كان متوليا للبصرة
من قبله.
ثم أجاب عن سؤال من سأله عن امتناع زياد من الشهادة وهل يقتضى الفسق أم لا؟
فان قال: لا نعلم أنه كان يتمم الشهادة: ولو علمنا ذلك لكان حيث ثبت في الشرع أن له
228

السكوت لا يكون طعنا ولو كان ذلك طعنا وقد ظهر أمره لأمير المؤمنين عليه السلام
لما ولاه فارس ولما ائتمنه على أموال الناس ودمائهم.
اعترض المرتضى فقال: إنما نسب إلى تعطيل الحد من حيث كان في حكم الثابت
وإنما بتلقينه لم تكمل الشهادة لان زيادا ما حضر إلا ليشهد بما شهد به أصحابه وقد
صرح بذلك كما صرحوا قبل حضورهم ولو لم يكن هذا لما شهد القوم قبله وهم لا يعلمون
هل حاله في ذلك الحكم كحالهم لكنه أحجم في الشهادة لما رأى كراهية متولي الامر
لكمالها وتصريحه بأنه لا يريد أن يعمل بموجبها.
ومن العجائب أن يطلب الحيلة في دفع الحد عن واحد وهو لا يندفع إلا بانصرافه
إلى ثلاثة فإن كان درء الحد والاحتيال في دفعه من السنن المتبعة فدرؤه عن ثلاثة
أولى من درئه عن واحد!.
وقوله إن دفع الحد عن المغيرة ممكن ودفعه عن ثلاثة - وقد شهدوا - غير ممكن
طريف لأنه لو لم يلقن الشاهد الرابع الامتناع عن الشهادة لاندفع الحد عن الثلاثة
وكيف لا تكون الحيلة ممكنة فيما ذكره!.
وقوله: إن المغيرة يتصور بصورة زان لو تكاملت الشهادة وفي هذا من الفضيحة
ما ليس في حد الثلاثة غير صحيح لان الحكم في الامرين واحد لان الثلاثة إذا حدوا
يظن بهم الكذب وإن جوز أن يكونوا صادقين والمغيرة لو تكاملت الشهادة عليه
بالزنا لظن به ذلك مع التجويز لان يكون الشهود كذبة وليس في أحد إلا ما في الاخر.
وما روى عنه عليه السلام من أنه أتى بسارق فقال له: (لا تقر) إن كان صحيحا
لا يشبه ما نحن فيه لأنه ليس في دفع الحد عن السارق إيقاع غيره في المكروه.
وقصة المغيرة تخالف هذا لما ذكرناه.
229

فأما قوله عليه السلام (هلا قبل أن تأتيني به!) فلا يشبه كل ما نحن فيه لأنه
بين أن ذلك القول يسقط الحد لو تقدم وليس فيه تلقين يوجب إسقاط الحد.
فأما ما حكاه عن أبي على من أن القذف من الثلاثة كان قد تقدم وأنهم لو لم
يعيدوا الشهادة لكان يحدهم لا محالة فغير معروف والظاهر المروى خلافه وهو أنه
حدهم عند نكول زياد عن الشهادة وأن ذلك كان السبب في إيقاع الحد بهم
وتأوله (1) عليه: لقد خفت أن يرميني الله بحجارة من السماء لا يليق بظاهر الكلام لأنه
يقتضى التندم والتأسف على تفريط وقع ولم يخاف أن يرمى بالحجارة وهو لم يدرأ الحد
عن مستحق له! ولو أراد الردع والتخويف للمغيرة لأتى بكلام يليق بذلك ولا يقتضى
إضافة التفريط إلى نفسه وكونه واليا من قبله لا يقتضى أن يدرأ عنه الحد ويعدل به
إلى غيره.
وأما قوله: إنا ما كنا نعلم أن زيادا كان يتمم الشهادة، فقد بينا أن ذلك كان
معلوما بالظاهر ومن قرأ ما روى في هذه القصة علم بلا شك أن حال زياد كحال الثلاثة
في أنه إنما حضر للشهادة، وإنما عدل عنها لكلام عمر.
وقوله: إن الشرع يبيح السكوت، ليس بصحيح لان الشرع قد حظر
كتمان الشهادة.
فأما استدلاله على أن زيادا لم يفسق بالإمساك عن الشهادة بتوليه أمير المؤمنين عليه
السلام له فارس فليس بشئ يعتمد لأنه لا يمتنع أن يكون قد تاب بعد ذلك وأظهر
توبته لأمير المؤمنين عليه السلام فجاز أن يوليه وقد كان بعض أصحابنا يقول في
قصة المغيرة شيئا طيبا وإن كان معتملا في باب الحجة كان يقول: إن زيادا إنما امتنع
من التصريح بالشهادة المطلوبة في الزنا وقد شهد بأنه شاهده بين شعبها الأربع وسمع
نفسا عاليا فقد صح على المغيرة بشهادة الأربع جلوسه منها مجلس الفاحشة إلى غير ذلك

(1) الشافي: (وما تأول عليه).
230

من مقدمات الزنا وأسبابه. فهلا ضم عمر إلى جلد الثلاثة تعزير هذا الذي قد صح عنده
بشهادة الأربعة ما صح من الفاحشة، مثل تعريك أذنه، أو ما يجرى مجراه من خفيف
التعزير ويسيره! وهل في العدول عن ذلك - حتى عن لومه وتوبيخه والاستخفاف - به إلا
ما ذكروه من السبب الذي يشهد الحال به (1)
قلت: أما المغيرة فلا شك عندي أنه زنى بالمرأة، ولكني لست أخطئ عمر في
درء الحد عنه وإنما أذكر أولا قصته من كتابي أبى جعفر محمد بن جرير الطبري
وأبى الفرج علي بن الحسن الأصفهاني ليعلم أن الرجل زنى بها لا محالة ثم أعتذر لعمر
في درء الحد عنه.
قال الطبري في تاريخه (2): وفي هذه السنة - يعنى سنة سبع عشرة - ولى عمر أبا موسى
البصرة وأمره أن يشخص إليه المغيرة بن شعبة وذلك لأمر بلغه عنه قال الطبري: حدثني
محمد بن يعقوب بن عتبة، قال: حدثني أبي قال: كان المغيرة يخالف إلى أم جميل امرأة من
بنى هلال بن عامر وكان لها زوج من ثقيف هلك قبل ذلك يقال له الحجاج بن عبيد
وكان المغيرة - وكان أمير البصرة - يختلف إليها سرا فبلغ ذلك أهل البصرة فأعظموه
فخرج المغيرة يوما من الأيام إلى المرأة فدخل عليها وقد وضعوا عليهما الرصد فانطلق
القوم الذين شهدوا عند عمر فكشفوا الستر فرأوه قد واقعها فكتبوا بذلك إلى عمر
وأوفدوا إليه بالكتاب أبا بكرة فانتهى أبو بكرة إلى المدينة وجاء إلى باب عمر فسمع صوته
وبينه وبينه حجاب فقال: أبو بكرة فقال: نعم، قال: لقد جئت لشر! قال: إنما
جاء به المغيرة ثم قص عليه القصة وعرض عليه الكتاب فبعث أبا موسى عاملا وأمره

(1) الشافي 255، 256.
(2) تاريخ الطبري ا: 2529 - 261 (طبع أوروبا).
231

أن يبعث إليه المغيرة فلما دخل أبو موسى البصرة وقعد في الامارة أهدى إليه المغيرة
عقيلة وقال: إنني قد رضيتها لك، فبعث أبو موسى بالمغيرة إلى عمر.
قال الطبري: وروى الواقدي قال: حدثني عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر بن عمرو
ابن حزم الأنصاري عن أبيه عن مالك بن أوس بن الحدثان، قال: قدم المغيرة على
عمر، فتزوج في طريقه امرأة من بنى مرة فقال له عمر: إنك لفارغ القلب شديد
الشبق طويل الغرمول ثم سأل عن المرأة فقيل (1) له - يقال لها الرقطاء: كان زوجها من
ثقيف وهي من بنى هلال.
قال الطبري: وكتب إلى السرى عن شعيب عن سيف أن المغيرة كان يبغض
أبا بكرة وكان أبو بكرة يبغضه ويناغي (2) كل واحد منهما صاحبه وينافره عند كل
ما يكون منه وكانا متجاورين بالبصرة بينهما طريق وهما في مشربتين متقابلتين فهما
في داريهما في كل واحدة منهما كوة مقابلة الأخرى فاجتمع إلى أبى بكرة نفر
يتحدثون في مشربته فهبت ريح ففتحت باب الكوة فقام أبو بكرة ليصفقه (3)
فبصر بالمغيرة وقد فتحت الريح باب الكوة التي في مشربته وهو بين رجلي امرأة، فقال للنفر:
قوموا فانظروا فقاموا فنظروا، ثم قال: اشهدوا قالوا: ومن هذه، قال: أم جميل
إحدى نساء بنى عامر بن صعصعة، فقالوا: إنما رأينا أعجازا ولا ندري الوجوه! فلما قامت
صمموا وخرج المغيرة إلى الصلاة فحال أبو بكرة بينه وبين الصلاة، وقال: لا تصل بنا
وكتبوا إلى عمر بذلك، وكتب المغيرة إليه أيضا فأرسل عمر إلى أبى موسى، فقال:
يا أبا موسى إني مستعملك وإني باعثك إلى الأرض التي قد باض بها الشيطان وفرخ
فالزم ما تعرف ولا تستبدل فيستبدل الله بك، فقال: يا أمير المؤمنين أعني بعدة من

(1) الطبري: (فقال).
(2) كذا في الطبري، ويناغيه: يباريه. وفي الأصول: (يباغيه).
(3) أصفق الباب: رده.
232

أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله من المهاجرين والأنصار فإني وجدتهم في هذه
الأمة وهذه الأعمال كالملح لا يصلح الطعام إلا به قال عمر: فاستعن بمن أحببت
فاستعان بتسعة وعشرين رجلا منهم أنس بن مالك وعمران بن حصين وهشام بن
عامر وخرج أبو موسى بهم حتى أناخ بالبصرة في المربد وبلغ المغيرة أن أبا موسى
قد أناخ بالمربد فقال: والله ما جاء أبو موسى زائرا ولا تاجرا ولكنه جاء أميرا
فإنهم لفي ذلك إذ جاء أبو موسى حتى دخل عليهم فدفع إلى المغيرة كتابا من عمر إنه
لأوجز كتاب كتب به أحد من الناس أربع كلم، عزل فيها وعاتب، واستحث وأمر
(أما بعد فإنه بلغني نبأ عظيم، فبعثت أبا موسى، فسلم ما في يديك إليه، والعجل).
وكتب إلى أهل البصرة (أما بعد فإني قد بعثت أبا موسى أميرا عليكم ليأخذ
لضعيفكم من قويكم ليقاتل بكم عدوكم وليدفع عن ذمتكم وليجبي (1) لكم
فيئكم وليقسم فيكم وليحمي (2) لكم طرقكم).
فأهدى إليه المغيرة وليدة من مولدات الطائف تدعى عقيلة وقال: إني قد رضيتها لك
- وكانت فارهة - وارتحل المغيرة وأبو بكرة ونافع بن كلدة وزياد وشبل بن معبد البجلي
حتى قدموا على عمر فجمع بينهم وبين المغيرة فقال المغيرة: يا أمير المؤمنين، سل هؤلاء
الأعبد: كيف رأوني؟ مستقبلهم أم مستدبرهم! وكيف رأوا المرأة وعرفوها فان كانوا
مستقبلي فكيف لم أستتر! وإن كانوا مستدبري فبأي شئ استحلوا النظر إلى في منزلي
على امرأتي! والله ما أتيت إلا امرأتي فبدأ بأبي بكرة فشهد عليه أنه رآه بين رجلي
أم جميل وهو يدخله ويخرجه قال عمر: كيف رأيتهما، قال: مستدبرهما، قال: كيف
استثبت رأسها، قال: تجافيت فدعا بشبل بن معبد فشهد مثل ذلك، وقال: استقبلتهما
واستدبرتهما وشهد نافع بمثل شهادة أبى بكرة ولم يشهد زياد بمثل شهادتهم، قال:

(1) الطبري: (ليحصي).
(2) الطبري: (لينقي).
233

رأيته جالسا بين رجلي امرأة ورأيت قدمين مرفوعتين تخفقان واستين مكشوفتين
وسمعت حفزا شديدا (1)، قال عمر: فهل رأيته فيها كالميل في المكحلة؟ قال: لا
، قال: فهل تعرف المرأة؟ قال: لا ولكن أشبهها فأمر عمر بالثلاثة فجلدوا الحد وقرأ
(فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون) (2) فقال المغيرة: الحمد لله
الذي أخزاكم فصاح! به عمر: اسكت أسكت الله نأمتك! أما والله لو تمت الشهادة
لرجمتك بأحجارك فهذا ما ذكره الطبري.
وأما أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني فإنه ذكر في كتاب الأغاني (3) أن
أحمد بن عبد العزيز الجوهري حدثه عن عمر بن شبة عن علي بن محمد عن قتادة، قال:
كان المغيرة بن شعبة - وهو أمير البصرة - يختلف سرا إلى امرأة من ثقيف يقال لها
الرقطاء فلقيه أبو بكرة يوما، فقال له: أين تريد؟ قال: أزور آل فلان فأخذ
بتلابيبه، وقال: إن الأمير يزار ولا يزور.
قال أبو الفرج: وحدثني بحديثه جماعة - ذكر أسماءهم بأسانيد مختلفة لا نرى
الإطالة بذكرها - إن المغيرة كان يخرج من دار الامارة وسط النهار فكان أبو بكرة
يلقاه فيقول له: أين يذهب الأمير؟ فيقول له: إلى حاجة، فيقول: حاجة ماذا؟ إن
الأمير يزار ولا يزور!.
قالوا: وكانت المرأة التي يأتيها جارة لأبي بكرة، فقال: فبينا أبو بكرة في غرفة له
مع أخويه نافع وزياد ورجل آخر يقال له شبل بن معبد - وكانت غرفة جارته تلك
محاذية غرفة أبى بكرة - فضربت الريح باب غرفة المرأة ففتحته فنظر القوم فإذا هم بالمغيرة
ينكحها، فقال: أبو بكرة هذه بلية قد ابتليتم بها فانظروا فنظروا حتى أثبتوا (4)

(1) الطبري: (حفزانا).
(2) سورة النور 13.
(3) الأغاني 16: 77 - 100 (طبع دار الكتب).
(4) أثبتوا: تيقنوا.
234

فنزل أبو بكرة فجلس حتى خرج عليه المغيرة من بيت المرأة، فقال له أبو بكرة: إنه قد
كان من أمرك ما قد علمت فاعتزلنا فذهب المغيرة وجاء ليصلي بالناس الظهر فمنعه أبو بكرة
وقال: لا والله لا تصلى بنا وقد فعلت ما فعلت! فقال الناس: دعوه فليصل إنه الأمير!
واكتبوا إلى عمر فكتبوا إليه فورد كتابه أن يقدموا عليه جميعا المغيرة والشهود.
قال أبو الفرج: وقال المدائني في حديثه فبعث عمر بأبي موسى وعزم عليه ألا يضع كتابه من يده حتى يرحل المغيرة.
قال أبو الفرج: وقال علي بن هاشم في حديثه إن أبا موسى قال لعمر لما أمره أن
يرحل المغيرة من وقته: أو خير من ذلك يا أمير المؤمنين؟ نتركه فيتجهز ثلاثا ثم يخرج.
قالوا: فخرج أبو موسى حتى صلى صلاة الغداة بظهر المربد وأقبل إنسان فدخل على
المغيرة، فقال: إني رأيت أبا موسى قد دخل المسجد الغداة وعليه برنس وها هو في
جانب المسجد، فقال المغيرة: إنه لم يأت زائرا ولا تاجرا
قالوا: وجاء أبو موسى حتى دخل على المغيرة ومعه صحيفة ملء يده فلما رآه
قال: أمير! فأعطاه أبو موسى الكتاب فلما ذهب يتحرك عن سريره قال له: مكانك!
تجهز ثلاثا.
قال أبو الفرج: وقال آخرون: إن أبا موسى أمره أن يرحل من وقته فقال المغيرة:
قد علمت ما وجهت له فألا تقدمت وصليت! فقال: ما أنا وأنت في هذا الامر إلا سواء
فقال المغيرة: انى أحب أن أقيم ثلاثا لأتجهز فقال أبو موسى: قد عزم على أمير المؤمنين
ألا أضع عهدي من يدي إذا قرأته حتى أرحلك إليه، قال: إن شئت شفعتني وأبررت
قسم أمير المؤمنين بأن تؤجلني إلى الظهر وتمسك الكتاب في يدك.
قالوا: فلقد رئي أبو موسى مقبلا ومدبرا وإن الكتاب في يده معلق بخيط
فتجهز المغيرة وبعث إلى أبى موسى بعقيلة جارية عربية من سبى اليمامة من
235

بنى حنيفة ويقال إنها مولدة الطائف ومعها خادم وسار المغيرة حين صلى الظهر
حتى قدم على عمر.
قال أبو الفرج: فقال محمد بن عبد الله بن حزم في حديثه: إن عمر قال له لما قدم
عليه: لقد شهد عليك بأمر أن كان حقا لان تكون مت قبل ذلك كان خيرا لك!.
قال أبو الفرج: قال أبو زيد عمر بن شبه: فجلس له عمر، ودعا به وبالشهود فتقدم
أبو بكرة فقال: أرأيته بين فخذيها؟ قال: نعم والله لكأني أنظر إلى تشريم جدري
بفخذيها، قال المغيرة: لقد ألطفت النظر، قال أبو بكرة: لم آل أن أثبت ما يخزيك
الله به! فقال عمر: لا والله حتى تشهد لقد رأيته يلج فيها كما يلج المرود في المكحلة قال:
نعم أشهد على ذلك، فقال عمر: اذهب عنك مغيرة ذهب ربعك.
قال أبو الفرج: ويقال إن عليا عليه السلام هو قائل هذا القول ثم دعا نافعا فقال:
علام تشهد؟ قال: على مثل شهادة أبى بكرة فقال عمر: لا حتى تشهد أنك رأيته يلج
فيها ولوج المرود في المكحلة، قال: نعم حتى بلغ قذذه (1) فقال: اذهب عنك مغيرة
ذهب نصفك، ثم دعا الثالث وهو شبل بن معبد، فقال: علام تشهد؟ قال: على
مثل شهادة صاحبي، فقال: اذهب عنك مغيرة، ذهب ثلاثة أرباعك. قال: فجعل المغيرة
يبكى إلى المهاجرين وبكى إلى أمهات المؤمنين حتى بكين معه، قال: ولم يكن
زياد حضر ذلك المجلس فأمر عمر أن ينحى الشهود الثلاثة وألا يجالسهم أحد من
أهل المدينة وانتظر قدوم زياد، فلما قدم جلس في المسجد واجتمع رؤوس المهاجرين
والأنصار قال: المغيرة وكنت قد أعددت كلمة أقولها فلما رأى عمر زيادا مقبلا، قال:
إني لأرى رجلا لن يخزي الله على لسانه رجلا من المهاجرين.

