الكتاب: الاستذكار
المؤلف: ابن عبد البر
الجزء: ١
الوفاة: ٤٦٣
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ القسم العام
تحقيق: سالم محمد عطا-محمد علي معوض
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ٢٠٠٠م
المطبعة: بيروت - دار الكتب العلمية
الناشر: دار الكتب العلمية
ردمك:
ملاحظات:

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري رحمة الله عليه
الحمد لله رب العالمين الذي لا يبلغ وصف صفاته الواصفون ولا يدرك كنه عظمته المتفكرون ويقر بالعجز عن مبلغ قدرته المعتبرون الذي أحصى كل شي عددا وعلما ولا يحيط خلقه بشيء من علمه إلا بما شاء خضعت له الرقاب وتضعضعت له الصعاب أمره في كل ما أراد ماض وهو بكل ما شاء حاكم قاض إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون
يقضي بالحق وهو خير الفاصلين ذو الرحمة والطول وذو القوة والحول الواحد الفرد له الملك وله الحمد ليس له ند ولا ضد ولا له شريك ولا شبيه جل عن التمثيل والتشبيه لا إله إلا هو إليه المصير
أحمده كثيرا عدد خلقه وكلماته وملء أرضه وسماواته وأسأله الصلاة على نبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله أجمعين وعلى جميع النبيين والمرسلين وسلم تسليما
أما بعد فإن جماعة من أهل العلم وطلبه والعناية به من إخواننا نفعهم الله وإيانا بما علمنا - سألونا في مواطن كثيرة مشافهة ومنهم من سألني ذلك من آفاق نائية مكاتبا أن أصرف (1) لهم كتاب ((التمهيد)) على أبواب ((الموطأ)) ونسقه وأحذف لهم منه تكرار شواهده وطرقه وأصل لهم شرح المسند والمرسل اللذين قصدت إلى شرحهما خاصة في ((التمهيد)) بشرح جميع ما في الموطأ من أقاويل الصحابة والتابعين وما لمالك فيه من قوله الذي بنى عليه مذهبه واختاره من أقاويل سلف أهل بلده الذي هم الحجة عنده على من خالفهم وأذكر على كل قول رسمه وذكره فيه ما لسائر فقهاء الأمصار من التنازع في معانيه حتى يتم شرح كتابه ((الموطأ)) مستوعبا مستقصى بعون الله إن شاء الله على شرط الإيجاز والاختصار وطرح ما في
11

الشواهد من التكرار إذ ذلك كله ممهد مبسوط في كتاب ((التمهيد)) والحمد لله
وأقتصر في هذا الكتاب من الحجة والشاهد على فقر دالة وعيون مبينة ونكت كافية ليكون أقرب إلى حفظ الحافظ وفهم المطالع إن شاء الله
وأما أسماء الرجال فقد أفردنا للصحابة - رضوان الله عليهم - كتابا موعبا وكل من جرى ذكره في مسند ((الموطأ)) أو مرسله فقد وقع التعريف به أيضا في ((التمهيد)) وما كان من غيرهم فيأتي التعريف بأحوالهم في هذا الكتاب إن شاء الله
وإلى الله أرغب في حسن العون على ذلك وعلى كل ما يرضاه من قول وعمل صالح وأضرع إليه في السلامة من الزلل والخطل وأن يجعلني ممن يريد بقوله وفعله كله وجه ورضاه فهو حسبنا فيما أملناه لا شريك له
حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن بن يحيى قال حدثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن عمر القاضي المالكي ببغداد قال حدثنا عبد الواحد بن العباس الهاشمي قال حدثنا عياش بن عبد الله الرقي قال قال عبد الرحمن بن مهدي ما كتاب بعد كتاب الله أنفع للناس من موطأ مالك بن أنس
حدثنا علي بن إبراهيم بن حمويه الشيرازي حدثنا شبابة قال حدثنا الحسن بن رشيق قال حدثنا أحمد بن علي بن الحسن المدني قال حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح قال سمعت هارون بن سعيد الأيلي يقول سمعت الشافعي يقول ما كتاب بعد كتاب الله أنفع من كتاب مالك بن أنس
حدثنا عبد الله بن محمد بن يوسف قال حدثنا يحيى بن مالك قال حدثنا محمد بن سليمان بن الشريف قال حدثنا إبراهيم بن إسماعيل قال حدثنا يوسف بن عبد الأعلى قال الشافعي ما في الأرض بعد كتاب الله أكثر صوابا من موطأ مالك بن أنس
حدثنا عبد الله بن محمد القاضي قال حدثنا محمد بن أحمد قال حدثنا علي بن الحسن القطان قال حدثنا عبد الله بن محمد القروي قال سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول سمعت الشافعي يقول ما رأيت كتابا ألف في العلم أكثر صوابا من موطأ مالك
حدثنا عبد الله بن محمد القاضي حدثنا القاسم بن علي حدثنا إبراهيم بن الحسن السيرافي حدثنا يحيى بن صالح قال سمعت أبي يقول قال بن هب من كتب ((كتاب الموطأ)) لمالك فلا عليه ألا يكتب من الحلال والحرام شيئا
حدثنا عبد الله بن محمد القاضي حدثنا القاسم بن علي حدثنا إبراهيم بن الحسن قال سمعت يحيى بن عثمان يقول سمعت بن أبي مريم يقول - وهو
12

يقرأ عليه ((موطأ مالك)) وكان ابنا أخيه قد رحلا إلى العراق في طلب العلم - فقال لو أن ابني أخي مكثا بالعراق عمرهما يكتبان ليلا ونهارا ما أتيا بعلم يشبه موطأ مالك ولا أتيا بسنة مجمع عليها خلاف موطأ مالك
حدثنا عبد الله بن محمد القاضي حدثنا إبراهيم بن حماد بن إسحاق قال حدثنا أبو طاهر قال حدثنا صفوان عن عمر بن عبد الواحد - صاحب الأوزاعي - قال عرضنا على مالك الموطأ إلى أربعين يوما فقال كتاب ألفته في أربعين سنة أخذتموه في أربعين يوما قلما تتفقهون فيه
ولم أذكر في كتابي هذا شيئا من معاني النقل وغوائله وعلم طرقه وعلله ولا من فضائل مالك - رحمه الله - وأخباره إذ ذاك كله مذكور بأتم ذكر وأكمله في ((كتاب التمهيد)) والحمد لله
وقصدت من روايات ((الموطأ)) في كتابي إلى رواية يحيى بن يحيى الأندلسي فجعلت رسوم كتابي هذا على رسوم كتابه ونسق أبوابه للعلة التي ذكرناها في ((التمهيد)) على أنه سينظم بهذه الرواية كثير من اختلاف الرواية عن مالك في موطئه على حسب ما يقود إليه القول في ذلك بحول الله
وأما الإسناد الذي بيني وبين مالك في رواية يحيى بن يحيى فإن أبا عثمان سعيد بن نصر حدثنا بجميع الموطأ قراءة منه علينا من أصل كتابه قال حدثنا أبو محمد قاسم بن أصبغ وهب بن مسرة قالا حدثنا بن وضاح قال قال حدثنا يحيى بن يحيى عن مالك
وحدثنا به أيضا به أبو الفضل أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن البزار قراءة مني عليه عن وهب بن مسرة وبن أبي دليم عن بن وضاح عن يحيى عن مالك
وحدثنا به أيضا أبو عمر أحمد بن محمد بن أحمد عن أبي عمر أحمد بن مطرف بن عبد الرحمن وأحمد بن سعيد بن حزم عن عبيد الله بن يحيى عن أبيه يحيى عن مالك وعن وهب بن مسرة أيضا عن بن وضاح عن يحيى عن مالك
وأما رواية بن بكير عن مالك فقرأتها على أبي عمر أحمد بن محمد بن أخي عبد الله بن محمد بن عيسى بن رفاعة عن يحيى بن أيوب بن باب حدثنا العلاف عن بن بكير عن مالك
وقرأتها أيضا على أبي عمر أحمد بن محمد وأبي القاسم عبد الوارث بن سفيان جميعا عن قاسم بن أصبغ عن مطرف بن عبد الرحمن بن قيس عن يحيى بن عبد الله بن بكير عن مالك
وأخبرني بها أيضا أبو القاسم خالد بن سهل الحافظ عن أبي محمد
13

