الكتاب: شرح نهج البلاغة
المؤلف: ابن أبي الحديد
الجزء: ١٥
الوفاة: ٦٥٦
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ القسم العام
تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم
الطبعة:
سنة الطبع: ١٩٦٢ م
المطبعة:
الناشر: دار إحياء الكتب العربية - عيسى البابي الحلبي وشركاه
ردمك:
ملاحظات: مؤسسة مطبوعاتي إسماعيليان

شرح نهج البلاغة
لابن أبي الحديد
بتحقيق
محمد أبو الفضل إبراهيم
الجزء الخامس عشر
دار احياء الكتب العربية
عيسى البابي الحلبي وشركاه
1

الطبعة الثانية
(1967 م - 1387 ه‍)
جميع الحقوق محفوظة
منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
قم - إيران 1404 ه‍ ق
2

بسم الله الرحمن الرحيم
(1) وبه ثقتي الحمد لله الواحد العدل (1)
القول في أسماء الذين تعاقدوا من قريش على قتل رسول الله صلى الله
عليه وآله وما أصابوه به في المعركة يوم الحرب
قال الواقدي (2): تعاقد من قريش على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن
شهاب الزهري وابن قميئة (3) أحد بني الحارث بن فهر، وعتبة بن أبي وقاص الزهري،
وأبي بن خلف الجمحي. فلما أتى خالد بن الوليد من وراء المسلمين، واختلطت الصفوف،
ووضع المشركون السيف في المسلمين، رمى عتبة بن أبي وقاص رسول الله صلى عليه
وسلم بأربعة أحجار، فكسر رباعيته، وشجه في وجهه حتى غاب حلق المغفر في وجنتيه (4)،
وأدمى شفتيه (5).
قال الواقدي: وقد روي أن عتبة أشظى (6) باطن رباعيته السفلى. قال والثبت
عندنا أن الذي رمى وجنتي رسول الله صلى الله عليه وآله ابن قميئة والذي رمى شفته
وأصاب رباعيته عتبة بن أبي وقاص.
قال الواقدي: أقبل ابن قميئة يومئذ وهو يقول: دلوني على محمد، فوالذي يحلف
به، لئن رأيته لأقتلنه، فوصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلاه بالسيف ورماه عتبه

(1 - 1) أ: " وبك اعتمادي يا كريم "
(2) انظر أخبار غزوة أحد في الجزء الرابع عشر من ص 213 إلى ص 281 من هذا الكتاب.
(3) قميئة، كسفينة، عمرو بن قميئة، ذكره صاحب تاج العروس، وقال: " شاعر، وهو الذي كسر
رباعية النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ".
(4) كذا في أ، وهو الوجه والذي في ب " وجنته "، تحريف.
(5) مغازي الواقدي ص 246 وما بعدها.
(6) أشظى رباعيته: كسرها.
3

بن أبي وقاص في الحال التي جلله ابن قميئة فيها السيف، وكان عليه السلام فارسا،
وهو لابس درعين مثقل بهما، فوقع رسول الله صلى الله عليه وآله عن الفرس في حفرة
كانت أمامه.
قال الواقدي: أصيب ركبتاه، جحشتا (1) لما وقع في تلك الحفرة، وكانت هناك
حفر حفرها أبو عامر الفاسق كالخنادق للمسلمين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
واقفا على بعضها وهو لا يشعر (2)، فجحشت ركبتاه، ولم يصنع سيف ابن قميئة شيئا
إلا وهز (3) الضربة بثقل السيف، فقد وقع رسول الله صلى الله عليه وآله، ثم انتهض
وطلحة يحمله من ورائه، وعلي عليه السلام آخذ بيديه حتى استوى قائما.
قال الواقدي: فحدثني الضحاك بن عثمان عن حمزة بن سعيد، عن أبي بشر المازني،
قال: حضرت يوم أحد وأنا غلام فرأيت ابن قميئة علا رسول الله صلى الله عليه وآله
بالسيف، ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقع على ركبتيه في حفرة أمامه حتى
توارى في الحفرة، فجعلت أصيح وأنا غلام حتى رأيت الناس ثابوا إليه.
قال فأنظر إلى طلحة بن عبيد الله آخذا بحضنه حتى قام.
قال الواقدي: ويقال أن الذي شج رسول الله صلى الله عليه وآله في جبهته ابن
شهاب، والذي أشظى رباعيته وأدمى شفتيه عتبه بن أبي وقاص، والذي أدمى وجنتيه
حتى غاب الحلق فيهما ابن قميئة، وإنه سال الدم من الشجة التي في جبهته حتى أخضل
لحيته. وكان سالم مولى أبى حذيفة يغسل الدم عن وجهه ورسول الله صلى الله عليه،
يقول: كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم، وهو يدعوهم إلى الله تعالى! فأنزل الله تعالى
قوله: (ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم...) (4) الآية.

(1) الجحش: الخدش، أو فوقه.
(2) الواقدي: " ولا يشعر به ".
(3) كذا في الواقدي. ويقال: وهزه، أي ضربه بثقل يده، وفي الأصول: " وهن " تحريف.
(4) سورة آل عمران 128.
4

قال الواقدي: وروى سعد بن أبي وقاص قال (1): قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
يومئذ: اشتد غضب الله على قوم دموا فا رسول الله صلى الله عليه وآله، اشتد غضب
الله على قوم دموا وجه رسول الله، اشتد غضب الله على رجل قتله رسول الله صلى الله عليه
وسلم. قال سعد: فلقد شفاني من عتبة أخي دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد
حرصت على قتله حرصا ما حرصت على شئ قط، وإن كان ما علمت لعاقا بالوالد، سيئ
الخلق، ولقد تخرقت صفوف المشركين مرتين أطلب أخي لأقتله، ولكنه راغ مني
روغان الثعلب، فلما كان الثالثة قال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا عبد الله ما تريد؟
أ تريد أن تقتل نفسك؟ فكففت. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: اللهم لا تحولن
الحول على أحد منهم. قال سعد: فوالله ما حال الحول على أحد ممن رماه أو جرحه.
مات عتبة، وأما ابن قميئة فاختلف فيه،: [فقائل يقول: قتل في المعرك و] (2)
قائل [يقول]: إنه رمى بسهم في ذلك اليوم فأصاب مصعب بن عمير فقتله، فقال:
خذها وأنا ابن قميئة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: أقمأه الله، فعمد إلى
شاة يحتلبها فتنطحه بقرنها وهو معتلقها (3) فقتلته، فوجد ميتا بين الجبال لدعوة
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عدو الله رجع إلى أصحابه فأخبرهم أنه قتل محمدا.
قال: وابن قميئة رجل من بني الأدرم من بني فهر.
وزاد البلاذري في الجماعة التي تعاهدت وتعاقدت على قتل رسول الله صلى الله عليه وآله
يوم أحد عبد الله بن حميد بن زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزى بن قصي (4).
قال: وابن شهاب الذي شج رسول الله صلى الله عليه وآله في جبهته هو عبد الله

(1) الواقدي: " سمعته يقول: اشتد... ".
(2) من الواقدي. والمعرك والمعترك: موضع القتال.
(3) كذا في أ وهو الصواب، والذي في ب " معتقلها "، تصحيف.
(4) أنساب الأشراف 1: 319.
5

ابن شهاب الزهري، جد الفقيه المحدث محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب (1)،
وكان ابن قميئة أدرم ناقص الذقن، ولم يذكر اسمه ولا ذكره الواقدي أيضا.
قلت: سألت النقيب أبا جعفر عن اسمه فقال: عمرو، فقلت له: أ هو عمرو بن قميئة
الشاعر؟ قال: لا هو غيره. فقلت له: ما بال بني زهرة في هذا اليوم فعلوا الأفاعيل
برسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أخواله، ابن شهاب وعتبة بن أبي وقاص! فقال:
يا بن أخي، حركهم أبو سفيان وهاجهم على الشر لأنهم رجعوا يوم بدر من الطريق
إلى مكة فلم يشهدوها، فاعترض عيرهم ومنعهم عنها، وأغرى بها سفهاء أهل مكة، فعيروهم
برجوعهم، ونسبوهم إلى الجبن وإلى الادهان في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، واتفق أنه
كان فيهم مثل هذين الرجلين، فوقع منهما يوم أحد ما وقع.
قال البلاذري: مات عتبة يوم أحد من وجع أليم أصابه، فتعذب به، وأصيب
ابن قميئة في المعركة، وقيل نطحته عنز فمات.
قال: ولم يذكر الواقدي ابن شهاب كيف مات، وأحسب ذلك بالوهم منه.
قال: وحدثني بعض قريش أن أفعى نهشت عبد الله بن شهاب في طريقه إلى مكة،
فمات. قال: وسألت بعض بني زهرة عن خبره، فأنكروا أن يكون رسول الله صلى الله
عليه وآله دعا عليه، أو يكون شج رسول الله صلى الله عليه وآله. وقالوا إن الذي شجه
في وجهه عبد الله بن حميد الأسدي (2).
فأما عبد الله بن حميد الفهري، فإن الواقدي وإن لم يذكره في الجماعة الذين

(1) أنساب الأشراف 1: 319.
(2) أنساب الأشراف 1: 324.
6

تعاقدوا على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه قد ذكر كيفية قتله.
قال الواقدي: ويقبل عبد الله بن حميد بن زهير حين رأى رسول الله صلى الله
عليه وآله على تلك الحال - يعني سقوطه من ضربة ابن قميئة - يركض فرسه مقنعا في الحديد
يقول: أنا ابن زهير، دلوني على محمد، فوالله لأقتلنه أو لأموتن دونه! فتعرض (1) له أبو دجانة
فقال: هلم إلى من يقي نفس محمد صلى الله عليه وآله بنفسه، فضرب فرسه فعرقبها،
فاكتسعت، ثم علاه بالسيف وهو يقول: خذها وأنا ابن خرشة، حتى قتله، ورسول الله
صلى الله عليه وآله ينظر إليه ويقول: اللهم ارض عن ابن خرشة كما أنا
عنه راض. هذه رواية الواقدي، وبها قال البلاذري: إن عبد الله بن حميد قتله
أبو دجانة (2).
فأما محمد بن إسحاق فقال: إن الذي قتل عبد الله بن حميد علي بن أبي طالب عليه
السلام (3). وبه قالت الشيعة.
وروى الواقدي والبلاذري أن قوما قالوا: إن عبد الله بن حميد هذا قتل يوم بدر.
فالأول الصحيح أنه قتل يوم أحد. وقد روى كثير من المحدثين أن رسول الله صلى الله
عليه وآله قال لعلي عليه السلام حين سقط ثم أقيم: اكفني هؤلاء - لجماعة قصدت نحوه -
فحمل عليهم فهزمهم، وقتل منهم عبد الله بن حميد من بني أسد بن عبد العزى، ثم حملت
عليه طائفة أخرى، فقال له: اكفني هؤلاء، فحمل عليهم فانهزموا من بين يديه، وقتل
منهم أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة المخزومي.
قال: فأما أبي بن خلف فروى الواقدي أنه أقبل يركض فرسه، حتى إذا دنا من
رسول الله صلى الله عليه وآله، اعترض له ناس من أصحابه ليقتلوه، فقال لهم: استأخروا

(1) أ والواقدي: " ليعرض ".
(2) أنساب الأشراف 1: 324.
(3) سيرة ابن هشام 3: 82.
7

عنه. ثم قام إليه وحربته في يده، فرماه بها بين سابغة البيضة والدرع (1)، فطعنه هناك
فوقع عن فرسه، فانكسر ضلع من أضلاعه، واحتمله قوم من المشركين ثقيلا (2) حتى
ولوا قافلين، فمات في الطريق، وقال: وفيه أنزلت: (وما من رميت إذ رميت
ولكن الله رمى) (3)، قال: يعني قذفه إياه بالحربة.
قال الواقدي: وحدثني يونس بن محمد الظفري، عن عاصم بن عمر، عن عبد الله
بن كعب بن مالك، عن أبيه، قال: كان أبي بن خلف قدم في فداء ابنه، وكان أسر
يوم بدر، فقال: يا محمد، إن عندي فرسا لي أعلفها فرقا (4) من ذرة كل يوم
لأقتلك عليها. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: بل أنا أقتلك عليها
إن شاء الله تعالى.
ويقال: إن أبيا إنما قال ذلك بمكة، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله بالمدينة كلمته
فقال: بل أنا أقتله عليها إن شاء الله. قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله في القتال
لا يلتفت وراءه، فكان يوم أحد يقول لأصحابه: إني أخشى أن يأتي أبي بن خلف
من خلفي، فإذا رأيتموه فآذنوني وإذا بأبي يركض على فرسه، وقد رأى رسول الله
صلى الله عليه وآله فعرفه، فجعل يصيح بأعلى صوته: يا محمد لا نجوت إن نجوت! فقال
القوم: يا رسول الله ما كنت صانعا حين يغشاك أبي؟ فاصنع، فقد جاءك، وإن شئت
عطف عليه بعضنا، فأبى رسول الله صلى الله عليه وآله، ودنا أبي، فتناول رسول الله صلى
الله عليه وآله الحربة من الحارث بن الصمة، ثم انتفض كما ينتفض البعير. قال: فتطايرنا

(1) الدرع السابغة: التي تجرها في الأرض وعلى كعبيك طولا وسعة، وتسبغة البيضة: ما توصل به
البيضة من حلق الدروع فتستر العنق.
(2) ثقيلا: مشرفا على الموت.
(3) سورة الأنفال 17.
(4) الفرق، بسكون الراء وبفتحها: مكيال ضخم لأهل المدينة معروف.
8

عنه تطاير الشعارير (1)، ولم يكن أحد يشبه رسول الله صلى الله عليه وآله إذا جد الجد،
ثم طعنه بالحربة في عنقه وهو على فرسه لم يسقط، إلا أنه خار كما يخور الثور، فقال له
أصحابه: أبا عامر، والله ما بك بأس، ولو كان هذا الذي بك بعين أحد ما ضره. قال:
واللات والعزى، لو كان الذي بي بأهل المجاز لماتوا كلهم أجمعون، أليس قال: لأقتلنه!
فاحتملوه، وشغلهم ذلك عن طلب رسول الله صلى الله عليه وآله حتى التحق (2) بعظم
أصحابه في الشعب.
قال الواقدي: ويقال، إنه تناول الحربة من الزبير بن العوام. قال: ويقال إنه
لما تناول الحربة من الزبير حمل أبي على رسول الله صلى الله عليه وآله ليضربه بالسيف،
فاستقبله مصعب بن عمير حائلا بنفسه بينهما، وإن مصعبا ضرب بالسيف أبيا في وجهه،
وأبصر رسول الله صلى الله عليه وآله فرجة من بين سابغة البيضة والدرع، فطعنه هناك،
فوقع وهو يخور.
قال الواقدي: وكان عبد الله بن عمر يقول: مات أبي بن خلف ببطن رابغ (3)
منصرفهن إلى مكة. قال: فإني لأسير ببطن رابغ بعد ذلك، وقد مضى هوى من الليل
إذا نار تأجج، فهبتها، وإذا رجل يخرج منها في سلسلة يجتذبها يصيح: العطش، وإذا
رجل يقول: لا تسقه، فإن هذا قتيل رسول الله صلى الله عليه وآله، هذا أبي بن خلف،
فقلت: ألا سحقا! ويقال: إنه مات بسرف (4).

(1) الشعارير: الذباب.
(2) أ والواقدي: " لحق ".
(3) طن رابغ: واد من دون الجحفة، قال الواقدي: هو على عشرة أميال من مكة. ياقوت.
(4) سرف، ككتف: موضع على سبعة أميال من مكة، تزوج به رسول الله صلى الله عليه وسلم
ميمونة بنت الحارث، وهناك بنى بها، وهناك توفيت - ياقوت.
9

القول في الملائكة نزلت بأحد وقاتلت أم لا
قال الواقدي: حدثني الزبير بن سعيد، عن عبد الله بن الفضل، قال: أعطى
رسول الله صلى الله عليه وآله مصعب بن عمير اللواء فقتل، فأخذه ملك في صورة مصعب
فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله يقول له في آخر النهار: تقدم يا مصعب، فالتفت إليه
الملك، فقال: لست بمصعب، فعرف رسول الله صلى الله عليه وآله أنه ملك أيد به.
قال الواقدي: سمعت أبا معشر يقول مثل ذلك.
قال: وحدثتني عبيدة بنت نائل، عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص، عنه،
قال: لقد رأيتني أرمى بالسهم يومئذ، فيرده عني رجل أبيض حسن الوجه لا أعرفه، حتى
كان بعد، فظننت أنه ملك.
قال الواقدي: وحدثني إبراهيم بن سعد، عن أبيه عن جده سعد بن أبي وقاص،
قال: رأيت ذلك اليوم رجلين عليهما ثياب بيض، أحدهما عن يمين رسول الله صلى الله
عليه وآله، والاخر عن شماله يقاتلان أشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد. قال:
وحدثني عبد الملك بن سليمان، عن قطن بن وهب، عن عبيد بن عمير، قال: لما رجعت
قريش من أحد جعلوا يتحدثون في أنديتهم بما ظفروا، يقولون: لم نر الخيل البلق
ولا الرجال البيض الذين كنا نراهم يوم بدر.
قال: وقال عبيد بن عمير: لم تقاتل الملائكة يوم أحد.
قال الواقدي: وحدثني ابن أبي سبرة، عن عبد المجيد بن سهيل، عن عمر بن
الحكم، قال: لم يمد رسول الله صلى الله عليه وآله يوم أحد بملك واحد وإنما كانوا يوم
بدر. قال: ومثله عن عكرمة.

(1) في أ " عبيد الله "، تحريف والتصويب عن ب.
10

قال: وقال مجاهد: حضرت الملائكة يوم أحد ولم تقاتل، وإنما قاتلت
يوم بدر.
قال: وروي عن أبي هريرة أنه قال: وعدهم الله أن يمدهم لو صبروا، فلما
انكشفوا لم تقاتل الملائكة يومئذ.
* * *
القول في مقتل حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه
قال الواقدي: كان وحشي عبدا لابنة الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف،
ويقال: كان لجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، فقالت له ابنة الحارث: ان
أبي قتل يوم بدر، فإن أنت قتلت أحد الثلاثة فأنت حر: محمد، وعلي بن أبي طالب، وحمزة (1) بن عبد المطلب، فإني لا أرى في القوم كفؤا لأبي غيرهم. فقال وحشي: أما
محمد فقد علمت أنى لا أقدر عليه، وإن أصحابه لن يسلموه، وأما حمزه فوالله لو وجدته
نائما ما أيقظته من هيبته، وأما علي فألتمسه. قال وحشي: فكنت يوم أحد ألتسمه
فبينا أنا في طلبه طلع علي، فطلع رجل حذر مرس (2) كثير الالتفات، فقلت: ما هذا
بصاحبي الذي ألتمس، إذ رأيت حمزة يفري الناس فريا، فكمنت له إلى صخره وهو
مكبس له كتيت (3) فاعترض له سباع بن أم نيار، وكانت أمه ختانة بمكة، مولاة
لشريف بن علاج بن عمرو بن وهب الثقفي، وكان سباع يكنى أبا نيار، فقال له حمزة:
وأنت أيضا يا بن مقطعة البظور ممن يكثر علينا! هلم إلى، فاحتمله، حتى إذا برقت
قدماه رمى به فبرك عليه، فشحطه شحط الشاة، ثم أقبل علي مكبا حين رآني، فلما

(1) كذا في أ، وهو الوجه، وفي ب " أو " تحر يف.
(2) المرس: الذي قد مارس الأمور وعالجها.
(3) الكتيت: صوت في صدر الرجل كصوت البكر من شدة الغيظ.
11

بلغ المسيل، وطئ على جرف فزلت قدمه، فهززت حربتي حتى رضيت منها، فأضرب
بها في خاصرته حتى خرجت من مثانته، وكر عليه طائفة من أصحابه فأسمعهم يقولون:
أبا عمارة، فلا يجيب، فقلت: قد والله مات الرجل، وذكرت هندا وما لقيت على
أبيها وعمها وأخيها، وانكشف عنه أصحابه حين أيقنوا بموته، ولا يروني فأكر عليه
فشققت بطنه، فاستخرجت كبده، فجئت بها إلى هند بنت عتبة، فقلت ماذا لي إن
قتلت قاتل أبيك؟ قالت: سلني، فقلت: هذه كبد حمزة: فمضغتها ثم لفظتها، فلا
أدري: لم تسغها أو قذرتها، فنزعت ثيابها وحليها فأعطتنيه، ثم قالت: إذا جئت مكة
فلك عشرة دنانير، ثم قالت أرني مصرعه، فأريتها مصرعه، فقطعت مذاكيره
وجدعت أنفه، وقطعت أذنيه، ثم جعلت ذلك مسكتين (1) ومعضدين وخدمتين،
حتى قدمت بذلك مكة وقدمت بكبده أيضا معها.
قال الواقدي: وحدثني عبد الله بن جعفر، عن ابن أبي عون، عن الزهري،
عن عبيد الله بن عدي بن الخيار، قال: غزونا الشام في زمن عثمان بن عفان، فمررنا
بحمص (2) بعد العصر، فقلنا: وحشى، فقيل لا تقدرون عليه، هو الان يشرب الخمر
حتى يصبح، فبتنا من أجله، وإننا لثمانون رجلا، فلما صلينا الصبح جئنا إلى منزله، فإذا
شيخ كبير قد طرحت له زربية (3) قدر مجلسه، فقلنا له: أخبرنا عن قتل حمزة وعن
قتل مسيلمة، فكره ذلك، وأعرض عنه، فقلنا: ما بتنا هذه الليلة إلا من أجلك. فقال:
إني كنت عبدا لجبير بن مطعم بن عدي، فلما خرج الناس إلى أحد دعاني فقال: قد رأيت
مقتل طعيمة بن عدي، قتله حمزة بن عبد المطلب يوم بدر، فلم تزل نساؤنا في حزن

(1) المسكة، بالتحريك: الأسورة. والمعضد: الدملج، والخدمة، بالتحريك: الخلخال.
(2) حمص: مدينة معروفة في بلاد الشام.
(3) الزريبة: النمرقة، أو البساط الذي يتكأ عليه، واحده زربي، والجماعة زرابي.
12

شديد إلى يومي هذا، فإن قتلت حمزة فأنت حر، فخرجت مع الناس ولي مزاريق (1)
كنت أمر بهند بنت عتبة فتقول: إيه أبا دسمة! اشف واشتف. فلما وردنا أحدا
نظرت إلى حمزة يقدم الناس يهدهم هدا، فرآني وقد كمنت له تحت شجرة، فاقبل
نحوي، وتعرض له سباع الخزاعي، فأقبل إليه وقال، وأنت أيضا يا بن مقطعة البظور
ممن يكثر علينا! هلم إلى، وأقبل نحوه حتى رأيت برقان رجليه، ثم ضرب به الأرض
وقتله، وأقبل نحوي سريعا، فيعترض له جرف فيقع فيه، وأزرقه بمزراق فيقع في لبته
حتى خرج من بين رجليه. فقتله، ومررت بهند بنت عتبة فأذنتها، فأعطتني ثيابها
وحليها، وكان في ساقيها خدمتان من جزع ظفار (2) ومسكتان من ورق، وخواتيم من
ورق كن في أصابع رجليها، فأعطتني بكل ذلك، وأما مسيلمة فإنا دخلنا حديقة الموت
يوم اليمامة فلما رأيته زرقته بالمزراق وضربه، رجل من الأنصار بالسيف، فربك أعلم أينا
قتله! إلا أنى سمعت امرأة تصيح فوق جدار: قتله العبد الحبشي. قال عبيد الله: فقلت:
أتعرفني؟ فأكر بصره علي وقال: ابن عدي لعاتكة بنت العيص؟ قلت: نعم، قال:
أما والله ما لي بك عهد بعد أن دفعتك إلى أمك في محفتك التي كانت ترضعك فيها،
ونظرت إلى برقان قدميك حتى كأنه الان.
وروى محمد بن إسحاق في كتاب المغازي، قال علت هند يومئذ صخرة مشرفة،
وصرخت بأعلى صوتها:
نحن جزيناكم بيوم بدر * والحرب بعد الحرب ذات سعر (3)
ما كان عن عتبة لي من صبر * ولا أخي وعمه وبكري
شفيت نفسي وقضيت نذري * شفيت وحشى غليل صدري

(1) المزاريق. جمع مزراق، وهو الرمح القصير.
(2) ظفار كقطام: بلد باليمن ينسب إليه الجزع.
(3) ذات سعر، أي حر.
13

فشكر وحشي علي عمري * حتى ترم أعظمي في قبري (1)
قال: فأجابتها هند بنت أثاثة بن المطلب بن عبد مناف:
خزيت في بدر وغير بدر * يا بنت غدار عظيم الكفر (2)
أفحمك الله غداة الفجر * بالهاشميين الطوال الزهر
بكل قطاع حسام يفري * حمزة ليثي وعلي صقري
إذ رام شيب وأبوك قهري * فخضبا منه ضواحي النحر
قال محمد بن إسحاق: ومن الشعر الذي ارتجزت به هند بنت عتبة يوم أحد:
شفيت من حمزة نفسي بأحد * حين بقرت بطنه عن الكبد (3)
أذهب عني ذاك ما كنت أجد * من لوعة الحزن الشديد المعتمد (4)
والحرب تعلوكم بشؤبوب برد * نقدم إقداما عليكم كالأسد (5)
قال محمد بن إسحاق: حدثني صالح بن كيسان، قال: حدثت أن عمر بن
الخطاب قال لحسان: يا أبا الفريعة، لو سمعت ما تقول هند! ولو رأيت شرها قائمة على
صخرة ترتجز بنا، وتذكر ما صنعت بحمزة! فقال حسان: والله إني لأنظر إلى الحربة
تهوى وأنا على فارع - يعنى أطمة - فقلت: والله إن هذه لسلاح ليس بسلاح العرب،
وإذا بها تهوى إلى حمزة ولا أدري، [ولكن] (6) أسمعني بعض قولها أكفيكموها،
فأنشده عمر بعض ما قالت، فقال حسان يهجوها:
أشرت لكاع وكان عادتها * لؤما إذا أشرت مع الكفر (7)

(1) ترم أعظمي: تبلى.
(2) في ابن هشام: " يا بنت وقاع ".
(3) سيرة ابن هشام 3: 43.
(4) المعتمد: القاصد المؤلم.
(5) الشؤبوب: الدفعة من المطر. وبرد - بفتح فكسر - أي ذو برد.
(6) من سيرة ابن هشام.
(7) الخبر وهذا البيت في ابن هشام 3: 44، والأبيات في ديوانه 229، 230.
14

أخرجت مرقصة إلى أحد * في القوم مقتبة على بكر (1)
بكر ثفال لا حراك به * لا عن معاتبة ولا زجر (2)
أخرجت ثائرة محاربة (3) * بأبيك وابنك بعد في بدر (4)
وبعمك المتروك منجدلا * وأخيك منعفرين في الجفر (5)
فرجعت صاغرة بلا ترة * منا ظفرت بها ولا وتر
وقال أيضا يهجوها:
لمن سواقط ولدان مطرحة * باتت تفحص في بطحاء أجياد (6)
باتت تمخض لم تشهد قوابلها * إلا الوحوش وإلا جنة الوادي
يظل يرجمه الصبيان منعفرا * وخاله وأبوه سيدا النادي (7)
في أبيات كرهت ذكرها لفحشها.
* * *
قال: وروى الواقدي، عن صفية بنت عبد المطلب، قالت: كنا قد رفعنا (8) يوم أحد في
الآطام، ومعنا حسان بن ثابت، وكان من أجبن الناس، ونحن في فارع، فجاء نفر من
يهود يرومون الأطم، فقلت: دونك يا بن الفريعة، فقال لا والله لا أستطيع القتال،
ويصعد يهودي إلى الأطم، فقلت شد على يدي السيف، ثم برئت، ففعل فضربت

(1) مرقصة، أي مرقصة بكرها، ورقص البعير أسرع في سيره. وفي الديوان: " معنقة ".
(2) البكر الثفال: البطئ.
(3) في الديوان: " أقبلت زائرة مبادرة ".
(4) الديوان: " يوم ذي بدر ".
(5) والجفر: البئر.
(6) ديوانه 158. وفي الديوان: " منبذة ".
(7) منعفرا، أي علاه التراب، ورواية الديوان:
قد غادروه لحر الوجه منعفرا * وخاله وأبوه سيدا النادي
(8) رفعنا: عدونا.
15

عنق اليهودي ورميت برأسه إليهم، فلما رأوه انكشفوا، قالت: وإني لفي فارع أول النهار
مشرفة على الأطم، فرأيت المزراق، فقلت أومن سلاحهم المزاريق! أفلا أراه هوى
إلى أخي ولا أشعر! ثم خرجت آخر النهار حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وآله،
وقد كنت أعرف انكشاف المسلمين وأنا على الأطم برجوع حسان إلى أقصى الأطم،
فلما رأى الدولة للمسلمين اقبل حتى وقف على جدار الأطم. قال: فلما انتهيت إلى رسول الله
صلى الله عليه وآله ومعي نسوة من الأنصار لقيته وأصحابه أوزاع، فأول من لقيت علي
ابن أخي فقال: ارجعي يا عمة، فإن في الناس تكشفا، فقلت رسول الله صلى الله عليه. آله؟
قال: صالح، قلت: أدللني عليه حتى أراه، فأشار إليه إشارة خفية، فانتهيت إليه وبه الجراحة.
قال الواقدي: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يقول يوم أحد ما فعل عمي،
ما فعل عمي! فخرج الحارث بن الصمة يطلبه فأبطأ فخرج علي عليه السلام
يطلبه فيقول:
يا رب إن الحارث بن الصمة * كان رفيقا وبنا ذا ذمة (1)
قد ضل في مهامه مهمه * يلتمس الجنة فيها ثمة (2)
حتى انتهى إلى الحارث، ووجد حمزة مقتولا، فجاء فأخبر النبي صلى الله عليه وآله،
فأقبل يمشى حتى وقف عليه فقال: ما وقفت موقفا قط أغيظ إلي من هذا الموقف.
فطلعت صفية، فقال يا زبير، اغن عني أمك، وحمزة يحفر له، فقال الزبير: يا أمه،
إن في الناس تكشفا، فارجعي، فقالت: ما أنا بفاعلة حتى أرى رسول الله صلى الله عليه
وآله، فلما رأته قالت: يا رسول الله، أين ابن أمي حمزة؟ فقال: هو في الناس، قالت: لا أرجع حتى أنظر إليه، قال الزبير: فجعلت أطدها إلى الأرض حتى دفن وقال رسول الله

(1) سيرة ابن هشام 3: 154 مع اختلاف في الرواية.
(2) المهامه: جمع مهمه، وهي المفازة البعيدة.
16

صلى الله عليه وآله: لولا أن تحزن نساؤنا لذلك لتركناه للعافية، يعنى السباع والطير حتى
يحشر يوم القيامة من بطونها وحواصلها.
قال الواقدي: وروى أن صفية لما جاءت حالت الأنصار بينها وبين رسول الله صلى
الله عليه وآله، فقال: دعوها، فجلست عنده، فجعلت إذا بكت يبكي رسول الله صلى الله
عليه وآله، وإذا نشجت (1) ينشج رسول الله صلى الله عليه وآله، وجعلت فاطمة عليها
السلام تبكي، فلما بكت بكى رسول الله صلى الله عليه وآله ثم قال: لن أصاب بمثل حمزة
أبدا، ثم قال صلى الله عليه وآله لصفية وفاطمة: أبشرا، أتاني جبرائيل عليه السلام
فأخبرني أن حمزه مكتوب في أهل السماوات السبع: حمزة بن عبد المطلب أسد الله
وأسد رسوله.
قال الواقدي: ورأي رسول الله صلى الله عليه وآله بحمزة مثلا (2) شديدا، فحزنه ذلك
وقال: إن ظفرت بقريش لأمثلن بثلاثين منهم، فأنزل الله عليه: (وإن عاقبتم فعاقبوا
بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) (3) فقال صلى الله عليه وآله: بل
نصبر، فلم يمثل بأحد من قريش.
قال الواقدي: وقام أبو قتادة الأنصاري فجعل ينال من قريش لما رأى من غم
رسول الله صلى الله عليه وآله، وفي كل ذلك يشير إليه أن اجلس ثلاثا، فقال
رسول الله صلى الله عليه وآله: يا أبا قتادة إن قريشا أهل أمانة، من بغاهم العواثر
كبه الله لفيه، وعسى إن طالت بك مدة أن تحقر عملك مع أعمالهم، وفعالك مع فعالهم،

(1) يقال: نشج الباكي، غص بالبكاء في حلقه من غير انتحاب.
(2) يقال: مثل بفلان ومثلة بالضم: نكل به.
(3) سورة النحل: 126.
17

لولا أن تبطر قريش لأخبرتها بما لها عند الله تعالى. فقال أبو قتادة: والله يا رسول الله
ما غضبت إلا لله ورسوله حين نالوا منه ما نالوا، فقال: صدقت. بئس القوم
كانوا لنبيهم.
قال الواقدي: وكان عبد الله بن جحش قبل أن تقع الحرب قال: يا رسول الله، إن
هؤلاء القوم قد نزلوا بحيث ترى، فقد سألت الله فقلت: اللهم أقسم عليك أن نلقى
العدو غدا فيقتلوني ويبقروا بطني ويمثلوا بي، فتقول لي: فيم صنع بك هذا؟ فأقول:
فيك. قال: وأنا أسألك يا رسول الله أخرى، أن تلى تركتي من بعدي. فقال له:
نعم، فخرج عبد الله فقتل ومثل به كل المثل، ودفن هو وحمزة في قبر واحد، وولي
تركته رسول الله صلى الله عليه وآله، فاشترى لامه مالا بخيبر.
قال الواقدي: وأقبلت أخته حمنة بنت جحش، فقال لها رسول الله صلى الله عليه
وآله: يا حمن (1)، احتسبي، قالت: من يا رسول الله؟ قال: خالك حمزة، قالت:
(إنا لله وإنا إليه راجعون) (2) غفر الله له ورحمه، وهنيئا له الشهادة، ثم قال لها:
احتسبي. قالت: من يا رسول الله؟ قال: أخوك عبد الله، قالت: (إنا لله وإنا إليه
راجعون) (2) غفر الله له ورحمه وهنيئا له الشهادة، ثم قال: احتسبي، قالت: من
يا رسول؟ قال: بعلك مصعب بن عمير، فقالت وا حزناه! ويقال: إنها قالت: وا عقراه.
قال محمد بن إسحاق في كتابه: فصرخت وولولت. قال الواقدي: فقال رسول الله
صلى الله عليه وآله: إن للزوج من المرأة مكانا ما هو لأحد. وهكذا روى
ابن إسحاق أيضا.
قال الواقدي: ثم قال لها رسول الله صلى الله عليه وآله: لم قلت هذا؟ قالت ذكرت
يتم بنيه فراعني. فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله لولده أن يحسن الله عليهم الخلف،

(1) يا حمن، مرخم " يا حمنة ".
(2) سورة البقرة 156.
18

فتزوجت طلحة بن عبيد الله، فولدت منه محمد بن طلحة فكان أوصل الناس لولد
مصعب بن عمير.
* * *
القول فيمن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وآله يوم أحد
قال الواقدي: حدثني موسى بن يعقوب، عن عمته، عن أمها، عن المقداد، قال:
لما تصاف القوم للقتال يوم أحد جلس رسول الله صلى الله عليه وآله تحت رأيه
مصعب بن عمير، فلما قتل أصحاب اللواء وهزم المشركون الهزيمة الأولى، وأغار المسلمون
على معسكرهم، ينهبونه ثم كر المشركون على المسلمين، فأتوهم من خلفهم، فتفرق
الناس، ونادى رسول الله صلى الله عليه وآله في أصحاب الألوية، فقتل مصعب بن عمير
حامل لوائه صلى الله عليه وآله، وأخذ راية الخزرج سعد بن عبادة، فقام رسول الله صلى
الله عليه وآله تحتها، وأصحابه محدقون به، ودفع لواء المهاجرين إلى أبى الردم أحد بنى
عبد الدار آخر نهار ذلك اليوم، ونظرت إلى لواء الأوس مع أسيد بن حضير، فناوشوا
المشركين ساعة، واقتتلوا على اختلاط من الصفوف، ونادى المشركون بشعارهم: يا للعزى!
يا لهبل! فأوجعوا والله فينا قتلا ذريعا، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وآله ما نالوا،
لا والذي بعثه بالحق ما زال شبرا واحدا، إنه لفي وجه العدو وتثوب إليه طائفة من أصحابه مرة،
وتتفرق عنه مرة، فربما رأيته قائما يرمي عن قوسه أو يرمى بالحجر حتى تحاجزوا، وكانت
العصابة التي ثبتت مع رسول الله صلى الله عليه وآله أربعة عشر رجلا، سبعة من
المهاجرين، وسبعة من الأنصار، أما المهاجرون فعلي عليه السلام وأبو بكر وعبد الرحمن
بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله وأبو عبيدة بن الجراح والزبير بن العوام،
19

وأما الأنصار فالحباب بن المنذر وأبو دجانة (1) وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح والحارث
بن الصمة وسهل بن حنيف وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير.
قال الواقدي: وقد روي أن سعد بن عبادة ومحمد بن مسلمة ثبتا يومئذ ولم يفرا.
ومن روى ذلك جعلهما مكان سعد بن معاذ وأسيد بن حضير.
قال الواقدي: وبايعه يومئذ على الموت ثمانية: ثلاثة من المهاجرين وخمسة من
الأنصار، فأما المهاجرون فعلي عليه السلام، وطلحة، والزبير، وأما الأنصار فأبو دجانة
والحارث بن الصمة والحباب بن المنذر وعاصم بن ثابت وسهل بن حنيف، ولم يقتل
منهم ذلك اليوم أحد، وأما باقي المسلمين ففروا ورسول الله صلى الله عليه وآله يدعوهم
في أخراهم حتى انتهى منهم إلى قريب من المهراس (2).
قال الواقدي: وحدثني عتبة بن جبير، عن يعقوب بن عمير بن قتادة قال: ثبت يومئذ
بين يديه ثلاثون رجلا كلهم يقول: وجهي دون وجهك، ونفسي دون نفسك، وعليك
السلام غير مودع.
* * *
قلت: قد اختلف في عمر بن الخطاب هل ثبت يومئذ أم لا، مع اتفاق الرواة كافة
على أن عثمان لم يثبت، فالواقدي ذكر أنه لم يثبت، وأما محمد بن إسحاق والبلاذري
فجعلاه مع من ثبت ولم يفر، واتفقوا كلهم على أن ضرار بن الخطاب الفهري قرع رأسه
بالرمح وقال: إنها نعمة مشكورة يا بن الخطاب، إني آليت ألا أقتل رجلا من قريش.
وروى ذلك محمد بن إسحاق وغيره، ولم يختلفوا في ذلك، وإنما اختلفوا، هل قرعه
بالرمح وهو فار هارب، أم مقدم ثابت! والذين رووا أنه قرعه بالرمح وهو هارب لم يقل

(1) أبو دجانة، هو سماك بن خرشة.
(2) المهراس: ماء بأحد.
20

أحد منهم أنه هرب حين هرب عثمان ولا إلى الجهة التي فر إليها عثمان، وإنما هرب معتصما بالجبل،
وهذا ليس بعيب ولا ذنب، لان الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله اعتصموا
بالجبل كلهم واصعدوا فيه، ولكن يبقى الفرق بين من أصعد في الجبل في آخر الامر ومن
أصعد فيه والحرب لم تضع أوزارها، فإن كان عمر أصعد فيه آخر الامر، فكل المسلمين
هكذا صنعوا حتى رسول الله صلى الله عليه وآله، وإن كان ذلك والحرب قائمة
بعد تفرق.
ولم يختلف الرواة من أهل الحديث في أن أبا بكر لم يفر يومئذ، وأنه ثبت فيمن
ثبت، وإن لم يكن نقل عنه قتل أو قتال، والثبوت جهاد وفيه وحده كفاية.
وأما رواة الشيعة فإنهم يروون أنه لم يثبت إلا علي وطلحة والزبير وأبو دجانة وسهل
بن حنيف وعاصم بن ثابت، ومنهم من روى أنه ثبت معه أربعة عشر رجلا من المهاجرين
والأنصار، ولا يعدون أبا بكر وعمر منهم. روى كثير من أصحاب الحديث أن عثمان
جاء بعد ثالثة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فسأله إلى أين انتهيت؟ فقال: إلى الأعرض،
فقال: لقد ذهبت فيها عريضة (1).
* * *
روى الواقدي قال: كان بين عثمان أيام خلافته وبين عبد الرحمن بن عوف كلام،
فأرسل عبد الرحمن إلى الوليد بن عقبة فدعاه، فقال: اذهب إلى أخيك فأبلغه عنى ما أقول
لك، فإني لا أعلم أحدا يبلغه غيرك. قال الوليد: أفعل. قال: قل له يقول لك عبد الرحمن،
شهدت بدرا ولم تشهدها، وثبت يوم أحد ووليت، وشهدت بيعه الرضوان ولم تشهدها، فلما
أخبره قال عثمان: صدق أخي، تخلفت عن بدر على ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي
مريضة فضرب لي رسول الله صلى الله عليه وآله بسهمي وأجرى، فكنت بمنزلة من

(1) في النهاية لابن الأثير: " وفي حديث أحد قال للمنهزمين: لقد ذهبتم فيها عريضة، أي واسعة ".
21

حضر بدرا، ووليت يوم أحد فعفا الله عني في محكم كتابه، وأما بيعة الرضوان فإني
خرجت إلى أهل مكة، بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: إن عثمان في طاعة الله
وطاعة رسوله، وبايع عنى بإحدى يديه على الأخرى، فكان شمال النبي خيرا من يميني
فلما جاء الوليد إلى عبد الرحمن بما قال قال: صدق أخي.
قال الواقدي: ونظر عمر إلى عثمان بن عفان فقال: هذا ممن عفا الله عنه، وهم الذين
تولوا يوم التقى الجمعان والله ما عفا الله عن شئ فرده. قال: وسأل رجل عبد الله بن
عمر عن عثمان فقال: أذنب يوم أحد ذنبا عظيما، فعفا الله عنه، وأذنب فيكم ذنبا صغيرا
فقتلتموه، واحتج من روى أن عمر فر يوم أحد بما روي أنه جاءته في أيام خلافته امرأة
تطلب بردا من برود كانت بين يديه، وجاءت معها بنت لعمر تطلب بردا أيضا فأعطى
المرأة ورد ابنته، فقيل له في ذلك، فقال: إن أبا هذه ثبت يوم أحد وأبا هذه فر
يوم أحد ولم يثبت.
وروى الواقدي: أن عمر كان يحدث فيقول: لما صاح الشيطان قتل محمد، قلت
أرقي في الجبل كأني أروية، وجعل بعضهم هذا حجة في إثبات فرار عمر، وعندي
أنه ليس بحجة لان تمام الخبر فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله. وهو يقول:
(وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) (1) الآية، وأبو سفيان في سفح الجبل
في كتيبته يرومون أن يعلوا الجبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: اللهم إنه ليس لهم
أن يعلونا. فانكشفوا، وهذا يدل على أن رقيه في الجبل قد كان بعد إصعاد رسول الله
صلى الله عليه آله فيه، وهذا بأن يكون منقبة له أشبه. وروى الواقدي قال: حدثني ابن أبي سبرة، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي
جهم، اسم أبى جهم عبيد، قال: كان خالد بن الوليد يحدث وهو بالشام فيقول الحمد: لله

(1) سورة آل عمران 144.
22

الذي هداني للاسلام، لقد رأيتني ورأيت عمر بن الخطاب حين جال المسلمون وانهزموا
يوم أحد وما معه أحد، وإني لفي كتيبة خشناء (1)، فما عرفه منهم أحد غيري،
وخشيت إن أغريت به من معي أن يصمدوا له، فنظرت إليه وهو متوجه
إلى الشعب.
* * *
قلت: يجوز أن يكون هذا حقا، ولا خلاف أنه توجه إلى الشعب تاركا للحرب،
لكن يجوز أن يكون ذلك في آخر الامر لما يئس المسلمون من النصرة، فكلهم توجه
نحو الشعب حينئذ، وأيضا فان خالدا متهم في حق عمر بن الخطاب لما كان بينه وبينه
من الشحناء والشنان، فليس بمنكر من خالد أن ينعى عليه حركاته، ويؤكد صحة هذا
الخبر، وكون خالد عف عن قتل عمر يومئذ، ما هو معلوم من حال النسب بينهما من قبل
الام، فإن أم عمر حنتمة بنت هاشم بن المغيرة، وخالد هو ابن الوليد بن المغيرة، فأم عمر
ابنة عم خالد لحا، والرحم تعطف. حضرت عند محمد بن معد العلوي الموسوي الفقيه على رأي الشيعة الإمامية رحمه الله
في داره بدرب الدواب ببغداد في سنة ثمان وستمائة، وقارئ يقرأ عنده مغازي الواقدي،
فقرأ: حدثنا الواقدي قال: حدثني ابن أبي سبرة، عن خالد بن رياح، عن أبي سفيان
مولى ابن أبي أحمد قال: سمعت محمد بن مسلمة يقول: سمعت أذناي وأبصرت عيناي
رسول الله صلى الله عليه وآله يقول يوم أحد وقد انكشف الناس إلى الجبل، وهو يدعوهم
وهم لا يلوون عليه، سمعته يقول: إلي يا فلان، إلي يا فلان، أنا رسول الله، فما عرج عليه
واحد منهما ومضيا، فأشار ابن معد إلي أن اسمع، فقلت: وما في هذا؟ قال هذه
كناية عنهما، فقلت: ويجوز ألا يكون عنهما، لعله عن غيرهما. قال: ليس في الصحابة من

(1) كتيبة خشناء: كثيرة السلاح.
23

يحتشم ويستحيا من ذكره بالفرار وما شابهه من العيب فيضطر، القائل إلى الكناية إلا هما
قلت له: هذا وهم (1)، فقال: دعنا من جدلك ومنعك، ثم حلف أنه ما عنى الواقدي
غيرهما، وإنه لو كان غيرهما لذكره صريحا، وبان في وجهه التنكر من مخالفتي له.
* * *
روى الواقدي قال: لما صاح إبليس: أن محمدا قد قتل، تفرق الناس فمنهم من
ورد المدينة، فكان أول من وردها يخبر أن محمدا قد قتل، سعد بن عثمان أبو عبادة، ثم
ورد بعده رجال حتى دخلوا على نسائهم حتى جعل النساء يقلن: أعن رسول الله تفرون!
ويقول لهم ابن أم مكتوم: أعن رسول الله تفرون؟ يؤنب بهم، وقد كان رسول الله
صلى الله عليه وآله خلفه بالمدينة يصلي بالناس، ثم قال دلوني على الطريق - يعنى طريق
أحد - فدلوه، فجعل يستخبر كل من لقي في الطريق حتى لحق القوم، فعلم بسلامة النبي
صلى الله عليه وسلم، ثم رجع. وكان ممن ولى عمر وعثمان والحارث بن حاطب وثعلبه
بن حاطب وسواد بن غزية وسعد بن عثمان وعقبة بن عثمان وخارجة بن عمر بلغ ملل (2)،
وأوس بن قيظي في نفر من بني حارثة بلغوا الشقرة (3) ولقيتهم أم أيمن تحثي (3) في
وجوههم التراب وتقول لبعضهم: هاك المغزل فاغزل به، وهلم. واحتج من قال بفرار
عمر بما رواه الواقدي في كتاب المغازي في قصة الحديبية، قال: قال عمر يومئذ:
يا رسول الله، ألم تكن حدثتنا أنك ستدخل المسجد الحرام وتأخذ مفتاح الكعبة وتعرف
مع المعرفين، وهدينا لم يصل إلى البيت ولا نحر! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله:
أقلت لكم في سفركم هذا؟ قال عمر: لا، قال: أما إنكم ستدخلونه وآخذ مفتاح الكعبة
وأحلق رأسي ورؤوسكم ببطن مكة وأعرف مع المعرفين، ثم أقبل على عمر وقال: أنسيتم يوم

(1) كذا في ب: والذي في أ " ممنوع ".
(2) ملل، كجبل: موضع بعينه.
(3) الشقرة: موضع معروف لبني سليم.
(4) يقال: حثا التراب في وجهه يحثوه ويحثيه، إذا رماه به.
24

أحد، (إذ تصعدون ولا تلوون على أحد) (1) وأنا أدعوكم في أخراكم! أنسيتم يوم
الأحزاب (إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الابصار وبلغت القلوب
الحناجر) (2) أنسيتم يوم كذا! وجعل يذكرهم أمورا، أنسيتم يوم كذا! فقال المسلمون:
صدق الله وصدق رسوله، أنت يا رسول الله أعلم بالله منا، فلما دخل عام القضية وحلق
رأسه قال: هذا الذي كنت وعدتكم به، فلما كان يوم الفتح وأخذ مفتاح الكعبة
قال: ادعوا إلي عمر بن الخطاب، فجاء فقال: هذا الذي كنت قلت لكم. قالوا:
فلو لم يكن فر يوم أحد لما قال له: أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون.
* * *
القول فيما جرى للمسلمين بعد إصعادهم في الجبل
قال الواقدي: حدثني موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه قال: لما صاح الشيطان
لعنه الله: إن محمدا قد قتل يحزنهم بذلك، تفرقوا في كل وجه، وجعل الناس يمرون على
النبي صلى الله عليه وآله لا يلوي عليه أحد منهم، ورسول الله يدعوهم في أخراهم، حتى انتهت
هزيمة قوم منهم إلى المهراس، فتوجه رسول الله صلى الله عليه وآله يريد أصحابه في الشعب
فانتهى إلى الشعب وأصحابه في الجبل أوزاع، يذكرون مقتل من قتل منهم، ويذكرون
ما جاءهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله، قال كعب بن مالك: فكنت أول من عرفه وعليه
المغفر فجعلت أصيح وأنا في الشعب: هذا رسول الله صلى الله عليه آله حي، فجعل
يومئ إلي بيده على فيه أي اسكت، ثم دعا بلامتي (1) فلبسها ونزع لامته.
قال الواقدي: طلع رسول الله صلى الله عليه وآله على أصحابه في الشعب بين السعدين:

(1) سورة آل عمران 153.
(2) سورة الأحزاب: 10.
(3) اللامة: الدرع.
25

سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ يتكفأ في الدرع، وكان إذا مشى تكفأ تكفؤا،
ويقال: إنه كان يتوكأ على طلحة بن عبيد الله.
قال الواقدي: وما صلى يومئذ الظهر إلا جالسا للجرح الذي كان أصابه.
قال الواقدي: وقد كان طلحة قال له: إن بي قوه، فقم لأحملك، فحمله حتى انتهى إلى
الصخرة التي على فم شعب الجبل، فلم يزل يحمله حتى رفعه عليها ثم مضى إلى أصحابه ومعه
النفر الذين ثبتوا معه، فلما نظر المسلمون إليهم ظنوهم قريشا، فجعلوا يولون في الشعب
هاربين منهم، ثم جعل أبو دجانة يليح إليهم بعمامة حمراء على رأسه، فعرفوه
فرجعوا، أو بعضهم.
قال الواقدي: روي أنه لما طلع عليهم في النفر الذين ثبتوا معه - وهم أربعة عشر، سبعة
من المهاجرين، وسبعة من الأنصار - جعلوا يولون في الجبل خائفين منهم يظنونهم
المشركين، جعل رسول الله صلى الله عليه وآله يتبسم إلى أبى بكر وهو على جنبه ويقول
له: ألح إليهم: فجعل أبو بكر يليح إليهم وهم لا يعرجون حتى نزع أبو دجانة عصابة
حمراء على رأسه فأوفى (1) على الجبل، فجعل يصيح ويليح، فوقفوا حتى عرفوهم. ولقد
وضع أبو بردة بن نيار سهما على كبد قوسه، فأراد أن يرمى به رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأصحابه، فلما تكلموا وناداهم رسول الله صلى الله عليه وآله أمسك،
وفرح المسلمون برؤيته حتى كأنهم لم تصبهم في أنفسهم مصيبة، وسروا لسلامته
وسلامتهم من المشركين.
قال الواقدي: ثم إن قوما من قريش صعدوا الجبل فعلوا على المسلمين وهم في
الشعب قال: فكان رافع بن خديج يحدث فيقول: إني يومئذ إلى جنب أبى مسعود
الأنصاري وهو يذكر من قتل من قومه، ويسأل عنهم فيخبر برجال: منهم سعد بن

(1) أفي: أشرف وعلا.
26

الربيع، وخارجة بن زهير، وهو يسترجع (1) ويترحم عليهم، وبعض المسلمين يسأل
بعضا عن حميمه وذي رحمه فيهم، يخبر بعضهم بعضا، فبينا هم على ذلك رد الله المشركين
ليذهب ذلك الحزن عنهم، فإذا عدوهم فوقهم قد علوا، وإذا كتائب المشركين بالجبل،
فنسوا ما كانوا يذكرون، وندبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وحضنا على القتال، والله
لكأني أنظر إلى فلان وفلان في عرض الجبل يعدوان هاربين.
قال الواقدي: فكان عمر يحدث يقول: لما صاح الشيطان: قتل محمد، أقبلت
أرقي إلى الجبل، فكأني أرويه، فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول:
(وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) الآية، وأبو سفيان في سفح
الجبل فقال رسول الله صلى الله عليه وآله يدعو ربه: اللهم ليس لهم أن يعلوا.
فانكشفوا.
قال الواقدي: فكان أبو أسيد الساعدي يحدث فيقول: لقد رأيتنا قبل أن يلقى النعاس
علينا في الشعب وإنا لسلم لمن أرادنا، لما بنا من الحزن فألقى علينا النعاس، فنمنا حتى
تناطح الحجف (2)، ثم فزعنا وكأنا لم يصبنا قبل ذلك نكبة. قال: وقال الزبير بن العوام: غشينا النعاس فما منا رجل إلا وذقنه في صدره من النوم، فأسمع معتب بن قشير
- وكان من المنافقين - يقول: وإني لكالحالم: (لو كان لنا من الامر شئ ما قتلنا
ها هنا) فأنزل الله تعالى فيه ذلك.
قال: وقال أبو اليسر: لقد رأيتني ذلك اليوم في رجال من قومي إلى جنب رسول
الله صلى الله عليه وآله وقد أنزل الله علينا النعاس أمنه منه، ما منهم رجل إلا يغط غطيطا
حتى إن الحجف لتناطح، ولقد رأيت سيف بشر بن البراء بن معرور سقط من يده

(1) استرجع: قال: إنا لله وإنا إليه راجعون.
(2) الحجف بالتحريك: جمع حجفة، وهي الترس.
(3) سورة آل عمران 154.
27

وما يشعر به حتى أخذه بعد ما تثلم، وإن المشركين لتحتنا، وسقط سيف أبي طلحة أيضا
ولم يصب أهل الشك والنفاق نعاس يومئذ، وإنما أصاب النعاس أهل الايمان واليقين،
فكان المنافقون يتكلم كل منهم بما في نفسه، والمؤمنون ناعسون.
* * *
قلت: سألت ابن النجار المحدث عن هذا الموضع فقلت له: من قصة أحد
تدل على أن المسلمين كانت الدولة لهم بادئ الحال ثم صارت عليهم، وصاح الشيطان: قتل
محمد، فانهزم أكثرهم، ثم ثاب أكثر المنهزمين إلى النبي صلى الله عليه وآله، فحاربوا دونه
حربا كثيرة طالت مدتها حتى صار آخر النهار، ثم أصعدوا في الجبل معتصمين به، وأصعد
رسول الله صلى الله عليه وآله معهم، فتحاجز الفريقان حينئذ، وهذا هو الذي يدل عليه
تأمل قصة أحد، إلا أن بعض الروايات التي ذكرها الواقدي يقتضى غير ذلك، نحو
روايته في هذا الباب أن رسول الله صلى الله عليه وآله، لما صاح الشيطان: إن محمدا قد
قتل، كان ينادى المسلمين فلا يعرجون عليه، وإنما يصعدون في الجبل، وإنه وجه نحو
الجبل، فانتهى إليهم وهم أوزاع يتذاكرون بقتل من قتل منهم وهذه الرواية تدل على
أنه أصعد صلى الله عليه وآله في الجبل من أول الحرب، حيث صاح الشيطان، وصياح
الشيطان كان حال كون خالد بن الوليد بالجبل من وراء المسلمين لما غشيهم وهم مشتغلون
بالنهب واختلط الناس، فكيف هذا!
فقال: إن الشيطان صاح: قتل محمد دفعتين: دفعة في أول الحرب، ودفعة في آخر
الحرب، لما تصرم النهار وغشيت الكتائب رسول الله صلى الله عليه وآله وقد قتل ناصروه
وأكلتهم الحرب، فلم يبق معه إلا نفر يسير لا يبلغون عشرة، وهذه كانت أصعب وأشد
من الأولى، وفيها اعتصم، وما اعتصم في صرخة الشيطان الأولى بالجبل، بل ثبت وحامى
عنه أصحابه، ولقد لقي في الأولى مشقة عظيمة من ابن قميئة وعتبة بن أبي وقاص وغيرهما،
28

ولكنه لم يفارق عرصة الحرب، وإنما فارقها وعلم أنه لم يبق له وجه مقام في
صرخته الثانية.
قلت له: فكان القوم مختلطين في الصرخة الثانية حتى يصرخ الشيطان: قتل محمد!
قال: نعم، المشركون قد أحاطوا بالنبي صلى الله عليه وآله وبمن بقي معه من أصحابه،
فاختلط المسلمون بهم، وصاروا مغمورين بينهم، لقلتهم بالنسبة إليهم، وظن قوم من
المشركين أنهم قد قتلوا النبي صلى الله عليه وآله لأنهم فقدوا وجهه وصورته، فنادى
الشيطان: قتل محمد، ولم يكن قتل صلى الله عليه وآله، ولكن اشتبهت صورته عليهم
وظنوه غيره، وأكثر من حامى عنه في تلك الحال علي عليه السلام وأبو دجانة وسهل
بن حنيف، وحامى هو عن نفسه، وجرح قوما بيده تارة بالسهام، وتارة بالسيف ولكن
لم يعلموا بأعيانهم لاختلاط القوم وثوران النقع (1)، وكانت قريش تظنه واحدا من
المسلمين ولو عرفوه بعينه في تلك الثورة لكان الامر صعبا جدا، ولكن الله تعالى
عصمه منهم بأن أزاغ أبصارهم عنه، فلم يزل هؤلاء الثلاثة يجالدون دونه وهو يقرب
من الجبل حتى صار في أعلى الجبل أصعد من فم الشعب إلى تدريج هناك في الجبل
ورقي في ذلك التدريج صاعدا حتى صار في أعلى الجبل، وتبعه النفر الثلاثة
فلحقوا به.
قلت له: فما بال القوم الذين صعدوا الجبل من المشركين، وكيف كان
إصعادهم وعودهم؟
قال: أصعدوا لحرب المسلمين لا لطلب رسول الله صلى الله عليه وآله، لأنهم ظنوا
أنه قد قتل، وهذا هو كان السبب في عودهم من الجبل، لأنهم قالوا: قد بلغنا الغرض

(1) النقع: غبار الحرب.
29

الأصلي وقتلنا محمدا، فما لنا والتصميم على الأوس والخزرج وغيرهم من أصحابه، مع ما في
ذلك من عظم الخطر بالأنفس!
قلت له: فإذا كان هذا قد خطر لهم فلماذا صعدوا في الجبل.
قال: يخطر لك خاطر ويدعوك داع إلى بعض الحركات، فإذا شرعت فيها
خطر لك خاطر آخر يصرفك عنها، فترجع ولا تتمها!
قلت: نعم فما بالهم لم يقصدوا قصد المدينة وينهبوها؟
قال: كان فيها عبد الله بن أبي في ثلاثمائة مقاتل وفيها خلق كثير من الأوس
والخزرج، لم يحضروا الحرب وهم مسلمون، وطوائف أخر من المنافقين لم يخرجوا،
وطوائف أخرى من اليهود، أولو بأس وقوة، ولهم بالمدينة عيال وأهل ونساء، وكل
هؤلاء كانوا يحامون عن المدينة، ولم تكن قريش تأمن مع ذلك أن يأتيها رسول الله
صلى الله عليه وآله من ورائها بمن يجامعه من أصحابه فيحصلوا بين الأعداء من خلفهم
ومن أمامهم فكان الرأي الأصوب لهم العدول عن المدينة وترك قصدها.
قال الواقدي: حدثني الضحاك بن عثمان، عن حمزة بن سعيد، قال: لما تحاجزوا
وأراد أبو سفيان الانصراف، أقبل يسير على فرس له حوراء (1) فوقف على أصحاب
النبي صلى الله عليه وآله وهم في عرض الجبل، فنادى بأعلى صوته: أعل هبل ثم
صاح، أين ابن أبي كبشة؟ يوم بيوم بدر، ألا إن الأيام دول.
وفي رواية أنه نادى أبا بكر وعمر أيضا، فقال: أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن
الخطاب؟ ثم قال: الحرب سجال، حنظلة بحنظلة، يعنى حنظلة بن أبي عامر بحنظلة بن

(1) حوراء: واسعة العينين.
30

أبي سفيان، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله أجيبه؟ قال: نعم فأجبه، فلما قال: اعل
هبل قال عمر: الله أعلى وأجل.
ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر: قل له: الله أعلى وأجل، فقال
أبو سفيان: إن لنا العزى ولا عزى لكم، فقال عمر: أو قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: قل له، الله مولانا ولا مولى لكم، فقال أبو سفيان: إنها قد أنعمت، فقال: عنها
يا بن الخطاب، فقال سعيد بن أبي سفيان: ألا إن الأيام دول وان الحرب سجال، فقال
عمر: ولا سواء (1)، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، فقال أبو سفيان: إنكم لتقولون ذلك لقد جبنا
إذا وخسرنا، ثم قال يا بن الخطاب، قم إلي أكلمك: فقام إليه فقال: أنشدك بدينك: هل
قتلنا محمدا؟ قال: اللهم لا، وإنه ليسمع كلامك الان، قال أنت عندي أصدق من ابن
قميئة، ثم صاح أبو سفيان ورفع صوته: إنكم واجدون في قتلاكم عنتا ومثلا، ألا إن ذلك
لم يكن عن رأي سراتنا، ثم أدركته حمية الجاهلية فقال: وأما إذ كان ذلك فلم نكرهه؟
ثم نادى: ألا إن موعدكم بدر الصفراء، على رأس الحول، فوقف عمر وقفة ينتظر ما يقول
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: قل نعم، فانصرف أبو سفيان إلى أصحابه وأخذوا
في الرحيل، فأشفق رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من أن يغيروا على المدينة فيهلك
الذراري والنساء، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله أسعد بن أبي وقاص: اذهب فأتنا بخبر
القوم، فإنهم إن ركبوا الإبل وجنبوا (2) الخيل فهو الظعن إلى مكة، وإن ركبوا الخيل وجنبوا
الإبل فهو الغارة على المدينة، والذي نفسي بيده، إن ساروا إليها لأسيرن إليهم ثم
لأناجزهم. قال سعد: فتوجهت أسعى وأرصدت نفسي إن أفزعني شئ رجعت إلى
النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أسعى، فبدأت بالسعي حين ابتدأت، فخرجت في آثارهم

(1) ولا سواء: يعني لا يستوي هذا وذاك.
(2) جنبوا الخيل، أي ساقوها إلى جانبهم.
31

حتى إذا كانوا بالعقيق (1) وأنا بحيث أراهم وأتأملهم ركبوا الإبل وجنبوا الخيل، فقلت:
إنه الظعن إلى بلادهم، ثم وقفوا وقفة بالعقيق، وتشاوروا في دخول المدينة، فقال لهم صفوان
ابن أمية: قد أصبتم القوم، فانصرفوا ولا تدخلوا عليهم وأنتم كالون، ولكم الظفر،
فإنكم لا تدرون ما يغشاكم، فقد وليتم يوم بدر، لا والله ما تبعوكم وكان الظفر لهم. فيقال:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نهاهم صفوان. فلما رآهم سعد على تلك الحال
منطلقين وقد دخلوا في المكمن رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كالمنكسر
فقال: وجه القوم يا رسول الله إلى مكة، امتطوا الإبل وجنبوا الخيل. فقال: ما تقول؟
قلت: ما قلت يا رسول الله، فخلا بي فقال: أحقا ما تقول؟ قلت: نعم يا رسول الله،
قال: فما بالي رأيتك منكسرا؟ فقلت: كرهت أن آتي المسلمين فرحا بقفولهم إلى بلادهم،
فقال صلى الله عليه وسلم: إن سعدا لمجرب.
قال الواقدي: وقد روي خلاف هذا، روي أن سعدا لما رجع رفع صوته بأن جنبوا
الخيل، وامتطوا الإبل، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير إلى سعد: خفض
صوتك فإن الحرب خدعة، فلا ترى الناس مثل هذا الفرح بانصرافهم، فإنما ردهم
الله تعالى.
قال الواقدي: وحدثني ابن أبي سبرة، عن يحيى بن شبل، عن أبي جعفر قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص: إن رأيت القوم يريدون
المدينة فأخبرني فيما بيني وبينك، ولا تفت في أعضاد المسلمين، فذهب فرآهم قد امتطوا
الإبل، فرجع، فما ملك أن جعل يصيح سرورا بانصرافهم.
قال الواقدي: وقيل لعمرو بن العاص: كيف كان افتراق المسلمين والمشركين يوم

(1) العقيق: موضع بالمدينة فيه عيون ونخيل. (ياقوت).
32

أحد فقال ما تريدون إلى ذلك! قد جاء الله بالاسلام، ونفى الكفر وأهله، ثم قال: لما كررنا عليهم أصبنا من أصبنا منهم وتفرقوا في كل وجه، وفاءت لهم فئة بعد،
فتشاورت قريش، فقالوا: لنا الغلبة، فلو انصرفنا فإنه بلغنا أن ابن أبي انصرف بثلث
الناس، وقد تخلف الناس من الأوس والخزرج، ولا نأمن أن يكروا علينا، وفينا جراح،
وخيلنا عامتها قد عقرت من النبل، فمضينا، فما بلغنا الروحاء (1) حتى قام علينا عدة منها،
وانصرفنا إلى مكة.
قال الواقدي: حدثني إسحاق بن يحيى بن طلحة، عن عائشة، قال: سمعت أبا بكر
يقول: لما كان يوم أحد ورمي رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه حتى دخلت في وجهه
حلقتان من المغفر أقبلت أسعى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنسان قد أقبل من
قبل المشرق يطير طيرانا، فقلت: اللهم اجعله طلحة بن عبيد الله، حتى توافينا إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أبو عبيدة بن الجراح فبدرني فقال: أسألك بالله
يا أبا بكر إلا تركتني فانتزعه من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أبو بكر:
فتركته. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عليكم صاحبكم " يعنى طلحة، فأخذ
أبو عبيده بثنيته حلقة المغفر، فنزعها وسقط على ظهره، وسقطت ثنية أبى عبيدة، ثم
أخذ الحلقة بثنيته الأخرى، فكان أبو عبيدة في الناس أثرم (2). ويقال: أن الذي نزع
الحلقتين من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم عقبة بن وهب بن كلدة، ويقال: أبو اليسر.
قال الواقدي: وأثبت ذلك عندنا عقبة بن وهب بن كلدة.
قال الواقدي: وكان أبو سعيد الخدري يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1) الروحاء: موضع على أربعين ميلا من المدينة.
(2) الأثرم: الذي لا أسنان له.
33

أصيب وجهه يوم أحد، فدخلت الحلقتان من المغفر في وجنتيه، فلما نزعتا جعل الدم
يسرب كما يسرب الشن (1)، فجعل مالك بن سنان يمج الدم بفيه، ثم ازدرده، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحب أن ينظر إلى من خالط دمه بدمي فلينظر إلى
مالك بن سنان. فقيل لمالك: تشرب الدم! فقال: نعم، أشرب دم رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من مس دمه دمى لم تصبه النار ".
قال الواقدي: وقال أبو سعيد: كنا ممن رد من الشيخين (2) لم نجئ مع المقاتلة،
فلما كان من النهار بلغنا مصاب رسول الله صلى الله عليه وآله، وتفرق الناس عنه،
جئت مع غلمان بني خدرة نعرض لرسول الله صلى الله عليه وآله ننظر إلى سلامته،
فنرجع بذلك إلى أهلنا، فلقينا الناس متفرقين ببطن قناة، فلم يكن لنا همة إلا النبي صلى
الله عليه وسلم، ننظر إليه، فلما رآني قال: سعد بن مالك! قلت: نعم، بأبي أنت وأمي! ودنوت منه، فقبلت ركبته وهو على فرسه، فقال آجرك الله في أبيك! ثم نظرت إلى وجهه،
فإذا في وجنتيه مثل موضع الدرهم في كل وجنة، وإذا شجة في جبهته عند أصول الشعر،
وإذا شفته السفلى تدمى، وإذا في رباعيته اليمنى شظية، وإذا على جرحه شئ أسود،
فسألت: ما هذا على وجهه؟ فقالوا: حصير محرق. وسألت: من أدمى وجنتيه؟ فقيل ابن قميئة، فقلت: فمن شجه في وجهه؟ فقيل: ابن شهاب، فقلت: من أصاب
شفتيه؟ قيل: عتبة بن أبي وقاص، فجعلت أعدو بين يديه حتى نزل ببابه، ما نزل إلا
محمولا، وأرى ركبتيه مجحوشتين (3) يتكئ [على] السعدين: سعد بن معاذ وسعد
بن عبادة، حتى دخل بيته، فلما غربت الشمس وأذن بلال بالصلاة، خرج على تلك الحال

(1) الشن: القربة الخلق.
(2) الشيخان: موضع بالمدينة، كان به معسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد، وهما أطمان سميا به.
(3) يقال: جحش الجلد: سحجه، وهو كالخدش أو فوقه.
(4) من أ.
34

يتوكأ على السعدين: سعد بن عبادة وسعد بن معاذ، ثم انصرف إلى بيته والناس في
المسجد يوقدون النيران يتمكدون بها من الجراح، ثم أذن بلال بالعشاء حين غاب
الشفق، فلم يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس بلال عند بابه صلى الله عليه
وسلم حتى ذهب ثلث الليل، ثم ناداه: الصلاة يا رسول الله! فخرج، وقد كان نائما،
قال فرمقته فإذا هو أخف في مشيته منه حين دخل بيته، فصليت معه العشاء، ثم رجع
إلى بيته قد صفف له الرجال ما بين بيته إلى مصلاه يمشى وحده حتى دخل، ورجعت إلى أهلي فخبرتهم بسلامته، فحمدوا الله وناموا، وكانت وجوه الأوس والخزرج
في المسجد على النبي صلى الله عليه وسلم يحرسونه فرقا من قريش أن تكر.
قال الواقدي: وخرجت فاطمة عليها السلام في نساء وقد رأت الذي بوجه أبيها
صلى الله عليه وسلم، فاعتنقته، وجعلت تمسح الدم عن وجهه، ورسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسوله. وذهب علي عليه السلام فأتى
بماء من المهراس، وقال لفاطمة: امسكي هذا السيف غير ذميم، فنظر إليه رسول الله صلى
الله عليه وسلم مختضبا بالدم، فقال: لئن كنت أحسنت القتال اليوم، فلقد أحسن عاصم بن
ثابت والحارث بن الصمة وسهل بن حنيف، وسيف أبي دجانة غير مذموم، هكذا روى
الواقدي.
وروى محمد بن إسحاق أن عليا عليه السلام قال لفاطمة بيتي شعر، وهما:
أفاطم هاء السيف غير ذميم * فلست برعديد ولا بلئيم
لعمري لقد جاهدت في نصر أحمد * وطاعة رب بالعباد رحيم
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: لئن كنت صدقت القتال اليوم لقد صدق
معك سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف.
35

قال الواقدي: فلما أحضر علي عليه السلام الماء، أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم
أن يشرب منه، فلم يستطع، وقد كان عطشا ووجد ريحا من الماء كرهها، فقال: هذا
ماء آجن، فتمضمض منه للدم الذي كان بفيه ثم مجه، وغسلت فاطمة به الدم عن أبيها
صلى الله عليه وسلم، فخرج محمد بن مسلمة يطب مع النساء، وكن أربع عشرة امرأة،
قد جئن من المدينة يتلقين الناس منهن فاطمة عليها السلام يحملن الطعام والشراب على
ظهورهن، ويسقين الجرحى ويداوينهم.
قال الواقدي: قال كعب بن مالك: رأيت عائشة وأم سليم على ظهورهما القرب
تحملانها يوم أحد، وكانت حمنة بنت جحش تسقى العطشى وتداوي الجرحى، فلم يجد
محمد بن مسلمة عندهن ماء ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشتد عطشه، فذهب محمد
بن مسلمة إلى قناة ومعه سقاؤه حتى استقى من حسي - قناه عند قصور التميميين اليوم -
فجاء بماء عذب، فشرب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له بخير، وجعل الدم
لا ينقطع من وجهه عليه السلام وهو يقول: لن ينالوا منا مثلها حتى نستلم الركن! فلما
رأت فاطمة الدم لا يرقأ وهي تغسل جراحه، وعلي يصب الماء عليها بالمجن، أخذت قطعة
حصير فأحرقته حتى صار رمادا، ثم ألصقته بالجرح، فاستمسك الدم. ويقال: إنها داوته
بصوفة محرقة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يداوى الجراح الذي في وجهه
بعظم بال حتى ذهب أثره. ولقد مكث يجد وهن ضربة ابن قميئة على عاتقه شهرا أو
أكثر من شهر، ويداوي الأثر الذي في وجهه بعظم.
قال الواقدي: وقال رسول الله صلى الله عليه وآله قبل أن ينصرف إلى المدينة: من
يأتينا بخبر سعد بن الربيع؟ فإني رأيته - وأشار بيده إلى ناحية من الوادي - قد شرع فيه اثنا
عشر سنانا، فخرج محمد بن مسلمة - ويقال أبي بن كعب - نحو تلك الناحية. قال: فأنا
وسط القتلى لتعرفهم، إذ مررت به صريعا في الوادي، فناديته فلم يجب، ثم قلت:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليك. قال: فتنفس كما يتنفس الطير، ثم قال:
36

وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لحي! قلت: نعم، وقد أخبرنا أنه شرع لك إثنا عشر
سنانا، فقال: طعنت اثنتي عشرة طعنة كلها أجافتني، أبلغ قومك الأنصار السلام وقل
لهم: الله الله وما عاهدتم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة! والله مالكم عذر
عند الله إن خلص إلى نبيكم ومنكم عين تطرف، فلم أرم (1) من عنده حتى مات،
فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فرأيته استقبل القبلة رافعا يديه يقول: " اللهم
الق سعد بن الربيع وأنت عنه راض ".
قال الواقدي: وخرجت السمداء بنت قيس، إحدى نساء بني دينار، وقد أصيب
ابناها مع النبي صلى الله عليه وسلم بأحد: النعمان بن عبد عمر، وسليم بن الحارث، فلما نعيا
لها قالت: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قالوا: بخير، هو بحمد الله صالح على
ما تحبين، فقالت: أرونيه أنظر إليه، فأشاروا لها إليه، فقالت كل مصيبة بعدك
يا رسول الله جلل (2)! وخرجت تسوق بابنيها بعيرا، [تردهما إلى المدينة] (3)، فلقيتها
عائشة، فقالت ما وراءك؟ فأخبرتها (4)، قالت: فمن هؤلاء معك؟ قالت ابناي، حل
حل (5) تحملهما إلى القبر.
قال الواقدي: وكان حمزة بن عبد المطلب أول من جئ به إلى النبي صلى الله عليه
وآله بعد انصراف قريش - أو كان من أولهم - فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه
وآله،
ثم قال: رأيت الملائكة تغسله، - قالوا: لان حمزة كان جنبا ذلك اليوم - ولم يغسل رسول
الله صلى الله عليه وآله الشهداء يومئذ، وقال: لفوهم بدمائهم وجراحهم فإنه ليس أحد
يجرح في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة لون جرحه لون الدم، وريحه ريح المسك، ثم

(1) لم أرم: لم أبرح.
(2) جلل، أي هينة.
(3) من الواقدي.
(4) في الواقدي: قالت: أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فبخير لم يمت، واتخذ الله من المؤمنين شهداء:
(ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال)
(5) حل: زجر للبعير.
37

قال: ضعوهم فأنا الشهيد على هؤلاء يوم القيامة، وكان حمزه أول من كبر عليه أربعا، ثم
جمع إليه الشهداء فكان كلما أتى بشهيد وضع إلى جنب حمزة فصلى عليه وعلى الشهيد،
حتى صلى عليه سبعين مرة، لان الشهداء سبعون.
قال الواقدي: ويقال: كان يؤتى بتسعة وحمزة عاشرهم، فيصلي عليهم، وترفع التسعة،
ويترك حمزة مكانه، ويؤتى بتسعة آخرين فيوضعون إلى جنب حمزة فيصلى عليه وعليهم،
حتى فعل ذلك سبع مرات، ويقال أنه كبر عليه خمسا وسبعا وتسعا.
قال الواقدي: وقد اختلفت الرواية في هذا، وكان طلحة بن عبيد الله وابن عباس
وجابر بن عبد الله يقولون: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد، وقال: " أنا شهيد
على هؤلاء "، فقال أبو بكر: ألسنا إخوانهم أسلمنا كما أسلموا، وجاهدنا كما جاهدوا!
قال: بلى، ولكن هؤلاء لم يأكلوا من أجورهم، شيئا ولا أدرى ما تحدثون بعدي!
فبكى أبو بكر وقال: إنا لكائنون بعدك!
وقال أنس بن مالك وسعيد بن المسيب: لم يصل رسول الله صلى الله عليه وآله على
قتلى أحد.
قال الواقدي: وقال لأهل القتلى: احفروا وأوسعوا وأحسنوا، وادفنوا الاثنين
والثلاثة في القبر، وقدموا أكثرهم قرآنا. وأمر بحمزة أن تمد بردته عليه وهو في القبر،
وكانت قصيرة، فكانوا إذا خمروا بها رأسه بدت رجلاه، وإذا خمروا بها رجليه انكشف
وجهه، فبكى المسلمون يومئذ، فقالوا: يا رسول الله: عم رسول الله يقتل فلا يوجد له
ثوب! فقال بلى إنكم بأرض جردية (1) ذات أحجار، وستفتح - يعنى الأرياف
والأمصار - فيخرج الناس إليها، ثم يبعثون إلى أهليهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون،

(1) جردية، قال الواقدي: التي ليس بها شئ من الأشجار.
38

والذي نفسي بيده لا تصبر نفس على لأوائها وشدتها إلا كنت لها شفيعا - أو قال:
شهيدا يوم القيامة.
قال الواقدي: وأتى عبد الرحمن بن عوف في خلافة عثمان بثياب وطعام فقال:
ولكن حمزة لم يوجد له كفن، ومصعب بن عمير لم يوجد له كفن، وكانا
خيرا منى!
قال الواقدي: ومر رسول الله صلى الله عليه وآله بمصعب بن عمير وهو مقتول
مسجى ببردة خلق، فقال: لقد رأيتك بمكة وما بها أحد أرق حلة ولا أحسن لمة منك،
ثم أنت اليوم أشعث الرأس في هذه البردة! ثم أمر به فقبر، ونزل في قبره أخوه أبو
الروم وعامر بن ربيعة وسويبطة بن عمرو بن حرملة، ونزل في قبر حمزة علي عليه
السلام والزبير وأبو بكر وعمر ورسول الله صلى الله عليه وآله جالس على حفرته.
قال الواقدي: ثم إن الناس أو عامتهم حملوا قتلاهم إلى المدينة، فدفن بالبقيع منهم
عدة، عند دار زيد بن ثابت، ودفن بعضهم ببني سلمة، فنادى منادى رسول الله صلى الله
عليه وآله: ردوا القتلى إلى مضاجعهم - وكان الناس قد دفنوا قتلاهم - فلم يرد أحد أحدا
منهم إلا رجلا واحدا أدركه المنادي ولم يدفن، وهو شماس بن عثمان المخزومي، كان قد
حمل إلى المدينة وبه رمق، فأدخل على عائشة فقالت أم سلمة: ابن عمى يدخل إلى غيري!
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: احملوه إلى أم سلمة، فحملوه إليها فمات عندها،
فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله أن يرد إلى أحد فيدفن هناك كما هو في ثيابه التي
مات فيها، وكان قد مكث يوما وليلة ولم يذق شيئا، فلم يصل عليه رسول الله صلى الله
عليه وآله ولا غسله.
قال الواقدي: فأما القبور المجتمعة هناك فكثير من الناس يظنها قبور قتلى أحد،
وكان طلحة بن عبيد الله وعباد بن تميم المازني يقولان: هي قبور قوم من الاعراب كانوا
39

عام الرمادة في عهد عمر هناك، فماتوا، فتلك قبورهم. وكان ابن أبي ذئب وعبد العزيز
بن محمد يقولان: لا نعرف تلك القبور المجتمعة، إنما هي قبور ناس من أهل البادية،
قالوا: إنا نعرف قبر حمزة وقبر عبد الله بن حزام وقبر سهل بن قيس، ولا نعرف
غير ذلك.
قال الواقدي: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يزور قتلى أحد في كل حول،
وإذا لقوه بالشعب رفع صوته يقول: السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار!
وكان أبو بكر يفعل مثل ذلك، وكذلك عمر بن الخطاب، ثم عثمان، ثم معاوية، حين يمر
حاجا ومعتمرا.
قال: وكانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله تأتيهم بين اليومين والثلاثة
فتبكي عندهم وتدعو، وكان سعد بن أبي وقاص يذهب إلى ما له بالغابة فيأتي من خلف
قبور الشهداء فيقول: السلام عليكم، ثلاثا، ويقول: لا يسلم عليهم أحد إلا ردوا عليه
السلام إلى يوم القيامة. قال: ومر رسول الله صلى الله عليه وآله على قبر مصعب بن
عمير، فوقف عليه، ودعا وقرا: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه
فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا) (1)، ثم قال: إن هؤلاء
شهداء عند الله يوم القيامة، فأتوهم فزوروهم وسلموا عليهم، والذي نفسي بيده لا يسلم
عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه. وكان أبو سعيد الخدري يقف على قبر حمزة
فيدعو ويقرأ ويقول مثل ذلك. وكانت أم سلمة رحمها الله، تذهب فتسلم عليهم في كل
شهر فتظل يومها، فجاءت يوما ومعها غلامها أنبهان، فلم يسلم، فقالت: أي لكع! ألا
تسلم عليهم! والله لا يسلم عليهم أحد إلا ردوا عليه إلى يوم القيامة.
قال وكان أبو هريرة وعبد الله بن عمر يذهبان فيسلمان عليهم، قالت فاطمة

(1) سورة الأحزاب 23.
40

الخزاعية: سلمت على قبر حمزة يوما ومعي أخت لي، فسمعنا من القبر قائلا يقول:
وعليكما السلام ورحمة الله! قالت: ولم يكن قربنا أحد من الناس.
قال الواقدي: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله من دفنهم دعا بفرسه فركبه،
وخرج المسلمون حوله عامتهم جرحى، ولا مثل بني سلمة وبني عبد الأشهل، فلما كانوا
بأصل الحرة قال: اصطفوا، فاصطفت الرجال صفين وخلفهم النساء وعدتهن أربع
عشرة امرأة، فرفع يديه فدعا، فقال: اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت،
ولا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت،
ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت. اللهم إني أسألك من بركتك ورحمتك
وفضلك وعافيتك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك
الامن يوم الخوف، والغناء يوم الفاقة، عائذا بك، اللهم من شر ما أعطيت، ومن
شر ما منعت، اللهم توفنا مسلمين، اللهم حبب إلينا الايمان، وزينه في قلوبنا، وكره
إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم عذب كفرة أهل
الكتاب الذين يكذبون رسلك، ويصدون عن سبيلك، اللهم أنزل عليهم رجسك
وعذابك إله الحق، آمين.!
قال الواقدي: وأقبل حتى نزل ببني حارثة يمينا حتى طلع على بنى عبد الأشهل
وهم يبكون على قتلاهم، فقال: لكن حمزة لا بواكي له! فخرج النساء ينظرن إلى سلامة رسول الله صلى الله عليه وآله، فخرجت إليه أم عامر الأشهلية، وتركت النوح، فنظرت
إليه وعليه الدرع كما هي، فقالت: كل مصيبة بعدك جلل. وخرجت كبشة بنت عتبة
بن معاوية بن بلحارث بن الخزرج تعدو نحو رسول الله صلى الله عليه وآله وهو واقف
على فرسه، وسعد بن معاذ آخذ بعنان فرسه، فقال سعد: يا رسول الله، أمي، فقال:
مرحبا بها! فدنت حتى تأملته، وقالت: إذ رأيتك سالما فقد شفت (1) المصيبة. فعزاها بعمرو

(1) شفت المصيبة، أي هانت.
41

بن معاذ، ثم قال: يا أم سعد أبشري وبشري أهليهم أن قتلاهم قد ترافقوا في الجنة
جميعا وهم إثنا عشر رجلا، وقد شفعوا في أهليهم، فقالت: رضينا يا رسول الله، ومن
يبكى عليهم بعد هذا! ثم قالت: يا رسول الله، أدع لمن خلفوا، فقال: اللهم أذهب
حزن قلوبهم، وآجر مصيبتهم، وأحسن الخلف على من خلفوا، ثم قال: لسعد بن معاذ:
حل أبا عمرو الدابة فحل، الفرس، وتبعه الناس، فقال: يا أبا عمرو إن الجراح في
أهل دارك فاشية، وليس منهم مجروح إلا يأتي يوم القيامة جرحه كأغزر ما كان، اللون
لون دم، والريح ريح مسك، فمن كان مجروحا فليقر في داره وليداو جرحه، ولا تبلغ
معي بيتي، عزمة منى. فنادى فيهم سعد: عزمة من رسول الله صلى الله عليه وآله ألا يتبعه
جريح من بنى عبد الأشهل، فتخلف كل مجروح، وباتوا يوقدون النيران ويداوون
الجراح، وإن فيهم لثلاثين جريحا، ومضى سعد بن معاذ مع رسول الله صلى الله عليه وآله
إلى بيته، ثم رجع إلى نسائه فساقهن، فلم تبق امرأة إلا جاء بها إلى بيت رسول الله
صلى الله عليه وآله، فبكين بين المغرب والعشاء، وقام رسول الله صلى الله عليه وآله حين
فرغ من النوم لثلث الليل، فسمع البكاء فقال: ما هذا؟ قيل نساء الأنصار يبكين
على حمزة، فقال رضى الله تعالى عنكن وعن أولادكن، وأمر النساء أن يرجعن إلى
منازلهن، قالت أم سعد بن معاذ: فرجعنا إلى بيوتنا بعد ليل ومعنا رجالنا، فما بكت
منا امرأة قط إلا بدأت بحمزة إلى يومنا هذا. ويقال: إن معاذ بن جبل جاء بنساء
بنى سلمة، وجاء عبد الله بن رواحه بنساء بلحارث بن الخزرج، فقال رسول الله
صلى الله عليه وآله: ما أردت هذا، ونهاهن الغد عن النوح أشد النهى.
قال الواقدي: وجعل ابن أبي والمنافقون معه يشمتون ويسرون بما أصاب المسلمين،
ويظهرون أقبح القول، ورجع عبد الله بن أبي إلى ابنه وهو جريح، فبات يكوى
الجراحة بالنار حتى ذهب عامة الليل وأبوه يقول: ما كان خروجك مع محمد إلى هذا
42

الوجه برأيي، عصاني محمد وأطاع الولدان! والله لكأني كنت أنظر إلى هذا، فقال
ابنه: الذي صنع الله لرسوله وللمسلمين خير إن شاء الله. قال: وأظهرت اليهود القول
السيئ، وقالوا: ما محمد إلا طالب ملك، ما أصيب هكذا نبي قط في بدنه وأصيب في
أصحابه، وجعل المنافقون يخذلون (1) عن رسول الله صلى الله عليه وآله وأصحابه ويأمرونهم
بالتفرق عنه، وقالوا لأصحاب النبي صلى الله عليه وآله: لو كان من قتل منكم عندنا ما قتل،
حتى سمع عمر بن الخطاب ذلك في أماكن، فمشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
يستأذنه في قتل من سمع ذلك منهم من اليهود والمنافقين، فقال له: يا عمر، إن الله مظهر
دينه ومعز نبيه، ولليهود ذمة فلا أقتلهم. قال: فهؤلاء المنافقون يا رسول الله يقولون،
فقال: أليس يظهرون شهادة أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله! قال بلى، وإنما يفعلون
تعوذا من السيف، وقد بان لنا أمرهم، وأبدى الله أضغانهم عند هذه النكبة، فقال:
إني نهيت عن قتل من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله يا بن الخطاب، إن قريشا لن
ينالوا ما نالوا منا مثل هذا اليوم حتى نستلم الركن. (2).
وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إخوانكم لما أصيبوا بأحد
جعلت أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة فتأكل من ثمارها، وتأوي إلى
قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مطعمهم ومشربهم ورأوا حسن
منقلبهم قالوا: ليت إخواننا يعلمون بما أكرمنا الله وبما نحن فيه لئلا يزهدوا في الجهاد،
ويكلوا عند الحرب! فقال لهم الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل: (ولا تحسبن الذين
قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) (3).

(1) يخذلون عنه: يمنعون من نصرته.
(2) استلم الركن: قبله أو لمسه بيده.
(3) سدرة آل عمران 169.
43

القول فيما جرى للمشركين بعد انصرافهم إلى مكة
قال الواقدي: حدثني موسى بن شيبة، عن قطن بن وهيب الليثي، قال: لما تحاجز
الفريقان، ووجه قريش إلى مكة، وامتطوا الإبل، وجنبوا الخيل، سار وحشى،
عبد جبير بن مطعم على راحلته أربعا، فقدم مكة يبشر قريشا بمصاب المسلمين، فانتهى
إلى الثنية التي تطلع على الحجون فنادى بأعلى صوته: يا معشر قريش، مرارا حتى
ثاب الناس إليه وهم خائفون أن يأتيهم بما يكرهون، فلما رضى منهم قال: أبشروا فقد
قتلنا من أصحاب محمد مقتلة لم نقتل مثلها في زحف قط، وجرحنا محمدا فأثبتناه بالجراح،
وقتلنا رأس الكتيبة حمزة بن عبد المطلب، فتفرق الناس عنه في كل وجه بالشماتة
بقتل أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وإظهار السرور، وخلا جبير بن مطعم بوحشي،
فقال انظر ما تقول! قال وحشى: قد والله صدقت. قال: قتلت حمزة؟ قال: أي
والله ولقد زرقته بالمزراق (1) في بطنه، فخرج من بين فخذيه، ثم نودي فلم يجب، فأخذت
كبده وحملتها إليك لتراها. فقال: أذهبت حزن نسائنا، وبردت حر قلوبنا، فأمر
يومئذ نسائه بمراجعة الطيب والدهن.
قال الواقدي: وقد كان عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي لما انكشف
المشركون بأحد في أول الأمر، خرج هاربا على وجهه، وكره أن يقدم مكة، فقدم
الطائف، فأخبر ثقيفا أن أصحاب محمد قد ظفروا وانهزمنا، وكنت أول من قدم عليكم،
ثم جاءهم الخبر بعد أن قريشا ظفرت وعادت الدولة لها.
قال الواقدي: فسارت قريش قافلة إلى مكة، فدخلتها ظافرة، فكان ما دخل على
قلوبهم من السرور يومئذ نظير ما دخل عليهم من الكآبة والحزن يوم بدر، وكان ما دخل

(1) المزراق: الرمح القصير، وزرقه، أي رماه.
44

على قلوب المسلمين من الغيظ والحزن يومئذ نظير ما دخل عليهم من السرور والجذل يوم
بدر، كما قال الله تعالى: (وتلك الأيام نداولها بين الناس) (1) وقال سبحانه: (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم)،
قال: يعنى إنكم يوم بدر قتلتم من قريش سبعين، وأسرتم سبعين، وأما يوم أحد فقتل
منكم سبعون، ولم يؤسر منكم أحد، فقد أصبتم قريشا بمثلي ما أصابوكم يوم أحد، وقوله:
(أنى هذا) أي كيف هذا، ونحن موعودون بالنصر ونزول الملائكة، وفينا نبي ينزل
عليه الوحي من السماء! فقال لهم في الجواب: (هو من عند أنفسكم) يعنى الرماة
الذين خالفوا الامر وعصوا الرسول، وإنما كان النصر ونزول الملائكة مشروطا بالطاعة
وألا يعصى أمر الرسول، ألا ترى إلى قوله: (بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من
فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين) فعلقه
على الشرط!
* * *
القول في مقتل أبى عزة الجمحي ومعاوية بن المغيرة بن أبي العاص
ابن أمية بن عبد شمس
قال الواقدي: أما أبو عزة - واسمه عمرو بن عبد الله بن عمير بن وهب بن حذافة
بن جمح - فإن رسول الله صلى الله عليه وآله أخذه أسيرا يوم أحد - ولم يؤخذ يوم أحد
أسير غيره - فقال: يا محمد، من علي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن المؤمن
لا يلدغ من جحر مرتين، لا ترجع إلى مكة تمسح عارضيك، فتقول سخرت بمحمد
مرتين. ثم أمر عاصم بن ثابت فضرب عنقه.

(1) سورة آل عمران 140.
(2) سورة آل عمران 165.
(3) سورة آل عمران 125.
45

قال الواقدي: وقد سمعنا في أسره غير هذا، حدثني بكير بن مسمار، قال: لما انصرف
المشركون عن أحد نزلوا بحمراء الأسد في أول الليل ساعة، ثم رحلوا وتركوا أبا عزة
مكانه حتى ارتفع النهار، فلحقه المسلمون وهو مستنبه يتلدد، وكان الذي أخذه عاصم
بن ثابت، فأمره النبي صلى الله عليه وآله فضرب عنقه.
قلت: وهذه الرواية هي الصحيحة عندي، لان المسلمين لم تكن حالهم يوم أحد
حال من يتهيأ له أسر أحد من المشركين في المعركة لما أصابهم من الوهن.
فأما معاوية بن المغيرة فروى البلاذري أنه هو الذي جدع أنف حمزة ومثل به،
وأنه انهزم يوم أحد فمضى على وجهه، فبات قريبا من المدينة، فلما أصبح دخل المدينة فأتى منزل عثمان بن عفان بن أبي العاص - وهو ابن عمه لحا - فضرب بابه، فقالت،
أم كلثوم زوجته وهي ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله: ليس هو هاهنا، فقال: ابعثي
إليه، فإن له عندي ثمن بعير ابتعته منه عام أول، وقد جئته به فإن لم يجئ ذهبت
فأرسلت إليه، وهو عند رسول الله صلى الله عليه وآله، فلما جاء قال لمعاوية: أهلكتني
وأهلكت (1) نفسك! ما جاء بك؟ قال: يا بن عم، لم يكن أحد أقرب إلى ولا أمس
رحما بي منك، فجئتك لتجيرني، فأدخله عثمان داره وصيره في ناحية منها، ثم خرج إلى
النبي صلى الله عليه وآله ليأخذ له منه أمانا، فسمع رسول الله صلى الله عليه وآله يقول:
إن معاوية في المدينة، وقد أصبح بها فاطلبوه. فقال بعضهم: ما كان ليعدو منزل عثمان،
فاطلبوه به، فدخلوا منزل عثمان فأشارت أم كلثوم إلى الموضع الذي صيره فيه، فاستخرجوه
من تحت حمارة لهم، فانطلقوا به إلى النبي صلى الله عليه وآله، فقال عثمان حين رآه: والذي بعثك بالحق ما جئت إلا لأطلب له الأمان، فهبه لي، فوهبه له، وأجله ثلاثا،

(1) البلاذري: " أهلكتني ونفسك ".
46

وأقسم: لئن وجده بعدها يمشى في أرض المدينة وما حولها ليقتلنه. وخرج عثمان فجهزه
واشترى له بعيرا، ثم قال: ارتحل. وسار رسول الله صلى الله عليه وآله إلى حمراء الأسد
وأقام معاوية إلى اليوم الثالث ليعرف أخبار النبي صلى الله عليه وآله، ويأتي بها قريشا،
فلما كان في اليوم الرابع قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن معاوية أصبح قريبا لم ينفذ،
فاطلبوه. فأصابوه وقد أخطأ الطريق، فأدركوه، وكان اللذان أسرعا في طلبه زيد بن
حارثة وعمار بن ياسر، فوجداه بالجماء (1) فضربه زيد بالسيف، وقال عمار: إن لي فيه
حقا، فرمياه بسهم فقتلاه، ثم انصرفا إلى المدينة بخبره، ويقال: إنه أدرك على ثمانية
أميال من المدينة، فلم يزل زيد وعمار يرميانه بالنبل حتى مات.
قال: ومعاوية هذا أبو عائشة بنت معاوية أم عبد الملك بن مروان.
قال: وذكر الواقدي في كتابه مثل هذه الرواية سواء.
قال البلاذري: وقال ابن الكلبي: إن معاوية بن المغيرة جدع أنف حمزة يوم
أحد وهو قتيل، فأخذ بقرب أحد، فقتل على أحد بعد انصراف قريش بثلاث، ولا عقب
له إلا عائشة أم عبد الملك بن مروان. قال: ويقال إن عليا عليه السلام هو الذي
قتل معاوية بن المغيرة (2).
قلت: ورواية ابن الكلبي عندي أصح، لان هزيمة المشركين كانت في الصدمة الأولى
عقيب قتل بنى عبد الدار أصحاب الألوية، وكان قتل حمزة بعد ذلك لما كر خالد بن
الوليد الخيل من وراء المسلمين، فاختلطوا وانتقض صفهم، وقتل بعضهم بعضا، فكيف
يصح أن يجتمع لمعاوية كونه قد جدع أنف حمزة، وكونه قد انهزم مع المشركين في
الصدمة الأولى! هذا متناقض، لأنه إذا كان قد انهزم في أول الحرب استحال أن يكون

(1) الجماء، تطلق على ثلاثة مواضع بالمدينة.
(2) أنساب الأشراف 1: 337، 338 مع تصرف واختصار.
47

حاضرا عند حمزة حين قتل. والصحيح ما ذكره ابن الكلبي من أنه شهد الحرب كلها،
وجدع أنف حمزة، ثم حصل في أيدي المسلمين بعد انصراف قريش، لأنه تأخر عنهم
لعارض عرض له فأدركه حينه، فقتل.
* * *
القول في مقتل المجذر
بن زياد البلوي والحارث بن سويد بن الصامت
قال الواقدي: كان المجذر بن زياد البلوي حليف بنى عوف بن الخزرج ممن شهد
بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وآله، وكانت له قصة في الجاهلية قبل قدوم النبي صلى الله
عليه وآله المدينة، وذلك أن حضير الكتائب والد أسيد بن حضير، جاء إلى بنى عمرو بن
عوف، فكلم سويد بن الصامت وخوات بن جبير وأبا لبابة بن عبد المنذر - ويقال
سهل بن حنيف - فقال: هل لكم أن تزوروني فأسقيكم شرابا، وأنحر لكم، وتقيمون
عندي أياما! قالوا: نعم، نحن نأتيك يوم كذا، فلما كان ذلك اليوم جاءوه فنحر لهم
جزورا، وسقاهم خمرا، وأقاموا عنده ثلاثة أيام حتى تغير اللحم - وكان سويد بن
الصامت يومئذ شيخا كبيرا - فلما مضت الأيام الثلاثة قالوا: ما نرانا إلا راجعين إلى
أهلنا! فقال حضير: ما أحببتم! إن أحببتم فأقيموا، وإن أحببتم فانصرفوا،
فخرج الفتيان بسويد بن الصامت يحملانه على جمل من الثمل (1)، فمروا لاصقين بالحرة
حتى كانوا قريبا من بنى عيينة (2) فجلس سويد يبول وهو ثمل سكرا، فبصر به
إنسان من الخزرج، فخرج حتى أتى المجذر بن زياد، فقال: هل لك في الغنيمة الباردة!
قال: ما هي؟ قال: سويد بن الصامت، أعزل لا سلاح معه، ثمل، فخرج المجذر بن زياد
بالسيف مصلتا، فلما رآه الفتيان وهما أعزلان لا سلاح معهما وليا، والعداوة بين الأوس

(1) الثمل بفتحتين: أي السكر.
(2) الواقدي: " غصينة ".
48

والخزرج شديدة. فانصرفا مسرعين، وثبت الشيخ ولا حراك به، فوقف المجذر بن زياد،
فقال: قد أمكن الله منك! قال: ما تريد بي؟ قال: قتلك. قال: فارفع عن الطعام،
واخفض عن الدماغ، فإذا رجعت إلى أمك، فقل: إني قتلت سويد بن الصامت. فقتله،
فكان قتله هو الذي هيج وقعة بعاث. فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله المدينة
أسلم الحارث بن سويد بن الصامت، وأسلم المجذر فشهدا بدرا، فجعل الحارث بن سويد
يطلب المجذر في المعركة ليقتله بأبيه، فلا يقدر عليه يومئذ فلما كان يوم أحد وجال
المسلمون تلك الجولة أتاه الحارث من خلفه فضرب عنقه، فرجع رسول الله صلى الله
عليه وآله إلى المدينة، ثم خرج إلى حمراء الأسد، فلما رجع من حمراء الأسد أتاه جبرائيل
عليه السلام، فأخبره أن الحارث بن سويد قتل المجذر غيلة، وأمره بقتله، فركب رسول الله صلى الله عليه وآله إلى قباء في اليوم الذي أخبره جبرائيل في يوم حار - وكان ذلك يوما
لا يركب فيه رسول الله صلى الله عليه وآله إلى قباء، إنما كانت الأيام التي يأتي فيها رسول
الله صلى الله عليه وآله قباء يوم السبت ويوم الاثنين - فلما دخل رسول الله صلى الله عليه
وآله مسجد قباء صلى فيه ما شاء الله أن يصلى، وسمعت الأنصار فجاؤوا يسلمون عليه،
وأنكروا إتيانه تلك الساعة، في ذلك اليوم. فجلس عليه السلام يتحدث ويتصفح الناس
حتى طلع الحارث بن سويد في ملحفة مورسة (1)، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وآله
دعا عويم بن ساعدة فقال له: قدم الحارث بن سويد إلى باب المسجد فاضرب عنقه
بمجذر بن زياد، فإنه قتله يوم أحد، فأخذه عويم، فقال الحارث: دعني أكلم رسول
الله - ورسول الله صلى الله عليه وآله يريد أن يركب، ودعا بحماره إلى باب المسجد -
فجعل الحارث يقول: قد والله قتلته يا رسول الله وما كان قتلي إياه رجوعا عن الاسلام

(1) مورسة: مصبوغة بالورس وهو نبات باليمن معروف.
49

ولا ارتيابا فيه، ولكنه حمية الشيطان، وأمر وكلت فيه إلى نفسي وإني أتوب إلى الله
وإلى رسوله مما عملت، وأخرج ديته وأصوم شهرين متتابعين، وأعتق رقبة، وأطعم
ستين مسكينا، إني أتوب إلى الله يا رسول الله! وجعل يمسك بركاب رسول الله صلى الله
عليه وآله وبنو المجذر حضور، لا يقول لهم رسول الله صلى الله عليه وآله شيئا، حتى إذا
استوعب كلامه قال: قدمه يا عويم فاضرب عنقه. وركب رسول الله صلى الله عليه وآله
فقدمه عويم بن ساعدة على باب المسجد، فضرب عنقه.
قال الواقدي: ويقال: أن الذي أعلم رسول الله قتل الحارث المجذر يوم أحد
حبيب بن يساف، نظر إليه حين قتله، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وآله، فأخبره،
فركب رسول الله صلى الله عليه وآله يتفحص عن هذا الامر، فبينا هو على حماره نزل
جبرائيل عليه السلام، فخبره بذلك، فامر رسول الله صلى الله عليه وآله عويما فضرب
عنقه، ففي ذلك قال حسان:
يا حار في سنة من نوم أولكم * أم كنت ويحك مغترا بجبريل (1).
فأما البلاذري فإنه ذكر هذا، وقال: ويقال: إن الجلاس بن سويد بن الصامت
هو الذي قتل المجذر يوم أحد غيلة، إلا أن شعر حسان يدل على أنه الحارث (2).
قال الواقدي والبلاذري: وكان سويد بن الصامت حين ضربه المجذر بقي قليلا
ثم مات، فقال قبل أن يموت يخاطب أولاده:
أبلغ جلاسا وعبد الله مألكة * وإن دعيت فلا تخذلهما حار

(1) ديوانه 318، وبعده:
أم كنت يا بن ذياد حين تقتله * بغرة في فضاء الله مجهول
وقلتم لن نرى والله مبصركم * وفيكم محكم الآيات والقيل
محمد والعزيز الله يخبره * بما يكن سريرات الأقاويل
(2) أنساب الأشراف 1: 332.
50

اقتل جذارة إذ ما كنت لاقيهم * والحي عوفا على عرف وإنكار
قال البلاذري: جذرة وجذارة أخوان، وهما ابنا عوف بن الحارث بن
الخزرج (1). قلت: هذه الروايات كما ترى وقد ذكر ابن مأكولا في " الاكمال " أن الحارث بن
سويد قتل المجذر غيلة يوم أحد، ثم التحق بمكة كافرا، ذكره في حرف الميم من هذا
الكتاب، وهذا هو الأشبه عندي.
* * *
القول فيمن مات من المسلمين بأحد جملة
قال الواقدي: ذكر سعيد بن المسيب وأبو سعيد الخدري أنه قتل من الأنصار
خاصة أحد وسبعون، وبمثله قال مجاهد.
قال: فأربعة من قريش، وهم حمزة بن عبد المطلب، قتله وحشى، وعبد الله بن
جحش بن رئاب، قتله أبو الحكم بن الأخنس بن شريق، وشماس بن عثمان
بن الشريد من بنى مخزوم، قتله أبي بن خلف، ومصعب بن عمير، قتله
ابن قميئة.
قال: وقد زاد قوم خامسا، وهو سعد مولى حاطب من بنى أسد بن عبد العزى. وقال
قوم أيضا: إن أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي جرح يوم أحد، ومات من تلك الجراحة
بعد أيام.
قال الواقدي: وقال قوم: قتل ابنا الهبيب من بنى سعد بن ليث، وهما عبد الله

(1) أنساب الأشراف 1: 332.
51

وعبد الرحمن ورجلان من بنى مزينة وهما وهب بن قابوس وابن أخيه الحارث بن عتبة
بن قابوس، فيكون جميع من قتل من المسلمين ذلك اليوم نحو أحد وثمانين رجلا، فأما
تفصيل أسماء الأنصار فمذكور في كتب المحدثين، وليس هذا الموضع مكان ذكره.
* * *
القول فيمن قتل من المشركين بأحد
قال الواقدي: قتل من بنى عبد الدار طلحة بن أبي طلحة صاحب لواء قريش،
قتله علي بن أبي طالب عليه السلام مبارزة، وعثمان بن أبي طلحة، قتله حمزة بن عبد المطلب
وأبو سعيد بن أبي طلحة قتله سعد بن أبي وقاص، ومسافع بن طلحة بن أبي طلحة، قتله
عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، وكلاب بن طلحة بن أبي طلحة، قتله الزبير بن العوام
والحارث بن طلحة بن أبي طلحة، قتله عاصم بن ثابت، والجلاس بن طلحة بن أبي طلحة،
قتله طلحة بن عبيد الله، وأرطاة بن عبد شرحبيل، قتله علي بن أبي طالب عليه السلام
وقارظ (1) بن شريح بن عثمان بن عبد الدار - ويروى قاسط بالسين والطاء المهملتين -.
قال الواقدي: لا يدرى من قتله، وقال البلاذري (2): قتله علي بن أبي طالب عليه السلام،
وصواب مولاهم: قتله علي بن أبي طالب عليه السلام - وقيل: قتله قزمان (3) - وأبو عزيز
بن عمير أخو مصعب بن عمير، قتله قزمان، فهؤلاء أحد عشر.
ومن بنى أسد بن عبد العزى عبد الله بن حميد بن زهير بن الحارث بن أسد، قتله
أبو دجانة في رواية الواقدي، وفي رواية محمد بن إسحاق قتله علي بن أبي طالب
عليه السلام. وقال البلاذري: قال ابن الكلبي: إن عبد الله بن حميد قتل يوم بدر

(1) الواقدي: " فارط "، والبلاذري: " قاسط ".
(2) أنساب الأشراف 1: 334.
(3) أنساب الأشراف: " غيره ".
52

ومن بنى زهرة أبو الحكم بن الأخنس بن شريق، قتله علي بن أبي طالب
عليه السلام، وسباع بن عبد العزى الخزاعي - واسم عبد العزى عمر بن نضلة
ابن عباس بن سليم، وهو ابن أم أنمار الحجامة بمكة - قتله حمزة بن عبد المطلب،
فهذان رجلان.
ومن بنى مخزوم أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة، قتله علي عليه السلام، وهشام بن أبي
أمية بن المغيرة، قتله قزمان، والوليد بن العاص بن هشام، قتله قزمان، وخالد بن أعلم
العقيلي، قتله قزمان، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، قتله الحارث بن الصمة
فهؤلاء خمسه.
ومن بنى عامر بن لؤي عبيد بن حاجز، قتله أبو دجانة، وشيبة بن مالك بن المضرب
قتله طلحة بن عبيد الله، وهذان اثنان.
ومن بنى جمح أبي بن خلف، قتله رسول الله صلى الله عليه وآله بيده، وأبو
عزة قتله عاصم بن ثابت صبرا بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله، فهذان اثنان.
ومن بنى عبد مناة بن كنانة خالد بن سفيان بن عويف، وأبو الشعثاء
بن سفيان بن عويف، وأبو الحمراء بن سفيان بن عويف، وغراب بن سفيان
بن عويف، هؤلاء الإخوة الأربعة قتلهم علي بن أبي طالب عليه السلام في رواية
محمد بن حبيب.
فأما الواقدي فلم يذكر في باب من قتل من المشركين بأحد لهم قاتلا معينا، ولكنه
ذكر في كلام آخر قبل هذا الباب أن أبا سبرة بن الحارث بن علقمة قتل أحد بنى سفيان
بن عويف، وأن رشيدا الفارسي مولى بني معاوية لقي آخر من بنى سفيان بن عويف
مقنعا في الحديد وهو يقول: أنا ابن عويف، فيعرض له سعد مولى حاطب فضربه ابن
53

عويف ضربة جزله باثنتين، فأقبل رشيد على ابن عويف فضربه على عاتقه - فقطع الدرع -
حتى جزله اثنتين وقال: خذها وأنا الغلام الفارسي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وهو
يراه ويسمعه: ألا قلت: أنا الغلام الأنصاري! قال: فيعرض لرشيد أخ للمقتول أحد بنى
سفيان بن عويف أيضا، وأقبل يعدو نحوه كأنه كلب، يقول: أنا ابن عويف، ويضربه
رشيد أيضا على رأسه وعليه المغفر، ففلق رأسه، وقال: خذها وأنا الغلام الأنصاري!
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: أحسنت يا أبا عبد الله! فكناه رسول الله
صلى الله عليه وآله يومئذ ولا ولد له.
قلت: فأما البلاذري فلم يذكر لهم قاتلا، ولكنه عدهم في جملة من قتل
من المشركين بأحد، وكذلك ابن إسحاق لم يذكر من قتلهم، فإن صحت رواية الواقدي فعلي عليه السلام
لم يكن قد قتل منهم إلا واحدا، وإن كانت رواية ابن حبيب صحيحة فالأربعة من
قتلاه عليه السلام. وقد رأيت في بعض كتب أبى الحسن المدائني أيضا أن عليا عليه
السلام هو الذي قتل بنى سفيان بن عويف يوم أحد، وروى له شعرا في ذلك.
ومن بنى عبد شمس معاوية بن المغيرة بن أبي العاص، قتله علي عليه السلام في
إحدى الروايات، وقيل: قتله زيد بن حارثة وعمار بن ياسر.
فجميع من قتل من المشركين يوم أحد ثمانية وعشرون، قتل علي عليه السلام منهم
- ما اتفق عليه وما اختلف فيه - اثنى عشر، وهو إلى جمله القتلى كعدة من قتل يوم بدر
إلى جملة القتلى يومئذ، وهو قريب من النصف.
54

القول في خروج النبي صلى الله عليه وآله وبعد انصرافه من أحد
إلى المشركين ليوقع بهم على ما هو به من الوهن
قال الواقدي: بلغ (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المشركين قد عزموا أن يردوا
إلى المدينة فينهبوها، فأحب أن يريهم قوة، فصلى الصبح يوم الأحد لثمان خلون من شوال
ومعه وجوه الأوس والخزرج، وكانوا باتوا تلك الليلة في بابه يحرسونه من البيات، فيهم
سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ، والحباب بن المنذر، وأوس بن خولي، وقتادة بن النعمان
في عدة منهم. فلما انصرف من صلاة الصبح أمر بلالا أن ينادى في الناس، أن رسول الله
صلى الله عليه وآله يأمركم بطلب عدوكم، ولا يخرج معنا إلا من شهد القتال بالأمس،
فخرج سعد بن معاذ راجعا إلى قومه يأمرهم بالمسير، والجراح في الناس فاشية، عامة بنى عبد
الأشهل جريح، بل كلها، فجاء سعد بن معاذ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم
يأمركم أن تطلبوا عدوكم. قال: يقول أسيد بن حضير - وبه سبع جراحات، وهو يريد أن
يداويها: سمعا وطاعة لله ولرسوله! فأخذ سلاحه ولم يعرج على دواء جراحه، ولحق برسول
الله صلى الله عليه وسلم. وجاء سعد بن عبادة قومه بنى ساعدة، فأمرهم بالمسير فلبسوا
ولحقوا، وجاء أبو قتادة أهل خربا، وهم يداوون الجراح، فقال: هذا منادى رسول الله
صلى الله عليه وآله يأمركم بطلب العدو، فوثبوا إلى سلاحهم، ولم يعرجوا على جراحاتهم
فخرج من بنى سلمة أربعون جريحا، بالطفيل بن النعمان ثلاثة عشر جرحا، وبخراش بن
الصمة عشر جراحات، وبكعب بن مالك بضعة عشر جرحا، وبقطبة بن عامر بن خديج
بيده تسع جراحات، حتى وافوا النبي صلى الله عليه وسلم بقبر أبى عتبة، وعليهم السلاح

(1) مغازي الواقدي 325 وما بعدها.
55

وقد صفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما نظر إليهم والجراح فيهم فاشية، قال: اللهم
ارحم بنى سلمة.
قال الواقدي: وحدثني عتبة بن جبيرة عن رجال [من] (1) قومه، أن عبد الله بن
سهل ورافع بن سهل من بنى عبد الأشهل رجعا من أحد وبهما جراح كثيرة وعبد الله
أثقلهما جرحا، فلما أصبحا وجاء سعد بن معاذ قومه يخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه
وآله يأمرهم بطلب العدو، قال أحدهما لصاحبه: والله إن تركنا غزاة مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم لغبن، والله ما عندنا دابة نركبها، ولا ندري كيف نصنع! قال عبد الله
انطلق بنا. قال رافع: لا والله ما بي مشي، قال أخوه: انطلق بنا نقصد ونجوز، وخرجا
يزحفان، فضعف رافع فكان عبد الله يحمله على ظهره عقبة، ويمشي الاخر عقبة، حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العشاء وهم يوقدون النيران، فأتى بهما رسول الله
صلى الله عليه وسلم وعلى حرسه تلك الليلة عباد بن بشر، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم لهما: ما حبسكما؟ فأخبراه بعلتهما فدعا لهما بخير، وقال: إن طالت لكما مدة
كانت لكما مراكب من خيل وبغال وإبل، وليس ذلك بخير لكما.
قال الواقدي: وقال جابر بن عبد الله: يا رسول الله، إن مناديا نادى ألا يخرج
معنا إلا من حضر القتال بالأمس، وقد كنت حريصا بالأمس على الحضور، ولكن
أبي خلفني على أخوات لي، وقال: يا بنى لا ينبغي لك أن تدعهن ولا رجل معهن،
وأخاف عليهن، وهن نسيات ضعاف، وأنا خارج مع رسول الله صلى الله عليه وآله لعل
الله يرزقني الشهادة، فتخلفت عليهن فاستأثر على بالشهادة، وكنت رجوتها فأذن لي
يا رسول الله أن أسير معك. فأذن له رسول الله صلى الله عليه وآله. قال جابر: فلم يخرج
معه أحد لم يشهد القتال بالأمس غيري، واستأذنه رجال لم يحضروا القتال. فأبى ذلك

(1) من الواقدي.
56

عليهم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله بلوائه وهو معقود لم يحل من أمس، فدفعه
إلى علي عليه السلام، ويقال دفعه إلى أبى بكر، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله
وهو مجروح، في وجهه أثر الحلقتين، ومشجوج في جبهته في أصول الشعر، ورباعيته قد
شظيت، وشفته قد كلمت من باطنها، ومنكبه الأيمن موهن بضربة ابن قميئة، وركبتاه
مجحوشتان، فدخل المسجد فصلى ركعتين، والناس قد حشدوا، ونزل أهل العوالي (1) حيث
جاءهم الصريخ (2). ودعا بفرسه على باب المسجد، وتلقاه طلحة بن عبيد الله، وقد سمع
المنادي، فخرج ينظر متى يسير رسول الله صلى الله عليه وآله! فإذا هو وعليه الدرع والمغفر
لا يرى منه إلا عيناه، فقال: يا طلحة سلاحك، قال: قريبا، قال طلحة: فأخرج،
وأعدو فألبس درعي وآخذ سيفي، وأطرح درقتي في صدري، وإن بي لتسع جراحات،
ولأنا أهتم بجراح رسول الله صلى الله عليه وآله مني بجراحي، فأقبل رسول الله صلى الله
عليه وآله على طلحة، فقال: أين ترى القوم الان؟ قال: هم بالسيالة، فقال رسول الله صلى الله
عليه وآله: ذلك الذي ظننت، أما إنهم يا طلحة لن ينالوا منا مثل أمس حتى يفتح الله مكة
علينا، قال: وبعث رسول الله صلى الله عليه وآله ثلاثة نفر من أسلم طليعة في آثار القوم،
فانقطع أحدهم، وانقطع قبال نعل الاخر، ولحق الثالث بقريش وهم بحمراء الأسد، ولهم
زجل (3) يأتمرون (4) في الرجوع إلى المدينة، وصفوان بن أمية ينهاهم عن ذلك، ولحق الذي
انقطع قبال نعله بصاحبه، فبصرت قريش بالرجلين، فعطفت عليهما، فأصابوهما، وانتهى
المسلمون إلى مصرعهما بحمراء الأسد، فقبرهما رسول الله صلى الله عليه وآله في قبر واحد،
فهما القرينان.

(1) العوالي: ضيعة بينها وبين المدينة أربعة أميال.
(2) الصريخ: المغيث.
(3) زجل، أي صوت وجلبة.
(4) يأتمرون: يتشاورون.
57

قال الواقدي: اسماهما سليط ونعمان.
قال الواقدي: قال جابر بن عبد الله: كانت عامة أزوادنا ذلك اليوم التمر، وحمل
سعد بن عبادة ثلاثين بعيرا تمرا حتى وافت حمراء الأسد، وساق جزرا، فنحروا في يوم
ثنتين، وفي يوم ثلاثا، وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله بجمع الحطب، فإذا أمسوا
أمرهم أن يوقدوا النيران: فيوقد كل رجل نارا، فلقد كنا تلك الليلة نوقد خمسمائة نار
حتى نرى من المكان البعيد، وذهب ذكر معسكرنا ونيراننا في كل وجه وكان ذلك
مما كبت الله به عدونا.
قال الواقدي: وجاء معبد بن أبي معبد الخزاعي - وهو يومئذ مشرك - إلى النبي صلى الله عليه وآله، وكانت خزاعة سلما (1) للنبي صلى الله عليه وآله، فقال يا محمد عز علينا
ما أصابك في نفسك، وما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله تعالى أعلى كعبك، وأن
المصيبة كانت بغيرك، ثم مضى معبد حتى يجد أبا سفيان وقريشا بالروحاء (2) وهم يقولون:
لا محمدا أصبتم، ولا الكواعب أردفتم، فبئسما صنعتم! وهم مجمعون على الرجوع إلى
المدينة، ويقول قائلهم فيما بينهم، ما صنعنا شيئا، أصبنا أشرافهم، ثم رجعنا قبل أن
نستأصلهم، وقبل أن يكون لهم وفر، وكان المتكلم بهذا عكرمة بن أبي جهل، فلما جاء
معبد إلى أبي سفيان، قال: هذا معبد، وعنده الخبر، ما وراءك يا معبد؟ قال: تركت
محمدا وأصحابه خلفي يتحرقون عليكم بمثل النيران، وقد اجتمع معه من تخلف عنه بالأمس
من الأوس والخزرج، وتعاهدوا ألا يرجعوا حتى يلحقوكم فيثأروا منكم، وقد غضبوا (3)
لقومهم غضبا شديدا ولمن أصبتم من أشرافهم. قالوا: ويحك ما تقول؟ قال: والله ما أرى

(1) سلما، أي مسالمون.
(2) الروحاء: قطيعة كانت لعدي بن حاتم، على نحو أربعين ميلا من المدينة.
(3) أ الواقدي: " وغضبوا ".
58

أن ترتحلوا حتى تروا نواصي (1) الخيل، ولقد (2) حملني ما رأيت منهم أن قلت
أبياتا، قالوا: وما هي؟ فأنشدهم هذا الشعر:
كادت تهد من الأصوات راحلتي * إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل (3)
تعدو بأسد ضراء لا تنابلة (4) * عند اللقاء ولا ميل معازيل (5)
فقلت ويل ابن حرب من لقائهم * إذا تغطمطت البطحاء بالجيل! (6)
وقد كان صفوان بن أمية رد القوم بكلامه قبل أن يطلع معبد، وقال لهم صفوان:
يا قوم، لا تفعلوا، فإن القوم قد حربوا (7)، وأخشى أن يجمعوا عليكم من تخلف من الخزرج،
فارجعوا والدولة لكم، فإني لا آمن إن رجعتم إليهم أن تكون الدولة عليكم. قال:
فلذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله: أرشدهم صفوان وما كان برشيد، ثم
قال: والذي نفسي بيده لقد سومت لهم الحجارة، ولو رجعوا لكانوا كأمس الذاهب،
قال: فانصرف القوم سراعا خائفين من الطلب لهم، ومر بأبي سفيان قوم من
عبد القيس يريدون المدينة، فقال لهم هل أنتم مبلغو محمد وأصحابه ما أرسلكم به،
على أن أوقر لكم أباعركم زبيبا غدا بعكاظ، إن أنتم جئتموني! قالوا: نعم، قال: حيثما

(1) أ الواقدي: " حتى ترى نواصي الخيل ".
(2) الواقدي: " ثم قال معبد... ".
(3) الأبيات في ابن هشام 3: 54. تهد، أي تسقط من الإعياء. والجرد: الخيل العتاق.
والأبابيل: الجماعات.
(4) ابن هشام: " تردى بأسد كرام ". والتنابلة: القصار.
(5) الميل: جمع أميل، وهو الذي لا رمح له. والمعازيل: جمع معزال، وهو من لا سلاح معه.
(6) تغطمطت: اهتزت واضطربت. والبطحاء: السهل من الأرض. والجيل: الصنف من الناس،
وبعدها في ابن هشام:
إني نذير لأهل البسل ضاحية * لكل ذي إربة منهم ومعقول
من جيش أحمد لا وخش قنابله * وليس يوصف ما أنذرت بالقيل
(7) حربوا، أي غضبوا.
59

لقيتم محمدا وأصحابه فأخبروهم أنا قد أجمعنا الرجعة إليهم، وإنا آثاركم. وانطلق أبو سفيان
إلى مكة، وقدم الركب على النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه بالحمراء فأخبروهم بالذي
أمرهم أبو سفيان، فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، فأنزل ذلك في القرآن، وأرسل معبد
رجلا من خزاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله يعلمه أنه قد انصرف أبو سفيان وأصحابه
خائفين وجلين، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وآله بعد ثلاث إلى المدينة.
60

الفصل الخامس في شرح غزاة مؤتة
نذكرها من كتاب الواقدي - ونزيد على ذلك ما رواه محمد بن إسحاق
في كتابه على عادتنا فيما تقدم
قال الواقدي: حدثني (1) ربيعة بن عثمان، عن عمر بن الحكم، قال: بعث رسول الله
صلى الله عليه وآله الحارث بن عمير الأزدي في سنة ثمان إلى ملك بصرى بكتاب، فلما
نزل مؤتة عرض له شرحبيل بن عمرو الغساني، فقال: أين تريد؟ قال: الشام،
قال: لعلك من رسل محمد. قال: نعم، فأمر به فأوثق رباطا ثم قدمه فضرب عنقه،
ولم يقتل لرسول الله صلى الله عليه وآله رسول غيره، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله
عليه وآله، فاشتد عليه، وندب الناس وأخبرهم بمقتل الحارث، فأسرعوا وخرجوا، فعسكروا
بالجرف، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله الظهر جلس وجلس أصحابه حوله،
وجاء النعمان بن مهض اليهودي فوقف مع الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله:
زيد بن حارثة أمير الناس فان قتل زيد بن حارثة فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب
جعفر فعبد الله بن رواحة، فإن أصيب ابن رواحة فليرتض المسلمون من بينهم رجلا فليجعلوه
عليهم. فقال النعمان بن مهض: يا أبا القاسم، إن كنت نبيا فسيصاب من سميت قليلا
كانوا أو كثيرا، إن الأنبياء في بني إسرائيل كانوا إذا استعملوا الرجل على القوم ثم قالوا
إن أصيب فلان فلو سمى مائة أصيبوا جميعا. ثم جعل اليهودي يقول لزيد بن حارثة:
أعهد فلا ترجع إلى محمد أبدا إن كان نبيا. قال زيد: أشهد أنه نبي صادق فلما أجمعوا

(1) أخبار مؤتة في الواقدي ص 401 وما بعدها، وسيرة ابن هشام 3: 427 وما بعدها.
61

المسير وعقد رسول الله صلى الله عليه وآله لهم اللواء بيده دفعه إلى زيد بن حارثة، وهو
لواء أبيض، ومشى الناس إلى أمراء رسول الله صلى الله عليه وآله يودعونهم ويدعون
لهم وكانوا ثلاثة آلاف، فلما ساروا في معسكرهم ناداهم المسلمون: دفع الله عنكم، وردكم
صالحين سالمين غانمين، فقال عبد الله بن رواحة:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة * وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا (1)
أو طعنة بيدي حران مجهزة * بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا (2)
حتى يقولوا إذا مروا على جدثي * يا أرشد الله من غاز فقد رشدا (3)
قلت: اتفق المحدثون على أن زيد بن حارثة كان هو الأمير الأول، وأنكرت
الشيعة ذلك، وقالوا كان جعفر بن أبي طالب هو الأمير الأول، فإن قتل فزيد بن حارثة،
فإن قتل فعبد الله بن رواحة، ورووا في ذلك روايات، وقد وجدت في الاشعار التي
ذكرها محمد بن إسحاق في كتاب المغازي ما يشهد لقولهم، فمن ذلك ما رواه عن حسان
بن ثابت وهو:
تأوبني ليل بيثرب أعسر * وهم إذا ما نوم الناس مسهر (4)
لذكرى حبيب هيجت لي عبرة * سفوحا وأسباب البكاء التذكر
بلى إن فقدان الحبيب بلية (5) * وكم من كريم يبتلى ثم يصبر!
فلا يبعدن الله قتلى تتابعوا * بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر
وزيد وعبد الله حين تتابعوا * جميعا وأسياف المنية تخطر

(1) سيرة ابن هشام 3: 429. ذات فرغ، أي واسعة، والزبد، أصله ما يعلو الماء إذا غلا،
وأراد هنا ما يعلو الدم الذي ينفجر من الطعنة.
(2) مجهزة: سريعة القتل، وتنفذ الأحشاء: تخرقها وتصل إليها.
(3) ابن هشام: " وقد ".
(4) ديوانه 179 - 181، وسيرة ابن هشام 3: 440 - 442. تأوبني: عاودني ورجع إلي،
ومسهر: داع إلى السهر.
(5) الديوان: " بلاء وفقدان الحبيب ".
62

رأيت خيار المؤمنين تواردوا * شعوب وخلق بعدهم يتأخر (1)
غداة غدوا بالمؤمنين يقودهم * إلى الموت ميمون النقيبة أزهر
أغر كضوء البدر من آل هاشم * أبي إذا سيم الظلامة أصعر (2)
فطاعن حتى مال غير موسد * بمعترك فيه القنا متكسر
فصار مع المستشهدين ثوابه * جنان وملتف الحدائق أخضر
وكنا نرى في جعفر من محمد * وقارا وأمرا حازما حين يأمر
وما زال في الاسلام من آل هاشم * دعائم صدق لا ترام ومفخر
هم جبل الاسلام والناس حولهم * رضام إلى طور يطول ويقهر
بهاليل منهم جعفر وابن أمه * * علي ومنهم أحمد المتخير
وحمزة والعباس منهم ومنهم * عقيل وماء العود من حيث يعصر
بهم تفرج الغماء من كل مأزق * عماس إذا ما ضاق بالناس مصدر
هم أولياء الله أنزل حكمه * عليهم وفيهم والكتاب المطهر
ومنها قول كعب بن مالك الأنصاري من قصيدة أولها (3):
نام العيون ودمع عينك يهمل * سحا كما وكف الرباب المسبل (4)
وجدا على النفر الذين تتابعوا * قتلى بمؤتة أسندوا لم ينقلوا
ساروا أمام المسلمين كأنهم * طود يقودهم الهزبر المشبل (5)
إذ يهتدون بجعفر ولوائه * قدام أولهم ونعم الأول
حتى تقوضت الصفوف وجعفر * حيث التقى جمع الغواة مجدل (6)

(1) شعوب: من أسماء المنية.
(2) ابن هشام والديوان: " محسر ".
(3) سيرة ابن هشام 3: 442 - 445، برواية مخالفة.
(4) الرباب: السحاب، والمسبل: المنصب، وفي ابن هشام: " الطباب المخضل ".
(5) المشبل: ذو الشبل، والشبل: ولد الأسد.
(6) مجدل: مطروح على الجدالة، وهي الأرض. وفي ابن هشام: " وعث الصفوف مجدل ".
63

فتغير القمر المنير لفقده * والشمس قد كسفت (1) وكادت تأفل
قوم علا بنيانهم من هاشم * فرع أشم وسؤدد متأثل (2)
قوم بهم عصم الاله عباده * وعليهم نزل الكتاب المنزل
فضلوا المعاشر عفة وتكرما * وتعمدت أخلاقهم من يجهل (3)
قال الواقدي: فحدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن
رافع بن إسحاق، عن زيد بن أرقم أن رسول الله صلى الله عليه وآله خطبهم فأوصاهم
فقال: أوصيكم بتقوى الله وبمن معكم من المسلمين خيرا، اغزوا باسم الله وفي سبيل الله،
قاتلوا من كفر بالله، لا تغدروا ولا تغلوا ولا تقتلوا وليدا، وإذا لقيت عدوك من
المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث: فأيتهن أجابوك إليها فاقبل منهم، واكفف
عنهم، ادعهم إلى الدخول في الاسلام، فإن فعلوا فاقبل واكفف. ثم ادعهم إلى التحول
من دارهم إلى المهاجرين. فإن فعلوا فأخبرهم أن لهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على
المهاجرين. وإن دخلوا في الاسلام واختاروا دارهم فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين،
يجرى عليهم حكم الله، ولا يكون لهم في الفئ ولا في الغنيمة شئ، إلا أن يجاهدوا
مع المسلمين، فان أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية فإن فعلوا فاقبل منهم واكفف عنهم،
فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم، وإن أنت حاصرت أهل حصن أو مدينة فأرادوا أن
تستنزلهم على حكم الله فلا تستنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدرى
أتصيب حكم الله فيهم أم لا! وإن حاصرت أهل حصن أو مدينة وأرادوا أن تجعل لهم
ذمة الله وذمة رسول الله فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة رسول الله، ولكن اجعل لهم ذمتك
وذمة أبيك وأصحابك، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم آبائكم خير لكم من أن تخفروا
ذمة الله وذمة رسوله.

(1) في ب " كاسفة "، وهو مستقيم الوزن أيضا.
(2) ابن هشام: " ما يثقل ".
(3) ابن هشام: " وتغمدت أحلامهم ".
64

قال الواقدي: وحدثني أبو صفوان، عن خالد بن يزيد، قال: خرج النبي صلى
الله عليه وآله مشيعا لأهل مؤتة حتى بلغ ثنية الوداع، فوقف ووقفوا حوله، فقال: اغزوا
بسم الله، فقاتلوا عدو الله وعدوكم بالشام، وستجدون فيها رجالا في الصوامع معتزلين
الناس، فلا تعرضوا لهم، وستجدون آخرين للشيطان في رؤوسهم مفاحص، فاقلعوها
بالسيوف، ولا تقتلن امرأة، ولا صغيرا ضرعا (1) ولا كبيرا فانيا، ولا تقطعن نخلا
ولا شجرا، ولا تهدمن بناء.
قال الواقدي: فلما دعا ودع عبد الله بن رواحة رسول الله صلى الله عليه وآله قال له:
مرني بشئ أحفظه عنك، قال إنك قادم غدا بلدا، السجود فيه قليل، فأكثروا
السجود. فقال عبد الله: زدني يا رسول الله، قال: أذكر الله، فإنه عون لك على ما تطلب.
فقام من عنده حتى إذا مضى ذاهبا رجع فقال: يا رسول الله، إن الله وتر يحب الوتر،
فقال: يا بن رواحة: ما عجزت فلا تعجز إن أسأت عشرا أن تحسن واحدة. فقال ابن
رواحة: لا أسألك عن شئ بعدها.
وروى محمد بن إسحاق أن عبد الله بن رواحة ودع رسول الله صلى الله عليه وآله
بشعر منه:
فثبت الله ما آتاك من حسن * تثبيت موسى ونصرا كالذي نصروا
إني تفرست فيك الخير نافلة * فراسة خالفتهم في الذي نظروا
أنت الرسول فمن يحرم نوافله * والبشر منه فقد أودى به القدر
قال محمد بن إسحاق: فلما ودع المسلمين بكى، فقالوا له: ما يبكيك يا عبد الله؟
قال: والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة إليها، ولكني سمعت رسول الله صلى الله

(1) الضرع: الصغير من كل شئ.
65

عليه وآله يقرأ: (وإن منكم إلا واردها)، (1) فلست أدرى كيف لي بالصدر بعد
الورود (2)!
قال الواقدي: وكان زيد بن أرقم يحدث، قال: كنت يتيما في حجر عبد الله بن
رواحة، فلم أر والي يتيم كان خيرا لي منه، خرجت معه في وجهه إلى مؤتة وصب
بي وصببت به، فكان يردفني خلف رحله، فقال ذات ليلة وهو على راحلته بين
شعبتي رحله:
إذا بلغتني وحملت رحلي * مسافة أربع بعد الحساء (3)
فشأنك فانعمي وخلاك ذم * ولا أرجع إلى أهلي ورائي
وآب المسلمون وخلفوني * بأرض الشام مشتهر الثواء
وزودني الأقارب من دعاء * إلى الرحمن وانقطع الإخاء
هنالك لا أبالي طلع نخل * ولا نخل أسافلها رواء (5)
فلما سمعت منه هذا الشعر بكيت: فخفقني بالدرة وقال: وما عليك يا لكع أن
يرزقني الله الشهادة فأستريح من الدنيا ونصبها، وهمومها وأحزانها وأحداثها، وترجع
أنت بين شعبتي الرحل.
قال الواقدي: ومضى المسلمون فنزلوا وادي القرى فأقاموا به أياما، وساروا حتى
نزلوا بمؤتة، وبلغهم أن هرقل ملك الروم قد نزل ماء من مياه البلقاء في بكر وبهراء
ولخم وجذام وغيرهم مائه الف مقاتل، وعليهم رجل من بلي، فأقام المسلمون ليلتين ينظرون

(1) سورة مريم: 71.
(2) سيرة ابن هشام 3: 428، 429.
(3) سيرة ابن هشام 3: 432.
(4) ولا أرجع، جزم الفعل على الدعاء، يدعو على نفسة بأن يستشهد في هذه الوقعة ولا يرجع لأهله
(5) في البيت إقواء.
66

في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فنخبره الخبر، فأما أن
يردنا أو يزيدنا رجالا، فبينا الناس على ذلك من أمرهم جاءهم عبد الله بن رواحة
فشجعهم، وقال: والله ما كنا نقاتل الناس بكثرة عدة ولا كثرة سلاح ولا كثرة
خيل، إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، انطلقوا فقاتلوا، فقد والله رأينا يوم بدر،
وما معنا إلا فرسان، أنما هي إحدى الحسنيين: إما الظهور عليهم فذاك ما وعدنا
الله ورسوله، وليس لوعده خلف، وإما الشهادة فنلحق بالإخوان، نرافقهم في الجنان.
فشجع الناس على قول ابن رواحة.
قال الواقدي: وروى أبو هريرة قال: شهدت مؤتة فلما رأينا المشركين رأينا
ما لا قبل لنا به من العدد والسلاح والكراع والديباج والحرير والذهب، فبرق
بصري، فقال لي ثابت بن أرقم: ما لك يا أبا هريرة، كأنك ترى جموعا كثيرة! قلت:
نعم، قال: لم تشهدنا ببدر، إنا لم ننصر بالكثرة.
قال الواقدي: فالتقى القوم، فأخذ اللواء زيد بن حارثة، فقاتل حتى قتل،
طعنوه بالرماح، ثم أخذه جعفر فنزل عن فرس له شقراء فعرقبها، ثم قاتل حتى قتل.
قال الواقدي: قيل إنه ضربه رجل من الروم فقطعه نصفين، فوقع أحد نصفيه في
كرم هناك، فوجد فيه ثلاثون أو بضع وثلاثون جرحا.
قال الواقدي: وقد روى نافع عن ابن عمر أنه وجد في بدن جعفر بن أبي طالب
اثنتان وسبعون ضربة وطعنة بالسيوف والرماح.
قال البلاذري: قطعت يداه ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " لقد
أبدله الله بهما جناحين يطير بهما في الجنة "، ولذلك سمي الطيار.
قال الواقدي: ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة فنكل يسيرا، ثم حمل فقاتل
67

حتى قتل، فلما قتل انهزم المسلمون أسوأ هزيمة كانت في كل وجه، ثم تراجعوا،
فأخذ اللواء ثابت بن أرقم، وجعل يصيح بالأنصار، فثاب إليه منهم قليل، فقال
لخالد بن الوليد: خذ اللواء يا أبا سليمان، قال خالد: لا بل خذه أنت فلك سن، وقد
شهدت بدرا. قال ثابت: خذه أيها الرجل، فوالله ما أخذته إلا لك. فأخذه خالد
وحمل به ساعة، وجعل المشركون يحملون عليه حتى دهمه منهم بشر كثير، فانحاز
بالمسلمين، وانكشفوا راجعين.
قال الواقدي: وقد روي أن خالدا ثبت بالناس فلم ينهزموا، والصحيح أن
خالدا انهزم بالناس.
قال الواقدي: حدثني محمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة، أن النبي صلى الله
عليه وآله لما التقى الناس بمؤتة جلس على المنبر، وكشف له ما بينه وبين الشام، فهو ينظر
إلى معركتهم، فقال أخذ الراية زيد بن حارثة، فجاءه الشيطان فحبب إليه الحياة،
وكره إليه الموت، وحبب إليه الدنيا، فقال: الان حين استحكم الايمان في قلوب المؤمنين
تحبب إلي الدنيا! فمضى قدما حتى استشهد، ثم صلى عليه، وقال: استغفروا له فقد دخل
الجنة وهو يسعى، ثم أخذ الراية جعفر بن أبي طالب، فجاءه الشيطان فمناه الحياة وكره
إليه الموت، ومناه الدنيا، فقال: الان حين استحكم الايمان في قلوب المؤمنين تتمنى
الدنيا! ثم مضى قدما حتى استشهد فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله ودعا له،
ثم قال: استغفروا لأخيكم فإنه شهيد قد دخل الجنة، فهو يطير فيها بجناحين من
ياقوت حيث شاء. ثم قال: أخذ الراية عبد الله بن رواحة، ثم دخل معترضا فشق
ذلك على الأنصار، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: أصابته الجراح. قيل يا رسول
الله، فما اعتراضه؟ قال: لما أصابته الجراح نكل فعاتب نفسه فشجع فاستشهد، فدخل
الجنة فسرى عن قومه.
68

وروى محمد بن إسحاق (1) قال: لما ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله زيدا
وجعفرا سكت عن عبد الله بن رواحة حتى تغيرت وجوه الأنصار، وظنوا أنه قد كان
من عبد الله بعض ما يكرهون، ثم قال: أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل
شهيدا، ثم قال: لقد رفعوا لي في الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب فرأيت في
سرير ابن رواحه ازورارا عن سريري صاحبيه، فقلت لم هذا؟ فقيل لأنهما مضيا،
وتردد هذا بعض التردد، ثم مضى.
قال: وروى محمد بن إسحاق أنه لما أخذ جعفر بن أبي طالب الراية قاتل قتالا
شديدا حتى إذا لحمه القتال اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها، ثم قاتل القوم حتى
قتل (2)، فكان جعفر رضي الله عنه أول رجل عقر فرسه في الاسلام.
قال محمد بن إسحاق: ولما أخذ ابن رواحة الراية جعل يتردد بعض التردد،
ويستقدم نفسه يستنزلها (3)، وقال:
أقسمت يا نفس لتنزلنه * طوعا وإلا سوف تكرهنه
ما لي أراك تكرهين الجنة * إذ أجلب الناس وشدوا الرنة (4)
قد طالما قد كنت مطمئنة * هل أنت إلا نطفة في شنه. (5)
ثم ارتجز أيضا فقال:
يا نفس إلا تقتلي تموتي * هذا حمام الموت قد صليت

(1) سيرة ابن هشام 3: 436.
(2) بعدها في ابن هشام 3: 434، وهو يقول:
يا حبذا الجنة واقترابها * طيبة وباردا شرابها
والروم روم قد دنا عذابها * كافرة بعيدة أنسابها
* علي إذ لاقيتها ضرابها *
(3) ابن هشام: " يستنزل نفسه ".
(4) أجلب الناس: اختلطت أصواتهم وضجوا.
(5) النطفة: القليل من الماء الصافي. والشنة: القربة الخلق.
69

وما تمنيت فقد أعطيت * إن تفعلي فعلهما هديت
* وإن تأخرت فقد شقيت *
ثم نزل عن فرسه فقاتل، فأتاه ابن عم له ببضعة من لحم، فقال اشدد بهذا
صلبك. فأخذها من يده فانتهش (1) منها نهشة ثم سمع الحطمة (2) في ناحية من الناس،
فقال: وأنت يا بن رواحة في الدنيا! ثم ألقاها من يده وأخذ سيفه، فتقدم فقاتل
حتى قتل (3).
قال الواقدي: حدثني داود بن سنان، قال: سمعت ثعلبة بن أبي مالك يقول:
انكشف خالد بن الوليد يومئذ بالناس حتى عيروا بالفرار، وتشاءم الناس به.
قال: وروى أبو سعيد الخدري، قال: أقبل خالد بالناس منهزمين، فلما سمع
أهل المدينة بهم تلقوهم بالجرف، فجعلوا يحثون في وجوههم التراب ويقولون: يا فرار،
أفررتم في سبيل الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ليسوا بالفرار، ولكنهم
كرار، إن شاء الله.
قال الواقدي: وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: ما لقي جيش بعثوا مبعثا
ما لقي أصحاب مؤتة من أهل المدينة، لقوهم بالشر، حتى أن الرجل ينصرف إلى بيته
وأهله فيدق عليهم فيأبون أن يفتحوا له يقولون: ألا تقدمت مع أصحابك فقتلت،
وجلس الكبراء منهم في بيوتهم استحياء من الناس، حتى أرسل النبي صلى الله عليه وآله
رجلا، يقول لهم: أنتم الكرار في سبيل الله. فخرجوا.
قال الواقدي: فحدثني مالك بن أبي الرجال عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن
أم جعفر بنت محمد بن جعفر، عن جدتها أسماء بنت عميس، قالت: أصبحت في اليوم
الذي أصيب فيه جعفر وأصحابه، فأتاني رسول الله صلى الله عليه وآله وقد منأت أربعين
منا من أدم وعجنت عجيني، وأخذت بنى، فغسلت وجوههم ودهنتهم، فدخلت على

(1) انتهش منها: أخذ بفمه يسيرا.
(2) الحطمة: زحام الناس.
(3) يسيرة ابن هشام 3: 434، 435.
70

رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال: يا أسماء، أين بنو جعفر؟ فجئت بهم إليه، فضمهم وشمهم،
ثم ذرفت عيناه، فبكى، فقلت: يا رسول الله، لعله بلغك عن جعفر شئ! قال: نعم، إنه
قتل اليوم، فقمت أصيح، واجتمع إلى النساء، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
يا أسماء، لا تقولي هجرا، ولا تضربي صدرا، ثم خرج حتى دخل على ابنته فاطمة رضي الله عنها
، وهي تقول: وا عماه! فقال: على مثل جعفر فلتبك الباكية. ثم قال: اصنعوا
لآل جعفر طعاما، فقد شغلوا عن أنفسهم اليوم.
قال الواقدي: وحدثني محمد بن مسلم، عن يحيى بن أبي يعلى، قال: سمعت عبد الله
بن جعفر يقول: أنا أحفظ حين دخل النبي صلى الله عليه وآله على أمي، فنعى إليها أبى،
فأنظر إليه وهو يمسح على رأسي ورأس أخي، وعيناه تهراقان بالدمع حتى قطرت لحيته،
ثم قال: اللهم إن جعفرا قدم إلى أحسن الثواب، فاخلفه في ذريته بأحسن ما خلفت
أحدا من عبادك في ذريته، ثم قال: يا أسماء، ألا أبشرك؟ قالت: بلى بأبي وأمي. قال:
فإن الله جعل لجعفر جناحين يطير بهما في الجنة، قالت: بأبي وأمي، فأعلم الناس ذلك!
فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وأخذ بيدي يمسح بيده رأسي حتى رقي على المنبر
وأجلسني أمامه على الدرجة السفلى، وإن الحزن ليعرف عليه، فتكلم فقال: إن المرء
كثير بأخيه وابن عمه، ألا إن جعفرا قد استشهد وقد جعل الله له جناحين يطير بهما في
الجنة. ثم نزل، فدخل بيته وأدخلني، وأمر بطعام فصنع لنا، وأرسل إلى أخي فتغدينا
عنده غداء طيبا، عمدت سلمى خادمته إلى شعير فطحنته، ثم نشفته، ثم أنضجته
وآدمته بزيت، وجعلت عليه فلفلا، فتغديت أنا وأخي معه، وأقمنا عنده ثلاثة أيام
ندور معه في بيوت نسائه، ثم أرجعنا إلى بيتنا، وأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد
ذلك وأنا أساوم في شاة، فقال اللهم بارك له في صفقته، فوالله ما بعت شيئا ولا اشتريت
إلا بورك فيه.
71

[فصل في ذكر بعض مناقب جعفر بن أبي طالب]
روى أبو الفرج الأصفهاني في كتاب " مقاتل الطالبيين " أن كنية جعفر بن أبي طالب
أبو المساكين، وقال وكان ثالث الإخوة من ولد أبى طالب، أكبرهم طالب، وبعده
عقيل، وبعده جعفر، وبعده على، وكل واحد منهم أكبر من الاخر بعشر سنين، [وعلي
أصغرهم سنا] (1)، وأمهم جميعا فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف (2).
وهي أول هاشمية ولدت لهاشمي، وفضلها كثير وقربها من رسول الله صلى الله
عليه وآله وتعظيمه لها معلوم عند أهل الحديث.
وروى أبو الفرج: لجعفر رضي الله عنه فضل كثير. وقد ورد فيه حديث كثير،
من ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح خيبر قدم جعفر بن أبي طالب من
الحبشة، فالتزمه (3) رسول الله صلى الله عليه وآله وجعل يقبل بين عينيه ويقول: ما أدرى
بأيهما أنا أشد فرحا! بقدوم جعفر، أم بفتح خيبر!
قال: وقد روى خالد الحذاء، عن عكرمة، عن أبي هريرة أنه قال: ما ركب
المطايا، ولا ركب الكور (4)، ولا انتعل، ولا احتذى النعال أحد بعد رسول الله صلى الله
عليه وآله أفضل من جعفر بن أبي طالب.
قال: وقد روى عطية، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله،
خير الناس حمزة وجعفر وعلي.
وقد روى جعفر بن محمد عن أبيه عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: خلق
الناس من أشجار شتى، وخلقت أنا وجعفر من شجرة واحدة - أو قال - من طينة واحدة.