(1) قذذة: جمع قذة، وهي جانب الخباء.
236

قال أبو الفرج: وفي حديث أبي زيد بن عمر بن شبة، عن السرى عن عبد الكريم
ابن رشيد عن أبي عثمان النهدي أنه لما شهد الشاهد الأول عند عمر تغير
الثالث لذلك لون عمر ثم جاء الثاني فشهد فانكسر لذلك انكسارا شديدا
ثم جاء فشهد فكان الرماد نثر على وجه عمر فلما جاء زياد جاء شاب يخطر بيديه
فرفع عمر رأسه إليه وقال: ما عندك أنت يا سلح العقاب - وصاح أبو عثمان النهدي
صيحة تحكى صيحة عمر - قال عبد الكريم بن رشيد: لقد كدت أن يغشى على
لصيحته.
قال أبو الفرج: فكان المغيرة يحدث، قال: فقمت إلى زياد فقلت: لا مخبأ لعطر
بعد عروس يا زياد، أذكرك الله وأذكرك موقف القيامة وكتابه ورسوله أن تتجاوز إلى
ما لم تر! ثم صحت: يا أمير المؤمنين إن هؤلاء قد احتقروا دمى فالله الله في دمى! قال: فترنقت
عينا زياد واحمر وجهه، وقال: يا أمير المؤمنين أما إن أحق ما حق القوم فليس
عندي ولكني رأيت مجلسا قبيحا وسمعت نفسا حثيثا وانتهارا ورأيته متبطنها، فقال عمر:
أرأيته يدخل ويخرج كالميل في المكحلة؟ قال: لا!
قال أبو الفرج: وروى كثير من الرواة أنه، قال: رأيته رافعا برجليها ورأيت
خصيتيه مترددتين بين فخذيها وسمعت حفزا شديدا وسمعت نفسا عاليا، فقال
عمر: أرأيته يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة؟ قال: لا، فقال: عمر الله أكبر! قم
يا مغيرة إليهم فاضربهم فجاء المغيرة إلى أبى بكرة فضربه ثمانين وضرب الباقين.
وروى قوم أن الضارب لهم الحد لم يكن المغيرة وأعجب عمر قول زياد ودرأ الحد
عن المغيرة، فقال: أبو بكرة بعد أن ضرب أشهد أن المغيرة فعل كذا وكذا! فهم عمر
بضربه، فقال له: علي عليه السلام إن ضربته رجمت صاحبك! ونهاه عن ذلك.
237

قال أبو الفرج: يعنى إن ضربه تصير شهادته شهادتين فيوجب بذلك الرجم
على المغيرة.
قال: فاستتاب عمر أبا بكرة، فقال: إنما تستتيبني لتقبل شهادتي، قال: أجل! قال:
فإني لا أشهد بين اثنين ما بقيت في الدنيا! قال: فلما ضربوا الحد، قال المغيرة: الله أكبر
الحمد لله الذي أخزاكم! فقال عمر: أسكت أخزى الله مكانا رأوك فيه!.
قال: وأقام أبو بكرة على قوله، وكان يقول والله ما أنسى قط فخذيها وتاب الاثنان
فقبل شهادتهما وكان أبو بكرة بعد ذلك إذا طلب إلى شهادة، قال: اطلبوا غيري فان
زيادا أفسد على شهادتي.
وقال أبو الفرج: وروى إبراهيم بن سعيد عن أبيه عن جده، قال: لما ضرب
أبو بكرة أمرت أمه بشاة فذبحت وجعل جلدها على ظهره، قال: إبراهيم فكان أبى
يقول: ما ذاك إلا من ضرب شديد.
قال أبو الفرج: فحدثنا الجوهري عن عمر بن شبة عن علي بن محمد عن يحيى بن
زكريا عن مجالد، عن الشعبي، قال: كانت الرقطاء التي رمى بها المغيرة تختلف إليه في
أيام إمارته الكوفة في خلافة معاوية في حوائجها فيقضيها لها.
قال أبو الفرج: وحج عمر بعد ذلك مرة فوافق الرقطاء بالموسم فرآها وكان المغيرة
يومئذ هناك، فقال عمر للمغيرة: ويحك! أتتجاهل على! والله ما أظن أبا بكرة كذب
عليك وما رأيتك إلا خفت أن أرمى بحجارة من السماء!.
قال: وكان علي عليه السلام بعد ذلك يقول إن ظفرت بالمغيرة لاتبعته الحجارة.
قال أبو الفرج: فقال حسان بن ثابت يهجو المغيرة ويذكر هذه القصة
لو أن اللؤم ينسب كان عبدا * قبيح الوجه أعور من ثقيف
238

تركت الدين والاسلام لما * بدت لك غدوة ذات النصيف
وراجعت الصبا وذكرت لهوا (1) * مع القينات في العمر اللطيف.
قال أبو الفرج: وروى المدائني أن المغيرة لما شخص إلى عمر في هذه الوقعة رأى
في طريقه جارية فأعجبته فخطبها إلى أبيها فقال له: وأنت على هذه الحال! قال:
وما عليك إن أبق (2) فهو الذي تريد وإن أقتل ترثني فزوجه. وقال أبو الفرج: قال الواقدي كانت امرأة من بنى مرة تزوجها بالرقم (3) فلما
قدم بها على عمر، قال: إنك لفارغ القلب طويل الشبق.
فهذه الأخبار كما تراها تدل متأملها على أن الرجل زنى بالمرأة لا محالة وكل
كتب التواريخ والسير تشهد بذلك وإنما اقتصرنا نحن منها على ما في هذين الكتابين.
وقد روى المدائني أن المغيرة كان أزنى الناس في الجاهلية فلما دخل في الاسلام
قيده الاسلام وبقيت عنده منه بقية ظهرت في أيام ولايته البصرة.
وروى أبو الفرج في كتاب الأغاني عن الجاحظ أبى عثمان عمرو بن بحر قال: كان
المغيرة بن شعبة والأشعث بن قيس وجرير بن عبد الله البجلي يوما متوافقين بالكناسة
في نفر وطلع عليهم أعرابي فقال لهم المغيرة: دعوني أحركه، قالوا: لا تفعل فان
للأعراب جوابا يؤثر، قال: لا بد، قالوا: فأنت أعلم، فقال له: يا أعرابي أتعرف المغيرة
ابن شعبة؟ قال: نعم أعرفه أعور زانيا فوجم ثم تجلد، فقال: أتعرف الأشعث بن
قيس؟ قال: نعم ذاك رجل لا يعرى قومه، قال: وكيف ذاك؟ قال: لأنهم حاكة.
قال: فهل تعرف جرير بن عبد الله؟ قال: كيف لا أعرف رجلا لولاه ما عرفت عشيرته!
فقالوا: قبحك الله فإنك شر جليس هل تحب أن يوقر لك بعيرك هذا مالا وتموت

(1) الأغاني: (عهد).
(2) الأغاني: (أعطف).
(3) الرقم: موضع بالحجاز قريب من وادي القرى.
239

أكرم العرب موتة؟ قال: فمن يبلغه إذن أهلي؟ فانصرفوا عنه فتركوه (1)
قال أبو الفرج: وروى علي بن سليمان الأخفش، قال: خرج المغيرة بن شعبة وهو
يومئذ على الكوفة ومعه الهيثم بن التيهان النخعي غب مطر يسير في ظهر الكوفة
والنجف فلقى ابن لسان الحمرة أحد بنى تيم الله بن ثعلبه، وهو لا يعرف المغيرة ولا يعرفه
المغيرة، فقال له: من أين أقبلت يا أعرابي، قال: من السماوة قال: كيف تركت
الأرض خلفك؟ قال: عريضة أريضة (2)، قال: فكيف كان المطر؟ قال: عفى الأثر
وملأ الحفر، قال: فمن أنت؟ قال: من بكر بن وائل، قال: كيف علمك بهم؟ قال:
إن جهلتهم لم أعرف غيرهم، قال: فما تقول في بنى شيبان؟ قال: سادتنا وسادة غيرنا
قال فما تقول في بنى ذهل؟ قال: سادة نوكى، قال: فقيس بن ثعلبة؟ قال: إن
جاورتهم سرقوك وإن ائتمنتهم خانوك، قال: فبنو تيم الله بن ثعلبه؟ قال: رعاء النقد (3)
وعراقيب الكلاب، قال: فبنى يشكر؟ قال: صريح تحسبه مولى.
قال هشام بن الكلبي: لان في ألوانهم حمرة، قال: فعجل؟ قال: أحلاس (4)
الخيل، قال: فعبد (5) القيس؟ قال: يطعمون الطعام ويضربون الهام، قال: فعنزة؟
قال: لا تلتقي بهم الشفتان لؤما، قال: فضبيعة أضجم؟ قال: جدعا وعقرا (6)! قال:
فأخبرني عن النساء، قال: النساء أربع: ربيع مربع وجميع مجمع وشيطان سمعمع وغل
لا يخلع، قال: فسر، قال: أما الربيع المربع، فالتي إذا نظرت إليها سرتك وإذا
أقسمت عليها برتك، وأما التي هي جميع مجمع، فالمرأة تتزوجها ولها نسب فيجتمع نسبها
إلى نسبك وأما الشيطان السمعمع فالكالحة في وجهك إذا دخلت المولولة في أثرك

(1) الأغاني 16: 89.
(2) الأريضة: المعشبة.
(3) النقد: صغار الغنم، وفي الأغاني: (البقر).
(4) أحلاس الخيل: شجعان فرسان ملازمون لركوب الخيل.
(5) الأغاني: (فحنفية).
(6) دعا عليهم بالجدع والعقر، يريد أصابهم الاستئصال.
240

إذا خرجت وأما الغل الذي لا يخلع فبنت عمك السوداء القصيرة الفوهاء الدميمة
التي قد نثرت لك بطنها إن طلقتها ضاع ولدك وإن أمسكتها فعلى جدع انفك، قال (1)
المغيرة بل أنفك. قال: فما تقول في أميرك المغيرة بن شعبة؟ قال: أعور زان، فقال:
الهيثم بن الأسود: فض الله فاك! ويلك إنه الأمير المغيرة! قال: إنها كلمة تقال فانطلق
به المغيرة إلى منزله وعنده يومئذ أربع نسوة وستون - أو سبعون - أمة وقال: ويحك!
هل يزنى الحر وعنده مثل هؤلاء! ثم قال لهن: ارمين إليه بحليكن (2) ففعلن، فخرج
بملء كسائه ذهبا وفضة (3).
وإنما أوردنا هذين الخبرين ليعلم السامع أن الخبر بزناه كان شائعا مشهورا مستفيضا
بين الناس ولأنهما يتضمنان أدبا وكتابنا هذا موضوع للأدب.
وإنما قلنا: إن عمر لم يخطئ في درء الحد عنه لان الامام يستحب له ذلك وإن
غلب على ظنه أنه قد وجب الحد عليه روى المدائني أن أمير المؤمنين عليا عليه السلام
أتى برجل قد وجب عليه الحد فقال: أهاهنا شهود؟ قالوا: نعم، قال: فأتوني بهم
إذا أمسيتم ولا تأتوني إلا معتمين فلما أعتموا جاءوه فقال لهم: نشدت الله رجلا
ما لي عنده مثل هذا الحد إلا انصرف! قال: فما بقي منهم أحد فدرأ عنه الحد
ذكر هذا الخبر أبو حيان في كتاب البصائر في الجزء السادس منه
والخبر المشهور الذي كاد يكون متواترا أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال
(ادرءوا الحدود بالشبهات) ومن تأمل المسائل الفقهية في باب الحدود علم أنها بنيت
على الاسقاط عند أدنى سبب وأضعفه ألا ترى أنه لو أقر بالزنا ثم رجع عن إقراره قبل
إقامة الحد أو في وسطه قبل رجوعه وخلى سبيله!.

(1) الأغاني: (فقال)
(2) الأغاني: (بحلاكن)
(3) الأغاني 16: 90، 91.
241

وقال أبو حنيفة وأصحابه: يستحب للامام أن يلقن المقر الرجوع ويقول له تأمل
ما تقول لعلك مسستها أو قبلتها ويجب على الامام أن يسأل الشهود ما الزنا؟ وكيف
هو؟ وأين زنى؟ وبمن زنى؟ ومتى زنى؟ وهل رأوه وطئها في فرجها كالميل في المكحلة؟
فإذا ثبت كل ذلك سأل عنهم فلا يقيم الحد حتى يعدلهم القاضي في السر والعلانية ولا يقام
الحد بإقرار الانسان على نفسه حتى يقر أربع مرات في أربعة مجالس كلما أقر رده
القاضي وإذا تم إقراره سأله القاضي عن الزنا؟ ما هو؟ وكيف هو؟ وأين زنى؟ وبمن
زنى؟ ومتى زنى؟.
قال الفقهاء: يجب أن يبتدئ الشهود برجمه إذا تكاملت الشهادة فان امتنعوا
من الابتداء برجمه سقط الحد.
قالوا: ولا حد على من وطئ جارية ولده، أو ولد ولده، وإن قال: علمت أنها على
حرام وإن وطئ جارية أبيه أو أمه أو أخته، وقال ظننت أنها تحل لي فلا حد عليه
ومن أقر أربع مرات في مجالس مختلفه بالزنا بفلانة فقالت هي بل تزوجني فلا
حد عليه وكذلك إن أقرت المرأة بأنه زنى بها فلان فقال الرجل بل تزوجتها فلا حد
عليها قالوا وإذا شهد الشهود بحد متقادم من الزنا لم يمنعهم عن إقامته بعدهم عن
الامام لم تقبل شهادتهم إذا كان حد الزنا وإن شهدوا أنه زنى بامرأة ولا يعرفونها لم
يحد وإن شهد اثنان أنه زنى بامرأة بالكوفة وآخران أنه زنى بالبصرة درئ الحد
عنهما جميعا وإن شهد أربعة على رجل أنه زنى بامرأة بالنخيلة عند طلوع الشمس
من يوم كذا وكذا وأربعة شهدوا بهذه المرأة عند طلوع الشمس ذلك اليوم بدير
هند درئ الحد عنه وعنها وعنهم جميعا وإن شهد أربعة على شهادة أربعة بالزنا لم
يحد المشهود عليه.
242

وهذه المسائل كلها مذهب أبي حنيفة ويوافقه الشافعي في كثير منها ومن تأملها علم
أن مبنى الحدود على الاسقاط بالشبهات وإن ضعفت.
فان قلت: كل هذا لا يلزم المرتضى، لان مذهبه في فروع الفقه مخالف لمذهب الفقهاء
قلت: ذكر محمد بن النعمان - وهو شيخ المرتضى، الذي قرأ عليه فقه الامامية - في كتاب
(المقنعة) إن الشهود الأربعة إن تفرقوا في الشهادة بالزنا ولم يأتوا بها مجتمعين في وقت
في مكان واحد سقط الحد عن المشهود عليه، ووجب عليهم حد القذف.
قال: وإذا أقر الانسان على نفسه بالزنا أربع مرات على اختيار منه للاقرار وجب
عليه الحد وإن أقر مرة أو مرتين أو ثلاثا لم يجب عليه الحد بهذا الاقرار وللامام
أن يؤدبه باقراره على نفسه حسب ما يراه فإن كان أقر على امرأة بعينها جلد
حد القذف.
قال: وإن جعل في الحفرة ليرجم وهو مقر على نفسه بالزنا ففر منها، ترك ولم يرد لان
فراره رجوع عن الاقرار وهو أعلم بنفسه.
قال: ولا يجب الرجم على المحصن الذي يعده الفقهاء محصنا وهو من وطئ امرأة
في نكاح صحيح وإنما الاحصان عندنا من له زوجه أو ملك يمين يستغنى بها عن غيرها
ويتمكن من وطئها فان كانت مريضة لا يصل إليها بنكاح أو صغيرة لا يوطأ مثلها
أو غائبة عنه أو محبوسة لم يكن محصنا بها ولا يجب عليه الرجم.
قال: ونكاح المتعة لا يحصن عندنا وإذا كان هذا مذهب الإمامية فقد اتفق قولهم
وأقوال الفقهاء في سقوط الرجم بأدنى سبب والذي رواه أبو الفرج الأصفهاني إن زيادا
لم يحضر في المجلس الأول وأنه حضر في مجلس ثان فلعل إسقاط الحد كان لهذا.
ثم نعود إلى تصفح ما اعترض به المرتضى كلام قاضى القضاة.
243