الحسن بن رشيق عن أحمد بن محمد المؤدب والحسن بن محمد جميعا عن بن بكير
وأما رواية بن القاسم للموطإ عن مالك فقرأتها على أبي القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد الهمداني عن أبي العباس تميم بن محمد بن تميم عن عيسى بن مسكين عن سحنون بن سعيد عن عبد الرحمن بن القاسم عن مالك
وأما رواية القعنبي عبد الله بن مسلمة فقرأتها على أبي محمد عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أسد عن أبي بكر أحمد بن محمد المكي عن علي بن عبد العزيز عن القعنبي عن مالك وعن بكر بن العلاء القاضي القشيري عن أحمد بن موسى النسائي عن القعنبي عن مالك
وأما رواية مطرف بن عبد الله الساري عن مالك فحدثني بها أبو عمر أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي قال حدثنا أبي قال حدثنا محمد بن عمر بن لبابة قال حدثنا يحيى بن إبراهيم بن مرين قال حدثنا مطرف عن مالك
14

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
((1 كتاب وقوت الصلاة (1)))
((1 - باب وقوت الصلاة))
1 - مالك عن بن شهاب أن عمر بن عبد العزيز أخر الصلاة يوما فدخل عليه عروة بن الزبير فأخبره أن المغيرة بن شعبة أخر الصلاة يوما وهو بالكوفة فدخل عليه أبو مسعود الأنصاري فقال ما هذا يا مغيرة أليس قد علمت أن جبريل نزل فصلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال بهذا أمرت (2) فقال عمر بن عبد العزيز اعلم ما تحدث به يا عروة أو إن جبريل هو الذي أقام لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقت الصلاة قال عروة كذلك كان بشير بن أبي مسعود الأنصاري يحدث عن أبيه
2 - قال عروة ولقد حدثتني عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
15

يصلي العصر والشمس في حجرتها (1) قبل أن تظهر (2)
قال أبو عمر هذا الحديث متصل (3) صحيح (4) مسند عند جماعة أهل العلم بالنقل
وقد ذكرنا في كتاب ((التمهيد)) أن (أن) في هذا الموضع كعن وأن السند المعنعن (5) محمول على الاتصال حتى يبين الانقطاع وقد بان في هذا الحديث اتصاله لمجالسة بعض رواته بعضا
وقد ذكرنا مشاهدة بن شهاب للقصة عند عمر بن عبد العزيز مع عروة بن الزبير في هذا الحديث من أصحاب بن شهاب معمر بن راشد والليث بن سعد وسفيان بن عيينة وشعيب بن أبي حمزة وبن جريج
وقد ذكرنا أحاديثهم ورواياتهم عن بن شهاب - كما وصفت لك - في كتاب ((التمهيد)) وفي روايتهم عن بن شهاب أن الصلاة التي أخرها عمر بن عبد العزيز هي صلاة العصر وأن الصلاة التي أخرها المغيرة هي تلك أيضا
وليس في روايتهم لهذا الحديث أكثر من أن جبريل صلى برسول الله صلى الله عليه وسلم خمس صلوات في أوقاتهن على ما في ظاهر حديث مالك أيضا
وليس في شيء من رواية هؤلاء عن بن شهاب ما يدل أن جبريل صلى برسول الله مرتين كل صلاة في وقتين فتكون عشر صلوات كما في سائر الآثار المروية في إمامة جبريل
وفي حديث معمر وبن جريج عن بن شهاب في الحديث أن الناس صلوا خلف رسول الله حين صلى به جبريل
16

وقد روي ذلك من غير حديث بن شهاب من وجوه
وأما بن أبي ذئب ففي روايته لهذا الحديث عن بن شهاب بإسناده أنه صلى به مرتين في يومين على مثل ما ذكر عن بن شهاب أنه سمع عروة بن الزبير يحدث عمر بن عبد العزيز
وقد ذكرت هناك الاختلاف في وقت الإسراء وكيف كان فرض الصلاة حينئذ
ولم تختلف الآثار ولا اختلف أهل العلم بالخبر والسير أن الصلاة إنما فرضت على النبي - عليه السلام - بمكة حين أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم عرج به إلى السماء ثم أتاه جبريل من الغد فصلى به الصلوات لأوقاتها إلا أنهم اختلفوا في هيئتها حين فرضت
فروي عن عائشة أنها فرضت ركعتين ركعتين ثم زيد في صلاة الحضر فأكملت أربعا (1)
ومن رواة حديثنا هذا من يقول زيد فيها بالمدينة وأقرت صلاة السفر على ركعتين
وبذلك قال الشعبي والحسن البصري في رواية وميمون بن مهران ومحمد بن إسحاق
وروي عن بن عباس أنها فرضت في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين (2)
وقال نافع بن جبير بن مطعم وكان أحد علماء قريش بالنسب وأيام العرب والفقه وهو راوية من رواة بن عباس وهو يروي عنه إمامة جبريل بالنبي - عليه
17

السلام - أن الصلاة فرضت في أول ما فرضت أربعا إلا المغرب فإنها فرضت ثلاثا والصبح ركعتين
وكذلك قال الحسن البصري في رواية وهو قول بن جريج
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أنس بن مالك القشيري ما يدل على ذلك وهو قوله إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة (1)
ووضع لا يكون إلا من تمام قبله
وفي حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عمر بن الخطاب قال فرضت الصلاة في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين (2)
وقد ذكرنا هذا الخبر في باب قصر الصلاة وذكرنا علة إسناده وهو حديث حسن
فدل هذا كله على أن القصر كان من أربع إلى اثنتين وعلى أن الأصل كان أربعا لا ركعتين والله أعلم
فإن قيل إن حديث عائشة صحيح من جهة النقل وهو أصح إسنادا من حديث القشيري وغيره وأصح من حديث بن عباس فالجواب أنا لا حاجة بنا إلى أصل الفرض إلا من طريق القصر ولا وجه لقول من قال إن حديث عائشة يعارضه قول الله تعالى " وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلواة " [النساء 101] وقد أجمع العلماء أنه لا يكون القصر من ركعتين في شيء من السفر في الأمن لأن حديث عائشة قد أوضح أن الصلاة زيد فيها في الحضر
ومعلوم أن الفرض فيها كان بمكة والزيادة كانت بالمدينة وأن سورة النساء متأخرة فلم يكن القصر مباحا إلا بعد تمام الفرض وذلك يعود إلى معنى واحد في أن القصر إنما ورد بعد تمام الصلاة أربعا ولا حاجة إلى أصل الفرض اليوم لأن الإجماع منعقد بأن صلاة الحضر تامة غير مقصورة وبالله التوفيق
وقد أوضحنا هذا المعنى في حديث مالك عن صالح بن كيسان في باب قصر
18

الصلاة من هذا الكتاب (2) والحمد لله
وقد مضى في ((التمهيد)) أيضا اختلافهم فيما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستقبل في صلاته وهو بمكة وذلك على قولين عن السلف مرويين
أحدهما أنه كان يستقبل بمكة الكعبة لصلاته على ما كانت عليه صلاة إبراهيم وإسماعيل فلما قدم المدينة استقبل بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا ثم وجهه الله إلى الكعبة
وهذا أصح القولين عندي لما حدثناه سعيد بن نصر وأحمد بن قاسم وعبد الوارث بن سفيان قالوا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال حدثنا عبد الله بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن بن عباس قال كان أول ما نسخ الله من القرآن القبلة وذلك أن النبي - عليه السلام - لما هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود أمره الله أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله بضعة عشر شهرا وكان عليه السلام - يحب قبلة إبراهيم وكان يدعو الله وينظر إليها فأنزل الله * (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها) * إلى قوله * (فولوا وجوهكم شطره) * [البقرة 144] يعني نحوه فارتاب من ذلك اليهود وقالوا ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها فأنزل الله تعالى * (قل لله المشرق والمغرب) * [البقرة 142] وقال * (فأينما تولوا فثم وجه الله) * [البقرة 115] وقال تعالى * (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه) * (2) [البقرة 143]
قال بن عباس ليميز أهل اليقين من أهل الشك والريبة
وقال تعالى * (وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله) * [البقرة 143] يعني تحويلها على أهل الشك لا على الخاشعين يعني المصدقين بما أنزل الله
وحدثنا عبد الرحمن بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا أحمد بن سليمان
19