(1) من مقاتل الطالبيين.
(2) مقاتل الطالبيين 6، 7 مع تصرف.
(3) التزمه: اعتنقه.
(4) الكور (بضم الكاف): الرحل بأداته.
72

قال: وبالاسناد قال رسول الله صلى الله عليه وآله لجعفر: أنت أشبهت خلقي
وخلقي.
قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب " الاستيعاب " كانت سن جعفر عليه السلام
يوم قتل إحدى وأربعين سنة.
قال أبو عمر: وقد روى ابن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: مثل لي
جعفر وزيد وعبد الله في خيمة من در، كل واحد منهم على سرير فرأيت زيدا وابن
رواحة في أعناقهما صدودا، ورأيت جعفرا مستقيما ليس فيه صدود، فسألت فقيل لي:
إنهما حين غشيهما الموت أعرضا وصدا بوجهيهما، وأما جعفر فلم يفعل.
قال أبو عمر أيضا: وروي عن الشعبي، قال: سمعت عبد الله بن جعفر يقول: كنت
إذا سألت عمي عليا عليه السلام شيئا ويمنعني، أقول له: بحق جعفر، فيعطيني (1).
وروى أبو عمر أيضا في حرف الزاي في باب زيد بن حارثة، أن رسول الله صلى الله
عليه آله لما أتاه قتل جعفر وزيد بمؤتة بكى، وقال: أخواي ومؤنساي ومحدثاي (2).
* * *
واعلم أن هذه الكلمات التي ذكرها الرضى رحمة الله عليه ملتقطة من كتابه عليه
السلام الذي كتبه جوابا عن كتاب معاوية النافذ إليه مع أبي مسلم الخولاني وقد ذكره
أهل السيرة في كتبهم، روى نصر بن مزاحم في كتاب " صفين " عن عمر بن سعد
عن أبي ورقاء، قال: جاء أبو مسلم الخولاني في ناس من قراء أهل الشام إلى معاوية قبل
مسير أمير المؤمنين عليه السلام إلى صفين فقالوا له: يا معاوية، علام تقاتل عليا وليس لك

(1) الاستيعاب 81، 82.
(2) الاستيعاب 191.
73

مثل صحبته ولا هجرته ولا قرابته ولا سابقته! فقال: (1 إني لا أدعي أن لي في الاسلام
مثل صحبته ولا مثل هجرته ولا قرابته 1)، ولكن خبروني عنكم، ألستم تعلمون أن
عثمان قتل مظلوما! قالوا: بلى، قال: فليدفع إلينا قتلته لنقتلهم به، ولا قتال بيننا وبينه،
قالا: فاكتب إليه كتابا يأته به بعضنا، فكتب مع أبي مسلم الخولاني:
من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله
الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإن الله اصطفى محمدا بعلمه، وجعله الأمين على وحيه،
والرسول إلى خلقه، واجتبى له من المسلمين أعوانا أيده الله تعالى بهم، فكانوا في
منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الاسلام، فكان أفضلهم في الاسلام، وأنصحهم لله
ورسوله الخليفة من بعده، ثم خليفة خليفته من بعد خليفته، ثم الثالث الخليفة المظلوم
عثمان، فكلهم حسدت، وعلى كلهم بغيت، عرفنا ذلك في نظرك الشزر، وقولك
الهجر، وتنفسك (2) الصعداء، وإبطائك عن الخلفاء، تقاد إلى كل منهم كما يقاد الفحل
المخشوش (3) حتى تبايع وأنت كاره، ثم لم تكن لأحد منهم بأعظم حسدا منك لابن
عمك عثمان، وكان أحقهم ألا تفعل ذلك في قرابته وصهره، فقطعت رحمه، وقبحت
محاسنه، وألبت (4) الناس عليه، وبطنت وظهرت حتى ضربت إليه آباط الإبل،
وقيدت إليه الإبل العراب، وحمل عليه السلاح في حرم رسول الله صلى الله عليه وآله،
فقتل معك في المحلة وأنت تسمع في داره الهائعة (5)، لا تردع الظن والتهمة عن نفسك
بقول ولا عمل. وأقسم قسما صادقا لو قمت فيما كان من أمره مقاما واحدا تنهنه الناس

(1 - 1) صفين: " ما أقاتل عليا وأنا أدعي في الاسلام مثل صحبته ولا هجرته ولا سابقته ".
(2) صفين: " وفي تنفسك ".
(3) المخشوش: الذي جعل في عظم أنفه الخشاش، وهو بالكسر عويد يجعل في أنف البعير يشد به
الزمام ليكون أسرع في انقياده ".
(4) ألبت الناس: جمعتهم عليه.
(5) الهائعة: الصوت الشديد.
74

عنه، ما عدل بك من قبلنا من الناس أحدا، ولمحا ذلك عندهم ما كانوا يعرفونك به من
المجانبة لعثمان والبغي عليه، وأخرى أنت بها عند أنصار عثمان ظنين (1) إيواؤك قتلة
عثمان، فهم عضدك وأنصارك، ويدك وبطانتك، وقد ذكر لي أنك تتنصل من دمه،
فإن كنت صادقا فأمكنا من قتلته نقتلهم به، ونحن أسرع الناس إليك، وإلا فإنه
ليس لك ولأصحابك إلا السيف، والذي لا إله إلا هو لنطلبن قتلة عثمان في الجبال
والرمال، والبر والبحر، حتى يقتلهم الله أو لتلحقن أرواحنا بالله والسلام (2).
قال نصر، فلما قدم أبو مسلم على علي عليه السلام بهذا الكتاب، قام فحمد الله
وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإنك قد قمت بأمر وليته ووالله ما أحب أنه لغيرك. إن
أعطيت الحق من نفسك. إن عثمان قتل مسلما محرما مظلوما، فادفع إلينا قتلته، وأنت
أميرنا، فإن خالفك من الناس أحد كانت أيدينا لك ناصرة، وألسنتنا لك شاهدة،
وكنت ذا عذر وحجة. فقال له علي عليه السلام: أغد على غدا، فخذ جواب كتابك
فانصرف، ثم رجع من غد ليأخذ جواب كتابه، فوجد الناس قد بلغهم الذي جاء فيه
قبل، فلبست الشيعة أسلحتها ثم غدوا فملئوا المسجد، فنادوا كلنا قتلة عثمان، وأكثروا من
النداء بذلك وأذن لأبي مسلم، فدخل فدفع علي عليه السلام جواب كتاب معاوية،
فقال أبو مسلم: لقد رأيت قوما ما لك معهم أمر، قال: وما ذاك؟ قال بلغ القوم أنك
تريد أن تدفع إلينا قتلة عثمان فضجوا، واجتمعوا، ولبسوا السلاح، وزعموا أنهم قتلة
عثمان. فقال علي عليه السلام، والله ما أردت أن أدفعهم إليكم طرفة عين قط، لقد
ضربت هذا الامر أنفه وعينه، فما رأيته ينبغي لي أن أدفعهم إليك، ولا إلى غيرك. فخرج
أبو مسلم بالكتاب وهو يقول الان طاب الضراب!

(1) ظنين: متهم.
(2) صفين 97، 98.
75

وكان جواب علي عليه السلام: من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي
سفيان.
أما بعد، فإن أخا خولان قدم علي بكتاب منك تذكر فيه محمدا صلى الله عليه وآله
وما أنعم الله به عليه من الهدى والوحي، فالحمد لله الذي صدقه الوعد، وأيده (1) بالنصر،
ومكن له في البلاد، وأظهره على أهل العداوة (2) والشنآن من قومه الذين وثبوا عليه،
وشنفوا له (3)، وأظهروا تكذيبه (4)، وبارزوه بالعداوة، وظاهروا على إخراجه وعلى
إخراج أصحابه وأهله، وألبوا عليه [العرب، وجادلوهم على حربه] (5)، وجهدوا في أمره
كل الجهد، وقلبوا له الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون، وكان أشد الناس عليه تأليبا (6)
وتحريضا أسرته، والأدنى فالأدنى من قومه، إلا من عصم الله.
وذكرت أن الله تعالى اجتبى له من المسلمين أعوانا أيده الله بهم، فكانوا في منازلهم
عنده على قدر فضائلهم في الاسلام، فكان أفضلهم - زعمت - في الاسلام، وأنصحهم
لله ولرسوله الخليفة وخليفة الخليفة، ولعمري إن مكانهما في الاسلام لعظيم، وإن المصاب
بهما لجرح في الاسلام شديد، فرحمهما الله وجزاهما أحسن ما عملا! وذكرت أن عثمان كان
في الفضل تاليا، فإن يك عثمان محسنا فسيجزيه الله بإحسانه، وإن يك مسيئا فسيلقى
ربا غفورا لا يتعاظمه ذنب إن يغفره، ولعمري إني لأرجو إذا أعطى الله الناس على قدر
فضائلهم في الاسلام ونصيحتهم لله ولرسوله، أن يكون نصيبنا في ذلك الأوفر. إن محمدا
صلى الله عليه وآله لما دعا إلى الايمان بالله والتوحيد له كنا أهل البيت أول من آمن به
وصدقه فيما جاء، فبتنا أحوالا كاملة مجرمة (7) تامة، وما يعبد الله في ربع ساكن من

(1) صفين: " وتمم له النصر ".
(2) صفين: " العداء " وهو يوافق ما في أ.
(3) شنف له، أي أبغضه.
(4) صفين: " التكذيب ".
(5) من صفين.
(6) صفين: " إلبا ".
(7) مجرمة، أي كاملة.
76

العرب غيرنا، فأراد قومنا قتل نبينا، واجتياح أصلنا، وهموا بنا الهموم، وفعلوا بنا
الأفاعيل، ومنعونا الميرة (1) وأمسكوا عنا العذب، وأحلسونا الخوف (2). وجعلوا
علينا الأرصاد والعيون، واضطرونا إلى جبل وعر، وأوقدوا لنا نار الحرب، وكتبوا بينهم
كتابا، لا يؤاكلوننا، ولا يشاربوننا، ولا يناكحوننا، ولا يبايعوننا، ولا نأمن منهم
حتى ندفع إليهم محمدا فيقتلوه ويمثلوا به، فلم نكن نأمن فيهم إلا من موسم إلى موسم،
فعزم الله لنا على منعه، والذب عن حوزته، والرمي من وراء حرمته، والقيام بأسيافنا
دونه في ساعات الخوف بالليل والنهار، فمؤمننا يرجو بذلك الثواب وكافرنا يحامى عن
الأصل، وأما من أسلم من قريش فإنهم مما نحن فيه خلاء، منهم الحليف الممنوع، ومنهم ذو العشيرة
التي تدافع عنه، فلا يبغيه أحد مثل ما بغانا به قومنا من التلف، فهم من القتل بمكان (3)
نجوة وأمن، فكان ذلك ما شاء الله أن يكون. ثم أمر الله تعالى رسوله بالهجرة،
وأذن له بعد ذلك في قتال المشركين، فكان إذا احمر البأس، ودعيت نزال (4) أقام
أهل بيته، فاستقدموا، فوقى أصحابه بهم حد الأسنة والسيوف، فقتل عبيدة يوم بدر،
وحمزة يوم أحد، وجعفر وزيد يوم مؤتة، وأراد من لو شئت ذكرت اسمه مثل الذي
أرادوا من الشهادة مع النبي صلى الله عليه وسلم غير مرة، إلا أن آجالهم عجلت، ومنيته
أخرت، والله ولي الاحسان إليهم، والمنة عليهم، بما أسلفوا من أمر الصالحات، فما
سمعت بأحد ولا رأيته هو أنصح في طاعة رسوله ولا لنبيه، ولا أصبر على اللاواء (5)
والسراء والضراء وحين البأس، ومواطن المكروه مع النبي صلى الله عليه وسلم من هؤلاء
النفر الذين سميت لك، وفي المهاجرين خير كثير يعرف، جزاهم الله خيرا بأحسن

(1) الميرة بالكسر: ما يجلب، ويزيد بالعذب الماء.
(2) أحلسونا الخوف، أي ألزموناه.
(3) انظر صفين 100، 111.
(4) دعيت نزال، كقطام، أي تنازلوا للحزب.
(5) اللاواء: الشدة.
77

أعمالهم. وذكرت حسدي الخلفاء، وإبطائي عنهم، وبغيي عليهم، فأما البغي فمعاذ الله
أن يكون، وأما الابطاء عنهم والكراهية لأمرهم فلست أعتذر إلى الناس من ذلك، إن الله
تعالى ذكره لما قبض نبيه صلى الله عليه وسلم قالت قريش: منا أمير، وقالت الأنصار:
منا أمير، فقالت قريش: منا محمد، نحن أحق بالامر، فعرفت ذلك الأنصار فسلمت لهم
الولاية والسلطان، فإذا استحقوها بمحمد صلى الله عليه وسلم دون الأنصار فإن أولى
الناس بمحمد أحق به منهم، وإلا فإن الأنصار أعظم العرب فيها نصيبا، فلا أدرى: أصحابي
سلموا من أن يكونوا حقي أخذوا، أو الأنصار ظلموا بل عرفت أن حقي هو المأخوذ، وقد
تركته لهم تجاوز الله عنهم. وأما ما ذكرت من أمر عثمان، وقطيعتي رحمه، وتأليبي عليه فإن
عثمان عمل ما قد بلغك، فصنع الناس به ما رأيت، وإنك لتعلم أنى قد كنت في عزلة
عنه إلا أن تتجنى، فتجن (1) ما بدا لك، وأما ما ذكرت من أمر قتلة عثمان فإني نظرت
في هذا الامر وضربت أنفه وعينه فلم أر دفعهم إليك ولا إلى غيرك، ولعمري لئن لم تنزع
عن غيك وشقاقك لتعرفنهم عن قليل يطلبونك لا يكلفونك أن تطلبهم في بر ولا بحر
ولا سهل ولا جبل، وقد أتاني أبوك حين ولى الناس أبا بكر، فقال: أنت أحق بمقام
محمد، وأولى الناس بهذا الامر، وأنا زعيم لك بذلك على من خالف، ابسط يدك
أبايعك، فلم أفعل، وأنت تعلم أن أباك قد قال ذلك وأراده حتى كنت أنا الذي أبيت،
لقرب عهد الناس بالكفر مخافة الفرقة بين أهل الاسلام، فأبوك كان أعرف بحقي منك،
فإن تعرف من حقي ما كان أبوك يعرف تصب رشدك، وإن لم تفعل فسيغني الله
عنك، والسلام (2)

(1) تجنى عليه: ادعى ذنبا لم يجنه.
(2) صفين 98 - 102.
78

(10)
الأصل:
ومن كتاب له عليه السلام إلى معاوية أيضا:
وكيف أنت صانع إذا تكشفت عنك جلابيب ما أنت فيه من دنيا قد
تبهجت بزينتها، وخدعت بلذتها، دعتك فأجبتها، وقادتك فاتبعتها. وأمرتك
فأطعتها، وإنه يوشك أن يقفك واقف على ما لا ينجيك منه منج.
فاقعس عن هذا الامر، وخذ أهبة الحساب، وشمر لما قد نزل بك،
ولا تمكن الغواة من سمعك، وإلا تفعل أعلمك ما أغفلت من نفسك،
فإنك مترف قد أخذ الشيطان منك مأخذه، وبلغ فيك أمله، وجرى منك
مجرى الروح والدم.
ومتى كنتم يا معاوية ساسة الرعية، وولاه أمر الأمة، بغير قدم سابق،
ولا شرف باسق، ونعوذ بالله من لزوم سوابق الشقاء.
وأحذرك أن تكون متماديا في غرة الأمنية، مختلف العلانية والسريرة.
وقد دعوت إلى الحرب فدع الناس جانبا، واخرج إلي، واعف الفريقين من
القتال، لتعلم أينا المرين على قلبه، والمغطى على بصره!
فأنا أبو حسن، قاتل جدك وأخيك وخالك شدخا يوم بدر، وذلك السيف
معي، وبذلك القلب ألقى عدوي ما استبدلت دينا، ولا استحدثت نبيا، وإني
لعلى المنهاج الذي تركتموه طائعين، ودخلتم فيه مكرهين.
وزعمت أنك جئت ثائرا بدم عثمان! ولقد علمت حيث وقع دم عثمان، فاطلبه
79

من هناك إن كنت طالبا، فكأني قد رأيتك تضج من الحرب إذا عضتك ضجيج
الجمال بالأثقال وكأني بجماعتك تدعوني جزعا من الضرب المتتابع، والقضاء
الواقع، ومصارع بعد مصارع، إلى كتاب الله، وهي كافرة جاحدة، أو مبايعة حائدة.
الشرح:
الجلابيب: جمع جلباب، وهي الملحفة في الأصل، واستعير لغيرها من الثياب،
وتجلبب الرجل جلببة، ولم تدغم لأنها ملحقة ب‍ " دحرجة ".
قوله: " وتبهجت بزينتها ": صارت ذات بهجة، أي زينة، وحسن، وقد بهج
الرجل بالضم، ويوشك: يسرع.
ويقفك واقف: يعنى الموت، ويروى: " ولا ينحيك مجن "، وهو الترس،
والرواية الأولى أصح.
قوله: " فاقعس عن هذا الامر "، أي تأخر عنه، والماضي قعس بالفتح، ومثله
تقاعس واقعنسس.
وأهبة الحساب: عدته، وتأهب: استعد، وجمع الأهبة أهب.
وشمر لما قد نزل بك، أي جد واجتهد وخف، ومنه رجل شمري بفتح
الشين وتكسر.
والغواة: جمع غاو، وهو الضال.
قوله: " وإلا تفعل " يقول: وان كنت لا تفعل ما قد أمرتك ووعظتك به فإني
أعرفك من نفسك ما أغفلت معرفته.
إنك مترف، والمترف الذي قد أترفته النعمة أي أطغته.
80

قد أخذ الشيطان منك مأخذه، ويروى " مآخذه " بالجمع، أي تناول الشيطان منك
لبك وعقلك. ومأخذه مصدر، أي تناولك الشيطان تناوله المعروف، وحذف مفعول
" أخذ " لدلالة الكلام عليه، ولان اللفظة تجرى مجرى المثل.
قوله: " وجرى منك مجرى الروح والدم "، هذه كلمة رسول الله صلى الله عليه وآله:
" إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم ".
ثم خرج عليه السلام إلى أمر آخر، فقال لمعاوية: " ومتى كنتم ساسة الرعية،
وولاة أمر الأمة! " ينبغي أن يحمل هذا الكلام على نفى كونهم سادة وولاة في
الاسلام، وإلا ففي الجاهلية لا ينكر رياسة بنى عبد شمس. ولست أقول برياستهم على
بني هاشم، ولكنهم كانوا رؤساء على كثير من بطون قريش، ألا ترى أن بنى نوفل
بن عبد مناف ما زالوا أتباعا لهم، وأن بنى عبد شمس كانوا في يوم بدر قادة الجيش،
كان رئيس الجيش عتبة بن ربيعة، وكانوا في يوم أحد ويوم الخندق قادة الجيش! كان
الرئيس في هذين اليومين أبا سفيان بن حرب، وأيضا فإن في لفظة أمير المؤمنين عليه السلام
ما يشعر بما قلناه، وهو قوله: " وولاة أمر الأمة " فإن الأمة في العرب هم المسلمون،
أمة محمد صلى الله عليه وآله.
قوله عليه السلام: " بغير قدم سابق "، يقال لفلان قدم صدق، أي سابقة
وأثرة حسنة.
قوله عليه السلام: " ولا شرف باسق "، أي عال.
وتمادى: تفاعل، من المدى، وهو الغاية، أي لم يقف بل مضى قدما.
والغرة: الغفلة: والأمنية: طمع النفس. ومختلف السريرة والعلانية: منافق.
قوله عليه السلام: " فدع الناس جانبا "، منصوب على الظرف.
81

والمرين على قلبه: المغلوب عليه، من قوله تعالى: " كلا بل ران على قلوبهم
ما كانوا يكسبون) (1). وقيل: الرين: الذنب على القريب.
وإنما قال أمير المؤمنين عليه السلام لمعاوية هذه الكلمة لان معاوية قالها في رسالة
كتبها، ووقفت عليها من كتاب أبى العباس يعقوب بن أبي أحمد الصيمري الذي جمعه
من كلام علي عليه السلام وخطبه، وأولها: أما بعد، فإنك المطبوع على قلبك، المغطى على بصرك، الشر من شيمتك، والعتو
من خليقتك، فشمر للحرب، واصبر للضرب، فوالله ليرجعن الامر إلى ما علمت،
والعاقبة للمتقين. هيهات هيهات! أخطأك ما تمنى، وهوى قلبك فيما هوى، فأربع
على ظلعك، وقس شبرك بفترك، تعلم أين حالك من حال من يزن الجبال حلمه، ويفصل
بين أهل الشك علمه، والسلام.
فكتب إليه أمير المؤمنين عليه السلام: أما بعد، يا بن صخر، يا بن اللعين، يزن
الجبال فيما زعمت حلمك، ويفصل بين أهل الشك علمك، وأنت الجاهل القليل الفقه،
المتفاوت العقل، الشارد عن الدين.
وقلت: " فشمر للحرب، واصبر "، فإن كنت صادقا فيما تزعم، ويعينك عليه
ابن النابغة، فدع الناس جانبا، وأعف الفريقين من القتال، وابرز إلي لتعلم أينا المرين
على قلبه، المغطى على بصره، فأنا أبو الحسن حقا، قاتل أخيك وخالك وجدك، شدخا
يوم بدر، وذلك السيف معي وبذلك القلب ألقى عدوي!

(1) سورة المطففين 14.
82

قوله عليه السلام " شدخا "، الشدخ: كسر الشئ الأجوف، شدخت رأسه فانشدخ،
وهؤلاء الثلاثة: حنظلة بن أبي سفيان، والوليد بن عتبة، وأبوه عتبة بن ربيعة، فحنظلة
أخوه، والوليد خاله، وعتبة جده، وقد تقدم ذكر قتله إياهم في غزاة بدر.
والثائر: طالب الثأر. وقوله: " قد علمت حيث وقع دم عثمان فاطلبه من هناك "،
يريد به إن كنت تطلب ثأرك من عند من أجلب وحاصر، فالذي فعل ذلك طلحة
والزبير، فاطلب ثأرك من بني تيم ومن بني أسد بن عبد العزى، وإن كنت تطلبه ممن
خذل، فاطلبه من نفسك فإنك خذلته، وكنت قادرا على أن ترفده (1) وتمده بالرجال،
فخذلته وقعدت عنه بعد أن استنجدك واستغاث بك.
وتضج: تصوت. والجاحدة: المنكرة، والحائدة: العادلة عن الحق.
واعلم أن قوله: " وكأني بجماعتك يدعونني جزعا من السيف إلى كتاب الله تعالى "،
إما أن يكون فراسة نبوية صادقة، وهذا عظيم، وإما أن يكون إخبارا عن غيب مفصل،
وهو أعظم وأعجب، وعلى كلا الامرين فهو غاية العجب. وقد رأيت له ذكر هذا المعنى
في كتاب غير هذا، وهو: إما بعد، فما أعجب ما يأتيني منك، وما أعلمني بمنزلتك التي أنت
إليها صائر، ونحوها سائر، وليس إبطائي عنك إلا لوقت أنا به مصدق، وأنت به مكذب،
وكأني أراك وأنت تضج من الحرب، وإخوانك يدعونني خوفا من السيف إلى كتاب
هم به كافرون، وله جاحدون.
* * *
ووقفت له عليه السلام على كتاب آخر إلى معاوية يذكر فيه هذا المعنى، أوله:
أما بعد، فطالما دعوت أنت وأولياؤك أولياء الشيطان الحق أساطير، ونبذتموه وراء

(1) ترفده: تعينه.
83

ظهوركم، وحاولتم إطفاءه بأفواهكم، (ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره
الكافرون) (1). ولعمري لينفذن العلم فيك، وليتمن النور بصغرك وقماءتك، ولتخسأن
طريدا مدحورا أو قتيلا مثبورا (2)، ولتجزين بعملك حيث لا ناصر لك،
ولا مصرخ (3) عندك. وقد أسهبت في ذكر عثمان، ولعمري ما قتله غيرك، ولا خذله
سواك، ولقد تربصت به الدوائر، وتمنيت له الأماني، طمعا فيما ظهر منك، ودل
عليه فعلك، وإني لأرجو أن ألحقك به على أعظم من ذنبه، وأكبر
من خطيئته.
فأنا ابن عبد المطلب صاحب السيف، وإن قائمه لفي يدي، وقد علمت من قتلت
به من صناديد بني عبد شمس، وفراعنة بني سهم وجمح وبني مخزوم، وأيتمت أبناءهم،
وأيمت نساءهم، وأذكرك ما لست له ناسيا، يوم قتلت أخاك حنظلة، وجررت برجله
إلى القليب (5)، وأسرت أخاك عمرا، فجعلت عنقه بين ساقيه رباطا، وطلبتك ففررت
ولك حصاص (6)، فلو لا أني لا أتبع فارا، لجعلتك ثالثهما، وأنا أولي لك بالله ألية
برة غير فاجرة، لئن جمعتني وإياك جوامع الاقدار، لأتركنك مثلا يتمثل به
الناس أبدا، ولأجعجعن بك في مناخك حتى يحكم الله بيني وبينك، وهو
خير الحاكمين.
ولئن أنسأ (7) الله في أجلي قليلا لأغزينك سرايا المسلمين، ولأنهدن إليك في
جحفل من المهاجرين والأنصار، ثم لا أقبل لك معذرة ولا شفاعة، ولا أجيبك إلى
طلب وسؤال، ولترجعن إلى تحيرك وترددك وتلددك، فقد شاهدت وأبصرت ورأيت

(1) سورة التوبة 32.
(2) مثبورا: هالكا، أو مصروفا عن الخير.
(3) المصرخ: المستغيث.
(4) أيمت نساءهم، أي تركتهن بلا أزواج.
(5) القليب: البئر.
(6) الحصاص: شدة العدو.
(7) أنسأ الله في أجلي، أي أخره قليلا.
84

سحب الموت كيف هطلت عليك بصيبها (1) حتى اعتصمت بكتاب أنت وأبوك أول من
كفر وكذب بنزوله. ولقد كنت تفرستها، وآذنتك أنك فاعلها، وقد مضى منها
ما مضى، وانقضى من كيدك فيها ما انقضى، وأنا سائر نحوك على أثر هذا الكتاب،
فاختر لنفسك، وانظر لها، وتداركها فإنك إن فطرت واستمررت على غيك
وغلوائك (2) حتى ينهد إليك عباد الله، ارتجت عليك الأمور، ومنعت أمرا هو اليوم
منك مقبول. يا بن حرب، إن لجاجك في منازعة الامر أهله من سفاه الرأي، فلا يطمعنك
أهل الضلال، ولا يوبقنك سفه رأي الجهال، فوالذي نفس علي بيده لئن برقت
في وجهك بارقة من ذي الفقار لتصعقن صعقة لا تفيق منها حتى ينفخ في الصور النفخة
التي يئست منها (كما يئس الكفار من أصحاب القبور) (3).
قلت: سألت النقيب أبا زيد عن معاوية: هل شهد بدرا مع المشركين؟ فقال:
نعم شهدها ثلاثة من أولاد أبي سفيان: حنظلة وعمرو ومعاوية، قتل أحدهم، وأسر الاخر،
وأفلت معاوية هاربا على رجليه، فقدم مكة، وقد انتفخ قدماه، وورمت ساقاه، فعالج
نفسه شهرين حتى برأ.
قال النقيب أبو زيد: ولا خلاف عند أحد أن عليا عليه السلام قتل حنظلة
وأسر عمرا أخاه، ولقد شهد بدرا، وهرب على رجليه من هو أعظم منهما ومن أخيهما
عمرو بن عبد ود فارس يوم الأحزاب، شهدها ونجا هاربا على قدميه، وهو شيخ كبير،

(1) الصيب: المطر المنصب.
(2) الغلواء: الكبر،
(3) الممتحنة 12.
85

وارتث (1) جريحا، فوصل إلى مكة وهو وقيذ (2) فلم يشهد أحدا، فلما برأ شهد الخندق،
فقتله قاتل الابطال، والذي فاته يوم بدر استدركه يوم الخندق.
ثم قال لي النقيب رحمه الله: أما سمعت نادرة الأعمش ومناظره؟ فقلت: ما أعلم
ما تريد، فقال: سأل رجل الأعمش - وكان قد ناظر صاحبا له: هل معاوية من أهل
بدر أم لا؟ - فقال له: أصلحك الله هل شهد معاوية بدرا؟ فقال: نعم من
ذلك الجانب.
واعلم أن هذه الخطبة قد ذكرها نصر بن مزاحم في كتاب " صفين " على وجه
يقتضى أن ما ذكره الرضى - رحمه الله - منها قد ضم إليه بعض خطبة أخرى، وهذه
عادته، لان غرضه التقاط الفصيح والبليغ من كلامه، والذي ذكره نصر بن مزاحم
هذه صورته:
من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان، سلام على من اتبع الهدى
فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإنك قد رأيت مرور الدنيا وانقضاءها
وتصرمها وتصرفها بأهلها، وخير ما اكتسب من الدنيا ما أصابه العباد الصالحون
منها من التقوى، ومن يقس الدنيا بالآخرة يجد بينهما بعيدا. واعلم يا معاوية أنك قد
ادعيت أمرا لست من أهله (3 لا في القديم ولا في الحديث 3)، ولست تقول فيه بأمر بين
يعرف له أثر (4)، ولا عليك منه شاهد [من كتاب الله] (5)، ولست متعلقا بآية من

(1) ارتث جريحا: حمل من المعركة رثيثا، أي جريحا وبه رمق.
(2) الوقيذ: الشديد المرض، المشرف على الهلاك.
(3 - 3) صفين: " لا في القدم ولا في الولاية ".
(4) صفين: " أثرة ".
(5) من صفين.
86

كتاب الله، ولا عهد من رسول الله صلى الله عليه وآله، فكيف أنت صانع (1 إذا
تقشعت عنك غيابة ما أنت فيه من دنيا قد فتنت بزينتها، وركنت إلى لذاتها 1)،
وخلي بينك وبين عدوك فيها، وهو عدو وكلب مضل جاهد مليح (2)، ملح، مع
ما قد ثبت في نفسك من جهتها، دعتك فأجبتها، وقادتك فأتبعتها، وأمرتك فأطعتها،
فاقعس (3) عن هذا الامر، وخذ أهبة الحساب، فإنه يوشك أن يقفك واقف على
ما لا يجنك (4) مجن.
ومتى كنتم يا معاوية ساسة الرعية، أو ولاة لأمر هذه الأمة، بلا قدم حسن،
ولا شرف تليد على قومكم، فاستيقظ من سنتك، وارجع إلى خالقك، وشمر لما
سينزل بك، ولا تمكن عدوك الشيطان من بغيته فيك، مع أنى أعرف أن الله
ورسوله صادقان، نعوذ (5) بالله من لزوم سابق الشقاء وإلا تفعل فإني أعلمك ما أغفلت
من نفسك، إنك مترف، قد أخذ منك الشيطان مأخذه، فجرى منك مجرى الدم في
العروق، ولست من أئمة هذه الأمة ولا من رعاتها. واعلم أن هذا الامر لو كان إلى
الناس أو بأيديهم لحسدوناه، ولامتنوا علينا به، ولكنه قضاء ممن منحناه واختصنا به،
على لسان نبيه الصادق المصدق، لا أفلح من شك بعد العرفان والبينة! رب احكم
بيننا وبين عدونا بالحق وأنت خير الحاكمين (6).
قال نصر: (7 فكتب معاوية إليه الجواب 7): من معاوية بن أبي سفيان إلى علي
بن أبي طالب، أما بعد، فدع الحسد، فإنك طالما لم تنتفع به، ولا تفسد سابقة

(1 - 1) صفين: " إذا انقشعت عنك جلابيب ما أنت فيه من دنيا أبهجت بزينتها، وركنت إلى لذاتها ".
(2) المليح: الملوح بالسيف، يقال: ألاح بالسيف، ولوح: إذا حركه ولمع به.
(3) أقعس عن هذا الامر، أي تأخر.
(4) كذا في صفين و أ، وفي ب: " يخبيك ".
(5) صفين: " فنعوذ ".
(6) صفين 121، 122.
(7 - 7) صفين: " فكتب معاوية بسم الله الرحمن الرحيم ".
87

جهادك بشرة نخوتك، فإن الأعمال بخواتيمها، ولا تمحص سابقتك بقتال من لا حق
لك في حقه (1)، فإنك إن تفعل لا تضر بذلك إلا نفسك، ولا تمحق إلا عملك، ولا
تبطل إلا حجتك، ولعمري إن ما مضى لك من السابقات لشبيه أن يكون ممحوقا، لما
اجترأت عليه من سفك الدماء، وخلاف أهل الحق، فاقرأ السورة التي يذكر فيها الفلق
وتعوذ من نفسك (2) فإنك الحاسد إذا حسد (3).

(1) حق الرجل وأحقه، إذا غلبه على الحق.
(2) صفين: " وتعوذ بالله من شر نفسك ".
(3) صفين 123.
88

(11)
الأصل:
ومن وصية له عليه السلام وصى بها جيشا بعثه إلى العدو:
فإذا نزلتم بعدو أو نزل بكم، فليكن معسكركم في قبل الاشراف،
أو سفاح الجبال * أو أثناء الأنهار، كيما يكون لكم ردءا، ودونكم مردا.
ولتكن مقاتلتكم من وجه واحد أو اثنين، واجعلوا لكم رقباء في صياصي
الجبال، ومناكب الهضاب، لئلا يأتيكم العدو من مكان مخافة أو أمن.
واعلموا أن مقدمة القوم عيونهم، وعيون المقدمة طلائعهم، وإياكم والتفرق،
فإذا نزلتم فانزلوا جميعا، وإذا ارتحلتم فارتحلوا جميعا، وإذا غشيكم الليل فاجعلوا
الرماح كفة، ولا تذوقوا النوم إلا غرارا أو مضمضة
* * *
الشرح:
المعسكر، بفتح الكاف: موضع العسكر، وحيث ينزل.
الاشراف: الأماكن العالية، وقبلها: ما استقبلك منها، وضده الدبر.
وسفاح الجبال: أسافلها حيث يسفح منها الماء.
وأثناء الأنهار: ما انعطف منها، وأحدها ثنى. والمعنى أنه أمرهم أن ينزلوا مسندين
ظهورهم إلى مكان عال كالهضاب العظيمة، أو الجبال، أو منعطف الأنهار التي تجرى
مجرى الخنادق على العسكر ليأمنوا بذلك من البيات، وليأمنوا أيضا من إتيان العدو لهم
89

من خلفهم، وقد فسر ذلك بقوله: كيما يكون لكم ردءا، والردء: العون، قال الله
تعالى: (فأرسله معي ردءا يصدقني) (1).
ودونكم مردا، أي حاجزا بينكم وبين العدو.
ثم أمرهم بأن يكون مقاتلتهم - بفتح التاء، وهي مصدر " قاتل " - من وجه واحد أو
اثنين، أي لا تتفرقوا، ولا يكن قتالكم العدو في جهات متشعبة، فإن ذلك أدعى إلى
الوهن، واجتماعكم أدعى إلى الظفر، ثم أمرهم أن يجعلوا رقباء في صياصي الجبال. وصياصي
الجبال: أعاليها وما جرى مجرى الحصون منها، وأصل الصياصي القرون، ثم استعير ذلك
للحصون لأنه يمتنع بها كما يمتنع ذو القرن بقرنه، ومناكب الهضاب: أعاليها، لئلا
يأتيكم العدو إما من حيث تأمنون، أو من حيث تخافون.
قوله عليه السلام: " مقدمة القوم عيونهم "، المقدمة، بكسر الدال، وهم الذين
يتقدمون الجيش، أصله مقدمة القوم، أي الفرقة المتقدمة. والطلائع: طائفة من الجيش
تبعث ليعلم منها أحوال العدو. وقال عليه السلام: المقدمة عيون الجيش. والطلائع عيون
المقدمة، فالطلائع إذا عيون الجيش.
ثم نهاهم عن التفرق، وأمرهم أن ينزلوا جميعا ويرحلوا جميعا، لئلا يفجأهم العدو بغتة
على غير تعبية واجتماع، فيستأصلهم، ثم أمرهم أن يجعلوا الرماح كفة إذا غشيهم الليل،
والكاف مكسورة، أي اجعلوها مستديرة حولكم كالدائرة، وكل ما استدار كفة
بالكسر نحو كفة الميزان، وكل ما استطال كفة بالضم نحو: كفة الثوب وهي حاشيته،
وكفة الرمل، وهو ما كان منه كالحبل.
ثم نهاهم عن النوم إلا غرارا أو مضمضة، وكلا اللفظتين ما قل من النوم.

(1) سورة القصص 34.
90

وقال شبيب الخارجي: الليل يكفيك الجبان، ويصف الشجاع.
وكان إذا أمسى قال لأصحابه: أتاكم المدد، يعنى الليل.
قيل لبعض الملوك بيت عدوك. قال: أكره أن أجعل غلبتي سرقة.
ولما فصل قحطبة من خراسان وفي جملته خالد بن برمك، بينا هو على سطح بيت
في قرية نزلاها وهم يتغدون نظر إلى الصحراء فرأى أقاطيع ظباء قد أقبلت من جهة
الصحارى حتى كادت تخالط العسكر، فقال خالد لقحطبة: أيها الأمير، ناد في الناس:
يا خيل الله اركبي، فإن العدو قد قرب منك، وعامة أصحابك لن يسرجوا ويلجموا
حتى يروا سرعان (1) الخيل. فقام قحطبة مذعورا فلم ير شيئا يروعه، ولم يعاين غبارا،
فقال لخالد ما هذا الرأي؟ فقال: أيها الأمير! لا تتشاغل بي، وناد في الناس، أما ترى
أقاطيع الوحوش قد أقبلت وفارقت مواضعها حتى خالطت الناس! وإن وراءها لجمعا
كثيفا. قال: فوالله ما أسرجوا ولا ألجموا حتى رأوا النقع (2) وساطع الغبار، فسلموا،
ولولا ذلك لكان الجيش قد اصطلم (3).

(1) سرعان الخيل: أوائلها.
(2) النقع: الغبار.
(3) اصطلم: استؤصل وأبيد.
91

(12)
الأصل:
ومن وصية له عليه السلام وصى بها معقل بن قيس الرياحي حين أنفذه إلى
الشام في ثلاثة آلاف مقدمة له
اتق الله الذي لابد لك من لقائه، ولا منتهى لك دونه، ولا تقاتلن إلا من
قاتلك، وسر البردين، وغور بالناس، ورفه في السير، ولا تسر أول الليل،
فإن الله جعله سكنا، وقدره مقاما لا ظعنا، فأرح فيه بدنك، وروح ظهرك،
فإذا وقفت حين ينبطح السحر، أو حين ينفجر الفجر، فسر على بركة الله.
فإذا لقيت العدو فقف من أصحابك وسطا، ولا تدن من القوم دنو من يريد
أن ينشب الحرب. ولا تباعد عنهم تباعد من يهاب البأس، حتى يأتيك أمري.
ولا يحملنكم شنآنهم على قتالهم قبل دعائهم والاعذار إليهم.
* * *
الشرح:
معقل بن قيس، كان من رجال الكوفة وأبطالها، وله رياسة وقدم، أوفده عمار
بن ياسر إلى عمر بن الخطاب مع الهرمزان لفتح تستر (1) وكان من شيعة علي عليه
السلام، وجهه إلى بني ساقة فقتل منهم وسبى، وحارب المستورد بن علفة الخارجي

(1) تستر، بضم أوله وسكون ثانيه وفتح ثالثه: أعظم مدينة بخوزستان.
92

من تيم الرباب، فقتل كل واحد منهما صاحبه بدجلة، وقد ذكرنا خبرهما فيما سبق،
ومعقل بن قيس رياحي من ولد رياح بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة
ابن تميم.
قوله عليه السلام: " ولا تقاتلن إلا من قاتلك "، نهي عن البغي.
وسر البردين: هما الغداة والعشي، وهما الأبردان أيضا.
ووصاه أن يرفق بالناس ولا يكلفهم السير في الحر.
قوله عليه السلام: " وغور بالناس ": انزل بهم القائلة، والمصدر التغوير، ويقال
للقائلة: الغائرة.
قوله عليه السلام: " ورفه في السير "، أي دع الإبل ترد رفها (1)، وهو أن ترد الماء
كل يوم متى شاءت ولا ترهقها وتجشمها السير. ويجوز أن يكون قوله: " ورفه في السير "، من قولك: رفهت عن الغريم، أي نفست عنه.
قوله عليه السلام: " ولا تسر أول الليل "، قد ورد في ذلك خبر مرفوع، وفي الخبر أنه
حين تنشر الشياطين. وقد علل أمير المؤمنين عليه السلام النهى بقوله: " فإن الله تعالى
جعله سكنا، وقدره مقاما لا ظعنا "، يقول لما امتن الله تعالى على عباده بأن جعل لهم الليل
ليسكنوا فيه (2) كره أن يخالفوا ذلك، ولكن لقائل أن يقول: فكيف لم يكره السير
والحركة في آخره، وهو من جملة الليل أيضا! ويمكن أن يكون فهم من رسول الله
صلى الله عليه وآله أن الليل الذي جعل سكنا للبشر إنما هو من أوله إلى
وقت السحر.

(1) أي ترد الماء كما شاءت.
(2) وهو قوله تعالى: " هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا).
سورة يونس 67
93

ثم أمره عليه السلام بأن يريح في الليل بدنه وظهره، وهي الإبل، وبنو فلان
مظهرون، أي لهم ظهر ينقلون عليه، كما تقول: منجبون، أي لهم نجائب.
قال الراوندي: الظهر. الخيول، وليس بصحيح، والصحيح ما ذكرناه.
قوله عليه السلام: " فإذا وقفت "، أي فإذا وقفت ثقلك ورحلك لتسير، فليكن
ذلك حين ينبطح السحر.
قال الراوندي: " فإذا وقفت " ثم قال وقد روي: " فإذا واقفت "، قال: يعنى
إذا وقفت تحارب العدو وإذا واقفته، وما ذكره ليس بصحيح ولا روي، وإنما هو
تصحيف، ألا تراه كيف قال بعده بقليل: " فإذا لقيت العدو "! وإنما مراده هاهنا الوصاة
بأن يكون السير وقت السحر ووقت الفجر.
قوله عليه السلام: " حين ينبطح السحر "، أي حين يتسع ويمتد، أي لا يكون السحر
الأول، أي ما بين السحر الأول وبين الفجر الأول، وأصل الانبطاح، السعة، ومنه الأبطح
بمكة، ومنه البطيحة، وتبطح السيل، أي اتسع في البطحاء، والفجر انفجر انشق.
ثم أمره عليه السلام إذا لقي العدو أن يقف بين أصحابه وسطا لأنه الرئيس، والواجب
أن يكون الرئيس في قلب الجيش، كما أن قلب الانسان في وسط جسده، ولأنه إذا كان
وسطا كانت نسبته إلى كل الجوانب واحدة، وإذا كان في أحد الطرفين بعد من الطرف الآخر
، فربما يختل نظامه ويضطرب.
ثم نهاه عليه السلام أن يدنو من العدو دنو من يريد أن ينشب الحرب، ونهاه أن
يبعد منهم بعد من يهاب الحرب، وهي البأس، قال الله تعالى: (وحين البأس) (1)،

(1) سورة البقرة 177.
94

أي حين الحرب، بل يكون على حال متوسطة بين هذين حتى يأتيه الامر من أمير
المؤمنين عليه السلام لأنه أعرف بما تقتضيه المصلحة.
ثم قال له: لا يحملنكم بغضكم لهم على أن تبدؤوهم بالقتال قبل أن تدعوهم إلى الطاعة
وتعذروا إليهم أي تصيروا ذوي عذر في حربهم.
والشنآن: البغض بسكون النون وتحريكها.
* * *
[نبذ من الأقوال الحكيمة في الحروب]
وفي الحديث المرفوع: " لا تتمنوا العدو فعسى أن تبتلوا بهم، ولكن قولوا: اللهم أكفنا
شرهم، وكف عنا بأسهم، وإذا جاءوك يعرفون أن يضجون فعليكم الأرض جلوسا،
وقولوا: اللهم أنت ربنا وربهم، وبيدك نواصينا ونواصيهم، فإذا غشوكم فثوروا
في وجوههم ".
وكان أبو الدرداء يقول: أيها الناس، اعملوا عملا صالحا قبل الغزو فإنما تقاتلون
بأعمالكم.
وأوصى أبو بكر يزيد بن أبي سفيان حين استعمله، فقال: سر على بركة الله، فإذا دخلت
بلاد العدو فكن بعيدا من الحملة، فإني لا آمن عليك الجولة، واستظهر بالزاد، وسر بالإدلاء
ولا تقاتل بمجروح، فإن بعضه ليس منه، واحترس من البيات، فإن في العرب غرة،
وأقلل من الكلام، فان ما وعي عنك هو عليك، وإذا أتاك كتابي فأمضه، فإنما أعمل
على حسب إنفاذه، وإذا قدم عليك وفود العجم فأنزلهم معظم عسكرك، وأسبغ عليهم
من النفقة، وامنع الناس من محادثتهم ليخرجوا جاهلين كما دخلوا جاهلين ولا
95

تلحن في عقوبة فإن أدناها وجيعة، ولا تسرعن إليها وأنت تكتفي بغيرها، واقبل من
الناس علانيتهم، وكلهم إلى الله في سريرتهم، ولا تعرض عسكرك فتفضحه، وأستودعك
الله الذي لا تضيع ودائعه.
* * *
وأوصى أبو بكر أيضا عكرمة بن أبي جهل حين وجهه إلى عمان، فقال: سر على اسم الله،
ولا تنزلن على مستأمن، وقدم النذير بين يديك، ومهما قلت: إني فاعل فافعله، ولا تجعلن
قولك لغوا في عقوبة ولا عفو، فلا ترجى إذا أمنت، ولا تخاف إذا خوفت. وانظر
متى تقول ومتى تفعل، وما تقول وما تفعل، ولا تتوعدن في معصية بأكثر من عقوبتها،
فإنك إن فعلت أثمت وإن تركت كذبت، واتق الله وإذا لقيت فاصبر.
* * *
ولما ولى يزيد بن معاوية سلم بن زياد خراسان قال له: إن أباك كفى أخاه عظيما، وقد
استكفيتك صغيرا، فلا تتكلن على عذر مني، فقد اتكلت على كفاية منك، وإياك
منى من قبل أن أقول: إياك منك، واعلم أن الظن إذا أخلف منك أخلف فيك،
وأنت في أدنى حظك، فاطلب أقصاه، وقد تبعك أبوك، فلا تريحن نفسك، واذكر في
يومك أحاديث غدك.
وقال بعض الحكماء: ينبغي للأمير أن يكون له ستة أشياء: وزير يثق به، ويفشي
إليه سره، وحصن إذا لجا إليه عصمه - يعنى فرسا - وسيف إذا نزل به الاقران لم يخف
نبوته، وذخيرة خفيفة المحمل إذا نابته نائبة وجدها - يعني جوهرا - وطباخ إذا أقرى من
الطعام صنع له ما يهيج شهوته، وامرأة جميلة إذا دخل أذهبت همه. في الحديث
المرفوع: خير الصحابة أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف،
96

ولن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة إذا اجتمعت كلمتهم. كان يقال: ثلاثة من كن فيه لم يفلح في الحرب: البغي، قال الله تعالى: " إنما
بغيكم على أنفسكم) (1)، والمكر السيئ، قال سبحانه: (ولا يحيق المكر السيئ
إلا بأهله) (2)، والنكث، قال تعالى: (فمن نكث فإنما ينكث على نفسه) (3).
* * *
يقال: خرجت خارجة بخراسان على قتيبة بن مسلم، فأهمه ذلك، فقيل: ما يهمك منهم!
وجه إليهم وكيع بن أبي أسود يكفيك أمرهم، فقال: لا أوجهه، وإن وكيعا رجل فيه
كبر، وعنده بغي، يحقر أعداءه، ومن كان هكذا قلت مبالاته بخصمه فلم يحترس، فوجد
عدوه فيه غرة، فأوقع به.
وفي بعض كتب الفرس: إن بعض ملوكهم سأل: أي مكايد الحرب أحزم؟ فقال:
إذكاء العيون، واستطلاع الاخبار، وإظهار القوة والسرور والغلبة، وإماتة الفرق،
والاحتراس من البطانة من غير إقصاء لمن ينصح، ولا انتصاح لمن يغش، وكتمان السر،
وإعطاء المبلغين على الصدق، ومعاقبة المتوصلين بالكذب، وألا تخرج هاربا فتحوجه إلى
القتال، ولا تضيق أمانا على مستأمن، ولا تدهشنك الغنيمة عن المجاوزة.
وفي بعض كتب الهند: ينبغي للعاقل أن يحذر عدوه المحارب له على كل حال،
يرهب منه المواثبة إن قرب، والغارة إن بعد، والكمين إن انكشف، والاستطراد
إن ولى، والمكر إن رآه وحيدا، وينبغي أن يؤخر القتال ما وجد بدا، فإن النفقة عليه
من الأنفس، وعلى غيره من المال.

(1) سورة يونس 23.
(2) سورة فاطر 43.
(3) سورة الفتح 10.
97

(13)
الأصل:
ومن كتاب له عليه السلام إلى أميرين من أمراء جيشه:
وقد أمرت عليكما وعلى من في حيزكما مالك بن الحارث الأشتر، فاسمعا له
وأطيعا، واجعلاه درعا ومجنا، فإنه ممن لا يخاف وهنه ولا سقطته، ولا بطؤه عما
الاسراع إليه أحزم، ولا إسراعه إلى ما البطء عنه أمثل.
* * *
[فصل في نسب الأشتر وذكر بعض فضائله]
الشرح:
هو مالك بن الحارث بن عبد يغوث بن مسلمة بن ربيعة بن خزيمة بن سعد بن مالك
ابن النخع بن عمرو بن علة بن خالد بن مالك بن أدد. وكان فارسا شجاعا رئيسا من
أكابر الشيعة وعظمائها، شديد التحقق بولاء أمير المؤمنين عليه السلام ونصره، وقال
فيه بعد موته: رحم الله مالكا، فلقد كان لي كما كنت لرسول الله صلى الله عليه وآله!
ولما قنت علي عليه السلام على خمسة ولعنهم وهم: معاوية، وعمرو بن العاص، وأبو
الأعور السلمي، وحبيب بن مسلمة، وبسر بن أرطاة، قنت معاوية على خمسة، وهم:
علي، والحسن، والحسين - عليهم السلام - وعبد الله بن العباس، والأشتر، ولعنهم.
وقد روي أنه قال لما ولى علي عليه السلام بني العباس على الحجاز واليمن والعراق: فلماذا
قتلنا الشيخ بالأمس! وإن عليا عليه السلام لما بلغته هذه الكلمة أحضره ولاطفه
واعتذر إليه وقال له: فهل وليت حسنا أو حسينا أو أحدا من ولد جعفر أخي، أو عقيلا
98

أو واحدا من ولده! وإنما وليت ولد عمي العباس، لأني سمعت العباس يطلب من رسول
الله صلى الله عليه وآله الامارة مرارا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: يا عم إن الامارة
إن طلبتها وكلت (1 ذ) إليها، وإن طلبتك أعنت عليها. ورأيت بنيه في أيام عمر وعثمان
يجدون في أنفسهم إذ ولى غيرهم من أبناء الطلقاء ولم يول أحدا منهم، فأحببت أن أصل
رحمهم، وأزيل ما كان في أنفسهم، وبعد فإن علمت أحدا من أبناء الطلقاء هو خير
منهم فأتني به. فخرج الأشتر وقد زال ما في نفسه.
وقد روى المحدثون حديثا يدل على فضيلة عظيمة للأشتر رحمه الله، وهي شهادة
قاطعة من النبي صلى الله عليه وآله بأنه مؤمن، روى هذا الحديث أبو عمر بن عبد البر
في كتاب " الاستيعاب " في حرف الجيم، في باب " جندب " قال أبو عمر (2):
لما حضرت أبا ذر الوفاة وهو بالربذة (3) بكت زوجته أم ذر، فقال لها:
ما يبكيك؟ فقالت: ما لي لا أبكي وأنت تموت بفلاة من الأرض، وليس عندي ثوب
يسعك كفنا، ولا بد لي من (4) القيام بجهازك! فقال: أبشري ولا تبكي، فإني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: " لا يموت بين امرأين مسلمين ولدان أو ثلاثة،
فيصبران ويحتسبان فيريان النار أبدا "، وقد مات لنا ثلاثة من الولد. وسمعت أيضا
رسول الله صلى الله عليه وآله يقول لنفر أنا فيهم: " ليموتن أحدكم بفلاة من الأرض
يشهده عصابة من المؤمنين "، وليس من أولئك النفر أحد إلا وقد مات في قرية وجماعه
فأنا - لا أشك - ذلك الرجل، والله ما كذبت ولا كذبت، فانظري الطريق. قالت أم ذر:
فقلت: أنى وقد ذهب الحاج وتقطعت الطرق! فقال: اذهبي فتبصري. قالت: فكنت

(1) وكلت إليها، أي احتجت إليها وعجزت.
(2) بسنده عن علي بن المديني، عن يحيى بن سليم عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن مجاهد
عن إبراهيم بن الأشتر. عن أبيه.
(3) الربذة: قرية على ثلاثة أميال من المدينة المنورة قريبة من ذات عرق.
(4) الاستيعاب: " للقيام ".
99

أشتد (1) إلى الكثيب، فأصعد فأنظر، ثم أرجع إليه فأمرضه، فبينا أنا وهو على هذه
الحال إذ أنا برجال على ركابهم (2) كأنهم الرخم (3) تخب بهم رواحلهم، فأسرعوا إلي حتى وقفوا علي وقالوا: يا أمة الله، ما لك؟ فقلت: امرؤ من المسلمين يموت، تكفنونه؟
قالوا: ومن هو؟ قلت: أبو ذر، قالوا: صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت:
نعم، ففدوه بآبائهم وأمهاتهم، وأسرعوا إليه حتى دخلوا عليه، فقال لهم: أبشروا فإني
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنفر أنا فيهم: " ليموتن رجل منكم بفلاة من
الأرض تشهده عصابة من المؤمنين "، وليس من أولئك النفر إلا وقد هلك في قرية
وجماعة، والله ما كذبت ولا كذبت، ولو كان عندي ثوب يسعني كفنا لي أو لامرأتي
لم أكفن إلا في ثوب لي أو لها، وإني أنشدكم الله ألا يكفنني رجل منكم كان أميرا
أو عريفا أو بريدا أو نقيبا! قالت: وليس في أولئك النفر أحد إلا وقد قارف بعض ما قال،
إلا فتى من الأنصار قال له: أنا أكفنك يا عم في ردائي هذا، وفي ثوبين معي في عيبتي
من غزل أمي، فقال أبو ذر: أنت تكفنني، فمات فكفنه الأنصاري وغسله النفر الذين
حضروه وقاموا عليه ودفنوه، في نفر كلهم يمان (4).
روى أبو عمر بن عبد البر قبل أن يروي هذا الحديث في أول باب جندب: كان
النفر الذين حضروا موت أبي ذر بالربذة مصادفة جماعة، منهم حجر بن الأدبر، ومالك
بن الحارث الأشتر (5).
قلت: حجر بن الأدبر هو حجر بن عدي الذي قتله معاوية، وهو من أعلام
الشيعة وعظمائها، وأما الأشتر فهو أشهر في الشيعة من أبى الهذيل في المعتزلة.

(1) أشتد: أعدو.
(2) الاستيعاب: " رحالهم ".
(3) الرخم: جمع رخمة، الطائر المعروف.
(4) الاستيعاب: 83.
(5) الاستيعاب: " وفتى من الأنصار دعتهم امرأته إليه فشهدوا موته، وغمضوا عينيه، وغسلوه
وكفنوه في ثياب الأنصاري، في خبر عجيب حسن فيه طول ".
100

قرئ كتاب " الاستيعاب " على شيخنا عبد الوهاب بن سكنية المحدث وأنا
حاضر، فلما انتهى القارئ إلى هذا الخبر قال أستاذي عمر بن عبد الله الدباس - وكنت
أحضر معه سماع الحديث -: لتقل الشيعة بعد هذا ما شاءت، فما قال المرتضى والمفيد إلا
بعض ما كان حجر والأشتر يعتقدانه في عثمان ومن تقدمه، فأشار الشيخ إليه
بالسكوت، فسكت.
وذكرنا آثار الأشتر ومقاماته بصفين فيما سبق.
والأشتر هو الذي عانق عبد الله بن الزبير يوم الجمل فاصطرعا على ظهر فرسيهما
حتى وقعا في الأرض، فجعل عبد الله يصرخ من تحته: اقتلوني ومالكا! فلم يعلم من
الذي يعنيه لشدة الاختلاط وثوران النقع (1)، فلو قال: اقتلوني والأشتر لقتلا جميعا،
فلما افترقا قال الأشتر:
أعائش لولا أنني كنت طاويا * ثلاثا لألفيت ابن أختك هالكا (2)
غداة ينادي والرماح تنوشه * كوقع الصياصي: اقتلوني ومالكا (3)
فنجاه مني شبعه وشبابه * وإني شيخ لم أكن متماسكا
ويقال: إن عائشة فقدت عبد الله فسألت عنه، فقيل لها: عهدنا به وهو معانق
للأشتر * فقالت: وا ثكل أسماء!
ومات الأشتر في سنة تسع وثلاثين متوجها إلى مصر واليا عليها لعلى عليه السلام.
قيل: سقي سما، وقيل: إنه لم يصح ذلك، وإنما مات حتف أنفه.
* * *
فأما ثناء أمير المؤمنين عليه السلام عليه في هذا الفصل فقد بلغ مع اختصاره ما لا
يبلغ بالكلام الطويل، ولعمري لقد كان الأشتر أهلا لذلك، كان شديد البأس، جوادا

(1) النقع: الغبار.
(2) الطاوي: الجائع.
(3) تنوشه: تتناوله.
101

رئيسا حليما فصيحا شاعرا، وكان يجمع بين اللين والعنف، فيسطو في موضع السطوة،
ويرفق في موضع الرفق.
[نبذ من الأقوال الحكيمة]
ومن كلام عمر: إن هذا الامر لا يصلح إلا لقوي في غير عنف، ولين في
غير ضعف.
وكان أنو شروان إذا ولى رجلا أمر الكاتب أن يدع في العهد موضع ثلاثة
أسطر ليوقع فيها بخطه، فإذا أتى بالعهد وقع فيه: سس خيار الناس بالمودة، وسفلتهم
بالإخافة، وامزج العامة رهبة برغبة.
وقال عمر بن عبد العزيز: إني لأهم أن أخرج للناس أمرا من العدل، فأخاف ألا
تحتمله قلوبهم، فأخرج معه طمعا من طمع الدنيا، فإن نفرت القلوب من ذاك سكنت
إلى هذا.
وقال معاوية: إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث
يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت. فقيل له: كيف قال: إذا
مدوها خليتها، وإذا خلوها مددتها.
وقال الشعبي في معاوية: كان كالجمل الطب. إذا سكت عنه تقدم،
وإذا رد تأخر.
وقال ليزيد ابنه: قد تبلغ بالوعيد ما لا تبلغ بالإيقاع، وإياك والقتل، فإن الله
قاتل القتالين.
وأغلظ له رجل فحلم عنه، فقيل له: أتحلم عن هذا؟ قال: إنا لا نحول بين الناس
وألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين سلطاننا.
102

وفخر سليم مولى زياد عند معاوية بن زياد، فقال معاوية: اسكت ويحك فما أدرك
صاحبك بسيفه شيئا قط إلا وقد أدركت أكثر منه بلساني.
وقال الوليد بن عبد الملك لأبيه: ما السياسة يا أبت؟ قال هيبة الخاصة لك، مع
صدق مودتها، واقتيادك قلوب العامة بالإنصاف لها، واحتمال هفوات الصنائع.
وقد جمع أمير المؤمنين عليه السلام من أصناف الثناء والمدح ما فرقه هؤلاء في كلماتهم
بكلمة واحدة قالها في الأشتر، وهي قوله: " لا يخاف بطئه عما الاسراع إليه أحزم،
ولا إسراعه إلى ما البطء عنه أمثل ".
قوله عليه السلام: " وعلى من في حيزكما " أي في ناحيتكما.
والمجن: الترس.
والوهن: الضعف.
والسقطة: الغلطة والخطأ.
وهذا الرأي أحزم من هذا، أي أدخل في باب الحزم والاحتياط، وهذا أمثل من
هذا أي أفضل
103

(14)
الأصل:
ومن وصية له عليه السلام لعسكره بصفين قبل لقاء العدو:
لا تقاتلونهم حتى يبدأوكم، فإنكم بحمد الله على حجة، وترككم إياهم
يبدؤوكم حجة أخرى لكم عليهم، فإذا كانت الهزيمة بإذن الله فلا تقتلوا
مدبرا، ولا تصيبوا معورا، ولا تجهزوا على جريح، ولا تهيجوا النساء بأذى
وإن شتمن أعراضكم، وسببن أمراءكم، فإنهن ضعيفات القوى والأنفس والعقول،
إن كنا لنؤمر بالكف عنهن وإنهن لمشركات، وإن كان الرجل ليتناول المرأة
في الجاهلية بالفهر أو الهراوة فيعير بها وعقبه من بعده.
* * *
الشرح:
نهى أصحابه عن البغي والابتداء بالحرب، وقد روي عنه أنه قال: ما نصرت على
الاقران الذين قتلتهم إلا لأني ما ابتدأت بالمبارزة، ونهى - إذا وقعت الهزيمة - عن
قتل المدبر، والإجهاز على الجريح، وهو إتمام قتله.
قوله عليه السلام: " ولا تصيبوا معورا " هو من يعتصم منك في الحرب بإظهار
عورته لتكف عنه، ويجوز أن يكون المعور هاهنا المريب الذي يظن أنه من القوم وأنه
حضر للحرب وليس منهم، لأنه حضر لأمر آخر.
قوله عليه السلام: " ولا تهيجوا النساء بأذى "، أي لا تحركوهن.
104

والفهر: الحجر، والهراوة: العصا.
وعطف " وعقبه " على الضمير المستكن المرفوع في " فيعير " ولم يؤكد للفصل
بقوله: بها، كقوله تعالى: " ما أشركنا ولا آباؤنا " (1)، لما فصل بلا عطف ولم يحتج
إلى تأكيد.
* * *
[نبذ من الأقوال الحكيمة]
ومما ورد في الشعر في هذا المعنى قول الشاعر (2).
إن من أعظم الكبائر عندي * قتل بيضاء حرة عطبول (3)
كتب القتل والقتال علينا * وعلى المحصنات جر الذيول.
وقالت امرأة عبد الله بن خلف الخزاعي بالبصرة لعلي عليه السلام بعد ظفره - وقد
مر ببابها: يا علي، يا قاتل الأحبة، لا مرحبا بك! أيتم الله منك ولدك كما أيتمت بني
عبد الله بن خلف! فلم يرد عليها، ولكنه وقف وأشار إلى ناحية من دارها، ففهمت
إشارته، فسكتت وانصرفت. وكانت قد سترت عندها عبد الله بن الزبير ومروان بن
الحكم، فأشار إلى الموضع الذي كانا فيه، أي لو شئت أخرجتهما! فلما فهمت انصرفت،
وكان عليه السلام حليما كريما.
وكان عمر بن الخطاب إذا بعث أمراء الجيوش يقول بسم الله، وعلى عون الله،

(1) سورة الأنعام 148.
(2) من أبيات تنسب لعمر بن أبي ربيعة، ملحق ديوانه: 498.
(3) العطبول: الشابة الفتية الممتلئة، وبعده:
قتلت باطلا على غير ذنب * إن لله درها من قتيل
105

وبركته، فامضوا بتأييد الله ونصره، أوصيكم بتقوى الله، ولزوم الحق والصبر، فقاتلوا في
سبيل الله من كفر بالله، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين. ولا تجبنوا عند اللقاء،
ولا تمثلوا عند الغارة، ولا تسرفوا عند الظهور، ولا تقتلوا هرما، ولا امرأة، ولا
وليدا، وتوقوا أن تطأوا هؤلاء عند التقاء الزحفين وعند حمة النهضات وفي شن الغارات،
ولا تغلوا عند الغنائم، ونزهوا الجهاد عن غرض الدنيا، وأبشروا بالأرباح في البيع الذي
بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم.
واستشار قوم أكثم بن صيفي في حرب قوم أرادوهم وسألوه أن يوصيهم، فقال:
أقلوا الخلاف على أمرائكم، واثبتوا، فإن أحزم الفريقين الركين (1)، ورب عجلة
تهب (2) ريثا.
وكان قيس بن عاصم المنقري إذا غزا شهد معه الحرب ثلاثون من ولده يقول لهم:
إياكم والبغي، فإنه ما بغى قوم قط إلا ذلوا، قالوا: فكان الرجل من ولده يظلم فلا
ينتصف مخافة الذل.
قال أبو بكر يوم حنين: لن نغلب اليوم من قلة - وكانوا اثنى عشر ألفا - فهزموا
يومئذ هزيمة قبيحة، وأنزل الله تعالى قوله: " ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم
تغن عنكم شيئا) (3).
وكان يقال: لا ظفر مع بغي، ولا صحة مع نهم، ولا ثناء مع كبر، ولا سؤدد
مع شح.

(1) الركين: العزيز الممتنع.
(2) الريث: الابطاء، وهو مثل.
(3) سورة التوبة 25.
106

[قصة فيروز بن يزدجرد حين غزا ملك الهياطلة]
ومن الكلمات المستحسنة في سوء عاقبة البغي ما ذكره ابن قتيبة في كتاب " عيون الأخبار
" أن فيروز بن يزدجرد بن بهرام لما ملك سار بجنوده نحو بلاد الهياطلة، فلما انتهى
إليهم اشتد رعب ملكهم أخشنوار منه وحذره، فناظر أصحابه ووزرائه في أمره فقال رجل
منهم أعطني موثقا من الله وعهدا تطمئن إليه نفسي أن تكفيني الغم بأمر (1) أهلي
وولدي، وأن تحسن إليهم، وتخلفني فيهم، ثم اقطع يدي ورجلي وألقني في طريق
فيروز حتى يمر بي هو وأصحابه، وأنا أكفيك أمرهم (2)، وأورطهم مورطا تكون فيه
هلكتهم. فقال له أخشنوار: وما الذي تنتفع به من سلامتنا وصلاح حالنا إذا أنت
هلكت ولم تشركنا في ذلك! فقال: إني قد بلغت ما كنت أحب أن أبلغ من الدنيا،
وأنا موقن أن الموت لا بد منه، وإن تأخر أياما قليلة، فأحب أن أختم عملي بأفضل
ما يختم به الأعمال من النصيحة بسلطاني، والنكاية في عدوي، فيشرف بذلك عقبي،
وأصيب سعادة وحظوة فيما أمامي.
ففعل أخشنوار به ذلك، وحمله فألقاه في الموضع الذي أشار إليه، فمر به فيروز في
جنوده، فسأله عن حاله، فأخبره أن أخشنوار فعل به ما يراه وأنه شديد الأسف،
كيف لا يستطيع أن يكون أمام الجيش في غزو بلاده وتخريب مدينته، ولكنه سيدل
الملك على طريق هو أقرب من هذا الطريق الذي يريدون سلوكه وأخفى، فلا يشعر
أخشنوار حتى يهجم عليه فينتقم الله منه بكم، وليس في هذا الطريق من المكروه
إلا تغور (3) يومين، ثم تفضون إلى كل ما تحبون.

(1) العيون: " أن تكفيني أهلي وولدي ".
(2) العيون: " أكفيك مؤونتهم وأمرهم ".
(3) التغور: إتيان الغور. وفي عيون الأخبار: " تفويز يومين "، أي السير في المفازة.
107

فقبل فيروز قوله بعد أن أشار إليه وزراؤه بالاتهام له، والحذر منه، [وبغير
ذلك] (1). فخالفهم وسلك تلك الطريق، فانتهوا بعد يومين إلى موضع من المفازة لا صدر
لهم عنه، ولا ماء معهم، ولا بين أيديهم، وتبين لهم أنهم قد خدعوا، فتفرقوا في تلك
المفازة يمينا وشمالا يلتمسون الماء، فقتل العطش أكثرهم، ولم يسلم مع فيروز إلا عدة
يسيرة، فانتهى إليهم أخشنوار بجيشه، فواقعهم في تلك الحال التي هم فيها من القلة والضر
والجهد، فاستمكنوا منهم، بعد أن أعظموا (2) النكاية فيهم.
وأسر فيروز، فرغب أخشنوار أن يمن عليه وعلى من بقي من أصحابه على أن يجعل له
عهد الله وميثاقه، ألا يغزوهم أبدا ما بقي، وعلى أن يحد فيما بينه وبين مملكتهم حدا لا يتجاوزه
جنوده. فرضي أخشنوار بذلك فخلى سبيله، وجعلا بين المملكتين حجرا (3) لا يتجاوزه
كل واحد منهما.
فمكث فيروز برهة من دهره، ثم حمله الانف على أن يعود لغزو الهياطلة، ودعا
أصحابه إلى ذلك، فنهوه عنه، وقالوا: إنك قد عاهدته، ونحن نتخوف عليك عاقبه البغي
والغدر، مع ما في ذلك من العار وسوء القالة (4).
فقال لهم: إنما اشترطت له ألا أجوز الحجر الذي جعلناه بيننا، وأنا آمر بالحجر
فيحمل أمامنا على عجل.
فقالوا: أيها الملك، إن العهود والمواثيق التي يتعاطاها الناس بينهم لا تحمل على
ما يسره المعطي لها، ولكن على ما يعلن به المعطى إياها، وإنما جعلت عهد الله وميثاقه
على الامر الذي عرفه، لا على الامر الذي لم يخطر له ببال. فأبى فيروز ومضى في غزوته
حتى انتهى إلى الهياطلة، وتصاف الفريقان للقتال.

(1) من عيون الأخبار.
(2) عيون الأخبار: " وأعظموا النكاية ".
(3) عيون الأخبار: " حدا لا تجاوزه ".
(4) القول في الخير، والقالة في الشر، وفي عيون الأخبار: " المقالة ".
108

فأرسل أخشنوار إلى فيروز يسأله أن يبرز فيما بين صفيهم، فخرج إليه، فقال له
أخشنوار: إني قد ظننت أنه لم يدعك إلى مقامك هذا إلا الانف مما أصابك، ولعمري
إن كنا قد احتلنا لك بما رأيت لقد كنت التمست منا أعظم منه، وما ابتدأناك ببغي
ولا ظلم، وما أردنا إلا دفعك عن أنفسنا وحريمنا، ولقد كنت جديرا أن تكون من
سوء مكافأتنا بمننا عليك وعلى من معك، ومن نقض العهد والميثاق الذي أكدته على
نفسك أعظم أنفا، وأشد امتعاضا مما نالك منا، فإنا أطلقناكم وأنتم أسارى، ومننا
عليكم وأنتم على الهلكة مشرفون، وحقنا دماءكم ولنا على سفكها قدرة. وإنا لم
نجبرك على ما شرطت لنا، بل كنت أنت الراغب إلينا فيه، والمريد لنا عليه، ففكر
في ذلك، وميز بين هذين الامرين فانظر أيهما أشد عارا، وأقبح سماعا، إن طلب رجل
أمرا فلم يقدر له ولم ينجح في طلبته وسلك سبيلا فلم يظفر فيه ببغيته، واستمكن منه عدوه
على حال جهد وضيعه منه وممن هم معه.
فمن عليهم وأطلقهم على شرط شرطوه، وأمر اصطلحوا عليه، فاصطبر (1) بمكروه
القضاء، واستحيا من الغدر والنكث، أن يقال: نقض العهد وأخفر (2) الميثاق، مع
أنى قد ظننت أنه يزيدك لجاجة (3) ما تثق به من كثرة جنودك، وما ترى من حسن
عدتهم، وما أجدني أشك أنهم أو أكثرهم كارهون لما كان من شخوصك بهم،
عارفون بأنك قد حملتهم على غير الحق، ودعوتهم إلى ما يسخط الله، وأنهم في حربنا
غير مستبصرين، ونياتهم على مناصحتك مدخولة.
فانظر ما قدر غناء من يقاتل على هذه الحال، وما عسى أن يبلغ نكايته في عدوه،
إذا كان عارفا بأنه إن ظفر فمع عار، وإن قتل فإلى النار! وأنا أذكرك الله الذي جعلته

(1) عيون الأخبار: " فاضطر ".
(2) أخفر ميثاقه: نقض عهده، وفي عيون الأخبار: " خفر الميثاق ".
(3) عيون الأخبار: " نجاحا ".
109

على نفسك كفيلا، وأذكرك نعمتي عليك وعلى من معك، بعد يأسكم من الحياة،
وإشفائكم على الممات، وأدعوك إلى ما فيه حظك ورشدك من الوفاء بالعهد، والاقتداء
بآبائك وأسلافك الذين مضوا على ذلك في كل ما أحبوه وكرهوه، فأحمدوا عواقبه
وحسن عليهم أثره.
ومع ذلك فإنك لست على ثقة من الظفر بنا، وبلوغ نهمتك (1) فينا، وإنما تلتمس
أمرا يلتمس منك مثله، وتنادي عدوا لعله يمنح النصر عليك، فاقبل هذه النصيحة
فقد بالغت في الاحتجاج عليك، وتقدمت بالاعذار إليك، ونحن نستظهر بالله الذي
اعتذرنا إليه، ووثقنا بما جعلت لنا من عهده، إذا استظهرت بكثرة جنودك، وازدهتك
عدة أصحابك، فدونك هذه النصيحة، فبالله ما كان أحد من أصحابك يبالغ لك أكثر
منها، ولا يزيدك عليها، ولا يحرمنك منفعتها مخرجها مني، فإنه ليس يزرى بالمنافع
والمصالح عند ذوي الآراء صدورها عن الأعداء، كما لا تحسن المضار أن تكون على
أيدي الأصدقاء. واعلم أنه ليس يدعوني إلى ما تسمع من مخاطبتي إياك ضعف من نفسي، ولا من
قلة جنودي، ولكني أحببت أن أزداد بذلك حجة واستظهارا، فأزداد به للنصر
والمعونة من الله استيجابا، ولا أوثر على العافية والسلامة شيئا ما وجدت إليهما
سبيلا (2).
فقال فيروز: لست ممن يردعه عن الامر يهم به الوعيد، ولا يصده التهدد
والترهيب، ولو كنت أرى ما أطلب غدرا مني، إذا ما كان أحد أنظر ولا أشد إبقاء
منى على نفسي، وقد يعلم الله إني لم أجعل لك العهد والميثاق إلا بما أضمرت في نفسي،
فلا يغرنك الحال التي كنت صادفتنا عليها من القلة والجهد والضعف.