أما قوله كان الحد في حكم الثابت فإن الله تعالى لم يوجب الحد إلا إذا كان
ثابتا ولم يوجبه إذا كان في حكم الثابت ويسأل عن معنى قوله في (حكم الثابت) هل المراد
بذلك أنه قريب من الثبوت وإن لم يثبت حقيقة أم المراد أنه قد ثبت وتحقق؟ فإن
أراد الثاني، قيل له: لا نسلم أنه ثبت لان الشهادة لم تتم وقد اعترف المرتضى بذلك وأقر
بأن الشهادة لم تكمل ولكنه نسب ذلك إلى تلقين عمر وإن أراد الأول قيل له: ليس
يكفي في وحوب الحد أن يكون قريبا إلى الثبوت لأنه لو كفى ذلك لحد الانسان
بشهادة ثلاثة من الشهود.
وأما قوله: إن عمر لقنه وكره أن يشهد فلا ريب أن الامر وقع كذلك، وقد قلنا:
إن هذا جائز بل مندوب إليه، وروينا عن أمير المؤمنين ما رويناه وذكرنا قول الفقهاء
في ذلك وأنهم استحبوا أن يقول القاضي للمقر بالزنا تأمل ما تقوله، لعلك مسستها
أو قبلتها!.
فأما قول المرتضى: إنه درأ الحد عن واحد وكان درؤه عن ثلاثة أولى فقد أجاب
قاضى القضاة عنه بأنه ما كان يمكن دفعه عنهم
فأما قول المرتضى: بل قد كان يمكن دفعه عنهم، بألا يلقن الرابع الامتناع من
الشهادة، فقد أجاب قاضى القضاة عنه: بأن الزنا ووسم الانسان به أعظم وأشنع وأفحش
من أن يوسم بالكذب والافتراء وعقوبة الزاني أعظم من عقوبة الكاذب القاذف عند
الله تعالى في دار التكليف، يبين ذلك أن الله تعالى أوجب جلد ثلاثة من المسلمين
لتخليص واحد شهد الثلاثة عليه بالزنا فلو لم يكن هذا المعنى ملحوظا في نظر الشارع لما
أوجبه فكيف يقول المرتضى: ليس لأحد الامرين إلا ما في الاخر!.
وأما خبر السارق الذي رواه قاضى القضاة وقول المرتضى في الاعتراض عليه ليس في
دفع الحد عن السارق إيقاع غيره في المكروه وقصة المغيرة تخالف هذا فليس بجيد
244

لان في دفع الحد عن السارق إضاعة مال المسلم الذي سرق السارق في زمانه وفيه أيضا
إغراء أهل الفساد بالسرقة لأنهم إذا لم يقم الحد عليهم لمكان الجحود أقدموا على
سرقة الأموال فلو لم يكن عناية الشارع بالدماء أكثر من عنايته بغيره من الأموال
و الأبشار لما قال: للمكلف لا تقر بالسرقة ولا بالزنا ولما رجح واحدا على ثلاثة
وهان في نظره أن تضرب أبشارهم بالسياط وهم ثلاثة حفظا لدم واحد.
وأما حديث صفوان وقول المرتضى فلا يشبه كل ما نحن فيه لان الرسول صلى الله
عليه وآله بين أن ذلك القول يسقط الحد لو تقدم وليس فيه تلقين يوجب إسقاط الحد.
فجوابه أن قاضى القضاة لم يقصد بإيراد هذا الخبر إلا تشييد قول عمر أرى وجه
رجل لا يفضح الله به رجلا من المسلمين لان عمر كره فضيحة المغيرة كما كره رسول الله
صلى الله عليه وآله فضيحة السارق الذي قال: صفوان (هو له) وقال: عليه السلام (هلا قبل
أن تأتيني به!) أي هلا قلت ذلك قبل أن تحضره فلم يفتضح بين الناس! فإن قولك
(هو له) وإن درأ الحد إلا أنه لا يدرأ الفضيحة!.
فأما ما حكاه قاضى القضاة عن أبي على من أن القذف قد كان تقدم منهم وهم بالبصرة
فقد ذكرنا في الخبر ما يدل على ذلك فبطل قول المرتضى: إن ذلك غير معروف وإن
الظاهر المروى خلافه.
وأما قول عمر للمغيرة: ما رأيتك إلا خفت أن يرميني الله بحجارة من السماء فالظاهر
أن مراده ما ذكره قاضى القضاة من التخويف وإظهار قوة الظن بصدق الشهود
ليكون ردعا له ولذلك ورد في الخبر ما أظن أبا بكرة كذب عليك تقديره: أظنه
لم يكذب ولو كان كما قال المرتضى ندما وتأسفا على تفريط وقع لأقام الحد عليه
ولو بعد حين ومن الذي كان يمنعه من ذلك لو أراده!.

(1) ساقطة من: ب.
245

وقوله لم يخاف أن يرمى بالحجارة وهو لم يدرأ الحد عن مستحق له؟ جوابه أن
هذا القول يجرى مجرى التهويل والتخويف للمغيرة كيلا يقدم على أن يعرض نفسه
لشبهة فيما بعد.
فأما قول قاضى القضاة: إنه غير ممتنع أن يحب ألا يفتضح لما كان متوليا للبصرة من
قبله وقول المرتضى معترضا عليه أن كونه واليا من قبله لا يقتضى أن يدرأ عنه الحد
فغير لازم لان قاضى القضاة ما جعل كونه واليا من قبله مقتضيا أن يدرأ عنه الحد وإنما
قاله في جواب من أنكر على عمر محبته لدرء الحد عنه، فقال: إنه غير قبيح ولا يحرم
محبة درء الحد عنه لأنه وال من قبله! فجعل الولاية للبصرة مسوغة لمحبة عمر لدفع الحد
عنه لا مسوغة لدفع الحد عنه، وبين الامرين فرق واضح.
وأما قول المرتضى: إن الشرع حظر كتمان الشهادة، فصحيح فيما عدا الحدود فأما
في الحدود فلا وقد ورد في الخبر الصحيح (من رأى على أخيه شيئا من هذه القاذورات
وستر، ستره الله يوم يفتضح المجرمون).
فأما قول المرتضى: هب أن الحد سقط أما اقتضت الحال تأديب المغيرة بنوع من
أنواع التعزير وإن خف! فكلام لازم جواب عنه ولو فعله عمر لبرئ من التهمة
براءة الذئب من دم يوسف، وما أدرى كيف فاته ذلك مع تشدده في الدين وصلابته في
السياسة! ولعله كان له مانع عن اعتماد ذلك لا نعلمه!.
* * *
الطعن السابع
أنه كان يتلون في الاحكام حتى روى أنه قضى في الجد بسبعين قضية - وروى
246

مائة قضية - وإنه كان يفضل في القسمة والعطاء وقد سوى الله تعالى بين الجميع وأنه
قال في الاحكام من جهة الرأي والحدس (1) والظن.
أجاب قاضى القضاة عن ذلك، فقال: مسائل الاجتهاد يسوغ فيها الاختلاف
والرجوع عن رأى إلى رأى بحسب الامارات وغالب الظن وقد (2) ذكر أن ذلك طريقه
أمير المؤمنين عليه السلام في أمهات الأولاد ومقاسمة الجد مع الاخوة ومسألة الحرام.
قال: وإنما الكلام في أصل القياس والاجتهاد فإذا ثبت ذلك خرج من أن
يكون طعنا وقد ثبت أن أمير المؤمنين عليه السلام كان يولى من يرى خلاف
رأيه كابن عباس وشريح ولا يمنع زيدا وابن مسعود من الفتيا مع الاختلاف
بينه وبينهما.
فأما ما روى من السبعين قضية فالمراد به في مسائل من الجد لان مسألة
واحدة لا يوجد فيها سبعون قضية مختلفة وليس في ذلك عيب، بل يدل على
سعة علمه.
وقال: قد صح في زمان الرسول صلى الله عليه وآله مثل ذلك لأنه لما شاور في
أمر الأسرى أبا بكر أشار ألا يقتلهم وأشار عمر بقتلهم، فمدحهما جميعا فما الذي يمنع
من كون القولين صوابا من المجتهدين ومن الواحد في حالين؟.
وبعد فقد ثبت أن اجتهاد الحسن عليه السلام في طلب الإمامة كان بخلاف اجتهاد
الحسين عليه السلام لأنه سلم الامر وتمكنه أكثر من تمكن الحسين عليه السلام
ولم يمنع ذلك من كونهما عليه السلام مصيبين.

(1) في الأصول: (الحد)، والصواب ما أثبته من الشافي.
(2) الشافي: (وادعى أن ذلك طريقة أمير المؤمنين).
(3) الشافي: (خلافه).
247

اعترض المرتضى هذا الجواب فقال (1): لا شك أن التلون في الاحكام والرجوع
من قضاء إلى قضاء، إنما يكون عيبا وطعنا إذا أبطل الاجتهاد الذي يذهبون إليه فأما
لو ثبت لم يكن ذلك عيبا فأما الدعوى على أمير المؤمنين عليه السلام أنه تنقل في الاحكام
ورجع من مذهب إلى آخر فإنها غير صحيحه ولا نسلمه (2) ونحن ننازعه فيها (3) وهو لا
ينازعنا في تلون صاحبه وتنقله فلم يشتبه الأمران.
وأظهر ما روى في ذلك خبر أمهات الأولاد وقد بينا فيما سلف من الكتاب
ما فيه، وقلنا: إن مذهبه في بيعهن كان واحدا غير مختلف وإن كان قد وافق عمر في
بعض الأحوال لضرب من الرأي فأما توليته لمن يرى خلاف رأيه فليس ذلك لتسويغه
الاجتهاد الذي يذهبون إليه بل لما بيناه من قبل أنه عليه السلام كان غير متمكن من
اختياره وأنه يجرى أكثر الأمور مجراها المتقدم للسياسة والتدبير وهذا السبب في أنه
لم يمنع من خالفه في الفتيا.
فأما قوله إن السبعين قضية لم تكن في مسألة واحدة وإنما كانت في مسائل من
الجد فكلا الامرين واحد فيما قصدناه لان حكم الله تعالى لا يختلف في المسألة الواحدة
والمسائل فأما أمر الأسارى فإن صح فإنه لا يشبه أحكام الدين المبنية على العلم واليقين
لأنه لا سبيل لأبي بكر وعمر إلى المشورة في أمر الأسارى إلا من طريق الظن والحسبان
وأحكام الدين معلومة وإلى العلم بها سبيل.
وما ادعاه من اجتهاد الحسن بخلاف اجتهاد الحسين ليس على ما ظنه لان ذلك
لم يكن عن اجتهاد وظن بل كان عن علم ويقين فمن أين له أنهما عملا على الظن!
فما نراه اعتمد على حجة! ومن أين له أن تمكن الحسن كان أكثر من تمكن الحسين!

(1) الشافي: (يقال له).
(2) الشافي: (ونحن ننازعه في ذلك كل النزاع، ونذهب إلى دفعه أشد الدفع، وهو لا ينازعه في تلوين صاحبه في الاحكام، فلم يشتبه الأمران).
(3) الشافي: (ونحن ننازعه في ذلك كل النزاع، ونذهب إلى دفعه أشد الدفع، وهو لا ينازعه في تلوين صاحبه في الاحكام، فلم يشتبه الأمران).
248

على أن هذا لو كان على ما قاله لم يحسن من هذا التسليم ومن ذاك القتال، لان المقاتل قد
يكون مغررا ملقيا بيديه إلى التهلكة والمسالم مضيعا للامر مفرطا، وإذا كان عند صاحب
الكتاب التسليم والقتال إنما كانا عن ظن وأمارات فليس يجوز أن يغلب على الظن بأن
الرأي في القتال مع ارتفاع أمارات التمكن ولا أن يغلب في الظن المسالمة مع قوة
أمارات التمكن (1).
قلت: أما القول في صحة الاجتهاد وبطلانه فله مواضع غير هذا الموضع وكذلك
القول في تقية الامام واستصلاحه وفعله مالا يسوغ لضرب من السياسة والتدبير.
وأما مسائل الجد فلم يعترض المرتضى قول قاضى القضاة فيها وأما قاضى القضاة فقد
استبعد بل أحال أن تكون مسألة واحدة بعينها تحتمل سبعين حكما مختلفه فحمل
الحديث على أن عمر أفتى في باب ميراث الأجداد والجدات بسبعين فتيا في سبعين مسألة
مختلفة الصور وذلك دليل على علمه وفقهه وتمكنه من البحث في تفاريع المسائل الشرعية
هذا هو جواب قاضى القضاة فكيف يعترض بقوله كلا الامرين واحد فيما
قصدناه لان حكم الله لا يختلف في المسألة الواحدة والمسائل المتعددة أليس هذا اعتراض
من ظن أن قاضى القضاة قد اعترض بتناقض أحكامه ولكن لا في مسألة بعينها بل في
مسائل من باب ميراث الجد! ولم يقصد قاضى القضاة ما ظنه والوجه أن يعترض قاضى
القضاة فيقال: إن الرواة كلهم اتفقوا على أن عمر تلون تلونا شديدا في الجد مع الاخوة
كيف يقاسمهم؟ وهي مسألة واحدة فقضى فيها بسبعين قضية فأخرجوا الرواية مخرج
التعجب من تناقض فتاويه ولم يخرج أحد من المحدثين الرواية مخرج المدح له بسعة
تفريعه في الفقه والمسائل فلا يجوز صرف الرواية عن الوضع الذي وردت عليه.

(1) الشافي 256.
249

وقول قاضى القضاة كيف تحتمل مسألة واحدة سبعين وجها! جوابه أنه لم يقع الامر
بموجب ما توهمه بل المراد أن قوما تحاكموا إليه في هذه المسألة مثلا اليوم، فأفتى فيها
بفتيا، نحو أن يقول في جد وبنت وأخت: للبنت النصف والباقي بين الجد والأخت
للذكر مثل حظ الأنثيين، وهو قول زيد بن ثابت، ثم يتحاكم إليه بعد أيام في هذه
المسألة بعينها قد وقعت لقوم آخرين فيقول: للبنت النصف وللجد السدس والباقي
للأخت وهو المذهب المحكى عن علي عليه السلام وذلك بأن يتغلب على ظنه ترجيح
هذه الفتيا على ما كان أفتى به من قبل ثم تقع هذه المسألة بعينها بعد شهر آخر فيفتي
فيها بفتيا أخرى فيقول: للبنت النصف والباقي بين الجد والأخت نصفين وهو مذهب
ابن مسعود ثم تقع المسألة بعينها بعد شهر آخر فيقضى فيها بالفتيا الأولى وهي مذهب
زيد بأن يعود ظنه مترجحا متغلبا لمذهب زيد ثم تقع المسألة بعينها بعد وقت آخر
فيفتي فيها بقول علي عليه السلام وهكذا لا تزال المسألة بعينها تقع وأقواله فيها تختلف
وهي ثلاثة لا مزيد عليها إلا أنه لا يزال يفتى فيها فتاوى مختلفة إلى أن توفى فأحصيت
فكانت سبعين فتيا.
فما احتجاج قاضى القضاة بقصة أسرى بدر فجيد وأما ما اعترض به المرتضى
فليس بجيد لان المسألة من باب الشرع، وهو قتل الأسرى أو تخليتهم بالفداء والقتل وإراقة
الدم من أهم المسائل الشرعية وقد علم من الشارع شدة العناية بأمر الدنيا فإن كانت
أحكام الشرع لا يجوز أن تتلقى وأن يفتى فيها إلا بطريق معلومة وأن الظن والاجتهاد
لا مدخل له في الشرع - كما يذهب إليه - المرتضى فكيف جاز من رسول الله صلى الله
عليه وآله أن يشاور في أحكام شرعية من لا طريق له إلى العلم وإنما قصارى أمره
الظن والاجتهاد والحسبان! وكيف مدحهما جميعا وقد اختلفا ولا بد أن يكون
أحدهما مخطئا!.
250