الحداد ببغداد قال حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث قال حدثنا أحمد بن محمد قال حدثنا آدم بن أبي إياس قال حدثنا جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله عز وجل " وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم البقرة 144] يعلمون أن الكعبة المسجد الحرام كانت قبلة إبراهيم والأنبياء عليهم السلام ولكنهم تركوها عمدا
وقوله " وإن فريقا منهم ليكتمون الحق " [البقرة 146] يكتمون صفة محمد عليه السلام ويكتمون أن الكعبة البيت الحرام
ثم قال لنبيه عليه السلام " فلا تكونن من الممترين " [البقرة 147] يقول لا تكن في شك يا محمد أن الكعبة قبلتك وكانت قبلة الأنبياء قبلك
وبهذا الإسناد عن أبي العالية أن موسى عليه السلام كان يصلي عند الصخرة ويستقبل البيت الحرام وكانت الكعبة قبلته وكانت الصخرة بين يديه فقال اليهود بي بيننا وبينك مسجد صالح النبي عليه السلام
فقال له أبو العالية فإني صليت في مسجد صالح وقبلته الكعبة
قال الربيع وأخبرني أبو العالية أنه رأى مسجد ذي القرنين وقبلته الكعبة
ولم يختلفوا في أنه استقبل في حين قدومه المدينة بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا
وقد ذكرنا اختلافهم في تاريخ صرف القبلة هناك أيضا ويأتي ذلك مجودا في موضعه في هذا الكتاب عند قول سعيد بن المسيب وصرفت القبلة قبل بدر بشهرين (1 " إن شاء الله
حدثنا عبد الله بن محمد بن يوسف قال حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى قال حدثنا أحمد بن زياد الأعرابي قال حدثنا أحمد بن عبد الله العطاردي قال حدثنا يونس بن بكير عن بن إسحاق قال ثم إن جبريل أتى النبي - عليه السلام - حين افترضت الصلاة عليه فهمز (2) له بعقبه في ناحية الوادي فانفجرت له عين ماء فتوضأ جبريل ومحمد ينظر فوضأ وجهه واستنشق ومضمض ومسح برأسه وأذنيه وغسل يديه إلى المرفقين ورجليه إلى الكعبين ونضح فرجه (3) ثم قام فصلى ركعتين وأربع سجدات
20

وهذا إنما أخذه بن إسحاق - والله أعلم - من حديث زيد بن حارثة
وهو حديث حدثناه أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا الحسن بن موسى قال حدثنا عبد الله بن لهيعة قال حدثنا عقيل بن خالد عن بن شهاب عن عروة عن أسامة بن زيد عن أبيه زيد بن حارثة ((أن النبي - عليه السلام - في أول ما أوحي إليه أتاه جبريل فعلمه الوضوء فلما فرغ من الوضوء أخذ غرفة من ماء فنضح بها فرجه)) (1)
ومعنى قوله في أول ما أوحي إليه أي أوحي إليه في الصلاة
وهذا يدل على أنه لم يصل صلاة قط بغير طهور
ولهذا قال مالك في حديثه عن عبد الرحمن بن القاسم حديث عقد عائشة حين فقدوا الشمس وهم على غير ماء فنزلت آية التيمم (2) ولم يقل فنزلت آية الوضوء
وآية الوضوء وإن كانت مدنية فإنما كان سبب نزولها التيمم
وسنوضح هذا المعنى في موضعه في هذا الكتاب إن شاء الله
ويدل على صحة قول من قال فنزلت آية التيمم ولم يقل نزلت آية الوضوء فرارا من أن تكون صلاته عليه السلام بغير وضوء مع حديث زيد بن حارثة
وهو معنى قول بن إسحاق مع ما ثبت عنه - عليه السلام - من نقل الآحاد العدول في ذلك - قوله ((لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول)) (3)
حدثنا أبو زكريا يحيى بن محمد بن يوسف قال حدثنا أبو يعقوب يوسف بن أحمد بن يوسف بمكة قال حدثنا أبو ذر محمد بن إبراهيم الترمذي قال حدثنا أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي قال حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا أبو عوانة عن سماك بن حرب عن مصعب بن سعد عن عبد الله بن عمر عن النبي عليه السلام قال ((لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول)) (4)
وذكرنا في التمهيد كيف كان وجه تأخير بني أمية للصلاة وذكرنا الخبر بذلك مسندا وغير مسند من وجوه شتى ونذكر ها هنا طرفا من ذلك بعون الله تعالى
21

حدثنا خلف بن قاسم الحافظ قال حدثنا عبد الرحمن بن عمر بن راشد بدمشق قال حدثنا أبو زرعة الدمشقي قال حدثنا أبو مسهر قال حدثنا سعيد بن عبد العزيز قال كانوا يؤخرون الصلاة في أيام الوليد بن عبد الملك ويستحلفون الناس أنهم ما صلوا فأتي عبد الله بن أبي زكريا فاستحلف أنه ما صلى فحلف ما صلى وقد كان صلى وأتى مكحول فقيل له فقال فلم جئنا إذا فذكر سنيد حدثنا أبو معاوية عن محمد بن إسماعيل قال رأيت سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح - وأخر الوليد بن عبد الملك الصلاة - فرأيتهما يومئان في وقت الصلاة ثم جلسنا حتى صليا معه
وذكر بن أبي شيبة حدثنا حميد بن عبد الرحمن عن حسن بن صالح عن إبراهيم بن مهاجر قال كان الحجاج يؤخر الجمعة فكنت أصلي أنا وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير الظهر ثم نتحدث وهو يخطب ثم نصلي ونجعلها نافلة
قال وحدثنا محمد بن عبيد عن الزبرقان قال قلت لشقيق إن الحجاج يميت الجمعة قال تكتم علي قلت نعم قال صلها في بيتك لوقتها ولا تدع الجماعة
قال وحدثنا إسماعيل بن عتبة عن بن عون عن محمد بن سيرين قال أطال بعض الأمراء الخطبة فنكأت يدي (1) حتى أدميتها ثم قمت وخرجت وأخذتني السياط فمضيت
وقد ذكرنا في ((التمهيد)) أن الوليد بن عقبة وزيادا وغيرهما أخروها قبل
حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا إسماعيل بن إسحاق وأحمد بن زهير قالا حدثنا الوليد الطيالسي قال حدثنا أبو هاشم الزعفراني عمار بن عمارة قال حدثني صالح بن عبيد عن قبيصة بن وقاص قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((يكون عليكم أمراء من بعدي يؤخرون الصلاة فهي لكم وهي عليهم فصلوا معهم ما صلوا إلى القبلة)) (2)
حدثنا أحمد بن محمد قال حدثنا أحمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جرير قال حدثنا محمد بن سعيد قال حدثنا محمد بن عمر قال حدثنا بن أبي سبرة عن المنذر بن عبد قال
ولى عمر بن عبد العزيز بعد صلاة الجمعة فأنكرت حاله في العصر
22

وقد أوضحنا جهل عمر بن عبد العزيز والمغيرة بن شعبة لنزول جبريل - بمواقيت الصلاة في كتاب ((التمهيد)) وأنهما إنما جهلا من ذلك نزول جبريل بفرض أوقات الصلوات وكانوا يعتقدون ذلك من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن القرآن ليس فيه آية مفصحة بذلك ترفع الإشكال ولو كانت فيه آية تتلى ما جهلها عمر بن عبد العزيز ولا مثله من العلماء
وقد جاز على كثير منهم جهل كثير من السنن الواردة على ألسنة خاصة العلماء
ولا أعلم أحدا من الصحابة إلا وقد شذ عنه بين علم الخاصة واردة بنقل الآحاد أشياء حفظها غيره وذلك على من بعدهم أجوز والإحاطة ممتنعة على كل أحد
وفي هذا الحديث دليل على أن وقت الصلاة من فرائضها وأنها لا تجزئ قبل وقتها وهذا لا خلاف فيه بين العلماء إلا شيء روي عن أبي موسى الأشعري وعن بعض التابعين وقد انعقد الإجماع على خلافه فلم نر لذكره وجها لأنه لا يصح عندي عنهم وقد صح عن أبي موسى خلافه بما يوافق الجماعة فصار اتفاقا صحيحا
والوقت أول فرائض الصلاة لأنه لا يلزم الوضوء لها إلا بعد دخول وقتها والمتوضئ قبل الوقت متبرع مبادر إلى فضل ومتأهب لفرض
ومن الدليل أيضا على أن الأوقات أيضا من فرائض الصلوات مع ما ذكرنا من حديث الباب والإجماع - قول الله تعالى " أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرءان الفجر إن قرءان الفجر كان مشهودا " [الإسراء 78]
قال مالك أوقات الصلاة في كتاب الله قوله تعالى * (أقم الصلاة لدلوك الشمس) * يعني الظهر والعصر * (إلى غسق الليل) * يعني المغرب والعشاء " وقرءان الفجر " يعني صلاة الفجر
وقد قال ذلك قبله جماعة من العلماء بتأويل القرآن منهم بن عباس ومجاهد وعكرمة وغيرهم
وروي عن بن عباس أيضا وطائفة أنهم قالوا أوقات الصلوات في كتاب الله تعالى قوله * (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون) * [الروم 17] ف حين تمسون) المغرب والعشاء وحين تصبحون) الصبح * (وعشيا) * [الروم 18] العصر وحين تظهرون) الظهر
ثم قال * (ومن بعد صلاة العشاء) * [النور 58]
وهذا كله قد جاء عن السلف وليس فيه ما يقطع به ولا يعتمد عليه لأن التسبيح إذا أطلق عليه فإنما يراد به الذكر قول سبحان الله وهي كلمة تنزيه الله - تبارك اسمه - عن كل ما نزه عنه نفسه
23