(1) النهمة: الحاجة والشهوة.
(2) في عيون الأحبار بعدها: " فأبى فيروز إلا تعلقا لحجته في الحجر الذي جعله حدا بينه وبينه ".
110

فقال أخشنوار: لا يغرنك ما تخدع به نفسك من حملك الحجر أمامك، فإن الناس
لو كانوا يعطون العهود على ما تصف من إسرار أمر وإعلام آخر، إذا ما كان ينبغي
لأحد أن يغتر بأمان، أو يثق بعهد! وإذا ما قبل الناس شيئا مما كانوا يعطون من
ذلك، ولكنه وضع على العلانية، وعلى نية من تعقد له العهود والشروط. ثم انصرف.
فقال فيروز لأصحابه: لقد كان أخشنوار حسن المحاورة وما رأيت للفرس الذي كان
تحته نظيرا في الدواب، فإنه لم يزل قوائمه، ولم يرفع حوافره عن مواضعها، ولا صهل،
ولا أحدث شيئا يقطع به المحاورة في طول ما تواقفنا.
وقال أخشنوار لأصحابه: لقد وافقت فيروز كما رأيتم وعليه السلاح كله، فلم يتحرك،
ولم ينزع رجله من ركابه، ولا حنى ظهره، ولا التفت يمينا ولا شمالا،
ولقد توركت
أنا مرارا، وتمطيت على فرسي، والتفت إلى من خلفي، ومددت بصرى فيما أمامي، وهو
منتصب ساكن على حاله، ولولا محاورته إياي لظننت أنه لا يبصرني، وإنما أرادا بما وصفا من
ذلك أن ينشر هذان الحديثان في أهل عسكرهما فيشتغلوا بالإفاضة فيهما عن النظر فيما تذاكرا.
فلما كان في اليوم الثاني أخرج أخشنوار الصحيفة التي كتبها لهم فيروز،
ونصبها على رمح ليراها أهل عسكر فيروز فيعرفوا غدره وبغيه، ويخرجوا من
متابعته على هواه، فما هو إلا أن رأوها، حتى انتقض عسكرهم واختلفوا، وما تلبثوا إلا
يسيرا حتى انهزموا، وقتل منهم خلق كثير، وهلك فيروز، فقال أخشنوار لقد صدق
الذي قال، لا مرد لما قدر ولا شئ أشد إحالة لمنافع الرأي من الهوى واللجاج، ولا أضيع
من نصيحة يمنحها من لا يوطن نفسه على قبولها، والصبر على مكروهها، ولا أسرع عقوبة
وأسوأ عاقبة من البغي والغدر، ولا أجلب لعظيم العار والفضوح من الانف وإفراط
العجب (1).

(1) عيون الأخبار 1: 117 - 121.
111

(15)
الأصل
وكان عليه السلام يقول إذا لقى العدو محاربا:
اللهم إليك أفضت القلوب، ومدت الأعناق، وشخصت الابصار، ونقلت
الاقدام، وأنضيت الأبدان.
اللهم قد صرح مكنون الشنآن، وجاشت مراجل الأضغان.
اللهم إنا نشكو إليك غيبة نبينا، وكثرة عدونا، وتشتت أهوائنا.
ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين.
* * *
الشرح:
أفضت القلوب: أي دنت وقربت، ومنه أفضى الرجل إلى امرأته أي غشيها،
ويجوز أن يكون " أفضت " أي بسرها فحذف المفعول.
وأنضيت الأبدان: هزلت، ومنه النضو، وهو البعير المهزول.
وصرح: انكشف. والشنآن: البغضة.
وجاشت: تحركت واضطربت.
والمراجل: جمع مرجل، وهي القدر.
والأضغان: الأحقاد، واحدها ضغن.
وأخذ سديف مولى المنصور هذه اللفظة فكان يقول في دعائه: اللهم إنا نشكو
112

إليك غيبة نبينا وتشتت أهوائنا، وما شملنا من زيغ الفتن، واستولى علينا من غشوة الحيرة
حتى عاد فينا دولة بعد القسمة، وأمارتنا غلبة بعد المشورة، وعدنا ميراثا بعد الاختيار للأمة،
واشتريت الملاهي والمعازف بمال اليتيم والأرملة، ورعى في مال الله من لا يرعى له حرمة،
وحكم في أبشار المؤمنين أهل الذمة، وتولى القيام بأمورهم فاسق كل محلة، فلا ذائد يذودهم
عن هلكة، ولا راع ينظر إليهم بعين رحمة، ولا ذو شفقة يشبع الكبد الحري من
مسغبة، فهم أولو ضرع وفاقة، وأسراء فقر ومسكنة، وحلفاء كآبة، وذلة، اللهم وقد
استحصد زرع الباطل وبلغ نهايته، واستحكم عموده، واستجمع طريده، وحذف
وليده، وضرب بجرانه، فأتح له من الحق يدا حاصدة، تجذ سنامه، وتهشم سوقه،
وتصرع قائمه، ليستخفى الباطل بقبح حليته، ويظهر الحق بحسن صورته.
ووجدت هذه الألفاظ في دعاء منسوب إلى علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام،
ولعله من كلامه، وقد كان سديف يدعو به.
113

(16)
الأصل:
وكان يقول عليه السلام لأصحابه عند الحرب:
لا تشتدن عليكم فرة بعدها كرة، ولا جولة بعدها حملة، وأعطوا السيوف
حقوقها، ووطنوا للجنوب مصارعها، واذمروا أنفسكم على الطعن الدعسي،
والضرب الطلحفي، وأميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل.
والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، ما أسلموا ولكن استسلموا، وأسروا الكفر،
فلما وجدوا أعوانا عليه أظهروه.
* * *
الشرح:
قال: لا تستصعبوا فرة تفرونها بعدها كرة تجبرون بها ما تكسر من حالكم،
وإنما الذي ينبغي لكم أن تستصعبوه فرة لا كرة بعدها، وهذا حض لهم على أن يكروا
ويعودوا إلى الحرب إن وقعت عليهم كسره.
ومثله قوله: " ولا جولة بعدها حملة "، والجولة: هزيمة قريبة ليست بالممعنة (1).
واذمروا أنفسكم، من ذمره على كذا أي حضه عليه. والطعن الدعسي: الذي
يحشى به أجواف الأعداء، وأصل الدعس الحشو، دعست الوعاء، حشوته.
وضرب طلحفي، بكسر الطاء وفتح اللام، أي شديد، واللام زائدة.

(1) الممعنة، من الإمعان، وفي ب: " ممنعة " تحريف.
114

ثم أمرهم بإماتة الأصوات، لان شدة الضوضاء في الحرب أمارة الخوف والوجل.
ثم أقسم أن معاوية وعمرا ومن والاهما من قريش ما أسلموا ولكن استسلموا خوفا
من السيف ونافقوا، فلما قدروا على إظهار ما في أنفسهم أظهروه، وهذا يدل على أنه
عليه السلام جعل محاربتهم له كفرا.
وقد تقدم في شرح حال معاوية وما يذكره كثير من أصحابنا من فساد عقيدته
ما فيه كفاية.
* * *
[نبذ من الأقوال المتشابهة في الحرب]
وأوصى أكثم بن صيفي قوما نهضوا إلى الحرب فقال: ابرزوا للحرب، وادرعوا
الليل، فإنه أخفى للويل، ولا جماعة لمن اختلف، واعلموا أن كثرة الصياح من الفشل،
والمرء يعجز لا محالة.
وسمعت عائشة يوم الجمل أصحابها يكبرون فقالت: لا تكبروا هاهنا، فإن
كثرة التكبير عند القتال من الفشل.
وقال بعض السلف: قد جمع الله أدب الحرب في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا
إذا لقيتم فئة فاثبتوا...) (1) الآيتين.
وقال عتبة بن ربيعة لقريش يوم بدر: ألا ترونهم - يعني أصحاب النبي صلى الله
عليه وآله - جثيا على الركب، يتلمظون تلمظ الحيات!
وأوصى عبد الملك بن صالح أمير سرية بعثها، فقال: أنت تاجر الله لعباده، فكن
كالمضارب الكيس الذي إن وجد ربحا تجر، وإلا احتفظ برأس المال، ولا تطلب

(1) سورة الأنفال 45، 46.
115

الغنيمة حتى تحوز السلامة، وكن من احتيالك على عدوك أشد حذرا من احتيال
عدوك عليك.
وفى الحديث المرفوع أنه صلى الله عليه وآله قال لزيد بن حارثة: لا تشق جيشك،
فإن الله تعالى ينصر القوم بأضعفهم.
وقال ابن عباس - وذكر عليا عليه السلام: ما رأيت رئيسا يوزن به، لقد رأيته يوم
صفين وكأن عينيه سراجا سليط (1) وهو يحمس أصحابه إلى أن انتهى إلي وأنا في كنف
فقال: يا معشر المسلمين، استشعروا الخشية، وتجلببوا السكينة، وأكملوا اللامة... الفصل
المذكور فيما تقدم.

(1) السليط: زيت به يضاء.
116

(17)
الأصل:
ومن كتاب له عليه السلام إلى معاوية جوابا عن كتاب منه إليه:
وأما طلبك إلي الشام، فإني لم أكن لأعطيك اليوم ما منعتك أمس.
وأما قولك: إن الحرب قد أكلت العرب إلا حشاشات أنفس بقيت، ألا ومن
أكله الحق فإلى الجنة، ومن أكله الباطل فإلى النار.
وأما استواؤنا في الحرب والرجال فلست بأمضى على الشك منى على اليقين،
وليس أهل الشام بأحرص على الدنيا من أهل العراق على الآخرة.
وأما قولك: إنا بنو عبد مناف! فكذلك نحن، ولكن ليس أمية كهاشم،
ولا حرب كعبد المطلب، ولا أبو سفيان كأبي طالب، ولا لمهاجر كالطليق، ولا
الصريح كاللصيق، ولا المحق كالمبطل، ولا المؤمن كالمدغل. ولبئس الخلف
خلف يتبع سلفا هوى في نار جهنم.
وفي أيدينا بعد فضل النبوة التي أذللنا بها العزيز، ونعشنا بها الذليل. ولما
أدخل الله العرب في دينه أفواجا، وأسلمت له هذه الأمة طوعا وكرها، كنتم ممن
دخل في الدين، إما رغبة وإما رهبة، على حين فاز أهل السبق بسبقهم، وذهب
المهاجرون الأولون بفضلهم، فلا تجعلن للشيطان فيك نصيبا، ولا على
نفسك سبيلا. والسلام
117

الشرح:
يقال: طلبت إلى فلان كذا، والتقدير طلبت كذا راغبا إلى فلان، كما قال تعالى:
(في تسع آيات إلى فرعون) (1) أي مرسلا.
ويروى " إلا حشاشة نفس "، بالافراد، وهو بقيه الروح في بدن المريض.
وروي: " ألا ومن أكله الحق فإلى النار "، وهذه الرواية أليق من الرواية
المذكورة في أكثر الكتب، لان الحق يأكل أهل الباطل، ومن روى تلك الرواية
أضمر مضافا تقديره " أعداء الحق "، ومضافا آخر تقديره " أعداء الباطل ". ويجوز
أن يكون من أكله الحق فإلى الجنة، أي من أفضى به الحق ونصرته والقيام دونه إلى
القتل، فإن مصيره إلى الجنة، فيسمى الحق لما كانت نصرته كالسبب إلى القتل أكلا
لذلك المقتول، وكذلك القول في الجانب الآخر.
وكان الترتيب يقتضى أن يجعل هاشما بإزاء عبد شمس لأنه أخوه في قعدد (2)،
وكلاهما ولد عبد مناف لصلبه، وأن يكون أمية بإزاء عبد المطلب، وأن يكون حرب
بإزاء أبى طالب، وأن يكون أبو سفيان بإزاء أمير المؤمنين عليه السلام، لان كل واحد
من هؤلاء في قعدد صاحبه، إلا أن أمير المؤمنين عليه السلام لما كان في صفين بإزاء
معاوية اضطر إلى أن جعل هاشما بإزاء أمية بن عبد شمس.
فإن قلت: فهلا قال: " ولا أنا كأنت "؟ قلت: قبيح أن يقال ذلك، كما لا يقال:
السيف أمضى من العصا، بل قبيح به أن يقولها مع أحد من المسلمين كافة، نعم قد
يقولها لا تصريحا، بل تعريضا، لأنه يرفع نفسه على أن يقيسها بأحد.
وهاهنا قد عرض بذلك في قوله: " ولا المهاجر كالطليق " فإن قلت: فهل معاوية

(1) سورة النمل 12.
(2) قعدد، أي قريب الآباء من الجد الأكبر.
118

من الطلقاء؟ قلت: نعم، كل من دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وآله مكة عنوة
بالسيف فملكه ثم من عليه عن إسلام أو غير إسلام فهو من الطلقاء ممن لم يسلم كصفوان
بن أمية، ومن أسلم كمعاوية بن أبي سفيان، وكذلك كل من أسر في حرب رسول الله
صلى الله عليه وآله، ثم امتن عليه بفداء أو بغير فداء فهو طليق، فممن امتن عليه بفداء
كسهيل بن عمرو، وممن امتن عليه بغير فداء أبو عزة الجمحي، وممن امتن عليه معاوضة أي
أطلق لأنه بإزاء أسير من المسلمين عمرو بن أبي سفيان بن حرب، كل هؤلاء معدودون
من الطلقاء.
فإن قلت: فما معنى قوله: " ولا الصريح كاللصيق "، وهل كان في نسب معاوية
شبهة ليقول له هذا؟
قلت: كلا إنه لم يقصد ذلك، وإنما أراد الصريح بالاسلام واللصيق في الاسلام، فالصريح
فيه هو من أسلم اعتقادا وإخلاصا، واللصيق فيه من أسلم تحت السيف أو رغبة في الدنيا،
وقد صرح بذلك فقال: " كنتم ممن دخل في هذا الدين إما رغبة وإما رهبة ".
فإن قلت: فما معنى قوله: " ولبئس الخلف خلفا يتبع سلفا هوى في نار جهنم "؟
وهل يعاب المسلم بأن سلفه كانوا كفارا!
قلت: نعم، إذا تبع آثار سلفه واحتذى حذوهم، وأمير المؤمنين عليه السلام ما عاب
معاوية بأن سلفه كفار فقط، بل بكونه متبعا لهم.
قوله عليه السلام: " وفي أيدينا بعد فضل النبوة " أي إذا فرضنا تساوي الاقدام
في مآثر أسلافكم كان في أيدينا بعد الفضل عليكم بالنبوة التي نعشنا بها الخامل، وأخملنا
بها النبيه.
قوله عليه السلام: " على حين فاز أهل السبق "، قال قوم من النحاة:
119

" حين " مبني هاهنا على الفتح. وقال قوم: بل منصوب لإضافته إلى الفعل.
قوله عليه السلام: " فلا تجعلن للشيطان فيك نصيبا "، أي لا تستلزم من أفعالك
ما يدوم به كون الشيطان ضاربا فيك بنصيب، لأنه ما كتب إليه هذه الرسالة إلا بعد
أن صار للشيطان فيه أوفر نصيب، وإنما المراد نهيه عن دوام ذلك واستمراره.
* * *
[ذكر بعض ما كان بين علي ومعاوية يوم صفين]
وذكر نصر بن مزاحم بن بشار العقيلي في كتاب " صفين " أن هذا الكتاب
كتبه علي عليه السلام إلى معاوية قبل ليلة الهرير بيومين أو ثلاثة. قال نصر: أظهر
علي عليه السلام أنه مصبح معاوية ومناجز له، وشاع ذلك من قوله. ففزع أهل
الشام لذلك، وانكسروا لقوله. وكان معاوية بن الضحاك بن سفيان صاحب راية بني
سليم مع معاوية مبغضا لمعاوية وأهل الشام، وله هوى مع أهل العراق، وعلي بن أبي طالب
عليه السلام، وكان يكتب بأخبار معاوية إلى عبد الله بن الطفيل العامري، وهو مع
أهل العراق فيخبر بها عليا عليه السلام، فلما شاعت كلمة علي عليه السلام وجل لها
أهل الشام، وبعث ابن الضحاك إلى عبد الله بن الطفيل: أنى قائل شعرا أذعر به أهل
الشام وأرغم به معاوية، وكان معاوية لا يتهمه، وكان له فضل ونجدة ولسان، فقال ليلا
ليستمع أصحابه:
ألا ليت هذا الليل أطبق سرمدا * علينا وأنا لا نرى بعده غدا
ويا ليته إن جاءنا بصباحه * وجدنا إلى مجرى الكواكب مصعدا
حذار علي إنه غير مخلف * مدى الدهر ما لب الملبون موعدا
وأما قراري في البلاد فليس لي * مقام وإن جاوزت جابلق مصعدا
120

كأني به في الناس كاشف رأسه * على ظهر خوار الرحالة أجردا
يخوض غمار الموت في مرجحنة * ينادون في نقع العجاج محمدا (1)
فوارس بدر والنضير وخيبر * وأحد يهزون الصفيح المهندا
ويوم حنين جالدوا عن نبيهم * فريقا من الأحزاب حتى تبددا (2)
هنالك لا تلوي عجوز على ابنها * وإن أكثرت من قول: نفسي لك الفدا
فقل لابن حرب ما الذي أنت صانع * أتثبت أم ندعوك في الحرب قعددا (3)
فلا رأي إلا تركنا الشام جهرة * وإن أبرق الفجفاج فيها وأرعدا (4)
فلما سمع أهل الشام شعره أتوا به معاوية، فهم بقتله، ثم راقب فيه قومه، فطرده
من الشام، فلحق بمصر وندم معاوية على تسييره إياه. وقال معاوية: لشعر السلمي (5) أشد
على أهل الشام من لقاء علي، ما له قاتله الله، لو صار خلف جابلق مصعدا
لم يأمن عليا! ألا تعلمون ما جابلق؟ يقوله لأهل الشام، قالوا: لا، قال: مدينة في أقصى
المشرق ليس بعدها شئ.
قال نصر: وتناقل الناس كلمة علي عليه السلام: " لأناجزنهم مصبحا (6) "، فقال الأشتر:
قد دنا الفضل في الصباح * وللسلم رجال وللحروب رجال

(1) المرجحنة: الامر العظيم.
(2) جالدوا: دافعوا.
(3) القعدد: الجبان القاعد عن الحرب، وبعده في صفين:
وظني بألا يصبر القوم موقفا * يقفه وإن لم يجر في الدهر للمدى
(4) الفجفاج: كثير الكلام المتشبع بما ليس عنده.
(5) صفين: " لقول السلمي ".
(6) صفين: " إني مناجز القوم إن أصبحت ".
121

فرجال الحروب كل خدب * مقحم لا تهده الأهوال (1)
يضرب الفارس المدجج بالسيف * إذا فر في الوغا الأكفال
يا بن هند شد الحيازيم للموت * ولا تذهبن بك الآمال
إن في الصبح إن بقيت لأمرا * تتفادى من هوله الابطال
فيه عز العراق أو ظفر * الشام بأهل العراق والزلزال
فاصبروا للطعان بالأسل * السمر وضرب تجرى به الأمثال (2)
إن تكونوا قتلتم النفر * البيض وغالت أولئك الآجال (3)
فلنا مثلهم غداة التلاقي * وقليل من مثلهم أبدال
يخضبون الوشيج طعنا إذا * جرت من الموت بينهم أذيال (4)
طلب الفوز في المعاد وفيه * تستهان النفوس والأموال
قال: فلما انتهى إلى معاوية شعر الأشتر قال: شعر منكر، من شاعر منكر،
رأس أهل العراق وعظيمهم، ومسعر حربهم، وأول الفتنة وآخرها، قد رأيت أن أعاود عليا
وأساله إقراري على الشام، فقد كنت كتبت إليه ذلك فلم يجب إليه، ولأكتبن
ثانية، فألقي في نفسه الشك والرقة. فقال له عمرو بن العاص وضحك: أين أنت يا معاوية
من خدعة علي! قال: ألسنا بني عبد مناف! قال: بلى، ولكن لهم النبوة دونك،
وإن شئت أن تكتب فاكتب، فكتب معاوية إلى علي عليه السلام مع رجل من
السكاسك يقال له عبد الله بن عقبة، وكان من نافلة أهل العراق:
أما بعد فإنك لو علمت أن الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت لم يجنها بعضنا على

(1) الخدب: الشديد الصلب، والمقحم، من قحم في الامر كنصر قحوما، إذا رمى بنفسه فيه
فجأة بلا روية.
(2) الأسل: الرماح. والشم: العوالي.
(3) يقال: غاله غول، إذا أهلكه.
(4) الوشيج: شجر الرماح.
122

بعض، ولئن كنا قد غلبنا على عقولنا لقد بقي لنا منها ما نندم به على ما مضى، ونصلح
به ما بقي، وقد كنت سألتك الشام على أن تلزمني لك بيعة وطاعة، فأبيت ذلك علي،
فأعطاني الله ما منعت، وأنا أدعوك اليوم إلى ما دعوتك إليه أمس، فإني لا أرجو من
البقاء إلا ما ترجو، ولا أخاف من الموت إلا ما تخاف، وقد والله فارقت الأجناد، وذهبت
الرجال، ونحن بنو عبد مناف، ليس لبعضنا على بعض فضل إلا فضل لا يستذل به عزيز،
ولا يسترق به حر، والسلام.
فلما انتهى كتاب معاوية إلى علي عليه السلام قرأه، ثم قال: العجب لمعاوية
وكتابه! (1 ودعا عبيد بن أبي رافع كاتبه، فقال: أكتب جوابه 1).
أما بعد، فقد جاءني كتابك تذكر أنك لو علمت وعلمنا أن الحرب تبلغ بنا وبك
ما بلغت لم يجنها بعضنا على بعض، فإني لو قتلت في ذات الله، وحييت، ثم قتلت ثم
حييت سبعين مرة لم أرجع عن الشدة في ذات الله والجهاد لأعداء الله، وأما قولك: إنه قد بقي من عقولنا ما نندم به على ما مضى، فإني ما نقصت عقلي، ولا ندمت على فعلي. وأما طلبك
الشام فإني لم أكن أعطيك اليوم ما منعتك أمس، وأما استواؤنا في الخوف والرجاء
فلست أمضى على الشك منى على اليقين، وليس أهل الشام بأحرص على الدنيا من
أهل العراق على الآخرة. وأما قولك: إنا بنو عبد مناف ليس لبعضنا فضل على بعض!
فلعمري إنا بنو أب واحد، ولكن ليس أمية كهاشم، ولا حرب كعبد المطلب، ولا
المهاجر كالطليق، ولا المحق كالمبطل، وفي أيدينا بعد فضل النبوة التي أذللنا بها العزيز
وأعززنا بها الذليل. والسلام.
فلما أتى معاوية كتاب علي عليه السلام كتمه عن عمرو بن العاص أياما، ثم دعاه

(1 - 1) صفين: " ثم دعا عبيد الله بن أبي رافع كاتبه، فقال: اكتب إلى معاوية ".
123

فأقرأه إياه فشمت به عمرو - ولم يكن أحد من قريش أشد إعظاما لعلي من عمرو بن
العاص منذ يوم لقيه وصفح عنه - فقال عمرو فيما كان أشار به على معاوية:
ألا لله درك يا بن هند * ودر الآمرين لك الشهود!
أتطمع لا أبا لك في علي * وقد قرع الحديد على الحديد!
وترجو أن تحيره بشك * وتأمل أن يهابك بالوعيد (1)
وقد كشف القناع وجر حربا * يشيب لهولها رأس الوليد
له جأواء مظلمة طحون * فوارسها تلهب كالأسود (2)
يقول لها إذا رجعت إليه (3) * وقد ملت طعان القوم: عودي
فإن وردت فأولها ورودا * وإن صدت فليس بذي صدود
وما هي من أبى حسن بنكر * ولا هو من مسائك بالبعيد
وقلت له مقالة مستكين * ضعيف الركن منقطع الوريد
دعن لي الشام حسبك يا بن هند * من السوآت والرأي الزهيد
ولو أعطاكها ما ازددت عزا * ولا لك لو أجابك من مزيد
فلم تكسر بذاك الرأي عودا * لركته ولا ما دون عود (4)
فلما بلغ معاوية شعر عمرو دعاه فقال له: العجب لك! تفيل رأيي، وتعظم عليا
وقد فضحك! فقال: أما تفييلي رأيك فقد كان، وأما إعظامي عليا فإنك بإعظامه
أشد معرفة مني، ولكنك تطويه وأنا أنشره. وأما فضيحتي فلم يفتضح امرؤ
لقي أبا حسن (5).

(1) صفين: " وترجو أن يهابك بالوعيد ".
(2) الجأواء: الكتيبة يعلوها السواد لكثرة الدروع.
(3) صفين: " إذا دلفت إليه ".
(4) الركة: الضعف.
(5) صفين 535 - 540.
124

(18)
الأصل:
ومن كتاب له عليه السلام إلى عبد الله بن عباس وهو عامله على البصرة:
واعلم أن البصرة مهبط إبليس، ومغرس الفتن، فحادث أهلها بالاحسان
إليهم، واحلل عقدة الخوف عن قلوبهم.
وقد بلغني تنمرك لبني تميم، وغلظتك عليهم، وإن بني تميم لم يغب
لهم نجم إلا طلع لهم آخر، وإنهم لم يسبقوا بوغم في جاهلية ولا إسلام،
وإن لهم بنا رحما ماسة، وقرابة خاصة، نحن مأجورون على صلتها، ومأزورون
على قطيعتها.
فأربع أبا العباس رحمك الله فيما جرى على يدك ولسانك من خير وشر!
فإنا شريكان في ذلك، وكن عند صالح ظني بك، ولا يفيلن رأيي
فيك، والسلام.
* * *
الشرح:
قوله عليه السلام: مهبط إبليس: موضع هبوطه.
ومغرس الفتن: موضع غرسها، ويروى: " ومغرس الفتن "، وهو الموضع الذي
ينزل فيه القوم آخر الليل للاستراحة، يقال غرسوا وأغرسوا.
وقوله عليه السلام: " فحادث أهلها "، أي تعهدهم بالاحسان، من قولك:
حادثت السيف بالصقال.
125

والتنمر للقوم: الغلظة عليهم، والمعاملة لهم بأخلاق النمر من الجرأة والوثوب،
وسنذكر تصديق قوله عليه السلام: " لم يغب لهم نجم إلا طلع لهم آخر ".
والوغم: الترة، والأوغام: الترات، أي لم يهدر لهم دم في جاهلية ولا إسلام،
يصفهم بالشجاعة والحمية.
ومأزورون، كان أصله " موزورون "، ولكنه جاء بالألف ليحاذي به ألف
" مأجورون " وقد قال النبي صلى الله عليه وآله مثل ذلك.
قوله عليه السلام: " فأربع أبا العباس "، أي قف وتثبت في جميع ما تعتمده فعلا
وقولا من خير وشر، ولا تعجل به فإني شريكك فيه إذ أنت عاملي والنائب عني.
ويعني بالشر هاهنا الضرر فقط، لا الظلم والفعل القبيح.
قوله عليه السلام: " وكن عند صالح ظني فيك "، أي كن واقفا عنده كأنك
تشاهده فتمنعك مشاهدته عن فعل ما لا يجوز.
فال الرأي يفيل، أي ضعف وأخطأ.
* * *
[فصل في بني تميم وذكر بعض فضائلهم]
وقد ذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتاب " التاج " أن لبني تميم مآثر لم
يشركهم فيها غيرهم. أما بنو سعد بن زيد مناة فلها ثلاث خصال يعرفها العرب:
إحداها: كثرة العدد فإنه أضعف عددها على بنى تميم حتى ملأت السهل والجبل
عدلت مضر كثرة، وعامة العدد منها في كعب بن سعد بن زيد مناة، ولذلك قال أوس
بن مغراء:
126

كعبي من خير الكعاب كعبا * من خيرها فوارسا وعقبا
* تعدل جنبا وتميم جنبا *
وقال الفرزدق أيضا فيهم هذه الأبيات:
لو كنت تعلم ما برمل مويسل * فقرى عمان إلى ذوات حجور
لعلمت أن قبائلا وقبائلا * من آل سعد لم تدن لأمير
وقال أيضا:
تبكي على سعد وسعد مقيمة * بيبرين قد كادت على الناس تضعف (1)
ولذلك كانت تسمى سعد الأكثرين. وفي المثل: " في كل واد بنو سعد " (2).
والثانية: الإفاضة في الجاهلية، كان ذلك في بني عطارد، وهم يتوارثون ذلك كابرا
عن كابر، حتى قام الاسلام، وكانوا إذا اجتمع الناس أيام الحج بمنى لم يبرح أحد
من الناس دينا وسنة حتى يجوز القائم بذلك من آل كرب بن صفوان، وقال أوس
بن مغراء:
ولا يريمون في التعريف موقفهم * حتى يقال: أجيزوا آل صفوانا
وقال الفرزدق:
إذا ما التقينا بالمحصب من منى * صبيحة يوم النحر من حيث عرفوا (3)
ترى الناس ما سرنا يسيرون حولنا * وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا
والثالثة: أن منهم أشرف بيت في العرب الذي شرفته ملوك لخم. قال المنذر بن
المنذر بن ماء السماء ذات يوم وعنده وفود العرب ودعا ببردي أبيه محرق بن المنذر
فقال ليلبس هذين أعز العرب وأكرمهم حسبا. فأحجم الناس، فقال أحيمر بن

(1) ديوانه 569.
(2) مجمع الأمثال 2: 83، ولفظه فيه: " في كل أرض سعد بن زيد "، قاله الأضبط بن قريع.
(3) عرفوا، أي وقفوا بعرفات.
127

خلف بن بهدلة بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناه بن تميم: أنا لهما، قال: الملك:
بماذا؟ قال: بأن مضر أكرم العرب وأعزها وأكثرها عديدا، وأن تميما كاهلها (1)
وأكثرها، وأن بيتها وعددها في بني بهدلة بن عوف، وهو جدي. فقال: هذا
أنت في أصلك وعشيرتك، فكيف أنت في عترتك وأدانيك!
قال: أنا أبو عشرة، وأخو عشرة، وعم عشرة. فدفعهما إليه، وإلى هذا أشار
الزبرقان بن بدر في قوله:
وبردا ابن ماء المزن عمي اكتساهما * بفضل معد حيث عدت محاصله
قال أبو عبيدة: ولهم في الاسلام خصلة، قدم قيس بن عاصم المنقري على رسول الله
صلى الله عليه وآله في نفر من بني سعد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: " هذا
سيد أهل الوبر "، فجعله سيد خندف وقيس ممن يسكن الوبر.
قال: وأما بنو حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم فلهم خصال كثيرة. قال: في
بني دارم بن مالك بن حنظلة، وهو بيت مضر، فمن ذلك زرارة بن عدس بن زيد بن
دارم يقال: إنه أشرف البيوت في بني تميم، ومن ذلك قوس حاجب بن زرارة المرهونة
عند كسرى عن مضر كلها، وفي ذلك قيل:
وأقسم كسرى لا يصالح واحدا من الناس * حتى يرهن القوس حاجب
ومن ذلك في بني مجاشع بن دارم صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان
بن مجاشع، وهو أول من أحيا الوئيد، قام الاسلام وقد اشترى ثلاثمائة موؤودة فأعتقهن
ورباهن، وكانت العرب تئد البنات خوف الإملاق.
ومن ذلك غالب بن صعصعة، وهو أبو الفرزدق، وغالب هو الذي قرى مائة
ضيف، واحتمل عشر ديات لقوم لا يعرفهم، وكان من حديث ذلك أن بني كلب

(1) كاهلها، أي أعلاها.
128

ابن وبرة افتخرت بينها في أنديتها، فقالت: نحن لباب العرب وقلبها، ونحن الذين
لا ننازع حسبا وكرما. فقال شيخ منهم: إن العرب غير مقرة لكم بذلك، إن لها
أحسابا، وإن منها لبابا، وإن لها فعالا، ولكن ابعثوا مائة منكم في أحسن هيئة وبزة
ينفرون من مروا به في العرب ويسألونه عشر ديات، ولا ينتسبون له، فمن قراهم وبذل
لهم الديات فهو الكريم الذي لا ينازع فضلا، فخرجوا حتى قدموا على أرض بنى تميم
وأسد، فنفروا الاحياء حيا فحيا، وماء فماء، لا يجدون أحدا على ما يريدون، حتى مروا على
أكثم بن صيفي، فسألوه ذلك، فقال من هؤلاء القتلى؟ ومن أنتم؟ وما قصتكم؟ فإن
لكم لشأنا باختلافكم في كلامكم! فعدلوا عنه، ثم مروا بقتيبة بن الحارث بن شهاب
اليربوعي، فسألوه عن ذلك، فقال من أنتم؟ قالوا: من كلب بن وبرة. فقال: إني لأبغي
كلبا بدم، فإن انسلخ الأشهر الحرم وأنتم بهذه الأرض وأدرككم الخيل نكلت بكم
وأثكلتكم أمهاتكم، فخرجوا من عنده مرعوبين، فمروا بعطارد بن حاجب بن زرارة،
فسألوه ذلك، فقال: قولوا بيانا وخذوها، فقالوا: أما هذا فقد سألكم قبل أن يعطيكم
فتركوه، ومروا ببني مجاشع بن دارم فأتوا على واد قد امتلأ إبلا فيها غالب بن صعصعة يهنأ (1)
منها إبلا، فسألوه القرى والديات، فقال هاكم البزل قبل النزول فابتزوها من البرك وحوزوا
دياتكم، ثم أنزلوا، فتنزلوا وأخبروه بالحال، وقالوا: أرشدك الله من سيد قوم، لقد أرحتنا
من طول النصب، ولو علمنا لقصدنا إليك، فذلك قول الفرزدق:
فلله عينا من رأى مثل غالب * قرى مائة ضيفا ولم يتكلم (2)
وإذ نبحت كلب على الناس إنهم * أحق بتاج الماجد المتكرم

(1) هنأ الإبل يهنؤها: طلاها بالهناء، وهو القطران.
(2) ديوانه 759، وروايته: " ألا هل علمتم ميتا قبل غالب ".
129

فلم يجل عن أحسابها غير غالب * جرى بعناني كل أبلج خضرم (1)
قال: فأما بنو يربوع بن حنظلة، فمنهم. ثم من بني رباح بن يربوع عتاب بن هرمي
بن رياح، كانت له ردافة الملوك، ملوك آل المنذر، وردافة الملك أن يثنى به في الشرب،
وإذا غاب الملك خلفه في مجلسه، وورث ذلك بنوه كابرا عن كابر، حتى قام الاسلام،
قال لبيد بن ربيعة:
وشهدت أنجبة الأكارم غالبا * كعبي وأرداف الملوك شهود (2)
ويربوع أول من قتل قتيلا من المشركين، وهو واقد بن عبد الله بن ثعلبه بن
يربوع حليف عمر بن الخطاب، قتل عمرو بن الحضرمي في سرية نخلة، فقال عمر
ابن الخطاب يفتخر بذلك:
سقينا من ابن الحضرمي رماحنا * بنخلة لما أوقد الحرب واقد
وظل ابن عبد الله عثمان بيننا * ينازعه غل من القد عاند (2)
ولها جواد العرب كلها في الاسلام، بدأ العرب كلها جودا، خالد بن عتاب بن ورقاء
الرياحي. دخل الفرزدق على سليمان بن عبد الملك، وكان يشنؤه لكثرة بأوه (4) وفخره،
فتهجمه وتنكر له، وأغلظ في خطابه حتى قال: من أنت لا أم لك! قال: أوما تعرفني
يا أمير المؤمنين؟ أنا من حي هم من أوفى العرب، وأحلم العرب، وأسود العرب، وأجود العرب
وأشجع العرب، وأشعر العرب. فقال سليمان: والله لتحتجن لما ذكرت أو لأوجعن ظهرك،
ولأبعدن دارك. قال: أما أوفى العرب فحاجب بن زرارة، رهن قوسه عن العرب
كلها وأوفى. وأما أحلم العرب فالأحنف بن قيس يضرب به المثل حلما، وأما أسود
العرب فقيس بن عاصم، قال له رسول الله صلى الله عليه وآله: " هذا سيد أهل الوبر "،

(1) الأبلج: الواضح. والخضرم: الجواد المعطاء.
(2) لم أجده في ديوانه.
(3) الغل بالضم: طوق من حديد يجعل في العنق، والجمع أغلال.
(4) البأو: الفخر.
130

وأما أشجع العرب فالحريش بن هلال السعدي، وأما أجود العرب فخالد بن عتاب
ابن ورقاء الرياحي، وأما أشعر العرب فها أنا ذا عندك! قال سليمان: فما جاء بك؟ لا شئ
لك عندنا، فارجع على عقبك، وغمه ما سمع من عزه، ولم يستطع له ردا، فقال
الفرزدق في أبيات:
أتيناك لا من حاجة عرضت لنا * إليك ولا من قلة في مجاشع (1)
قلت: ولو ذكر عتيبة بن الحارث بن شهاب اليربوعي وقال: إنه أشجع العرب
لكان غير مدافع. قالوا: كانت العرب تقول لو وقع القمر إلى الأرض لما التقفه إلا
عتيبة بن الحارث لثقافته بالرمح. وكان يقال له: صياد الفوارس وسم الفوارس، وهو
الذي أسر بسطام بن قيس، وهو فارس ربيعة وشجاعها، ومكث عنده في القيد مده
حتى استوفى فداءه وجز ناصيته، وخلى سبيله على ألا يغزو بني يربوع. وعتيبة هذا
هو المقدم على فرسان العرب كلها في كتاب طبقات الشجعان ومقاتل الفرسان،
ولكن الفرزدق لم يذكره وإن كان تميميا، لان جريرا يفتخر به، لأنه من بنى
يربوع، فحملته عداوة جرير على أن عدل عن ذكره.
* * *
قال أبو عبيدة: ولبني عمرو بن تميم خصال تعرفها لهم العرب ولا ينازعهم فيها (2)
أحد، فمنها أكرم الناس عما وعمة، وجدا وجدة، وهو هند بن أبي هالة، واسم
أبى هالة نباش بن زرارة أحد بني عمرو بن تميم، كانت خديجة بنت خويلد قبل

(1) ديوانه 491.
(2) أ: " عليها ".
131

النبي صلى الله عليه وآله تحت أبي هالة فولدت له هندا، ثم تزوجها رسول الله صلى الله
عليه وآله وهند بن أبي هالة غلام صغير، فتبناه النبي صلى الله عليه وآله، ثم ولدت
خديجة من رسول الله صلى الله عليه وآله القاسم والطاهر وزينب ورقية وأم كلثوم
وفاطمة، فكان هند بن أبي هالة أخاهم لأمهم، ثم أولد هند بن أبي هالة هند بن هند،
فهند الثاني أكرم الناس جدا وجدة، يعني رسول الله صلى الله عليه وآله وخديجة،
وأكرم الناس عما وعمة - يعني بني النبي صلى الله عليه وآله وبناته.
ومنها أن لهم أحكم العرب في زمانه أكثم بن صيفي، أحد بني أسد بن عمرو بن
تميم، كان أكثر أهل الجاهلية حكما ومثلا وموعظة سائرة.
ومنها ذو الاعواز، كان له خراج على مضر كافة تؤديه إليه، فشاخ حتى كان
يحمل على سرير يطاف به على مياه العرب، فيؤدى إليه الخراج، وقال الأسود بن يعفر
النهشلي وكان ضريرا:
ولقد علمت خلاف ما تناشي * إن السبيل سبيل ذي الاعواز
ومنها هلال بن أحوز المازني الذي ساد تميما كلها في الاسلام، ولم يسدها غيره.
قال: ودخل خالد بن عبد الرحمن بن الوليد بن المغيرة المخزومي مسجد الكوفة،
فانتهى إلى حلقة فيها أبو الصقعب التيمي، من تيم الرباب، والمخزومي لا يعرفه، وكان
أبو الصقعب من أعلم الناس، فلما سمع علمه وحديثه حسده، فقال له: ممن الرجل؟ قال:
من تيم الرباب، فظن المخزومي أنه وجد فرصة، فقال: والله ما أنت من سعد الأكثرين
ولا من حنظلة الأكرمين، ولا من عمرو الأشدين! فقال أبو الصقعب: فممن أنت؟
قال من بنى مخزوم. قال: والله ما أنت من هاشم المنتخبين، ولا من أمية المستخلفين،
132

ولا من عبد الدار المستحجبين، فبم تفخر؟ قال: نحن ريحانة قريش، قال أبو الصقعب:
قبحا لما جئت به! وهل تدري لم سميت مخزوم ريحانة قريش؟ سميت لحظوة نسائها
عند الرجال، فأفحمه.
روى أبو العباس المبرد في كتاب " الكامل " أن معاوية قال للأحنف بن قيس
وجارية (1) بن قدامة ورجال من بني سعد معهما كلاما أحفظهم، فردوا عليه جوابا مقذعا،
وامرأته فاختة بنت قرظة في بيت يقرب منهم، وهي أم عبد الله بن معاوية، فسمعت
ذلك فلما، خرجوا قالت: يا أمير المؤمنين، لقد سمعت من هؤلاء الأجلاف كلاما تلقوك
به فلم تنكر، فكدت أن أخرج إليهم فأسطو بهم! فقال معاوية: إن مضر كاهل
العرب، وتميما كاهل مضر، وسعدا كاهل تميم، وهؤلاء كاهل سعد (2).
وروى أبو العباس أيضا أن عبد الملك ذكر يوما بني دارم، فقال أحد جلسائه:
يا أمير المؤمنين، هؤلاء قوم محظوظون - يعنى في كثرة النسل ونماء الذرية - فلذلك انتشر
صيتهم. فقال عبد الملك: ما تقول! هذا وقد مضى منهم لقيط بن زرارة ولم يخلف عقبا،
ومضى قعقاع بن معبد بن زرارة ولم يخلف عقبا، ومضى محمد بن عمير بن عطارد بن
حاجب بن زرارة ولم يخلف عقبا! والله لا تنسى العرب هذه الثلاثة أبدا (3).
قال أبو العباس: إن الأصمعي قال: إن حربا كانت بالبادية ثم اتصلت بالبصرة،
فتفاقم الامر فيها، ثم مشي بين الناس بالصلح، فاجتمعوا في المسجد الجامع. قال: فبعثت
وأنا غلام إلى ضرار بن القعقاع من بني دارم، فاستأذنت عليه، فأذن لي، فدخلت،
فإذا به في شمله يخلط بزرا لعنز له حلوب، فخبرته بمجتمع القوم، فأمهل حتى أكلت
العنز، ثم غسل الصحفة وصاح: يا جارية، غدينا، فأتته بزيت وتمر، فدعاني فقذرته

(1) ب: " حارثة "، والصواب ما في أ والكامل.
(2) الكامل 1: 65.
(3) الكامل 1: 308.
133

أن آكل معه حتى إذا قضى من أكله وحاجته وطرا وثب إلى طين ملقى في الدار، فغسل
به يده، ثم صاح: يا جارية، اسقيني ماء، فأتته بماء، فشربه ومسح فضله على وجهه، ثم قال: الحمد لله، ماء الفرات بتمر البصرة بزيت الشام، متى نؤدي شكر هذه النعم! ثم قال:
علي بردائي، فأتته برداء عدني (1) فارتدى به على تلك الشملة. قال الأصمعي: فتجافيت
عنه استقباحا لزيه، فلما دخل المسجد صلى ركعتين، ثم مشى إلى القوم، فلم تبق حبوة
إلا حلت إعظاما له، ثم جلس فتحمل جميع ما كان بين الاحياء في ماله ثم انصرف (2).
قال أبو العباس: وحدثني أبو عثمان المازني، عن أبي عبيدة، قال: لما أتى زياد
بن عمرو المربد في عقب قتل مسعود بن عمرو العتكي، وجاء زياد بن عمرو بن
الأشرف العتكي ليثأر به من بني تميم، صف أصحابه فجعل في الميمنة بكر بن وائل،
وفي الميسرة عبد القيس، وهم لكيز بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة،
وكان زياد بن عمرو العتكي في القلب، فبلغ ذلك الأحنف بن قيس، فقال: هذا غلام
حدث شأنه الشهرة، وليس يبالي أين قذف بنفسه! فندب أصحابه، فجاءه حارثة بن
بدر الغداني، وقد اجتمعت بنو تميم، فلما أتى (3) قال: قوموا إلى سيدكم، ثم أجلسه
فناظره، فجعلوا سعدا والرباب في القلب ورئيسهم عبس بن طلق الطعان المعروف بأخي
كهمس، وهو أحد بنى صريم بن يربوع، فكانوا بحذاء زياد بن عمرو ومن معه من
الأزد، وجعل حارثة بن بدر الغداني، في بنى حنظلة بحذاء بكر بن وائل، وجعل عمرو بن
تميم بحذاء عبد القيس، فذلك حيث يقول حارثة بن بدر للأحنف:
سيكفيك عبس أخو كهمس * مقارعة الأزد في المربد (4)
ويكفيك عمرو على رسلها * لكيز بن أفصى وما عددوا

(1) عدني: منسوب إلى عدن أبين، وهي جزيرة باليمن، تنسب إليها الثياب العدنية.
(2) الكامل 1: 139.
(3) الكامل: " طلع ".
(4) في هذا البيت إقواء.
134

ونكفيك بكرا إذا أقبلت * بضرب يشيب له الأمرد
ولكيز بن أفصى تعم عبد القيس. قال: فلما تواقفوا بعث إليهم الأحنف: يا معشر
الأزد من اليمن وربيعة من أهل البصرة، أنتم والله أحب إلينا من تميم الكوفة، وأنتم
جيراننا في الدار، ويدنا على العدو، وأنتم بدأتمونا بالأمس، ووطأتم حريمنا، وحرقتم
علينا، فدفعنا عن أنفسنا، ولا حاجة لنا في الشر ما طلبنا في الخير مسلكا، فتيمموا بنا
طريقة مستقيمة (1). فوجه إليه زياد بن عمرو، تخير خلة من ثلاث: إن شئت فأنزل
أنت وقومك على حكمنا، وإن شئت فخل لنا عن البصرة وارحل أنت وقومك إلى حيث
شئتم، وإلا فدوا قتلانا، واهدروا دماءكم، وليود مسعود دية المشعرة.
قال أبو العباس: وتأويل قوله: " دية المشعرة "، يريد أمر الملوك في الجاهلية، وكان
الرجل إذا قتل وهو من أهل بيت المملكة ودي عشر ديات - فبعث إليه الأحنف:
سنختار. فانصرفوا في يومكم، فهز القوم راياتهم وانصرفوا، فلما كان الغد، بعث الأحنف
إليهم: إنكم خيرتمونا خلالا ليس لنا فيها خيار، أما النزول على حكمكم فكيف يكون
والكلم (2) يقطر، وأما ترك ديارنا فهو أخو القتل. قال الله عز وجل: (ولو أنا
كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل) (3)،
ولكن الثالثة إنما هي حمل على المال، فنحن نبطل دماءنا، وندي قتلاكم، وإنما
مسعود رجل من المسلمين، وقد أذهب الله عز وجل أمر الجاهلية، فاجتمع القوم على أن
يقفوا أمر مسعود، ويغمدوا السيف، وتودي سائر القتلى من الأزد وربيعة، فضمن
ذلك الأحنف، ودفع إليهم إياس بن قتادة المجاشعي رهينة حتى يؤدى هذا المال، فرضى
به القوم، ففخر بذلك الفرزدق، فقال لجرير:

(1) الكامل: " قاصدة ".
(2) الملم: الجرح.
(3) سورة النساء 66.
135

ومنا الذي أعطى يديه رهينة * لغارى معد يوم ضرب الجماجم (1)
عشيه سال المربدان كلاهما * عجاجة موت بالسيوف الصوارم
هنالك لو تبغى كليبا وجدتها * أذل من القردان تحت المناسم
ويقال: إن تميما في ذلك الوقت مع باديتها وحلفائها من الأساورة والزط والسبابجة
وغيرهم كانوا زهاء سبعين ألفا، وفي ذلك يقول جرير:
سائل ذوي يمن ورهط محرق * والأزد إذ ندبوا لنا مسعودا (2)
فأتاهم سبعون ألف مدجج * متسربلين يلامقا وحديدا (3)
قال الأحنف بن قيس: فكثرت علي الديات فلم أجدها في حاضرة تميم، فخرجت
نحو يبرين إلى بادية تميم، فسألت عن المقصود هناك، فأرشدت إلى قبة، فإذا شيخ
جالس بفنائها مؤتزر بشملة، محتب بحبل، فسلمت عليه، وانتسبت له، فقال لي: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قلت: توفى. قال: فما فعل عمر بن الخطاب الذي
كان يحفظ العرب ويحوطها؟ قلت: توفى. قال: فأي خير في حاضرتكم بعدهما؟ قال:
فذكرت له الديات التي لزمتنا للأزد وربيعة، قال: فقال لي: أقم، فإذا راع قد أراح
عليه ألف بعير، فقال خذها، ثم أراح علينا آخر مثلها، فقال خذها، فقلت: لا أحتاج
إليها. قال: فانصرفت بالألف عنه، ووالله ما أدرى من هو إلى الساعة (4)!

(1) ديوانه 861. والغاران، مثنى غار، وهو الجيش.
(2) ديوانه 172، وهو مسعود بن عمرو العتكي.
(3) اليلامق: جمع يلمق، وهو القباء، فارسي معرب. وفي الكامل: " يلامعا "، واليلمع: هو الدرع.
(4) الكامل 1: 140 - 143.
136

(19)
الأصل:
ومن كتاب له عليه السلام إلى بعض عماله:
أما بعد، فإن دهاقين أهل بلدك شكوا منك غلظة وقسوة، واحتقارا
وجفوة، ونظرت فلم أرهم أهلا لان يدنوا لشركهم، ولا أن يقصوا ويجفوا
لعهدهم، فالبس لهم جلبابا من اللين تشوبه بطرف من الشدة، وداول لهم بين
القسوة والرأفة، وامزج لهم بين التقريب والإدناء، والابعاد والإقصاء.
إن شاء الله.
* * *
الشرح:
الدهاقين: الزعماء أرباب الأملاك بالسواد، واحدهم دهقان بكسر الدال،
ولفظه معرب.
وداول بينهم، أي مرة هكذا ومرة هكذا، أمره أن يسلك معهم منهجا
متوسطا، لا يدنيهم كل الدنو لأنهم مشركون، ولا يقصيهم كل الإقصاء، لأنهم
معاهدون، فوجب أن يعاملهم معاملة آخذة من كل واحد من القسمين بنصيب.
137

(20)
الأصل
ومن كتاب له عليه السلام إلى زياد بن أبيه وهو خليفة عامله عبد الله بن عباس
على البصرة - وعبد الله عامل أمير المؤمنين عليه السلام يومئذ عليها وعلى كور الأهواز وفارس وكرمان وغيرها:
وإني أقسم بالله قسما صادقا، لئن بلغني أنك خنت من فئ المسلمين شيئا
صغيرا أو كبيرا، لأشدن عليك شدة تدعك قليل الوفر، ثقيل الظهر، ضئيل
الامر. والسلام.
* * *
الشرح:
سيأتي ذكر نسب زياد وكيفية استلحاق معاوية له فيما بعد إن شاء الله تعالى.
قوله عليه السلام: " لأشدن عليك شدة "، مثل قوله: " لأحملن عليك حملة "،
والمراد تهديده بالأخذ واستصفاء المال.
ثم وصف تلك الشدة فقال: " إنها تتركك قليل الوفر "، أي أفقرك بأخذ
ما احتجت من بيت مال المسلمين.
وثقيل الظهر: أي مسكين لا تقدر على مئونة عيالك.
وضئيل الامر: أي حقير، لأنك إنما كنت نبيها بين الناس بالغنى والثروة، فإذا
افتقرت صغرت عندهم، واقتحمتك أعينهم
138

(21)
الأصل
ومن كتاب له عليه السلام إلى زياد أيضا:
فدع الاسراف مقتصدا، واذكر في اليوم غدا، وأمسك من المال بقدر
ضرورتك، وقدم الفضل ليوم حاجتك، أترجو أن يعطيك الله أجر
المتواضعين، وأنت عنده من المتكبرين! وتطمع وأنت متمرغ في النعيم أن تمنعه
الضعيف والأرملة، وأن يوجب لك ثواب المتصدقين، وإنما المرء مجزى بما
أسلف، وقادم على ما قدم. والسلام.
* * *
الشرح:
المتمرغ في النعيم: المتقلب فيه. ونهاه عن الاسراف وهو التبذير في الانفاق،
وأمره أن يمسك من المال ما تدعو إليه الضرورة، وأن يقدم فضول أمواله وما ليس له
إليه حاجة ضرورية في الصدقة فيدخره ليوم حاجته، وهو يوم البعث والنشور.
قلت: قبح الله زيادا! فإنه كافأ إنعام علي عليه السلام وإحسانه إليه واصطناعه له
بما لا حاجه إلى شرحه من أعماله القبيحة بشيعته ومحبيه والاسراف في لعنه، وتهجين
أفعاله، والمبالغة في ذلك بما قد كان معاوية يرضى باليسير منه، ولم يكن يفعل ذلك لطلب
رضا معاوية، كلا، بل يفعله بطبعه، ويعاديه بباطنه وظاهره، وأبى الله إلا أن يرجع إلى
أمه، ويصحح نسبه، وكل إناء ينضح بما فيه. ثم جاء ابنه بعد فختم تلك الأعمال السيئة
بما ختم، وإلى الله ترجع الأمور!
139

(22)
الأصل:
ومن كتاب له عليه السلام إلى عبد الله بن العباس رحمه الله تعالى، وكان ابن
عباس يقول: ما انتفعت بكلام بعد كلام رسول الله صلى الله عليه وآله كانتفاعي
بهذا الكلام:
أما بعد، فإن المرء قد يسره درك ما لم يكن ليفوته، ويسوءه فوت ما لم
يكن ليدركه، فليكن سرورك بما نلت من آخرتك، وليكن أسفك على
ما فاتك منها، وما نلت من دنياك فلا تكثر به فرحا، وما فاتك منها فلا تأس
عليه جزعا، وليكن همك فيما بعد الموت.
* * *
الشرح:
يقول: إن كل شئ يصيب الانسان في الدنيا من نفع وضر فبقضاء من الله وقدره
تعالى، لكن الناس لا ينظرون حق النظر في ذلك، فيسر الواحد منهم بما يصيبه من
النفع، ويساء بفوت ما يفوته منه، غير عالم بأن ذلك النفع الذي أصابه، كان لا بد
أن يصيبه، وأن ما فاته منه كان لا بد أن يفوته، ولو عرف ذلك حق المعرفة لم يفرح
ولم يحزن.
ولقائل أن يقول: هب أن الأمور كلها بقضاء وقدر، فلم لا ينبغي للانسان أن يفرح
بالنفع وإن وقع بالقدر، ويساء بفوته أو بالضرر وإن وقعا بقدر! أليس العريان يساء
140

(22)
بقدوم الشتاء وإن كان لا بد من قدومه، والمحموم غبا (1) يساء بتجدد نوبة الحمى، وإن
كان لا بد من تجددها! فليس سبب الاختيار في الافعال مما يوجب أن لا يسر الانسان
ولا يساء بشئ منها.
والجواب ينبغي أن يحمل هذا الكلام على أن الانسان ينبغي أن لا يعتقد في الرزق
أنه أتاه بسعيه وحركته فيفرح معجبا بنفسه، معتقدا أن ذلك الرزق ثمرة حركته
واجتهاده، وكذلك ينبغي ألا يساء بفوات ما يفوته من المنافع لائما نفسه في ذلك
ناسبا لها إلى التقصير وفساد الحيلة والاجتهاد، لان الرزق هو من الله تعالى لا أثر للحركة
فيه، وإن وقع عندها، وعلى هذا التأويل ينبغي أن يحمل قوله تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله
يسير * لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور) (2).
من النظم الجيد الروحاني في صفة الدنيا والتحذير منها والوصاة بترك الاغترار بها،
والعمل لما بعدها، ما أورده أبو حيان في كتاب " الإشارات الإلهية " ولم يسم
قائله:
دار الفجائع والهموم ودار * البث والأحزان والبلوى
مر المذاقة غب ما احتلبت * منها يداك وبية المرعى
بينا الفتى منها بمنزلة * إذ صار تحت ترابها ملقى
تقفو مساويها محاسنها * لا شئ بين النعي والبشري
ولقل يوم ذر شارقه * إلا سمعت بهالك ينعى
لا تعتبن على الزمان لما * يأتي به فلقلما يرضى

(1) الغب من الحمى: ما تأخذ يوما وتدع يوما.
(2) سورة الحديد 22، 23.
141

للمرء رزق لا يفوت ولو * جهد الخلائق دون أن يفنى
يا عامر الدنيا المعد لها * ماذا عملت لدارك الأخرى!
وممهد الفرش الوطيئة لا * تغفل فراش الرقدة الكبرى
لو قد دعيت لقد أجبت لما * تدعى له فانظر متى تدعى!
أتراك تحصى كم رأيت من * الأحياء ثم رأيتهم موتى
من أصبحت دنياه همته * فمتى ينال الغاية القصوى!
سبحان من لا شئ يعدله * كم من بصير قلبه أعمى!
والموت لا يخفى على أحد * ممن أرى وكأنه يخفى
والليل يذهب والنهار بأحد * بابي، وليس عليهما عدوى
142

(23)
الأصل:
ومن كلام له عليه السلام قاله قبل موته على سبيل الوصية لما ضربه ابن ملجم
لعنه الله:
وصيتي لكم ألا تشركوا بالله شيئا، ومحمد صلى الله عليه وآله، فلا تضيعوا
سنته، أقيموا هذين العمودين، وأوقدوا هذين المصباحين، وخلاكم ذم!
أنا بالأمس صاحبكم، واليوم عبرة لكم، وغدا مفارقكم، إن أبق فأنا ولي
دمي، وإن أفن فالفناء ميعادي، وإن أعف فالعفو لي قربة، وهو لكم حسنة،
فاعفوا: (ألا تحبون أن يغفر الله لكم) (1).
والله ما فجأني من الموت وارد كرهته، ولا طالع أنكرته، وما كنت إلا
كقارب ورد، وطالب وجد، (وما عند الله خير للأبرار) (2).
قال الرضي رحمه الله تعالى: أقول: وقد مضى بعض هذا الكلام فيما تقدم من
الخطب إلا أن فيه هاهنا زيادة أوجبت تكريره.
* * *
الشرح:
فإن قلت: لقائل أن يقول: إذا أوصاهم بالتوحيد واتباع سنة النبي صلى الله عليه وآله

(1) سورة النور 22.
(2) سورة آل عمران 198.
143

فلم يبق شئ بعد ذلك يقول فيه: أقيموا هذين العمودين وخلاكم ذم، لان سنة النبي
صلى الله عليه وآله فعل كل واجب. وتجنب كل قبيح، فخلاهم ذم فماذا يقال؟
والجواب أن كثيرا من الصحابة كلفوا أنفسهم أمورا من النوافل شاقة
جدا، فمنهم من كان يقوم الليل كله، ومنهم من كان يصوم الدهر كله، ومنهم المرابط في
الثغور، ومنهم المجاهد مع سقوط الجهاد عنه لقيام غيره به، ومنهم تارك النكاح، ومنهم
تارك المطاعم والملابس، وكانوا يتفاخرون بذلك، ويتنافسون فيه، فأراد عليه السلام أن
يبين لأهله وشيعته وقت الوصية أن المهم الأعظم هو التوحيد، والقيام بما يعلم من دين
محمد صلى الله عليه وآله أنه واجب، ولا عليكم بالاخلال بما عدا ذلك، فليت من
المائة واحدا نهض بذلك، والمراد ترغيبهم بتخفيف وظائف التكاليف عنهم، فإن الله
تعالى يقول: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (1). وقال صلى الله عليه وآله:
" بعثت بالحنيفية السهلة السمحة ".
قوله: " وخلاكم ذم ": لفظة تقال على سبيل المثل أي قد أعذرتم، وسقط عنكم الذم.
ثم قسم أيامه الثلاثة أقساما فقال: أنا بالأمس صاحبكم أي كنت أرجى وأخاف، وأنا
اليوم عبرة لكم، أي عظة تعتبرون بها. وأنا غدا مفارقكم، أكون في دار أخرى غير داركم.
ثم ذكر أنه إن بقي ولم يمت من هذه الضربة فهو ولي دمه إن شاء عفا، وإن
شاء اقتص، وإن لم يبق فالفناء الموعد الذي لا بد منه.
ثم عاد فقال: وإن أعف، والتقسيم ليس على قاعدة تقسيم المتكلمين. والمعنى منه
مفهوم، وهو إما أن أسلم من هذه الضربة أو لا أسلم، فإن سلمت منها فأنا ولي دمي، إن
شئت عفوت فلم أقتص، وإن شئت اقتصصت، ولا يعنى بالقصاص هاهنا القتل، بل ضربة
بضربة، فإن سرت إلى النفس كانت السراية مهدرة كقطع اليد.

(1) سورة البقرة 185.
144

ثم أوما إلى أنه إن سلم عفا بقوله: إن العفو لي إن عفوت قربة.
ثم عدنا إلى القسم الثاني من القسمين الأولين، وهو أنه عليه السلام لا يسلم من هذه،
فولاية الدم إلى الورثة، إن شاؤوا اقتصوا وإن شاؤوا عفوا.
ثم أوما إلى أن العفو منهم أحسن، بقوله: " وهو لكم حسنة "، بل أمرهم أمرا
صريحا بالعفو، فقال فاعفوا (ألا تحبون أن يغفر الله لكم). وهذا لفظ الكتاب
العزيز، وينبغي أن يكون أمره بالعفو في هذا الكلام محمولا على الندب.
ثم أقسم عليه السلام أنه ما فجأه من الموت أمر أنكره ولا كرهه، فجأني الشئ:
أتاني بغتة.
ثم قال: " ما كنت إلا كقارب ورد "، والقارب الذي يسير إلى الماء وقد
بقي بينه وبينه ليلة واحدة، والاسم: القرب، فهم قاربون، ولا يقال " مقربون "،
وهو حرف شاذ.
145

(24) الأصل
ومن وصية له بما يعمل في أمواله، كتبها بعد منصرفه من صفين:
هذا ما أمر به عبد الله علي بن أبي طالب أمير المؤمنين في ماله ابتغاء وجه الله
ليولجه به الجنة، ويعطيه به الأمنة.
* * *
الشرح:
قد عاتبت العثمانية وقالت: إن أبا بكر مات ولم يخلف دينارا ولا درهما، وإن عليا
عليه السلام مات وخلف عقارا كثيرا - يعنون نخلا - قيل لهم: قد علم كل أحد أن
عليا عليه السلام استخرج عيونا بكد يده بالمدينة وينبع وسويعة، وأحيا بها مواتا
كثيرا، ثم أخرجها عن ملكه، وتصدق بها على المسلمين، ولم يمت وشئ منها في
ملكه، ألا ترى إلى ما تتضمنه كتب السير والاخبار من منازعة زيد بن علي وعبد الله
بن الحسن في صدقات علي عليه السلام، ولم يورث علي عليه السلام بنيه قليلا من المال
ولا كثيرا إلا عبيده وإماءه وسبعمائة درهم من عطائه، تركها ليشترى بها خادما لأهله
قيمتها ثمانية وعشرون دينارا، على حسب المائة أربعة دنانير، وهكذا كانت المعاملة
بالدراهم إذ ذاك، وإنما لم يترك أبو بكر قليلا ولا كثيرا لأنه ما عاش، ولو عاش لترك،
ألا ترى أن عمر أصدق أم كلثوم أربعين ألف درهم، ودفعها إليها! وذلك لان هؤلاء
طالت أعمارهم، فمنهم من درت عليه أخلاف التجارة، ومنهم من كان يستعمر الأرض
ويزرعها، ومنهم من استفضل من رزقه من الفئ (1).

(1) الفئ: الغنيمة.
146

وفضلهم أمير المؤمنين عليه السلام بأنه كان يعمل بيده، ويحرث الأرض ويستقى
الماء ويغرس النخل، كل ذلك يباشره بنفسه الشريفة، ولم يستبق منه لوقته ولا لعقبه
قليلا ولا كثيرا، وإنما كان صدقة، وقد مات رسول الله صلى الله عليه وآله وله ضياع
كثيرة جليلة جدا بخيبر وفدك وبني النضير، وكان له وادي نخلة، وضياع أخرى كثيرة
بالطائف، فصارت بعد موته صدقه بالخبر الذي رواه أبو بكر. فإن كان علي عليه السلام
معيبا بضياعه ونخله فكذلك رسول الله صلى الله عليه وآله، وهذا كفر وإلحاد! وإن كان
رسول الله صلى الله عليه وآله إنما ترك ذلك صدقة فرسول الله صلى الله عليه وآله ما روى
عنه الخبر في ذلك إلا واحد من المسلمين، وعلي عليه السلام كان في حياته قد أثبت عند
جميع المسلمين بالمدينة إنها صدقة فالتهمة إليه في هذا الباب أبعد. وروي: " ويعطيني به
الأمنة "، وهي الامن.
الأصل:
منها:
فإنه يقوم بذلك الحسن بن علي يأكل منه بالمعروف، وينفق منه
بالمعروف، فإن حدث بحسن حدث وحسين حي، قام بالامر بعده وأصدره
مصدره، وإن لابني فاطمة من صدقه علي مثل الذي لبني علي.
وإني إنما جعلت القيام بذلك إلى ابني فاطمة ابتغاء وجه الله، وقربة إلى رسول
الله صلى الله عليه وآله، وتكريما لحرمته، وتشريفا لوصلته، ويشترط على الذي
يجعله إليه أن يترك المال على أصوله، وينفق من ثمره حيث أمر به وهدي له،
وألا يبيع من أولاد نخيل هذه القرى ودية حتى تشكل أرضها غراسا.
147

ومن كان من إمائي اللاتي أطوف عليهن لها ولد أو هي حامل فتمسك على
ولدها وهي من حظه، فإن مات ولدها وهي حية فهي عتيقة قد أفرج عنها الرق
وحررها العتق.
قال السيد الرضى رحمه الله تعالى:
قوله عليه السلام في هذه الوصية " وألا يبيع من نخلها ودية " الودية:
الفسيلة، وجمعها ودي.
قوله عليه السلام: " حتى تشكل أرضها غراسا " هو من أفصح الكلام،
والمراد به أن الأرض يكثر فيها غراس النخل حتى يراها الناظر على غير تلك
الصفة التي عرفها بها، فيشكل عليه أمرها ويحسبها غيرها.
* * *
الشرح:
جعل للحسن ابنه عليه السلام ولاية صدقات أمواله، وأذن له أن يأكل منه، بالمعروف، أي لا يسرف، وإنما يتناول منه مقدار الحاجة، وما جرت بمثله عادة من
يتولى الصدقات كما قال الله تعالى: (والعاملين عليها) (1).
ثم قال: فإن مات الحسن والحسين بعده حي فالولاية للحسين، والهاء في (مصدره)
ترجع إلى الامر أي يصرفه في مصارفه التي كان الحسن يصرفه فيها. ثم ذكر أن لهذين الولدين حصة من صدقاته أسوة بسائر البنين، وإنما قال ذلك لأنه قد يتوهم متوهم

(1) سورة التوبة 60.
148

أنهما لكونهما قد فوض إليهما النظر في هذه الصدقات، قد منعا أن يسهما فيها بشئ،
وإن الصدقات إنما يتناولها غيرهما من بني علي عليه السلام ممن لا ولاية له مع وجودهما،
ثم بين لماذا خصهما بالولاية؟ فقال: إنما فعلت ذلك لشرفهما برسول الله صلى الله عليه
وآله، فتقربت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله بأن جعلت لسبطيه هذه الرياسة،
وفي هذا رمز وإزراء بمن صرف الامر عن أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله، مع
وجود من يصلح للامر، أي كان الأليق بالمسلمين والأولى أن يجعلوا الرياسة بعده لأهله
قربة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، وتكريما لحرمته، وطاعة له، وأنفة لقدره، صلى الله عليه وآله أن تكون ورثته سوقة، يليهم الأجانب، ومن ليس من شجرته
وأصله. ألا ترى أن هيبة الرسالة والنبوة في صدور الناس أعظم إذا كان السلطان والحاكم
في الخلق من بيت النبوة، وليس يوجد مثل هذه الهيبة والجلال في نفوس الناس للنبوة إذا
كان السلطان الأعظم بعيد النسب من صاحب الدعوة عليه السلام!
ثم اشترط على من يلي هذه الأموال أيتركها على أصولها، وينفق من ثمرتها، أي
لا يقطع النخل والثمر ويبيعه خشبا وعيدانا، فيفضي الامر إلى خراب الضياع وعطلة العقار.
قوله: " وألا يبيع من أولاد نخيل هذه القرى " أي من الفسلان الصغار، سماها،
أولادا، وفى بعض النسخ ليست " أولاد " مذكورة، والودية: الفسيلة.
تشكل أرضها: تمتلي بالغراس حتى لا يبقى فيه طريقة واضحة.
قوله: " أطوف عليهن "، كناية لطيفة عن غشيان النساء، أي من السراري، وكان
عليه السلام يذهب إلى حل بيع أمهات الأولاد، فقال: من كان من إمائي لها ولد منى،
أو هي حامل منى وقسمتم تركتي فلتكن أم ذلك الولد مبيعة على ذلك الولد، ويحاسب بالثمن
من حصته من التركة، فإذا بيعت عليه عتقت عليه، لان الولد إذا اشترى الوالد عتق الوالد
149

عنه، وهذا معنى، قوله " فتمسك على ولدها "، أي تقوم عليه بقيمة الوقت الحاضر،
وهي من حظه أي من نصيبه وقسطه من التركة.
قال: فإن مات ولدها وهي حيه بعد أن تقوم عليه فلا يجوز بيعها لأنها خرجت عن
الرق بانتقالها إلى ولدها، فلا يجوز بيعها.
فإن قلت: فلماذا قال: فإن مات ولدها وهي حية؟ وهلا قال: فإذا قومت
عليه عتقت؟
قلت: لان موضع الاشتباه هو موت الولد وهي حية، لأنه قد يظن ظان أنه إنما
حرم بيعها لمكان وجود ولدها، فأراد عليه السلام أن يبين أنها قد صارت حرة مطلقا
سواء كان ولدها حيا أو ميتا.
150

(25)
الأصل
ومن وصيه له عليه السلام كان يكتبها لمن يستعمله على الصدقات، وإنما ذكرنا هنا
جملا منها ليعلم بها أنه عليه السلام كان يقيم عماد الحق، ويشرع أمثلة العدل في صغير
الأمور وكبيرها، ودقيقها وجليلها:
انطلق على تقوى الله وحده لا شريك له، ولا تروعن مسلما، ولا تجتازن
عليه كارها، ولا تأخذن منه أكثر من حق الله في ماله، فإذا قدمت على الحي
فأنزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم، ثم امض إليهم بالسكينة والوقار، حتى
تقوم بينهم فتسلم عليهم.
ولا تخدج بالتحية لهم ثم تقول: عباد الله، أرسلني إليكم ولى الله وخليفته
لاخذ منكم حق الله في أموالكم، فهل لله في أموالكم من حق فتؤدوه
إلى وليه!
فإن قال قائل: لا، فلا تراجعه، وإن أنعم لك منعم فانطلق معه من غير أن
تخيفه أو توعده، أو تعسفه أو ترهقه، فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضة، فإن كان
له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلا بإذنه، فإن أكثرها له، فإذا أتيتها فلا تدخل
عليها دخول متسلط عليه، ولا عنيف به.
ولا تنفرن بهيمة ولا تفزعنها، ولا تسوءن صاحبها فيها.
واصدع المال صدعين ثم خيره، فإذا اختار فلا تعرضن لما اختاره.
ثم اصدع الباقي صدعين، ثم خيره، فإذا اختار فلا تعرضن لما اختاره، فلا تزال
كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحق الله في ماله، فاقبض حق الله منه.
151

فإن استقالك فأقله، ثم اصنع مثل الذي صنعت أولا حتى تأخذ حق الله
في ماله.
ولا تأخذن عودا ولا هرمة ولا مكسورة ولا مهلوسة، ولا ذات عوار،
ولا تأمنن عليها إلا من تثق بدينه، رافقا بمال المسلمين حتى يوصله إلى وليهم
فيقسمه بينهم، ولا توكل بها إلا ناصحا شفيقا وأمينا حفيظا، غير معنف ولا مجحف،
ولا ملغب ولا متعب.
ثم احدر إلينا ما اجتمع عندك، نصيره حيث أمر الله، فإذا أخذها أمينك
فأوعز إليه ألا يحول بين ناقة وبين فصيلها، ولا يمصر لبنها فيضر ذلك بولدها،
ولا يجهدنها ركوبا، وليعدل بين صواحباتها في ذلك وبينها، وليرفه على اللاغب،
وليستأن بالنقب والظالع، وليوردها ما تمر به من الغدر، ولا يعدل بها عن نبت
الأرض إلى جواد الطرق، وليروحها في الساعات، وليمهلها عند النطاف والأعشاب،
حتى تأتينا بإذن الله بدنا منقيات، غير متعبات ولا مجهودات، لنقسمها على كتاب
الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله، فإن ذلك أعظم لاجرك، وأقرب لرشدك
إن شاء الله.
* * *
الشرح:
وقد كرر عليه السلام قوله: " لنقسمها على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله "
في ثلاثة مواضع من هذا الفصل:
الأول قوله: " حتى يوصله إلى وليهم ليقسمه بينهم ".
الثاني قوله عليه السلام: " نصيره حيث أمر الله به ".
152

الثالث قوله: " لنقسمها على كتاب الله "، والبلاغة لا تقتضي ذلك، ولكني أظنه
أحب أن يحتاط، وأن يدفع الظنة (1) عن نفسه، فإن الزمان كان في عهده قد فسد،
وساءت ظنون الناس، لا سيما مع ما رآه من عثمان واستئثاره بمال الفئ.
ونعود إلى الشرح. قوله عليه السلام: " على تقوى الله "، " على " ليست متعلقة
ب‍ " انطلق "، بل بمحذوف تقديره: مواظبا.
قوله: " ولا تروعن " أي لا تفزعن، والروع الفزع، رعته أروعه،
ولا تروعن بتشديد الواو وضم حرف المضارعة، من روعت للتكثير.
قوله عليه السلام: " ولا تجتازن عليه كارها "، أي لا تمرن ببيوت أحد من
المسلمين يكره مرورك. وروي: " ولا تختارن عليه "، أي لا تقسم ماله وتختر أحد
القسمين، والهاء في " عليه " ترجع إلى " مسلما " وتفسير هذا سيأتي في وصيته له أن
يصدع المال ثم يصدعه، فهذا هو النهى عن أن يختار على المسلم. والرواية الأولى
هي المشهورة.
قوله عليه السلام: " فأنزل بمائهم "، وذلك لان الغريب يحمد منه الانقباض،
ويستهجن في القادم أن يخالط بيوت الحي الذي قدم عليه فقد يكون من النساء من
لا تليق رؤيته، ولا يحسن سماع صوته، ومن الأطفال من يستهجن أن يرى الغريب
انبساطه على أبويه وأهله، وقد يكره القوم أن يطلع الغريب على مأكلهم ومشربهم
وملبسهم وبواطن أحوالهم، وقد يكونون فقراء فيكرهون أن يعرف فقرهم فيحتقرهم،
أو أغنياء أرباب ثروة كثيرة فيكرهون أن يعلم الغريب ثروتهم فيحسدهم، ثم أمره
أن يمضي إليهم غير متسرع ولا عجل ولا طائش نزق، حتى يقوم بينهم فيسلم عليهم

(1) الظنة: التهمة.
153

ويحييهم تحية كاملة غير مخدجة، أي غير ناقصة، أخدجت الناقة إذا جاءت بولدها
ناقص الخلق، وإن كانت أيامه تامة، وخدجت ألقت الولد قبل تمام أيامه. وروي:
" ولا تحدج بالتحية " والباء زائدة.
ثم أمره أن يسألهم: هل في أموالهم حق لله تعالى؟ يعنى الزكاة، فإن قالوا: لا،
فلينصرف عنهم، لان القول قول رب المال، فلعله قد أخرج الزكاة قبل وصول
المصدق إليه.
قوله: " وأنعم لك "، أي قال: نعم.
ولا تعسفه، أي لا تطلب منه الصدقة عسفا، وأصله الاخذ على غير الطريق.
ولا ترهقه: لا تكلفه العسر والمشقة.
ثم أمره أن يقبض ما يدفع إليه من الذهب والفضة، وهذا يدل على أن المصدق
كان يأخذ العين والورق كما يأخذ الماشية، وأن النصاب في العين والورق تدفع زكاته
إ 0 لي الامام ونوابه، وفي هذه المسألة اختلاف بين الفقهاء.
قوله: " فإن أكثرها له ": كلام لا مزيد عليه في الفصاحة والرياسة
والدين، وذلك لان الصدقة المستحقة جزء يسير من النصاب، والشريك إذا
كان له الأكثر حرم عليه أن يدخل ويتصرف إلا بإذن شريكه، فكيف إذا
كان له الأقل.
قوله: " فلا تدخلها دخول متسلط عليه "، قد علم عليه السلام أن الظلم
من طبع الولاة، وخصوصا من يتولى قبض الماشية من أربابها على وجه الصدقة،
فإنهم يدخلونها دخول متسلط حاكم قاهر، ولا يبقى لرب المال فيها تصرف، فنهى
عليه السلام عن مثل ذلك.
154

قوله: " ولا تنفرن بهيمة ولا تفزعنها "، وذلك أنهم على عادة السوء يهجهجون (1)
بالقطيع حتى تنفر الإبل، وكذلك بالشاء إظهارا للقوة والقهر، وليتمكن أعوانهم من اختيار
الجيد، ورفض الردئ.
قوله: " ولا تسوءن صاحبها فيها " أي لا تغموه ولا تحزنوه، يقال: سؤته في كذا
سوائية ومسائية.
قوله: " واصدع المال صدعين وخيره "، أي شقه نصفين ثم خيره، فإذا اختار أحد
النصفين فلا تعرضن لما اختار، ثم اصدع النصف الذي ما ارتضاه لنفسه صدعين وخيره،
ثم لا تزال تفعل هكذا حتى تبقى من المال بمقدار الحق الذي عليه، فاقبضه منه، فإن
استقالك فأقله، ثم اخلط المال، ثم عد لمثل ما صنعت حتى يرضى، وينبغي أن يكون
المعيبات الخمس وهي المهلوسة والمكسورة وأخواتهما يخرجها المصدق من أصل المال قبل
قسمته ثم يقسم وإلا فربما وقعت في سهم المصدق إذا كان يعتمد ما أمره به من صدع المال
مرة بعد مرة.
والعود: المسن من الإبل، والهرمة: المسنة أيضا، والمكسورة: التي أحد قوائمها
مكسورة العظم أو ظهرها مكسور، والمهلوسة: المريضة قد هلسها المرض وأفنى لحمها، والهلاس:
السل. والعوار: بفتح العين: العيب وقد جاء بالضم.
والمعنف: ذو العنف بالضم وهو ضد الرفق. والمجحف: الذي يسوق المال سوقا
عنيفا فيجحف به أي يهلكه أو يذهب كثيرا من لحمه ونقيه (2).
والملغب: المتعب، واللغوب: الإعياء.
وحدرت السفينة وغيرها - بغير ألف أحدرها بالضم.