وأما قول المرتضى من أين لقاضي القضاة أن ما اعتمده الحسن والحسين من
الكف والاقدام كان عن الاجتهاد! فجيد وجواب صحيح على أصول الامامية لأنه: ليس
بمستحيل أن يعتمدا ذلك بوصية سابقة من أبيهما عليه السلام.
وأما قوله لقاضي القضاة: كلامك مضطرب لأنك أسندت ما اعتمداه إلى الاجتهاد
ثم قلت: وقد كان تمكن الحسن أكثر من تمكن الحسين عليه السلام، وهذا يؤدى
إلى أن أحدهما غرر بنفسه والاخر فرط في تسليم حقه فليس بجيد والذي أراده قاضى القضاة
الدلالة على جواز الاجتهاد وأنه طريقة المسلمين كلهم وأهل البيت عليهم السلام
وأوما إلى ما اعتمده الحسن من تسليم الامر إلى معاوية وما اعتمده الحسين من منازعة
يزيد الخلافة فعملا فيها بموجب اجتهادهما وما غلب على ظنونهما من المصلحة وقد كان
تمكن الحسن عليه السلام في الحال الحاضرة أكثر من تمكن الحسين عليه السلام في
حاله الحاضرة لان جند الحسن كان حوله ومطيفا به - وهم كما روى مائه ألف - سيف
ولم يكن مع الحسين عليه السلام ممن يحيط به ويسير بمسيره إلى العراق إلا دون مائة فارس
ولكن ظنهما في عاقبة الامر ومستقبل الحال كان مختلفا فكان الحسن يظن خذلان
أصحابه عند اللقاء والحرب وكان الحسين عليه السلام يظن نصرة أصحابه عند اللقاء والحرب
فلذلك أحجم أحدهما وأقدم الاخر، فقد بان أن قول قاضى القضاة غير مضطرب
ولا متناقض.
* * *
الطعن الثامن
ما روى عن عمر من قوله (متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله أنا أنهى
عنهما وأعاقب عليهما) وهذا اللفظ قبيح لو صح المعنى فكيف إذ فسد! لأنه ليس ممن
251

يشرع فيقول هذا القول ولأنه يوهم مساواة الرسول صلى الله عليه وآله في الأمر والنهي
وأن اتباعه أولى من اتباع رسول الله صلى الله عليه وآله.
أجاب قاضى القضاة، فقال: إنه إنما عنى (1) بقوله: (وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما)
كراهته لذلك وتشدده فيه من حيث نهى رسول الله صلى الله عليه وآله عنهما بعد أن
كانتا في أيامه منبها بذلك على حصول النسخ فيهما وتغير الحكم لأنا نعلم أنه كان متبعا
للرسول متدينا بالاسلام فلا يجوز أن نحمل قوله على خلاف ما تواتر من حاله وحكى
عن أبي على أن ذلك بمنزلة أن يقول: إني أعاقب من صلى إلى بيت المقدس وإن كان
صلى إلى بيت المقدس في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله واعتمد في تصويبه على كف
الصحابة عن النكير عنه وادعى أن أمير المؤمنين عليه السلام أنكر على ابن عباس
إحلال المتعة وروى عن النبي صلى الله عليه وآله، تحريمهما فأما متعة الحج فإنما أراد
ما كانوا يفعلون من فسخ الحج لأنه كان يحصل لهم عنده التمتع ولم يرد بذلك التمتع
الذي يجرى مجرى تقدم العمرة وإضافة الحج إليها بعد ذلك، لأنه جائز لم يقع
فيه قبح.
اعترض المرتضى هذا الكلام (2)، فقال: ظاهر الخبر المروى عن عمر في المتعتين يبطل
هذا التأويل لأنه قال: (متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله أنا أنهى
عنهما وأعاقب عليهما) فأضاف النهى إلى نفسه ولو كان الرسول نهى عنهما لأضاف
النهى إليه، فكان آكد وأولى فكان يقول: فنهى عنهما أو نسخهما وأنا من بعده
أنهى عنهما وأعاقب عليهما. وليس يشبه ما ذكره من الصلاة إلى البيت المقدس، لان نسخ

(1) الشافي: (وهذا غير لازم، لأنه عنى بقوله: أنا أنهى عنها)
(2) الشافي: (يقال له: ظاهر الخبر المروي...).
252

الصلاة إلى بيت المقدس معلوم ضرورة من دينه صلى الله عليه وآله وليس كذلك
المتعة على أنه لو قال: إن الصلاة إلى بيت المقدس كانت في أيام النبي صلى الله عليه وآله
جائزة وأنا الان أنهى عنها لكان قبيحا شنيعا، مثل ما استقبحنا من القول الأول
وليس هذا القول منه ردا على الرسول صلى الله عليه وآله لأنه لا يمتنع أن يكون
استحسن حظرها في أيامه لوجه لم يكن فيما تقدم واعتقد أن الإباحة في أيام رسول الله
صلى الله عليه وآله كان لها شرط لم يوجد في أيامه، وقد روى عنه أنه صرح بهذا
المعنى، فقال: إنما أحل الله المتعة للناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله والنساء
يومئذ قليلة ولذلك روى عنه في متعة الحج أنه قال: قد علمت أن رسول الله صلى الله
عليه وآله فعلها وأصحابه ولكن كرهت أن يظلوا بها معرسين تحت الأراك ثم يرجعوا
بالحج تقطر رؤوسهم.
وأما (1) اعتماده على الكف عن النكير، فقد تقدم أنه ليس بحجة إلا على شرائط
شرحناها، على أنه قد روى أن عمر قال بعد نهيه عن المتعة: لا أوتى بأحد تزوج متعة
إلا عذبته بالحجارة ولو كنت تقدمت فيها لرجمت وما وجدنا أحدا أنكر عليه هذا
القول لان المتمتع عندهم لا يستحق الرجم، ولم يدل ترك النكير على صوابه.
فأما ادعاؤه على أمير المؤمنين عليه السلام أنه أنكر على ابن عباس إحلالها فالامر
بخلافه وعكسه فقد روى عنه عليه السلام من طرق كثيرة أنه كان يفتى بها وينكر
على محرمها و الناهي عنها، وروى عمر بن سعد الهمداني، عن حبيش بن المعتمر قال:
سمعت عليا عليه السلام يقول: لولا ما سبق من ابن الخطاب في المتعة ما زنى الا شقي.
وروى أبو بصير قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي الباقر ع يروى عن جده
أمير المؤمنين عليه السلام: لولا ما سبقني به ابن الخطاب ما زنى الا شقي. وقد أفتى بالمتعة

(1) الشافي: (فأما).
253

جماعة من الصحابة والتابعين كعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وجابر بن
عبد الله الأنصاري، وسلمة بن الأكوع، وأبى سعيد الخدري، وسعيد بن جبير
ومجاهد، وغير ما ذكرناه ممن يطول ذكره، فأما سادة أهل البيت عليهم السلام
وعلماؤهم فأمرهم واضح في الفتيا بها، كعلى بن الحسين زين العابدين، وأبى جعفر
الباقر عليه السلام وأبى عبد الله الصادق عليه السلام وأبى الحسن موسى الكاظم
وعلي بن موسى الرضا عليه السلام وما ذكرنا من فتيا من أشرنا إليه من الصحابة
بها يدل على أوضح بطلان ما ذكره صاحب الكتاب من ارتفاع النكير لتحريمها،
لان مقامهم على الفتيا بها نكير.
فأما متعة الحج فقد فعلها النبي (ص) والناس أجمع من بعده، والفقهاء
في أعصارنا هذه لا يرونها خطأ بل صوابا.
فأما قول صاحب الكتاب: ان عمر إنما أنكر فسخ الحج فباطل، لان ذلك
أولا لا يسمى متعة، ولان ذلك ما فعل في أيام النبي (ص) ولا فعله أحد
من المسلمين بعده وإنما هو من سنن الجاهلية، فكيف يقول عمر: متعتان كانتا على
عهد رسول الله صلى الله عليه وآله، وكيف يغلظ ويشدد فيما لم يفعل، ولا فعل (1).
قلت: لا شبهة ان الظاهر من كلام عمر إضافة النهى إلى نفسه، لكنا يجب علينا
ان نترك ظاهر اللفظ إذا علمنا من قائله ما يوجب صرف اللفظ عن الظاهر كما يعتمده كل
أحد في القرائن المقترنة بالألفاظ المعلوم من حال عمر انه لم يكن يدعى انه ناسخ لشريعة

(1) الشافي 257، وفيه: (ولا يفعل).
254

الرسول صلى الله عليه وآله، وانه كان متدينا بالاسلام وتابعا للرسول الذي جاء به
فوجب أن يحمل كلامه على أنه أراد انهما كانتا ثم حرمتا، ثم انا الان أعاقب من
فعلهما، لأنه قد كان بلغه عن قوم من المسلمين بعد علمهم بالتحريم، وقول
المرتضى: لعله كان اعتقد ان الإباحة أيام رسول الله صلى الله عليه وآله كانت
مشروطة بشرط لم يوجد في أيامه، قول يبطل طعنه في عمر، ويمهد له عذرا ويصير
المسألة اجتهادية.
واما طعنه في الاحتجاج على تصويب عمر بترك الانكار عليه وقوله: فهلا أنكروا
عليه قوله: لا أرى أحدا يستمتع الا رجمته، فليس بطعن مستقيم، وإنما يكون طعنا
صحيحا لو كان أتى بمتمتع فامر برجمه، فاما ان ينكروا عليه وعيده وتهديده لا لانسان
معين بل كلاما مطلقا، وقولا كليا يقصد به حسم المادة في المتعة، وتخويف فاعلها،
فإنه ليس بمحل للإنكار عليه، وما زالت الأئمة والصالحون يتوعدون بأمر ليس في
نفوسهم فعله، على طريق التأديب والتهذيب، على أن قوما من الفقهاء قد أوجبوا إقامة
الحد على المتمتع، فلا يمتنع ان يكون عمر ذاهبا إلى هذا المذهب.
فأما ما رواه عن أمير المؤمنين عليه السلام وعن الطاهرين من أولاده، من تحليل
المتعة، فلسنا في هذا المقام نناكره في ذلك وننازعه فيها، والمسألة فقهية من فروع الشريعة
وليس كتابنا موضوعا لذكره ولا الموضع الذي نحن فيه يقتضى الحجاج فيها، والبحث في
تحليلها وتحريمها، وإنما الموضع موضع الكلام في حال عمر، وما نقل عنه من الكلمة، هل
يقتضى ذلك الطعن في دينه أم لا؟
فأما متعة الحج فقد اعتذر لنفسه، وقال ما قدمنا ذكره، من أن الحج بهاء من بهاء
الله وان التمتع يكسفه ويذهب نوره ورونقه، وانهم يظلون معرسين تحت الأراك ثم
255

يهلون بالحج ورؤوسهم تقطر، وإذا كان قد اعتذر لنفسه فقد كفانا مؤنة الاعتذار.
* * *
الطعن التاسع
ما روى عنه من قصة الشورى، وكونه خرج بها عن الاختيار والنص جميعا، وانه
ذم كل واحد، بأن ذكر فيه طعنا ثم أهله للخلافة بعد أن طعن فيه، وأنه جعل
الامر إلى ستة، ثم إلى أربعة (1) ثم إلى واحد، قد وصفه بالضعف والقصور، وقال:
ان اجتمع على وعثمان فالقول ما قالاه، وان صاروا ثلاثة وثلاثة فالقول للذين فيهم
عبد الرحمن، وذلك لعلمه بان عليا وعثمان لا يجتمعان، وان عبد الرحمن لا يكاد يعدل
بالامر عن ختنه وابن عمه، وانه أمر بضرب أعناقهم إن تأخروا عن البيعة فوق ثلاثة
أيام، وانه أمر بقتل من يخالف الأربعة منهم أو الذين فيهم عبد الرحمن.
أجاب قاضى القضاة عن ذلك، فقال: الأمور الظاهرة لا يجوز ان يعترض عليها
بأخبار غير صحيحة، والامر في الشورى ظاهر، وان الجماعة دخلت فيها بالرضا
ولا فرق بين من قال في أحدهم: انه دخل فيها لا بالرضا وبين من قال ذلك في جميعهم،
ولذلك جعلنا دخول أمير المؤمنين عليه السلام في الشورى أحد ما يعتمد عليه في أن لا نص
يدل عليه، انه المختص بالإمامة، لأنه قد كان يجب عليه ان يصرح بالنص على نفسه،
بل يحتاج إلى ذكر فضائله ومناقبه، لان الحال حال مناظرة ولم يكن الامر مستقرا
لواحد، فلا يمكن ان يتعلق بالتقية والمتعالم من حاله انه لو امتنع من هذا الامر في
الشورى أصلا لم يلحقه الخوف فضلا عن غيره، ومعلوم ان دلالة الفعل أحسن من دلالة
القول، من حيث كان الاحتمال فيه أقل، والمروي ان عبد الرحمن (2) اخذ الميثاق على الجماعة

(1) الشافي: (ثم جعل الامر إلى ستة، ثم إلى أربعة).
(2) في الأصول: (عمر)، والصواب ما أثبته من الشافي.
256

بالرضا بمن يختاره، ولا يجب القدح في الافعال بالظنون، بل يجب حملها على ظاهر الصحة
دون الاحتمال، كما يجب مثله في غيرها، ويجب إذا تقدمت للفاعل حالة تقتضي حسن
الظن به، أن يحمل فعله على ما يطابقها، وقد علمنا أن حال عمر ما كان عليه من النصيحة
للمسلمين، منع من صرف امره في الشورى إلى الأغراض التي يظنها أعداؤه، فلا يصح لهم
ان يقولوا: كان مراده في الشورى بأن يجعل الامر إلى الفرقة التي فيها عبد الرحمن عند
الخلاف ان يتم الامر لعثمان، لأنه لو كان هذا مراده لم يكن هناك ما يمنعه من النص
على عثمان، كما لم يمنع ذلك أبا بكر، لان امره ان لم يكن أقوى من أمر أبى بكر لم ينقص عنه،
وليس ذلك بدعة، لأنه إذا جاز في غير الامام إذا اختار ان يفعل ذلك، بان ينظر في
أماثل القوم فيعلم انهم عشرة، ثم ينظر في العشرة، فيعلم ان أمثلهم خمسة، ثم ينظر في
واحد من الخمسة، فما الذي يمنع من مثله في الامام، وهو في هذا الباب أقوى اختيارا، لان له
ان يختار واحدا بعينه!
ثم ذكر انه إنما حصره في الجماعة الذين انتهى إليهم الفضل، وجعله شورى بينهم،
ثم بين ان الانتقال من الستة إلى الأربعة، ومن الأربعة إلى الثلاثة، لا يكون متناقضا،
لان الأقوال مختلفة، وليست واحدة، ولو كانت أيضا واحدة لكان كالرجوع وللامام
ان يرجع في مثل ذلك، لأنه في حكم الوصية.
قال: وقولهم: انه كان يعلم أن عثمان وعليا لا يجتمعان، وان عبد الرحمن يميل إلى
عثمان، قلة دين، لأن الأمور المستقبلة، لا تعلم وإنما يحصل فيها أمارة. قال: والأمارات
توجب انه لم يكن فيهم حرص شديد على الإمامة بل الغالب من حالهم طلب الاتفاق
والائتلاف والاسترواح إلى قيام الغير بذلك. وإنما جعل عمر الامر إلى عبد الرحمن
عند الاختلاف، لعلمه بزهده في الامر وأنه لأجل ذلك أقرب ان يتثبت، لان الراغب
257

عن الشئ يحصل له من التثبت ما لا يحصل للراغب فيه، ومن كانت هذه حاله كان القوم
إلى الرضا به أقرب.
وحكى عن أبي على أن المخادعة إنما تظن بمن قصده في الأمور طريق الفساد، وعمر
برئ من ذلك.
قال: والضعف الذي وصف به عبد الرحمن، إنما أراد به الضعف عن القيام بالإمامة،
لا ضعف الرأي، ولذلك رد الاختيار والرأي إليه. وحكى عن أبي على ضعف ما روى من
امره بضرب أعناق القوم إذا تأخروا عن البيعة، وان ذلك لو صح لا نكره القوم
ولم يدخلوا في الشورى بهذا الشرط، ثم تأوله إذ سلم صحته، على أنهم إن تأخروا عن
البيعة على سبيل شق العصا وطلب الامر من غير وجهه.
وقال: ولا يمتنع ان يقول ذلك
على طريق التهديد، وإن بعد عنده ان يقدموا عليه، كما قال تعالى: (لئن أشركت
ليحبطن عملك).
اعترض المرتضى هذا الكلام، فقال: ان الذي رتبه عمر في قصة الشورى من ترتيب
العدد واتفاقه واختلافه، يدل أولا على بطلان مذهب أصحاب الاختيار في عدد العاقدين
للإمامة، وانه يتم بعقد واحد لغيره برضا أربعة، وانه لا يتم بدون ذلك، فان قصه الشورى
تصرح بخلاف هذا الاعتبار، فهذا أحد وجوه المطاعن فيها.
ومن جملتها انه وصف كل واحد منهم بوصف زعم أنه يمنع من الإمامة، ثم جعل الامر
فيمن له تلك الأوصاف وقد روى محمد بن سعد، عن الواقدي، عن محمد بن عبد الله الزهري،
عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، قال: قال عمر: لا أدري ما اصنع بأمه
محمد صلى الله عليه وآله؟ وذلك قبل ان يطعن، فقلت: ولم تهتم وأنت تجد من تستخلفه
258