وكذلك ظاهر قوله * (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل) * [الإسراء 78] لو تركنا وظاهر هذا القول لوجبت الصلاة من الزوال عند من جعل دلوكها زوالها إلى غسق الليل فليس في محكم القرآن في أوقات الصلوات شيء واضح يعتمد عليه
وأصبح ذلك نزول جبريل - عليه السلام - بأوقات الصلوات مفسرة وهي في الكتاب مجملة
وكذلك الصلاة والزكاة مجملات أوضحها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينها كما أمره الله بقوله * (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) * [النمل 44]
فبينها - عليه السلام - بالقول والعمل فمن بيانه - عليه السلام - ما نقله الآحاد العدول ومنها ما أجمع عليه السلف والخلف فقطع العذر ومنها ما اختلفوا فيه
ونحن ذاكرون ما وصل إلينا علمه من إجماعهم في مواقيت الصلاة وما اختلفوا فيه من ذلك بعون الله لا شريك له
أجمع علماء المسلمين أن أول وقت صلاة الظهر زوال الشمس عن كبد السماء ووسط القبلة إذا استوقن ذلك في الأرض بالتفقد والتأمل وذلك ابتداء زيادة الظل بعد تناهي نقصانه في الشتاء والصيف وإن كان الظل مخالفا في الصيف له في الشتاء فإذا تبين زوال الشمس بما ذكرنا أو بغيره فقد دخل وقت الظهر
هذا ما لم يختلف فيه العلماء أن زوال الشمس وقت الظهر وذلك تفسير لقوله تعالى " أقم الصلوات لدلوك الشمس " [الإسراء 78] ودلوكها ميلها عند أكثر أهل العلم ومنهم من قال دلوكها غروبها واللغة محتملة للقولين والأول أكثر
وكان مالك يستحب لمساجد الجماعات أن يؤخروها بعد الزوال حتى يكون الفيء ذراعا على ما كتب به عمر إلى عماله وذلك عند مالك فيما روى عنه بن القاسم صيفا وشتاء (1)
وروى غيره عن مالك أن أحب الأمر إليه في أوقات الصلوات البدار إليها (2) في أوائل أوقاتها إلا الظهر في شدة الحر فإنه يبرد بها (3)
قال أبو الفرج قال مالك أول الوقت أفضل في كل صلاة إلا الظهر في شدة الحر
24

وفي كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري أن صل الظهر إذا زاغت الشمس (1)
وسنبين معنى الحديثين عن عمر بعد إن شاء الله
واختلفوا في آخر وقت الظهر فقال مالك وأصحابه آخر وقت الظهر إذا كان ظل كل شيء مثله بعد الغدو (2) الذي زالت عليه الشمس وهو أول وقت العصر
وبذلك قال بن المبارك وجماعة
واستحب مالك لمساجد الجماعات أن يؤخروا العصر بعد هذا المقدار قليلا
وهذا كله آخر الوقت المختار وكذلك هو ما دامت الشمس بيضاء نقية لأهل الرفاهية (3) وأما أهل الضرورات ومن لهم الاشتراك في الأوقات (4) فسيأتي ذكر
حكمهم في موضعه إن شاء الله
وفي الأحاديث الواردة بإمامة جبريل ما يوضح لك أن [آخر] وقت الظهر هو أول وقت العصر لأنه صلى بالنبي عليهما السلام - الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلى فيه العصر بالأمس
وقال الشافعي وأبو ثور وداود آخر وقت الظهر إذا كان ظل كل شيء مثله إلا أن بين آخر وقت الظهر وأول وقت العصر فاصلة وهي أن يزيد الظل أدنى زيادة على المثل
وحجتهم حديث أبي قتادة عن النبي عليه السلام أنه قال ليس التفريط في النوم إنما التفريط في اليقظة على من لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى (5) وهذا عندهم فيما عدا الصبح للإجماع في الصبح أنها يخرج وقتها بطلوع الشمس فإن لم يدخل وقت الأخرى فلا
ومن حجتهم أيضا حديث عبد الله بن عمرو عن النبي - عليه السلام - أنه قال وقت الظهر ما لم يدخل وقت العصر
25

وقد ذكرنا حديث أبي قتادة وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص من طرق في كتاب التمهيد
وقال الثوري والحسن بن صالح وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ومحمد بن جرير الطبري آخر وقت الظهر إذا كان ظل كل شيء مثله ثم يدخل وقت العصر
ولم يذكروا فاصلة إلا أن قولهم ثم يدخل وقت العصر يقتضي الفاصلة
وقال أبو حنيفة آخر وقت الظهر إذا كان ظل كل شيء مثليه فخالف الآثار والناس لقوله بالمثلين في آخر وقت الظهر وخالفه أصحابه في ذلك
وذكر الطحاوي رواية أخرى عن أبي حنيفة أنه قال آخر وقت الظهر حين يصير ظل كل شيء مثله مثل قول الجماعة ولا يدخل وقت العصر حتى يصير ظل كل شيء مثليه
فترك بين الظهر والعصر وقتا مفردا لا يصلح لأحدهما وهذا لم يتابع عليه أيضا
وأما أول وقت العصر فقد تبين من قول مالك ما ذكرنا فيه ومن قول الشافعي ومن تابعه على ما وصفناه ومن قول سائر العلماء أيضا في مراعاة الميل من الظل ما قد بيناه وهو كله معنى متقارب
وقال أبو حنيفة أول وقت العصر من حين يصير الظل مثلين
وهذا خلاف الآثار وخلاف الجمهور وهو قول عند الفقهاء من أصحابه وغيرهم مهجور
واختلفوا في آخر وقت العصر فقال مالك آخر وقت العصر أن يكون ظل كل شي مثليه بعد القدر الذي زالت الشمس عليه
وهذا عندنا محمول من قوله على الاختيار وما دامت الشمس بيضاء نقية فهو وقت مختار أيضا لصلاة العصر عنده وعند سائر العلماء
وأجمع العلماء أن من صلى العصر والشمس بيضاء نقية لم تدخلها صفرة فقد صلاها في وقتها المختار وفي ذلك دليل على [أن] مراعاة المثلين عندهم استحباب
قال بن عبد الحكم عن مالك في آخر وقت العصر أن يكون ظل كل شيء مثليه بعد القدر الذي زالت عليه الشمس
26

وقال محمد ابنه القامتان في وقت العصر مذكورتان عن النبي - عليه السلام - وعن بعض الصحابة
قال وهو قول مالك وأصحابه وبه نأخذ
وفي المدونة قال بن القاسم لم يكن مالك يذكر القامتين في وقت العصر ولكنه كان يقول والشمس بيضاء نقية
وقال بن القاسم عن مالك آخر وقت العصر اصفرار الشمس
وقال بن وهب عن مالك الظهر والعصر آخر وقتهما غروب الشمس
وهذا كله لأهل الضرورات كالحائض والمغمى عليه ومن يعيد في الوقت
وقال الثوري إن صلاها ولم تتغير الشمس فقد أجزأه وأحب إلى أن يصليها إذا كان ظله مثله إلى أن يكون ظله مثليه
وقال الشافعي أول وقتها في الصيف إذا جاوز ظل كل شيء مثله بشيء ما كان ومن أخر العصر حتى يجاوز ظل كل شيء مثليه في الصيف أو قدر ذلك في الشتاء فقد فاته وقت الاختيار ولا يجوز أن يقال فاته وقت العصر مطلقا كما جاز على الذي أخر الظهر إلى أن جاوز ظل كل شيء مثله
قال وإنما قلت ذلك لحديث أبي هريرة عن النبي - عليه السلام - أنه قال من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر (1)
وحجة من ذهب إلى هذا المعنى الأحاديث في إمامة جبريل مع حديث العلاء عن أنس وحديث أبي هريرة هذا
وعلى هذا التأويل تستعمل الأحاديث كلها ومذهب مالك يدل أيضا على ذلك
وقال أبو يوسف ومحمد وقت العصر إذا كان ظل كل شيء قامته فيزيد على القامة إلى أن تتغير الشمس
وقال أبو ثور أول وقتها إذا صار ظل كل شيء مثله بعد الزوال وزاد على الظل زيادة تتبين إلى أن تصفر الشمس
وقول أحمد بن حنبل آخر وقت العصر ما لم تصفر الشمس
وقال إسحاق بن راهويه آخر وقت العصر أن يدرك المصلي منها ركعة قبل الغروب
27