(1) يقال: هجهج بالسبع: صاح به، وبالجمل زجره.
(2) النقي، بكسر النون وسكون القاف: المخ.
155

قوله: " بين ناقة وبين فصيلها " الأفصح حذف بين الثانية، لان الاسمين ظاهران،
وإنما تكرر إذا جاءت بعد المضمر، كقولك: المال بيني وبين زيد وبين عمرو، وذلك
لان المجرور لا يعطف عليه إلا بإعادة حرف الجر والاسم المضاف، وقد جاء: المال بين
زيد وعمرو، وأنشدوا:
بين السحاب وبين الريح ملحمة * قعاقع وظبى في الجو تخترط (1).
وأيضا:
بين الندى وبين برقة ضاحك * غيث الضريك وفارس مقدام (2)
ومن شعر الحماسة:
وإن الذي بيني وبين بني أبي * وبين بني عمي لمختلف جدا (3)
وليس قول من يقول: إنه عطف بين الثالثة على الضمير المجرور بأولى من قول
من يقول: بل عطف بين الثالثة على بين الثانية، لان المعنى يتم بكل واحد منها.
قوله عليه السلام: " ولا تمصر لبنها " المصر حلب ما في الضرع جميعه، نهاه من أن
يحلب اللبن كله فيبقى الفصيل جائعا، ثم نهاه أن يجهدها ركوبا، أي يتعبها ويحملها
مشقة، ثم أمره أن يعدل بين الركاب في ذلك، لا يخص بالركوب واحدة بعينها،
ليكون ذلك أروح لهن، ليرفه على اللاغب، أي ليتركه وليعفه عن الركوب ليستريح.
والرفاهية: الدعة والراحة.
والنقب: ذو النقب، وهو رقة خف البعير حتى تكاد الأرض تجرحه: أمره أن
يستأني بالبعير ذي النقب، من الأناة، وهي المهلة.

(1) الملحمة: الحرب، والقعاقع: حكاية أصوات الترسة في الحرب. والظبي: جمع ظبة، وهو حد السيف.
(2) برقة ضاحك: موضع بعينه.
(3) ديوان الحماسة 30: 172، والبيت للمقنع الكندي.
156

والظالع: الذي ظلع، أي غمز في مشيه.
والغدر: جمع غدير الماء. وجواد الطريق: حيث لا ينبت المرعى.
والنطاف: جمع نطفة، وهي الماء الصافي القليل.
والبدن بالتشديد: السمان، واحدها بادن.
ومنقيات: ذوات نقي، وهو المخ في العظم، والشحم في العين من السمن، وأنقت
الإبل وغيرها: سمنت وصار فيها نقي، وناقة منقية، وهذه الناقة لا تنقي.
157

(26)
الأصل:
ومن عهد له عليه السلام إلى بعض عماله وقد بعثه على الصدقة:
أمره بتقوى الله في سرائر أمره، وخفيات عمله، حيث لا شاهد غيره، ولا
وكيل دونه.
وأمره ألا يعمل بشئ من طاعة الله فيما ظهر فيخالف إلى غيره فيما أسر،
ومن لم يختلف سره وعلانيته، وفعله ومقالته، فقد أدى الأمانة،
وأخلص العبادة.
وأمره ألا يجبههم، ولا يعضههم، ولا يرغب عنهم تفضلا بالإمارة عليهم
فإنهم الاخوان في الدين، والأعوان على استخراج الحقوق.
وإن لك في هذه الصدقة نصيبا مفروضا، وحقا معلوما، وشركاء أهل
مسكنة، وضعفاء ذوي فاقة.
وإنا موفوك حقك، فوفهم حقوقهم، وإلا تفعل فإنك من أكثر الناس
خصوما يوم القيامة. وبؤسي لمن خصمه عند الله الفقراء والمساكين، والسائلون
والمدفوعون، والغارمون وابن السبيل!
ومن استهان بالأمانة، ورتع في الخيانة، ولم ينزه نفسه ودينه عنها، فقد أحل
بنفسه الذل والخزي في الدنيا، وهو في الآخرة أذل وأخزى، وإن أعظم الخيانة
خيانة الأمة، وأفظع الغش غش الأئمة. والسلام.
158

الشرح:
حيث لا شهيد ولا وكيل دونه، يعنى يوم القيامة.
قوله: " ألا يعمل بشئ من طاعة الله فيما ظهر " أي لا ينافق فيعمل الطاعة في الظاهر
والمعصية في الباطن.
ثم ذكر أن الذين يتجنبون النفاق والرياء هم المخلصون.
وألا يجبههم: لا يواجههم بما يكرهونه، وأصل الجبه لقاء الجبهة أو ضربها،
فلما كان المواجه غيره بالكلام القبيح كالضارب جبهته به سمى بذلك جبها.
قوله: " ولا يعضههم ": أي لا يرميهم بالبهتان والكذب، وهي العضيهة،
وعضهت فلانا عضها، وقد عضهت يا فلان، أي جئت بالبهتان.
قوله: " ولا يرغب عنهم تفضلا "، يقول: لا يحقرهم ادعاء لفضله عليهم، وتمييزه
عنهم بالولاية والإمرة، يقال فلان يرغب عن القوم، أي يأنف من الانتماء إليهم، أو من
المخالطة لهم.
وكان عمر بن عبد العزيز يدخل إليه سالم مولى بنى مخزوم وعمر في صدر بيته فيتنحى
عن الصدر، وكان سالم رجلا صالحا، وكان عمر أراد شراءه وعتقه، فأعتقه مواليه، فكان
يسميه: أخي في الله، فقيل له: أتتنحى لسالم! فقال: إذا دخل عليك من لا ترى لك عليه
فضلا فلا تأخذ عليه شرف المجلس. وهم السراج ليلة بأن يخمد، فوثب إليه رجاء بن حياة
ليصلحه، فأقسم عليه عمر بن عبد العزيز، فجلس، ثم قام عمر فأصلحه، فقال له رجاء: أتقوم
أنت يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، قمت وأنا عمر بن عبد العزيز، ورجعت وأنا عمر بن
عبد العزيز.
159

قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " لا ترفعوني فوق قدري فتقولوا في
ما قالت النصارى في ابن مريم، فإن الله عز وجل اتخذني عبدا قبل أن يتخذني
رسولا ".
ثم قال: إن أرباب الأموال الذين تجب الصدقة عليهم في أموالهم إخوانك في الدين،
وأعوانك على استخراج الحقوق، لان الحق إنما يمكن العامل استيفاؤه بمعاونة رب المال
واعترافه به، ودفعه إليه، فإذا كانوا بهذه الصفة لم يجز لك عضههم وجبههم وادعاء
الفضل عليهم.
ثم ذكر أن لهذا العامل نصيبا مفروضا من الصدقة، وذلك بنص الكتاب العزيز،
فكما نوفيك نحن حقك يجب عليك أن توفي شركائك حقوقهم، وهم الفقراء والمساكين
والغارمون وسائر الأصناف المذكورة في القرآن، وهذا يدل على أنه عليه السلام قد فوضه
في صرف الصدقات إلى الأصناف المعلومة، ولم يأمره بأن يحمل ما اجتمع إليه ليوزعه هو
عليه السلام على مستحقيه كما في الوصية الأولى، ويجوز للامام أن يتولى ذلك بنفسه، وأن
يكله إلى من يثق به من عماله.
وانتصب " أهل مسكنة " لأنه صفة " شركاء " وفي التحقيق أن " شركاء " صفة
أيضا موصوفها محذوف، فيكون صفة بعد صفة.
وقال الراوندي: انتصب " أهل مسكنة " لأنه بدل من " شركاء "، وهذا غلط،
لأنه لا يعطي معناه ليكون بدلا منه.
وقال أيضا: بؤسى، أي عذابا وشدة، فظنه منونا وليس كذلك، بل هو بؤسى على
وزن " فعلى " كفضلى ونعمى، وهي لفظة مؤنثة، يقال بؤسى لفلان، قال الشاعر:
أرى الحلم بؤسى للفتى في حياته * ولا عيش إلا ما حباك به الجهل.
160

والسائلون هاهنا هم الرقاب المذكورون في الآية، وهم المكاتبون يتعذر عليهم أداء
مال الكتابة، فيسألون الناس ليتخلصوا من ربقة الرق. وقيل: هم الأسارى يطلبون
فكاك أنفسهم، وقيل: بل المراد بالرقاب في الآية الرقيق، يسأل أن يبتاعه الأغنياء
فيعتقوه. والمدفوعون هاهنا هم الذين عناهم الله تعالى في الآية بقوله: (وفي سبيل الله) (1)،
وهم فقراء الغزاة، سماهم مدفوعين لفقرهم. والمدفوع والمدفع: الفقير، لان كل أحد
يكرهه ويدفعه عن نفسه. وقيل: هم الحجيج المنقطع بهم، سماهم مدفوعين لأنهم دفعوا
عن إتمام حجهم، أو دفعوا عن العود إلى أهلهم.
فإن قلت: لم حملت كلام أمير المؤمنين عليه السلام على ما فسرته به؟
قلت: لأنه عليه السلام إنما أراد أن يذكر الأصناف المذكورة في الآية فترك ذكر
المؤلفة قلوبهم لان سهمهم سقط بعد موت رسول الله صلى الله عليه وآله: فقد كان يدفع إليهم حين الاسلام ضعيف، وقد أعزه الله سبحانه، فاستغنى عن تأليف قلوب
المشركين، وبقيت سبعة أصناف، وهم الفقراء والمساكين والعاملون عليها والرقاب
والغارمون وفي سبيل الله وابن السبيل.
فأما العاملون عليها فقد ذكرهم عليه السلام في قوله: " وإن لك في هذه الصدقة نصيبا
مفروضا "، فبقيت ستة أصناف أتى عليه السلام بألفاظ القرآن في أربعة أصناف منها، وهي:
الفقراء، والمساكين، والغارم، وابن السبيل، وأبدل لفظتين وهما الرقاب وفى سبيل الله
بلفظتين وهما السائلون والمدفوعون.
فإن قلت: ما يقوله الفقهاء في الصدقات؟ هل تصرف إلى الأصناف كلها أم يجوز
صرفها إلى واحد منها؟

(1) سورة التوبة 60.
161

قلت: أما أبو حنيفة فإنه يقول: الآية قصر لجنس الصدقات على الأصناف المعدودة
فهي مختصة بها لا تتجاوزها إلى غيرها، كأنه تعالى قال: إنما هي لهم لا لغيرهم، كقولك:
إنما الخلافة لقريش، فيجوز أن تصرف الصدقة إلى الأصناف كلها، ويجوز أن تصرف
إلى بعضها، وهو مذهب ابن عباس وحذيفة وجماعة من الصحابة والتابعين. وأما
الشافعي فلا يرى صرفها إلا إلى الأصناف المعدودة كلها، وبه قال الزهري وعكرمة.
فإن قلت: فمن الغارم وابن السبيل؟
قلت: الغارمون الذين ركبتهم الديون ولا يملكون بعدها ما يبلغ النصاب. وقيل:
هم الذين يحملون الحمالات فدينوا فيها وغرموا، وابن السبيل: المسافر المنقطع عن ماله،
فهو - وإن كان غنيا حيث ماله موجود - فقير حيث هو بعيد.
وقد سبق تفسير الفقير والمسكين فيما تقدم.
قوله: " فقد أحل بنفسه الذل والخزي "، أي جعل نفسه محلا لهما، ويروى: " فقد
أخل بنفسه " بالخاء المعجمة، ولم يذكر الذل والخزي أي جعل نفسه مخلا، ومعناه جعل نفسه
فقيرا، يقال: خل الرجل: إذا افتقر، وأخل به غيره، وبغيره أي جعل غيره فقيرا،
وروي: " أحل " بنفسه بالحاء المهملة، ولم يذكر " الذل والخزي ". ومعنى " أحل بنفسه " أباح
دمه، والرواية الأولى أصح، لأنه قال بعدها: " وهو في الآخرة أذل وأخزى ".
وخيانة الأمة: مصدر مضاف إلى المفعول به، لان الساعي إذا خان فقد خان الأمة
كلها، وكذلك غش الأئمة، مصدر مضاف إلى المفعول أيضا، لان الساعي إذا غش في
الصدقة فقد غش الامام.
162

(27)
الأصل:
ومن عهد له عليه السلام إلى محمد بن أبي بكر - رضي الله عنه - حين قلده مصر:
فاخفض لهم جناحك، وألن لهم جانبك، وابسط لهم وجهك، وآس بينهم
في اللحظة والنظرة، حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم، ولا ييأس الضعفاء من
عدلك عليهم، فإن الله تعالى يسائلكم معشر عباده عن الصغيرة من أعمالكم
والكبيرة، والظاهرة والمستورة، فإن يعذب فأنتم أظلم، وإن يعف
فهو أكرم.
واعلموا عباد الله أن المتقين ذهبوا بعاجل الدنيا وآجل الآخرة، فشاركوا أهل
الدنيا في دنياهم، ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم، سكنوا الدنيا بأفضل
ما سكنت، وأكلوها بأفضل ما أكلت، فحظوا من الدنيا بما حظي به
المترفون، وأخذوا منها ما أخذه الجبابرة المتكبرون، ثم انقلبوا عنها بالزاد المبلغ،
والمتجر الرابح، أصابوا لذة زهد الدنيا في دنياهم، وتيقنوا أنهم جيران الله غدا
في آخرتهم، لا ترد لهم دعوة، ولا ينقف لهم نصيب من لذة.
فاحذروا عباد الله الموت وقربه، وأعدوا له عدته، فإنه يأتي بأمر عظيم،
وخطب جليل، بخير لا يكون معه شر أبدا، أو شر لا يكون معه خير أبدا،
فمن أقرب إلى الجنة من عاملها، ومن أقرب إلى النار من عاملها!
وأنتم طرداء الموت، إن أقمتم له أخذكم، وإن فررتم منه أدرككم،
وهو ألزم لكم من ظلكم. الموت معقود بنواصيكم، والدنيا تطوى من خلفكم.
163

فاحذروا نارا قعرها بعيد، وحرها شديد، وعذابها جديد، دار ليس فيها
رحمة، ولا تسمع فيها دعوة، ولا تفرج فيها كربة.
وإن استطعتم أن يشتد خوفكم من الله، وأن يحسن ظنكم به، فأجمعوا
بينهما، فإن العبد إنما يكون حسن ظنه بربه على قدر خوفه من ربه، وإن
أحسن الناس ظنا بالله أشدهم خوفا لله.
واعلم يا محمد بن أبي بكر، إني قد وليتك أعظم أجنادي في نفسي أهل مصر،
فأنت محقوق أن تخالف على نفسك، وأن تنافح عن دينك، ولو لم يكن لك إلا
ساعة من الدهر، ولا تسخط الله برضا أحد من خلقه، فإن في الله خلفا من غيره،
وليس من الله خلف في غيره.
صل الصلاة لوقتها المؤقت لها، ولا تعجل وقتها لفراغ، ولا تؤخرها عن
وقتها لاشتغال، واعلم أن كل شئ من عملك تبع لصلاتك.
* * *
الشرح:
آس بينهم: اجعلهم أسوة، لا تفضل بعضهم على بعض في اللحظة والنظرة، ونبه
بذلك على وجوب أن يجعلهم أسوة في جميع ما عدا ذلك، من العطاء والانعام والتقريب،
كقوله تعالى: (فلا تقل لهما أف).
قوله: " حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم "، الضمير في " لهم " راجع إلى الرعية
لا إلى العظماء، وقد كان سبق ذكرهم في أول الخطبة، أي إذا سلكت هذا المسلك
لم يطمع العظماء في أن تحيف على الرعية وتظلمهم وتدفع أموالهم إليهم، فإن ولاة الجور

(1) سورة الإسراء 23.
164

هكذا يفعلون، يأخذون مال هذا فيعطونه هذا. ويجوز أن يرجع الضمير إلى العظماء، أي
حتى لا يطمع العظماء في جورك في القسم الذي إنما تفعله لهم ولأجلهم، فإن ولاة الجور
يطمع العظماء فيهم أن يحيفوا في القسمة في الفئ ويخالفوا ما حده الله تعالى فيها، حفظا
لقلوبهم، واستمالة لهم، وهذا التفسير أليق بالخطابة، لان الضمير في " عليهم " في الفقرة
الثالثة عائد إلى الضعفاء، فيجب أن يكون الضمير في " لهم " في الفقرة الثانية عائدا
إلى العظماء.
قوله: " فإن يعذب فأنتم أظلم " أفعل هاهنا بمعنى الصفة، لا بمعنى التفضيل، وإنما
يراد فأنتم الظالمون، كقوله تعالى: (وهو أهون عليه) (1). وكقولهم: الله أكبر.
ثم ذكر حال الزهاد فقال: " أخذوا من الدنيا بنصيب قوي، وجعلت لهم الآخرة،
ويروى أن الفضيل بن عياض كان هو ورفيق له في بعض الصحارى، فأكلا كسرة
يابسة، واغترفا بأيديهما ماء من بعض الغدران، وقام الفضيل فحط رجليه في الماء، فوجد
برده، فالتذ به وبالحال التي هو فيها، فقال لرفيقه: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من
العيش واللذة لحسدونا.
وروي: " والمتجر المربح "، فالرابح فاعل من ربح ربحا، يقال: بيع رابح أي
يربح فيه، والمربح: اسم فاعل قد عدي ماضيه بالهمزة، كقولك: قام وأقمته.
قوله: " جيران الله غدا في آخرتهم "، ظاهر اللفظ غير مراد، لان البارئ تعالى
ليس في مكان وجهة ليكونوا جيرانه، ولكن لما كان الجار يكرم جاره سماهم جيران
الله، لإكرامه إياهم، وأيضا فإن الجنة إذا كانت في السماء والعرش هو السماء العليا، كان
في الكلام محذوف مقدر، أي جيران عرش الله غدا.

(1) سورة الروم 27.
165

قوله: " فإنه يأتي بأمر عظيم، وخطب جليل، بخير لا يكون معه شر أبدا وشر
لا يكون معه خير أبدا "، نص صريح في مذهب أصحابنا في الوعيد، وأن من دخل النار
من جميع المكلفين فليس بخارج، لأنه لو خرج منها لكان الموت قد جاءه بشر معه خير،
وقد نفى نفيا عاما أن يكون مع الشر المعقب للموت خير البتة.
قوله: " من عاملها "، أي من العامل لها.
قوله: " طرداء الموت "، جمع طريد، أي يطردكم عن أوطانكم ويخرجكم منها،
لا بد من ذلك، إن أقمتم أخذكم، وإن هربتم أدرككم.
وقال الراوندي: طرداء هاهنا: جمع طريدة وهي ما طردت من الصيد أو الوسيقة (1)،
وليس بصحيح، لان " فعيلة " بالتأنيث لا تجمع على فعلاء. وقال النحويون: إن قوله
تعالى: (ويجعلكم خلفاء الأرض) (2) جاء على " خليف " لا على " خليفة " وأنشدوا
لأوس بن حجر، بيتا استعملها جميعا فيه، وهو:
إن من القوم موجودا خليفته * وما خليف أبي ليلى بموجود (3)
قوله: " ألزم لكم من ظلكم "، لان الظل لا تصح مفارقته لذي الظل ما دام في
الشمس، وهذا من الأمثال المشهورة.
قوله: " معقود بنواصيكم "، أي ملازم لكم، كالشئ المعقود بناصية الانسان أين
ذهب ذهب معه.
وقال الراوندي: أي الموت غالب عليكم، قال تعالى: (فيؤخذ بالنواصي
والاقدام) (4)، فإن الانسان إذا أخذ بناصيته لا يمكنه الخلاص، وليس بصحيح، لأنه
لم يقل: " أخذ بنواصيكم ".
قوله: " والدنيا تطوى من خلفكم " من كلام بعض الحكماء: الموت والناس كسطور

(1) الوسيقة: الجماعة من الإبل، إذا سوقت طردت معا.
(2) سورة النمل 62.
(3) ديوانه 25، وروايته: " وما خليف أبي وهب ".
(4) سورة الرحمن 41.
166

في صحيفة يقرؤها قارئ ويطوي ما يقرأ فكلما ظهر سطر خفي سطر.
ثم أمره عليه السلام بأن يجمع بين حسن الظن بالله وبين الخوف منه، وهذا مقام
جليل لا يصل إليه إلا كل ضامر مهزول، وقد تقدم كلامنا فيه. وقال علي بن الحسين
عليه السلام: لو أنزل الله عز وجل كتابا أنه معذب رجلا واحدا لرجوت أن أكونه،
وأنه راحم رجلا واحدا لرجوت أن أكونه، أو أنه معذبي لا محاله ما ازددت إلا اجتهادا
لئلا أرجع إلى نفسي بلائمة.
ثم قال: " وليتك أعظم أجنادي "، يقال للأقاليم والأطراف: أجناد، تقول:
ولي جند الشام، وولي جند الأردن، وولى جند مصر.
قوله: " فأنت محقوق "، كقولك حقيق وجدير وخليق، قال الشاعر:
وإني لمحقوق بألا يطولني * نداه إذا طاولته بالقصائد
وتنافح: تجالد، نافحت بالسيف أي خاصمت به.
قوله: " ولو لم يكن إلا ساعة من النهار "، المراد تأكيد الوصاة عليه أن يخالف على
نفسه، وألا يتبع هواها، وأن يخاصم عن دينه، وأن ذلك لازم له، وواجب عليه،
ويلزم أن يفعله دائما فإن لم يستطع فليفعله ولو ساعة من النهار، وينبغي أن يكون هذا
التقييد مصروفا إلى المنافحة عن الدين، لان الخصام في الدين قد يمنعه عند مانع، فأما أمره
إياه أن يخالف على نفسه فلا يجوز صرف التقييد إليه، لأنه يشعر بأنه مفسوح له
أن يتبع هوى نفسه في بعض الحالات، وذلك غير جائز، بخلاف المخاصمة والنضال
عن المعتقد.
قال: " ولا تسخط الله برضا أحد من خلقه، فإن في الله خلفا من غيره،
وليس من الله خلف في غيره "، أخذه الحسن البصري فقال لعمر بن هبيرة
167

أمير العراق: إن الله مانعك من يزيد، ولم يمنعك يزيد من الله - يعنى يزيد بن
عبد الملك.
ثم أمره بأن يصلي الصلاة لوقتها، أي في وقتها، ونهاه أن يحمله الفراغ من الشغل
على أن يعجلها قبل وقتها، فإنها تكون غير مقبولة، أو أن يحمله الشغل على
تأخيرها عن وقتها فيأثم.
ومن كلام هشام بن عقبة أخي ذي الرمة - وكان من عقلاء الرجال - قال المبرد
في الكامل: حدثني العباس بن الفرج الرياشي بإسناده، قال هشام لرجل أراد سفرا:
اعلم أن لكل رفقة كلبا يشركهم في فضل الزاد، ويهر دونهم، فإن قدرت ألا
تكون كلب الرفقة فافعل، وإياك وتأخير الصلاة عن وقتها، فإنك مصليها لا محالة،
فصلها وهي تقبل منك (2).
قوله: " واعلم أن كل شئ من عملك تبع لصلاتك "، فيه شبه من قول رسول
الله صلى الله عليه وآله: " الصلاة عماد الايمان، ومن تركها فقد هدم الايمان ". وقال
صلى الله عليه وآله: " أول ما يحاسب به العبد صلاته، فإن سهل عليه كان ما بعده أسهل،
وإن اشتد عليه كان ما بعد أشد ".
ومثل قوله: " ولا تسخط الله برضا أحد من خلقه "، ما رواه المبرد في " الكامل "
عن عائشة قالت: من أرضى الله بإسخاط الناس كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن أرضى
الناس بإسخاط الله وكله الله إلى الناس.
ومثل هذا ما رواه المبرد أيضا قال: لما ولي الحسن بن زيد بن الحسن المدينة قال
لابن هرمة: إني لست كمن باع لك دينه رجاء مدحك، أو خوف ذمك، فقد رزقني (3)

(1) الكامل: " بإسناد له ".
(2) الكامل 1: 262.
(3) الكامل: قد أفادني الله بولادة نبيه الممادح ".
168

الله عز وجل بولادة نبيه صلى الله عليه وآله الممادح، وجنبني المقابح، وإن من حقه علي
ألا أغضي على تقصير في حق الله. وأنا أقسم بالله لئن أتيت بك سكران لأضربنك حدا
للخمر، وحدا للسكر، ولأزيدن لموضع حرمتك بي، فليكن تركك لها لله عز وجل
تعن (1) عليه، ولا تدعها للناس فتوكل إليهم، فقال ابن هرمة (2):
نهاني ابن الرسول عن المدام * وأدبني بآداب الكرام
وقال لي اصطبر عنها ودعها * لخوف الله لا خوف الأنام
وكيف تصبري عنها وحبى * لها حب تمكن في عظامي
أرى طيب الحلال علي خبثا * وطيب النفس في خبث الحرام (3)

(1) كذا في أ والكامل، وفي ب: " تعز ".
(2) الكامل: " فنهض ابن هرمة وهو يقول ".
(3) الكامل 1: 242، 243.
169

(27)
الأصل:
ومن هذا العهد:
فإنه لا سواء إمام الهدى وإمام الردى، وولي النبي وعدو النبي، ولقد
قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله: إني لا أخاف على أمتي مؤمنا ولا مشركا،
أما المؤمن فيمنعه الله بإيمانه، وأما المشرك فيقمعه الله بشركه، ولكني
أخاف عليكم كل منافق الجنان، عالم اللسان، يقول ما تعرفون،
ويفعل ما تنكرون.
* * *
الشرح:
الإشارة بإمام الهدى إليه نفسه، وبإمام الردى إلى معاوية، وسماه إماما، كما سمى
الله تعالى أهل الضلال أئمة، فقال: (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار) (1) ثم وصفه
بصفة أخرى وهو أنه عدو النبي صلى الله عليه وآله ليس يعني بذلك أنه كان عدوا أيام حرب
النبي صلى الله عليه وآله لقريش، بل يريد أنه الان عدو النبي صلى الله عليه وآله، لقوله
صلى الله عليه وآله له عليه السلام: " وعدوك عدوي وعدوي عدو الله ". وأول الخبر: " وليك
وليي، ووليي ولي الله "، وتمامه مشهور، ولان دلائل النفاق كانت ظاهرة عليه من فلتات لسانه
ومن أفعاله، وقد قال أصحابنا في هذا المعنى أشياء كثيرة، فلتطلب من كتبهم، خصوصا

(1) سورة القصص 41.
170

من كتب شيخنا أبي عبد الله، ومن كتب الشيخ أبي جعفر الإسكافي، وأبي القاسم
البلخي، وقد ذكرنا بعض ذلك فيما تقدم.
ثم قال عليه السلام: " إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: إني لا أخاف على
أمتي مؤمنا ولا مشركا " أي ولا مشركا يظهر الشرك، قال: لان المؤمن يمنعه الله بإيمانه أن
يضل الناس، والمشرك مظهر الشرك يقمعه الله بإظهار شركه ويخذله، ويصرف قلوب
الناس عن اتباعه، لأنهم ينفرون منه لإظهاره كلمه الكفر، فلا تطمئن قلوبهم إليه،
ولا تسكن نفوسهم إلى مقالته، ولكني أخاف على أمتي المنافق الذي يسر الكفر
والضلال، ويظهر الايمان والأفعال الصالحة، ويكون مع ذلك ذا لسن وفصاحة، يقول
بلسانه ما تعرفون صوابه، ويفعل سرا ما تنكرونه لو اطلعتم عليه، وذاك أن من هذه
صفته تسكن نفوس الناس إليه، لان الانسان إنما يحكم بالظاهر فيقلده الناس، فيضلهم
ويوقعهم في المفاسد.
[كتاب المعتضد بالله]
ومن الكتب المستحسنة الكتاب الذي كتبه المعتضد بالله أبو العباس أحمد بن
الموفق أبي أحمد طلحة بن المتوكل على الله في سنة أربع وثمانين ومائتين ووزيره
حينئذ عبيد الله بن سليمان، وأنا أذكره مختصرا من تاريخ أبي جعفر محمد بن
جرير الطبري.
قال أبو جعفر: وفي (1) هذه السنة عزم المعتضد على لعن معاوية بن أبي سفيان على
المنابر، وأمر بإنشاء كتاب يقرأ على الناس، فخوفه عبيد الله بن سليمان اضطراب العامة،

(1) تاريخ الطبري 3: 2164 وما بعدها.
171

وأنه لا يأمن أن تكون فتنة، فلم يلتفت إليه. فكان أول شئ بدأ به المعتضد من ذلك
التقدم (1) إلى العامة بلزوم أعمالهم، وترك الاجتماع والعصبية (2)، [والشهادات عند السلطان
إلا أن يسألوا] (3)، ومنع القصاص عن القعود على الطرقات، وأنشأ هذا الكتاب
وعملت به نسخ قرئت بالجانبين من مدينه السلام في الأرباع والمحال والأسواق يوم الأربعاء
لست بقين من جمادى الأولى من هذه السنة، ثم منع يوم الجمعة لأربع بقين منه، ومنع
القصاص من القعود في الجانبين، ومنع أهل الحلق من القعود في المسجدين، ونودي في المسجد
الجامع بنهي الناس عن الاجتماع وغيره وبمنع القصاص وأهل الحلق من القعود، ونودي:
أن الذمة قد برئت ممن اجتمع من الناس في مناظرة أو جدال، وتقدم إلى الشراب الذين
يسقون الماء في الجامعين ألا يترحموا على معاوية، ولا يذكروه [بخير] (3)، وكانت
عادتهم جارية بالترحم عليه، وتحدث الناس أن الكتاب الذي قد أمر المعتضد بإنشائه
بلعن معاوية يقرأ بعد صلاة الجمعة على المنبر، فلما صلى الناس بادروا إلى المقصورة ليسمعوا
قراءة الكتاب، فلم يقرأ: وقيل: إن عبيد الله بن سليمان صرفه عن قراءته، وإنه
أحضر يوسف بن يعقوب القاضي، وأمره أن يعمل الحيلة في إبطال ما عزم المعتضد عليه،
فمضى يوسف فكلم المعتضد في ذلك، وقال له: إني أخاف أن تضطرب العامة، ويكون
منها عند سماعها هذا الكتاب حركة، فقال: إن تحركت العامة أو نطقت وضعت
السيف فيها. فقال: يا أمير المؤمنين، فما تصنع بالطالبيين الذين يخرجون في كل ناحية،
ويميل إليهم خلق كثير، لقربتهم من رسول الله صلى الله عليه وآله، وما في هذا الكتاب
من إطرائهم - أو كما قال - وإذا سمع الناس هذا كانوا إليهم أميل، وكانوا هم أبسط

(1) الطبري: " الامر بالتقدم ".
(2) الطبري: " القضية ".
(3) من الطبري.
(4) الطبري: " ويمنع ".
172

ألسنة، وأثبت حجة منهم اليوم. فأمسك المعتضد فلم يرد إليه جوابا، ولم يأمر بعد
ذلك في الكتاب بشئ. وكان من جملة الكتاب بعد أن قدم حمد الله والثناء عليه
والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله:
أما بعد، فقد انتهى إلى أمير المؤمنين ما عليه جماعة العامة من شبهة قد دخلتهم في
أديانهم، وفساد قد لحقهم في معتقدهم، وعصبية قد غلبت عليها أهواؤهم، ونطقت بها
ألسنتهم، على غير معرفة ولا روية، قد قلدوا فيها قادة الضلالة بلا بينة ولا بصيرة،
وخالفوا السنن المتبعة، إلى الأهواء المبتدعة، قال الله تعالى: (ومن أضل ممن اتبع هواه
بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين (1)). خروجا عن الجماعة، ومسارعة
إلى الفتنة، وإيثارا للفرقة، وتشتيتا للكلمة، وإظهارا لموالاة من قطع الله عنه الموالاة،
وبتر منه العصمة، وأخرجه من الملة، وأوجب عليه اللعنة، وتعظيما لمن صغر الله حقه،
وأوهن أمره، وأضعف ركنه، من بنى أمية الشجرة الملعونة، ومخالفة لمن استنقذهم
الله به من الهلكة، وأسبغ عليهم به النعمة من أهل بيت البركة والرحمة، (والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم) (2).
فأعظم أمير المؤمنين ما انتهى إليه من ذلك، ورأي (3) ترك إنكاره حرجا عليه في الدين،
وفسادا لمن قلده الله أمره من المسلمين، وإهمالا لما أوجبه الله عليه من تقويم المخالفين،
وتبصير الجاهلين، وإقامة الحجة على الشاكين، وبسط اليد على المعاندين (4)! وأمير
المؤمنين يخبركم معاشر المسلمين أن الله جل ثناؤه لما ابتعث محمدا صلى الله عليه وسلم
بدينه، وأمره أن يصدع بأمره، بدأ بأهله وعشيرته فدعاهم إلى ربه، وأنذرهم وبشرهم،

(1) سورة القصص 50.
(2) سورة البقرة 105.
(3) الطبري: " ترك ".
(4) الطبري: " العاندين ".
173

ونصح لهم وأرشدهم، فكان من استجاب له، وصدق قوله، واتبع أمره نفير (1) يسير من
بني أبيه، من بين مؤمن بما أتى به من ربه، وناصر لكلمته وإن لم يتبع دينه إعزازا له،
وإشفاقا عليه، فمؤمنهم مجاهد ببصيرته، وكافرهم مجاهد بنصرته وحميته، يدفعون من
نابذه، ويقهرون من عازه وعانده، ويتوثقون له ممن كانفه وعاضده، ويبايعون من سمح
بنصرته، ويتجسسون أخبار أعدائه، ويكيدون له بظهر الغيب كما يكيدون له برأي
العين، حتى بلغ المدى، وحان وقت الاهتداء، فدخلوا في دين الله وطاعته وتصديق رسوله
والايمان به بأثبت بصيرة، وأحسن هدى ورغبة، فجعلهم الله أهل بيت الرحمة،
وأهل بيت الدين، أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. معدن الحكمة، وورثة
النبوة، وموضع الخلافة. أوجب الله لهم الفضيلة، وألزم العباد لهم الطاعة.
وكان ممن عانده وكذبه وحاربه من عشيرته العدد الكثير والسواد الأعظم، يتلقونه
بالضرر والتثريب (2)، ويقصدونه بالأذى والتخويف، وينابذونه بالعداوة، وينصبون له
المحاربة ويصدون من قصده، وينالون بالتعذيب من اتبعه، وكان أشدهم في ذلك عداوة،
وأعظمهم له مخالفة، أولهم في كل حرب ومناصبة، ورأسهم في كل إجلاب وفتنة، لا يرفع
على الاسلام راية، إلا كان صاحبها وقائدها ورئيسها، أبا سفيان بن حرب صاحب أحد
والخندق وغيرهما، وأشياعه من بنى أمية الملعونين في كتاب الله، ثم الملعونين على لسان
رسول الله صلى الله عليه وآله في مواطن عدة، لسابق علم الله فيهم، وماضي حكمه
في أمرهم، وكفرهم ونفاقهم. فلم يزل لعنه الله يحارب مجاهدا، ويدافع مكايدا، ويجلب
منابذا، حتى قهره السيف، وعلا أمر الله وهم كارهون، فتعوذ بالاسلام غير منطو عليه،
وأسر الكفر غير مقلع عنه، فقبله وقبل ولده على علم منه بحاله وحالهم. ثم أنزل الله

(1) الطبري: " نفر ".
(2) التثريب: " العتاب واللوم ".
174

تعالى كتابا فيما أنزله على رسوله يذكر فيه شأنهم وهو قوله تعالى: (والشجرة الملعونة
في القرآن) (1)، ولا خلاف بين أحد في أنه تعالى وتبارك أراد بها بني أمية.
ومما ورد من ذلك في السنة، ورواه ثقات الأمة، قول رسول الله صلى الله عليه وآله
فيه وقد رآه مقبلا على حمار ومعاوية يقوده ويزيد يسوقه (2): " لعن الله الراكب والقائد
والسائق ".
ومنه ما روته الرواة عنه من قوله يوم بيعة عثمان: تلقفوها يا بني عبد شمس تلقف
الكرة، فوالله ما من جنة ولا نار، وهذا كفر صراح يلحقه اللعنة من الله كما لحقت
الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا
يعتدون.
ومنه ما يروى من وقوفه على ثنية أحد من بعد ذهاب بصره وقوله لقائده: هاهنا
رمينا محمدا وقتلنا أصحابه.
ومنها الكلمة التي قالها للعباس قبل الفتح وقد عرضت عليه الجنود: لقد أصبح ملك
ابن أخيك عظيما، فقال له العباس: ويحك! إنه ليس بملك، إنها النبوة.
ومنها قوله يوم الفتح وقد رأى بلالا على ظهر الكعبة يؤذن ويقول أشهد أن محمدا
رسول الله: لقد أسعد الله عتبة بن ربيعة إذ لم يشهد هذا المشهد.
ومنه الرؤيا التي رآها رسول الله صلى الله عليه وآله فوجم لها. قالوا: فما رئي بعدها
ضاحكا (3)، رأى نفرا من بني أمية ينزون (4) على منبره نزوة القردة.
ومنها طرد رسول الله صلى الله عليه وآله الحكم بن أبي العاص لمحاكاته إياه في

(1) سورة الإسراء 60.
(2) الطبري: " يسوق به ".
(3) بعدها في الطبري: فأنزل الله: (وما جعلنا الرؤيا التي أريناكها إلا فتنة للناس).
(4) ينزون: يثبون ويعدون.
175

مشيته، وألحقه الله بدعوة رسول الله صلى الله عليه وآله آفة باقيه حين التفت إليه فرآه
يتخلج يحكيه، فقال: " كن كما أنت "، فبقي على ذلك سائر عمره.
هذا إلى ما كان من مروان ابنه في افتتاحه أول فتنة كانت في الاسلام، واحتقابه (1)
كل حرام سفك فيها أو أريق بعدها.
ومنها ما أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وآله ليله القدر، خير من ألف شهر!
قالوا: ملك بني أمية.
ومنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله دعا معاوية ليكتب بين يديه، فدافع بأمره
واعتل بطعامه، فقال صلى الله عليه وآله: " لا أشبع الله بطنه ". فبقي لا يشبع وهو يقول:
والله ما أترك الطعام شبعا، ولكن إعياء!
ومنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: " يطلع من هذا الفج رجل من أمتي
يحشر على غير ملتي "، فطلع معاوية.
ومنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: " إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه ".
ومنها الحديث المشهور المرفوع أنه صلى الله عليه وآله قال: " إن معاوية في تابوت من
نار في أسفل درك من جهنم، ينادى: يا حنان يا منان. فيقال له: (الآن وقد عصيت
قبل وكنت من المفسدين) (2).
ومنها افتراؤه بالمحاربة لأفضل المسلمين في الاسلام مكانا، وأقدمهم إليه سبقا،
وأحسنهم فيه أثرا وذكرا، علي بن أبي طالب، ينازعه حقه بباطله، ويجاهد أنصاره
بضلاله وأعوانه، ويحاول ما لم يزل هو وأبوه يحاولانه، من إطفاء نور الله، وجحود دينه

(1) يقال: احتقب فلان الاثم، إذا ارتكبه.
(2) سورة يونس 91.
176

(ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون) (1)، ويستهوي أهل الجهالة،
ويموه لأهل الغباوة بمكره وبغيه اللذين قدم رسول الله صلى الله عليه وآله الخبر عنهما،
فقال لعمار بن ياسر: " تقتلك الفئة الباغية، تدعوهم إلى الجنة ويدعونك إلى النار "،
مؤثرا للعاجلة، كافرا بالآجلة، خارجا من ربقة (2) الاسلام، مستحلا للدم الحرام،
حتى سفك في فتنته، وعلى سبيل غوايته وضلالته ما لا يحصى عدده من أخيار المسلمين،
الذابين عن دين الله والناصرين لحقه، مجاهدا في عداوة الله، مجتهدا في أن يعصى الله
فلا يطاع، وتبطل أحكامه فلا تقام، ويخالف دينه. فلا بد وأن تعلو كلمة الضلال
وترتفع دعوة الباطل، وكلمة الله هي العليا، ودينه المنصور، وحكمه النافذ، وأمره الغالب
وكيد من عاداه وحاده المغلوب الداحض، حتى احتمل أوزار تلك الحروب وما تبعها،
وتطوق تلك الدماء وما سفك بعدها، وسن سنن الفساد التي عليه إثمها وإثم من عمل بها،
وأباح المحارم لمن ارتكبها، ومنع الحقوق أهلها، وغرته الآمال، واستدرجه الامهال.
وكان مما أوجب الله عليه به اللعنة قتله من قتل صبرا من خيار الصحابة
والتابعين، وأهل الفضل والدين، مثل عمرو بن الحمق الخزاعي وحجر بن عدي
الكندي، فيمن قتل من أمثالهم، على أن تكون له العزة والملك والغلبة، ثم ادعاؤه زياد
بن سمية أخا، ونسبته إياه إلى أبيه، والله تعالى يقول: (ادعوهم لآبائهم هو أقسط
عند الله) (4)، ورسول الله صلى الله عليه وآله يقول: " ملعون من ادعى إلى غير أبيه،
أو انتمى إلى غير مواليه ". وقال: " الولد للفراش وللعاهر الحجر "، فخالف حكم الله تعالى
ورسوله جهارا، وجعل الولد لغير الفراش والحجر لغير العاهر، فأحل بهذه الدعوة من
محارم الله ورسوله في أم حبيبه أم المؤمنين وفي غيرها من النساء من شعور ووجوه قد

(1) سورة التوبة 32.
(2) الربقة: الواحدة من العرى التي في الحبل.
(3) صبرا، أي حبسا.
(4) سورة الأحزاب 5.
177

حرمها الله وأثبت بها من قربى قد أبعدها الله، ما لم يدخل الدين خلل مثله، ولم ينل
الاسلام تبديل يشبهه.
ومن ذلك إيثاره لخلافة الله على عباده ابنه يزيد السكير الخمير صاحب الديكة
والفهود والقردة، وأخذ البيعة له على خيار المسلمين بالقهر والسطوة والتوعد
والإخافة، والتهديد والرهبة، وهو يعلم سفهه، ويطلع على رهقه وخبثه، ويعاين سكراته
وفعلاته، وفجوره وكفره، فلما تمكن - قاتله الله - فيما تمكن منه، طلب بثارات
المشركين وطوائلهم عند المسلمين، فأوقع بأهل المدينة في وقعة الحرة الوقعة التي لم يكن في
الاسلام أشنع منها ولا أفحش، فشفى عند نفسه غليله، وظن أنه قد انتقم من أولياء الله،
وبلغ الثأر لأعداء الله فقال مجاهرا بكفره، ومظهرا لشركه:
ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأسل (1)
قول (2) من لا يرجع إلى الله ولا إلى دينه ولا إلى رسوله ولا إلى كتابه، ولا يؤمن
بالله وبما جاء من عنده.
ثم أغلظ ما انتهك، وأعظم ما اجترم، سفكه دم الحسين بن علي عليه السلام، مع
موقعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكانه ومنزلته من الدين والفضل والشهادة له
ولأخيه بسيادة شباب أهل الجنة، اجتراء على الله وكفرا بدينه، وعداوة لرسوله،
ومجاهرة لعترته، واستهانة لحرمته، كأنما يقتل منه ومن أهل بيته قوما من كفرة الترك

(1) لعبد الله بن الزبعرى، من كلمته يوم أحد، سيرة ابن هشام 3: 96 وبعده في الطبري:
قد قتلنا القوم من ساداتكم * وعدلنا ميل بدر فاعتدل
فأهلوا واستهلوا فرحا * ثم قالوا يا يزيد لا تسل
لست من خندف إن لم أنتقم * من بني أحمد ما كان فعل
لعنت هاشم بالملك فلا * خبر جاء ولا وحي نزل
(2) الطبري: هذا هو المروق من الدين وقول من لا يرجع... ".
178

والديلم، ولا يخاف من الله نقمة، ولا يراقب منه سطوة، فبتر الله عمره، أخبث أصله
وفرعه، وسلبه ما تحت يده، وأعد له من عذابه وعقوبته، ما استحقه من الله بمعصيته.
هذا إلى ما كان من بني مروان من تبديل كتاب الله، وتعطيل أحكام الله،
واتخاذ مال الله بينهم دولا، وهدم بيت الله، واستحلالهم حرمه، ونصبهم المجانيق
عليه، ورميهم بالنيران إياه، لا يألون له إحراقا وإخرابا، ولما حرم الله منه استباحة
وانتهاكا، ولمن لجأ إليه قتلا وتنكيلا، ولمن أمنه الله به إخافة وتشريدا، حتى إذا
حقت عليهم كلمه العذاب، واستحقوا من الله الانتقام، وملئوا الأرض بالجور والعدوان
وعموا عباد بلاد الله بالظلم والاقتسار، وحلت عليهم السخطة، ونزلت بهم من الله
السطوة، أتاح الله لهم من عترة نبيه وأهل وراثته، ومن استخلصه منهم لخلافته، مثل
ما أتاح من أسلافهم المؤمنين، وآبائهم المجاهدين، لأوائلهم الكافرين، فسفك الله به
دماءهم ودماء آبائهم مرتدين، كما سفك بآبائهم مشركين، وقطع الله دابر الذين ظلموا
والحمد لله رب العالمين.
أيها الناس، إن الله إنما أمر ليطاع، ومثل ليتمثل، وحكم ليفعل، قال الله سبحانه
وتعالى: (إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا) (1)، وقال: (أولئك يلعنهم الله
ويلعنهم اللاعنون) (2).
فالعنوا أيها الناس من لعنه الله ورسوله، وفارقوا من لا تنالون القربة من الله إلا
بمفارقته: اللهم العن أبا سفيان بن حرب بن أمية، ومعاوية بن أبي سفيان، ويزيد بن
معاوية، ومروان بن الحكم، وولده وولد ولده! اللهم العن أئمة الكفر، وقادة الضلال،
وأعداء الدين، ومجاهدي الرسول، ومعطلي الاحكام، ومبدلي الكتاب، ومنتهكي
الدم الحرام! اللهم إنا نبرأ إليك من موالاة أعدائك، ومن الاغماض لأهل معصيتك،

(1) سورة الأحزاب 64.
(2) سورة البقرة 159.
179

كما قلت: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله
ورسوله) (1).
أيها الناس، اعرفوا الحق تعرفوا أهله، وتأملوا سبل الضلالة تعرفوا سابلها، فقفوا
عندما وقفكم الله عليه، وانفذوا كما أمركم الله به، وأمير المؤمنين يستعصم بالله لكم،
ويسأله توفيقكم، ويرغب إليه في هدايتكم. والله حسبه وعليه توكله، ولا قوة إلا
بالله العلي العظيم. (2).
قلت: هكذا ذكر الطبري الكتاب، وعندي أنه الخطبة، لان كل ما يخطب به فهو
خطبة، وليس بكتاب، والكتاب ما يكتب إلى عامل أو أمير ونحوهما، وقد يقرا الكتاب
على المنبر فيكون كالخطبة، ولكن ليس بخطبة، ولكنه كتاب قرئ على الناس.
ولعل هذا الكلام كان قد أنشئ ليكون كتابا، ويكتب به إلى الآفاق، ويؤمروا
بقراءته على الناس، وذلك بعد قراءته على أهل بغداد. والذي يؤكد كونه كتابا، وينصر
ما قاله الطبري أن في آخره: " كتب عبيد الله بن سليمان في سنة أربع وثمانين ومائتين "،
وهذا لا يكون في الخطب، بل في الكتب، ولكن الطبري لم يذكر أنه أمر بأن يكتب
إلى الآفاق ولا قال: وقع العزم على ذلك، ولم يذكر إلا وقوع العزم على أن يقرا في
الجوامع ببغداد.

(1) سورة المجادلة 22.
(2) الطبري حوادث سنة 284 بتصرف واختصار.
180

(28)
الأصل:
ومن كتاب له عليه السلام إلى معاوية جوابا، وهو من محاسن الكتب:
أما بعد، فقد أتاني كتابك تذكر فيه اصطفاء الله محمدا صلى الله عليه وآله
لدينه، وتأييده إياه لمن أيده من أصحابه، فلقد خبأ لنا الدهر منك عجبا،
إذ طفقت تخبرنا ببلاء الله تعالى عندنا، ونعمته علينا في نبينا، فكنت في ذلك
كناقل التمر إلى هجر، أو داعي مسدده إلى النضال.
وزعمت أن أفضل الناس في الاسلام فلان وفلان، فذكرت أمرا إن تم
اعتزلك كله، وإن نقص لم يلحقك ثلمه. وما أنت والفاضل والمفضول، والسائس
والمسوس! وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز بين المهاجرين الأولين، وترتيب
درجاتهم، وتعريف طبقاتهم! هيهات لقد حن قدح ليس منها، وطفق يحكم
فيها من عليه الحكم لها!
ألا تربع أيها الانسان على ظلعك، وتعرف قصور ذرعك، وتتأخر حيث
أخرك القدر! فما عليك غلبة المغلوب، ولا ظفر الظافر، فإنك لذهاب في التيه،
رواغ عن القصد.
ألا ترى - غير مخبر لك، ولكن بنعمة الله أحدث - إن قوما استشهدوا في
سبيل الله تعالى من المهاجرين والأنصار، ولكل فضل، حتى إذا استشهد شهيدنا
قيل: سيد الشهداء، وخصه رسول الله صلى الله عليه وآله بسبعين تكبيرة عند
صلاته عليه!
181

أولا ترى أن قوما قطعت أيديهم في سبيل الله ولكل فضل، حتى إذا فعل
بواحدنا ما فعل بواحدهم، قيل: الطيار في الجنة وذو الجناحين!
ولولا ما نهى الله عنه من تزكيه المرء نفسه، لذكر ذاكر فضائل جمة،
تعرفها قلوب المؤمنين، ولا تمجها آذان السامعين.
فدع عنك من مالت به الرمية، فإنا صنائع ربنا، والناس بعد صنائع لنا،
لم يمنعنا قديم عزنا، ولا عادي طولنا على قومك أن خلطناكم بأنفسنا، فنكحنا
وأنكحنا، فعل الأكفاء ولستم هناك. وإني يكون ذلك كذلك ومنا النبي
ومنكم المكذب، ومنا أسد الله ومنكم أسد الاحلاف، ومنا سيدا شباب أهل
الجنة، ومنكم صبية النار، ومنا خير نساء العالمين، ومنكم حمالة الحطب، في
كثير مما لنا وعليكم!
فإسلامنا ما قد سمع، وجاهليتنا لا تدفع، وكتاب الله يجمع لنا ما شذ عنا،
وهو قوله سبحانه وتعالى: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) (1)،
وقوله تعالى: (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا
والله ولي المؤمنين) (2)، فنحن مرة أولى بالقرابة، وتارة أولى بالطاعة.
ولما احتج المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة برسول الله صلى الله عليه وآله
فلجوا عليهم، فان يكن الفلج به فالحق لنا دونكم، وإن يكن بغيره
فالأنصار على دعواهم.
وزعمت أني لكل الخلفاء حسدت، وعلى كلهم بغيت، فإن يكن ذلك
كذلك فليست الجناية عليك، فيكون العذر إليك.

(1) سورة الأنفال 75.
(2) سورة آل عمران 68.
182

* وتلك شكاة ظاهر عنك عارها *
وقلت: إني كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتى أبايع، ولعمر الله لقد
أردت أن تذم فمدحت، وأن تفضح فافتضحت! وما على المسلم من غضاضة في
أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكا في دينه، ولا مرتابا بيقينه!
وهذه حجتي إلى غيرك قصدها، ولكني أطلقت لك منها بقدر ما سنح
من ذكرها.
ثم ذكرت ما كان من أمري وأمر عثمان، فلك أن تجاب عن هذه
لرحمك منه، فأينا كان أعدى له، وأهدى إلى مقاتله! أمن بذل له نصرته
فاستقعده واستكفه، أمن استنصره فتراخى عنه وبث المنون إليه، حتى أتى
قدره عليه! كلا والله لقد (يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم
إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا) (1).
وما كنت لأعتذر من أني كنت أنقم عليه أحداثا، فإن كان الذنب إليه
إرشادي وهدايتي له، فرب ملوم لا ذنب له.
* وقد يستفيد الظنة المتنصح *
وما أردت إلا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت
وإليه أنيب.
وذكرت أنه ليس لي ولأصحابي عندك إلا السيف، فلقد أضحكت بعد
استعبار! متى ألفيت بني عبد المطلب عن الأعداء ناكلين، وبالسيف مخوفين، ف‍

(1) سورة الأحزاب 18.
183

* فلبث قليلا يلحق الهيجا حمل *
فسيطلبك من تطلب، ويقرب منك ما تستبعد، وإنا مرقل نحوك في جحفل
من المهاجرين والأنصار، والتابعين لهم باحسان، شديد زحامهم، ساطع
قتامهم، متسربلين سرابيل الموت، أحب اللقاء إليهم لقاء ربهم، وقد صحبتهم
ذرية بدرية، وسيوف هاشمية، قد عرفت مواقع نصالها في أخيك وخالك وجدك
وأهلك (وما هي من الظالمين ببعيد) (1).
* * *
الشرح:
[كتاب لمعاوية إلى علي]
سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن أبي زيد، فقلت: أرى هذا الجواب منطبقا على
كتاب معاوية الذي بعثه مع أبي مسلم الخولاني إلى علي عليه السلام، فإن كان هذا هو
الجواب فالجواب الذي ذكره أرباب السيرة وأورده نصر بن مزاحم في كتاب صفين إذن
غير صحيح، وإن كان ذلك الجواب، فهذا الجواب إذن غير صحيح ولا ثابت، فقال لي:
بل كلاهما ثابت مروي، وكلاهما كلام أمير المؤمنين عليه السلام وألفاظه، ثم أمرني أن
أكتب ما عليه علي عليه السلام، فكتبته، قال رحمه الله:
كان معاوية يتسقط (3) عليا وينعى عليه ما عساه يذكره من حال أبي بكر وعمر،
وأنهما غصباه حقه، ولا يزال يكيده بالكتاب يكتبه، والرسالة يبعثها يطلب غرته،
لينفث بما في صدره من حال أبي بكر وعمر، إما مكاتبة أو مراسلة، فيجعل ذلك حجة

(1) سورة هود 83.
(2) يتسقطه: يتنقصه.
184

عليه عند أهل الشام، ويضيفه إلى ما قرره في أنفسهم من ذنوبه كما زعم، فقد كان غمصه (1)
عندهم بأنه قتل عثمان، ومالأ على قتله، وأنه قتل طلحة والزبير، وأسر عائشة، وأراق دماء
أهل البصرة. وبقيت خصلة واحدة، وهو إن يثبت عندهم أنه يتبرأ من أبي بكر وعمر،
وينسبهما إلى الظلم ومخالفة الرسول في أمر الخلافة، وأنهما وثبا عليها غلبة، وغصباه إياها،
فكانت هذه الطامة الكبرى ليست مقتصرة على فساد أهل الشام عليه، بل وأهل العراق
الذين هم جنده وبطانته وأنصاره، لأنهم كانوا يعتقدون إمامة الشيخين، إلا القليل الشاذ من
خواص الشيعة، فلما كتب ذلك الكتاب مع أبي مسلم الخولاني قصد أن يغضب عليا
ويحرجه ويحوجه إذا قرأ ذكر أبى بكر، وأنه أفضل المسلمين، إلى أن يخلط خطه في الجواب
بكلمة تقتضي طعنا في أبى بكر، فكان الجواب مجمجما (2) غير بين، ليس فيه تصريح بالتظليم
لهما، ولا التصريح ببراءتهما، وتارة يترحم عليهما، وتارة يقول أخذا حقي وقد تركته
لهما، فأشار عمرو بن العاص على معاوية أن يكتب كتابا ثانيا مناسبا للكتاب الأول
ليستفزا فيه عليا عليه السلام ويستخفاه، ويحمله الغضب منه أن يكتب كلاما يتعلقان به
في تقبيح حاله وتهجين مذهبه. وقال له عمرو: إن عليا رجل نزق تياه،
وما استطعمت منه الكلام بمثل تقريظ أبى بكر وعمر، فاكتب. فكتب كتابا أنفذه
إليه مع أبي أمامة الباهلي، وهو من الصحابة، بعد أن عزم على بعثته مع أبي الدرداء.
ونسخة الكتاب: من عبد الله معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب.
أما بعد، فإن الله تعالى جده اصطفى محمدا عليه السلام لرسالته، واختصه بوحيه
وتأدية شريعته، فأنقذ به من العماية، وهدى به من الغواية، ثم قبضه إليه رشيدا حميدا،
قد بلغ الشرع، ومحق الشرك، وأخمد نار الإفك، فأحسن الله جزاءه وضاعف عليه نعمه
وآلاءه. ثم إن الله سبحانه اختص محمدا عليه السلام بأصحاب أيدوه وآزروه ونصروه

(1) غمصه: اتهمه.
(2) مجمجما: غير واضح.
185

وكانوا كما قال الله سبحانه لهم: (أشداء على الكفار رحماء بينهم) (1)، فكان أفضلهم
مرتبة، وأعلاهم عند الله والمسلمين منزلة، الخليفة الأول، الذي جمع الكلمة، ولم الدعوة
وقاتل أهل الردة، ثم الخليفة الثاني الذي فتح الفتوح، ومصر الأمصار وأذل رقاب
المشركين. ثم الخليفة الثالث المظلوم الذي نشر الملة، وطبق الآفاق بالكلمة الحنيفية.
فلما استوثق الاسلام وضرب بجرانه عدوت عليه فبغيته الغوائل، ونصبت له المكايد،
وضربت له بطن الامر وظهره، ودسست عليه، وأغريت به، وقعدت حيث استنصرك
عن نصره، وسألك أن تدركه قبل أن يمزق فما أدركته، وما يوم المسلمين
منك بواحد.
لقد حسدت أبا بكر، والتويت عليه، ورمت إفساد أمره، وقعدت في بيتك،
واستغويت عصابة من الناس حتى تأخروا عن بيعته، ثم كرهت خلافة عمر وحسدته
واستطلت مدته، وسررت بقتله، وأظهرت الشماتة بمصابه، حتى إنك حاولت قتل ولده
لأنه قتل قاتل أبيه، ثم لم تكن أشد منك حسدا لابن عمك عثمان، نشرت مقابحه،
وطويت محاسنه، وطعنت في فقهه، ثم في دينه، ثم في سيرته، ثم في عقله، وأغريت به
السفهاء من أصحابك وشيعتك، حتى قتلوه بمحضر منك، لا تدفع عنه بلسان ولا يد، وما من
هؤلاء إلا من بغيت عليه، وتلكأت في بيعته، حتى حملت إليه قهرا، تساق بخزائم
الاقتسار كما يساق الفحل المخشوش، ثم نهضت الان تطلب الخلافة، وقتلة عثمان خلصاؤك
وسجراؤك والمحدقون بك، وتلك من أماني النفوس، وضلالات الأهواء.
فدع اللجاج والعبث جانبا، وادفع إلينا قتلة عثمان، وأعد الامر شورى بين المسلمين
ليتفقوا على من هو لله رضا. فلا بيعه لك في أعناقنا، ولا طاعة لك علينا، ولا عتبى لك

(1) سورة الفتح 29.
186

عندنا، وليس لك ولأصحابك عندي إلا السيف. والذي لا إله إلا هو لأطلبن قتلة عثمان
أين كانوا، وحيث كانوا، حتى أقتلهم أو تلتحق روحي بالله.
فأما ما لا تزال تمن به من سابقتك وجهادك فإني وجدت الله سبحانه يقول:
(يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن
هداكم للايمان إن كنتم صادقين) (1). ولو نظرت في حال نفسك لوجدتها
أشد الأنفس امتنانا على الله بعملها، وإذا كان الامتنان على السائل يبطل أجر الصدقة،
فالامتنان على الله يبطل أجر الجهاد، ويجعله (كصفوان عليه تراب فأصابه وابل
فتركه صلدا لا يقدرون على شئ مما كسبوا والله لا يهدى القوم الكافرين) (2).
قال النقيب أبو جعفر: فلما وصل هذا الكتاب إلى علي عليه السلام مع أبي أمامة
الباهلي، كلم أبا أمامة بنحو مما كلم به أبا مسلم الخولاني، وكتب معه هذا الجواب.
قال النقيب: وفي كتاب معاوية هذا ذكر لفظ الجمل المخشوش أو الفحل المخشوش،
لا في الكتاب الواصل مع أبي مسلم، وليس في ذلك هذه اللفظة، وإنما فيه: " حسدت الخلفاء
وبغيت عليهم، عرفنا ذلك من نظرك الشزر (3)، وقولك الهجر (4)، وتنفسك الصعداء،
وإبطائك عن الخلفاء ".
قال: وإنما كثير من الناس لا يعرفون الكتابين، والمشهور عندهم كتاب أبى مسلم
فيجعلون هذه اللفظة فيه، والصحيح أنها في كتاب أبي أمامة ألا تراها عادت

(1) سورة الحجرات 17.
(2) سورة البقرة 264.
(3) يقال: شزره وإليه: نظر إليه بأحد شقيه، أو هو نظر فيه إعراض.
(4) الهجر (بضم فسكون): القبيح من القول.
187

في جوابه ولو كانت في كتاب أبى مسلم لعادت في جوابه!
انتهى كلام النقيب أبى جعفر.
ونحن الان مبتدئون في شرح ألفاظ الجواب المذكور.
قوله: " فلقد خبأ لنا الدهر منك عجبا "، موضع التعجب أن معاوية يخبر عليا عليه
السلام باصطفاء الله تعالى محمدا وتشريفه له، وتأييده له، وهذا ظريف لأنه يجري كإخبار
زيد عمرا عن حال عمرو، إذ كان النبي صلى الله عليه وآله وعلي كالشئ
الواحد. وخبأ مهموز، والمصدر الخبء، ومنه الخابية، وهي الخبء إلا أنهم تركوا همزها،
والخبء أيضا والخبئ على " فعيل " ما خبئ.
وبلاء الله تعالى: إنعامه وإحسانه.
وقوله عليه السلام: " كناقل التمر إلى هجر "، مثل قديم. وهجر: اسم مدينة
لا ينصرف للتعريف والتأنيث. وقيل: هو اسم مذكر مصروف، وأصل المثل " كمستبضع
تمر إلى هجر (1) "، والنسبة إليه هاجري على غير قياس، وهي بلدة كثيرة ه النخل يحمل منها
التمر إلى غيرها، قال الشاعر في هذا المعنى:
أهدى له طرف الكلام كما * يهدى لوالي البصرة التمر
قوله: " وداعي مسدده إلى النضال "، أي معلمه الرمي، وهذا إشارة إلى قول
القائل الأول:

(1) مجمع الأمثال 2: 152، قال أبو عبيد: هذا من الأمثال المبتذلة ومن قديمها، وذلك أن هجر
معدن التمر، والمستبضع إليه مخطئ، ويقال أيضا: كمستبضع التمر إلى خيبر، قال النابغة الجعدي:
وإن امرأ أهدى إليك قصيدة * كمستبضع تمرا إلى أرض خيبرا
188

أعلمه الرماية كل يوم * فلما استد ساعده رماني (1)
هكذا الرواية الصحيحة بالسين المهملة، أي استقام ساعده على الرمي، وسددت
فلانا: علمته النضال، وسهم سديد: مصيب، ورمح سديد، أي قل أن تخطئ
طعنته، وقد ظرف القاضي الأرجاني في قوله لسديد الدولة محمد بن عبد الكريم
الأنباري كاتب الانشاء:
إلى الذي نصب المكارم للورى * غرضا يلوح من المدى المتباعد
نثل الأماثل من كنانته فما * وجدت يداه سوى سديد واحد
ومن الأمثال في هذا المعنى: " سمن كلبك يأكلك " (2)، ومنها: " أحشك
وتروثني! " (3).
قوله عليه السلام: " وزعمت أن أفضل الناس في الاسلام فلان وفلان "، أي
أبو بكر وعمر.
قوله عليه السلام: " فذكرت أمرا إن تم اعتزلك كله، وإن نقص لم يلحقك
ثلمه "، من هذا المعنى قول الفرزدق لجرير، وقد كان جرير في مهاجاته إياه يفخر عليه
بقيس عيلان، فقد كانت لجرير في قيس خؤولة، يعيره بأيامهم على بني تميم، فلما قتل
بنو تميم قتيبة بن مسلم الباهلي بخراسان قال الفرزدق يفتخر:
أتاني وأهلي بالمدينة وقعة * لآل تميم أقعدت كل قائم (4)

(1) استد: استقام، والبيت ينسب إلى معن بن أوس، أو مالك بن فهم الأزدي، أو عقيل بن
علفة، وبعده:
فلا ظفرت يمينك حين ترمي * وشلت منك حاملة البنان
وانظر اللسان 4: 191.
(2) مجمع الأمثال 1: 333، قالوا: أول من قال ذلك حازم بن المنذر.
(3) مجمع الأمثال 1: 200، أراد: تردت علي.
(4) ديوانه 853.
189

كأن رؤوس الناس إذ سمعوا بها * مشدخة هاماتها بالأمائم
وما بين من لم يؤت سمعا وطاعة * وبين تميم غير جز الحلاقم
ثم خرج إلى خطاب جرير بعد أبيات تركنا ذكرها، فقال:
أتغضب إن أذنا قتيبة جزتا * جهارا ولم تغضب لقتل ابن حازم!
وما منهما إلا نقلنا دماغه * إلى الشام فوق الشاحجات الرواسم
تذبذب في المخلاة تحت بطونها * محذفة الأذناب جلح المقادم
وما أنت من قيس فتنبح دونها * ولا من تميم في الرؤوس الأعاظم
تخوفنا أيام قيس ولم تدع * لعيلان أنفا مستقيم الخياشم
لقد شهدت قيس فما كان نصرها * قتيبة إلا عضها بالأباهم
فقوله:
* وما أنت من قيس فتنبح دونها *
هو معنى قول علي عليه السلام لمعاوية: " فذكرت أمرا إن تم اعتزلك كله "،
وابن حازم المذكور في الشعر هو عبد الله بن حازم، من بني سليم، وسليم من قيس
عيلان، وقتلته تميم أيضا، وكان والي خراسان.
قوله عليه السلام: " وما أنت والفاضل والمفضول "، الرواية المشهورة بالرفع،
وقد رواها قوم بالنصب، فمن رفع احتج بقوله: وما أنت وبيت أبيك والفخر.
وبقوله:
* فما القيسي بعدك والفخار *
ومن نصب فعلى تأويل " مالك والفاضل "، وفي ذلك معنى الفعل، أي ما تصنع، لان
190

هذا الباب لا بد أن يتضمن الكلام فيه فعلا، أو معنى فعل، وأنشدوا:
* فما أنت والسير في متلف (1).
والرفع عند النحويين أولى.
ثم قال: " وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز " النصب هاهنا لا غير، لأجل اللام
في الطلقاء.
ثم قال عليه السلام: " بين المهاجرين الأولين وترتيب درجاتهم، وتعريف طبقاتهم "،
هذا الكلام ينقض ما يقول من يطعن في السلف، فإن أمير المؤمنين عليه السلام أنكر
على معاوية تعرضه بالمفاضلة بين أعلام المهاجرين، ولم يذكر معاوية إلا للمفاضلة بينه عليه
السلام وبين أبي بكر وعمر، فشهادة أمير المؤمنين عليه السلام بأنهما من المهاجرين الأولين
ومن ذوي الدرجات والطبقات التي اشتبه الحال بينهما وبينه عليه السلام في أي الرجال
منهم أفضل، وأن قدر معاوية يصغر أن يدخل نفسه في مثل ذلك شهادة قاطعة على علو
شأنهما وعظم منزلتهما.
قوله عليه السلام: " هيهات لقد حن قدح ليس منها "، هذا مثل يضرب
لمن يدخل نفسه بين قوم ليس له أن يدخل بينهم، وأصله القداح من عود واحد يجعل
فيها قدح من غير ذلك الخشب، فيصوت بينها إذا أرادها المفيض، فذلك الصوت
هو حنينه.
قوله " وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها " أي وطفق يحكم في هذه القصة

(1) لأسامة بن الحارث الهذلي، وبقيته:
* يعبر بالذكر الضابط *
وانظر ديوان الهذليين 2: 195.
191