عليهم؟ قال: أصاحبكم؟ يعنى عليا، قلت: نعم، هو لها أهل، في قرابته من رسول الله
صلى الله عليه وآله، وصهره وسابقته وبلائه، قال: ان فيه بطالة (1) وفكاهة، فقلت:
فأين أنت من طلحة؟ قال: فأين الزهو والنخوة! قلت: عبد الرحمن؟ قال: هو رجل
صالح على ضعف فيه، قلت: فسعد، قال: ذاك صاحب مقنب (2) وقتال لا يقوم بقرية
لو حمل أمرها، قلت: فالزبير قال: وعقة لقس (3) مؤمن الرضا، كافر الغضب، شحيح
وان هذا الامر لا يصلح الا لقوى في غير عنف، رفيق في غير ضعف، وجواد في غير
سرف، قلت: فأين أنت عن عثمان؟ قال: لو وليها لحمل بنى أبى معيط على رقاب الناس،
ولو فعلها لقتلوه (4).
وقد يروى من غير هذا الطريق ان عمر قال لأصحاب الشورى: روحوا إلى،
فلما نظر إليهم قال: قد جاءني كل واحد منهم يهز عفريته، يرجو ان يكون خليفة،
اما أنت يا طلحة، أفلست القائل: ان قبض النبي صلى الله عليه وآله أنكح أزواجه من
بعده؟ فما جعل الله محمدا أحق ببنات أعمامنا منا، فأنزل الله تعالى فيك: (وما كان
لكم ان تؤذوا رسول الله ولا ان تنكحوا أزواجه من بعده ابدا) (5) واما أنت يا زبير،
فوالله ما لان قلبك يوما ولا ليلة. وما زلت جلفا (6) جافيا، واما أنت يا عثمان، فوالله
لروثة (7) خير منك، واما أنت يا عبد الرحمن، فإنك رجل عاجز تحب قومك جميعا،
واما أنت يا سعد فصاحب عصبية وفتنة، واما أنت يا علي فوالله لو وزن إيمانك بايمان أهل
الأرض لرجحهم، فقام على موليا يخرج، فقال عمر: والله انى لأعلم مكان رجل لو وليتموه

(1) الفائق: (ذاك رجل فيه دعابة).
(2) المقنب من الخيل: الأربعون أو الخمسون.
(3) في الفائق: (رجل وعقة ولعقة)، إذا كان فيه حرث ووقوع في الامر، بجهل وضيق نفس
وسوء خلق).
(4) خبر ابن عباس مع عمر في الفائق 2: 425، 426، مع اختلاف في العبارة.
(5) سورة الأحزاب 53.
(6) الجلف: الرجل الجافي الغليظ.
(7) الروثة: واحدة الروث، وهو سرجين الفرس
259

امركم لحمكم على المحجة البيضاء، قالوا: من هو؟ قال: هذا المولى من بينكم، قالوا:
فما يمنعك من ذلك؟ قال: ليس إلى ذلك سبيل.
وفى خبر آخر، رواه البلاذري في تاريخه، أن عمر لما خرج أهل الشورى من
عنده، قال: ان ولوها الأجلح (1) سلك بهم الطريق، فقال عبد الله بن عمر: فما يمنعك منه
يا أمير المؤمنين؟ قال: أكره ان أتحملها حيا وميتا.
فوصف كما ترى كل واحد من القوم بوصف قبيح يمنع من الإمامة، ثم جعلها في
جملتهم، حتى كان تلك الأوصاف تزول في حال الاجتماع ونحن نعلم أن الذي ذكره
إن كان مانعا من الإمامة في كل واحد على الانفراد، فهو مانع من الاجتماع، مع أنه وصف
عليا عليه السلام بوصف لا يليق به، ولا ادعاه عدو قط، بل هو معروف بضده، من
الركانة والبعد عن المزاح والدعابة وهذا معلوم ضرورة لمن سمع اخباره عليه السلام،
وكيف يظن به ذلك، وقد روى عن ابن عباس أنه قال: كان أمير المؤمنين علي عليه السلام
إذا أتى هبنا ان نبتدئه بالكلام، وهذا لا يكون الا من شدة التزمت والتوقر، وما يخالف
الدعابة والفكاهة.
ومما تضمنته قصه الشورى من المطاعن، أنه قال: لا أتحملها حيا وميتا، وهذا إن كان
علة عدوله عن النص إلى واحد بعينه، فهو قول متلمس متخلص، لا يفتات على الناس في
آرائهم، ثم نقض هذا بان نص على ستة من بين العالم كله، ثم رتب العدد ترتيبا
مخصوصا، يؤول إلى أن اختيار عبد الرحمن هو المقدم، وأي شئ يكون من التحمل أكثر (2)
من هذا! وأي فرق بين ان يتحملها، بان ينص على واحد بعينه، وبين ان يفعل ما فعله
من الحصر والترتيب!

(1) الجلح: ذهاب الشعر من مقدم الرأس.
(2) ب: (أكبر).
260

ومن جملة المطاعن انه أمر بضرب الأعناق ان تأخروا عن البيعة أكثر من ثلاثة
أيام، ومعلوم انهم بذلك لا يستحقون القتل، لأنهم إذا كانوا إنما كلفوا ان يجتهدوا
آراءهم في اختيار الإمام، فربما طال زمان الاجتهاد، وربما قصر بحسب ما يعرض فيه من
العوارض، فأي معنى للامر بالقتل إذا تجاوزوا الأيام الثلاثة! ثم إنه أمر بقتل من
يخالف الأربعة، ومن يخالف العدد الذي فيه عبد الرحمن، وكل ذلك مما لا يستحق
به القتل.
فاما تضعيف أبى على لذكر القتل فليس بحجة، مع أن جميع من روى قصة
الشورى روى ذلك، وقد روى الطبري [ذلك] (1) في تاريخه وغيره.
فاما تأوله الامر بالقتل على أن المراد به إذا تأخروا على طريق شق العصا، وطلب
الامر من غير وجهه، فبعيد من الصواب، لأنه ليس في ظاهر الخبر ذلك، ولأنهم إذا
شقوا العصا، وطلبوا الامر من غير وجهه من أول يوم، وجب ان يمنعوا ويقاتلوا،
فأي معنى لضرب الأيام الثلاثة اجلا!
فاما تعلقه بالتهديد، فكيف يجوز ان يتهدد الانسان على فعل بما لا يستحقه: وان
علم أنه لا يعزم عليه!
فاما قوله تعالى: (لئن أشركت ليحبطن عملك) (2) فيخالف ما ذكر، لان
الشرك يستحق به إحباط الأعمال، وليس يستحق بالتأخير عن البيعة القتل.
فاما ادعاء صاحب الكتاب ان الجماعة دخلوا في الشورى على سبيل الرضا، وان
عبد الرحمن اخذ عليهم العهد ان يرضوا بما يفعله، فمن قرأ قصة الشورى على وجهها،
وعدل عما تسوله النفس من بناء الاخبار على المذاهب، علم أن الامر بخلاف ما ذكر.
وقد روى الطبري في تاريخه عن أشياخه من طرق مختلفة، ان أمير المؤمنين عليه السلام
قال حين خرج من عند عمر بعد خطابه للجماعة بما تقدم ذكره لقوم كانوا معه من
بني هاشم: إن طمع فيكم قومكم لم تؤمروا ابدا. وتلقاه العباس بن عبد المطلب

(1) من الشافي.
(2) سورة الزمر 65
261

فقال: يا عم عدلت عنا! قال: وما علمك؟ قال: قرن بي عثمان، وقال: كونوا مع
الأكثر، وان رضى رجلان رجلا، ورجلان رجلا، فكونوا مع الذين فيهم
عبد الرحمن، فسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن، وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفان،
فيوليها عبد الرحمن عثمان، أو يوليها عثمان عبد الرحمن، فلو كان الآخران معي لم ينفعاني
بله انى لا أرجو الا أحدهما. فقال له العباس: لم أدفعك عن شئ الا رجعت إلى
مستأخرا! أشرت عليك عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله ان تسأله فيمن هذا
الامر؟ فأبيت، وأشرت عليك عند وفاته ان تعاجل الامر فأبيت، وأشرت عليك حين
سماك عمر في الشورى الا تدخل معهم، فأبيت فاحفظ على واحدة، كلما عرض عليك
القوم فقل: لا، الا ان يولوك، واحذر هؤلاء الرهط، فإنهم لا يبرحون يدفعوننا عن
هذا الامر، حتى يقوم لنا به غيرنا وغيرهم، وأيم الله لا تناله الا بشر لا ينفع معه خير.
فقال علي عليه السلام: اما والله لئن بقي عمر لأذكرنه ما أتى إلينا، ولئن مات ليتداولنها
بينهم، ولئن فعلوا ليجدنني حيث يكرهون، ثم تمثل:
حلفت برب الراقصات عشية * غدون خفافا فابتدرن المحصبا
ليحتلبن رهط ابن يعمر مارئا * نجيعا، بنو الشداخ وردا مصلبا.
فالتفت فرأى أبا طلحة الأنصاري فكره مكانه، فقال أبو طلحة: لا ترع
أبا حسن (1).
قال المرتضى: فان قال قائل: أي معنى لقول العباس: انى دعوتك إلى أن تسأل
رسول الله صلى الله عليه وآله فيمن هذا الامر من قبل وفاته؟ أليس هذا مبطلا لما
تدعونه من النص!
قلنا: غير ممتنع ان يريد العباس سؤاله عمن يصير الامر إليه، وينتقل إلى يديه

(1) تاريخ الطبري 5: 35 (المطبعة الحسينية).
262

لأنه قد يستحقه من لا يصل إليه، وقد يصل إلى من لا يستحقه، وليس يمتنع ان يريد:
إنما كنا نسأله صلى الله عليه وآله إعادة النص قبل الموت، ليتجدد ويتأكد، ويكون
لقرب العهد إليه بعيدا من أن يطرح.
فان قيل: أليس قد أنكرتم على صاحب الكتاب من التأويل بعينه فيما استعمله من
الرواية عن أبي بكر من قوله: ليتني كنت سالت رسول الله صلى الله عليه وآله هل
للأنصار في هذا الامر حق؟
قلنا: إنما أنكرناه في ذلك الخبر، لأنه لا يليق به من حيث قال، فكنا لا ننازعه
أهله، وهذا قول من لا علم له بأنه ليس للأنصار حق في الإمامة، ومن كان يرجع في أن
لهم حقا في الامر أو لا حق لهم فيه، إلى ما يسمعه مستأنفا، وليس هذا في الخبر
الذي ذكرناه. (1)
وروى العباس بن هشام الكلبي عن أبيه، عن جده في اسناده، ان أمير المؤمنين
عليه السلام شكا إلى العباس ما سمع من قول عمر: كونوا مع الثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن
ابن عوف، وقال: والله لقد ذهب الامر منا، قال: وكيف قلت ذلك يا بن أخي! قال:
ان سعدا لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن، وعبد الرحمن نظير عثمان وصهره، فأحدهما
يختار لصاحبه لا محالة وإن كان الزبير وطلحة معي، فلن انتفع بذلك إذا كان ابن عوف
في الثلاثة الآخرين.
قال ابن الكلبي: عبد الرحمن زوج أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وأمها
أروى بنت كريز، وأروى أم عثمان، فلذلك قال: صهره.
وفى رواية الطبري ان عبد الرحمن دعا عليا عليه السلام، فقال: عليك عهد الله

(1) الشافي 259
263

وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله، وسيرة الخليفتين؟ فقال: أرجو ان افعل
واعمل بمبلغ علمي وطاقتي (1).
وفى خبر آخر عن أبي الطفيل، ان عبد الرحمن قال لعلي عليه السلام: هلم يدك خذها
بما فيها، على أن تسير فينا بسيرة أبى بكر وعمر، فقال: آخذها بما فيها، على أن أسير فيكم
بكتاب الله وسنة نبيه جهدي، فترك يده، وقال: هلم يدك يا عثمان، أتأخذها بما فيها على أن
تسير فينا بسيرة أبى بكر وعمر؟ قال: نعم، قال: هي لك يا عثمان.
وفى رواية الطبري أنه قال لعثمان مثل قوله لعلى، فقال: نعم، فبايعه، فقال علي عليه
السلام: ختونة حنت دهرا (2).
وفى خبر آخر: نفعت الختونة يا بن عوف! ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا!
(فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون)، والله ما وليت عثمان الا ليرد الامر
إليك، والله كل يوم هو في شأن
وفى غير رواية الطبري ان عبد الرحمن قال له: لقد قلت ذلك لعمر، فقال عليه
السلام: أو لم يكن ذلك كما قلت!
وروى الطبري ان عبد الرحمن قال: لا تجعلن يا علي على نفسك سبيلا، فإني نظرت
وشاورت الناس، فإذا هم لا يعدلون بعثمان، فقام علي عليه السلام، وهو يقول: سيبلغ
الكتاب اجله (3).
وفى رواية الطبري ان الناس لما بايعوا عثمان تلكأ علي عليه السلام، فقال عثمان:
(فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا

(1) تاريخ الطبري 5: 36 (الحسينية).
(2) الطبري: (حبوته حبوة دهر)، والختونة المصاهرة.
(3) تاريخ الطبري 5: 37 (الحسنية).
264

عظيما) (1) فرجع علي عليه السلام حتى بايعه، وهو يقو: خدعة وأي (2)
خدعه!
وروى البلاذري في كتابه، عن ابن الكلبي عن أبيه عن أبي مخنف، في اسناد له
ان عليا عليه السلام لما بايع عبد الرحمن عثمان كان قائما، فقال له عبد الرحمن: بايع
والا ضربت عنقك ولم يكن يومئذ مع أحد سيف غيره، فخرج على مغضبا، فلحقه
أصحاب الشورى، فقالوا له: بايع والا جاهدناك. فاقبل معهم يمشى حتى بايع عثمان.
قال المرتضى: فأي رضا هاهنا، وأي اجماع! وكيف يكون مختارا من تهدد بالقتل
وبالجهاد! وهذا المعنى وهو حديث ضرب العنق لو روته الشيعة لتضاحك المخالفون منه
وتغامزوا، وقالوا: هذا من جملة ما تدعونه من المحال، وتروونه من الأحاديث، وقد أنطق
الله به رواتهم، وأجراه على أفواه ثقاتهم، ولقد تكلم المقداد في ذلك اليوم بكلام طويل
يفند فيه ما فعلوه من بيعة عثمان، وعدولهم بالامر عن أمير المؤمنين إلى أن قال له عبد الرحمن:
يا مقداد، اتق الله، فإني خائف عليك الفتنة. ثم إن المقداد قام فأتى عليا، فقال: أتقاتل
فنقاتل معك؟ فقال على: فبمن أقاتل! وتكلم أيضا عمار - فيما رواه أبو مخنف - فقال:
يا معشر قريش، أين تصرفون هذا الامر عن بيت نبيكم؟ تحولونه
هاهنا مرة وهاهنا
مرة! اما والله ما انا بآمن ان ينزعه الله منكم فيضعه في غيركم كما انتزعتموه من أهله،
ووضعتموه في غير أهله. فقال له هشام بن الوليد: يا بن سمية، لقد عدوت طورك، وما
عرفت قدرك، وما أنت وما رأته قريش لأنفسها انك لست في شئ من أمرها وإمارتها
فتنح عنها وتكلمت قريش بأجمعها، وصاحت بعمار وانتهرته، فقال: الحمد لله ما زال
أعوان الحق قليلا.
روى أبو مخنف أيضا ان عمارا قال هذا البيت ذلك اليوم:

(1) سورة الفتح 10
(2) الطبري: (أيما).
(3) تاريخ الطبري 5: 41.
265

يا ناعي الاسلام قم فانعه * قد مات عرف وأتى منكر!
اما والله لو أن لي أعوانا لقاتلتهم، وقال أمير المؤمنين عليه السلام: لئن قاتلتهم
بواحد لأكونن ثانيا، فقال: والله ما أجد عليهم أعوانا، ولا أحب ان أعرضكم
لما لا تطيقون.
وروى أبو مخنف، عن عبد الرحمن بن جندب، عن أبيه قال: دخلت على علي عليه
السلام وكنت حاضرا بالمدينة يوم بويع عثمان، فإذا هو واجم كئيب، فقلت:
ما أصاب قوم صرفوا هذا الامر عنكم! فقال صبر جميل! فقلت: سبحان الله انك
لصبور قال:
فاصنع ماذا؟ قلت: تقوم في الناس خطيبا فتدعو هم إلى نفسك، وتخبرهم
انك أولى بالنبي صلى الله عليه وآله بالعمل والسابقة، وتسألهم النصر على هؤلاء المتظاهرين
عليك، فان أجابك عشرة من مائه شددت بالعشرة على المائة، فان دانوا لك كان
ما أحببت وان أبوا قاتلتهم، فان ظهرت عليهم فهو سلطان الله آتاه نبيه صلى الله عليه
وآله وكنت أولى به منهم إذ ذهبوا بذلك، فرده الله إليك وان قتلت في طلبه
فقتلت شهيدا، وكنت أولى بالعذر عند الله تعالى في الدنيا والآخرة. فقال عليه السلام:
أو تراه كان تابعي من كل مائه عشرة! قلت: لأرجو ذلك، قال: لكني لا أرجو
ولا والله من المائة اثنين وسأخبرك من أين ذلك! ان الناس إنما ينظرون إلى قريش،
فيقولون: هم قوم محمد صلى الله عليه وآله وقبيلته، وان قريشا تنظر إلينا فتقول:
ان لهم بالنبوة فضلا على سائر قريش، وانهم أولياء هذا الامر دون قريش
والناس، وانهم ان ولوه لم يخرج هذا السلطان منهم إلى أحد ابدا، ومتى كان
في غيرهم تداولتموه بينكم، فلا والله لا تدفع قريش إلينا هذا السلطان طائعة ابدا. قلت:
أفلا ارجع إلى المصر فأخبر الناس بمقالتك هذه وأدعو الناس إليك فقال يا جندب
ليس هذا زمان ذلك فرجعت فكلما ذكرت للناس شيئا من فضل على زبروني
266