وهو قول داود لكل الناس معذور وغير معذور صاحب ضرورة وصاحب رفاهية إلا أن الأفضل غيره
وعند إسحاق بن راهويه أيضا أول الوقت
وقال الأوزاعي إن ركع ركعة قبل غروبها وركعة بعد غروبها فقد أدركها
وحجته حديث أبي هريرة عن النبي عليه السلام من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر (1)
واختلفوا في آخر وقت المغرب بعد إجماعهم على أن وقتها غروب الشمس
فالظاهر من قول مالك أن وقتها وقت واحد عند مغيب الشمس وبهذا تواترت الروايات عنه
إلا أنه قال في الموطأ فإذا غاب الشفق فقد خرج وقت المغرب ودخل وقت العشاء
وبهذا قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وبن حي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود والطبري كل هؤلاء يقولون آخر وقت المغرب مغيب الشفق والشفق عندهم الحمرة
وحجتهم في ذلك حديث أبي موسى الأشعري ومثله حديث بريدة الأسلمي أن رسول الله عليه السلام صلاها عند سؤال السائل عن مواقيت الصلوات فلم يرد عليه شيئا وأمر بلالا فأقام الفجر حين انشق الفجر والناس لا يعرف بعضهم بعضا ثم أمره فأقام الظهر حين زالت الشمس ثم أمره فأقام العصر والشمس مرتفعة ثم أمره فأقام المغرب حين وقعت الشمس ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق ثم أخر الفجر من الغد حتى انصرف منها والقائل يقول طلعت الشمس أو كادت ثم أخر الظهر حتى كان قريبا من العصر ثم أخر العصر حتى خرج منها والقائل يقول احمرت الشمس ثم أخر المغرب حتى كان سقوط الشفق ثم أخر العشاء حتى كان ثلث الليل ثم أصبح فدعا السائل فقال له الوقت فيما بين هذين (2)
وقد ذكرنا إسناد الحديث وحديث بريدة وغيرهما بهذا المعنى في التمهيد
قالوا وهذه الآثار أولى من آثار إمامة جبريل لأنها متأخرة بالمدينة وإمامة جبريل كانت بمكة والآخر من فعله أولى لأنه زيادة على الأولى
28

واحتجوا بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص وفيه ووقت المغرب ما لم يسقط الشفق (1)
وحديث أبي بصرة الغفاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صلى العصر قال لا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد (2)
والشاهد النجم
وحديث عائشة وأنس بن مالك عن النبي عليه السلام إذا حضرت العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء (3)
وكل ذلك يدل على سعة الوقت وقد قرأ فيها بالطور وبالصافات والأعراف
وقد ذكرنا الآثار بها كلها في التمهيد
وقال الشافعي في وقت المغرب قولين
أحدهما أنه ممدود إلى مغيب الشفق كما نزع إليه مالك في ((الموطأ)) (4)
والآخر - وهو المشهور عنه - أن وقتها واحد لا وقت لها غيره في الاختيار وذلك حين تجب الشمس (5)
قال وذلك بين في إمامة جبريل
قال ولو جاز أن تقاس المواقيت لقيل لا تفوت حتى يدخل أول وقت العشاء قبل أن يصلي منها ركعة كما قال في العصر ولكن المواقيت لا تؤخذ قياسا
وقال الثوري وقت المغرب إذا غربت الشمس فإن حبسك عذر فأخرتها إلى أن يغيب الشفق في السفر فلا بأس بها وكانوا يكرهون تأخيرها
قال أبو عمر المشهور من مذهب مالك ما ذهب إليه الشافعي والثوري في وقت المغرب
29

والحجة لهم أن كل حديث ذكرناه في التمهيد في إمامة جبريل - على تواترها - لم تختلف في أن للمغرب وقتا واحدا
وقد روي مثل ذلك عن النبي - عليه السلام - من حديث أبي هريرة وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمرو بن العاص وكلهم صحبة بالمدينة وحكي عنه صلاته بها وأنه لم يصل المغرب في الوقتين لكن في وقت واحد وسائر الصلوات في وقتين
على أن مثل هذا يؤخذ عملا لأنه لا يغفل عنه ولا يجوز جهله ولا نسيانه
وقد حكى محمد بن خويز منداد البصري المالكي في كتابه في ((الخلاف)) أن الأمصار كلها بأسرها لم يزل المسلمون فيها على تعجيل المغرب والمبادرة إليها في حين غروب الشمس ولا نعلم أحدا من المسلمين آخر إقامة المغرب في مسجد جماعة عن وقت غروب الشمس
وفي هذا ما يكفي مع العمل بالمدينة في تعجيلها ولو كان وقتها واسعا لعلم المسلمون فيها كعملهم في العشاء الآخرة وسائر الصلوات من أذان واحد من المؤذنين بعد ذلك وغير ذلك مما يحملهم عليه اتساع الوقت
وفي هذا كله دليل على أن النبي - عليه السلام - لم يزل يصليها وقتا واحدا إلى أن مات عليه السلام
ولو وسع لهم لاتسعوا لأن شأن العلماء الأخذ بالتوسعة
وهذا كله على وقت الاختيار والترغيب في هذه الصلاة فالبدار إلى الوقت المختار
وقد زدنا هذا المعنى بيانا في ((التمهيد)) وذكرنا الآثار المسندة بهذا المعنى هناك أيضا والحمد لله
وأجمعوا على أن وقت العشاء الآخرة للمقيم مغيب الشفق الذي هو الحمرة هذا قول مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وأكثر العلماء في الشفق
وقال أحمد بن حنبل أما في الحضر فأحب إلي ألا يصلي حتى يذهب البياض وأما في السفر فيجزئه أن يصلي إذا ذهبت الحمرة
واختلفوا في آخر وقتها فالمشهور من مذهب مالك في آخر وقت العشاء في السفر والحضر لغير أصحاب الضرورات ثلث الليل ويستحب لأهل مساجد الجماعات ألا يعجلوا بها في أول وقتها إذا كان ذلك غير مضر بالناس وتأخيرها قليلا أفضل عنده
30

وقد روي عنه ما قدمناه أن أوائل الأوقات أحب إليه في كل صلاة إلا في الظهر في شدة الحر فإنها يبرد بها
وأما رواية بن وهب عن مالك قال وقتها من حين يغيب الشفق إلى أن يطلع الفجر - فإنما ذلك لمن له الاشتراك من أهل الضرورات
وقال أبو حنيفة وأصحابه المستحب في وقتها إلى ثلث الليل ويكره تأخيرها إلى بعد نصف الليل ولا تفوت إلا بطلوع الفجر
وقال الشافعي آخر وقتها أن يمضي ثلث الليل فإذا مضى ثلث الليل فلا أراها إلا فائتة يعني وقتها المختار لأنه ممن يقول بالاشتراك لأهل الضرورات
وقال أبو ثور وقتها من مغيب الشفق إلى ثلث الليل
وقال داود وقتها من مغيب الشفق إلى طلوع الفجر
قال أبو عمر في أحاديث إمامة جبريل من رواية بن عباس وجابر - ثلث الليل
وكذلك في حديث أبي موسى بالمدينة للسائل
وفي حديث أبي مسعود الأنصاري وحديث أبي هريرة - ساعة من الليل
وفي حديث عبد الله بن عمر ونصف الليل
وحديث علي مثله
وحديث بن عمر مثله
وكلها مسندة وقد ذكرتها في كتاب ((التمهيد)) بأسانيدها
وروى أبو سعيد الخدري وأبو هريرة عن النبي - عليه السلام - قال ((لولا أن أشق على أمتي لأخرت العشاء إلى نصف الليل)) (1)
وفي حديث أبي هريرة إلى ثلث الليل
وهذا يحتمل الوجهين لأنه يدل على أن الاختيار التعجيل خوف المشقة
31

وأجمعوا على أن أول وقت صلاة الصبح طلوع الفجر وانصداعه (1) وهو البياض المعترض في الأفق الشرقي في آخر الليل وهو الفجر الثاني الذي ينتشر ويظهر وأن آخر وقتها طلوع الشمس
إلا أن بن القاسم روى عن مالك آخر وقتها الإسفار
وكذلك حكى عنه بن عبد الحكم أن آخر وقتها الإسفار الأعلى
وقال بن وهب آخر وقتها طلوع الشمس
وهو قول الثوري والجماعة إلا أن منهم من شرط إدراك ركعة منها قبل الطلوع على حسب ما مضى في العصر
قال الشافعي لا تفوت صلاة الصبح حتى تطلع الشمس قبل أن يدرك منها ركعة بسجودها فمن لم تكمل له ركعة قبل طلوع الشمس فقد فاتته
وهو قول أبي ثور وأحمد وإسحاق وداود والطبري وأبي عبيد
وأما أبو حنيفة وأصحابه فإنهم يفسدون صلاة من طلعت عليه الشمس وهو يصليها وسيأتي ذكر حجتهم والحجة عليهم في حديث زيد بن أسلم
وأما قول عروة ((ولقد حدثتني عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها قبل أن تظهر - فمعناه عندهم قبل أن يظهر الظل على الجدار يريد قبل أن يرتفع ظل حجرتها على جدرها
وكل شيء علا شيئا فقد ظهر عليه قال الله تعالى * (فما اسطاعوا أن يظهروه) * [الكهف 97] أي يعلوا عليه
وقال النابغة الجعدي
(بلغنا السماء مجدنا وجدودنا
* وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا (2))
أي مرتقى وعلوا
وقيل معناه أن يخرج الظل من قاعة حجرتها
وكل شيء خرج أيضا فقد ظهر والحجرة الدار وكل ما أحاط به حائط فهو حجرة
32