أو في هذه القضية من يجب أن يكون الحكم لها عليه لا له فيها، ويجوز أن يكون الضمير
يرجع إلى الطبقات.
ثم قال: " ألا تربع أيها الانسان على ظلعك! " أي ألا ترفق بنفسك وتكف،
ولا تحمل عليها ما لا تطيقه، والظلع مصدر ظلع البعير يظلع أي غمز في مشيه.
قوله: " وتعرف قصور ذرعك "، أصل الذرع بسط اليد، يقال ضقت به ذرعا:
أي ضاق ذرعي به. فنقلوا الاسم من الفاعلية فجعلوه منصوبا على التمييز، كقولهم طبت
به نفسا.
قوله: " وتتأخر حيث أخرك القدر "، مثل قولك: ضع نفسك حيث وضعها الله،
يقال ذلك لمن يرفع نفسه فوق استحقاقه.
ثم قال: " فما عليك غلبة المغلوب، ولا عليك ظفر الظافر "، يقول: وما الذي أدخلك بيني وبين أبى بكر وعمر، وأنت من بنى أمية لست هاشميا ولا تيميا ولا عدويا
هذا فيما يرجع إلى أنسابنا، ولست مهاجرا ولا ذا قدم في الاسلام فتزاحم المهاجرين
وأرباب السوابق بأعمالك واجتهادك، فإذن لا يضرك غلبة الغالب منا ولا يسرك ظفر
الظافر. ويروى أن مروان بن الحكم كان ينشد يوم مرج راهط والرؤوس تندر عن
كواهلها بينه وبين الضحاك بن قيس الفهري:
وما ضرهم غير حين النفوس * أي غلامي قريش غلب
قوله عليه السلام: " وإنك لذهاب في التيه، رواغ عن القصد "، يحتمل قوله عليه السلام
في التيه معنيين: أحدهما بمعنى الكبر، والاخر التيه من قولك: تاه فلان في البيداء ومنه
قوله تعالى: (فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض) (1)، وهذا الثاني أحسن

(1) سورة المائدة 26.
192

يقول: إنك شديد الإيغال في الضلال. و " ذهاب " فعال، للتكثير ويقال: أرض
متيهة، مثل معيشة، أي يتاه فيها.
قال عليه السلام: " رواغ عن القصد "، أي تترك ما يلزمك فعله وتعدل عما يجب
عليك أن تجيب عنه إلى حديث الصحابة، وما جرى بعد موت النبي صلى الله عليه وآله،
ونحن إلى الكلام في غير هذا أحوج إلى الكلام في البيعة وحقن الدماء والدخول تحت
طاعة الامام.
ثم قال: " ألا ترى غير مخبر لك، ولكن بنعمة الله أحدث "، أي لست عندي
أهلا لان أخبرك بذلك أيضا، فإنك تعلمه، ومن يعلم الشئ لا يجوز أن يخبر به،
ولكن أذكر ذلك لأنه تحدث بنعمة الله علينا، وقد أمرنا بأن نحدث
بنعمته سبحانه.
قوله عليه السلام: " إن قوما استشهدوا في سبيل الله "، المراد هاهنا، سيد الشهداء
حمزة رضي الله عنه، وينبغي أن يحمل قول النبي صلى الله عليه وآله فيه أنه سيد الشهداء
على أنه سيد الشهداء في حياة النبي صلى الله عليه وآله، لان عليا عليه السلام مات شهيدا،
ولا يجوز أن يقال: حمزة سيده، بل هو سيد المسلمين كلهم، ولا خلاف بين أصحابنا
رحمهم الله أنه أفضل من حمزة وجعفر رضي الله عنهما، وقد تقدم ذكر التكبير الذي
كبره رسول الله صلى الله عليه وآله على حمزة في قصة أحد.
قوله عليه السلام: " ولكل فضل "، أي ولكل واحد من هؤلاء فضل لا يجحد.
قوله: " أولا ترى أن قوما قطعت أيديهم "، هذا إشارة إلى جعفر، وقد تقدم
ذلك في قصة مؤتة.
قوله: " ولولا ما نهى الله عنه "، هذا إشارة إلى نفسه عليه السلام
193

قوله: " ولا تمجها آذان السامعين " أي لا تقذفها يقال: مج الرجل من فيه، أي قذفه،
قوله عليه السلام: " فدع عنك من مالت به الرمية "، يقال للصيد: يرمي هذه الرمية،
وهي " فعيلة " بمعنى مفعولة، والأصل في مثلها ألا تلحقها الهاء، نحو كف خضيب، وعين
كحيل، إلا أنهم أجروها مجرى الأسماء لا النعوت، كالقصيدة والقطيعة.
والمعنى: دع ذكر من مال إلى الدنيا ومالت به، أي أمالته إليها.
فإن قلت: فهل هذا إشارة إلى أبى بكر وعمر؟ قلت: ينبغي أن ينزه أمير المؤمنين
عليه السلام عن ذلك، وأن تصرف هذه الكلمة إلى عثمان، لان معاوية ذكره في
كتابه وقد أوردناه، وإذا أنصف الانسان من نفسه علم أنه عليه السلام لم يكن يذكرهما
بما يذكر به عثمان، فإن الحال بينه وبين عثمان كانت مضطربة جدا.
قال عليه السلام: " فإنا صنائع ربنا، والناس بعد صنائع لنا "، هذا كلام عظيم، عال
على الكلام، ومعناه عال على المعاني، وصنيعة الملك من يصطنعه الملك ويرفع قدره.
يقول: ليس لأحد من البشر علينا نعمة، بل الله تعالى هو الذي أنعم علينا، فليس بيننا
وبينه واسطة، والناس بأسرهم صنائعنا، فنحن الواسطة بينهم وبين الله تعالى،
وهذا مقام جليل ظاهره ما سمعت، وباطنه أنهم عبيد الله، وأن الناس عبيدهم.
ثم قال: " لم يمنعنا قديم عزنا، وعادي طولنا "، الطول: الفضل. وعادي أي قديم،
بئر عادية.
قوله: " على قومك أن خلطناهم بأنفسنا فنكحنا وأنكحنا فعل الأكفاء، ولستم
هناك "، يقول: تزوجنا فيكم وتزوجتم فينا كما يفعل الأكفاء، ولستم أكفاءنا. وينبغي
أن يحمل قوله: " قديم وعادى " على مجازه لا على حقيقته، لان بني هاشم وبني أمية لم
يفترقا في الشرف إلا مذ نشأ هاشم بن عبد مناف وعرف بأفعاله ومكارمه، ونشأ حينئذ
أخوه عبد شمس وعرف بمثل ذلك، وصار لهذا بنون ولهذا بنون وادعى كل من الفريقين
194

أنه أشرف بالفعال من الاخر، ثم لم تكن المدة بين نشء هاشم وإظهار محمد صلى الله
عليه وآله الدعوة إلا نحو تسعين سنة، ومثل هذه المدة القصيرة لا يقال فيها: " قديم
عزنا وعادي طولنا "، فيجب أن يحمل اللفظ على مجازه، لان الافعال الجميلة كما تكون
عادية بطول المدة تكون بكثرة المناقب والمآثر والمفاخر، وإن كانت المدة قصيرة.
ولفظة قديم ترد ولا يراد بها قدم الزمان، بل من قولهم: لفلان قدم صدق وقديم
أثر، أي سابقة حسنة.
[مناكحات بني هاشم وبني عبد شمس]
وينبغي أن نذكر هاهنا مناكحات بني هاشم وبني عبد شمس. زوج رسول الله
صلى الله عليه وآله ابنتيه رقية وأم كلثوم من عثمان بن عفان بن أبي العاص، وزوج
ابنته زينب من أبى العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس في الجاهلية، وتزوج
أبو لهب بن عبد المطلب أم جميل بنت حرب بن أمية في الجاهلية، وتزوج رسول الله
صلى الله عليه وآله أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب، وتزوج عبد الله بن عمرو بن
عثمان فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام.
وروى شيخنا أبو عثمان عن إسحاق بن عيسى بن علي بن عبد الله بن العباس
قال: قلت للمنصور أبي جعفر: من أكفاؤنا؟ فقال: أعداؤنا، فقلت: من هم؟
فقال: بنو أمية.
وقال إسحاق بن سليمان بن علي: قلت للعباس بن محمد: إذا اتسعنا من البنات،
وضقنا من البنين، وخفنا بوار الأيامى فإلى من نخرجهن من قبائل قريش؟ فأنشدني:
عبد شمس كان يتلو هاشما * وهما بعد لام ولأب
195

فعرفت ما أراد وسكت.
وروى أيوب بن جعفر بن سليمان، قال: سألت الرشيد عن ذلك فقال: زوج
النبي صلى الله عليه وآله بني عبد شمس فأحمد صهرهم، وقال: " ما ذممنا من صهرنا
فإنا لا نذم صهر أبى العاص بن الربيع ".
قال شيخنا أبو عثمان: ولما ماتت الابنتان تحت عثمان قال النبي صلى الله عليه وآله
لأصحابه: " ما تنتظرون بعثمان، ألا أبو أيم، ألا أخو أيم، زوجته ابنتين، ولو أن
عندي ثالثة لفعلت ". قال: ولذلك سمي ذا النورين
ثم قال عليه السلام: " وأنى يكون ذلك! "، أي كيف يكون شرفكم كشرفنا،
ومنا النبي ومنكم المكذب - يعنى أبا سفيان بن حرب، كان عدو رسول الله والمكذب
له والمجلب عليه - وهؤلاء ثلاثة: بإزاء أبي سفيان رسول الله صلى الله عليه وآله،
ومعاوية بإزاء علي عليه السلام، ويزيد بإزاء الحسين عليه السلام، بينهم من العداوة
ما لا تبرك عليه الإبل.
قال: " ومنا أسد الله "، يعنى حمزة، " ومنكم أسد الاحلاف "، يعني عتبة
بن ربيعة، وقد تقدم شرح ذلك في قصة بدر.
وقال الراوندي: المكذب من كان يكذب رسول الله صلى الله عليه وآله عنادا من
قريش، وأسد الاحلاف: أسد بن عبد العزى، قال: لان بنى أسد بن عبد العزى
كانوا أحد البطون الذين اجتمعوا في حلف المطيبين، وهم بنو أسد بن عبد العزى
وبنو عبد مناف، وبنو تيم بن مرة، وبنو زهرة، وبنو الحارث بن فهر، وهذا كلام
طريف جدا، لأنه لم يلحظ أنه يجب أن يجعل بإزاء النبي صلى الله عليه وآله مكذب
196

من بني عبد شمس، فقال: المكذب من كذب النبي صلى الله عليه وآله من قريش
عنادا، وليس كل من كذبه عليه السلام من قريش يعير معاوية به. ثم قال: أسد
الاحلاف أسد بن عبد العزى، وأي عار يلزم معاوية من ذلك، ثم إن بنى عبد مناف
كانوا في هذا الحلف وعلي ومعاوية من بني عبد مناف، ولكن الراوندي يظلم نفسه
بتعرضه لما لا يعلمه.
قوله: " ومنا سيدا شباب أهل الجنة "، يعني حسنا وحسينا عليهما السلام، " ومنكم
صبية النار "، هي الكلمة التي قالها النبي صلى الله عليه وآله لعقبة بن أبي معيط حين قتله
صبرا يوم بدر، وقد قال كالمستعطف له عليه السلام: من للصبية يا محمد؟ قال: النار.
وعقبة بن أبي معيط من بني عبد شمس. ولم يعلم الراوندي ما المراد بهذه الكلمة، فقال:
صبية النار أولاد مروان بن الحكم الذين صاروا من أهل النار عند البلوغ، ولما أخبر
النبي صلى الله عليه وآله عنهم بهذه الكلمة كانوا صبية، ثم ترعرعوا واختاروا الكفر،
ولا شبهة أن الراوندي قد كان يفسر من خاطره ما خطر له.
قال: قوله عليه السلام: " ومنا خير نساء العالمين "، يعنى فاطمة عليها السلام، نص
رسول الله صلى الله عليه وآله على ذلك، لا خلاف فيه.
" ومنكم حمالة الحطب "، هي أم جميل بنت حرب بن أمية، امرأة أبي لهب الذي
ورد نص القرآن فيها بما ورد.
قوله: " في كثير مما لنا وعليكم "، أي أنا قادر على أن أذكر من هذا شيئا كثيرا،
ولكني أكتفي بما ذكرت.
فإن قلت: فبماذا يتعلق " في " في قوله " في كثير "؟ قلت: بمحذوف تقديره:
هذا الكلام داخل في جملة كلام كثير تتضمن ما لنا وعليكم.
قوله عليه السلام: " فإسلامنا ما قد سمع، وجاهليتنا لا تدفع "، كلام قد تعلق به
197

بعض من يتعصب للأموية. وقال: لو كانت جاهلية بني هاشم في الشرف كإسلامهم
لعد من جاهليتهم حسب ما عد من فضيلتهم في الاسلام
* * *
[فضل بني هاشم على بني عبد شمس]
وينبغي أن نذكر في هذا الموضع فضل هاشم على عبد شمس في الجاهلية، وقد يمتزج
بذلك بعض ما يمتازون به في الاسلام أيضا، فإن استقصاءه في الاسلام كثير، لأنه لا يمكن
جحد ذلك، وكيف والاسلام كله عبارة عن محمد صلى الله عليه وآله، وهو هاشمي!
ويدخل في ضمن ذلك ما يحتج به الأموية أيضا، فنقول: إن شيخنا أبا عثمان قال: إن
أشرف خصال قريش في الجاهلية اللواء، والندوة، والسقاية، والرفادة، وزمزم، والحجابة
وهذه الخصال مقسومة في الجاهلية لبني هاشم وعبد الدار وعبد العزى دون بنى عبد شمس.
قال: على أن معظم ذلك صار شرفه في الاسلام إلى بني هاشم، لان النبي صلى الله عليه
وآله لما ملك مكة صار مفتاح الكعبة بيده، فدفعه إلى عثمان بن طلحة، فالشرف راجع
إلى من ملك المفتاح، لا إلى من دفع إليه، وكذلك دفع صلى الله عليه وآله اللواء إلى
مصعب بن عمير فالذي دفع اللواء إليه وأخذه مصعب من يديه أحق بشرفه وأولى بمجده
وشرفه راجع إلى رهطه من بني هاشم.
قال: وكان محمد بن عيسى المخزومي أميرا على اليمن فهجاه أبي بن مدلج فقال:
قل لابن عيسى * المستغيث من السهولة بالوعورة
الناطق العوراء في * جل الأمور بلا بصيره
ولد المغيرة تسعة * كانوا صناديد العشيرة (1)

(1) الصناديد: الشجعان.
198

وأبوك عاشرهم كما * نبتت مع النخل الشعيره
إن النبوة والخلافة * والسقاية والمشوره
في غيركم فاكفف إليك * يدا مجذمة قصيره
قال: فانبرى له شاعر من ولد كريز بن حبيب بن عبد شمس، كان مع محمد بن
عيسى باليمن يهجو عنه ابن مدلج في كلمة له طويلة، قال فيها:
لا لواء يعد يا بن كريز * لا ولا رفد بيته ذي السناء
لا حجاب وليس فيكم سوى الكبر * وبغض النبي والشهداء
بين حاك ومخلج وطريد * وقتيل يلعنه أهل السماء
ولهم زمزم كذاك وجبريل * ومجد السقاية الغراء
قال شيخنا أبو عثمان: فالشهداء علي وحمزة وجعفر، والحاكي والمخلج هو الحكم
بن أبي العاص، كان يحكي مشية رسول الله صلى الله عليه وآله، فالتفت يوما فرآه،
فدعا عليه، فلم يزل مخلج المشية عقوبة من الله تعالى (1). والطريد اثنان: الحكم بن أبي
العاص، ومعاوية بن المغيرة بن أبي العاص، وهما جدا عبد الملك بن مروان من
قبل أمه وأبيه.
وكان النبي صلى الله عليه وآله طرد معاوية بن المغيرة هذا من المدينة وأجله ثلاثا
فحيره الله، ولم يزل يتردد في ضلاله حتى بعث في أثره عليا عليه السلام وعمارا فقتلاه.
فأما القتلى فكثير، نحو شيبة وعتبة ابني ربيعة، والوليد بن عتبة، وحنظلة بن أبي سفيان
وعقبة بن أبي معيط، والعاص بن سعيد بن أمية، ومعاوية بن المغيرة، وغيرهم.
قال أبو عثمان: وكان اسم هاشم عمرا، وهاشم لقب، وكان أيضا يقال له القمر،
وفي ذلك يقول مطرود الخزاعي:

(1) كذا في الأصول، وفي نهاية ابن الأثير: " كان يجلس خلف النبي عليه السلام، فإذا تكلم اختلج
بوجهه، فرآه فقال له: كن كذلك، فلم يزل يختلج حتى مات. أي يحرك شفتيه وذقنه استهزاء وحكاية
لفعل النبي عليه السلام.
199

إلى القمر الساري المنير دعوته * ومطعمهم في الأزل من قمع الجزر (1)
قال: ذلك في شئ كان بينه وبين بعض قريش، فدعاه مطرود إلى المحاكمة إلى
هاشم، وقال ابن الزبعرى:
كانت قريش بيضة فتفلقت * فالمخ خالصه لعبد مناف
الرائشون وليس يوجد رائش * والقائلون هلم للأضياف
عمرو العلى هشم الثريد لقومه * ورجال مكة مسنتون عجاف (2)
فعم كما ترى أهل مكة بالأزل والعجف، وجعله الذي هشم لهم الخبز ثريدا،
فغلب هذا اللقب على اسمه حتى صار لا يعرف إلا به، وليس لعبد شمس لقب كريم،
ولا اشتق له من صالح أعماله اسم شريف، ولم يكن لعبد شمس ابن يأخذ بضبعه،
ويرفع من قدره، ويزيد في ذكره، ولها شم عبد المطلب سيد الوادي غير مدافع،
أجمل الناس جمالا، وأظهرهم جودا، وأكملهم كمالا، وهو صاحب الفيل، والطير
الأبابيل، وصاحب زمزم، وساقي الحجيج. وولد عبد شمس أمية بن عبد شمس وأمية
في نفسه ليس هناك، وإنما ذكر بأولاده ولا لقب له، ولعبد المطلب لقب شهير واسم
شريف: شيبة الحمد، قال مطرود الخزاعي في مدحه:
يا شيبة الحمد الذي تثنى له * أيامه من خير ذخر الذاخر
المجد ما حجت قريش بيته * ودعا هذيل فوق غصن ناضر
والله لا أنساكم وفعالكم * حتى أغيب في سفاه القابر
وقال حذافة بن غانم العدوي وهو يمدح أبا لهب، ويوصي ابنه خارجة بن حذافة
بالانتماء إلى بني هاشم:
أخارج إما أهلكن فلا تزل * لهم شاكرا حتى تغيب في القبر

(1) القمع بالتحريك: جمع قمعة، وهي أعلى السنام والجزر (بضمتين) وسكن هنا للشعر: جمع
جزور وهي الناقة.
(2) في البيت إقواء.
200

بني شيبة الحمد الكريم فعاله * يضئ ظلام الليل كالقمر البدر
لساقي الحجيج ثم للشيخ هاشم * وعبد مناف ذلك السيد الغمر
أبو عتبة الملقى إلي جواره * أغر هجان اللون من نفر غر
أبوكم قصي كان يدعى مجمعا * به جمع الله القبائل من فهر
فأبو عتبة هو أبو لهب، عبد العزى بن عبد المطلب بن هاشم، وابناه
عتبة وعتيبة.
وقال العبدي حين احتفل في الجاهلية فلم يترك:
لا ترى في الناس حيا مثلنا * ما خلا أولاد عبد المطلب
وإنما شرف عبد شمس بأبيه عبد مناف بن قصي وبني ابنه أمية بن عبد شمس،
وهاشم شرف بنفسه وبأبيه عبد مناف، وبابنه عبد المطلب، والامر في هذا بين، وهو
كما أوضحه الشاعر في قوله:
إنما عبد مناف جوهر * زين الجوهر عبد المطلب
قال أبو عثمان: ولسنا نقول: أن عبد شمس لم يكن شريفا في نفسه ولكن الشرف
يتفاضل، وقد أعطى الله عبد المطلب في زمانه، وأجرى على يديه، وأظهر من كرامته
ما لا يعرف مثله إلا لنبي مرسل، وإن في كلامه لأبرهة صاحب الفيل وتوعده إياه برب
الكعبة وتحقيق قوله من الله تعالى ونصرة وعيده بحبس الفيل، وقتل أصحابه بالطير الأبابيل
وحجارة السجيل حتى تركوا كالعصف المأكول - لأعجب البرهانات، وأسنى الكرامات،
وإنما كان ذلك إرهاصا لنبوة النبي صلى الله عليه وآله، وتأسيسا لما يريده الله به من الكرامة،
وليجعل ذلك البهاء متقدما له، ومردودا عليه، وليكون أشهر في الآفاق، وأجل في
صدور الفراعنة والجبابرة والأكاسرة، وأجدر أن يقهر المعاند، ويكشف غباوة
الجاهل. وبعد، فمن يناهض ويناضل رجالا ولدوا محمدا صلى الله عليه وآله، ولو عزلنا
201

ما أكرمه الله به من النبوة حتى نقتصر على أخلاقه ومذاهبه وشيمه لما وفى به بشر،
ولا عدله شئ، ولو شئنا أن نذكر ما أعطى الله به عبد المطلب من تفجر العيون وينابيع
الماء من تحت كلكل بعيره وأخفافه بالأرض القسي (1)، وبما أعطي من المساهمة وعند المقارعة
من الأمور العجيبة، والخصال البائنة، لقلنا، ولكنا أحببنا ألا نحتج عليكم إلا
بالموجود في القرآن الحكيم، والمشهور في الشعر القديم، الظاهر على ألسنة الخاصة والعامة
ورواة الاخبار وحمال الآثار.
قال: ومما هو مذكور في القرآن عدا حديث الفيل قوله تعالى: (لإيلاف
قريش)، وقد اجتمعت الرواة على أن أول من أخذ الإيلاف لقريش هاشم بن
عبد مناف، فلما مات قام أخوه المطلب مقامه، فلما مات قام عبد شمس مقامه، فلما مات
قام نوفل مقامه - وكان أصغرهم. والإيلاف، هو أن هاشما كان رجلا كثير السفر والتجارة،
فكان يسافر في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام، وشرك في تجارته رؤساء القبائل
من العرب ومن ملوك اليمن والشام، نحو العباهلة باليمن، واليكسوم من بلاد الحبشة،
ونحو ملوك الروم بالشام، فجعل لهم معه ربحا فيما يربح، وساق لهم إبلا مع إبله، فكفاهم
مؤونة الاسفار، على أن يكفوه مؤونة الأعداء في طريقه ومنصرفه، فكان في ذلك صلاح
عام للفريقين، وكان المقيم رابحا، والمسافر محفوظا، فأخصبت قريش بذلك، وحملت معه
أموالها، وأتاها الخير من البلاد السافلة والعالية، وحسنت حالها، وطاب عيشها. قال:
وقد ذكر حديث الإيلاف الحارث بن الحنش السلمي، وهو خال هاشم والمطلب
وعبد شمس، فقال:
إن أخي هاشما * ليس أخا واحد
الاخذ الإيلاف * والقائم للقاعد
قال أبو عثمان: وقيل: إن تفسير قوله تعالى: (وآمنهم من خوف) هو
خوف من كان هؤلاء الاخوة يمرون به من القبائل والأعداء وهم مغتربون ومعهم

(1) الأرض القسي: التي لا تنبت نباتا.
202

الأموال، وهذا ما فسرنا به الإيلاف آنفا، وقد فسره قوم بغير ذلك، قالوا: إن هاشما
جعل على رؤساء القبائل ضرائب يؤدونها إليه ليحمي بها أهل مكة، فإن ذؤبان العرب
وصعاليك الاحياء وأصحاب الغارات وطلاب الطوائل كانوا لا يؤمنون على الحرم،
لا سيما وناس من العرب كانوا لا يرون للحرم حرمة، ولا للشهر الحرام قدرا، مثل طيئ
وخثعم وقضاعة وبعض بلحارث بن كعب، وكيفما كان الإيلاف فإن هاشما كان القائم به
دون غيره من إخوته.
قال أبو عثمان: ثم حلف الفضول وجلالته وعظمته، وهو أشرف حلف كان في
العرب كلها، وأكرم عقد عقدته قريش في قديمها وحديثها قبل الاسلام لم يكن لبني
عبد شمس فيه نصيب. قال النبي صلى الله عليه وآله - وهو يذكر حلف الفضول -: " لقد
شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا لو دعيت إلى مثله في الاسلام لأجبت ". ويكفي
في جلالته وشرفه أن رسول الله صلى الله عليه وآله شهده وهو غلام، وكان عتبة بن
ربيعة يقول: لو أن رجلا خرج مما عليه قومه لدخلت في حلف الفضول، لما أرى من
كماله وشرفه، ولما أعلم من قدره وفضيلته.
قال: ولفضل ذلك الحلف وفضيلة أهله سمي حلف الفضول، وسميت تلك القبائل
الفضول، فكان هذا الحلف في بني هاشم، وبني المطلب، وبنى أسد بن عبد العزى
وبنى زهرة، وبنى تيم بن مرة، تعاقدوا في دار ابن جدعان في شهر حرام قياما يتماسحون
بأكفهم صعدا ليكونن مع المظلوم حتى يؤدوا إليه حقه ما بل بحر صوفة، وفي التأسي في
المعاش والتساهم بالمال. وكانت النباهة في هذا الحلف للزبير بن عبد المطلب ولعبد الله بن جدعان،
أما ابن جدعان فلان الحلف عقد في داره، وأما الزبير فلأنه هو الذي نهض فيه، ودعا
إليه، وحث عليه، وهو الذي سماه حلف الفضول، وذلك لأنه لما سمع الزبيدي المظلوم
203

ثمن سلعته قد أوفى على أبى قبيس قبل طلوع الشمس رافعا عقيرته وقريش في
أنديتها قائلا:
يا للرجال لمظلوم بضاعته * ببطن مكة نائي الحي والنفر
أن الحرام لمن تمت حرامته * ولا حرام لثوبي لابس الغدر
حمي وحلف ليعقدن حلفا بينه وبين بطون من قريش يمنعون القوي من ظلم
الضعيف، والقاطن من عنف الغريب، ثم قال:
حلفت لنعقدن حلفا عليهم * وإن كنا جميعا أهل دار
نسميه الفضول إذا عقدنا * يعز به الغريب لدى الجوار
ويعلم من حوالي البيت إنا * أباة الضيم نهجر كل عار
فبنو هاشم هم الذين سموا ذلك الحلف حلف الفضول، وهم كانوا سببه، والقائمين به
دون جميع القبائل العاقدة له، والشاهدة لامره، فما ظنك بمن شهده ولم يقم بأمره!
قال أبو عثمان: وكان الزبير بن عبد المطلب شجاعا أبيا، وجميلا بهيا، وكان خطيبا
شاعرا، وسيدا جواد، وهو الذي يقول:
ولولا الحمس لم يلبس رجال * ثياب أعزة حتى يموتوا
ثيابهم شمال أو عباء * بها دنس كما دنس الحميت (1)
ولكنا خلقنا إذا خلقنا * لنا الحبرات والمسك الفتيت (2)
وكأس لو تبين لهم كلاما * لقالت إنما لهم سبيت (3)
تبين لنا القذى إن كان فيها * رضين الحلم يشربها هبيت (4)

(1) الحميت، كأمير: الزق الصغير يتخذ للسمن.
(2) الحبرات، بكسر ففتح: ضرب من برود اليمن. والفتيت والمفتوت بمعنى.
(3) سبيت: جلبت.
(4) الهبيت: الجبان الذاهل.
204

ويقطع نخوة المختال * رقيق الحد ضربته صموت
بكف مجرب لا عيب فيه * إذا لقي الكريهة يستميت
قال: والزبير هو الذي يقول:
وأسحم من راح العراق مملا * محيط عليه الجيش جلد مرائره
صبحت به طلقا يراح إلى الندى * إذا ما انتشى لم يختصره معاقره
ضعيف بجنب الكاس قبض بنانه * كليل على جلد النديم أظافره
قال: وبنو هاشم هم الذين ردوا على الزبيدي ثمن بضاعته، وكانت عند العاص
بن وائل، وأخذوا للبارقي ثمن سلعته من أبي بن خلف الجمحي، وفى ذلك
يقول البارقي:
ويأبى لكم حلف الفضول ظلامتي * بنى جمح والحق يؤخذ بالغصب
وهم الذين انتزعوا من نبيه بن الحجاج قتول الحسناء بنت التاجر الخثعمي، وكان كابره
عليها حين رأى جمالها، وفي ذلك يقول نبيه بن الحجاج:
وخشيت الفضول حين أتوني * قد أراني ولا أخاف الفضولا
إني والذي يحج له شمط * إياد وهللوا تهليلا
لبراء منى قتيلة يا للناس * هل يتبعون إلا القتولا!
وفيها أيضا يقول:
لولا الفضول وأنه * لا أمن من عروائها (1)
لدنوت من أبياتها * ولطفت حول خبائها (2)

(1) العرواء، كالغلواء: قرة الحمى ومسها في أول رعدتها.
(2) الخباء ككساء، يكون من وبر أو صوف أو شعر.
205

في كلمته التي يقول فيها:
حي النخيلة إذ نأت * منا على عدوائها
لا بالفراق تنيلنا * شيئا ولا بلقائها
حلت بمكة حلة * في مشيها ووطائها
في رجال كثير انتزعوا منهم الظلامات، ولم يكن يظلم بمكة إلا رجال أقوياء، ولهم
العدد والعارضة، منهم من ذكرنا قصته.
قال أبو عثمان: ولها شم أخرى لا يعد أحد مثلها، ولا يأتي بما يتعلق بها، وذلك
أن رؤساء قبائل قريش خرجوا إلى حرب بنى عامر متساندين، فكان حرب بن أمية
على بني عبد شمس، وكان الزبير بن عبد المطلب على بني هاشم، وكان عبد الله بن
جدعان على بنى تيم، وكان هشام بن المغيرة على بنى مخزوم، وكان على كل قبيلة رئيس
منها، فهم متكافئون في التساند، ولم يحقق واحد منهم الرئاسة على الجميع، ثم آب
هاشم بما لا تبلغه يد متناول، ولا يطمع فيه طامع، وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله
قال: شهدت الفجار وأنا غلام، فكنت أنبل فيه على عمومتي، فنفى مقامه عليه السلام
أن تكون قريش هي التي فجرت، فسميت تلك الحرب حرب الفجار، وثبت أن الفجور
إنما كان ممن حاربهم، وصاروا بيمنه وبركته ولما يريد الله تعالى من إعزاز أمره وإعظامه
الغالبين العالين، ولم يكن الله ليشهده فجرة ولا غدرة، فصار مشهده نصرا،
وموضعه فيهم حجة ودليلا.
قال أبو عثمان: وشرف هاشم متصل، من حيث عددت كان الشرف معك كابرا
عن كابر، وليس بنو عبد شمس كذلك، فإن الحكم بن أبي العاص كان عاديا
في الاعلام، ولم يكن له سناء في الجاهلية.
206

وأما أمية فلم يكن في نفسه هناك، وإنما رفعه أبوه، وكان مضعوفا، وكان صاحب
عهار (1) يدل على ذلك قول نفيل بن عدي جد عمر بن الخطاب حين تنافر إليه
حرب بن أمية وعبد المطلب بن هاشم، فنفر عبد المطلب وتعجب من إقدام حرب
عليه وقال له:
أبوك معاهر وأبوه عف * وذاد الفيل عن بلد حرام (2)
وذلك أن أمية كان تعرض لامرأة من بني زهرة، فضربه رجل منهم بالسيف،
فأراد بنو أمية ومن تبعهم إخراج زهرة من مكة، فقام دونهم قيس بن عدي السهمي - وكانوا أخواله، وكان منيع الجانب، شديد العارضة، حمي الأنفس، أبي النفس - فقام
دونهم وصاح: " أصبح ليل "، فذهبت مثلا، ونادى: الان الظاعن مقيم. وفي هذه القصة
يقول وهب بن عبد مناف بن زهره جد رسول الله صلى الله عليه وآله:
مهلا أمي فإن البغي مهلكة * لا يكسبنك يوم شره ذكر
تبدو كواكبه والشمس طالعة * يصب في الكأس منه الصبر والمقر (3)
قال أبو عثمان: وصنع أمية في الجاهلية شيئا لم يصنعه أحد من العرب، زوج ابنه
أبا عمرو امرأته في حياته منه، فأولدها أبا معيط بن أبي عمرو بن أمية، والمقيتون في الاسلام هم
الذين نكحوا نساء آبائهم بعد موتهم، فأما أن يتزوجها في حياة الأب ويبنى عليها وهو
يراه، فإنه شئ لم يكن قط.
قال أبو عثمان: وقد أقر معاوية على نفسه ورهطه لبني هاشم حين قيل له: أيهما
كان أسود في الجاهلية؟ أنتم أم بنو هاشم؟ فقال: كانوا أسود منا واحدا، وكنا

(1) العهار: النزق والخفة والطيش.
(2) ذاد الفيل: منعه.
(3) المقر، ككتف: الصبر أو شبيه به.
207

أكثر منهم سيدا، فأقر وادعى، فهو في إقراره بالنقص مخصوم، وفي ادعائه
الفضل خصيم.
وقال جحش بن رئاب الأسدي حين نزل مكة بعد موت عبد المطلب: والله لأتزوجن
ابنة أكرم أهل هذا الوادي، ولأحالفن أعزهم، فتزوج أميمة بنت عبد المطلب، وحالف
أبا سفيان بن حرب. وقد يمكن أن يكون أعزهم ليس بأكرمهم، ولا يمكن أن يكون
أكرمهم ليس بأكرمهم، وقد أقر أبو جهل على نفسه ورهطه من بني مخزوم حين
قال: تحاربنا نحن وهم، حتى إذا صرنا كهاتين، قالوا: منا نبي. فأقر بالتقصير، ثم ادعى
المساواة، ألا تراه كيف أقر أنه لم يزل يطلب شأوهم (1) ثم ادعى أنه لحقهم! فهو
مخصوم في إقراره، خصيم في دعواه، وقد حكم لهاشم دغفل بن حنظلة النسابة حين سأله
معاوية عن بني هاشم: فقال: هم أطعم للطعام، وأضرب للهام (2)، وهاتان خصلتان
يجمعان أكثر الشرف.
قال أبو عثمان: والعجب من منافرة حرب بن أمية عبد المطلب بن هاشم، وقد لطم
حرب جارا لخلف بن أسعد جد طلحة الطلحات، فجاء جاره فشكا ذلك إليه، فمشى
خلف إلى حرب وهو جالس عند الحجر، فلطم وجهه عنوة من غير تحاكم ولا تراض،
فما انتطح فيه عنزان (3). ثم قام أبو سفيان بن حرب مقام أبيه بعد موته، فحالفه
أبو الأزيهر الدوسي، وكان عظيم الشأن في الأزد، وكانت بينه وبين بني الوليد بن
المغيرة محاكمة في مصاهرة كانت بين الوليد وبينه، فجاءه هشام بن الوليد وأبو الأزيهر
قاعد في مقعد أبي سفيان بذي المجاز، فضرب عنقه، فلم يدرك به أبو سفيان عقلا
ولا قودا في بني المغيرة. وقال حسان بن ثابت يذكر ذلك:

(1) الشأو: الغاية.
(2) الهام: الرؤوس.
(3) هذا مثل يضرب للامر يقع ولا يختلف فيه اثنان.
208

غدا أهل حصني ذي المجاز بسحرة * وجار ابن حرب لا يروح ولا يغدو
كساك هشام بن الوليد ثيابه * فأبل وأخلق مثلها جددا بعد
فهذه جملة صالحة مما ذكره شيخنا أبو عثمان.
ونحن نورد من كتاب " أنساب قريش " للزبير بن بكار ما يتضمن شرحا لما
أجمله شيخنا أبو عثمان أو لبعضه، فإن كلام أبي عثمان لمحة وإشارة، وليس بالمشروح.
قال الزبير: حدثني عمر بن أبي بكر العدوي من بني عدى بن كعب قال: حدثني
يزيد بن عبد الملك بن المغيرة بن نوفل، عن أبيه، قال: اصطلحت قريش على أن ولي
هاشم بعد موت أبيه عبد مناف السقاية والرفادة، وذلك أن عبد شمس كان يسافر، قل
أن يقيم بمكة وكان رجلا معيلا (1)، وكان له ولد كثير، وكان هاشم رجلا موسرا،
فكان إذا حضر الحج قام في قريش فقال: يا معشر قريش، إنكم جيران الله، وأهل
بيته، وإنه يأتيكم في هذا الموسم زوار الله يعظمون حرمة بيته، فهم لذلك ضيف الله،
وأحق ضيف بالكرامة ضيف الله، وقد خصكم الله بذلك، وأكرمكم به، ثم حفظ
منكم أفضل ما حفظ جار من جاره، فأكرموا ضيفه وزواره، فإنهم يأتون
شعثا غبرا من كل بلد ضوامر كالقداح، وقد أرجفوا وتفلوا وقملوا (2) وأرملوا، فأقروهم
وأعينوهم. قال: فكانت قريش تترافد على ذلك، حتى أن كل أهل بيت ليرسلون
بالشئ اليسير على قدر حالهم، وكان هاشم يخرج في كل سنه مالا كثيرا، وكان قوم
من قريش يترافدون، وكانوا أهل يسار، فكان كل إنسان ربما أرسل بمائة مثقال ذهب هرقلية (3)

(1) يقال: أعال الرجل يعيل، إذا كثر عياله.
(2) أرجفوا: أكثروا من ذكر الاخبار السيئة، وقملوا: كثر فيهم القمل. وأرملوا أ: نفد زادهم.
(3) هرقلية: نسبة إلى هرقل ملك الروم، وهو أول من ضرب الدنانير.
209

وكان هاشم يأمر بحياض من أدم تجعل في مواضع زمزم من قبل أن تحفر، يستقى فيها
من البئار التي بمكة، فيشرب الحاج، وكان يطعمهم أول ما يطعم قبل يوم التروية بيوم
بمكة وبمنى وبجمع وعرفة، وكان يثرد لهم الخبز واللحم والسمن والسويق والتمر،
ويحمل لهم الماء فيسقون بمنى، والماء يومئذ قليل، إلى أن يصدر الحاج من منى،
ثم تنقطع الضيافة، وتتفرق الناس إلى بلادهم.
قال الزبير: وإنما سمي هاشما لهشمه الثريد، وكان اسمه عمرا، ثم قالوا: " عمرو العلا "
لمعاليه. وكان أول من سن الرحلتين رحلة إلى الحبشة، ورحله إلى الشام، ثم خرج
في أربعين من قريش فبلغ غزة، فمرض بها، فمات، فدفنوه بها، ورجعوا بتركته إلى
ولده. ويقال أن الذي رجع بتركته إلى ولده أبو رهم عبد العزى بن أبي قيس العامري
من بنى عامر بن لؤي.
قال الزبير: وكان يقال لهاشم والمطلب: البدران، ولعبد شمس ونوفل الأبهران.
قال الزبير: وقد اختلف في أي ولد عبد مناف أسن، والثبت عندنا أن أسنهم
هاشم. وقال آدم بن عبد العزيز بن عمر بن عمر بن عبد العزيز بن مروان:
يا أمين الله إني قائل * قول ذي دين وبر وحسب
عبد شمس لا تهنها إنما * عبد شمس عم عبد المطلب
عبد شمس كان يتلو هاشما * وهما بعد لام ولأب
قال الزبير: وحدثني محمد بن حسن، عن محمد بن طلحة، عن عثمان بن عبد الرحمن،
قال: قال عبد الله بن عباس: والله لقد علمت قريش أن أول من أخذ الإيلاف وأجاز لها
العيرات (1) لهاشم، والله ما شدت قريش رحالا ولا حبلا بسفر، ولا أناخت بعيرا لحضر

(1) العيرات، بكسر ففتح: كل ما امتير عليه إبلا كانت أو حمير أو بغالا، واحده عير.
210

إلا بهاشم، والله إنه أول من سقى بمكة ماء عذبا، وجعل باب الكعبة ذهبا لعبد المطلب.
قال الزبير: وكانت قريش تجارا لا تعدو تجارتهم مكة إنما تقدم عليهم الأعاجم بالسلع
فيشترونها منهم، يتبايعون بها بينهم، ويبيعون من حولهم من العرب، حتى رحل هاشم
ابن عبد مناف إلى الشام، فنزل بقيصر، فكان يذبح كل يوم شاة، ويصنع جفنة
من ثريد، ويدعو الناس فيأكلون، وكان هاشم من أحسن الناس خلقا وتماما، فذكر
لقيصر، وقيل له: هاهنا شاب من قريش يهشم الخبز، ثم يصب عليه المرق، ويفرغ
عليه اللحم، ويدعو الناس. قال: وإنما كانت الأعاجم والروم تصنع المرق في الصحاف،
ثم تأتدم عليه بالخبز فدعا به قيصر، فلما رآه وكلمه أعجب به، وجعل يرسل إليه فيدخل
عليه، فلما رأى مكانه سأله أن يأذن لقريش في القدوم عليه بالمتاجر، وأن يكتب لهم
كتب الأمان فيما بينهم وبينه، ففعل. فبذلك ارتفع هاشم من قريش. قال الزبير: وكان
هاشم يقوم أول نهار اليوم الأول من ذي الحجة فيسند ظهره إلى الكعبة من تلقاء بابها
فيخطب قريشا فيقول: يا معشر قريش، أنتم سادة العرب، أحسنها وجوها وأعظمها
أحلاما، وأوسطها أنسابا، وأقربها أرحاما. يا معشر قريش، أنتم جيران بيت الله،
أكرمكم بولايته، وخصكم بجواره دون بنى إسماعيل، وحفظ منكم أحسن ما حفظ
منكم جار من جاره، فأكرموا ضيفه وزوار بيته، فإنهم يأتونكم شعثا غبرا من كل بلد
فورب هذه البنية، لو كان لي مال يحمل ذلك لكفيتموه، ألا وإني مخرج من طيب
مالي وحلاله ما لم تقطع فيه رحم، ولم يؤخذ بظلم، ولم يدخل فيه حرام، فواضعه، فمن
شاء منكم أن يفعل مثل ذلك فعل، وأسألكم بحرمة هذا البيت ألا يخرج منكم رجل من
ماله لكرامة زوار بيت الله ومعونتهم إلا طيبا لم يؤخذ ظلما، ولم تقطع فيه رحم ولم
يغتصب. قال: فكانت قريش تخرج من صفو أموالها ما تحتمله أحوالها، وتأتي بها
إلى هاشم فيضعه في دار الندوة لضيافة الحاج.
211

قال الزبير: ومما رثى به مطرود الخزاعي هاشما قوله:
مات الندى بالشام لما أن ثوى * أودى بغزة هاشم لا يبعد
فجفانه رذم لمن ينتابه * والنصر أدنى باللسان وباليد (1)
ومن مراثيه له:
يا عين جودي وأذري الدمع واحتفلي * وابكي خبيئة نفسي في الملمات
وابكي على كل فياض أخي حسب * ضخم الدسيعة وهاب الجزيلات
ماضي الصريمة عالي الهم ذي شرف * جلد النحيزة حمال العظيمات
صعب المقادة لا نكس ولا وكل * ماض على الهول متلاف الكريمات
محض توسط من كعب إذا نسبوا * بحبوحة المجد في الشم الرفيعات
فابكي على هاشم في وسط بلقعة * تسقى الرياح عليه وسط غزات
يا عين بكى أبا الشعث الشجيات * يبكينه حسرا مثل البنيات
يبكين عمرو العلا إذ حان مصرعه * سمح السجية بسام العشيات
يبكينه معولات في معاوزها * يا طول ذلك من حزن وعولات
محزمات على أوساطهن لما * جر الزمان من احداث المصيبات
أبيت أرعى نجوم الليل من ألم * أبكي وتبكي معي شجوا بنياتي
قال الزبير: وحدثني إبراهيم بن المنذر، عن الواقدي، عن عبد الرحمن بن الحارث،
عن عكرمة، عن ابن عباس، قال أول من سن دية النفس مائة من الإبل عبد المطلب،
فجرت في قريش والعرب سنته، وأقرها رسول الله صلى الله عليه وآله. قال وأم
عبد المطلب سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد من بنى النجار من الأنصار، وكان سبب

(1) في ب " ردم "، بالدال صوابه من أ، والرذم ككتب: القصاع الممتلئة تصب جوانبها.
212

تزوج هاشم بها أنه قدم في تجارة له المدينة، فنزل على عمرو بن زيد، فجاءته سلمى بطعام
فأعجبت هاشما، فخطبها إلى أبيها فأنكحه إياها، وشرط عليه أن تلد عند أهلها فبنى
عليها بالمدينة، وأقام معها سنتين، ثم ارتحل بها إلى مكة، فحملت وأثقلت، فخرج بها إلى
المدينة، فوضعها عند أهلها ومضى إلى الشام، فمات بغزة من وجهه ذلك، وولدت
عبد المطلب، فسمته شيبة الحمد لشعرة بيضاء كانت في ذوائبه حين ولد، فمكث بالمدينة
ست سنين أو ثمانيا. ثم إن رجلا من تهامة مر بالمدينة، فإذا غلمان ينتضلون، وغلام
منهم يقول كلما أصاب: أنا ابن هاشم بن عبد مناف، سيد البطحاء، فقال له الرجل:
من أنت يا غلام؟ قال: أنا ابن هاشم بن عبد مناف، قال: ما اسمك؟ قال: شيبة الحمد،
فانصرف الرجل حتى قدم مكة، فيجد المطلب بن عبد مناف جالسا في الحجر، فقال:
قم إلي يا أبا الحارث، فقام إليه، فقال: تعلم أني جئت الان من يثرب فوجدت بها
غلمانا ينتضلون... وقص عليه ما رأى من عبد المطلب، وقال: إنه أضرب غلام رأيته
قط، فقال له المطلب: أغفلته والله! أما إني لا أرجع إلى أهلي ومالي حتى آتيه، فخرج
المطلب حتى أتى المدينة، فأتاها عشاء، ثم خرج براحلته حتى أتى بني عدي بن النجار
فإذا الغلمان بين ظهراني المجلس فلما نظر إلى ابن أخيه قال للقوم: هذا ابن هاشم؟
قالوا: نعم، وعرفه القوم فقالوا: هذا ابن أخيك، فإن كنت تريد أخذه فالساعة، لا نعلم
أمه، فإنها إن علمت حلنا بينك وبينه، فأناخ راحلته، ثم دعاه، فقال: يا بن أخي،
أنا عمك، وقد أردت الذهاب بك إلى قومك، فاركب، قال فوالله ما كذب أن
جلس على عجز الراحلة، وجلس المطلب على الراحلة، ثم بعثها فانطلقت، فلما علمت أمه
قامت تدعو حزنها على ابنها، فأخبرت أنه عمه، وأنه ذهب به إلى قومه. قال: فانطلق
به المطلب فدخل به مكة ضحوة، مردفه خلفه، والناس في أسواقهم ومجالسهم، فقاموا
يرحبون به ويقولون: من هذا الغلام معك؟ فيقول: عبد لي ابتعته بيثرب ثم خرج به
213

حتى جاء إلى الحزورة فابتاع له حله، ثم أدخله على امرأته خديجة بنت سعد بن سهم،
فرجلت شعره، ثم ألبسه الحلة عشية، فجاء به فأجلسه في مجلس بنى عبد مناف، وأخبرهم
خبره، فكان الناس بعد ذلك إذا رأوه يطوف في سكك مكة وهو أحسن الناس يقولون:
هذا عبد المطلب - لقول المطلب: هذا عبدي - فلج به الاسم، وترك به شيبة.
وروى الزبير رواية أخرى أن سلمى أم عبد المطلب حالت بين المطلب وبين ابنها
شيبة، وكان بينها وبينه في أمره محاورة، ثم غلبها عليه، وقال:
عرفت شيبة والنجار قد حلفت * أبناؤها حوله بالنبل تنتضل
فأما الشعر الذي لحذافة العذري والذي ذكره شيخنا أبو عثمان فقد ذكره الزبير بن
بكار في كتاب النسب، وزاد فيه:
كهولهم خير الكهول ونسلهم * كنسل الملوك لا يبور ولا يجري
ملوك وأبناء الملوك وسادة * تفلق عنهم بيضة الطائر الصقر
متى تلق منهم طامحا في عنانه * تجده على أجراء والده يجرى
هم ملكوا البطحاء مجدا وسؤددا * وهم نكلوا عنها غواة بنى بكر
وهم يغفرون الذنب ينقم مثله * وهم تركوا رأي السفاهة والهجر
أخارج إما أهلكن فلا تزل * لهم شاكرا حتى تغيب في القبر
قال الزبير: وحدثني عن سبب هذا الشعر محمد بن حسن، عن محمد بن طلحة،
عن أبيه، قال: إن ركبا من جذام خرجوا صادرين عن الحج من مكة، ففقدوا
رجلا منهم عالية بيوت مكة، فيلقون حذافة العذري، فربطوه وانطلقوا به، فتلقاهم
عبد المطلب مقبلا من الطائف ومعه ابنه أبو لهب يقود به، وعبد المطلب حينئذ قد
ذهب بصره، فلما نظر إليه حذافة بن غانم هتف به، فقال عبد المطلب لابنه:
214

ويلك! من هذا؟ قال: هذا حذافة بن غانم مربوطا مع ركب. قال فالحقهم فسلهم
ما شأنهم وشأنه، فلحقهم أبو لهب فأخبروه الخبر، فرجع إلى أبيه، فأخبره، فقال: ويحك!
ما معك؟ قال: لا والله ما معي شئ، قال: فالحقهم لا أم لك! فأعطهم بيدك، وأطلق
الرجل، فلحقهم أبو لهب، فقال: قد عرفتم تجارتي ومالي، وأنا أحلف لكم لأعطينكم
عشرين أوقية ذهبا، وعشرا من الإبل وفرسا، وهذا ردائي رهن، فقبلوا ذلك منه،
وأطلقوا حذافة، فلما أقبل به وقربا من عبد المطلب، سمع عبد المطلب صوت أبي لهب،
ولم يسمع صوت حذافة، فصاح به: وأبى إنك لعاص، ارجع لا أم لك! قال يا أبتا
هذا الرجل معي، فناداه عبد المطلب: يا حذافة، أسمعني صوتك. قال: ها أنذا
بأبي أنت وأمي يا ساقي الحجيج أردفني، فأردفه حتى دخل مكة، فقال حذافة
هذا الشعر.
قال الزبير: وحدثني عبد الله بن معاذ، عن معمر، عن ابن شهاب، قال: أول
ما ذكر من عبد المطلب أن قريشا خرجت فارة من الحرم خوفا من أصحاب الفيل،
وعبد المطلب يومئذ غلام شاب، فقال: والله لا أخرج من حرم الله أبغي العز في غيره!
فجلس في البيت وأجلت (1) قريش عنه، فقال عبد المطلب:
لا هم إن المرء * يمنع رحله فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم * ومحالهم أبدا محالك (2)
فلم يزل ثابتا في الحرم حتى أهلك الله الفيل وأصحابه، فرجعت قريش وقد عظم فيهم
بصبره (3) وتعظيمه محارم الله عز وجل، فبينا هو على ذلك - وكان أكبر ولده وهو الحارث
بن عبد المطلب قد بلغ الحلم - أري عبد المطلب في المنام، فقيل له: احفر زمزم، خبيئة
الشيخ الأعظم. فاستيقظ فقال: اللهم بين لي الشيخ، فأري في المنام مرة أخرى:

(1) أجلت: تفرقت.
(2) المحال: القدرة.
(3) ب " بصيرته " تحريف، صوابه في أ.
215

احفر تكتم (1) بين الفرث والدم، في مبحث الغراب، في قرية النمل، مستقبلة الأنصاب
الحمر. فقام عبد المطلب فمشى حتى جلس في المسجد الحرام ينتظر ما سمي له من الآيات،
فنحر بقرة في الحزورة، فأفلتت من جازرها بحشاشة نفسها حتى غلب عليها الموت في
المسجد في موضع زمزم، فاحتمل لحمها من مكانها، وأقبل غراب يهوي حتى وقع في
الفرث فبحث عن قرية النمل، فقام عبد المطلب يحفرها، فجاءته قريش فقالت له: ما هذا
الصنع، إنا لم نكن نراك بالجهل، لم تحفر في مسجدنا؟ فقال عبد المطلب: انى لحافر
هذا البئر، ومجاهد من صدني عنها، فطفق يحفر هو وابنه الحارث، وليس له يومئذ
ولد غيره، فيسفه عليهما الناس من قريش فينازعونهما ويقاتلونهما. وتناهى عنه ناس من
قريش لما يعلمون من زعيق نسبه وصدقه، واجتهاده في دينهم يومئذ، حتى إذا أتعبه
الحفر، واشتد عليه الأذى نذر إن وفى له عشرة من الولدان ينحر أحدهم، ثم حفر فأدرك
سيوفا دفنت في زمزم حين دفنت، فلما رأت قريش أنه قد أدرك السيوف قالت:
يا عبد المطلب، أحذنا (2) مما وجدت. فقال عبد المطلب: بل هذه السيوف لبيت الله، ثم
حفر حتى أنبط الماء، فحفرها في القرار، ثم بحرها حتى لا تنزف، ثم بنى عليها حوضا
وطفق هو وابنه ينزعان فيملآن ذلك الحوض، فيشرب منه الحاج، ويكسره قوم حسدة
له من قريش بالليل، فيصلحه عبد المطلب حين يصبح، فلما أكثروا فساده دعا عبد المطلب
ربه، فأري، فقيل له: قل: اللهم إني لا أحلها لمغتسل، وهي لشارب حل وبل، ثم
كفيتهم، فقام عبد المطلب حين اختلف قريش في المسجد، فنادى بالذي أري، ثم انصرف
فلم يكن يفسد حوضه عليه أحد من قريش إلا رمي في جسده بداء، حتى تركوا حوضه
ذلك وسقايته، ثم تزوج عبد المطلب النساء، فولد له عشرة رهط، فقال: اللهم إني

(1) تكتم، بضم فسكون: اسم بئر زمزم.
(2) أحذنا: أعطنا.
216

كنت نذرت لك نحر أحدهم، وإني أقرع بينهم، فأصيب بذلك من شئت، فاقرع
بينهم، فطارت القرعة على عبد الله بن عبد المطلب أبي رسول الله صلى الله عليه وآله،
وكان أحب ولده إليه، فقال عبد المطلب: اللهم هو أحب إليك أم مائة من الإبل!
فنحرها عبد المطلب مكان عبد الله، وكان عبد الله أحسن رجل رئي في قريش قط.
وروى الزبير أيضا قال: حدثني إبراهيم بن المنذر، عن عبد العزيز بن عمران،
عن عبد الله بن عثمان بن سليمان قال: سمعت أبي يقول: لما حفرت زمزم، وأدرك
منها عبد المطلب ما أدرك، وجدت قريش في أنفسها مما أعطي عبد المطلب، فلقيه
خويلد بن أسد بن عبد العزى فقال: يا بن سلمى، لقد سقيت ماء رغدا، ونثلت عادية
حسدا، فقال: يا بن أسد، أما إنك تشرك في فضلها، والله لا يساعدني أحد عليها ببر،
ولا يقوم معي بارزا إلا بذلت له خير الصهر، فقال خويلد بن أسد:
أقول وما قولي عليهم بسبة * إليك ابن سلمى أنت حافر زمزم
حفيرة إبراهيم يوم ابن هاجر * وركضه جبريل على عهد آدم
فقال عبد المطلب: ما وجدت أحدا ورث العلم الأقدم غير خويلد بن أسد.
قال الزبير: فأما ركضه جبريل فإن سعيد بن المسيب قال: إن إبراهيم قدم
بإسماعيل وأمه مكة، فقال لهما: كلا من الشجر، واشربا من الشعاب. وفارقهما، فلما
ضاقت الأرض تقطعت المياه، فعطشا، فقالت له أمه: اصعد وانصب في هذا الوادي فلا
أرى موتك ولا ترى موتى، ففعل فأنزل الله تعالى ملكا من السماء على أم إسماعيل،
فأمرها فصرحت به، فاستجاب لها، وطار الملك فضرب بجناحيه مكان زمزم، فقال:
اشربا، فكان سيحا يسيح، ولو تركاه ما زال كذلك أبدا، لكنها فرقت (1) عليه
من العطش، فقرت (2) له في السقاء، وحفرت في البطحاء، فلما نضب الماء طوياه، ثم

(1) فرقت: خافت.
(2) كذا في الأصول.
217

هلك الناس، ودفنته السيول. ثم أري عبد المطلب في المنام أن احفر زمزم
لا تثرب (1) ولا تذم، تروي الحجيج الأعظم. ثم أرى مرة أخرى أن احفر الرواء،
أعطيتها على رغم الأعداء. ثم أري مرة أخرى، أن احفر تكتم، بين الأنصاب الحمر،
في قرية النمل. فأصبح يحفر حيث أري. فطفقت قريش يستهزئون به، حتى إذا بدا عن
الطي وجد فيها غزالا من ذهب، وحلية سيف، فضرب عليها بالسهام، فخرج سهم
البيت، فكان أول حلي حلى به الكعبة.
قال الزبير: وكان حرب بن أمية بن عبد شمس نديم عبد المطلب، وكان
عبيد بن الأبرص تربه، وبلغ عبيد مائة وعشرين سنة، وبقي عبد المطلب بعده
عشرين سنه.
قال: وقال بعض أهل العلم: توفي عبد المطلب عن خمس وتسعين سنة، ويقال: كان يعرف في عبد المطلب نور النبوة، وهيبة الملك، وفيه يقول الشاعر:
إنني واللات والبيت الذي * لز بالهبرز عبد المطلب (2)
قال الزبير: حدثني عمي مصعب بن عبد الله، قال: بينا عبد المطلب يطوف بالبيت
بعد ما أسن وذهب بصره، إذ زحمه رجل، فقال: من هذا؟ فقيل: رجل من بنى بكر.
قال: فما منعه أن ينكب عني وقد رآني لا أستطيع لان أنكب عنه! فلما رأى
بنيه قد توالوا عشرة قال: لا بد لي من العصا، فان اتخذتها طويلة شقت علي، وإن
اتخذتها قصيرة قويت عليها، ولكن ينحدب لها ظهري، والحدبة ذل، فقال بنوه:
أو غير ذلك؟ يوافيك كل يوم منا رجل تتوكأ عليه فتطوف في حوائجك. قال: ولذلك
قال الزبير: ومكارم عبد المطلب أكثر من أن يحاط بها، كان سيد قريش غير مدافع
نفسا وأبا وبيتا وجمالا وبهاء وكمالا وفعالا، قال أحد بني كنانة يمدحه:

(1) لا تثرب عليه: لا تمنعه.
(2) الهبرز: الأسد.
218

إني وما سترت قريش والذي * تعزو لآل كلهن ظباء (1)
ووحق من رفع الجبال منيفة * والأرض مدا فوقهن سماء (2)
مثن ومهد لابن سلمى مدحة * فيها أداء ذمامه ووفاء
قال الزبير: فأما أبو طالب بن عبد المطلب - واسمه عبد مناف - وهو كافل رسول
الله صلى الله عليه وآله، وحاميه من قريش وناصره، والرفيق به، الشفيق عليه، ووصي
عبد المطلب فيه - فكان سيد بني هاشم في زمانه، ولم يكن أحد من قريش يسود في
الجاهلية بمال إلا أبو طالب وعتبة بن ربيعة.
قال الزبير: أبو طالب أول من سن القسامة (3) في الجاهلية في دم عمرو بن علقمة،
ثم أثبتتها السنة في الاسلام، وكانت السقاية في الجاهلية بيد أبى طالب، ثم سلمها إلى
أخيه العباس بن عبد المطلب.
قال الزبير: وكان أبو طالب شاعرا مجيدا، وكان نديمه في الجاهلية مسافر بن عمرو
بن أمية بن عبد شمس، وكان قد حبن (4) فخرج ليتداوى بالحيرة، فمات بهبالة (5)،
فقال أبو طالب يرثيه:
ليت شعري مسافر ابن أبي * عمرو وليث يقولها المحزون
كيف كانت مذاقة الموت إذ * مت وماذا بعد الممات يكون!
رحل الركب قافلين إلينا * وخليلي في مرمس مدفون
بورك الميت الغريب كما بورك * نضر الريحان والزيتون

(1) تعزو: تنسب، وفي ب: " كأنهن " تحريف.
(2) المنيفة: العالية.
(3) القسامة بالفتح: الايمان تقسم على أولياء القتيل إذا ادعوا الدم.
(4) الحبن بالتحريك: الاستسقاء.
(5) هبالة: موضع.
219

رزء ميت على هبالة قد حالت * فياف من دونه وحزون
مدره يدفع الخصوم بأيد * وبوجه يزينه العرنين (1)
كم خليل وصاحب وابن عم * وحميم قفت عليه المنون
فتعزيت بالجلادة والصبر * وإني بصاحبي لضنين
قال الزبير: فلما هلك مسافر نادم أبو طالب بعده عمرو بن عبد بن أبي قيس بن
عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي، ولذلك قال عمرو لعلي عليه السلام
يوم الخندق حين بارزه: إن أباك كان لي صديقا
قال الزبير: وحدثني محمد بن حسن، عن نصر بن مزاحم، عن معروف بن خربوذ،
قال: كان أبو طالب يحضر أيام الفجار، ويحضر معه النبي صلى الله عليه وآله وهو
غلام، فإذا جاء أبو طالب هزمت قيس، وإذا لم يجئ هزمت كنانة، فقالوا لأبي طالب:
لا أبا لك! لا تغب عنا، ففعل.
قال الزبير: فأما الزبير بن عبد المطلب فكان من أشراف قريش ووجوهها،
وهو الذي استثنته بنو قصي على بني سهم حين هجا عبد الله بن الزبعرى بن قصي
فأرسلت بنو قصي عتبة بن ربيعة بن عبد شمس إلى بنى سهم، فقال لهم: إن قومكم قد
كرهوا أن يعجلوا عليكم، فأرسلوني إليكم في هذا السفيه الذي هجاهم في غير
ذنب اجترموا إليه فإن كان ما صنع عن رأيكم فبئس الرأي رأيكم، وإن كان عن غير
رأيكم فادفعوه إليهم. فقال القوم: نبرأ إلى الله أن يكون عن رأينا. قال: فأسلموه
إليهم، فقال بعض بنى سهم: إن شئتم فعلنا، على أن من هجانا منكم دفعتموه إلينا.
فقال عتبة: ما يمنعني أن أقول ما تقول إلا أن الزبير بن عبد المطلب غائب بالطائف

(1) الأيد: الشدة. والعرنين: الانف.
220

وقد عرفت أنه سيفرغ لهذا الامر فيقول: ولم أكن أجعل الزبير خطرا لابن الزبعرى،
فقال قائل منهم: أيها القوم، ادفعوه إليهم، فلعمري إن لكم مثل الذي عليكم، فكثر
في ذلك الكلام واللغط، فلما رأى العاص بن وائل ذلك دعا برمة، فأوثق بها عبد الله
بن الزبعرى، ودفعه إلى عتبة بن ربيعة، فأقبل به مربوطا حتى أتى به قومه، فأطلقه
حمزة بن عبد المطلب وكساه، فأغرى ابن الزبعرى أناس من قريش بقومه بنى سهم،
وقالوا له: اهجهم كما أسلموك، فقال:
لعمري ما جاءت بنكر عشيرتي * وإن صالحت إخوانها لا ألومها
فود جناه الشر أن سيوفنا * بأيماننا مسلولة لا نشيمها
فيقطع ذو الصهر القريب ويتركوا * غماغم منها إذ أجد يريمها (1)
فإن قصيا أهل مجد وثروة * وأهل فعال لا يرام قديمها
هم منعوا يومي عكاظ نساءنا * كما منع الشول الهجان قرومها (2)
وإن كان هيج قدموا فتقدموا * وهل يمنع المخزاة إلا حميمها
محاشيد للمقرى سراع إلى الندى * مرازبة غلب رزان حلومها (3)
قال: فقدم الزبير بن عبد المطلب من الطائف، فقال قصيدته التي يقول فيها:
فلو لا الحمس لم يلبس رجال * ثياب أعزة حتى يموتوا (4)
وقد ذكرنا قطعة منها فيما تقدم.
قال الزبير: وقال الزبير بن عبد المطلب أيضا في هذا المعنى:

(1) يريمها: يطلبها.
(2) الشائلة من الإبل: التي أتى عليها من حملها سبعة أشهر فخف لبنها. وجمعه شول، وهجان
الإبل: كرامها.
(3) المرزبان: الفارس الشجاع المقدم على القوم دون الملك، معرب، والأصل فيه أحد مرازبة الفرس،
وغلب: جمع أغلب، وهو في الأصل الغليظ الرقبة، يصفون أبدا السادة بغلظ الرقبة وطولها.
(4) الحمس هنا: قريش ومن ولدت، سموا حمسا لأنهم تحمسوا في دينهم، أي تشددوا.
221

قومي بنو عبد مناف إذا * أظلم من حولي بالجندل
لا أسد لن يسلموني ولا * تيم ولا زهرة للنيطل (1)
ولا بنو الحارث إن مر بي * يوم من الأيام لا ينجلي
يا أيها الشاتم قومي ولا * حق له عندهم أقبل
إني لهم جار لئن أنت لم * تقصر عن الباطل أو تعدل
قال الزبير: ومن شعر الزبير بن عبد المطلب:
يا ليت شعري إذا ما حمتي وقعت * ماذا تقول ابنتي في النوح تنعاني!
تنعى أبا كان معروف الدفاع عن المولى * المضاف وفكاكا عن العاني (2)
ونعم صاحب عان كان رافده * إذا تضجع عنه العاجز الواني (3)
قال الزبير: وكان الزبير بن عبد المطلب ذا نظر وفكر، أتي فقيل له: مات فلان
- لرجل من قريش كان ظلوما - فقال: بأي عقوبة مات؟ قالوا مات حتف أنفه! فقال:
لئن كان ما قلتموه حقا إن للناس معادا يؤخذ فيه للمظلوم من الظالم.
قال: وكان الزبير يكنى بأبي الطاهر، وكانت صفية بنت عبد المطلب كنت ابنها
الزبير بن العوام أبا الطاهر دهرا بكنية أخيها، وكان للزبير بن عبد المطلب ابن يقال له
الطاهر، كان من أظرف فتيان مكة، مات غلاما، وبه سمى رسول الله صلى الله عليه
وآله ابنه الطاهر، وباسم الزبير سمت أخته صفية ابنها الزبير، وقالت صفية ترثي أخاها
الزبير بن عبد المطلب:
بكي زبير الخير إذ مات إن * كنت على ذي كرم باكيه

(1) النيطل: الموت الوحي.
(2) العاني: الأسير.
(3) التضجيع في الامر: التقصير فيه.
222

لو لفظته الأرض ما لمتها * أو أصبحت خاشعة عارية
قد كان في نفسي أن أترك * الموتى ولا أتبعهم قافيه
فلم أطق صبرا على رزئه * وجدته أقرب إخوانيه
لو لم أقل من في قولا له * لقضت العبرة أضلاعيه
فهو الشامي واليماني إذا * ما خضروا، ذو الشفرة الداميه
وقال ضرار بن الخطاب يبكيه:
بكى ضباع على * أبيك بكاء محزون أليم
قد كنت أنشده فلا * رث السلاح ولا سليم
كالكوكب الدري * يعلو ضوءه ضوء النجوم
زخرت به أعراقه * ونماه والده الكريم
بين الأغر وهاشم * فرعين قد فرعا القروم
فأما القتول الخثعمية التي اغتصبها نبيه بن الحجاج السهمي من أبيها، فقد ذكر
الزبير بن بكار قصتها في كتاب " أنساب قريش ".
قال الزبير: إن رجلا من خثعم قدم مكة تاجرا ومعه ابنة يقال لها القتول، أوضأ
نساء العالمين، فعلقها نبيه بن الحجاج السهمي، فلم يبرح حتى غلب أباها عليها، ونقلها
إليه، فقيل لأبيها: عليك بحلف الفضول، فأتاهم فشكا إليهم ذلك، فأتوا نبيه بن
الحجاج فقالوا له: أخرج ابنة هذا الرجل - وهو يومئذ منتبذ (1) بناحية مكة، وهي معه -
وإلا فإنا من قد عرفت، فقال: يا قوم، متعوني بها الليلة، فقالوا: قبحك الله!