ونهروني حتى رفع ذلك من أمري للوليد بن عقبة فبعث إلى فحبسني.
قال وهذه الجملة التي أوردناها قليل من كثير، في أن الخلاف كان واقما، والرضا كان
مرتفعا والامر إنما تم بالحيلة والمكر والخداع وأول شئ مكر به عبد الرحمن أنه
ابتدأ فأخرج نفسه من الامر ليتمكن من صرفه إلى من يريد وليقال: إنه لولا إيثاره
الحق وزهده في الولاية لما أخرج نفسه منها، ثم عرض على أمير المؤمنين عليه السلام
ما يعلم أنه لا يجيب إليه ولا تلزمه الإجابة إليه، من السير فيهم بسيرة الرجلين وعلم أنه
عليه السلام لا يتمكن من أن يقول: إن سيرتهما لا تلزمني لئلا ينسب إلى الطعن عليهما
وكيف يلزم سيرتهما، وكل واحد منهما لم يسر بسيرة الاخر! بل اختلفا وتباينا في كثير
من الاحكام، هذا بعد أن قال لأهل الشورى: وثقوا إلى من أنفسكم بأنكم ترضون
باختياري إذا أخرجت نفسي، فأجابوه - على ما رواه أبو مخنف بإسناده - إلى ما عرض عليهم
إلا أمير المؤمنين عليه السلام، فإنه قال: أنظر لعلمه بما يجر هذا المكر حتى أتاهم
أبو طلحة، فأخبره عبد الرحمن بما عرض وما جاء به القوم إياه إلا عليا فأقبل أبو طلحة
على علي عليه السلام، فقال: يا أبا الحسن، إن أبا محمد ثقة لك وللمسلمين، فما بالك
تخافه وقد عدل بالامر عن نفسه، فلن يتحمل المأثم لغيره! فأحلف علي عليه السلام
عبد الرحمن بما عرض ألا يميل إلى الهوى وأن يؤثر الحق ويجتهد للأمد ولا يحابى
ذا قرابة، فحلف له، وهذا غاية ما يتمكن (1) منه أمير المؤمنين عليه السلام في الحال، لان
عبد الرحمن لما أخرج نفسه من الامر، وظنت به الجماعة الخير، وفوضت (2) إليه الاختيار
لم يقدر أمير المؤمنين عليه السلام على أن يخالفهم وينقض ما اجتمعوا عليه، فكان
أكثر ما تمكن منه أن أحلفه، وصرح بما يخافه من جهته، من الميل إلى الهوى، وإيثار
القرابة، غير أن ذلك كله لم يغن شيئا!.

(1) الشافي: (تمكن).
(2) الشافي: (وفوضوا).
267

قال: وأما قول صاحب الكتاب: إن دخوله في الشورى دلالة على أنه لا نص عليه
بالإمامة، ولو كان عليه نص لصرح به في تلك الحال، وكان ذكره أولى من ذكر
الفضائل، والمناقب، فإن المانع من ذكر النص كونه يقتضى تضليل من تقدم عليه
وتفسيقهم، وليس كذلك تعديد المناقب والفضائل.
وأما دخوله عليه السلام في الشورى، فلو لم يدخل فيها إلا ليحتج بما احتج به من
مقاماته وفضائله ودرايته (1) ووسائله إلى الإمامة وبالأخبار الدالة عندنا عليها على النص
والإشارة بالإمامة إليه، لكان غرضا صحيحا، وداعيا قويا وكيف لا يدخل في
الشورى وعندهم أن واضعها قد أحسن النظر للمسلمين، وفعل ما لم يسبق إليه من
التحرز للدين!.
فأول ما كان يقال له لو امتنع منها: إنك مصرح بالطعن على واضعها وعلى جماعة
المسلمين بالرضا بها وليس طعنك إلا لأنك ترى أن الامر لك، وأنك أحق به!
فيعود الامر إلى ما كان عليه السلام يخافه، من تفرق الكلمة (2) ووقوع الفتنة (3).
قال: وفى أصحابنا القائلين بالنص من يقول: إنه عليه السلام إنما دخل في الشورى
لتجويزه أن ينال الامر منها، وعليه أن يتوصل إلى ما يلزمه القيام به من كل وجه
يظن أن يوصله إليه.
قال: وقول صاحب الكتاب إن التقية لا يمكن أن يتعلق بها، لان الامر لم يكن
استقر لواحد طريف، لان الامر وإن لم يكن في تلك الحال مستقرا لأحد، فمعلوم أن
الاظهار بما يطعن في المتقدمين من ولاة الامر لا يمكن منه، ولا يرضى به وكذلك

(1) الشافي: (وذرائعه).
(2) الشافي: (الأمة)
(3) بعدها في الشافي: (وتشتت الكلمة).
268

الخروج مما يتفق أكثرهم عليه، ويرضى جمهورهم به، ولا يقرون أحدا عليه، بل يعدونه
شذوذا عن الجماعة، وخلافا على الأمة.
فأما قوله: إن الافعال لا يقدح فيها بالظنون، بل يجب أن تحمل على ظاهر الصحة،
وإن الفاعل إذا تقدمت له حالة تقتضي حسن الظن به، يجب أن تحمل أفعاله على ما يطابقها،
فإنا متى سلمنا له بهذه المقدمة لم يتم قصده فيها، لان الفعل إذا كان له ظاهر وجب أن
يحمل على ظاهره إلا بدليل يعدل بنا عن ظاهره، كما يجب مثله في الألفاظ وقد بينا أن
ظاهر الشورى وما جرى فيها: يقتضى ما ذكرناه للأمارات اللائحة، والوجوه الظاهرة،
فما عدلنا عن ظاهر إلى محتمل بل المخالف هو الذي يسومنا أن نعدل عن الظاهر، فأما
الفاعل وما تقدم له من الأحوال، فمتى تقدم للفاعل حالة تقتضي أن يظن به الخير من غير
علم ولا يقين، فلا بد أن يؤثر فيها، ويقدح أن يرى له حالة أخرى تقتضي ظن القبيح
به، لدلالة ظاهرها على ذلك. وليس لنا أن نقضي بالأولى على الثانية، وهما جميعا مظنونتان
لان ذلك بمنزلة أن يقول قائل: اقضوا بالثانية على الأولى، وليس كذلك إذا تقدمت
للفاعل حالة تقتضي بالخير منه، ثم تليها حالة تقتضي ظن القبيح به، لأنا حينئذ نقتضي
بالعلم على الظن، ونبطل حكمة لمكان العلم، وإذا صحت هذه الجملة فما تقدمت لمن ذكر
حالة تقتضي العلم بالخير، وإنما تقدم ما يقتضى حسن الظن، فليس لنا ألا نسئ الظن به
عند ظهور أمارات سوء الظن، لان كل ذلك مظنون غير معلوم.
وقوله: لو أراد ذلك ما منعه من أن ينص على عثمان مانع، كما لم يمنع ذلك أبا بكر
من النص عليه، فليس بشئ، لأنه قد فعل ما يقوم مقام النص على من أراد إيصاله إليه،
وصرفه عمن أراد أن يصرفه عنه، من غير شناعة التصريح، وحتى لا يقال فيه ما قيل في أبى
بكر، ويراجع في قصته كما روجع أبو بكر، ولم يتعسف أبعد الطريقين وغرضه يتم
من أقربهما!.
269

قال: فأما بيان صاحب الكتاب أن الانتقال من الستة إلى الأربعة في الشورى
ومن الأربعة إلى الثلاثة لا يكون تناقضا فهو رد على من زعم أن ذلك تناقض وليس
من هذا الوجه طعنا، بل قد بينا وجوه المطاعن وفصلناها.
وأما قوله: إن الأمور المستقبلة لا تعلم، وإنما يحصل فيها أمارة ردا على من قال:
إن عمر كان يعلم أن عليا عليه السلام وعثمان لا يجتمعان وأن عبد الرحمن يميل إلى عثمان
فكلام في غير موضعه، لان المراد بذلك الظن لا العلم، وإن عبر عن الظن بالعلم على
طريقة في الاستعمال معروفة لا يتناكرها المتكلمون. ولعل صاحب الكتاب قد استعمل
العلم في موضع الظن فيما لا يحصى كثرة من كتابه هذا وغيره، وقد بينا فيما ذكرناه من
رواية الكلبي عن أبي مخنف أن أمير المؤمنين عليه السلام أول من سبق إلى هذا المعنى
في قوله للعباس شاكيا إليه: ذهب والله الامر منا، لان سعدا لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن
وعبد الرحمن صهر عثمان فأحدهما مختار لصاحبه لا محالة وإن كان الزبير وطلحة معي
فلن أنتفع بذلك إذا كان ابن عوف في الثلاثة الآخرين.
فأما قوله: إن عبد الرحمن كان زاهدا في الامر والزاهد أقرب إلى التثبت، فقد
بينا وجه إظهاره الزهد فيه، وإنه جعله الذريعة إلى مراده.
فأما قول صاحب الكتاب: إن الضعف الذي وصفه به إنما أراد به الضعف عن
القيام بالإمامة لا ضعف الرأي فهب أن الامر كذلك، أليس قد جعله أحد من يجوز
أن يختار للإمامة ويفوض إليه مع ضعفه عنها! وهذا بمنزلة أن يصفه بالفسق ثم يدخله
في جملة القوم لان الضعف عن الإمامة مانع منها، كما أن الفسق كذلك.
270

قلت: الكلام في الشورى والمطاعن فيها طويل جدا وقد ذكرت من ذلك في
كتبي الكلامية وتعليقاتي ما قاله الناس وما لم أسبق إليه ولا يحتمل هذا الكتاب
الإطالة باستقصاء ذلك، لأنه ليس بكتاب حجاج ونظر ولكني أذكر منه نكتا
يسيرة، فأقول:
إن كانت أفعال عمر وأقواله قد تناقضت في واقعة الشورى - كما زعم المرتضى رحمه
الله - فكذلك أفعال أمير المؤمنين - إن كان منصوصا عليه كما تقوله الامامية - قد تناقضت
أيضا أما أولا فإن كان منصوصا عليه فكيف أدخل نفسه في الشورى المبنية على صحة
الاختيار وعدم النص! أليس هذا إيهاما ظاهرا لأكثر المسلمين، خصوصا الضعفة منهم
ومن لا نظر له في دقائق الأمور عنده أنه غير منصوص عليه! فكيف يجوز له إضلال المكلفين
وأن يوقع في نفوسهم عدم النص مع كون النص كان حاصلا!.
وأما عذر المرتضى عن هذا، بأنه دخل في الشورى ليتمكن من الاحتجاج على
أهل الشورى بمقاماته وفضائله، فيقال له: قد كان الدهر الأطول مخالطا لأهل الشورى
وغيرهم مجتمعا معهم في المسجد وغيره من مواطن كل يوم بل كل ساعة فلا يجوز أن
يقال: دخل ليضمه وإياهم أو يظلهم سقف، فيتمكن بذلك من ذكر مقاماته وفضائله
بينهم، لان العاقل لا يجوز أن يرتكب أمرا يوهم القبيح ليفعل فعلا قد كان من قبله
بثلاث عشرة سنة متمكنا من أن يفعله من غير أن يرتكب ذلك الامر الموهم للقبيح،
وليت شعري من الذي كان يمنعه أيام أبى بكر وعمر من أن يذكر مقاماته وفضائله
ويفتخر بها! ولم انفك عليه السلام من ذكر فضائله والفخر بمناقبه في تلك المدة الطويلة
وقد كان عمر وهو المعروف المشهور بالغلظة والفظاظة يذكر فضائله ويعترف بها فلست أرى
لعذر المرتضى أصلا بهذا الوجه أو معنى!.
271

فأما عذره الثاني عن دخوله في الشورى بقوله: لو لم يدخل فيها لقيل له: إنك قد
طعنت على واضع الشورى وليس ذلك إلا لأنك ترى الامر لك فليس بعذر جيد
لأنه لو امتنع من الدخول فيها على وجه الزهد وقلد الالتفات إلى الولاية والاعراض عن
السلطان والإمرة لما نسبه أحد إلى ما ذكره المرتضى أصلا ولقال الناس رجل زاهد
لا يريد الدنيا ولا يرغب في الرياسة ثم ما المانع من أن يقول لعمر وهو حي نشدتك
الله لا تدخلني فيها فإني لا أريدها ولا أوثرها! أتراه كان في جواب هذا الكلام
يأمر بقتله، ويقول له: إنما امتناعك لأنك تدعى أن رسول الله صلى الله عليه وآله نص
عليك، فلا ترى أخذ الامر من جهتي وتوليه من طريقي وإنما تريده بمحض النص
الأول لا غير! ما أظن أن عاقلا يخطر له أن ذلك كان يكون فهذا العذر بارد لا معنى له
كالعذر الأول.
فأما عذره الثالث، وهو قوله: إنه كان يجب عليه أن يتوصل إلى القيام بالامر
بكل طريق لأنه يلزمه القيام به فعذر جيد لا بأس به.
وأما ثانيا فيقال للمرتضى: هب أنا نزلنا عن الدخول في الشورى هلا عرض
للجماعة وهم مجتمعون، وهو يعد لهم مناقبه وفضائله بذكر النص وذلك بأن يكنى عنه
كناية لطيفة فيقول لهم: قد كان من رسول الله صلى الله عليه وآله بالأمس في حقي ما تعلمون!
أتراهم كانوا في جواب هذه الكلمة يقتلونه! ما أظن أنهم كانوا يجتمعون على ذلك
ولا بد لو عرض بشئ من ذلك كان من كلام يدور بينهم في المعنى نحو أن يقولوا:
إن ذلك النص رجع عنه رسول الله صلى الله عليه وآله أو يقولوا: رأى المسلمون تركه
للمصلحة، أو يجرى بينه وبينهم جدال ونزاع ولم يكن هناك خليفة يخاف جانبه وإنما كان
مجلس مناظرة وبحث ولم يستقر الامر لأحد.
وقول المرتضى: إنه وإن كان كذلك، إلا انهم كانوا لا يرضون أن يطعن في المتقدمين
272

منهم، ويكرهون منه ذلك ولا يقرونه عليه ويعدونه شذوذا له عن الجماعة وخلافا للأمة
قول صحيح إذا كان القائل يقوله على وجه شق العصا والمنابذة وكشف القناع وإذا قاله
على وجه الاستعطاف لهم والإذكار بما عساهم نسوة وحسن التلطف والرفق بهم
والاستمالة لهم وتذكيرهم حقوق رسول الله صلى الله عليه وآله وميثاقه الذي واثقهم به
فإنه لا يقع منهم في مقابلة ذلك قتله ولا قطع عضو من أعضائه ولا إقامة الحد عليه
وأقصى ما في الباب أنهم كانوا يردون ذلك عليه بكلام مثل كلامه ويجيبونه بجواب
يناسب جوابه ويدفعونه عما يرومه بوجه من وجوه الدفع ان كانوا مقيمين على الاصرار
على غصب الحق منه.
وأما ثالثا، فإن كان عليه السلام - كما تقوله الامامية - منصوصا عليه فما الذي منعه لما
قال له عبد الرحمن: أبايعك على أن تسير فينا بسيرة الشيخين أن يقول نعم! فإنه لو قال: نعم لبايعه عبد الرحمن، ووصل إلى الامر الذي يلزمه القيام به، وإلى الحال التي كان
يتوصل بكل طريق إلى الوصول إليها.
وقول المرتضى: إن سيرتهما كانت مختلفه لان أحدهما حكم بكثير مما حكم الاخر بضده
ليس بجيد لان السيرة التي كان عبد الرحمن يطلبها ذلك اليوم هو الامر الكلى في إيالة
الرعية وسياستهم وجباية الفئ وظلف الوالي نفسه وأهله عنه وصرفه إلى المسلمين ورم
الأمور وجمع العمال، وقهر الظلمة وإنصاف المظلومين وحماية البيضة وتسريب الجيوش إلى
بلاد الشرك هذه هي السيرة التي كان عبد الرحمن يشترطها وهي التي طلبها الناس بعد
ذلك فقالوا لمعاوية في آخر أيامه ولعبد الملك ولغيرهما وصاحوا بهم تحت المنابر نطلب
سيرة العمرين، ولم يريدوا في الاحكام والفتاوى الشرعية نحو القول في الجد مع الاخوة
273