وفي الحديث دليل على قصر بنيانهم وحيطانهم لأن الحديث إنما قصد به تعجيل العصر وذلك إنما يكون مع قصر الحيطان
وإنما أراد عروة بذلك ليعلم عمر بن عبد العزيز عن عائشة أن النبي كان يصلي العصر قبل الوقت الذي أخرها إليه عمر
وقد ذكرنا في كتاب ((التمهيد)) عن الحسن البصري قال كنت أدخل بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأنا محتلم فأنال سقفها بيدي وذلك في خلافة عثمان
وقال الأوزاعي كان عمر بن عبد العزيز يصلي الظهر في الساعة الثامنة والعصر في الساعة العاشرة حين يدخل حدثني بذلك عاصم بن رجاء بن حيوة
قال أبو عمر هذه حاله إذ صار خليفة وحسبك به اجتهادا في خلافته
روى الليث بن سعد عن بن شهاب عن عروة عن عائشة أنها قالت ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها لم يظهر الفيء من حجرتها))
ورواه بن عيينة عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر والشمس في حجرتي بيضاء نقية لم يظهر الفيء بعد))
وفي رواية معمر لهذا الحديث عن بن شهاب قال قال عمر لعروة انظر ما تقول يا عروة أو أن جبريل هو سن وقت الصلاة فقال له عروة كذلك حدثني بشير بن أبي مسعود الأنصاري فما زال عمر يعتلم وقت الصلاة بعلامة حتى فارق الدنيا
وقد روي أنه ولى بعد الجمعة فأنكرت حاله في العصر
وفيه دليل على قبول خبر الواحد (1) لأن عمر قبل خبر عروة وحده فيما جهل من أمر دينه - وهذا منا على التنبيه فإن قبول خبر الواحد مستفيض عند الناس مستعمل لا على سبيل الحجة لأنا لا نقول إن خبر الواحد حجة في قبول خبر الواحد على من أنكره
وقد أفردنا للحجة في خبر الواحد كتابا والحمد لله وفيه ما كان عليه العلماء من صحبة الأمراء
وكان عمر بن عبد العزيز يصحبه جماعة من العلماء منهم رجاء بن حيوة وبن شهاب وعروة وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وأخلق بالأمير إذا صحب العلماء أن يكون عدلا فاضلا
وروى حماد بن زيد عن محمد بن الزبير قال دخلت على عمر بن عبد
33

العزيز فسألني عن الحسن كما يسأل الرجل عن ولده فقال كيف طعمته (1) وهل رأيته يدخل على عدي بن أرطأة وأين مجلسه منه وهل رأيته يطعم عند عدي قلت نعم
وقد أوضحنا هذا المعنى في كتاب ((جامع العلم وفضله)) وما ينبغي في روايته وحمله
كانوا يقولون خير الأمراء من صحب العلماء وشر العلماء من صحب الأمراء إلا من قال بالحق وأمر بالمعروف وأعان الضعيف
((حديث ثان))
3 - مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أنه قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن وقت صلاة الصبح قال فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان من الغد صلى الصبح حين طلع الفجر ثم صلى الصبح من الغد بعد أن أسفر (2) ثم قال ((أين السائل عن وقت الصلاة)) قال ها أنذا يا رسول الله فقال ((ما بين هذين وقت)) (3)
لم يختلف الرواة عن مالك في إرسال هذا الحديث وقد يتصل معناه من وجوه شتى من حديث جابر وحديث أبي موسى وحديث عبد الله بن عمر وحديث بريدة الأسلمي إلا أن فيها سؤال السائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن مواقيت الصلاة جملة وإجابته فيها كلها على حسب ما ذكرناه من ذلك في ((التمهيد)) وفيها كلها في الصبح معنى حديث مالك هذا
وقد روي حميد الطويل عن أنس بن مالك أن رجلا سأل النبي - عليه السلام - عن صلاة الصبح (4) فذكر مثل مرسل عطاء بن يسار هذا سواء وقد ذكرنا حديث حميد من وجوه في التمهيد))
وبلغني أن سفيان بن عيينة حدث بهذا الحديث عن زيد بن أسلم عن عطاء عن يسار عن أنس بن مالك عن النبي عليه السلام والصحيح في حديث عطاء الإرسال كما رواه مالك وحديث حميد عن أنس متصل صحيح
34

في هذا الحديث من الفقه تأخير البيان عن وقت السؤال وقت آخر يجب فيه فعل ذلك
فأما تأخير البيان عن حين تكليف الفعل والعمل حتى ينقضي وقته فغير جائز عند الجميع
وهذا باب طال فيه الكلام بين أهل النظر من أهل الفقه وقد أوضحناه في ((التمهيد))
وقد يكون البيان بالفعل - فيما سبيله العمل - أثبت في النفوس من القول دليل ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ليس الخبر كالمعاينة)) (1) رواه بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يروه غيره
وفي هذا الحديث أن أول وقت صلاة الصبح طلوع الفجر وأن آخر وقتها ممدود إلى آخر الإسفار على ما مضى في الحديث الذي قبل هذا
ولا خلاف بين علماء المسلمين في أن أول وقت صلاة الصبح طلوع الفجر على ما في هذا الحديث وظهوره للعين
والفجر هو أول بياض النهار الظاهر في الأفق الشرقي المستطير المنير المنتشر تسميه العرب الخيط الأبيض
قال الله عز وجل * (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود) * [البقرة 187] يريد بياض النهار من سواد الليل
وقال أبو دؤاد الإيادي
(فلما أضاءت لنا سدفة
* ولاح من الصبح خيط أنارا (2))
وقال آخر
(قد كاد يبدو أو بدت تباشره
* وسدف الليل البهيم ساتره (3))
وسمته أيضا الصديع ومنه قولهم انصدع الفجر
قال بشر بن أبي خازم أو عمرو بن معد يكرب
(به السرحان مفترشا يديه
* كأن بياض لبته الصديع
35

وشبهه الشماخ بمفرق الرأس لمن فرق شعره فقال
(إذا ما الليل كان الصبح فيه
* أشق كمفرق الرأس الدهين (1))
ويقولون للأمر الواضح هذا كفلق الصبح وتباشير الصبح وكانبلاج الفجر
وقد زدنا هذا بيانا في ((التمهيد))
وفي قوله صلى الله عليه وسلم ((ما بين هذين وقت)) دليل على سعة الوقت في الصبح وفي غيرها من الصلوات على ما قد أوضحنا فيما مضى من الأوقات
ونزع بقوله ((ما بين هذين وقت)) إلى جعل أول الوقت كآخره في الفضل
ومال إلى ذلك بعض أصحاب مالك وقال به أهل الظاهر وخالفهم جمهور العلماء ونزعوا بأشياء قد ذكرتها في ((التمهيد)) وعمدتها أن المبادر إلى أداء فرضه في أول الوقت - أفضل من المتأني به وطالب الرخصة في السعة فيه بدليل قوله عز وجل * (فاستبقوا الخيرات) * [البقرة 148] وقوله * (سابقوا إلى مغفرة من ربكم) * [الحديد 31]
وقال عليه السلام - ((أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله)) (2)
وقال - عليه السلام أفضل الأعمال ((الصلاة لأول وقتها)) (3)
وقد ذكرنا الحديث في ((التمهيد))
واختلف الفقهاء في الأفضل من صلاة الصبح فذهب الكوفيون وأبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي وأكثر العراقيين إلى أن الإسفار بها أفضل من التغليس في الأزمنة كلها الشتاء والصيف
واحتجوا بحديث رافع بن خديج عن النبي عليه السلام ((أسفروا بالصبح فكلما أسفرتم فهو أعظم للأجر
36