(1) منتبذ، أي منتح ناحية مكة.
223

ما أجهلك، لا والله ولا شخب لقحة، فأخرجها إليهم فأعطوها أباها، فقال نبيه بن
الحجاج في ذلك قصيدة أولها:
راح صحبي ولم أحي القتولا * لم أودعهم وداعا جميلا (1)
إذ أجد الفضول أن يمنعوها * قد أراني ولا أخاف الفضولا
في أبيات طويلة.
وأما قصة البارقي فقد ذكرها الزبير أيضا.
قال: قدم رجل من ثمالة من الأزد مكة، فباع سلعة من أبي بن خلف الجمحي
فمطله بالثمن، وكان سيئ المخالطة، فأتى الثمالي أهل حلف الفضول فأخبرهم، فقالوا إذهب
فأخبره إنك قد أتيتنا، فإن أعطاك حقك وإلا فارجع إلينا، فأتاه فأخبره بما قال أهل حلف
الفضول، فأخرج إليه حقه فأعطاه، فقال الثمالي:
أيفجر بي ببطن مكة ظالما * أبي ولا قومي لدي ولا صحبي
وناديت قومي بارقا لتجيبني * وكم دون قومي من فياف ومن سهب! (2)
ويأبى لكم حلف الفضول ظلامتي * بني جمح والحق يؤخذ بالغصب
وأما قصة حلف الفضول وشرفه فقد ذكرها الزبير في كتابه أيضا، قال: كان بنو سهم
وبنو جمح أهل بغي وعدوان، فأكثروا من ذلك، فأجمع بنو هاشم وبنو المطلب وبنو أسد
وبنو زهرة وبنو تيم على أن تحالفوا وتعاقدوا على رد الظلم بمكة، وألا يظلم أحد

(1) ب: " صبحي " تحريف، صوابه في أ.
(2) الفيف: المفازة التي لا ماء فيها، وإذا أنثت فهي الفيفاء وجمعها الفيافي، والسهب بفتح السين:
الأرض الواسعة، يجمع على سهب (بضمتين) وسكنت الهاء للشعر.
224

إلا منعوه، وأخذوا له بحقه، وكان حلفهم في دار عبد الله بن جدعان، قال رسول الله
صلى الله عليه وآله: " لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر
النعم، ولو دعيت به اليوم لأجبت، لا يزيده الاسلام إلا شدة ".
قال الزبير: كان رجل من بني أسد قد قدم مكة معتمرا ببضاعة، فاشتراها منه
العاص بن وائل السهمي، فآواها إلى بيته، ثم تغيب، فابتغى الأسدي (1) متاعه فلم يقدر
عليه، فجاء إلى بني سهم يستعديهم، عليه فأغلظوا له، فعرف أن لا سبيل له إلى ماله،
وطوف في قبائل قريش يستنفر بهم، فتخاذلت القبائل عنه، فلما رأى ذلك أشرف على
أبي قبيس حين أخذت قريش مجالسها، ونادى بأعلى صوته:
يا للرجال لمظلوم بضاعته * ببطن مكة نائي الأهل والنفر
ومحرم أشعث لم يقض عمرته * يا آل فهر وبين الحجر والحجر (2)
هل منصف من بنى سهم فمرتجع * ما غيبوا أم حلال مال معتمر (3)!
فأعظمت ذلك قريش، وتكلموا فيه، فقال المطيبون: والله إن قمنا في هذا ليغضبن
الاحلاف، وقالت الاحلاف: والله إن قمنا في هذا ليغضبن المطيبون، فقالت قبائل من
قريش: هلموا فلنحتلف حلفا جديدا، لننصرن المظلوم على الظالم ما بل بحر صوفة، فاجتمعت
هاشم والمطلب وأسد وتيم وزهرة في دار عبد الله بن جدعان ورسول الله صلى الله عليه
وآله يومئذ معهم وهو شاب ابن خمس وعشرين سنة لم يوح إليه بعد، فتحالفوا ألا يظلم
بمكة غريب ولا قريب ولا حر ولا عبد إلا كانوا معه حتى يأخذوا له بحقه، ويردوا إليه
مظلمته من أنفسهم ومن غيرهم، ثم عمدوا إلى ماء زمزم فجعلوه في جفنة، ثم بعثوا به إلى
البيت، فغسلوا به أركانه، ثم جمعوه وأتوهم به فشربوه، ثم انطلقوا إلى العاص بن وائل

(1) في أ، و ب: " الزبيدي "، تصحيف.
(2) ب: " يا أهل ".
(3) أ، ب: " ضلال " تحريف.
225

فقالوا له: أد إلى هذا حقه، فأد إليه حقه، فمكثوا كذلك دهرا لا يظلم أحد بمكة إلا
أخذوا له حقه، فكان عتبة بن ربيعة بن عبد شمس يقول: لو أن رجلا وحده خرج من
قومه لخرجت من عبد شمس، حتى أدخل في حلف الفضول.
قال الزبير: وحدثني محمد بن حسن، عن محمد بن طلحة، عن موسى بن محمد، عن
أبيه، أن الحلف كان على ألا يدعوا بمكة كلها ولا في الأحابيش مظلوما يدعوهم إلى
نصرته إلا أنجدوه حتى يردوا عليه ماله ومظلمته، أو يبلوا في ذلك عذرا، وعلى الامر
بالمعروف والنهى عن المنكر، وعلى التأسي في المعاش.
قال الزبير: ويقال: إنه إنما سمي حلف الفضول لان رجالا كانوا في وجوههم
تحالفوا على رد المظالم، يقال لهم فضيل وفضال وفضل ومفضل، فسمي هذا الحلف حلف
الفضول، لأنه أحيا تلك السنة التي كانت ماتت.
قال الزبير: وقدم محمد بن جبير بن مطعم على عبد الملك بن مروان - وكان من علماء
قريش - فقال له: يا أبا سعيد، ألم نكن - يعني بني عبد شمس -، وأنتم في حلف الفضول؟
فقال: أمير المؤمنين أعلم، قال: لتخبرني بالحق، قال: لا والله يا أمير المؤمنين،
لقد خرجنا نحن وأنتم منه، وما كانت يدنا ويدكم إلا جميعا في الجاهلية والاسلام.
قال الزبير: وحدثني محمد بن حسن، عن إبراهيم بن محمد، عن يزيد بن عبد الله
بن الهادي الليثي، أن محمد بن الحارث أخبره، قال: كان بين الحسين بن علي عليه
السلام وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان كلام في مال كان بينهما بذي المروة، والوليد
يومئذ أمير المدينة في أيام معاوية، فقال الحسين عليه السلام: أيستطيل الوليد علي بسلطانه!
226

أقسم بالله لينصفني من حقي أو لآخذن سيفي ثم أقوم في مسجد الله فأدعو بحلف الفضول!
فبلغت كلمته عبد الله بن الزبير، فقال: أحلف بالله لئن دعا به لآخذن سيفي، ثم لأقومن
معه حتى ينتصف أو نموت جميعا. فبلغت المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري، فقال: مثل
ذلك، فبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي، فقال مثل ذلك، فبلغ ذلك الوليد
بن عتبة، فأنصف الحسين عليه السلام من نفسه حتى رضي.
قال الزبير: وقد كان للحسين عليه السلام مع معاوية قصة مثل هذه، كان بينهما
كلام في أرض للحسين عليه السلام، فقال له الحسين عليه السلام: اختر مني ثلاث
خصال، إما أن تشتري مني حقي، وإما أن ترده علي، أو تجعل بيني وبينك ابن عمر أو ابن
الزبير حكما، وإلا فالرابعة، وهي الصيلم، قال معاوية: وما هي؟ قال أهتف بحلف الفضول، ثم قام فخرج وهو مغضب، فمر بعبد الله بن الزبير فأخبره، فقال: والله لئن هتفت به
وأنا مضطجع لأقعدن، أو قاعد لأقومن، أو قائم لامشين، أو ماش لأسعين، ثم لتنفدن
روحي مع روحك، أو لينصفنك. فبلغت معاوية، فقال: لا حاجة لنا بالصيلم، ثم أرسل
إليه أن ابعث فانتقد مالك، فقد ابتعناه (1) منك.
قال الزبير: وحدثني بهذه القصة علي بن صالح عن جدي عبد الله بن مصعب، عن
أبيه، قال: خرج الحسين عليه السلام من عند معاوية وهو مغضب، فلقي عبد الله بن
الزبير، فحدثه بما دار بينهما، وقال: لأخيرنه في خصال، فقال له ابن الزبير ما قال، ثم
ذهب إلى معاوية، فقال لقد لقيني الحسين فخيرك في ثلاث خصال، والرابعة الصيلم،
قال معاوية: فلا حاجة لنا بالصيلم، أظنك لقيته مغضبا! فهات الثلاث، قال: أن تجعلني

(1) ب: " وابتغاه ".
227

أو ابن عمر بينك وبينه. قال: قد جعلتك بيني وبينه، أو جعلت ابن عمر أو جعلتكما جميعا. قال
أو تقر له بحقه ثم تسأله إياه. قال: قد أقررت له بحقه وأنا أسأله إياه، قال: أو تشريه
منه، قال: قد اشتريته منه، فما الصيلم؟ قال: يهتف بحلف الفضول، وأنا أول من يجيبه.
قال: فلا حاجة لنا في ذلك.
وبلغ الكلام عبد الله بن أبي بكر والمسور بن مخرمة فقالا للحسين مثل ما قاله ابن الزبير.
فأما تفجر الماء من تحت أخفاف بعير عبد المطلب في الأرض الجرز فقد ذكره
محمد بن إسحاق بن يسار في كتاب السيرة، قال: لما أنبط (1) عبد المطلب الماء في زمزم
حسدته قريش، فقالت له، يا عبد المطلب، إنها بئر أبينا إسماعيل، وإن لنا فيها حقا
فأشركنا معك. قال: ما أنا بفاعل، إن هذا الامر أمر خصصت به دونكم وأعطيته
من بينكم، قالوا له: فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها، قال: فاجعلوا بيني وبينكم حكما
أحاكمكم إليه، قالوا: كاهنة بني سعد بن هذيم، قال: نعم، وكانت بأشراف الشام، فركب
عبد المطلب في نفر من بني عبد مناف، وخرج من كل قبيلة من قبائل قريش قوم،
والأرض إذ ذاك مفاوز (2)، حتى إذا كانوا ببعض تلك المفاوز بين الحجاز والشام نفد ما كان
مع عبد المطلب وبنى أبيه من الماء فعطشوا عطشا شديدا، فاستسقوا قومهم، فأبوا أن
يسقوهم، وقالوا: نحن بمفازة ونخشى على أنفسنا مثل الذي أصابكم. فلما رأى عبد المطلب
ما صنع القوم وخاف على نفسه وأصحابه الهلاك، قال لأصحابه: ما ترون؟ قالوا: ما رأينا
إلا تبع لرأيك، فمرنا بما أحببت، قال: فإني أرى أن يحفر كل رجل منا حفرة لنفسه بما معه
الان من القوة، فكلما مات رجل دفنه أصحابه في حفرته، حتى يكون رجل واحد، فضيعة

(1) أنبط الماء: استخرجه وطلبه.
(2) المفاوز: جمع مفازة، وهي البرية القفر، أو التي لا ماء فيها، وسميت مفازة لان من خرج منها
وتباعد عنها فاز وغنم.
228

رجل واحد أيسر من ضيعة ركب، قالوا: نعم ما أشرت! فقام كل رجل منهم فحفر
حفيرة لنفسه، وقعدوا ينتظرون الموت. ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه: والله إن إلقاءنا
بأيدينا كذا للموت، لا نضرب في الأرض فنطلب الماء لعجز، قوموا فعسى الله أن
يرزقنا ماء ببعض الأرض، ارتحلوا. فارتحلوا ومن معهم من قبائل قريش ينظرون إليهم
ما هم صانعون، فتقدم عبد المطلب إلى راحلته فركبها، فلما انبعثت به انفجر من تحت
خفها عين من ماء عذب، فكبر عبد المطلب وكبر أصحابه، ثم نزل فشرب وشرب
أصحابه، واستقوا حتى ملأوا أسقيتهم، ثم دعا القبائل من قريش، فقال لهم: هلموا إلى
الماء، فقد أسقانا الله، فاشربوا واستقوا، فجاءوا فشربوا واستقوا، ثم قالوا: قد والله قضى
الله لك علينا، والله لا نخاصمك في زمزم أبدا، إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة هو
الذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشدا، فرجع ورجعوا معه، لم يصلوا إلى الكاهنة
وخلوا بينه وبين زمزم (1).
وروى صاحب كتاب الواقدي أن عبد الله بن جعفر فاخر يزيد بن معاوية بين
يدي معاوية، فقال له: بأي آبائك تفاخرني؟ أبحرب الذي أجرناه، أم بأمية الذي
ملكناه، أم بعبد شمس الذي كفلناه، فقال معاوية: لحرب بن أمية يقال هذا! ما كنت
أحسب أن أحدا في عصر حرب يزعم أنه أشرف من حرب! فقال عبد الله: بلى، أشرف
منه من كفأ عليه إناءه، وجلله (2) بردائه! فقال معاوية ليزيد: رويدا يا بني، إن عبد الله
يفخر عليك بك لأنك منه وهو منك. فاستحيا عبد الله وقال: يا أمير المؤمنين، يدان انتشطتا (3) وأخوان اصطرعا. فلما قام عبد الله، قال معاوية ليزيد: يا بني إياك ومنازعة

(1) سيرة ابن هشام 1: 155، 156.
(2) جلله بردائه: غطاه، وفي حديث علي: " اللهم جلل قتلة عثمان خزيا "، أي غطهم به وألبسهم إياه.
(3) انتشطتا، على البناء للمجهول، انتزعتا واختلستا.
229

بني هاشم، فإنهم لا يجهلون ما علموا، ولا يجد مبغضهم لهم سبا، قال: " إما قوله: أبحرب الذي
أجرناه "، فإن قريشا كانت إذا سافرت فصارت على العقبة لم يتجاوزها أحد حتى تجوز
قريش، فخرج حرب ليلة فلما صار على العقبة، لقيه رجل من بنى حاجب بن زرارة تميمي
فتنحنح حرب بن أمية، وقال: أنا حرب بن أمية، فتنحنح التميمي وقال: أنا ابن حاجب
بن زرارة، ثم بدر فجاز العقبة، فقال حرب: لاها الله لا تدخل بعدها مكة وأنا حي!
فمكث التميمي حينا لا يدخل، وكان متجره بمكة، فاستشار بها بمن يستجير من حرب،
فأشير عليه بعبد المطلب أو بابنه الزبير بن عبد المطلب. فركب ناقته وصار إلى مكة
ليلا، فدخلها وأناخ ناقته بباب الزبير بن عبد المطلب، فرغت (1) الناقة، فخرج إليه
الزبير فقال: أمستجير فتجار، أم طالب قرى فتقرى! فقال:
لاقيت حربا بالثنية مقبلا * والليل أبلج نوره للساري
فعلا بصوت واكتنى ليروعني * ودعا بدعوة معلن وشعار
فتركته خلفي وجزت أمامه * وكذاك كنت أكون في الاسفار
فمضى يهددني ويمنع مكة * ألا أحل بها بدار قرار
فتركته كالكلب ينبح وحده * وأتيت قرم مكارم وفخار (2)
ليثا هزبرا يستجار بقربه * رحب المباءة مكرما للجار (3)
وحلفت بالبيت العتيق وحجه * وبزمزم والحجر والأستار
إن الزبير لمانعي بمهند * صافي الحديدة صارم بتار
فقال الزبير: إذهب إلى المنزل فقد أجرتك. فلما أصبح نادى الزبير أخاه الغيداق،

(1) يقال: رغت الناقة ترغو رغاء: صوتت وضجت. وفي المثل: " كفى برغائها مناديا "، أي أن
رغاء الناقة يقوم مقام النداء في التعرض للضيافة والقرى.
(2) القرم من الرجال: السيد المعظم.
(3) الهزبر: الأسد، والمباءة: المراح الذي تبيت فيه الإبل.
230

فخرجا متقلدين سيفيهما، وخرج التميمي معهما، فقالا له: إنا إذا أجرنا رجلا لم نمش
أمامه، فامش أمامنا ترمقك أبصارنا كي لا تختلس من خلفنا. فجعل التميمي يشق مكة
حتى دخل المسجد، فلما بصر به حرب قال: وإنك لهاهنا! وسبق إليه فلطمه، وصاح
الزبير: ثكلتك أمك! أتلطمه وقد أجرته! فثنى عليه حرب فلطمه ثانية، فانتضى
الزبير سيفه، فحمل على حرب بين يديه، وسعى الزبير خلفه فلم يرجع عنه حتى هجم
حرب على عبد المطلب داره، فقال: ما شأنك؟ قال: الزبير، قال: اجلس، وكفأ
عليه إناء كان هاشم يهشم فيه الثريد، واجتمع الناس، وانضم بنو عبد المطلب إلى الزبير،
ووقفوا على باب أبيهم بأيديهم سيوفهم، فأزر عبد المطلب حربا بإزار كان له، ورداه
برداء له طرفان، وأخرجه إليهم، فعلموا أن أباهم قد أجاره.
وأما معنى قوله: " أم بأمية الذي ملكناه! "، فإن عبد المطلب راهن أمية بن
عبد شمس على فرسين، وجعل الخطر ممن سبقت فرسه مائة من الإبل وعشرة أعبد
وعشر إماء واستعباد سنة، وجز الناصية. فسبق فرس عبد المطلب فأخذ الخطر فقسمه
في قريش، وأراد جز ناصيته، فقال: أو أفتدي منك باستعباد عشر سنين! ففعل،
فكان أمية بعد في حشم عبد المطلب وعضاريطه (1) عشر سنين.
وأما قوله: " أم بعبد شمس الذي كفلناه! " فإن عبد شمس كان مملقا لا مال له،
فكان أخوه هاشم يكفله ويمونه إلى أن مات هاشم.
وفي كتاب " الأغاني " لأبي الفرج أن معاوية قال لدغفل (2) النسابة: أرأيت
عبد المطلب؟ قال: نعم، قال: كيف رأيته؟ قال: رأيته رجلا نبيلا جميلا وضيئا، كان على

(1) العضاريط: جمع عضرط، وهو الرجل الذي يخدم بطعام بطنه.
(2) في الأصول: " دعبل "، تصحيف، وصوابه من الأغاني.
231

وجهه نور النبوة (1). قال: أفرأيت أمية بن عبد شمس (2)؟ قال: نعم، قال: كيف
رأيته؟ قال: رأيته رجلا ضئيلا (3) منحنيا أعمى يقوده عبده ذكوان، فقال معاوية:
ذلك ابنه أبو عمرو، قال: أنتم تقولون ذلك، فأما قريش فلم تكن تعرف إلا
إنه عبده (4).
ونقلت من كتاب " هاشم وعبد شمس " لابن أبي رؤبة الدباس.
قال: روى هشام بن الكلبي عن أبيه، أن نوفل بن عبد مناف ظلم عبد المطلب
ابن هاشم أركاحا له بمكة - وهي الساحات - وكان بنو نوفل يدا مع عبد شمس،
وعبد المطلب يدا مع هاشم، فاستنصر عبد المطلب قوما من قومه فقصروا عن ذلك،
فاستنجد أخواله من بني النجار بيثرب، فأقبل معه سبعون راكبا، فقالوا لنوفل:
لا والله يا أبا عدي، ما رأينا بهذا الغائط ناشئا أحسن وجها، ولا أمد جسما، ولا
أعف نفسا، ولا أبعد من كل سوء من هذا الفتى - يعنون عبد المطلب - وقد عرفت
قرابته منا، وقد منعته ساحات له، ونحن نحب أن ترد عليه حقه، فرده عليه فقال
عبد المطلب:
تأبى مازن وبنو عدي * وذبيان بن تيم اللات ضيمي
وزادت مالك حتى تناهت * ونكب بعد نوفل عن حريمي
قال: ويقال إن ذلك كان سبب مخالفة خزاعة عبد المطلب.
قال: وروى أبو اليقظان سحيم بن حفص، أن عبد المطلب جمع بنيه عند وفاته
- وهم عشرة يومئذ - فأمرهم ونهاهم وأوصاهم وقال: إياكم والبغي، فوالله ما خلق الله شيئا

(1) الأغاني: " من رأيت من علية قريش؟ فقال: رأيت عبد المطلب بن هاشم وأمية بن
عبد شمس، فقال: صفهما لي، فقال: كان عبد المطلب أبيض مديد القامة حسن الوجه، في جبينه نور
النبوة وعز الملك، يطيف به عشرة من بنيه كأنهم أسد غاب ".
(2) الأغاني: " قال: فصف لي أمية ".
(3) الأغاني: " نحيف الجسم ضريرا ".
(4) الأغاني 1: 12 (طبعة دار الكتب).
232

أعجل عقوبة من البغي، وما رأيت أحدا بقي على البغي إلا إخوتكم من بنى عبد شمس.
وروى الوليد بن هشام بن قحذم، قال: قال عثمان يوما: وددت أني رأيت رجلا
قد أدرك الملوك يحدثني عما مضى، فذكر له رجل بحضرموت، فبعث إليه فحدثه حديثا
- طويلا تركنا ذكره - إلى أن قال: أرأيت عبد المطلب بن هاشم؟ قال: نعم، رأيت رجلا
قعدا (1) أبيض طويلا مقرون الحاجبين، بين عينيه غرة يقال إن فيها بركة، وإن فيه
بركة، قال: أفرأيت أمية بن عبد شمس؟ قال: نعم، رأيت رجلا آدم دميما قصيرا
أعمى يقال: إنه نكد، وأن فيه نكدا، فقال عثمان: " يكفيك من شر سماعه (2) "
وأمر بإخراج الرجل.
وروى هشام بن الكلبي أن أمية بن عبد شمس لما كان غلاما، كان يسرق الحاج
فسمى حارسا.
وروى ابن أبي رؤبة في هذا الكتاب أن أول قتيل قتله بنو هاشم من
بني عبد شمس عفيف بن أبي العاص بن أمية، قتله حمزة بن عبد المطلب، ولم أقف على
هذا الخبر إلا من كتاب ابن أبي رؤبة.
قال: ومما يصدق قول من روى أن أمية بن عبد شمس استعبده عبد المطلب شعر
أبي طالب بن عبد المطلب حين تظاهرت عبد شمس ونوفل عليه وعلى رسول الله صلى
الله عليه وآله وحصروهما في الشعب، فقال أبو طالب:
توالي علينا موليانا كلاهما * إذا سئلا قالا إلى غيرنا الامر
بلى لهما أمر ولكن تراجما * كما ارتجمت من رأس ذي القلع الصخر
أخص خصوصا عبد شمس ونوفلا * هما نبذانا مثل ما تنبذ الخمر
هما أغمضا للقوم في أخويهما * فقد أصبحت أيديهما وهما صفر

(1) القعد: الحسن الهيئة.
(2) مثل، ولفظه في مجمع الأمثال 1: 194: " حسبك من شر سماعه "، وأول من قاله أم الربيع
ابن زياد العبسي.
233

قديما أبوهم كان عبدا لجدنا * بني أمة شهلاء جاش بها البحر
لقد سفهوا أحلامهم في محمد * فكانوا كجعر بئس ما ضفطت جعر (1)
ثم نرجع إلى حكاية شيخنا أبى عثمان، وقد نمزجه بكلام آخر لنا أو لغيرنا ممن تعاطى
الموازنة بين هذين البيتين.
قال أبو عثمان: فإن قالت أمية: لنا الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم
بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، أربعة خلفاء في نسق،
قلنا لهم: ولبني هاشم: هارون الواثق بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد بن محمد المهدى بن
عبد الله المنصور بن محمد الكامل بن علي السجاد، كان يصلى كل يوم وليلة ألف ركعة،
فكان يقال له السجاد لعبادته وفضله، وكان أجمل قريش على وجه الأرض وأوسمها،
ولد ليلة قتل علي بن أبي طالب عليه السلام فسمى باسمه، وكنى بكنيته، فقال عبد الملك:
لا والله لا أحتمل لك الاسم ولا الكنية، فغير أحدهما، فغير الكنية فصيرها أبا محمد بن
عبد الله، وهو البحر، وهو حبر قريش، وهو المفقه في الدين، المعلم التأويل ابن العباس
ذي الرأي، وحليم قريش، بن شيبة الحمد، وهو عبد المطلب سيد الوادي بن عمرو، وهو
هاشم، هشم الثريد، وهو القمر سمي بذلك لجماله، ولأنهم كانوا يقتدون ويهتدون برأيه،
ابن المغيرة وهو عبد مناف، بن زيد، وهو قصي وهو مجمع، فهؤلاء ثلاثة عشر سيدا
لم يحرم منهم واحد، ولا قصر عن الغاية، وليس منهم واحد إلا وهو ملقب بلقب اشتق
له من فعله الكريم، ومن خلقه الجميل، وليس منهم إلا خليفة، أو موضع للخلافة أو سيد
في قديم الدهر منيع، أو ناسك مقدم، أو فقيه بارع، أو حليم ظاهر الركانة (2)، وليس
هذا لأحد سواهم، ومنهم خمسة خلفاء في نسق، وهم أكثر مما عدته الأموية، ولم يكن

(1) ضفطت: أحدثت، والجعر: جمع جعراء، وهي الاست.
(2) الركانة: الوقار والهيبة.
234

مروان كالمنصور لان المنصور ملك البلاد ودوخ الأقطار، وضبط الأطراف اثنتين
وعشرين سنة، وكانت خلافة مروان على خلاف ذلك كله، وإنما بقي في الخلافة تسعة أشهر
حتى قتلته امرأته عاتكة بنت يزيد بن معاوية حين قال لابنها خالد من بعلها الأول: يا بن
الرطبة. ولئن كان مروان مستوجبا لاسم الخلافة مع قلة الأيام وكثرة الاختلاف واضطراب
البلدان فضلا عن الأطراف، فابن الزبير أولى بذلك منه، فقد كان ملك الأرض إلا
بعض الأردن، ولكن سلطان عبد الملك وأولاده لما اتصل بسلطان مروان اتصل عند
القوم ما انقطع منه وأخفى موضع الوهن عند من لا علم له، وسنو المهدي كانت سني
سلامة، وما زال عبد الملك في انتقاض وانتكاث، ولم يكن ملك يزيد كملك هارون،
ولا ملك الوليد كملك المعتصم.
قلت: رحم الله أبا عثمان! لو كان اليوم لعد من خلفاء بني هاشم تسعة في نسق:
المستعصم بن المستنصر بن الطاهر بن المستضئ بن المستنجد بن المقتفى بن المستظهر بن المقتدر.
والطالبيون بمصر يعدون عشرة في نسق: الامر بن المستعلى بن المستنصر بن الطاهر بن
الحاكم بن العزيز بن المعتز بن المنصور بن القائم بن المهدي.
قال أبو عثمان: وتفخر عليهم بنو هاشم بأن سني ملكهم أكثر، ومدته أطول،
فإنه قد بلغت مدة ملكهم إلى اليوم أربعا وتسعين سنة. ويفخرون أيضا عليهم بأنهم
ملكوا بالميراث وبحق العصبة والعمومة، وأن ملكهم في مغرس نبوة، وأن أسبابهم
غير أسباب بني مروان، بل ليس لبني مروان فيها سبب، ولا بينهم وبينها نسب، إلا أن
يقولوا: إنا من قريش فيساووا في هذا الاسم قريش الظواهر، لان رواية الراوي: " الأئمة من قريش "
واقعة على كل قرشي، وأسباب الخلافة معروفة، وما يدعيه كل جيل معلوم، وإلى كل
ذلك قد ذهب الناس، فمنهم من ادعاه لعلي عليه السلام لاجتماع القرابة والسابقة والوصية،
فإن كان الامر كذلك فليس لآل أبي سفيان وآل مروان فيها دعوى، وإن كانت
235

إنما تنال بالوراثة، وتستحق بالعمومة، وتستوجب بحق العصبة، فليس لهم أيضا فيها
دعوى. وإن كانت لا تنال إلا بالسوابق والأعمال والجهاد، فليس لهم في ذلك قدم
مذكور، ولا يوم مشهور، بل كانوا إذ لم تكن لهم سابقة، ولم يكن فيهم ما يستحقون به
الخلافة، ولم يكن فيهم ما يمنعهم منها أشد المنع، لكان أهون ولكان الامر عليهم
أيسر، قد عرفنا كيف كان أبو سفيان في عداوة النبي صلى الله عليه وآله وفي محاربته له،
وإجلابه عليه وغزوه إياه، وعرفنا إسلامه حيث أسلم، وإخلاصه كيف أخلص، ومعنى
كلمته يوم الفتح حين رأى الجنود، وكلامه يوم حنين، وقوله يوم صعد بلال على
الكعبة، فأذن. على أنه إنما أسلم على يدي العباس رحمه الله، والعباس هو الذي منع
الناس من قتله، وجاء به رديفا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، وسأله فيه أن يشرفه
وأن يكرمه وينوه به، وتلك يد بيضاء، ونعمة غراء، ومقام مشهود، ويوم حنين
غير مجحود، فكان جزاء بني هاشم من بنيه أن حاربوا عليا، وسموا الحسن، وقتلوا
الحسين، وحملوا النساء على الأقتاب حواسر (1)، وكشفوا عن عورة علي بن الحسين حين
أشكل عليهم بلوغه كما يصنع بذراري المشركين إذا دخلت دورهم عنوة، وبعث معاوية
بسر بن أرطاة إلى اليمن، فقتل ابني عبيد الله بن العباس، وهما غلامان لم يبلغا الحلم،
وقتل عبيد الله بن زياد يوم الطف تسعة من صلب علي عليه السلام، وسبعة من
صلب عقيل، ولذلك قال ناعيهم:
عين جودي بعبرة وعويل * واندبي إن ندبت آل الرسول
تسعة كلهم لصلب علي * قد أصيبوا وسبعة لعقيل
ثم إن أمية تزعم أن عقيلا أعان معاوية على علي عليه السلام، فإن كانوا كاذبين
فما أولاهم بالكذب! وإن كانوا صادقين فما جازوا عقيلا بما صنع! وضرب عنق مسلم

(1) حواسر: كواشف.
236

بن عقيل صبرا وغدرا بعد الأمان، وقتلوا معه هانئ بن عروة لأنه آواه ونصره،
ولذلك قال الشاعر:
فان كنت لا تدرين ما الموت فانظري * إلى هانئ في السوق وابن عقيل
تري بطلا قد هشم السيف وجهه (2) * وآخر يهوي من طمار قتيل
وأكلت هند كبد حمزة * فمنهم آكلة الأكباد، ومنهم كهف النفاق، ومنهم
من نقر بين ثنيتي الحسين عليه السلام بالقضيب، ومنهم القاتل يوم الحرة عون بن
عبد الله بن جعفر، ويوم الطف أبا بكر بن عبد الله بن جعفر. وقتل يوم الحرة أيضا
من بني هاشم الفضل بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، والعباس بن
عتبة بن أبي لهب بن عبد المطلب، وعبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث
بن عبد المطلب.
قلت: إن أبا عثمان قايس بين مدتي ملكهما وهو حينئذ في أيام الواثق، ففضل
هؤلاء عليهم، لان ملكهم أطول من ملكهم بعشر سنين، فكيف به لو كان اليوم
حيا، وقد امتد ملكهم خمسمائة وست عشرة سنة! وهذا أكثر من ملك البيت
الثالث من ملوك الفرس بنحو ثلاثين سنة. وأيضا فإن كان الفخر بطول مدة الملك
فبنو هاشم قد كان لهم أيضا ملك بمصر نحو مائتين وسبعين سنة، مع ما ملكوه بالمغرب
قبل أن ينتقلوا إلى مصر.

(1) البيتان في اللسان 6: 174، ونسبهما إلى سليم بن سلام الحنفي.
(2) اللسان: قد عقر السيف ". وطمار، المكان العالي، قال صاحب اللسان: " وينشد من طمار
بفتح الراء وكسرها، مجرى وغير مجرى " قال: " ويروى: قد قرح السيف وجهه ".
237

قال أبو عثمان: وقالت هاشم لأمية: قد علم الناس ما صنعتم بنا من القتل
والتشريد، لا لذنب أتيناه إليكم، ضربتم علي بن عبد الله بن عباس بالسياط
مرتين، على أن تزوج بنت عمه الجعفرية التي كانت عند عبد الملك، وعلى أن نحلتموه
قتل سليط، وسممتم أبا هاشم عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب عليه السلام،
ونبشتم زيدا وصلبتموه، وألقيتم رأسه في عرصة الدار توطأ بالاقدام، وينقر دماغه
الدجاج، حتى قال القائل:
اطرد الديك عن ذؤابة زيد * طالما كان لا تطأه الدجاج
وقال شاعركم أيضا:
صلبنا لكم زيدا على جذع نخلة * ولم نر مهديا على الجذع يصلب
وقستم بعثمان عليا سفاهة * وعثمان خير من علي وأطيب
فروي أن بعض الصالحين من أهل البيت عليهم السلام قال: اللهم إن كان كاذبا
فسلط عليه كلبا من كلابك، فخرج يوما بسفر له، فعرض له الأسد فافترسه. وقتلتم الامام
جعفرا الصادق عليه السلام، وقتلتم يحيى بن زيد، وسميتم قاتله: ثائر مروان،
وناصر الدين، هذا إلى ما صنع سليمان بن حبيب بن المهلب عن أمركم وقولكم بعبد الله
أبي جعفر المنصور قبل الخلافة، وما صنع مروان بإبراهيم الامام، أدخل رأسه في جراب
نورة حتى مات، فإن أنشدتم:
أفاض المدامع قتلى كدى * وقتلى بكثوة لم ترمس
وبالزابيين نفوس ثوت * وأخرى بنهر أبى فطرس
أنشدنا نحن:
واذكروا مصرع الحسين وزيدا * وقتيلا بجانب المهراس
238

والقتيل الذي بنجران أمسى * ثاويا بين غربة وتناس
وقد علمتم حال مروان أبيكم وضعفه، وأنه كان رجلا لا فقه له، ولا يعرف بالزهد ولا
الصلاح، ولا برواية الآثار، ولا بصحبة ولا ببعد همة، وإنما ولي رستاقا من رساتيق
دار بجرد لابن عامر، ثم ولي البحرين لمعاوية، وقد كان جمع أصحابه ومن تابعه ليبايع ابن
الزبير حتى رده عبيد الله بن زياد، وقال يوم مرج راهط، والرؤوس تندر (1) عن كواهلها
في طاعته:
وما ضرهم غير حين النفوس * وأي غلامي قريش غلب
هذا قول من لا يستحق أن يلي ربعا من الأرباع، ولا خمسا من الأخماس، وهو أحد
من قتلته النساء لكلمة كان حتفه فيها.
وأما أبوه الحكم بن العاص فهو طريد رسول الله صلى الله عليه وآله ولعينه والمتخلج
في مشيته، الحاكي لرسول الله صلى الله عليه وآله، والمستمع عليه ساعة خلوته، ثم صار طريدا
لأبي بكر وعمر، امتنعا عن إعادته إلى المدينة، ولم يقبلا شفاعة عثمان، فلما ولي أدخله،
فكان أعظم الناس شؤما عليه، ومن أكبر الحجج في قتله وخلعه من الخلافة، فعبد
الملك أبو هؤلاء الملوك الذين تفتخر الأموية بهم، أعرق الناس في الكفر لان أحد
أبويه الحكم هذا، والاخر من قبل أمه معاوية بن المغيرة بن أبي العاص، كان النبي صلى
الله عليه وآله طرده من المدينة، وأجله ثلاثا، فحيره الله تعالى حين خرج، وبقي مترددا
متلددا حولها لا يهتدي لسبيله، حتى أرسل في أثره عليا عليه السلام وعمارا، فقتلاه، فأنتم
أعرق الناس في الكفر، ونحن أعرق الناس في الايمان، ولا يكون أمير المؤمنين إلا
أولاهم بالايمان، وأقدمهم فيه.
قال أبو عثمان: وتفخر هاشم بأن أحدا لم يجد تسعين عاما لا طواعين فيها إلا منذ
ملكوا، قالوا: لو لم يكن من بركة دعوتنا إلا أن تعذيب الامراء بعمال الخراج

(1) تندر، أي تسقط فلا يحتسب بها.
239

بالتعليق والزهق والتجريد والتسهير والمسالد والنورة والجورتين والعذراء والجامعة
والتشطيب قد ارتفع لكان ذلك خيرا كثيرا، وفي الطاعون يقول العماني الراجز
يذكر دولتنا:
قد رفع الله رماح الجن * وأذهب التعذيب والتجني
والعرب تسمى الطواعين رماح الجن، وفي ذلك يقول الشاعر:
لعمرك ما خشيت على أبي * رماح بني مقيدة الحمار
ولكني خشيت على أبي * رماح الجن أو إياك حار
يقول بعض بني أسد للحارث الغساني الملك.
قال أبو عثمان: وتفخر هاشم عليهم بأنهم لم يهدموا الكعبة، ولم يحولوا القبلة، ولم
يجعلوا الرسول دون الخليفة، ولم يختموا في أعناق الصحابة، ولم يغيروا أوقات الصلاة، ولم
ينقشوا أكف المسلمين، ولم يأكلوا الطعام ويشربوا على منبر رسول الله صلى الله عليه
وآله، ولم ينهبوا الحرم، ولم يطأوا المسلمات في دار الاسلام بالسباء.
قلت: نقلت من كتاب " افتراق هاشم وعبد شمس " لأبي الحسين محمد بن علي بن
نصر المعروف بابن أبى رؤبة الدباس قال: كان بنو أمية في ملكهم يؤذنون ويقيمون
في العيد ويخطبون بعد الصلاة، وكانوا في سائر صلاتهم لا يجهرون بالتكبير في الركوع
والسجود، وكان لهشام بن عبد الملك خصي إذا سجد هشام وهو يصلي في المقصورة قال:
لا إله إلا الله، فيسمع الناس فيسجدون، وكانوا يقعدون في إحدى خطبتي العيد والجمعة
ويقومون في الأخرى، قال: ورأي كعب مروان بن الحكم يخطب قاعدا، فقال: انظروا
240

إلى هذا يخطب قاعدا، والله تعالى يقول لرسوله: (وتركوك قائما) (1).
قال: وأول من قعد في الخطب معاوية، وأول من أذن وأقام في صلاة العيد بشر
بن مروان، وكان عمال بنى أمية يأخذون الجزية ممن أسلم من أهل الذمة، ويقولون:
هؤلاء فروا من الجزية، ويأخذون الصدقة من الخيل، وربما دخلوا دار الرجل قد نفق (2)
فرسه أو باعه، فإذا أبصروا الآخية، قالوا: قد كان هاهنا فرس، فهات صدقتها، وكانوا
يؤخرون صلاة الجمعة تشاغلا عنها بالخطبة، ويطيلون فيها، إلى أن تتجاوز وقت العصر،
وتكاد الشمس تصفر، فعل ذلك الوليد بن عبد الملك ويزيد أخوه والحجاج عاملهم، ووكل بهم الحجاج المسالخ معه والسيوف على رؤوسهم فلا يستطيعون أن يصلوا
الجمعة في وقتها.
وقال الحسن البصري: وا عجبا من أخيفش (3) أعيمش! جاءنا ففتننا عن ديننا، وصعد
على منبرنا، فيخطب والناس يلتفتون إلى الشمس فيقول: ما بالكم تلتفتون إلى الشمس!
إنا والله ما نصلي للشمس، إنما نصلى لرب الشمس! أفلا تقولون: يا عدو الله، ان لله حقا
بالليل لا يقبله بالنهار، وحقا بالنهار لا يقبله بالليل، ثم يقول الحسن: وكيف يقولون ذلك
وعلى رأس كل واحد منهم علج (4) قائم بالسيف!
قال: وكانوا يسبون ذراري الخوارج من العرب وغيرهم، لما قتل قريب وزحاف
الخارجيان، سبى زياد ذراريهما، فأعطى شقيق بن ثور السدوسي إحدى بناتهما، وأعطى
عباد بن حصين الأخرى، وسبيت بنت لعبيدة بن هلال اليشكري، وبنت لقطري
بن الفجاءة المازني، فصارت هذه إلى العباس بن الوليد بن عبد الملك، واسمها أم سلمة،

(1) سورة الجمعة 11.
(2) نفق فرسه، أي مات.
(3) الخفش بالتحريك: ضيق في البصر وضعف في العين.
(4) العلج: الرجل القوي الضخم.
241

فوطئها بملك اليمين على رأيهم، فولدت له المؤمل، ومحمدا، وإبراهيم، وأحمد، وحصينا،
بنى عباس بن الوليد بن عبد الملك. وسبي واصل بن عمرو القنا واسترق، وسبي سعيد
الصغير الحروري واسترق، وأم يزيد بن عمر بن هبيرة، وكانت من سبي عمان الذين
سباهم مجاعة، وكانت بنو أمية تبيع الرجل في الدين يلزمه وترى أنه يصير بذلك رقيقا.
كان معن أبو عمير بن معن الكاتب حرا مولى لبني العنبر، فبيع في دين عليه،
فاشتراه أبو سعيد بن زياد بن عمرو العتكي، وباع الحجاج علي بن بشير بن الماحوز لكونه
قتل رسول المهلب على رجل من الأزد.
فأما الكعبة فإن الحجاج في أيام عبد الملك هدمها، وكان الوليد بن يزيد يصلى
إذا صلى أوقات إفاقته من السكر إلى غير القبلة، فقيل له، فقرا: (فأينما تولوا فثم وجه الله) (1).
وخطب الحجاج بالكوفة فذكر الذين يزورون قبر رسول الله صلى الله عليه وآله
بالمدينة، فقال: تبا لهم! إنما يطوفون بأعواد ورمة بالية! هلا طافوا بقصر أمير المؤمنين
عبد الملك! ألا يعلمون أن خليفة المرء خير من رسوله!
قال: وكانت بنو أمية تختم في أعناق المسلمين كما توسم الخيل علامة لاستعبادهم.
وبايع مسلم بن عقبة أهل المدينة كافة، وفيها بقايا الصحابة وأولادها وصلحاء التابعين
على أن كلا منهم عبد قن (2) لأمير المؤمنين يزيد بن معاوية، إلا علي بن الحسين
عليه السلام، فإنه بايعه على أنه أخوه وابن عمه.
قال: ونقشوا أكف المسلمين علامة لاسترقاقهم، كما يصنع بالعلوج من الروم
والحبشة. وكانت خطباء بني أمية تأكل وتشرب على المنبر يوم الجمعة لإطالتهم

(1) سورة البقرة 115.
(2) العبد القن: الذي ولد عندك ولا يستطيع أن يخرج عنك.
242

في الخطبة، وكان المسلمون تحت منبر الخطبة يأكلون ويشربون.
قال أبو عثمان: ويفخر بنو العباس على بنى مروان، وهاشم على عبد شمس، بأن
الملك كان في أيديهم فانتزعوه منهم، وغلبوهم بالبطش الشديد، وبالحيلة اللطيفة،
ثم لم ينزعوه إلا من يد أشجعهم شجاعة، وأشدهم تدبيرا، وأبعدهم غورا، ومن نشأ في
الحروب وربي في الثغور، ومن لا يعرف إلا الفتوح وسياسة الجنود، ثم أعطى الوفاء
من أصحابه والصبر من قواده، فلم يغدر منهم غادر، ولا قصر منهم مقصر، كما قد بلغك
عن حنظلة بن نباتة، وعامر بن ضبارة، ويزيد بن عمر بن هبيرة، ولا أحد من سائر
قواده حتى من أحبابه وكتابه كعبد الحميد الكاتب، ثم لم يلقه، ولا لقي تلك الحروب
في عامه تلك الأيام إلا رجال ولد العباس بأنفسهم، ولا قام بأكثر الدولة إلا مشايخهم
كعبد الله بن علي، وصالح بن علي، وداود بن علي، وعبد الصمد بن علي، وقد
لقيهم المنصور نفسه.
قال: وتفخر هاشم أيضا عليهم بقول النبي صلى الله عليه وآله - وهو الصادق
المصدق -: " نقلت من الأصلاب الزاكية، إلى الأرحام الطاهرة، وما افترقت فرقتان
إلا كنت في خيرهما ". وقال أيضا: " بعثت من خيرة قريش ".
ومعلوم أن بني عبد مناف افترقوا فكانت هاشم والمطلب يدا، وعبد شمس ونوفل
يدا. قال: وإن كان الفخر بكثرة العدد فإنه من أعظم مفاخر العرب، فولد علي بن
عبد الله بن العباس اليوم مثل جميع بنى عبد شمس، وكذلك ولد الحسين بن علي
عليه السلام، هذا مع قرب ميلادهما، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله: شوهاء ولود
خير من حسناء عقيم ". وقال: " أنا مكاثر بكم الأمم ".
وقد روى الشعبي عن جابر بن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وآله قدم من سفر،
243

فأراد الرجال أن يطرقوا النساء ليلا، فقال: " أمهلوا حتى تمتشط (1) الشعثة،
وتستحد (2) المغيبة، فإذا قدمتم فالكيس الكيس ". قالوا: ذهب إلى طلب الولد،
وكانت العرب تفخر بكثرة الولد، وتمدح الفحل القبيس (3)، وتذم العاقر والعقيم.
وقال عامر بن الطفيل يعنى نفسه:
لبئس الفتى إن كنت أعور عاقرا * جبانا فما عذري لدى كل محضر!
وقال علقمة بن علاثة يفخر على عامر: آمنت وكفر، ووفيت وغدر،
وولدت وعقر.
وقال الزبرقان:
فاسأل بني سعد وغيرهم * يوم الفخار فعندهم خبري
أي امرئ أنا حين يحضرني * رفد العطاء وطالب النصر
وإذا هلكت تركت وسطهم * ولدي الكرام ونابه الذكر (4)
وقال طرفة بن العبد:
فلو شاء ربي كنت قيس بن خالد * ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد (5)
فأصبحت ذا مال كثير وعادني * بنون كرام سادة لمسود
ومدح النابغة الذبياني ناسا فقال:
لم يحرموا طيب النساء وأمهم * طفحت عليك بناتق مذكار (6)

(1) تمتشط: ترجل شعرها وتصففه، والشعثة: المتلبدة الشعر.
(2) المغيبة التي غاب عنها زوجها. والاستحداد حلق العانة
(3) القبيس كأمير: الفحل السريع الإلقاح.
(4) يقال: نبه فلان، أي شرف فهو نابه ونبيه.
(5) ديوانه 58.
(6) ديوانه 37، وروايته: " لم يحرموا حسن الغذاء ". وطفحت: اتسعت وغلبت.. والناتق،
مأخوذ من نتق السقاء، يقال: انتق سقاءك، أي انفض ما فيه، وإنما يريد أنها تنفض ما في رحمها.
والمذكار: التي تلد الذكور.
244

وقال نهشل بن حري:
على بني يشد الله عظمهم * والنبع ينبت قضبانا فيكتهل
ومكث الفرزدق زمانا لا يولد له فعيرته امرأته، فقال:
قالت أراه واحدا لا أخا له * يؤمله في الوارثين الأباعد (1)
لعلك يوما أن تريني كأنما * بني حوالي الليوث الحوارد (2)
فإن تميما قبل أن يلد الحصا * أقام زمانا وهو في الناس واحد
وقال الآخر، وقد مات إخوته، وملأ حوضه ليسقي، فجاء رجل صاحب عشيرة
وعترة، فأخذ بضبعه فنحاه، ثم قال لراعيه: اسق إبلك:
لو كان حوض حمار ما شربت به * إلا بإذن حمار آخر الأبد
لكنه حوض من أودى بإخوته * ريب المنون فأمسى بيضة البلد
لو كان يشكى إلى الأموات ما لقي * الأحياء بعدهم من قلة العدد
ثم اشتكيت لأشكاني وأنجدني * قبر بسنجار أو قبر على فحد (3)
وقال الأعشى وهو يذكر الكثرة:
ولست بالأكثر منهم حصى * وإنما العزة للكاثر
قال: وقد ولد رجال من العرب كل منهم يلد لصلبه أكثر من مائة فصاروا
بذلك مفخرا، منهم عبد الله بن عمير الليثي، وأنس بن مالك الأنصاري، وخليفة بن
بر السعدي، أتى على عامتهم الموت الجارف. ومات جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله
ابن العباس عن ثلاثة وأربعين ذكرا وخمس وثلاثين امرأة كلهم لصلبه، فما ظنك بمن
مات من ولده في حياته! وليس طبقة من طبقات الأسنان الموت إليها أسرع، وفيها أعم

(1) ديوانه 172، وروايته: " تقول أراه ".
(2) الحوارد: المعتزلون، ورواية الديوان:
فإن عسى أن تبصريني كأنما * بني حوالي الأسود اللوابد
(3) سنجار: بلد على ثلاثة أيام من الموصل.
245

وأفشى من سن الطفولية، وأمر جعفر بن سليمان قد عاينه عالم من الناس، وعامتهم
أحياء، وليس خبر جعفر كخبر غيره من الناس.
قال الهيثم بن عدي: أفضى الملك إلى ولد العباس، وجميع ولد العباس يومئذ من
الذكور ثلاثة وأربعون رجلا، ومات جعفر بن سليمان وحده عن مثل ذلك العدد من
الرجال. وممن قرب ميلاده وكثر نسله حتى صار كبعض القبائل والعمائر أبو بكر صاحب
رسول الله صلى الله عليه وآله، والمهلب بن أبي صفرة، ومسلم بن عمرو الباهلي، وزياد
بن عبيد أمير العراق، ومالك بن مسمع. وولد جعفر بن سليمان اليوم أكثر عددا من
أهل هذه القبائل. وأربعة من قريش ترك كل واحد منهم عشرة بنين مذكورين
معروفين وهم: عبد المطلب بن هاشم، والمطلب بن عبد مناف، وأمية بن عبد شمس،
والمغيرة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وليس على ظهر الأرض هاشمي إلا من
ولد عبد المطلب، ولا يشك أحد أن عدد الهاشميين شبيه بعدد الجميع، فهذا ما في
الكثرة والقلة.
قلت: رحم الله أبا عثمان! لو كان حيا اليوم لرأى ولد الحسن والحسين - عليهما
السلام - أكثر من جميع العرب الذين كانوا في الجاهلية على عصر النبي صلى الله عليه
وآله المسلمين منهم والكافرين، لأنهم لو أحصوا لما نقص ديوانهم عن مائتي
ألف إنسان.
قال أبو عثمان: وإن كان الفخر بنبل الرأي، وصواب القول، فمن مثل عباس بن
عبد المطلب وعبد الله بن العباس! وإن كان في الحكم والسؤدد وأصالة الرأي والغناء
العظيم فمن مثل عبد المطلب، وإن كان إلى الفقه والعلم بالتأويل ومعرفة التأويل وإلى القياس
السديد وإلى الألسنة الحداد والخطب الطوال، فمن مثل علي بن أبي طالب عليه السلام
وعبد الله بن عباس!
246

قالوا: خطبنا عبد الله بن عباس خطبة بمكة أيام حصار عثمان لو شهدها الترك
والديلم لأسلموا.
وفي عبد الله بن العباس يقول حسان بن ثابت:
إذا قال لم يترك مقالا لقائل * بملتقطات لا ترى بينها فضلا
شفى وكفى ما في النفوس فلم يدع * لذي إربة في القول جدا ولا هزلا
وهو البحر، وهو الحبر، وكان عمر يقول له في حداثته عند إجالة الرأي: غص
يا غواص (1)، وكان يقدمه على جلة السلف.
قلت: أبى أبو عثمان إلا إعراضا عن علي عليه السلام، هلا قال فيه كما قال في
عبد الله! فلعمري لو أراد لوجد مجالا، ولألفى قولا وسيعا، وهل تعلم الناس الخطب
والعهود والفصاحة إلا من كلام علي عليه السلام! وهل أخذ عبد الله رحمه الله الفقه
وتفسير القرآن إلا عنه! فرحم الله أبا عثمان، لقد غلبت البصرة وطينتها على إصابة رأيه!
قال أبو عثمان: وإن كان الفخر في البسالة والنجدة وقتل الاقران وجزر الفرسان،
فمن كحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب! وكان الأحنف إذا ذكر حمزة قال:
أكيس، وكان لا يرضى أن يقول: شجاع، لان العرب كانت تجعل ذلك أربع
طبقات، فتقول: شجاع، فإذا كان فوق ذلك قالت: بطل، فإذا كان فوق ذلك قالت:
بهمة، فإذا كان فوق ذلك قالت: أكيس. وقال العجاج:
* أكيس عن حوبائه سخي *
وهل أكثر ما يعد الناس من جرحاهما وصرعاهما إلا سادتكم وأعلامكم! قتل حمزة وعلي عليه السلام عتبة والوليد، وقتلا شيبة أيضا، شركا عبيدة بن الحارث فيه، وقتل
علي عليه السلام حنظلة بن أبي سفيان، فأما آباء ملوككم من بني مروان فإنهم كما قال

(1) يريد أنه درب بالأمور، عارف بدقيقها وجليلها.
247

عبد الله بن الزبير لما أتاه خبر المصعب: أنا والله ما نموت حبجا (1) كما يموت آل أبي
العاص، والله ما قتل منهم قتيل في جاهلية ولا إسلام، وما نموت إلا قتلا، قعصا (2)
بالرماح، وموتا تحت ظلال السيوف.
قال أبو عثمان: كأنه لم يعد قتل معاوية بن المغيرة بن أبي العاص قتلا، إذ كان إنما قتل
في غير معركة، وكذلك قتل عثمان بن عفان، إذ كان إنما قتل محاصرا، ولا قتل مروان
بن الحكم، لأنه قتل خنقا، خنقته النساء. قال: وإنما فخر عبد الله بن الزبير بما في بنى
أسد بن عبد العزى من القتلى، لان من شأن العرب أن يفخروا بذلك، كيف كانوا قاتلين
أو مقتولين، ألا ترى أنك لا تصيب كثرة القتلى إلا في القوم المعروفين بالبأس والنجدة
وبكثرة اللقاء والمحاربة، كآل أبى طالب، وآل الزبير، وآل المهلب!
قال: وفي آل الزبير خاصة سبعة مقتولون في نسق ولم يوجد ذلك في غيرهم، قتل
عمارة وحمزة ابنا عبد الله بن الزبير يوم قديد في المعركة، قتلهما الأباضية، وقتل
عبد الله بن الزبير في محاربة الحجاج، وقتل مصعب بن الزبير بدير الجاثليق (3) في المعركة
أكرم قتل، وبإزائه عبد الملك بن مروان، وقتل الزبير بوادي السباع منصرفه عن
وقعة الجمل، وقتل العوام بن خويلد في حرب الفجار، وقتل خويلد بن أسد بن
عبد العزى في حرب خزاعة، فهؤلاء سبعه في نسق.
قال: وفي بني أسد بن عبد العزى قتلى كثيرون غير هؤلاء، قتل المنذر بن الزبير
بمكة، قتله أهل الشام في حرب الحجاج، وهو على بغل ورد كان نفر به فأصعد به في الجبل.

(1) في الأصول: " حبحا " تحريف، وفي اللسان: " الحبج بفتحتين، من أكل البعير لحاء
العرفج ويسمن عليه وربما بشم منه فقتله، يعرض ببني مروان لكثرة أكلهم وإسرافهم في ملاذ الدنيا
وأنهم يموتون بالتخمة ". وانظر نهاية ابن الأثير.
(2) القعص: الموت الوحي، يقال: مات قعصا، إذا أصابته ضربة أو رمية فمات مكانه.
(3) الجاثليق: رئيس النصارى في بلاد الاسلام.
248

وإياه يعني يزيد بن مفرغ الحميري، وهو يهجو صاحبكم عبيد الله بن زياد ويعيره بفراره
يوم البصرة:
لابن الزبير غداة تدمر منذرا * أولى بكل حفيظة ودفاع
وقتل عمرو بن الزبير، قتلة أخوه عبد الله بن الزبير، وكان في جوار أخيه عبيدة بن
الزبير فلم يغن عنه، فقال الشاعر يحرض عبيدة على قتل أخيه عبد الله بن الزبير، ويعيره
بإخفاره جوار عمرو أخيهما:
أعبيد لو كان المجير لولولت * بعد الهدو برنة أسماء
أعبيد إنك قد أجرت وجاركم * تحت الصفيح تنوبه الأصداء (1)
اضرب بسيفك ضربة مذكورة * فيها أداء أمانة ووفاء
وقتل بجير بن العوام أخو الزبير بن العوام، قتله سعد بن صفح الدوسي جد
أبي هريرة من قبل أمه، قتله بناحية اليمامة، وقتل معه أصرم وبعلك أخويه ابني العوام
بن خويلد، وقد قتل منهم في محاربة النبي صلى الله عليه وآله قوم مشهورون، منهم
زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، كان شريفا، قتل يوم بدر،
وأبوه الأسود، كان المثل يضرب بعزته بمكة، وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وهو
يذكر عاقر الناقة: " كان عزيزا منيعا كأبي زمعة "، ويكنى زمعة بن الأسود أبا حكيمة، وقتل
الحارث بن الأسود بن المطلب يوم بدر أيضا، وقتل عبد الله بن حميد بن زهير بن الحارث
بن الأسود بن المطلب بن أسد يوم بدر أيضا، وقتل نوفل بن خويلد يوم بدر أيضا،
قتله علي بن أبي طالب عليه السلام، وقتل يوم الحرة يزيد بن عبد الله بن زمعة بن
الأسود، ضرب عنقه مسرف بن عقبة صبرا (2) قال له: بايع لأمير المؤمنين يزيد

(1) الصفيح: الحجارة الرقاق، والأصداء: جمع صدى، وهو ما يرد على المصوت.
(2) صبرا، أي حبسا.
249

ابن معاوية على أنك عبد قن له، قال: بل أبايعه على أنى أخوه وابن عمه، فضرب
عنقه. وقتل إسماعيل بن هبار بن الأسود ليلا، وكان ادعى حيلة فخرج مصرخا
لمن استصرخه، فقتل، فاتهم به مصعب بن عبد الله بن عبد الرحمن، فأحلفه معاوية
خمسين يمينا، وخلى سبيله، فقال الشاعر:
ولا أجيب بليل داعيا أبدا * أخشى الغرور كما غر ابن هبار
باتوا يجرونه في الحش منعقرا * بئس الهدية لابن العم والجار
وقتل عبد الرحمن بن العوام بن خويلد في خلافة عمر بن الخطاب في بعض المغازي،
وقتل ابنه عبد الرحمن يوم الدار مع عثمان، فعبد الله بن عبد الرحمن بن العوام بن
خويلد قتيل ابن قتيل ابن قتيل ابن قتيل أربعة. ومن قتلاهم عيسى بن مصعب
ابن الزبير، قتل بين يدي أبيه بمسكن (1) في حرب عبد الملك، وكان مصعب
[يكنى أبا عيسى وأبا عبد الله وفيه يقول الشاعر]:
لتبك أبا عيسى وعيسى كلاهما * موالي قريش كهلها وصميمها
ومنهم مصعب بن عكاشة بن مصعب بن الزبير، قتل يوم قديد في حرب الخوارج،
وقد ذكره الشاعر فقال:
قمن فاندبن رجالا قتلوا * بقديد ولنقصان العدد
ثم لا تعدلن فيها مصعبا * حين يبكى من قتيل بأحد
إنه قد كان فيها باسلا * صارما يقدم إقدام الأسد
ومنهم خالد بن عثمان بن خالد بن الزبير، خرج مع محمد بن عبد الله بن حسن
بن حسن، فقتله أبو جعفر وصلبه. ومنهم عتيق بن عامر بن عبد الله بن الزبير، قتل
بقديد أيضا، وسمي عتيقا باسم جده أبى بكر الصديق.

(1) مسكن، كمسجد: موضع بالكوفة.
250

قلت: هذا أيضا من تحامل أبى عثمان، هلا ذكر قتلى الطف وهم عشرون سيدا من
بيت واحد قتلوا في ساعة واحدة! وهذا ما لم يقع مثله في الدنيا لا في العرب ولا في العجم.
ولما قتل حذيفة بن بدر يوم الهباءة (1) وقتل معه ثلاثة أو أربعة من أهل بيته ضربت
العرب بذلك الأمثال واستعظموه، فجاء يوم الطف، " جرى الوادي فطم على
القري (2) ".
وهلا عدد القتلى من آل أبي طالب فإنهم إذا عدوا إلى أيام أبى عثمان كانوا عددا
كثيرا أضعاف ما ذكره من قتلى الأسديين!
قال أبو عثمان: وإن كان الفخر والفضل في الجود والسماح فمن مثل عبد الله بن
جعفر بن أبي طالب! ومن مثل عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب!
وقد اعترضت الأموية هذا الموضع فقالت: إنما كان عبد الله بن جعفر يهب ما كان
معاوية ويزيد يهبان له، فمن فضل جودنا جاد.
قالوا: ومعاوية أول رجل في الأرض وهب ألف ألف درهم، وابنه أول من
ضاعف ذلك، فإنه كان يجيز الحسن والحسين ابني علي عليه السلام في كل عام لكل
واحد منهما بألف ألف درهم، وكذلك كان يجيز عبد الله بن العباس وعبد الله بن جعفر،
فلما مات وقام يزيد وفد عليه عبد الله بن جعفر، فقال له: إن أمير المؤمنين معاوية
كان يصل رحمي في كل سنة بألف ألف درهم، قال: فلك ألفا ألف درهم، فقال:
بأبي أنت وأمي! أما إني ما قلتها لابن أنثى قبلك، قال: فلك أربعة آلاف ألف درهم.
وهذا الاعتراض ساقط، لان ذلك إن صح لم يعد جودا ولا جائزة ولا صلة رحم، هؤلاء

(1) يوم الهباءة من أيام العرب المشهورة.
(2) قال صاحب مجمع الأمثال 1: 158 " أي جرى سيل الوادي فطم، أي دفن، يقال:
طم السيل الركبة، أي دفنها. والقرى: مجرى الماء في الروضة والجمع أقرية... أي أتى على
على القرى، يعني أهلكه بأن دفنه.
251

قوم كان يخافهم على ملكه، ويعرف حقهم فيه، وموقعهم من قلوب الأمة، فكان
في ذلك تدبيرا، ويريع (1) أمورا، ويصانع عن دولته وملكه، ونحن لم نعد قط
ما أعطى خلفاء بني هاشم قوادهم وكتابهم وبنى عمهم جودا، فقد وهب المأمون للحسن
بن سهل غلة عشرة آلاف ألف فما عد ذلك منه مكرمة، وكذلك كل ما يكون
داخلا في باب التجارة واستمالة القلوب، وتدبير الدولة، وإنما يكون الجود ما يدفعه
الملوك في الوفود والخطباء والشعراء والاشراف والأدباء والسمار ونحوهم، ولولا ذلك لكان
الخليفة إذا وفى الجند أعطياتهم احتسب ذلك في جوده، فالعمالات شئ والاعطاء على
دفع المكروه شئ، والتفضل والجود شئ. ثم إن الذين أعطاهم معاوية ويزيد هو
بعض حقهم، والذي فضل عليهما أكثر مما خرج منهما.
وإن أريد الموازنة بين ملوك بنى العباس وملوك بنى أمية في العطاء افتضح
بنو أمية وناصروهم فضيحة ظاهرة، فإن نساء خلفاء بنى عباس أكثر معروفا من
رجال بنى أمية، ولو ذكرت معروف أم جعفر وحدها لأتى ذلك على جميع صنائع
بنى مروان، وذلك معروف، ولو ذكر معروف الخيزران وسلسبيل لملئت الطوامير
الكثيرة به، وما نظن خالصة مولاتهم إلا فوق أجواد أجوادهم، وإن شئت أن تذكر
مواليهم وكتابهم فاذكر عيسى بن ماهان، وابنه عليا، وخالد بن برمك وابنه يحيى، وابنه
جعفرا والفضل وكاتبهم منصور بن زياد ومحمد بن منصور وفتى العسكر، فإنك تجد
لكل واحد من هؤلاء ما يحيط بجميع صنائع بنى عبد شمس.
فأما ملوك الأموية فليس منهم إلا من كان يبخل على الطعام، وكان جعفر بن
سليمان كثيرا ما يذكر ذلك، وكان معاوية يبغض الرجل النهم على مائدته، وكان

(1) يريع: يزيد.
252

المنصور إذا ذكرهم يقول: كان عبد الملك جبارا لا يبالي ما صنع، وكان الوليد مجنونا،
وكان سليمان همه بطنه وفرجه، وكان عمر أعور بين عميان، وكان هشام رجل القوم، وكان
لا يذكر ابن عاتكة، ولقد كان هشام مع ما استثناه به يقول: هو الأحول السراق، ما زال
يدخل إعطاء الجند شهرا في شهر وشهرا في شهر، حتى أخذ لنفسه مقدار رزق سنة، وأنشده
أبو النجم العجلي أرجوزته التي أولها:
* الحمد لله الوهوب المجزل *
فما زال يصفق بيديه استحسانا لها حتى صار إلى ذكر الشمس، فقال:
* والشمس في الأفق كعين الأحول *
فأمر بوجئ (1) عنقه وإخراجه، وهذا ضعف شديد وجهل عظيم.
وقال خاله إبراهيم بن هشام المخزومي: ما رأيت من هشام خطأ قط إلا مرتين:
حدا به الحادي مرة فقال:
إن عليك أيها البختي * أكرم من تمشي به المطي
فقال: صدقت. وقال مرة: والله لأشكون سليمان يوم القيامة إلى أمير المؤمنين
عبد الملك. وهذا ضعف شديد وجهل مفرط.
وقال أبو عثمان: وكان هشام يقول: والله إني لأستحي أن أعطى رجلا أكثر من
أربعة آلاف درهم، ثم أعطى عبد الله بن الحسن أربعة آلاف دينار فاعتدها في جوده
وتوسعه، وإنما اشترى بها ملكه، وحصن بها عن نفسه وما في يديه. قال له أخوه مسلمة:
أتطمع أن تلي الخلافة وأنت بخيل جبان! فقال: ولكني حليم عفيف، فاعترف بالجبن
والبخل، وهل تقوم الخلافة مع واحد منهما! وإن قامت فلا تقوم إلا مع الخطر العظيم،
والتغرير الشديد. ولو سلمت من الفساد لم تسلم من العيب.

(1) الوجئ: الضرب.
253

ولقد قدم المنصور عليهم عمر بن عبد العزيز بقوله: أعور بين عميان، وزعمتم أنه
كان ناسكا ورعا تقيا، فكيف وقد جلد خبيب بن عبد الله بن الزبير مائة جلدة، وصب
على رأسه جرة من ماء بارد في يوم شات، حتى كز (1) فمات، فما أقر بدمه، ولا خرج
إلى وليه من حقه، ولا أعطى عقلا ولا قودا، ولا كان خبيب ممن أتت عليه حدود الله
وأحكامه وقصاصه، فيقال كان مطيعا بإقامتها، وأنه أزهق الحد نفسه! واحتسبوا
الضرب كان أدبا وتعزيرا، فما عذره في الماء البارد في الشتاء، على أثر جلد شديد! ولقد
بلغه أن سليمان بن عبد الملك يوصي، فجاء حتى جلس على طريق من يجلس عنده
أو يدخل إليه، فقال لرجاء بن حياة في بعض من يدخل ومن يخرج: نشدتك الله أن
تذكرني لهذا الامر، أو تشير بي في هذا الشأن، فوالله ما لي عليه من طاقة! فقال له رجاء:
قاتلك الله، ما أحرصك عليها!
ولما جاء الوليد بن عبد الملك بنعي الحجاج، قال له الوليد: مات الحجاج يا أبا حفص؟
فقال: وهل كان الحجاج إلا رجلا منا أهل البيت! وقال في خلافته: لولا بيعة
في أعناق الناس ليزيد بن عاتكة لجعلت هذا الامر شورى بين صاحب الأعوص
إسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد الأشدق وبين أحمس قريش القاسم بن محمد بن أبي
بكر، وبين سالم بن عبد الله بن عمر، فما كان عليه من الضرر والحرج، وما كان عليه
من الوكف (2) والنقص أن لو قال: بين علي بن العباس وعلي بن الحسين بن علي! وعلى أنه
لم يرد التيمي ولا العدوي، وإنما دبر الامر للأموي، ولم يكن عنده أحد من هاشم يصلح
للشورى، ثم دبر الامر ليبايع لأخيه أبى بكر بن عبد العزيز من بعده حتى عوجل بالسم.
وقدم عليه عبد الله بن حسن بن حسن، فلما رأى كماله وبيانه وعرف نسبه ومركبه

(1) كز، أي أصابه كزاز، كغراب ورمان، وهو داء يجيئ من شدة البرد.
(2) الوكف، محركة: الاثم.
254

وموضعه وكيف ذلك من قلوب المسلمين وفي صدور المؤمنين لم يدعه يبيت بالشام ليلة واحدة، وقال له: الحق بأهلك، فإنك لم تغنهم شيئا هو أنفس منك ولا أرد عليهم
من حياتك. أخاف عليك طواعين الشام، وستلحقك الحوائج على ما تشتهي وتحب.
وإنما كره أن يروه ويسمعوا كلامه، فلعله يبذر في قلوبهم بذرا، ويغرس في صدورهم
غرسا، وكان أعظم الخلق قولا بالجبر حتى يتجاوز الجهمية، ويربي على كل ذي غاية،
صاحب شنعة، وكان يصنع في ذلك الكتب، مع جهله بالكلام وقلة اختلافه إلى أهل
النظر. وقال له شوذب الخارجي: لم لا تلعن رهطك وتذكر أباك إن كانوا عندك ظلمة
فجرة؟ فقال عمر: متى عهدك بلعن فرعون! قال ما لي به عهد. قال: أفيسعك أن
تمسك عن لعن فرعون، ولا يسعني أن أمسك عن لعن آبائي! فرأى أنه قد خصمه (1)
وقطع حجته، وكذلك يظنه كل من قصر عن مقدار العالم، وجاوز مقدار الجاهل،
وأي شبه لفرعون بأل مروان وآل أبي سفيان! هؤلاء قوم لهم حزب وشيعة،
وناس كثير يدينون بتفضيلهم وقد اعتورتهم الشبه في أمرهم، وفرعون على خلاف
ذلك، وضده لا شيعة له ولا حزب ولا نسل ولا موالي ولا صنائع ولا في أمره شبهة.
ثم إن عمر ظنين (2) في أمر أهله فيحتاج إلى غسل ذلك عنه بالبراءة منهم، وشوذب
ليس بظنين في أمر فرعون، وليس الامساك عن لعن فرعون والبراءة منه مما يعرفه
الخوارج، فكيف استويا عنده!
وشكا إليه رجل من رهطه دينا فادحا، وعيالا كثيرا، فاعتل عليه، فقال له:
فهلا اعتللت على عبد الله بن الحسن! قال: ومتى شاورتك في أمري! قال: أو مشيرا

(1) خصمه: غلبه.
(2) الظنين: المتهم.
255

تراني! قال: أو هل أعطيته إلا بعض حقه! قال: ولم قصرت عن كله؟ فأمر بإخراجه
وما زال إلى أن مات محروما منه.
وكان عمال أهله على البلاد عماله وأصحابه. والذي حسن أمره، وشبه على الأغبياء
حاله، أنه قام بعقب قوم قد بدلوا عامة شرائع الدين وسنن النبي صلى الله عليه وآله،
وكان الناس قبله من الظلم والجور والتهاون بالاسلام في أمر صغر في جنبه ما عاينوا منه،
وألفوه عليه، فجعلوه بما نقص من تلك الأمور الفظيعة في عداد الأئمة الراشدين، وحسبك
من ذلك أنهم كانوا يلعنون عليا عليه السلام على منابرهم، فلما نهى عمر عن ذلك عد
محسنا، ويشهد لذلك قول كثير فيه:
وليت فلم تشتم عليا ولم تخف * بريا ولم تتبع مقالة مجرم
وهذا الشعر يدل على أن شتم علي عليه السلام قد كان لهم عادة، حتى مدح من كف
عنه، ولما ولي خالد بن عبد الله القسري مكة - وكان إذا خطب بها لعن عليا والحسن
والحسين عليهم السلام - قال عبيد الله بن كثير السهمي:
لعن الله من يسب عليا * وحسينا من سوقة وإمام
أيسب المطهرون جدودا * والكرام الاباء والأعمام
يأمن الطير والحمام ولا يأمن * آل الرسول عند المقام!
طبت بيتا وطاب أهلك أهلا * أهل بيت النبي والاسلام!
رحمة الله والسلام عليهم * كلما قام قائم بسلام!
وقام عبد الله بن الوليد بن عثمان بن عفان - وكان ممن يناله بزعمهم إلى هشام بن
عبد الملك، وهو يخطب على المنبر بعرفة - فقال: يا أمير المؤمنين، هذا يوم كانت
256

الخلفاء تستحب فيه لعن أبى تراب (1)، فقال هشام: ليس لهذا جئنا، ألا ترى أن
ذلك يدل على أنه قد كان لعنه فيهم فاشيا ظاهرا، وكان عبد الله بن الوليد هذا يلعن
عليا عليه السلام ويقول: قتل جدي جميعا، الزبير وعثمان.
وقال المغيرة وهو عامل معاوية يومئذ لصعصعة بن صوحان: قم فالعن عليا،
فقام فقال: إن أميركم هذا أمرني أن ألعن عليا فالعنوه لعنة الله! وهو يضمر المغيرة.
وأما عبد الملك فحسبك من جهله تبديله شرائع الدين والاسلام، وهو يريد أن يلي أمور أصحابها بذلك الدين بعينه، وحسبك من جهله أنه رأى من أبلغ التدبير في منع
بني هاشم الخلافة أن يلعن علي بن أبي طالب عليه السلام على منابره، ويرمى بالفجور
في مجالسه، وهذا قرة عين عدوه، وعير وليه، وحسبك من جهله قيامه على منبر الخلافة
قائلا: إني والله ما أنا بالخليفة المستضعف ولا بالخليفة المداهن، ولا بالخليفة المأفون (2).
وهؤلاء سلفه وأئمته، وبشفعتهم قام ذلك المقام، وبتقدمهم وتأسيسهم نال تلك
الرياسة، ولولا العادة المتقدمة، والأجناد المجندة، والصنائع القائمة، لكان أبعد خلق
الله من ذلك المقام، وأقربهم إلى المهلكة إن رام ذلك الشرف. وعنى بالمستضعف عثمان،
وبالمداهن معاوية، وبالمأفون يزيد بن معاوية، وهذا الكلام نقض لسلطانه، وعداوة
لأهله، وإفساد لقلوب شيعته، ولو لم يكن من عجز رأيه إلا أنه لم يقدر على إظهار قوته،
إلا بأن يظهر عجز أئمته لكفاك ذلك منه. فهذا ما ذكرته هاشم لأنفسها.
[مفاخر بني أمية]
قالت أمية: لنا من نوادر الرجال في العقل والدهاء والأدب والمكر ما ليس لأحد،

(1) أبو تراب، من كنى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
(2) المأفون: الضعيف.
257

ولنا من الأجواد وأصحاب الصنائع ما ليس لأحد، زعم الناس أن الدهاة أربعة: معاوية بن
أبي سفيان، وزياد، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، فمنا رجلان، ومن سائر الناس
رجلان. ولنا في الأجواد سعيد بن العاص، وعبد الله بن عامر، لم يوجد لهما نظير إلى
الساعة. وأما نوادر الرجال في الرأي والتدبير فأبو سفيان بن حرب، وعبد الملك
بن مروان، ومسلمة بن عبد الملك، وعلى أنهم يعدون في الحلماء والرؤساء، فأهل الحجاز
يضربون المثل في الحلم بمعاوية، كما يضرب أهل العراق المثل فيه بالأحنف.
فأما الفتوح والتدبير في الحرب فلمعاوية غير مدافع، وكان خطيبا مصقعا، ومجربا
مظفرا، وكان يجيد قول الشعر إذا آثر أن يقوله، وكان عبد الملك خطيبا حازما مجربا مظفرا،
وكان مسلمة شجاعا مدبرا وسائسا مقدما، وكثير الفتوح كثير الأدب، وكان يزيد بن
معاوية خطيبا شاعرا، وكان الوليد بن يزيد خطيبا شاعرا، وكان مروان بن الحكم
وعبد الرحمن بن الحكم شاعرين، وكان بشر بن مروان شاعرا ناسبا، وأديبا عالما،
وكان خالد بن يزيد بن معاوية خطيبا شاعرا، جيد الرأي، أديبا كثير الأدب،
حكيما، وكان أول من أعطى التراجمة والفلاسفة، وقرب أهل الحكمة ورؤساء
أهل كل صناعة، وترجم كتب النجوم والطب والكيمياء والحروب والآداب
والآلات والصناعات.
قالوا: وإن ذكرت البأس والشجاعة فالعباس بن الوليد بن عبد الملك، ومروان
بن محمد، وأبوه محمد بن مروان بن الحكم، وهو صاحب مصعب، وهؤلاء قوم لهم
آثار بالروم لا تجهل، وآثار بأرمينية لا تنكر، ولهم يوم العقر، شهده مسلمة والعباس
بن الوليد.
قالوا: ولنا الفتوح العظام، ولنا فارس، وخراسان، وأرمينية، وسجستان،
وإفريقية، وجميع فتوح عثمان، فأما فتوح بنى مروان فأكثر وأعم وأشهر من أن
258

تحتاج إلى عدد أو إلى شاهد. والذين بلغوا في ذلك الزمان أقصى ما يمكن صاحب خف
وحافر أن يبلغه، حتى لم يحتجز منهم إلا ببحر أو خليج بحر أو غياض أو عقاب أو حصون
وصياصي ثلاثة رجال: قتيبة بن مسلم بخراسان، وموسى بن نصير بإفريقية، والقاسم
بن محمد بن القاسم الثقفي بالسند والهند، وهؤلاء كلهم عمالنا وصنائعنا. ويقال: إن
البصرة كانت صنائع ثلاثة رجال: عبد الله بن عامر، وزياد، والحجاج، فرجلان من أنفسنا
والثالث صنيعنا.
قالوا: ولنا في الأجواد وأهل الاقدار بنو عبد الله بن خالد بن أسيد بن أمية، وأخوه خالد، وفي خالد يقول الشاعر:
إلى خالد حتى أنخنا بخالد * فنعم الفتى يرجى ونعم المؤمل!
ولنا سعيد بن خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وهو عقيد الندى، كان يسبت
ستة أشهر ويفيق ستة أشهر، ويرى كحيلا من غير اكتحال، ودهينا من غير تدهين،
وله يقول موسى شهوات:
أبا خالد أعني سعيد بن خالد * أخا العرف لا أعني ابن بنت سعيد (1)
ولكنني أعني ابن عائشة الذي * أبو أبويه خالد بن أسيد
عقيد الندى ما عاش يرضى به الندى * فإن مات لم يرض الندى بعقيد (2)
قالوا: وإنما تمكن فينا الشعر وجاد، ليس من قبل أن الذين مدحونا ما كانوا
غير من مدح الناس، ولكن لما وجدوا فينا مما يتسع لأجله القول، ويصدق فيه القائل.
قد مدح عبد الله بن قيس الرقيات من الناس: آل الزبير عبد الله ومصعبا وغيرهما، فكان
يقول كما يقول غيره، فلما صار إلينا قال:
ما نقموا من بني أمية إلا * أنهم يحلمون إن غضبوا (3)

(1) الأغاني 3: 352 (طبعة دار الكتب).
(2) عقيد الندى: الكريم بطبعه.
(3) ديوانه 4.
259

وأنهم معدن الملوك فما * تصلح إلا عليهم العرب
وقال نصيب:
من النفر الشم الذين إذا انتجوا * أقرت لنجواهم لؤي بن غالب (1)
يحيون بسامين طورا وتارة * يحيون عباسين شوس الحواجب (2)
وقال الأخطل:
شمس العداوة حتى يستقاد لهم * وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا (3)
قالوا: وفينا يقول شاعركم والمتشيع لكم، الكميت بن زيد:
فالآن صرت إلى أمية * والأمور لها مصاير (4)
وفي معاوية يقول أبو الجهم العدوي:
نقلبه لنخبر حالتيه * فنخبر منهما كرما ولينا
نميل على جوانبه كأنا * إذا ملنا نميل على أبينا
وفيه يقول:
تريع إليه هوادى الكلام * إذا ضل خطبته المهذر (5)
قالوا: وإذا نظرتم في امتداح الشعراء عبد العزيز بن مروان عرفتم صدق ما نقوله.
قالوا: وفي إرسال النبي صلى الله عليه وآله إلى أهل مكة عثمان، واستعماله عليها
عتاب بن أسيد وهو ابن اثنتين وعشرين سنة دليل على موضع المنعة أن تهاب العرب
وتعز قريش، وقال النبي صلى الله عليه وآله قبل الفتح: " فتيان أضن بهما على النار:
عتاب بن أسيد، وجبير بن مطعم " فولى عتابا، وترك جبير بن مطعم.