والقول في الكلالة والقول في أمهات الأولاد، فما أعلم الذي منع أمير المؤمنين عليه
السلام من أن يقول لعبد الرحمن: نعم، فيأخذها! ثم كان إذا أخذها أقدر الناس على
هذه السيرة، وأقواهم عليها فواعجبا! بينا هو يطلب الخلافة أشد الطلب، فإذا هو ناكص
عنها وقد عرضت عليه على أمر هو قيم به! ولهذا كان الرأي عندي أن يدخل فيها
حينئذ ومن الذي كان يناظره بعد ذلك ويجادله، فيقول: قد أخللت بشئ من سيرة أبى
بكر وعمر! كلا إن السيف لضاربه، والامر لمالكه، والرعية أتباع، والحكم لصاحب
السلطان منهم!.
ومن العجب أن يقول المرتضى: إنه لأجل التقية وافق على الرضا بالشورى! فهلا
اتقى القوم، وقد ذكروا له سيرة الشيخين فأباها وكرهها! ومن كان يخاف على نفسه أن
لو أظهر الزهد في الخلافة والرغبة عن الدخول في أمر الشورى! كيف لم يخف على نفسه
وقد ذكرت له سيرة الشيخين فتركها، ولم يوافق عليها، وقال لا بل على أن
أجتهد رأيي!.
وأما قول المرتضى: إنه وصف القوم بصفات تمنع من الإمامة ثم عينهم للإمامة
فنقول في جوابه: إن تلك الصفات لا تمنع من الإمامة بالكلية بل هي صفات تنقص في
الجملة أي لو لم تكن هذه الصفات فيهم، لكانوا أكمل ألا ترى أنه قال في
عبد الرحمن: رجل صالح على ضعف فيه! فذكر أن فيه ضعفا يسيرا لأنه لو كان يرى
ضعفه مانعا من الإمامة لقال: ضعيف عنها جدا أو لا يصلح لها لضعفه وكذلك قوله
في أمير المؤمنين: فيه فكاهة، لان ذلك لا يمنع من الإمامة ولا زهو طلحة ونخوته
ولا ما وصف به الزبير من أنه شديد السخط وقت غضبه وأنه بخيل ولا توليه الأقارب
على رقاب الناس إذا لم يكونوا فساقا وأقوى عيب ذكره ما عاب به سعدا في قوله: صاحب
274

مقنب وقتال، لا يقوم بقرية لو حمل أمرها. ويجوز أن يكون قال: ذلك على سبيل
المبالغة في استصلاحه لان يكون صاحب جيش يقاتل به بين يدي الامام وأنه ليس
له دربة ونظر في تدبير البلاد والأطراف وجباية أموالها ألا تراه كيف قال: لا يقوم
بقرية! ويجوز أن يلي الخلافة من هذه حالة ويستعين في أمر العباد والبلاد وجباية
الأموال بالكفاة الامناء
فأما الرواية الأخرى التي قال فيها لعثمان: لروثة خير منك! فهي من روايات
الشيعة ولسنا نعرفها من كتب غيرهم.
فأما قوله كيف قال: لا أتحملها حيا وميتا فحصر الخلافة في العدد المخصوص
ثم رتبها ذلك الترتيب، إلى أن آلت إلى [اختيار] عبد الرحمن وحده! فنقول في
جوابه: إنه كان يحب إلا يستقل وحده بأمر الخلافة، وأن يشاركه في ذلك غيره من
صلحاء المهاجرين ليكون أعذر عند الله تعالى وعند الناس وإذا كان قد وضع الشورى
على ذلك الوضع المخصوص فلم يتحملها استقلالا، بل شركه فيها غيره، فهو أقل
لتحمله أمرها لو كان عين على واحد بعينه.
وأما حديث القتل فليس مراده إلا شق العصا ومخالفة الجماعة والتوثب على
الامر مغالبة.
وقول المرتضى: لو كان ذلك من أول يوم لوجب أن يمنع فاعله ويقاتل، فأي
معنى لضرب الأيام الثلاثة آجلا! فإنه يقال له: إن الاجل المذكور لم يضرب لقتل
من يشق العصا وإنما ضرب لإبرامهم الامر وفصله قبل أن تتطاول الأيام بهم،
ويتسامع من بعد عن دار الهجرة أن الخليفة قد قتل، وأنهم مضطربون إلى الان، لم
يقيموا لأنفسهم خليفة بعده فيطمع أهل الفساد والدعارة (1) ولا يؤمن وقوع الفتن

(1) الدعارة (بالفتح والكسر): الخبث والشر.
275

ولا يؤمن أيضا أن يسترد الروم وفارس بلادا قد كان الاسلام استولى عليها لأن عدم
الرئيس مطمع للعدو في ملكه ورعيته.
فاما الاخبار والآثار التي ذكرها المرتضى في مبايعة علي عليه السلام لعثمان وانه
كان مكرها عليها أو كالمكره وإن الرضا كان مرتفعا والخلاف كان واقعا فكلام
في غير موضعه لان قاضى القضاة لم ينح بكلامه هذا النحو ولا قصد هذا القصد
ليناقضه بما رواة وأسنده من الاخبار والآثار ولا هذا الموضع من كتاب المغني
موضع الكلام في بيعه عثمان وصحتها ووقوع الرضا بها فيطعن المرتضى في ذلك بما
رواة من الاخبار والآثار الدالة على تهضم القوم لأمير المؤمنين عليه السلام وأصحابه
وشيعته وتهددهم وإنما الرضا الذي أشار إليه قاضى القضاة فهو رضا أمير المؤمنين
عليه السلام بان يكون في جمله أهل الشورى لان هذا الباب من كتاب المغني
هو باب نفى المطاعن عن عمر وقد تقدم ذكر كثير منها.
ثم انتهى إلى هذا الطعن وهو حديث الشورى فذكر قاضى القضاة ان الشورى
مما طعن بها عليه وادعى انها كانت خطا من أفعاله لأنها لا نص ولا اختيار إ لا
تراه كيف قال: في أول الطعن فخرج بها عن النص والاختيار فنقول في الجواب
لو كانت خطا لما دخل علي عليه السلام فيها ولا رضى بها فدخوله فيها ورضاه
بها دليل على أنها لم تكن خطا وأين هذا من بيعه عثمان حتى يخلط
أحد البابين بالآخر.
فاما دعواه ان عمر عمل هذا الفعل حيله ليصرف الامر عن علي عليه السلام من
حيث علم أن عبد الرحمن صهر عثمان وان سعدا ابن عم عبد الرحمن فلا يخالفه فجعل
276

الصواب في الثلاثة الذين يكون فيهم عبد الرحمن فنقول في جوابه
ان عمر لو فعل ذلك وقصده لكان أحمق الناس وأجهلهم لأنه من الجائز
الا يوافق سعد ابن عمه لعداوة تكون بينهما خصوصا من بنى العم ويمكن ان
يستميل علي عليه السلام سعدا إلى نفسه بطريق آمنه بنت وهب وبطريق حمزة بن
عبد المطلب وبطريق الدين والاسلام وعهد الرسول صلى الله عليه وآله ومن الجائز
ان يعطف عبد الرحمن على علي عليه السلام لوجه من الوجوه ويعرض عن عثمان
أو يبدو من عثمان في الأيام الثلاثة أمر يكرهه عبد الرحمن فيتركه ويميل إلى علي عليه
السلام ومن الجائز ان يموت عبد الرحمن في تلك الأيام أو يموت سعد أو
يموت عثمان أو يقتل واحد منهم فيخلص الامر لعلى عليه السلام ومن الجائز ان
يخالف أبو طلحة أمره له ان يعتمد على الفرقة التي فيها عبد الرحمن ولا يعمل بقوله
ويميل إلى جهة علي عليه السلام فتبطل حيلته وتدبيره.
ثم هب ان هذا كله قد أسقطناه من الذي أجبر عمر وأكرهه وقسره على ادخال
علي عليه السلام في أهل الشورى وإن كان مراده كما زعم المرتضى صرف الامر
بالحيلة فقد كان يمكنه ان يجعل الشورى في خمسه ولا يذكر عليا عليه السلام فيهم
أتراه كان يخاف أحدا لو فعل ذلك ومن الذي كان يجسر ان يراجعه في هذا أو غيره
وحيث أدخله من الذي أجبره على أن يقول إن وليها ذلك لحملهم على المحجة البيضاء
وحملهم على الصراط المستقيم ونحو ذلك من المدح قد كان قادرا الا يقول ذلك
والكلام الغث البارد لا أحبه.
فاما قوله ان عبد الرحمن فعل ما فعل من اخراج نفسه من الإمامة حيله ليسلم الامر إلى
عثمان ويصرفه عن علي عليه السلام فكلام بعضه صحيح وبعضه غير صحيح
اما الصحيح منه فميل عبد الرحمن إلى جهة عثمان وانحرافه عن علي عليه السلام قليلا
277

وليس هذا بمخصوص بعبد الرحمن بل قريش قاطبة كانت منحرفة عنه.
واما الذي هو غير صحيح فقوله انه اخرج نفسه منها لذلك فان هذا عندي غير
صحيح لأنه قد كان يمكنه الا يخرج نفسه منها ويبلغ غرضه بان يتجاوز هو وابن عمه
إلى عثمان ويدع عليا وطلحة والزبير طائفة أخرى فيولي المسلمون الامر الطائفة التي
فيها عبد الرحمن بمقتضى نص عمر على ذلك ثم يعتمد عبد الرحمن بعد ذلك ما يشاء
ان شاء وليها هو أو أحد الرجلين فأي حاجه كانت به إلى أن يخرج نفسه منها ليبلغ
غرضا قد كان يمكنه الوصول إليه بدون ذلك.
وأيضا فإن كان غرضه ذلك فإنه من رجال الدنيا قد كان لا محاله ولم يكن من
رجال الآخرة ومن هو من رجال الدنيا ومحبيها كيف تسمح نفسه بترك الخلافة ليعطيها
غيره وهلا واطأ سعدا ابن عمه وطلحة صديقه على أن يولياه الخلافة وقد قال عمر:
كونوا مع الثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن لا سيما وطلحة منحرف عن علي عليه السلام
وعثمان لأنهما ابنا عبد مناف وكذلك سعد وعبد الرحمن منحرفان عنهما لذلك أيضا
ولما اختصا به من صهر رسول الله صلى الله عليه وآله والصحيح ان عبد الرحمن اخرج
نفسه منها لأنه استضعف نفسه عن تحمل أثقالها وكلفها وكره ان يدخل فيها فيقصر
عن عمر ويراه الناس بعين النقص ولا يستطيع ان يقوم بما كان عمر يقوم به وكان
عبد الرحمن غنيا موسرا كثير المال وشيخا قد ذهب عنه ترف الشباب فنفض عنها
يده استغناء عنها وكراهية لخلل يدخل عليه ان وليها.
واما ميله عن علي عليه السلام فقد كان منه بعض ذلك والطباع لا تملك
والحسد مستقر في نفوس البشر لا سيما إذا انضاف إليه ما يقتضى الازدياد في الأمور.
فاما تنزيه المرتضى لعلى عليه السلام عن الفكاهة والدعابة فحق ولقد كان عليه
278

السلام على قدم عظيمه من الوقار والجد والسمت العظيم والهدى الرصين ولكنه
كان طلق الوجه سمح الأخلاق وعمر كان يريد مثله من ذوي الفظاظة والخشونة لان
كل واحد يستحسن طبع نفسه ولا يستحسن طبع من يباينه في الخلق والطبع وانا
أعجب من لفظه عمر أن كان قالها أن فيه بطالة وحاش لله أن يوصف علي عليه
السلام! بذلك وإنما يوصف به أهل الدعابة واللهو، وما أظن عمر - إن شاء الله -
قالها وأظنها زيدت في كلامه، وإن الكلمة هاهنا لدالة على انحراف شديد.
فأما قول أمير المؤمنين عليه السلام للعباس ولغيره: ذهب الامر منا، أن
عبد الرحمن لا يخالف ابن عمه، فليس معناه أن عمر قصد ذلك وإنما معناه أن
من سوء الاتفاق أن وقع الامر هكذا ويوشك ألا يصل إلينا حيث قد اتفق فيه هذه
النكتة.
فأما قول قاضى القضاة: إذا تقدمت للفاعل حالة تقتضي حسن الظن وجب أن يحمل
فعله على ما يطابقها واعتراض المرتضى عليه بقوله: إن ذلك إنما يجب إذا كان الخير
معلوما منه فيما تقدم لا مظنونا ومتى كان مظنونا ثم وجدنا له فعلا يظن به القبيح لم يكن
لنا أن نقضي بالسابق على اللاحق فنقول في جوابه: إن الانسان إذا كان مشهورا بالصلاح
والخير وتكرر منه فعل ذلك مدة طويلة ثم رأيناه قد وقعت منه حركه تنافى ذلك
فيما بعد فإنه يجب علينا أن نحملها على ما يطابق أحواله الأولى ما وجدنا لها محملا لان أحواله
الأولى كثيرة وهذه حالة مفردة شاذة وإلحاق القليل بالكثير وحمله عليه أولى من نقض
الكثير بالقليل وقد كانت أحوال عمر مدة عشرين سنة منتظمة في إصلاح الرعية ومناصحة
الدين وهذا معلوم منه ضرورة - أعني ظاهر أحواله - فإذا وقعت عنه حالة واحدة وهي

(1) البطالة (بفتح الباء): التعطل والتفرغ من العمل.
279

قصة الشورى فيها شبهة ما، وجب أن نتأولها ما وجدنا لها في الخير محملا، ونلحقها بتلك
الأحوال الكثيرة التي تكررت منه في الأزمان الطويلة، ولا يجوز أن نضع اليد عليها
ونقول: هذه لا غيرها ونقبحها، ونهجنها، ونسد أبواب هذه التأويلات عنها، ثم نحمل
أفعاله الكثيرة المتقدمة كلها عليها في التقبيح والتهجين، فهذا خلاف الواجب فقد بان
صحة ما ذكره قاضى القضاة، لأنه لا حاجة بنا في القضاء بالسابق على اللاحق، إلا أن
يكون خيره معلوما وعلم علما يقينا فإن الظن الغالب كاف في هذا المقام على الوجه
الذي ذكرناه.
وأما قوله عن عمر: إنه بلغ ما في نفسه من ايصال الامر إلى من أراد، وصرفه عمن
أراد، من غير شناعة بالتصريح، وحتى لا يقال فيه ما قيل في أبى بكر أو يراجع في نصه
كما روجع أبو بكر، ولأي حال يتعسف أبعد الطريقين، وغرضه يتم من أقربهما، فقد قلنا
في جوابه ما كفى، وبينا أن عمر لو أراد ما ذكر لصرف الامر عمن يريد صرفه عنه
ونص على من يريد إيصال الامر إليه، ولم يبال بأحد فقد عرف الناس كلهم كيف
كانت هيبته وسطوته وطاعة الرعية له، حتى إن المسلمين أطاعوه أعظم من طاعتهم
رسول الله صلى الله عليه وآله في حياته ونفوذ أمره فيهم أعظم من نفوذ أمره عليه السلام،
فمن الذي كان يجسر أو يقدر أن يراجعه في نصه، أو يراده، أو يلفظ عنده أو غائبا
عنه بكلمة تنافى مراده! وأي شئ ضر أبا بكر من مراجعة طلحة له حيث نص، ليقول
المرتضى: خاف عمر من أن يراجع كما روجع أبو بكر، وقد سمع الناس ما قال أبو بكر
لطلحة لما راجعه، فإنه أخزاه وجبهه، حتى دخل في الأرض، وقام من عنده وهو
لا يهتدى إلى الطريق! وأين كانت هيبة الناس لأبي بكر من هيبتهم لعمر! فلقد كان
أبو بكر وهو خليفة يهابه وهو رعية وسوقة بين يديه، وكل أفاضل الصحابة كان يهابه،
وهو بعد لم يل الخلافة، حتى إن الشيعة تقول: إن النبي صلى الله عليه وآله يهابه، فمن
280

كانت هذه حاله وهو رعية وسوقة، فكيف يكون وهو خليفة، قد ملك مشارق
الأرض ومغاربها، وخطب له على مائه ألف منبر! ولو أراد عمر إن يخطب بالخلافة
لأبي هريرة لما خالفه أحد من الناس أبدا! فكيف يقول المرتضى: لماذا يتعسف عمر
أبعد الطريقين، وغرضه يتم من أقربهما!
والعجب منه كيف يقول: خاف شناعة التصريح فمن لم يخف عندهم شناعة المخالفة
لرسول الله صلى الله عليه وآله وهو يعلم أن المسلمين يعلمون أنه مخالف لله تعالى ولرسوله
قائم في مقام لم يجعله الله تعالى له، كيف يخاف شناعة التصريح باسم عثمان لو كان يريد
استخلافه! إن هذا لأعجب من العجب!
* * *
الطعن العاشر
قولهم: إنه أبدع في الدين ما لا يجوز كالتراويح، وما عمله في الخراج الذي وضعه
على السواد وفي ترتيب الجزية وكل ذلك مخالف للقرآن والسنة، لأنه تعالى جعل
الغنيمة للغانمين، والخمس منها لأهل الخمس، فخالف القرآن، وكذلك السنة تنطق في
الجزية أن على كل حالم دينارا، فخالف في ذلك السنة وأن الجماعة لا تكون إلا في
المكتوبات، فخالف السنة.
أجاب قاضى القضاة عن ذلك، بأن قيام شهر رمضان، قد روى عن النبي صلى الله
عليه وآله أنه عمله ثم تركه وإذا علم أن الترك ليس بنسخ صار سنة يجوز أن يعمل
بها وإذا كان ما لأجله تركه (1) من التنبيه بذلك على أنه ليس بفرض ومن تخفيف التعبد