وقد ذكرنا هذا الحديث وبينا علته على مذهب من علله في ((التمهيد))
وذكروا عن علي وبن مسعود أنهما كانا يسفران بالصبح جدا
وكان مالك والليث بن سعد والأوزاعي والشافعي يذهبون إلى أن التغليس بصلاة الصبح أفضل وهو قول أحمد بن حنبل وأبي ثور وداود بن علي وأبي جعفر الطبري
ومن حجتهم حديث عائشة ((أن رسول الله - عليه السلام - كان يصلي فينصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس)) (1)
وذكروا عن أبي بكر وعمر أنهما كانا يغلسان وأنه لما قتل عمر أسفر بها عثمان
ولم يختلف المسلمون في فضل البدار إلى المغرب وكذلك سائر الصلوات في القياس عند تعارض الآثار
وقد أوضحنا معنى الإسفار في قوله أسفروا بالفجر في ((التمهيد)) واختصار ذلك أن الإسفار التبين والتبين بالفجر إذا انكشف واتضح ليلا يصلي في مثله من دخول الوقت ومن ذلك قول العرب أسفرت المرأة عن وجهها إذا كشفت عنه
((حديث ثالث))
4 - مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي الصبح
فينصرف النساء متلفعات (2) بمروطهن (3) ما يعرفن (4) من الغلس
37

وروى يحيى بن يحيى ((متلففات)) بالفاء وتابعة طائفة من رواة الموطأ وأكثر الرواة على ((متلفعات)) بالعين والمعنى واحد والمروط أكسية الصوف وقد قيل المرط كساء صوف سداه شعر
وفي هذا الحديث التغليس بصلاة الصبح وهو الأفضل عندنا لأنها كانت صلاة رسول الله وأبي بكر وعمر ولفظ حديث عائشة هذا يدل على أنه كان الأغلب من فعله والذي كان يداوم عليه لقولها كان رسول الله يصلي الصبح في وقت كذا أو على صفة كذا يدل على أن ذلك فعله دهره أو أكثر دهره والله أعلم
وإلى التغليس بها ذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وعامة فقهاء الحجاز وهو الأفضل عندهم وبه قال داود
وذهب الكوفيون إلى الإسفار بها على ما قدمنا ذكره عنهم وهو أفضل عندهم من قول طاوس وإبراهيم وجماعة
وقال الطحاوي إنما تتفق معاني آثار هذا الباب بأن يكون دخوله عليه السلام - مغلسا ثم يطيل القراءة حتى ينصرف عنها مسفرا
وهذا خلاف قول عائشة لأنها حكت أن انصراف النساء كان وهن لا يعرفن من الغلس
ولو قرأ - عليه السلام - بالسور الطوال ما انصرف الناس إلا وهم قد أسفروا بل دخلوا في الإسفار جدا
ألا ترى إلى أبي بكر حين قرأ بالبقرة في ركعتي صلاة الصبح فانصرف فقيل له كادت الشمس أن تطلع فقال لو طلعت لما وجدتنا غافلين
ورواه بن عيينة وغيره عن بن شهاب عن أنس أنه صلى خلف أبي بكر فذكره
وذكر عبد الرزاق عن بن جريج قال قلت لعطاء أي حين أحب إليك أن أصلي الصبح إماما وخلوا قال حين ينفجر الفجر الآخر ثم تطول القراءة والركوع والسجود حتى تنصرف منها وقد تبلج النهار وتتام الناس (1)
ولقد بلغني أن عمر بن الخطاب كان يصليها حين ينفجر الفجر الآخر وكان يقرأ في إحدى الركعتين بسورة يوسف
وأما قول عطاء الفجر الآخر فهو مأخوذ - والله أعلم - من حديث مرسل ذكره بن وهب عن بن أبي ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن عن محمد بن عبد
38

الرحمن بن ثوبان أن رسول الله - عليه السلام - قال هما فجران فأما الذي كأنه ذنب السرحان فإنه لا يحل شيئا ولا يحرم وأما المستطير (1) الذي يأخذ الأفق فبه تحل الصلاة ويحرم الطعام على الصائم
وقد غلط بعض من ألف في شرح الموطأ فزعم أن هذا الحديث رواه ثوبان عن النبي - عليه السلام - وهذا غلط بين أرسله محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان وليس بينه وبين ثوبان مولى رسول الله نسب
وروى الإسفار والتنوير بالفجر عن علي وبن مسعود وأصحابهما وسعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز
وذكر بن أبي شيبة عن بن مهدي عن معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية عن جبير بن نفير قال صلى بنا معاوية بغلس فقال أبو الدرداء أسفروا بهذه الصلاة فإنه أفقه لكم
وقال إسحاق بن منصور سألت أحمد بن حنبل عن الإسفار ما هو فقال الإسفار أن يتضح الفجر فلا تشك أنه طلع الفجر
قال وقال إسحاق بن راهويه هو كما قال أحمد
حدثنا أحمد بن محمد قال حدثنا الحسن بن سلمة بن المغل قال حدثنا عبد الله بن الجارود قال حدثنا إسحاق بن منصور الكوسج قال حدثنا أحمد بن حنبل فذكره قال وقال لي إسحاق بن راهويه مثله
وبهذا الإسناد مسائل أحمد وإسحاق كلها في هذا الكتاب
((حديث رابع))
5 - مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار وعن بسر بن سعيد وعن الأعرج كلهم يحدثونه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر))
وفي ((التمهيد)) ذكر وفاة عطاء بن يسار وبسر والأعرج وسن كل واحد منهم وحاله
39

وفي كتاب الصحابة ذكر أبي هريرة
وروي عن حفص عن ميسرة هذا الحديث عن زيد بن أسلم عن الأعرج وبسر بن سعيد وأبي صالح عن أبي هريرة فجعل مكان عطاء أبا صالح
ورواه أبو غسان محمد بن مطرف عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة ولم يذكر عطاء غيره
ورواه إسماعيل بن عياش عن زيد بن أسلم عن الأعرج وحده عن أبي هريرة
وجوده مالك - رحمه الله - وكان حافظا متقنا وهو إسناد مجمع على صحته وكلهم رواه عن أبي هريرة
والإدراك في هذا الحديث إدراك الوقت لا أن ركعة من الصلاة من أدركها ذلك الوقت أجزته من تمام صلاته
وقد ذكرنا في ((التمهيد)) من قال في هذا الحديث من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس ثم صلى تمام صلاته بعد غروبها فقد أدرك ومن صلى ركعة من الصبح قبل طلوع الشمس وصلى ما بقي بعد طلوعها فقد أدرك أيضا
وهذا إجماع من المسلمين لا يختلفون أن معنى هذا الحديث ما وصفناه
وفي هذا أن حديث مالك ليس على ظاهره فإن معناه فقد أدرك إن أتم ما بقي عليه بعد طلوع الشمس وغروبها
وهذا الحديث أيضا ورد بلفظه الإباحة في صلاة الصبح وصلاة العصر في ذينك الوقتين وليس هو أيضا على ظاهره في ذلك المعنى بدليل ما ذكرنا من صلاته - عليه السلام - فيما مضى من كتابنا هذا أنها كانت في العصر والشمس بيضاء نقية وعند القامتين ونحو ذلك على حديث إمامة جبريل في المثلين من ظل كل قائم على ما أوضحناه فيما سلف من هذا الكتاب
وكذلك الصلاة في الصبح لم تكن كلها إلا قبل طلوع الشمس أبدا فدل ذلك كله مع حديث مالك عن العلاء عن أنس عن النبي - عليه السلام - أنه قال في الذي يؤخر صلاة العصر حتى تصفر الشمس وتكون بين قرني الشيطان ((أنها صلاة المنافقين
40

على أن هذا الحديث ليس معناه الإباحة وأنه خرج على أصحاب الضرورات كالمغمى عليه يفيق والحائض تطهر والكافر يسلم في ذلك الوقت أنه مدرك للوقت
وقد أجمع المسلمون على أن من كان له عذر في ترك الصلاة إلى ذلك الوقت ثم قدر على أدائها كلها فيه لزمته فكذلك يلزمه إذا أدرك منها ركعة بدليل هذه السنة الواردة في ذلك لأنه - عليه السلام - جعل مدرك ركعة منها في ذلك الوقت مدركا لوقتها كما جعل مدرك الركعة من الصلاة مدركا لحكمها وفضلها وسيأتي هذا المعنى في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله
وقد تقدم ما للعلماء من الاختلاف في وقت العصر ووقت الصبح فلا وجه لإعادته وجرى فيه قول من جهل هذا الحديث على عمومه في ذي ضرورة [وغيره] ومن اقتصر على أصحاب العذر والضرورة فمن كان عنده على الضرورات فمن الضرورات في ذلك السفر
وقد اختلف العلماء في معنى هذا الحديث
فذهب مالك وأصحابه إلى ظاهره فقالوا من خرج مسافرا وقد بقي عليه من النهار مقدار ركعة بعد أن جاز بيوت القرية أو المصر ولم يكن صلاها صلى العصر ركعتين ولو خرج وقد بقي عليه مقدار ثلاث ركعات ولم يكن صلى الظهر والعصر صلاهما جميعا مقصورتين وهكذا عندهم حكم المغرب والعشاء يراعى فيهما مقدار ركعة من كل واحدة منهما على أصله فمن سافر وقد بقي عليه مقدار ركعة فإنه يقصر تلك الصلاة ولو قدم من سفره في ذلك الوقت أتم
وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والثوري إذا خرج من مصره قبل خروج الوقت صلى ركعتين وإن قدم قبل خروج الوقت أتم وهذا نحو قول مالك إلا أنهم لم يحدوا الركعة
وقال زفر إن جاوز بيوت القرية أو المصر ولم يبق عليه من الوقت إلا مقدار ركعة فإنه مفرط وعليه أن يصلي العصر أربعا وإن قدم من سفره فدخل مصره ولم يبق عليه إلا ركعة واحدة أتم الصلاة أيضا أخذا له في ذلك بالثقة
وقال الحسن بن حي والليث بن سعد والشافعي إذا خرج بعد دخول الوقت أتم لأن الصلاة تجب عندهم بأول الوقت وليست السعة في الوقت بمسقطة عنه ما وجب عليه في أوله
41