(1) الشم: جمع أشم، وهو كناية عن الرفعة والعلو وشرف النفس.
(2) شوس: جمع أشوس، والشوس بالتحريك: النظر بمؤخر العين تكبرا وغيظا.
(3) ديوانه 14، وشمس: جمع شموس، وهو الرجل العسر في عداوته، الشديد الخلاف على
من عانده.
(4) الأغاني 15: 111، وروايته: " والأمور إلى المصاير ".
(5) المهذر: الكثير الخطأ في الكلام.
260

وقال الشعبي: لو ولد لي مائة ابن لسميتهم كلهم عبد الرحمن، للذي رأيت في قريش
من أصحاب هذا الاسم، ثم عد عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، وعبد الرحمن بن الحارث
بن هشام، وعبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص، فأما عبد الرحمن بن عتاب فإنه
صاحب الخيل يوم الجمل، وهو صاحب الكف والخاتم، وهو الذي مر به علي وهو
قتيل فقال: لهفي عليك يعسوب قريش، هذا اللباب المحض من بني عبد مناف!
فقال له قائل: لشد ما أتيته اليوم يا أمير المؤمنين! قال: أنه قام عني وعنه نسوة لم يقمن عنك.
قالوا: ولنا من الخطباء معاوية بن أبي سفيان، أخطب الناس قائما وقاعدا، وعلى
منبر، وفي خطبة نكاح. وقال عمر بن الخطاب: ما يتصعدني شئ من الكلام كما
يتصعدني خطبة النكاح، وقد يكون خطيبا من ليس عنده في حديثه ووصفه للشئ
احتجاجه في الامر لسان بارع. وكان معاوية يجري مع ذلك كله.
قالوا: ومن خطبائنا يزيد بن معاوية كان أعرابي اللسان، بدوي اللهجة،
قال معاوية: وخطب عنده خطيب فأجاد: لأرمينه بالخطيب الأشدق يريد يزيد بن معاوية،
ومن خطبائنا سعيد بن العاص، لم يوجد كتحبيره تحبير، ولا كارتجاله ارتجال.
ومنا عمرو بن سعيد الأشدق، لقب بذلك لأنه حيث دخل على معاوية وهو غلام بعد
وفاة أبيه، فسمع كلامه، فقال: إن ابن سعيد هذا الأشدق.
وقال له معاوية: إلى من أوصى بك أبوك؟ قال: إن أبى أوصى إلي ولم يوص بي،
قال: فبم أوصى إليك؟ قال: ألا يفقد إخوانه منه إلا وجهه.
قالوا: ومنا سعيد بن عمرو بن سعيد، خطيب ابن خطيب ابن خطيب، تكلم
الناس عند عبد الملك قياما وتكلم قاعدا. قال عبد الملك: فتكلم وأنا والله أحب
عثرته وإسكاته، فأحسن حتى استنطقته واستزدته، وكان عبد الملك خطيبا، خطب
261

الناس مرة فقال: ما أنصفتمونا معشر رعيتنا، طلبتم منا أن نسير فيكم وفي أنفسنا سيرة
أبى بكر وعمر في أنفسهما ورعيتهما، ولم تسيروا فينا ولا في أنفسكم سيرة رعية أبى بكر
وعمر فيهما وفي أنفسهما، ولكل من النصفة نصيب. قالوا: فكانت خطبته نافعه.
قالوا: ولنا زياد وعبيد الله بن زياد، وكانا غنيين في صحة المعاني، وجودة اللفظ، ولهما
كلام كثير محفوظ.
قالوا: ومن خطبائنا سليمان بن عبد الملك والوليد بن يزيد بن عبد الملك.
ومن خطبائنا ونساكنا يزيد بن الوليد الناقص. قال عيسى بن حاضر: قلت لعمرو بن
عبيد: ما قولك في عمر بن عبد العزيز؟ فكلح (1)، ثم صرف وجهه عني. قلت: فما قولك في يزيد الناقص؟ فقال: أو الكامل، قال بالعدل، وعمل بالعدل، وبذل نفسه وقتل
ابن عمه في طاعة ربه، وكان نكالا لأهله، ونقص من أعطياتهم ما زادته الجبابرة، وأظهر
البراءة من آبائه، وجعل في عهده شرطا ولم يجعله جزما، لا والله لكأنه ينطق عن لسان
أبي سعيد - يريد الحسن البصري - قال: وكان الحسن من أنطق الناس.
قالوا: وقد قرئ في الكتب القديمة: يا مبذر الكنوز، يا ساجدا بالأسحار، كانت
ولايتك رحمة بهم، وحجة عليهم. قالوا: هو يزيد بن الوليد.
ومن خطبائنا ثم من ولد سعيد بن العاص عمرو بن خولة، كان ناسبا فصيحا خطيبا.
وقال ابن عائشة الأكبر: ما شهد خطيبا قط إلا ولجلج هيبة له ومعرفة بانتقاده.
ومن خطبائنا عبد الله بن عامر، وعبد الأعلى بن عبد الله بن عامر، وكانا من أكرم
الناس، وأبين الناس، كان مسلمة بن عبد الملك يقول: إني لأنحي كور عمامتي على أذني
لأسمع كلام عبد الأعلى.

(1) كلح، كمنع: كشر في عبوس.
262

وكانوا يقولون: أشبه قريش نعمة وجهارة واقتدارا وبيانا بعمرو بن سعيد
عبد الأعلى بن عبد الله.
قالوا: ومن خطبائنا ورجالنا الوليد بن عبد الملك، وهو الذي كان يقال له فحل
بني مروان، كان يركب معه ستون رجلا لصلبه.
ومن ذوي آدابنا وعلمائنا وأصحاب الاخبار ورواية الاشعار والأنساب بشر بن مروان
أمير العراق.
قالوا: ونحن أكثر نساكا منكم، منا معاوية بن يزيد بن معاوية، وهو الذي
قيل له في مرضه الذي مات فيه: لو أقمت للناس ولى عهد؟ قال: ومن جعل لي هذا العهد
في أعناق الناس؟ والله لولا خوفي الفتنة لما أقمت عليها طرفة عين، والله لا أذهب بمرارتها،
وتذهبون بحلاوتها، فقالت له أمه: لوددت أنك حيضة، قال: أنا والله وددت ذلك.
قالوا: ومنا سليمان بن عبد الملك الذي هدم الديماس (1) ورد المسيرين، وأخرج
المسجونين، وترك القريب. واختار عمر بن عبد العزيز، وكان سليمان جوادا خطيبا
جميلا صاحب سلامة ودعة وحب للعافية وقرب من الناس، حتى سمى المهدي، وقيلت
الاشعار في ذلك.
قالوا: ولنا عمر بن عبد العزيز، شبه عمر بن الخطاب، قد ولده عمر، وباسمه سمي،
وهو أشج قريش المذكور في الآثار المنقولة في الكتب، العدل في أشد الزمان، وظلف (2)
نفسه بعد اعتياد النعم، حتى صار مثلا ومفخرا. وقيل للحسن: أما رويت أن رسول الله
صلى الله عليه وآله قال: لا يزداد الزمان إلا شدة، والناس إلا شحا، ولا تقوم
الساعة إلا على شرار الخلق! قال: بلى، قيل: فما بال عمر بن عبد العزيز وعدله

(1) الديماس: سجن كان للحجاج.
(2) ظلف نفسه: منعها.
263

وسيرته! فقال لا بد للناس من متنفس. وكان مذكورا مع الخطباء، ومع النساك،
ومع الفقهاء.
قالوا: ولنا ابنه عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز، كان ناسكا زكيا طاهرا، وكان
من أتقى الناس وأحسنهم معونة لأبيه، وكان كثيرا ما يعظ أباه وينهاه.
قالوا: ولنا من لا نظير له في جميع أموره، وهو صاحب الأعوص، إسماعيل بن أمية
ابن عمرو بن سعيد بن العاص، وهو الذي قال فيه عمر بن عبد العزيز: لو كان إلي من
الامر شئ لجعلتها شورى بين القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وصاحب الأعوص.
قالوا: ومن نساكنا أبو حراب من بنى أمية الصغرى، قتله داود بن علي، ومن
نساكنا يزيد بن محمد بن مروان، كان لا يهدب (1) ثوبا ولا يصبغه، ولا يتخلق
بخلوق (2)، ولا اختار طعاما على طعام، ما أطعم أكله، وكان يكره التكلف، وينهى عنه.
قالوا: ومن نساكنا أبو بكر بن عبد العزيز بن مروان، أراد عمر أخوه أن يجعله ولي
عهده لما رأى من فضله وزهده، فسما فيهما جميعا.
ومن نساكنا عبد الرحمن بن أبان بن عثمان بن عفان، كان يصلى كل يوم ألف
ركعة، وكان كثير الصدقة، وكان إذا تصدق بصدقه قال: اللهم إن هذا لوجهك، فخفف
عنى الموت. فانطلق حاجا، ثم تصبح بالنوم فذهبوا ينبهونه للرحيل، فوجدوه ميتا،
فأقاموا عليه المأتم بالمدينة، وجاء أشعب فدخل إلى المأتم وعلى رأسه كبة من طين،
فالتدم (3) مع النساء، وكان إليه محسنا.
ومن نساكنا عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان.

(1) يهدب: يقطع.
(2) الخلوق: الطيب.
(3) التدم مع النساء: ضرب صدره معهن في النياحة.
264

قالوا: فنحن نعد من الصلاح والفضل ما سمعتموه، وما لم نذكره أكثر، وأنتم تقولون:
أمية هي الشجرة الملعونة في القرآن، وزعمتم أن الشجرة الخبيثة لا تثمر الطيب،
كما أن الطيب لا يثمر الخبيث، فإن كان الامر كما تقولون، فعثمان بن عفان ثمرة خبيثة.
وينبغي أن يكون النبي صلى الله عليه وآله دفع ابنتيه إلى خبيث، وكذلك يزيد بن أبي
سفيان صاحب مقدمة أبى بكر الصديق على جيوش الشام، وينبغي لأبي العاص بن
الربيع زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله أن يكون كذلك، وينبغي لمحمد
بن عبد الله المدبج أن يكون كذلك، وإن ولدته فاطمة عليها السلام، لأنه من بني أمية، وكذلك عبد الله بن عثمان بن عفان سبط رسول الله صلى الله عليه وآله، الذي مات
بعد أن شدن (1) ونقر الديك عينه، فمات لأنه من بنى أمية، وكذلك ينبغي أن
يكون عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية وإن كان النبي صلى الله عليه وآله ولاه
مكة أم القرى وقبلة الاسلام، مع قوله عليه السلام " فتيان أضن بهما عن النار: عتاب ابن أسيد وجبير بن مطعم ". وكذلك ينبغي أن يكون عمر بن عبد العزيز شبيه عمر بن
الخطاب كذلك، وكذلك معاوية بن يزيد بن معاوية، وكذلك يزيد الناقص،
وينبغي ألا يكون النبي صلى الله عليه وسلم عد عثمان في العشرة الذين بشرهم بالجنة،
وينبغي أن يكون خالد بن سعيد بن العاص شهيد يوم مرج الصفر (2) والحبيس في
سبيل الله، ووالي النبي صلى الله عليه وسلم على اليمن، ووالى أبى بكر على جميع أجناد
الشام، ورابع أربعة في الاسلام، والمهاجر إلى أرض الحبشة كذلك، وكذلك أبان
بن سعيد بن العاص المهاجر إلى المدينة، والقديم في الاسلام، والحبيس على الجهاد، ويجب
أن يكون ملعونا خبيثا، وكذلك أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وهو بدري من
المهاجرين الأولين، وكذلك أمامة بنت أبي العاص بن الربيع، وأمها زينب بنت

(1) شدن: قوي وترعرع، وأصله في الظباء.
(2) مرج الصفر: موضع.
265

رسول الله صلى الله عليه وآله، وكذلك أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وكان النبي صلى
الله عليه وآله يخرجها من المغازي، ويضرب لها بسهم، ويصافحها، وكذلك فاطمة بنت أبي
معيط، وهي من مهاجرة الحبشة.
قالوا: ومما نفخر به وليس لبني هاشم مثله، أن منا رجلا ولي أربعين سنة منها عشرون
سنة خليفة، وهو معاوية بن أبي سفيان. ولنا أربعة أخوة خلفاء: الوليد، وسليمان،
وهشام، بنو عبد الملك، وليس لكم ويزيد، إلا ثلاثة أخوة: محمد، وعبد الله، وأبي إسحاق
أولاد هارون.
قالوا: ومنا رجل ولده سبعة من الخلفاء وهو عبد الله بن يزيد بن عبد الملك بن
مروان، أبوه يزيد بن عاتكة خليفة، وجده عبد الملك خليفة، وأبو جده مروان
ابن الحكم خليفة، وجده من قبل عاتكة ابنة يزيد بن معاوية أبوها يزيد بن معاوية وهو خليفة،
ومعاوية بن أبي سفيان وهو خليفة، فهؤلاء خمسة، وأم عبد الله هذا عاتكة بنت عبد الله
بن عثمان بن عفان، وحفصة بنت عبد الله بن عمر بن الخطاب، فهذان خليفتان، فهذه
سبعة من الخلفاء ولدوا هذا الرجل.
قالوا: ومنا امرأة أبوها خليفة، وجدها خليفة، وأبنها خليفة، وأخوها خليفة، وبعلها
خليفة، فهؤلاء خمسة، وهي عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، أبوها يزيد بن
معاوية خليفة، وجدها معاوية بن أبي سفيان خليفة، وابنها يزيد بن عبد الملك بن
مروان خليفة، وأخوها معاوية بن يزيد خليفة، وبعلها عبد الملك بن مروان خليفة.
قالوا: ومن ولد المدبج محمد بن عبد الله الأصغر امرأة ولدها النبي صلى الله عليه وآله
وأبو بكر وعمر وعثمان وعلى وطلحة والزبير وهي عائشة بنت محمد بن عبد الله بن عمر
بن عثمان بن عفان، وأمها خديجة بنت عثمان بن عروة بن الزبير، وأم عروة أسماء
ذات النطاقين بنت أبي بكر الصديق، وأم محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان - وهو
266

المدبج - فاطمة بنت الحسين بن علي عليه السلام، وأم الحسين بن علي عليه السلام فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله، وأم فاطمة بنت الحسين بن علي عليهما السلام
أم إسحاق بنت طلحة بن عبد الله، وأم عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان ابنة
عبد الله بن عمر بن الخطاب.
قالوا: ولنا في الجمال والحسن ما ليس لكم، منا المدبج، والديباج، قيل ذلك لجماله.
ومنا المطرف، ومنا الأرجوان، فالمطرف وهو عبد الله بن عمرو بن عثمان سمي
المطرف لجماله، وفيه يقول الفرزدق:
نما الفاروق إنك وابن أروى * أبوك فأنت منصدع النهار
والمدبج هو الديباج، كان أطول الناس قياما في الصلاة، وهلك في
سجن المنصور
قالوا: ومنا ابن الخلائف الأربعة، دعي بذلك وشهر به، وهو المؤمل بن العباس
ابن الوليد بن عبد الملك، كان هو وأخوه الحارث ابني العباس بن الوليد من الفجاءة
بنت قطري بن الفجاءة، إمام الخوارج، وكانت سبيت فوقعت إليه، فلما قام عمر بن
عبد العزيز أتت وجوه بني مازن وفيهم حاجب بن ذبيان المازني الشاعر،
فقال حاجب:
أتيناك زوارا ووفدا إلى التي * أضاءت فلا يخفى على الناس نورها
أبوها عميد الحي جمعا وأمها * من الحنظليات الكرام حجورها
فإن تك صارت حين صارت فإنها * إلى نسب زاك كرام نفيرها
فبعث عمر بن عبد العزيز إلى العباس بن الوليد إما أن تردها إلى أهلها، وإما أن
تزوجها، فقال قائل ذات يوم للمؤمل: يا بن الخلائف الأربعة، قال: ويلك من الرابع!
267

قال: قطري، فأما الثلاثة فالوليد وعبد الملك ومروان، وأما قطري فبويع بالخلافة،
وفيه يقول الشاعر:
* وأبو نعامة سيد الكفار *
قالوا: ومن أين صار محمد بن علي بن عبد الله بن العباس أحق بالدعوة والخلافة
من سائر إخوته! ومن أين كان له أن يضعها في بيته دون أخوته! وكيف صار بنو الأخ
أحق بها من الأعمام!
وقالوا: إن يكن هذا الامر إنما يستحق بالميراث، فالأقرب إلى العباس أحق،
وإن كان بالسن والتجربة فالعمومة بذلك أولى.
قالوا: فقد ذكرنا جملا من حال رجالنا في الاسلام، وأما الجاهلية فلنا الأعياص
والعنابس (1).
ولنا ذو العصابة أبو أحيحة سعيد بن العاص كان إذا اعتم لم يعتم (2) بمكة أحد،
ولنا حرب بن أمية رئيس يوم الفجار، ولنا أبو سفيان بن حرب رئيس أحد والخندق،
وسيد قريش كلها في زمانه.
وقال أبو الجهم بن حذيفة العدوي لعمر حين رأى العباس وأبا سفيان على فراشه
دون الناس: ما نرانا نستريح من بني عبد مناف على حال! قال عمر: بئس أخو العشيرة
أنت! هذا عم رسول الله صلى الله عليه وآله، وهذا سيد قريش.

(1) في الأغاني 1: 14 (طبعة دار الكتب) بسنده عن الزبير بن بكار عن شيوخه: " الأعياص:
العاص وأبو العاص والعيص وأبو العيص والعويص، ومنهم العنابس، وهم: حرب وأبو حرب وسفيان
وأبو سفيان وعمرو وأبو عمرو، وإنما سموا العنابس، لأنهم ثبتوا مع أخيهم حرب بن أمية بعكاظ،
وعقلوا أنفسهم وقاتلوا قتالا شديدا، فشبهوا بالأسد، والأسد يقال لها: العنابس، واحدها عنبسة ".
(2) اعتم: أرخى عمامته.
268

قالوا: ولنا عتبة بن ربيعة، ساد مملقا، ولا يكون السيد إلا مترفا، لولا ما رأوا عنده
من البراعة والنبل والكمال. وهو الذي لما تحاكمت بجيلة وكلب في منافرة جرير
والفرافصة، وتراهنوا بسوق عكاظ، وصنعوا الرهن على يده دون جميع من شهد على
ذلك المشهد، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله، ونظر إلى قريش مقبلة يوم بدر: " إن
يكن منهم عند أحد خير فعند صاحب الجمل الأحمر "، وما ظنك بشيخ طلبوا له من
جميع العسكر عند المبارزة بيضة فلم يقدروا على بيضة يدخل رأسه فيها، وقد
قال الشاعر:
* وأنا أناس يملأ البيض هامنا *
قالوا: وأمية الأكبر صنفان: الأعياص والعنابس، قال الشاعر:
من الأعياص أو من آل حرب * أغر كغرة الفرس الجواد (1)
سموا بذلك في حرب الفجار حين حفروا لأرجلهم الحفائر وثبتوا فيها، وقالوا:
نموت جميعا أو نظفر. وإنما سموا بالعنابس لأنها أسماء الأسود، وإنما سموا الأعياص
لأنها أسماء الأصول، فالعنابس: حرب وسفيان وأبو سفيان وعمرو، والأعياص: العيص،
وأبو العيص، والعاص، وأبو العاص وأبو عمرو، ولم يعقب من العنابس إلا حرب، وما عقب
من الأعياص إلا العيص، ولذلك كان معاوية يشكو القلة.
قالوا: وليس لبني هاشم والمطلب مثل هذه القسمة، ولا مثل هذا اللقب المشهور.
وهذا ما قالته أمية عن نفسها.

(1) من أبيات في الأغاني 1: 14 - 16، ونسبها إلى عبد الله بن فضالة الأسدي.
269

[ذكر الجواب عما فخرت به بنو أمية]
ونحن نذكر ما أجاب به أبو عثمان عن كلامهم، ونضيف إليه من قبلنا أمورا
لم يذكرها، فنقول: قالت هاشم: أما ما ذكرتم من الدهاء والمكر فإن ذلك من أسماء
فجار العقلاء، وليس من أسماء أهل الصواب في الرأي من العقلاء والأبرار، وقد بلغ
أبو بكر وعمر من التدبير وصواب الرأي، والخبرة بالأمور العامة، وليس من أوصافهما
ولا من أسمائهما أن يقال: كانا داهيين، ولا كانا مكيرين. وما عامل معاوية وعمرو
بن العاص عليا عليه السلام قط بمعاملة إلا وكان علي عليه السلام أعلم بها منهما،
ولكن الرجل الذي يحارب ولا يستعمل إلا ما يحل له أقل مذاهب في وجوه الحيل
والتدبير من الرجل الذي يستعمل ما يحل وما لا يحل، وكذلك من حدث وأخبر،
ألا ترى أن الكذاب ليس لكذبه غاية، ولا لما يولد ويصنع نهاية، والصدوق إنما
يحدث عن شئ معروف، ومعنى محدود! ويدل على ما قلنا أنكم عددتم أربعة
في الدهاء، وليس واحد منهم عند المسلمين في طريق المتقين، ولو كان الدهاء مرتبة
والمكر منزلة لكان تقدم هؤلاء الجميع السابقين الأولين عيبا شديدا في السابقين
الأولين، ولو أن أنسانا أراد أن يمدح أبا بكر وعمر وعثمان وعليا ثم قال: الدهاة أربعة،
وعدهم، لكان قد قال قولا مرغوبا عنه، لان الدهاء والمكر ليس من صفات الصالحين،
وإن علموا من غامض الأمور ما يجهله جميع العقلاء، ألا ترى أنه قد يحسن أن يقال:
كان رسول الله صلى الله عليه وآله أكرم الناس، وأحلم الناس، وأجود الناس،
وأشجع الناس، ولا يجوز أن يقال: كان أمكر الناس، وأدهى الناس، وإن علمنا أن علمه
قد أحاط بكل مكر وخديعة، وبكل أدب ومكيدة!
وأما ما ذكرتم من جود سعيد بن العاص وعبد الله بن عامر، فأين أنتم من عبد الله
بن جعفر، وعبيد الله بن العباس، والحسن بن علي وأين أنتم من جود خلفاء بني
270

العباس، كمحمد المهدي، وهارون، ومحمد بن زبيدة، وعبد الله المأمون، وجعفر المقتدر!
بل لعل جود بعض صنائع هؤلاء كبني برمك وبنى الفرات، أعظم من جود الرجلين
اللذين ذكرتموهما، بل من جميع ما جاء به خلفاء بني أمية.
وأما ما ذكرتم من حلم معاوية فلو شئنا أن نجعل جميع ساداتنا حلماء لكانوا
محتملين لذلك، ولكن الوجه في هذا ألا يشتق للرجل اسم إلا من أشرف أعماله
وأكرم أخلاقه، وإلا أن يتبين بذلك عند أصحابه حتى يصير بذلك اسما يسمى به، ويصير
معروفا به، كما عرف الأحنف بالحلم، وكما عرف حاتم بالجود، وكذلك هرم، قالوا:
هرم الجواد، ولو قلتم: كان أبو العاص بن أمية أحلم الناس، لقلنا: ولعله يكون قد كان
حليما، ولكن ليس كل حلم يكون صاحبه به مذكورا، ومن أشكاله بائنا.
وإنكم لتظلمون خصومكم في تسميتكم معاوية بالحلم، فكيف من دونه، لان
العرب تقول: أحلم الحلمين ألا يتعرض ثم يحلم، ولم يكن في الأرض رجل أكثر
تعرضا من معاوية، والتعرض هو السفه، فإن ادعيتم أن الاخبار التي جاءت في تعرضه
كلها باطلة، فإن لقائل أن يقول: وكل خبر رويتموه في حلمه باطل، ولقد شهر
الأحنف بالحلم، ولكنه تكلم بكلام كثير يجرح في الحلم ويثلم في العرض (1)،
ولا يستطيع أحد أن يحكي عن العباس بن عبد المطلب ولا عن الحسن بن علي بن أبي
طالب لفظا فاحشا، ولا كلمة ساقطة، ولا حرفا واحدا مما يحكى عن الأحنف ومعاوية.
وكان المأمون أحلم الناس، وكان عبد الله السفاح أحلم الناس. وبعد فمن يستطيع
أن يصف هاشما أو عبد المطلب بالحلم دون غيره من الأخلاق والأفعال حتى يسميه بذلك،
ويخص به دون كل شئ فيه من الفضل! وكيف وأخلاقهم متساوية، وكلها في الغاية!
ولو أن رجلا كان أظهر الناس زهدا، وأصدقهم للعدو لقاء، وأصدق الناس لسانا،

(1) يثلم في العرض، أي ينال منه ويقع فيه.
271

وأجود الناس كفا، وأفصحهم منطقا، وكان بكل ذلك مشهورا، لمنع بعض ذلك من
بعض، ولما كان له اسم السيد المقدم، والكامل المعظم، ولم يكن الجواد أغلب على
اسمه، ولا البيان ولا النجدة.
وأما ما ذكرتم من الخطابة والفصاحة والسؤدد والعلم بالأدب والنسب، فقد علم الناس
أن بني هاشم في الجملة أرق ألسنة من بنى أمية، كان أبو طالب والزبير شاعرين، وكان
أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب شاعرا، ولم يكن من أولاد أمية بن عبد شمس
لصلبه شاعر، ولم يكن في أولاد أمية إلا أن تعدوا في الاسلام العرجي من ولد عثمان
بن عفان، وعبد الرحمن بن الحكم، فنعد نحن الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب،
وعبد الله بن معاوية بن جعفر، ولنا من المتأخرين محمد بن الحسين بن موسى المعروف
بالرضي، وأخوه أبو القاسم، ولنا الحماني، وعلي بن محمد صاحب الزنج، وكان إبراهيم
ابن الحسن صاحب باخمرى (1) أديبا شاعرا فاضلا، ولنا محمد بن علي بن صالح الذي
خرج في أيام المتوكل.
قال أبو الفرج الأصفهاني: كان من فتيان آل أبي طالب وفتاكهم وشجعانهم
وظرافهم وشعرائهم، وإن عددتم الخطابة والبيان والفصاحة، لم تعدوا كعلي بن أبي
طالب عليه السلام، ولا كعبد الله بن العباس، ولنا من الخطباء زيد بن علي بن الحسين،
وعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر، وجعفر بن
الحسين بن الحسن، وداود بن علي بن عبد الله بن العباس، وداود وسليمان ابنا جعفر
بن سليمان.
قالوا: كان جعفر بن الحسين بن الحسن ينازع زيد بن علي بن الحسين في الوصية،

(1) باخمرى: بلدة قرب الكوفة بها قبر إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي.
272

وكان الناس يجتمعون ليستمعوا محاورتهما، وكان سليمان بن جعفر بن سليمان بن علي والي
مكة، فكان أهل مكة يقولون لم يرد علينا أمير إلا وسليمان أبين منه قاعدا، وأخطب
منه قائما. وكان داود إذا خطب اسحنفر (1) فلم يرده شئ.
قالوا: ولنا عبد الملك بن صالح بن علي، كان خطيبا بليغا وسأله الرشيد - وسليمان بن أبي
جعفر وعيسى بن جعفر حاضران - فقال له: كيف رأيت أرض كذا؟ قال:
مسافي ريح، ومنابت شيح. قال: فأرض كذا، قال: هضبات (2) حمر، وربوات (3)
عفر، حتى أتى على جميع ما سأله عنه، فقال عيسى لسليمان: والله ما ينبغي لنا أن نرضى
لأنفسنا بالدون من الكلام.
قالوا: وأما ما ذكرتم من نساك الملوك، فلنا علي بن أبي طالب عليه السلام،
وبزهده وبدينه يضرب المثل، ولنا محمد بن الواثق من خلفاء بنى العباس، وهو الملقب
بالمهتدي، كان يقول: إني لآنف لبني العباس ألا يكون منهم مثل عمر بن عبد العزيز،
فكان مثله وفوقه، ولنا القادر أبو العباس بن إسحاق بن المقتدر، ولنا القائم عبد الله بن
القادر، كانا على قدم عظيمة من الزهد والدين والنسك، وإن عددتم النساك من غير
الملوك فأين أنتم عن علي بن الحسين زين العابدين! وأين أنتم عن علي بن عبد الله بن العباس!
وأين أنتم عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام، الذي كان يقال له: علي
الخير، وعلى الأغر، وعلي العابد، وما أقسم على الله بشئ إلا وأبر قسمه! وأين أنتم عن
موسى بن جعفر بن محمد! وأين أنتم عن علي بن محمد الرضا، لابس الصوف طول عمره، مع
سعة أمواله، وكثرة ضياعه وغلاته!

(1) اسحنفر الرجل في منطقه: مضى فيه.
(2) الهضبات: جمع هضبة، وهي الجبل الطويل الممتنع، ولا يكون ذلك إلا في حمر الجبال.
(3) الربوات، جمع ربوة، وهي أعلى الجبل.
273

وأما ما ذكرتم من الفتوح، فلنا الفتوح المعتصمية التي سارت بها الركبان، وضربت بها
الأمثال، ولنا فتوح الرشيد، ولنا الآثار الشريفة في قتل بابك الخرمي بعد أن دامت
فتنته في دار الاسلام نحو ثلاثين سنة. وإن شئت أن تعد فتوح الطالبيين بإفريقية
ومصر وما ملكوه من مدن الروم والفرنج والجلالقة (1) في سني ملكهم، عددت الكثير
الجم الذي يخرج عن الحصر ويحتاج إلى تاريخ مفرد يشتمل على جلود كثيرة.
فأما الفقه والعلم والتفسير والتأويل فان ذكرتموه لم يكن لكم فيه أحد وكان لنا فيه مثل علي بن أبي طالب عليه السلام، وعبد الله بن العباس، وزيد بن علي، ومحمد بن علي
، ابني علي بن الحسين بن علي، وجعفر بن محمد الذي ملا الدنيا علمه وفقهه. ويقال:
أن أبا حنيفة من تلامذته، وكذلك سفيان الثوري، وحسبك بهما في هذا الباب،
ولذلك نسب سفيان إلى أنه زيدي المذهب، وكذلك أبو حنيفة.
ومن مثل علي بن الحسين زين العابدين! وقال الشافعي في الرسالة في إثبات خبر
الواحد: وجدت علي بن الحسين وهو أفقه أهل المدينة يعول على أخبار الآحاد.
ومن مثل محمد بن الحنفية وابنه أبى هاشم الذي قرر علوم التوحيد والعدل! وقالت
المعتزلة: غلبنا الناس كلهم بأبي هاشم الأول، وأبى هاشم الثاني!
وإن ذكرتم النجدة والبسالة والشجاعة فمن مثل علي بن أبي طالب عليه السلام،
وقد وقع اتفاق أوليائه وأعدائه على أنه أشجع البشر!
ومن مثل حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله! ومن مثل الحسين بن علي عليهما
السلام! قالوا يوم الطف: ما رأينا مكثورا (2) قد أفرد من أخوته وأهله وأنصاره أشجع منه،
كان كالليث المحرب، يحطم الفرسان حطما. وما ظنك برجل أبت نفسه الدنية وأن يعطي

(1) الجلالقة: أهل جلق، وهي دمشق.
(2) المكثور: المغلوب في الكثرة.
274

بيده، فقاتل حتى قتل هو وبنوه وإخوته وبنو عمه بعد بذل الأمان لهم، والتوثقة
بالايمان المغلظة، وهو الذي سن للعرب الاباء. واقتدى بعده أبناء الزبير وبنو المهلب
وغيرهم.
ومن لكم مثل محمد وإبراهيم بن عبد الله! ومن لكم كزيد بن علي، وقد علمتم كلمته
التي قالها حيث خرج من عند هشام: ما أحب الحياة إلا من ذل، فلما بلغت هشاما
قال: خارج ورب الكعبة! فخرج بالسيف، ونهى عن المنكر ودعا إلى إقامة شعائر
الله حتى قتل صابرا محتسبا.
وقد بلغتكم شجاعة أبي إسحاق المعتصم، ووقوفه في مشاهد الحرب بنفسه حتى
فتح الفتوح الجليلة. وبلغتكم شجاعة عبد الله بن علي، وهو الذي أزال ملك بنى
مروان، وشهد الحروب بنفسه، وكذلك صالح بن علي، وهو الذي اتبع مروان بن
محمد إلى مصر حتى قتله.
قالوا: وإن كان الفضل والفخر في تواضع الشريف، وإنصاف السيد، وسجاحة (1)
الخلق ولين الجانب للعشيرة والموالي، فليس لأحد من ذلك ما لبني العباس، ولقد سألنا
طارق بن المبارك - وهو مولى لبني أمية وصنيعة من صنائعهم - فقلنا أي القبيلتين
أشد نخوة وأعظم كبرياء وجبرية، أبنو مروان؟ أم بنو العباس؟ فقال: والله لبنو
مروان في غير دولتهم أعظم كبرياء من بنى العباس في دولتهم، وقد كان أدرك الدولتين،
ولذلك قال شاعرهم:
إذا نابه من عبد شمس رأيته * يتيه فرشحه لكل عظيم

(1) سجاحة الخلق: سهولته ولينه.
275

وإن تاه تياه سواهم فإنما * يتيه لنوك أو يتيه للوم (1)
ومن كلامهم: من لم يكن من بنى أمية تياها فهو دعي.
قالوا: وإن كان الكبر مفخرا يمدح به الرجال ويعد من خصال الشرف والفضل،
فمولانا عمارة بن حمزة أعظم كبرا من كل أموي كان ويكون في الدنيا، وأخباره في
كبره وتيهه مشهورة متعالمة.
قالوا: وإن كان الشرف والفخر في الجمال وفي الكمال وفي البسطة في الجسم وتمام
القوام، فمن كان كالعباس بن عبد المطلب!
قالوا: رأينا العباس يطوف بالبيت وكأنه فسطاط (2) أبيض.
ومن مثل علي بن عبد الله بن العباس وولده، وكان كل واحد منهم إذا قام إلى
جنب أبيه كان رأسه عند شحمه أذنه، وكانوا من أطول الناس، وإنك لتجد ميراث ذلك اليوم في أولادهم.
ثم الذي رواه أصحاب الاخبار وحمال الآثار في عبد المطلب من التمام والقوام والجمال
والبهاء، وما كان من لقب هاشم بالقمر لجماله، ولأنهم يستضيئون برأيه، وكما رواه
الناس أن عبد المطلب ولد عشرة كان الرجل منهم يأكل في المجلس الجذعة (3)
ويشرب الفرق (4)، وترد آنافهم قبل شفاههم، وإن عامر بن مالك لما رآهم يطوفون
بالبيت كأنهم جمال جون (5) قال: بهؤلاء تمنع مكة وتشرف مكة!
وقد سمعتم ما ذكره الناس من جمال السفاح وحسنه، وكذلك المهدي وابنه
هارون الرشيد، وابنه محمد بن زبيدة وكذلك هارون الواثق، ومحمد المنتصر
والزبير المعتز.

(1) ب: " لنول " تصحيف، وصوابه في أ. والنوك: الحمق، واللوم أصله " اللؤم ": بالهمزة،
وخفف للشعر.
(2) الفسطاط: الخيمة.
(3) الجذعة من الضأن: الصغيرة.
(4) الفرق، بكسر فسكون: مكيال بالمدينة، يسع ثلاثة آصع، أو ستة عشر رطلا.
(5) الجون من الإبل والخيل: جمع جون، بفتح فسكون، وهو الأدهم.
276

قالوا: ما رئي في العرب ولا في العجم أحسن صورة منه، وكان المكتفي علي بن
المعتضد بارع الجمال، ولذلك قال الشاعر يضرب المثل به:
والله لا كلمته ولو أنه * كالشمس أو كالبدر أو كالمكتفي
فجعله ثالث القمرين، وكان الحسن بن علي عليه السلام أصبح الناس وجها،
كان يشبه برسول الله صلى الله عليه وآله، وكذلك عبد الله بن الحسن المحض.
قالوا: ولنا ثلاثة في عصر بنو عم، كلهم يسمى عليا، وكلهم كان يصلح للخلافة
بالفقه والنسك والمركب، والرأي، والتجربة، والحال الرفيعة بين الناس: علي بن
الحسين بن علي، وعلي بن عبد الله بن العباس، وعلي بن عبد الله بن جعفر، كل
هؤلاء كان تاما كاملا بارعا جامعا. وكانت لبابة بنت عبد الله بن العباس عند علي بن
عبد الله بن جعفر، قالت: ما رأيته ضاحكا قط ولا قاطبا، ولا قال شيئا احتاج إلى أن يعتذر
منه، ولا ضرب عبدا قط، ولا ملكه أكثر من سنة.
قالوا: وبعد هؤلاء ثلاثة بنو عم، وهم بنو هؤلاء الثلاثة، وكلهم يسمى محمدا، كما أن
كل واحد من أولئك يسمى عليا، وكلهم يصلح للخلافة، بكرم النسب وشرف الخصال:
محمد بن علي بن الحسين بن علي، ومحمد بن علي بن عبد الله بن العباس، ومحمد بن علي
ابن عبد الله بن جعفر.
قالوا: كان محمد بن علي بن الحسين لا يسمع المبتلى الاستعاذة، وكان ينهى الجارية
والغلام أن يقولا للمسكين: يا سائل، وهو سيد فقهاء الحجاز، ومنه ومن ابنه جعفر
تعلم الناس الفقه، وهو الملقب بالباقر، باقر العلم، لقبه به رسول الله صلى الله عليه وآله
ولم يخلق بعد، وبشر به، ووعد جابر بن عبد الله برؤيته، وقال: ستراه طفلا، فإذا
رأيته فأبلغه عني السلام، فعاش جابر حتى رآه، وقال له ما وصي به.
277

وتوعد خالد بن عبد الله القسري هشام بن عبد الملك في رسالة له إليه، وقال: والله
إني لأعرف رجلا حجازي الأصل، شآمي الدار، عراقي الهوى، يريد محمد بن علي
بن عبد الله بن العباس.
قالوا: وأما ما ذكرتم من أمر عاتكة بنت يزيد بن معاوية فإنا نذكر فاطمة بنت رسول
الله صلى الله عليه وآله، وهي سيدة نساء العالمين، وأمها خديجة سيدة نساء العالمين،
وبعلها علي بن أبي طالب سيد المسلمين كافة، وابن عمها جعفر ذو الجناحين، وذو
الهجرتين، وابناها الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وجدهما أبو طالب بن
عبد المطلب أشد الناس عارضة وشكيمة، وأجودهم رأيا، وأشهمهم نفسا، وأمنعهم لما
وراء ظهره، منع النبي صلى الله عليه وآله من جميع قريش، ثم بني هاشم وبني المطلب،
ثم منع بني إخوانه من بنى أخواته من بنى مخزوم الذين أسلموا، وهو أحد الذين سادوا
مع الإقلال، وهو مع هذا شاعر خطيب. ومن يطيق أن يفاخر بنى أبى طالب، وأمهم
فاطمة بنت أسد بن هاشم، وهي أول هاشمية ولدت لهاشمي، وهي التي ربي رسول الله
في حجرها، وكان يدعوها أمي، ونزل في قبرها، وكان يوجب حقها كما يوجب حق
الام! من يستطيع أن يسامي رجالا ولدهم هاشم مرتين من قبل أبيهم ومن قبل أمهم.
قالوا: ومن العجائب أنها ولدت أربعة كل منهم أسن من الاخر بعشر سنين: طالب،
وعقيل، وجعفر، وعلى.
ومن الذي يعد من قريش أو من غيرهم ما يعده الطالبيون عشرة في نسق، كل واحد
منهم عالم زاهد ناسك شجاع جواد طاهر زاك، فمنهم خلفاء ومنهم مرشحون:
ابن ابن ابن ابن، هكذا إلى عشرة، وهم الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن
جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي عليهم السلام، وهذا لم يتفق لبيت من بيوت
العرب ولا من بيوت العجم.
278

قالوا: فإن فخرتم بأن منكم اثنتين من أمهات المؤمنين: أم حبيبة بنت أبي سفيان
وزينب بنت جحش، فزينب امرأة من بنى أسد بن خزيمة، ادعيتموه بالحلف (1)
لا بالولادة، وفينا رجل ولدته أمان من أمهات المؤمنين، محمد بن عبد الله بن الحسن
المحض، ولدته خديجة أم المؤمنين، وأم سلمة أم المؤمنين، وولدته مع ذلك فاطمة
بنت الحسين بن علي، وفاطمة سيدة نساء العالمين ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله،
وفاطمة بنت أسد بن هاشم، وكان يقال خير النساء الفواطم والعواتك
وهن أمهاته.
قالوا: ونحن إذا ذكرنا إنسانا فقبل أن نعد من ولده نأتى به شريفا في نفسه، مذكورا
بما فيه دون ما في غيره، قلتم: لنا عاتكة بنت يزيد، وعاتكة في نفسها
كامرأة من عرض قريش، ليس فيها في نفسها خاصة أمر تستوجب به المفاخرة. ونحن
نقول: منا فاطمة، وفاطمة سيدة نساء العالمين، وكذلك أمها خديجة الكبرى، وإنما
تذكران مع مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم اللتين ذكرهما النبي صلى الله عليه وآله
وذكر إحداهما القرآن، وهن المذكورات من جميع نساء العالم من العرب والعجم.
وقلتم لنا: عبد الله بن يزيد بن عبد الملك بن مروان ولده سبعة من الخلفاء، وعبد الله
هذا في نفسه ليس هناك، ونحن نقول: منا محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن
عبد المطلب بن هاشم، كلهم سيد، وأمه العالية بنت عبيد الله بن العباس، وإخوته داود
وصالح وسليمان وعبد الله رجال كلهم أغر محجل، ثم ولدت الرؤساء إبراهيم الامام وأخويه
أبا العباس وأبا جعفر، ومن جاء بعدهما من خلفاء بنى العباس.
وقلتم: منا عبد الله بن يزيد، وقلنا: منا الحسين بن علي سيد شباب أهل الجنة،

(1) الحلف، بكسر الحاء وسكون اللام: العهد بين القوم.
279

وأولى الناس بكل مكرمة، وأطهرهم طهارة، مع النجدة والبصيرة والفقه والصبر والحلم
والأنف (1)، وأخوه الحسن سيد شباب أهل الجنة، وأرفع الناس درجة، وأشبههم
برسول الله خلقا وخلقا، وأبوهما علي بن أبي طالب.
قال شيخنا أبو عثمان: وهو الذي ترك وصفه أبلغ في وصفه، إذ كان هذا الكتاب
يعجز عنه، ويحتاج إلى كتاب يفرد له، وعمهما ذو الجناحين، وأمهما فاطمة وجدتهما
خديجة، وأخوالهما القاسم وعبد الله وإبراهيم، وخالاتهما زينب ورقية وأم كلثوم،
وجدتاهما آمنة بنت وهب والدة رسول الله صلى الله عليه وآله، وفاطمة بنت أسد بن
هاشم، وجدهما رسول الله صلى الله عليه وآله المخرس لكل فاخر، والغالب لكل
منافر، قل ما شئت، واذكر أي باب شئت من الفضل، فإنك تجدهم قد حووه.
وقالت أمية: نحن لا ننكر فخر بني هاشم وفضلهم في الاسلام، ولكن لا فرق
بيننا في الجاهلية، إذ كان الناس في ذلك الدهر لا يقولون: هاشم وعبد شمس، ولا
هاشم وأمية، بل يقولون: كانوا لا يزيدون في الجميع على عبد مناف، حتى كان
أيام تميزهم في أمر علي وعثمان في الشورى، ثم ما كان في أيام تحزبهم وحربهم مع
علي ومعاوية.
ومن تأمل الاخبار والآثار علم أنه ما كان يذكر فرق بين البيتين، وإنما يقال: بنو
عبد مناف، ألا ترى أن أبا قحافة سمع رجة شديدة، وأصواتا مرتفعة، وهو يومئذ شيخ
كبير مكفوف، فقال: ما هذا؟ قالوا: قبض رسول الله صلى الله عليه وآله، قال: فما صنعت
قريش؟ قالوا: ولوا الامر ابنك، قال: ورضيت بذلك بنو عبد مناف؟ قالوا: نعم. قال:
ورضى بذلك بنو المغيرة؟ قالوا: نعم، قال: فلا مانع لما أعطى الله ولا معطي

(1) الانف بفتحتين، مثل الأنفة، ومعناهما الشمم والإباء.
280

لما منع! ولم يقل: أرضي بذلك بنو عبد شمس؟ وإنما جمعهم على عبد مناف لأنه كذلك
كان يقال.
وهكذا قال أبو سفيان بن حرب لعلى عليه السلام، وقد سخط إمارة أبى بكر:
أرضيتم يا بنى عبد مناف أن تلي عليكم تيم! ولم يقل: أرضيتم يا بني هاشم؟ وكذلك قال
خالد بن سعيد بن العاص حين قدم من اليمن وقد استخلف أبو بكر: أرضيتم معشر
بنى عبد مناف أن تلى عليكم تيم؟
قالوا: وكيف يفرقون بين هاشم وعبد شمس، وهما أخوان لأب وأم! ويدل على
أن أمرهما كان واحدا، وأن اسمهم كان جامعا، قول النبي صلى الله عليه وآله وصنيعه
حين قال: " منا خير فارس في العرب، عكاشة بن محصن " وكان أسديا، وكان
حليفا لبني عبد شمس، وكل من شهد بدرا من بنى كبير بن داود كانوا حلفاء بنى عبد
شمس، فقال ضرار بن الأزور الأسدي: ذاك منا يا رسول الله، فقال عليه السلام: " بل
هو منا بالحلف "، فجعل حليف بنى عبد شمس حليف بني هاشم، وهذا بين لا يحتاج
صاحب هذه الصفة إلى أكثر منه.
قالوا: ولهذا نكح هذا البيت في هذا البيت، فكيف صرنا نتزوج بنات النبي
وبنات بني هاشم على وجه الدهر إلا ونحن أكفاء، وأمرنا واحد! وقد سمعتم إسحاق بن
عيسى يقول لمحمد بن الحارث أحد بنى عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد لولا حي أكرمهم
الله بالرسالة، لزعمت أنك أشرف الناس، أفلا ترى أنه لم يقدم علينا رهطه
إلا بالرسالة!
قالت هاشم: قلتم: لولا أنا كنا أكفاءكم لما أنكحتمونا نساءكم، فقد نجد القوم يستوون
في حسب الأب، ويفترقون في حسب الأنفس، وربما استووا في حسب أبي
281

القبيلة كاستواء قريش في النضر بن كنانة، ويختلفون كاختلاف كعب بن لؤي، وعامر
بن لؤي، وكاختلاف ابن قصي وعبد مناف وعبد الدار وعبد العزى، والقوم قد يساوي
بعضهم بعضا في وجوه، ويفارقونهم في وجوه، ويستجيزون بذلك القدر مناكحتهم،
وإن كانت معاني الشرف لم تتكامل فيهم كما تكاملت فيمن زوجهم، وقد يزوج السيد
ابن أخيه وهو حارض ابن حارض (1) على وجه صلة الرحم، فيكون ذلك جائزا عندهم،
ولوجوه في هذا الباب كثيرة، فليس لكم أن تزعموا أنكم أكفاؤنا من كل وجه، وإن
كنا قد زوجناكم وساويناكم في بعض الاباء والأجداد. وبعد فأنتم في الجاهلية
والاسلام قد أخرجتم بناتكم إلى سائر قريش وإلى سائر العرب، أفتزعمون أنهم
أكفاؤكم عينا بعين! وأما قولكم: إن الحيين كان يقال لهما عبد مناف فقد كان يقال لهما
أيضا مع غيرهما من قريش وبنيها: بنو النضر. وقال الله تعالى: " وأنذر عشيرتك
الأقربين " (2)، فلم يدع النبي صلى الله عليه وآله أحدا من بنى عبد شمس، وكانت عشيرته
الأقربون بني هاشم وبني المطلب، وعشيرته فوق ذاك عبد مناف وفوق ذلك قصي، ومن
ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله لما أتي بعبد الله بن عامر بن كريز بن حبيب بن عبد شمس - وأم
عامر بن كريز أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم - قال عليه السلام: هذا أشبه
بنا منه بكم، ثم تفل في فيه فازدرده، فقال: أرجو أن تكون مشفيا، فكان كما قال.
ففي قوله: " هو أشبه بنا منه بكم " خصلتان: إحداهما أن عبد شمس وهاشما لو كانا شيئا واحدا
كما أن عبد المطلب شئ واحد لما قال: " هو بنا أشبه به منكم "، والأخرى أن في هذا
القول تفضيلا لبني هاشم على بنى عبد شمس، ألا ترون أنه خرج خطيبا جوادا نبيلا وسيدا
مشفيا، له مصانع وآثار كريمة، لأنه قال: " وهو بنا أشبه به منكم ". وأتي عبد المطلب

(1) الحارض: الرجل الرذل الفاسد.
(2) سورة الشعراء 214.
282

بعامر بن كريز وهو ابن ابنته أم حكيم البيضاء فتأمله، وقال: وعظام هاشم ما ولدنا
ولدا أحرض منه، فكان كما قال عبد الله يحمق، ولم يقل: " وعظام عبد مناف " لان
شرف جده عبد مناف له فيه شركاء، وشرف هاشم أبيه خالص له.
فأما ما ذكرتم من قول أبي سفيان وخالد بن سعيد: أرضيتم معشر بنى عبد مناف
أن تلي عليكم تيم! فإن هذه الكلمة كلمة تحريض وتهييج، فكان الأبلغ فيما يريد من
اجتماع قلوب الفريقين أن يدعوهم لأب، وأن يجمعهم على واحد، وإن كانا مفترقين،
وهذا المذهب سديد، وهذا التدبير صحيح.
قال معاوية بن صعصعة للأشهب بن رميلة، وهو نهشلي وللفرزدق بن غالب،
وهو مجاشعي ولمسكن بن أنيف وهو عبدلي: أرضيتم معشر بنى دارم أن يسب
آباءكم ويشتم أعراضكم كلب بنى كليب! وإنما نسبهم إلى دارم الأب الأكبر المشتمل
على آباء قبائلهم ليستووا في الحمية ويتفقوا على الانف، وهذا في مثل هذا الموضع
تدبير صحيح.
قالوا: ويدل على ما قلنا ما قاله الشعراء في هذا الباب قبل مقتل عثمان وقبل صفين،
قال حسان بن ثابت لأبي سفيان الحارث بن عبد المطلب:
وأنت منوط نيط (1) في آل هاشم * كما نيط خلف الراكب القدح الفرد
لم يقل: " نيط في آل عبد مناف ".
وقال آخر:
ما أنت من هاشم في بيت مكرمة * ولا بني جمح الخضر الجلاعيد (2)

(1) ب: " ينط " ريف.
(2) الجلاعيد: الصلاب الشداد.
283

ولم يقل: " ما أنت من آل عبد مناف "، وكيف يقول هذا، وقد علم الناس
أن عبد مناف ولد أربعة: هاشما والمطلب وعبد شمس ونوفلا، وأن هاشما والمطلب كانا
يدا واحدة، وأن عبد شمس ونوفلا كانا يدا واحدة، وكان مما بطأ ببني نوفل عن
الاسلام إبطاء إخوتهم من بنى عبد شمس، وكان مما حث بني المطلب على الاسلام
فضل محبتهم لبني هاشم، لان أمر النبي صلى الله عليه وآله كان بينا، وإنما كانوا
يمتنعون منه من طريق الحسد والبغضة، فمن لم يكن فيه هذه العلة لم يكن له دون
الاسلام مانع، ولذلك لم يصحب النبي صلى الله عليه وآله من بنى نوفل أحد فضلا
أن يشهدوا معه المشاهد الكريمة، وإنما صحبه حلفاؤهم كيعلى بن منبه وعتبة بن غزوان
وغيرهما، وبنو الحارث بن المطلب كلهم بدري: عبيد، وطفيل، وحصين، ومن بني المطلب
مسطح بن أثاثة بدري.
وكيف يكون الامر كما قلتم وأبو طالب يقول لمطعم بن عدي بن نوفل في أمر
النبي صلى الله عليه وآله، لما تمالأت قريش عليه:
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا * جزاء مسئ عاجلا غير آجل
أمطعم إما سامني القوم خطة * فإني متى أوكل فلست بآكل
أمطعم لم أخذلك في يوم شدة * ولا مشهد عند الأمور الجلائل
ولقد قسم النبي صلى الله عليه وآله قسمة فجعلها في بني هاشم وبني المطلب، فأتاه
عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وجبير بن مطعم
بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، فقالا له: يا رسول الله، إن قرابتنا منك وقرابة
بني المطلب واحدة، فكيف أعطيتهم دوننا؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله: " إنا لم
نزل وبني المطلب كهاتين "، وشبك بين أصابعه، فكيف تقولون: كنا شيئا واحدا،
وكان الاسم الذي يجمعنا واحدا!
284

ثم نرجع إلى افتخار بني هاشم، قالوا: وإن كان الفخر بالأيد (1) والقوة،
واهتصار (2) الاقران ومباطشة الرجال، فمن أين لكم كمحمد بن الحنفية، وقد سمعتم أخباره
وأنه قبض على درع فاضلة، فجذبها فقطع ذيلها ما استدار منه كله. وسمعتم أيضا حديث
الأيد (3) القوى الذي أرسله ملك الروم إلى معاوية يفخر به على العرب، وأن محمدا
قعد له ليقيمه فلم يستطع، فكأنما يحرك جبلا، وأن الرومي قعد ليقيمه محمد فرفعه
إلى فوق رأسه ثم جلد به الأرض، هذا مع الشجاعة المشهورة، والفقه في الدين، والحلم
والصبر والفصاحة والعلم بالملاحم والاخبار عن الغيوب، حتى ادعي له أنه المهدي، وقد
سمعتم أحاديث أبي إسحاق المعتصم، وأن أحمد بن أبي داود عض ساعده بأسنانه أشد
العض فلم يؤثر فيه، وأنه قال: ما أظن الأسنة ولا السهام تؤثر في جسده، وسمعتم
ما قيل في عبد الكريم المطيع، وأنه جذب ذنب ثور فاستله من بين وركيه.
وإن كان الفخر بالبشر وطلاقة الأوجه وسجاحة الأخلاق، فمن مثل علي بن أبي طالب
عليه السلام وقد بلغ من سجاحة خلقه وطلاقة وجهه أن عيب بالدعابة! ومن الذي يسوى
بين عبد شمس وبين هاشم في ذلك! كان الوليد جبارا، وكان هشام شرس الأخلاق،
وكان مروان بن محمد لا يزال قاطبا عابسا، وكذلك كان يزيد بن الوليد الناقص، وكان
المهدى المنصور أسرى خلق الله وألطفهم خلقا، وكذلك محمد الأمين وأخوه المأمون،
وكان السفاح يضرب به المثل في السرو وسجاحة الخلق.
قالوا: ونحن نعد من رهطنا رجالا لا تعدون أمثالهم أبدا فمنا الامراء بالديلم الناصر
الكبير، وهو الحسن الأطروش بن علي بن الحسن بن عمر بن علي بن عمر الأشرف

(1) الأيد (بفتح فسكون): القود.
(2) اهتصر القرن: جذبه بشدة.
(3) الأيد: الشجاع الشديد.
285

بن زيد العابدين، وهو الذي أسلمت الديلم على يده، والناصر الأصغر وهو أحمد بن يحيى
بن الحسن بن القاسم بن إبراهيم بن طباطبا، وأخوه محمد بن يحيى، وهو الملقب بالمرتضى،
وأبوه يحيى بن الحسن وهو الملقب بالهادي. ومن ولد الناصر الكبير الثائر، وهو جعفر
ابن محمد بن الحسن الناصر الكبير، وهم الامراء بطبرستان وجيلان وجرجان
ومازندران وسائر ممالك الديلم، ملكوا تلك الأصقاع مائة وثلاثين سنة، وضربوا
الدنانير والدراهم بأسمائهم، وخطب لهم على المنابر، وحاربوا الملوك السامانية، وكسروا
جيوشهم، وقتلوا أمراءهم، فهؤلاء واحدهم أعظم كثيرا من ملوك بنى أمية، وأطول
مدة وأعدل وأنصف وأكثر نسكا وأشد حضا على الامر بالمعروف والنهى عن المنكر،
وممن يجرى مجراهم الداعي الأكبر والداعي الأصغر ملكا الديلم، قادا الجيوش.
واصطنعا الصنائع.
قالوا: ولنا ملوك مصر وإفريقية، ملكوا مائتين وسبعين سنة، فتحوا الفتوح
واستردوا ما تغلب عليه الروم من مملكة الاسلام، واصطنعوا الصنائع الجليلة.
ولهم الكتاب والشعراء والامراء والقواد، فأولهم المهدي عبيد الله بن ميمون بن
محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب
وآخرهم العاضد، وهو عبد الله بن الأمير أبى القاسم بن الحافظ أبى الميمون بن
المستعلى بن المستنصر بن الطاهر بن الحاكم بن عبد العزيز بن المعز بن المنصور بن القائم
بن المهدى، فإن افتخرت الأموية بملوكها في الأندلس من ولد هشام بن عبد الملك،
واتصال ملكهم وجعلوهم بإزاء ملوكنا بمصر وإفريقية، قلنا لهم: ألا أنا نحن أزلنا
ملككم بالأندلس، كما أزلنا ملككم بالشام والمشرق كله، لأنه لما ملك قرطبة
286

الظافر من بنى أمية وهو سليمان بن الحكم بن سليمان بن عبد الرحمن الملقب بالناصر،
خرج عليه علي بن حميد بن ميمون بن أحمد بن علي بن عبد الله بن عمر بن إدريس بن
عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام، فقتله، وأزال ملكه.
وملك قرطبه دار ملك بنى أمية، ويلقب بالناصر. ثم قام بعده أخوه القاسم بن حمود،
ويلقب بالمعتلى، فنحن قتلناكم وأزلنا ملككم في المشرق والمغرب، ونحن لكم على
الرصد (1) حيث كنتم، اتبعناكم فقتلناكم وشردناكم كل مشرد، والفخر للغالب على
المغلوب، بهذا قضت الأمم قاطبة.
قالوا: ولنا من أفراد الرجال من ليس لكم مثله، منا يحيى بن محمد بن علي بن
عبد الله بن العباس، كان شجاعا جريئا (2) وهو الذي ولي الموصل لأخيه السفاح
فاستعرض أهلها حتى ساخت (3) الاقدام في الدم.
ومنا يعقوب بن إبراهيم بن عيسى بن أبي جعفر المنصور، كان شاعرا فصيحا،
وهو المعروف بأبي الأسباط، ومنا محمد وجعفر ابنا سليمان بن علي، كانا أعظم من ملوك
بنى أمية، وأجل قدرا وأكثر أموالا ومكانا عند الناس. وأهدى محمد بن سليمان
من البصرة إلى الخيزران مائة وصيفة في يد كل واحدة منهن جام (4) من ذهب وزنه
ألف مثقال، مملوء مسكا، وكان لجعفر بن سليمان ألفا عبد من السودان خاصة، فكم
يكون ليت شعري غيرهم من البيض ومن الإماء، وما رئي جعفر بن سليمان راكبا قط إلا
ظن أنه الخليفة.
ومن رجالنا محمد بن السفاح، كان جوادا أيدا شديد البطش، قالوا: ما رئي أخوان

(1) على الرصد: مترصدون لكم.
(2) في ب: " حربا " تصحيف.
(3) ساخت: خاضت.
(4) الجام: إناء من الذهب أو الفضة.
287

أشد قوة من محمد وريطة أخته ولدى أبى العباس السفاح، كان محمد يأخذ الحديد فيلويه
فتأخذه هي فترده.
ومن رجالنا محمد بن إبراهيم طباطبا صاحب أبى السرايا، كان ناسكا عابدا فقيها
عظيم القدر عند أهل بيته وعند الزيدية.
ومن رجالنا عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، وهو الذي
شيد ملك المنصور وحارب ابني عبد الله بن حسن، وأقام عمود الخلافة بعد اضطرابه،
وكان فصيحا أديبا شاعرا.
ومن رجالنا عبد الوهاب بن إبراهيم الامام، حج بالناس وولي الشام، وكان
فصيحا خطيبا.
ومن رجالنا عبد الله بن موسى الهادي، كان أكرم الناس وجوادا ممدوحا أديبا
شاعرا، وأخوه عيسى بن موسى الهادي، كان أكرم الناس، وأجود الناس، كان
يلبس الثياب، وقد حدد ظفره فيخرقها بظفره لئلا تعاد إليه. وعبد الله بن أحمد
بن عبد الله بن موسى الهادي، وكان أديبا ظريفا.
ومن رجالنا عبد الله بن المعتز بالله، كان أوحد الدنيا في الشعر والأدب والأمثال
الحكمية والسؤدد والرياسة، كان كما قيل فيه لما قتل:
لله درك من ميت بمضيعة * ناهيك في العلم والاشعار والخطب (1)
ما فيه لو ولا لولا فتنقصه * وإنما أدركته حرفة الأدب
ومن رجالنا النقيب أبو أحمد الحسين بن موسى شيخ بني هاشم الطالبيين
والعباسيين في عصره، ومن أطاعه الخلفاء والملوك في أقطار الأرض ورجعوا إلى قوله،
وابناه على ومحمد وهما المرتضى والرضى، وهما فريدا العصر في الأدب والشعر والفقه
والكلام، وكان الرضى شجاعا أديبا شديد الانف.

(1) لعلي بن بسام، ابن خلكان 1: 259.
288

ومن رجالنا القاسم بن عبد الرحيم بن عيسى بن موسى الهادي، كان شاعرا ظريفا.
ومن رجالنا القاسم بن إبراهيم طباطبا. صاحب المصنفات والورع والدعاء إلى الله والى
التوحيد والعدل ومنابذة الظالمين، ومن أولاده أمراء اليمن.
ومن رجالنا محمد الفأفاء بن إبراهيم الامام، كان سيدا مقدما، ولى الموسم وحج
بالناس، وكان الرشيد يسايره، وهو مقنع بطيلسانه.
ومن رجالنا محمد بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين صاحب أبى السرايا، ساد
حدثا، وكان شاعرا أديبا فقيها، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولما أسر وحمل إلى
المأمون أكرمه وأفضل عليه، ورعى له فضله ونسبه.
ومن رجالنا موسى بن عيسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، كنيته
أبو عيسى، وهو أجل ولد عيسى وأنبلهم، ولي الكوفة وسوادها زمانا طويلا للمهدى،
ثم الهادي، وولي المدينة وإفريقية ومصر للرشيد، قال له ابن السماك لما رأى تواضعه:
إن تواضعك في شرفك لأحب إلى من شرفك، فقال موسى: إن قومنا - يعني بني هاشم -
يقولون: إن التواضع أحد مصائد الشرف.
ومن رجالنا موسى بن محمد أخو السفاح والمنصور، كان نبيلا عندهم، هو وإبراهيم
الامام لام واحدة، رأى في منامه قبل أن يصير من أمرهم ما صار أنه دخل بستانا فلم
يأخذ إلا عنقودا واحدا عليه من الحب المتراص ما ربك به عليم، فلم يولد له إلا عيسى، ثم
ولد لعيسى من ظهره أحد وثلاثون ذكرا وعشرون أنثى.
ومن رجالنا عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام، وهو عبد الله المحض، وأبوه الحسن بن الحسن، وأمه فاطمة بنت الحسين، وكان إذا قيل: من
289

أجمل الناس؟ قالوا: عبد الله بن الحسن، فإذا قيل: من أكرم الناس؟ قالوا: عبد الله
ابن الحسن، فإذا قالوا: من أشرف الناس؟ قالوا: عبد الله بن الحسن.
ومن رجالنا أخوه الحسن بن الحسن، وعمه زيد بن الحسن وبنوه محمد وإبراهيم
وموسى ويحيى، أما محمد وإبراهيم فأمرهما مشهور، وفضلهما غير مجحود، في الفقه والأدب
والنسك والشجاعة والسؤدد. وأما يحيى صاحب الديلم فكان حسن المذهب والهدى، مقدما
في أهل بيته، بعيدا مما يعاب على مثله، وقد روى الحديث وأكثر الرواية عن جعفر بن
محمد، وروى عن أكابر المحدثين، وأوصى جعفر بن محمد إليه لما حضرته الوفاة وإلى
ولده موسى بن جعفر. وأما موسى بن عبد الله بن الحسن، فكان شابا نجيبا صبورا شجاعا
سخيا شاعرا.
ومن رجالنا الحسن المثلث، وهو الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه
السلام كان متألها (1) فاضلا ورعا، يذهب في الامر بالمعروف والنهى عن المنكر مذهب
أهله. وإبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام، كان مقدما في
أهله، يقال: أنه أشبه أهل زمانه برسول الله صلى الله عليه وآله.
ومن رجالنا عيسى بن زيد، ويحيى بن زيد أخوه، وكانا أفضل أهل زمانهما شجاعة
وزهدا وفقها ونسكا.
ومن رجالنا يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد صاحب الدعوة. كان فقيها
فاضلا شجاعا فصيحا شاعرا، ويقال: أن الناس ما أحبوا طالبيا قط دعا إلى نفسه حبهم
يحيى، ولا رثي أحد منهم بمثل ما رثى به.

(1) متألها: متعبدا.
290

قال أبو الفرج الأصفهاني: كان يحيى فارسا شجاعا شديد البدن، مجتمع القلب، بعيدا
عن زهو الشباب وما يعاب به مثله، كان له عمود حديد ثقيل يصحبه في منزله، فإذا
سخط على عبد أو أمة من حشمه لواه في عنقه فلا يقدر أحد أن يحله عنه حتى يحله هو (1).
ومن رجالنا محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام صاحب الطالقان، لقب بالصوفي لأنه لم يكن يلبس إلا الصوف الأبيض،
وكان عالما فقيها، دينا زاهدا، حسن المذهب، يقول بالعدل والتوحيد.
ومن رجالنا محمد بن علي بن صالح بن عبد الله بن موسى بن حسن بن حسن بن علي
بن أبي طالب عليه السلام. كان من فتيان آل أبي طالب وفتاكهم وشجعانهم
وظرفائهم وشعرائهم، وله شعر لطيف محفوظ.
ومنهم أحمد بن عيسى بن زيد، كان فاضلا عالما مقدما في عشيرته، معروفا بالفضل،
وقد روى الحديث وروي عنه.
ومن رجالنا موسى بن جعفر بن محمد - وهو العبد الصالح - جمع من الفقه والدين
والنسك والحلم والصبر. وابنه علي بن موسى المرشح للخلافة، والمخطوب له بالعهد، كان
أعلم الناس، وأسخى الناس، وأكرم الناس أخلاقا.
قالوا: وأما ما ذكرتم من أمر الشجرة الملعونة، فإن المفسرين كلهم قالوا ذلك
ورووا فيه أخبارا كثيرة عن النبي صلى الله عليه وآله، ولستم قادرين على جحد ذلك، وقد
عرفتم تأخركم عن الاسلام وشدة عداوتكم للرسول الداعي إليه، ومحاربتكم في بدر
وأحد والخندق، وصدكم الهدى عن البيت، وليس ذلك مما يوجب أن يعمكم اللعن حتى

(1) مقاتل الطالبيين 640.
291

لا يغادر واحدا، فإن زعم ذلك زاعم فقد تعدى. وأما اختصاص محمد بن علي بالوصية
والخلافة دون إخوته، فقد علمتم أن وراثة السيادة والمرتبة ليس من جنس وراثة الأموال،
ألا ترى أن المرأة والصبي والمجنون يرثون الأموال ولا يرثون المراتب! وسواء في
الأموال، كان الابن حارضا (1) بائرا، أو بارعا جامعا.
وقيل: وراثة المقام سبيل وراثة اللواء، دفع رسول الله صلى الله عليه وآله
لواء بنى عبد الدار إلى مصعب بن عمير، ودفع عمر بن الخطاب لواء بنى تميم إلى
وكيع بن بشر، ثم دفعه إلى الأحنف حين لم يوجد في بنى زرارة من يستحق
وراثة اللواء، فإن كان الامر بالسن فإنما كان بين محمد بن علي وأبيه علي بن عبد الله
أربع عشرة سنة، كان علي يخضب بالسواد، ومحمد يخضب بالحمرة، فكان القادم يقدم
عليهما، والزائر يأتيهما، فيظن أكثرهم أن محمدا هو على، وأن عليا هو محمد، حتى
ربما قيل لعلي: كيف أصبح الشيخ من علته؟ ومتى رجع الشيخ إلى منزله؟ وأخرى
أن أمه كانت العالية بنت عبد الله بن العباس، فقد ولده العباس مرتين، وولده جواد بنى
العباس كما والده خيرهم وحبرهم، ولم يكن لأحد من إخوته مثل ذلك. وكان بعض ولد محمد أسن من عامة ولد علي، وولد محمد المهدى بن عبد الله المنصور والعباس بن محمد بن علي
في عام واحد، وكذلك محمد بن سليمان بن علي، ولم يكن لأحد من ولد علي بن
عبد الله بن العباس - وإن كانوا فضلاء نجباء كرماء نبلاء - مثل عقله ولا كجماله، كان
إذا دخل المدينة ومكة جلس الناس على أبواب دورهم والنساء على سطوحهن للنظر إليه،
والتعجب من كماله وبهائه، وقد قاتل إخوته أعداءه في دفع الملك إلى ولده غير مكرهين
ولا مجبرين، على أن محمدا إنما أخذ الامر عن أساس مؤسس، وقاعدة مقررة، ووصية
انتقلت إليه من أبى هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، وأخذها أبو هاشم عن أبيه محمد،
وأخذها محمد عن علي بن أبي طالب أبيه.

(1) الحارض: الفاسد.
292

قالوا: لما سمت بنو أمية أبا هاشم مرض فخرج من الشام وقيذا (1) يؤم المدينة، فمر
بالحميمة (2) وقد أشفى، فاستدعى محمد بن علي بن عبد الله بن العباس فدفع الوصية إليه،
وعرفه ما يصنع وأخبره بما سيكون من الامر، وقال له: إني لم أدفعها إليك من تلقاء
نفسي، ولكن أبى أخبرني عن أبيه علي بن أبي طالب عليه السلام بذلك، وأمرني به،
وأعلمني بلقائي أياك في هذا المكان، ثم مات فتولى محمد بن علي تجهيزه ودفنه وبث
الدعاة حينئذ في طلب الامر، وهو الذي قال لرجال الدعوة، والقائمين بأمر الدولة،
حين اختارهم للتوجه، وانتخبهم للدعاء، وحين قال بعضهم: ندعو بالكوفة، وقال
بعضهم: بالبصرة. وقال بعضهم: بالجزيرة، وقال بعضهم: بالشام. وقال بعضهم: بمكة
وقال بعضهم بالمدينة. واحتج كل انسان لرأيه، واعتل لقوله - فقال محمد: أما الكوفة
وسوادها فشيعه علي وولده، وأما البصرة فعثمانية تدين بالكف، وقبيل عبد الله
المقتول يدينون بجميع الفرق، ولا يعينون أحد، وأما الجزيرة فحرورية مارقة،
والخارجية فيهم فاشية، وأعراب كأعلاج (3)، ومسلمون في أخلاق النصارى، وأما الشام
فلا يعرفون إلا آل أبي سفيان، وطاعة بنى مروان، عداوة راسخة، وجهلا متراكما،
وأما مكة والمدينة فقد غلب عليهما أبو بكر وعمر، وليس يتحرك معنا في أمرنا هذا منهم
أحد، ولا يقوم بنصرنا إلا شيعتنا أهل البيت، ولكن عليكم بخراسان، فإن هناك
العدد الكثير، والجلد الظاهر، وصدورا سليمة، وقلوبا مجتمعة، لم تتقسمها الأهواء، ولم
تتوزعها النحل، ولم تشغلها ديانة، ولا هدم فيها فساد، وليس لهم اليوم همم (4) العرب، ولا فيهم
تجارب كتجارب الاتباع مع السادات، ولا تحالف كتحالف القبائل، ولا عصبية كعصبية
العشائر، وما زالوا ينالون ويمتهنون، ويظلمون فيكظمون، وينتظرون الفرج، ويؤملون

(1) الوقيذ: المريض المشرف على الهلاك.
(2) الحميمة، كجهينة بلدة بالبلقاء.
(3) الأعلج: جمع علج، الرجل من كفار العجم.
(4) أ: " هم ".
293

دولة، وهم جند لهم أبدان وأجسام، ومناكب وكواهل، وهامات ولحى، وشوارب
وأصوات هائلة، ولغات فخمة، تخرج من أجواف منكرة.
وبعد، فكأني أتفاءل جانب المشرق فإن مطلع الشمس سراج الدنيا، ومصباح هذا
الخلق. فجاء الامر كما دبر، وكما قدر، فإن كان الرأي الذي رأى صوابا فقد وافق الرشاد،
وطبق المفصل، وإن كان ذلك عن رواية متقدمة، فلم يتلق تلك الرواية إلا عن نبوة.
قالوا: وأما قولكم: إن منا رجلا مكث أربعين سنة أميرا وخليفة، فإن الامارة
لا تعد فخرا مع الخلافة، ولا تضم إليها، ونحن نقول: إن منا رجلا مكث سبعا وأربعين
سنة خليفة، وهو أحمد الناصر بن الحسن المستضئ، ومنا رجل مكث خمسا
وأربعين سنة خليفة، وهو عبد الله القائم ومكث أبوه أحمد القادر ثلاثا وأربعين
سنة خليفة، فملكهما أكثر من ملك بنى أمية كلهم، وهم أربع عشرة خليفة.
ويقول الطالبيون: منا رجل مكث ستين سنة خليفة وهو معد بن الطاهر
صاحب مصر، وهذه مدة لم يبلغها خليفة ولا ملك من ملوك العرب في قديم الدهر
ولا في حديثه.
وقلتم: لنا عاتكة بنت يزيد يكتنفها خمسة من الخلفاء، ونحن نقول: لنا زبيدة
بنت جعفر يكتنفها ثمانية من الخلفاء، جدها المنصور خليفة، وعم أبيها السفاح خليفة
وعمها المهدى خليفة، وابن عمها الهادي خليفة، وبعلها الرشيد خليفة، وابنها الأمين
خليفة، وابنا بعلها المأمون والمعتصم خليفتان.
قالوا: وأما ما ذكرتموه من الأعياص والعنابس فلسنا نصدقكم فيما زعمتموه أصلا
بهذه التسمية، وإنما سموا الأعياص لمكان العيص وأبى العيص والعاص وأبى العاص،
وهذه أسماؤهم، الاعلام ليست مشتقة من أفعال لهم كريمة ولا خسيسة. وأما العنابس،
294

فإنما سموا بذلك لان حرب بن أمية كان اسمه عنبسة، وأما حرب فلقبه، ذكر ذلك
النسابون، ولما كان حرب أمثلهم سموا جماعتهم باسمه، فقيل: العنابس، كما يقال:
المهالبة والمناذرة، ولهذا المعنى سمي أبو سفيان بن حرب بن عنبسة، وسمي سعيد بن العاص
ابن عنبسة.
تم الجزء الخامس عشر من شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ويليه
الجزء السادس عشر
295