(1) الشافي: (ترك).
281

ليس بقائم في فعل عمر لم يمتنع أن يدوم عليه وإذا كان فيه الدعاء إلى الصلاة و التشدد
في حفظ القرآن فما الذي يمنع أن يعمل به!
فأما أمر الخراج فأصله السنة، لان النبي صلى الله عليه وآله بين أن لمن يتولى
الامر ضربا من الاختيار في الغنيمة ولذلك فصل بين الرجال والأموال فجعل الاختيار
في الرجال إلى الامام في القتل والاسترقاق والمفاداة، وفصل بينه وبين المال وإن كان
الجميع غنيمة.
ثم ذكر أن الغنيمة لم تضف إلى الغانمين إضافة الملك وإنما المراد أن لهم في ذلك
من الاختصاص والحق ما ليس لغيرهم فإذا عرض ما يقتضى تقديم أمر آخر جاز للامام
أن يفعله ورأي عمر في أمر السواد الاحتياط للاسلام، بأن يقر في أيديهم على
الخراج الذي وضعه وإن كان في الناس من يقول: فعل ذلك برضا الغانمين
وبأن عوض. ويدل على صحة فعله إجماع الأمة ورضاهم به، ولما أفضى الامر إلى
أمير المؤمنين عليه السلام تركه على جملته ولم يغيره.
ثم ذكر في الجزية أن طريقها الاجتهاد، فان الخبر المروى في هذا الباب ليس
بمقطوع به ولا معناه معلوم.
اعترض المرتضى هذا الجواب فقال: أما التراويح فلا شبهة إنها بدعة وقد روى
عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (أيها الناس إن الصلاة بالليل في شهر رمضان من
النافلة جماعة بدعة وصلاة الضحى بدعة ألا فلا تجتمعوا ليلا في شهر رمضان في النافلة
ولا تصلوا صلاة الضحى فان قليلا في سنة خير من كثير في بدعة ألا وإن كل
بدعة ضلالة وكل ضلالة سبيلها في النار).
282

وقد روى: أن عمر خرج في شهر رمضان ليلا فرأى المصابيح في المسجد، فقال:
ما هذا؟ فقيل له: إن الناس قد اجتمعوا لصلاة التطوع، فقال: بدعة فنعمت
البدعة! فاعترف كما ترى بأنها بدعة، وقد شهد الرسول صلى الله عليه وآله أن
كل بدعة ضلالة.
وقد روى أن أمير المؤمنين عليه السلام لما اجتمعوا إليه بالكوفة فسألوه أن
ينصب لهم إماما يصلى بهم نافلة شهر رمضان، زجرهم وعرفهم أن ذلك خلاف السنة
فتركوه واجتمعوا لأنفسهم وقدموا بعضهم فبعث إليهم ابنه الحسن عليه السلام فدخل
عليهم المسجد ومعه الدرة فلما رأوه تبادروا الأبواب وصاحوا وا عمراه!
قال: فأما ادعاؤه أن قيام شهر رمضان كان في أيام الرسول صلى الله عليه وآله ثم
تركه فمغالطة منه لأنا لا ننكر قيام شهر رمضان بالنوافل على سبيل الانفراد وإنما أنكرنا
الاجتماع على ذلك، فان ادعى أن الرسول صلى الله عليه وآله صلاها جماعة في أيامه
فإنها مكابرة ما أقدم عليها أحد ولو كان كذلك ما قال عمر: إنها بدعة وإن أراد غير
ذلك فهو مما لا ينفعه لان الذي أنكرناه غيره.
قال: والذي ذكره من أن فيه التشدد في حفظ القرآن والمحافظة على الصلاة ليس
بشئ لان الله تعالى ورسوله بذلك أعلم ولو كان كما قاله لكانا يسنان هذه الصلاة
ويأمران بها وليس لنا أن نبدع في الدين بما نظن أن فيه مصلحة لأنه لا خلاف في
أن ذلك لا يسوغ ولا يحل.
وأما أمر الخراج فهو خلاف لنص القرآن لان الله تعالى جعل الغنيمة في وجوه
مخصوصة فمن خالفها فقد أبدع وليس للامام ولا لغيره أن يجتهد فيخالف النص فبطل
قوله: إنه رأى من الاحتياط للاسلام أن يقر في أيديهم على الخراج لان خلاف النص
283

لا يكون من الاحتياط ورسوله أعلم بالاحتياط منه ولو كان لرضا الغانمين عن ذلك
أو عوضهم منه على ما ادعاه صاحب الكتاب لوجب أن يظهر ذلك ويعلم وما عرفنا
في ذلك شيئا، ولا نقله الناقلون.
وأما ما ادعاه من الاجماع فمعوله فيه على ترك النكير وقد تقدم الكلام عليه
وتكرر وكذلك قد تقدم الكلام في وجه إقرار أمير المؤمنين عليه السلام ما أقره من
أحكام القوم وما ادعاه أن خبر الجزية غير معلوم ولا مقطوع به فهب أن ذلك
مسلم على ما فيه، أليس من مذهبه أن أخبار الآحاد في الشريعة يعمل بها وإن لم تكن
معلومة! فهلا عمل عمر بالخبر المروى في هذا الباب وعدل عن اجتهاده الذي أداه إلى
مخالفة الله تعالى (1)!
(2) أما كون صلاة التراويح بدعة وإطلاق عمر عليها هذا اللفظ، فان لفظ البدعة
يطلق على مفهومين:
أحدهما ما خولف به الكتاب والسنة، مثل صوم يوم النحر وأيام التشريق، فإنه
وإن كان صوما إلا أنه منهي عنه.
والثاني ما لم يرد فيه نص، بل سكت عنه ففعله المسلمون بعد وفاة رسول الله صلى
الله عليه وآله فان أريد بكون صلاة التراويح بدعة المفهوم الأول فلا نسلم أنها بدعة
بهذا التفسير، والخبر الذي رواه المرتضى غير معروف ولا يمكنه أن يسنده إلى كتاب من
كتب المحدثين ولو قدر على ذلك لأسنده ولعله من أخبار أصحابه من محدثي الامامية
والإخباريين منهم، والألفاظ التي في آخر الحديث وهي (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة

(1) الشافي 262.
(2) من هذا بدء رد المؤلف على قول المرتضى.
284

في النار) مروية مشهورة ولكن على تفسير البدعة بالمفهوم الأول وقول عمر:
((إنها لبدعة) خبر مروي مشهور ولكن أراد به البدعة بالتفسير الثاني والخبر الذي
رواه أمير المؤمنين عليه السلام ينفرد هو وطائفته بنقله والمحدثون لا يعرفون ذلك
ولا يثبتونه.
فأما إنكاره أن تكون نافلة شهر رمضان صلاها رسول الله صلى الله عليه وآله
في جماعة فإنكار لست أرتضيه لمثله، فان كتب المحدثين مشحونة برواية ذلك
وقد ذكره أحمد بن حنبل في مسنده غير مرة بعده طرق ورواه الفقهاء ذكره
الطحاوي في كتاب (اختلاف الفقهاء) وذكره أبو الطيب الطبري الشافعي في
شرحه كتاب المزني وقد ذكره المتأخرون أيضا ذكره الغزالي في كتاب (إحياء
علوم الدين) وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله صلى التراويح في شهر رمضان
في جماعة ليلتين أو ثلاثا ثم ترك وقال: أخاف أن يوجب عليكم وأجاز لي الشيخ
أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي بروايته عن شيخه محمد بن ناصر عن شيوخه
ورجاله إن رسول الله صلى الله عليه وآله صلى نافلة شهر رمضان في جماعة يأتمون به ليالي
ثم لم يخرج وقام في بيته وصلى الناس فرادى بقية أيامه وأيام أبى بكر وصدرا من
خلافة عمر فخرج عمر ليلة فرأى الناس أوزاعا يصلون في المسجد فقال: لو جمعتهم على
إمام! فأمر أبي بن كعب أن يصلى بهم فصلى بهم تلك الليلة ثم خرج فرآهم مجتمعين
إلى أبي بن كعب يصلى بهم فقال: بدعة ونعمة البدعة! أما إنها لفضل والتي ينامون
عنها أفضل.
قال: يعنى قيام آخر الليل فإنه أفضل من قيام أوله.
وأما قول قاضى القضاة إن في التراويح فائدة وهي التشدد في حفظ القرآن والدعاء
إلى الصلاة واعتراض المرتضى إياه بقوله الله أعلم بالمصلحة وليس لنا أن نسن ما لم يسنه
285

الله ورسوله فإنه يقال له: أليس يجوز للانسان أن يخترع من النوافل صلوات مخصوصة
بكيفيات مخصوصة وأعداد ركعات مخصوصة ولا يكون ذلك مكروها ولا حراما نحو أن يصلى
ثلاثين ركعة بتسليمة واحدة ويقرأ في كل ركعة منها سورة من قصار المفصل أفيقول
أحد: إن هذا بدعة لأنه لم يرد فيه نص ولا سبق إليه المسلمون من قبل! فان قال: هذا
يسوغ، فإنه داخل تحت عموم ما ورد في فضل صلاة النافلة قيل له والتراويح جائزة
ومسنونة لأنها داخلة تحت عموم ما ورد في فضل صلاة الجماعة.
فان قال: كيف تكون نافلة وهي جماعة! قيل له: قد رأينا كثيرا من النوافل تصلى
جماعة نحو صلاة العيد وصلاة الكسوف وصلاة الاستسقاء وصلاة الجنازة إذا لم
يتعين للمصلى بأن يقوم غيره مقامه فيها.
فأما ما أشار إليه قاضى القضاة من التشدد في حفظ القرآن فهو أنه روى أن عمر
أتى بسارق فأمر بقطعه فقال: لم أعلم أن الله أوجب القطع في السرقة ولو علمت
لم أسرق فأحلفه على ذلك. وسن التراويح جماعة ليتكرر سماع القرآن على أسماع المسلمين.
وقد اختلف الفقهاء أيما أفضل في نافلة شهر رمضان؟ الاجتماع عليها أم صلاتها
فرادى؟ فقال: قوم الجماعة أفضل لان الاجتماع بركة وله فضيلة ولولا فضيلته لم يسن في
المكتوبة لأنه ربما يكسل في الانفراد وينشط عند مشاهدة الجمع.
وقال: قوم الانفراد أفضل لأنها سنة ليست من الشعائر كالعيدين فالحاقها بتحية المسجد
أولى وقد جرت العادة بأن يدخل المسجد جمع معا ثم لم يصلوا التحية بالجماعة.
وروى القائلون بهذا القول عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (فضل صلاة المتطوع
في بيته على صلاة المتطوع في المسجد كفضل صلاة المكتوبة في المسجد على صلاته
في البيت)
286

وقد روى عنه عليه السلام أن أفضل النوافل ركعتان يصليهما المسلم في زاوية بيته
لا يعلمهما إلا الله وحده.
قالوا: ولأنها إذا صليت فرادى كانت الصلاة أبعد من الرياء والتصنع وبالجملة
الاختلاف في أيهما أفضل فأما تحريم الصلاة ولزوم الاثم بفعلها فمما لم يذهب إليه
إلا الامامية وقد روى الرواة أن عليا عليه السلام خرج ليلا في شهر رمضان في خلافة
عثمان بن عفان فرأى المصابيح في المساجد والمسلمون يصلون التراويح فقال: نور الله
قبر عمر كما نور مساجدنا! والشيعة يروون هذا الخبر ولكن بحمل اللفظ على معنى آخر.
فأما حديث الخراج فقد ذكره أرباب علم الخراج والكتاب وذكره الفقهاء
أيضا في كتبهم وذكره أرباب السيرة وأصحاب التاريخ قال قدامة بن جعفر في كتاب
(الخراج): اختلف الفقهاء في أرض العنوة، فقال بعضهم: تخمس ثم تقسم أربعة
أخماس على الذين افتتحوها وقال بعضهم ذلك إلى الامام أن رأى إن يجعلها غنيمة
ليخمسها ويقسم الباقي كما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله بخيبر فذلك إليه وإن
رأى أن يجعلها فيئا فلا يخمسها ولا يقسمها بل تكون موقوفة على سائر المسلمين
كما فعل عمر بأرض السواد وأرض مصر وغيرهما مما افتتحه عنوة فعلى الوجهين جميعا
فيهما قدوة ومتبع لان النبي صلى الله عليه وآله قسم خيبر وصيرها غنيمة وأشار
الزبير بن العوام على عمر في مصر وبلاد الشام بمثل ذلك وهو مذهب مالك بن
أنس وجعل عمر السواد وغيره فيئا موقوفا على المسلمين من كان منهم حاضرا في
وقته ومن أتى بعده ولم يقسمه وهو رأى رآه علي بن أبي طالب عليه السلام ومعاذ
ابن جبل وأشارا عليه وبه كان يأخذ سفيان بن سعيد وذلك رأى من جعل الخيار
إلى الامام في تصيير أرض العنوة غنيمة أو فيئا راجعا للمسلمين في كل سنة.
287

قال قدامة رحمه الله: فأما ما فعله رسول الله صلى الله عليه وآله من تصييره خيبر غنيمة
فإنه عليه السلام اتبع فيه آية محكمة وهي قوله تعالى (واعلموا أن ما غنمتم من شئ فأن لله خمسه
وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) (1) فهذه آية الغنيمة
وهي لأهلها دون الناس وبها عمل رسول الله صلى الله عليه وآله وأما الآية التي عمل
بها عمر وذهب إليها علي عليه والسلام ومعاذ بن جبل فيما أشارا عليه به فهي قوله تعالى
(ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى
والمساكين وابن السبيل) إلى قوله (للفقراء المهاجرين والذين تبوءوا الدار
والايمان من قبلهم) (والذين جاءوا من بعدهم) (2) انتهت ألفاظ قدامة.
وروى محمد بن جرير الطبري في تاريخه أن عمر هم أن يقسم أرض السواد بين
الغانمين كما يقسم الغنائم ثم قال: فكيف بالآجام ومناقع المياه والغياض والهضب المرتفع
والغائط المنخفض؟ وكيف يصنع هؤلاء بالماء وقسمته بينهم؟ أخاف أن يضرب بعضهم
وجوه بعض! ثم جمع الغانمين فقال لهم: ذلك فرضوا أن تقر الأرض حبيسا لهم يولونها من
تراضوا عليه ثم يقتسمون غلتها كل عام فقال عمر: اللهم إني قد اجتهدت وقد
قضيت ما على، اللهم إني أشهدك عليهم فاشهد.
فأما قول قاضى القضاة: إن النبي صلى الله عليه وآله جعل لمتولي أمر الأمة ضربا
من الاختيار في الغنيمة وما ذكره من الفرق بين الرجال والأموال وما ذكره من أن
الغانمين ليسوا مالكي الغنيمة ملكا صريحا، وإنما هو ضرب من الاختصاص فكله
جيد لا كلام عليه ولم يعترضه المرتضى بشئ ولا تعرض له.
وأما قول قاضى القضاة: إنه روى أن عمر فعل ما فعل برضا الغانمين وبأن عوضهم

(1) سورة الأنفال 41
(2) سورة الحشر 7 - 10.
288

عنه، وإنكار المرتضى وقوع ذلك وقوله: إنه لم ينقل فقد بينا أن الطبري ذكر في تاريخه
أن عمر فعل ذلك برضا الغانمين وبعد أن جمعهم وقال لهم: ما استصلحه وما أدى إليه
اجتهاده فرضوا به وأشهدوا الله عليهم والحاضرين.
وقد ذكر كثير من الفقهاء أن عمر عوض الغانمين عن أرض السواد ووقفه على مصالح
المسلمين وهذا ما رواه الشافعي وذكر حديث التعريض أبو الحسن علي بن حبيب
الماوردي في كتاب (الحاوي) في الفقه وذكره أيضا أبو الطيب طاهر بن عبد الله
الطبري في (شرح المزني).
وأما تعلق قاضى القضاة باجماع المسلمين فتعلق صحيح وطعن المرتضى فيه بالتقية
وموافقة الامام المعصوم على الباطل طعن يسمج التعلق به وللبحث فيه سبح طويل.
وأما أمر الجزية فطريقه الاجتهاد وللامام أن يرى فيه رأيه بمشاورة الصلحاء
والفقهاء وقد قال قاضى القضاة: إن الخبر الذي ذكره المرتضى وذكر أنه مرفوع وهو
(على كل حالم دينار) خبر مظنون غير معلوم واعتراض المرتضى عليه بقوله هب أن الامر
كذلك ألستم تزعمون أن خبر الواحد معمول عليه في الفروع! فهلا عمل عمر بهذا الخبر
وإن كان خبر واحد - اعتراض ليس بلازم لأنه إذا كان خبر واحد عندنا لم يلزم أن
يكون أيضا خبر واحد عند عمر بل من الجائز أن يكون مفتعلا بعد وفاة عمر ولو كان قد
ثبت أن عمر سمع هذا الخبر من واحد أو اثنين من الصحابة ثم لم يعمل به كان
الاعتراض لازما ولكن ذلك مما لم يثبت
تم الجزء الثاني عشر من شرح نهج البلاغة ويليه الجزء الثالث عشر.
289