قالوا وإن قدم المسافر قبل خروج الوقت أتم أخذوا في ذلك بالثقة والاحتياط لزوال عليه السفر
وأصل الشافعي في القصر أنه رخصة وسنة فمن شاء أتم في السفر عنده ومن شاء قصر ما دام مسافرا
وسيأتي بيان ذلك وما للعلماء من التنازع فيه ووجوه أقوالهم في باب قصر الصلاة إن شاء الله
وروى بن وهب عن الليث بن سعد في الرجل تزول عليه الشمس وهو يريد سفرا فلم يصل حتى خرج قال يصلي صلاة المقيم لأن الوقت دخل عليه قبل الخروج ولو شاء أن يصلي صلى
وأما اختلاف الفقهاء في صلاة الحائض والمغمى عليه ومن جرى مجراهما
فقال مالك في المغمى عليه من أغمي عليه في وقت صلاة فلم يفق حتى ذهب وقتها ظهرا كانت أو عصرا
قال والظهر والعصر وقتهما إلى مغيب الشمس - فلا إعادة عليه
قال وكذلك المغرب والعشاء وقتهما الليل كله
قال مالك إذا طهرت الحائض قبل الغروب فإن كان قد بقي عليها من النهار قدر ما تصلي خمس ركعات صلت الظهر والعصر وإن لم يكن بقي عليها من النهار قدر ما تصلي خمس ركعات صلت العصر فإذا طهرت قبل الفجر فكان ما بقي عليها من الليل قدر ما تصلي أربع ركعات ثلاثا للمغرب وركعة للعشاء - صلت المغرب والعشاء وإن لم يبق عليها إلا مقدار ثلاث ركعات صلت العشاء
ذكره بن القاسم وبن وهب وأشهب وبن عبد الحكيم عن مالك
قال أشهب وسئل مالك عن النصراني يسلم والمغمى عليه يفيق أهما مثل الحائض تطهر قال نعم يقضي كل واحد منهما ما كان في وقته وما فات وقته لم يقضه
قال بن وهب وسألت مالكا عن المرأة تنسى أو تغفل عن صلاة الظهر فلا تصليها حتى تغشاها الحيضة قبل غروب الشمس
فقال مالك لا أرى عليها قضاء للظهر ولا للعصر إلا أن تحيض بعد غروب الشمس فإن حاضت بعد غروب الشمس ولم تكن صلت الظهر والعصر - رأيت عليها القضاء
قال ولو نسيت الظهر والعصر حتى اصفرت الشمس ثم حاضت فليس عليها
42

قضاء فإن لم تحض حتى غابت الشمس فعليها القضاء قال ولو طهرت قبل غروب الشمس واشتغلت بالغسل مجتهدة غير مفرطة حتى غابت الشمس لم تقض شيئا
وروى الوليد بن مزيد عن أبيه عن الأوزاعي معنى قول مالك هذا في الحائض سواء
وقال الشافعي إذا طهرت الحائض قبل مغيب الشمس بركعة أعادت الظهر والعصر وكذلك إن طهرت قبل الفجر بركعة أعادت المغرب والعشاء
واحتج بقول النبي - عليه السلام - ((من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر)) (1) ولجمعه - عليه السلام - بين الصلاتين في أسفاره وبعرفة والمزدلفة في وقت إحداهما - صلاتي الليل وصلاتي النهار وجعل الوقت لهما معا وقتا واحدا
وللشافعي في هذه المسألة أقوال
أحدها هذا
والثاني مثل قول مالك مراعاة ركعة للعصر وأربع ركعات للظهر وأربع ركعات للمغرب والعشاء وما دون ذلك للعشاء
والقول الثالث قاله في المغمى عليه إذا أفاق وقد بقي عليه من النهار مقدار ما يكبر تكبيرة الإحرام أعاد الظهر والعصر وكذلك إن أفاق قبل طلوع الفجر بقدر تكبيرة قضى المغرب والعشاء وكذلك الصبح قبل طلوع الشمس والقول الأول أشهرها عنه
وعنده أنه لا تعيد الحائض ولا المغمى عليه إلا ما أدركا وقته وما فات وقته فلا إعادة فيه عليهما ولا على من جرى مجراهما كالكافر يسلم والصبي يحتلم فأقل إدراك يكون لمن لم يدرك إلا مقدار تكبيرة
وقال فيمن ذهب عقله فيما لا يكون به عاصيا قضى كل صلاة فاتته على حال زوال عقله وذلك مثل السكران وشارب السم لا السكران عامدا لذهاب العقل
قال أبو عمر قوله - عليه السلام - ((من أدرك ركعة)) يقتضي فساد قول من قال من أدرك تكبيرة لأن دليل الخطاب أنه من لم يدرك من الوقت مقدار ركعة فقد فاته ومن فاته فقد سقطت عنه صلاة الوقت إذ كان مثل الحائض والمغمى عليه ومن كان مثلهما
وما احتج به بعض أصحاب الشافعي لهذه القولة حيث قال إنما أراد - عليه
43

السلام - بذكر الركعة البعض من الصلاة فكأنه قال من أدرك عمل بعض الصلاة في الوقت ومعلوم أن تكبيرة الإحرام بعض الصلاة
والدليل على أنه أراد البعض من الصلاة قوله في بعض الأحاديث ((من أدرك ركعة)) وفي بعضها ((من أدرك ركعتين)) وفي بعضها ((من أدرك سجدة)) فدل أنه أراد بعض الصلاة والتكبيرة بعض الصلاة فمن أدركها فكأنه أدرك ركعة من الصلاة
قال أبو عمر هذا ينتقض (1) فليس بشيء لأنه ينتقض عليه بذلك ما أصله في الجمعة لأنه لم يختلف في أنه من لم يدرك ركعة بسجدتها من الجمعة لم يدركها وهو ظاهر الخبر لأن قوله من أدرك ركعة من الصبح أو من العصر يريد من وقتهما في معنى قوله من أدرك ركعة من الصلاة وقوله في جماعة أصحابه من لم يدرك ركعة تامة من الجمعة أتمها ظهرا أربعا وهذا يقتضي على سائر أقواله وهو أصحها وهو قول مالك
وقال أبو حنيفة وأصحابه - وهو قول بن عليه ومن طهرت من الحيض أو بلغ من الصبيان أو أسلم من الكفار لم يكن عليه أن يصلي شيئا مما فات وقته وإنما يقضي ما أدرك وقته بمقدار ركعة فما زاد إلا أنهم لا يقولون باشتراك الأوقات لا في صلاتي الليل ولا في صلاتي النهار وسيأتي ذكر مذهبهم في الجمع بين الصلاتين في السفر في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله
وقول حماد بن أبي سليمان في هذا كقول أبي حنيفة ذكر غندر عن شعبة قال سألت حمادا عن المرأة تطهر في وقت العصر قال تصلي العصر فقط
وأما المغمى عليه فإن أبا حنيفة وأصحابه ذهبوا فيمن أغمي عليه خمس صلوات فأقل ثم أفاق أنه يقضيها ومن أغمي عليه أكثر من ذلك ثم أفاق أنه لا يقضي شيئا
وهو قول الثوري إلا أنه قال أحب إلي أن يقضي
وقال الحسن بن حي إذا أغمي عليه خمس صلوات فما دون قضى ذلك كله إذا أفاق وإن أغمي عليه أياما قضى خمس صلوات ينظر حين يفيق فيقضي ما يليه
وقال زفر في المغمى عليه يفيق والحائض تطهر والنصراني يسلم والصبي يحتلم إنه لا يجب على أحد منهم قط صلاة إلا بأن يدركوا من وقتهما مقدار الصلاة كلها بكمالها كما لا يجب عليهم من الصيام إلا ما أدركوا وقته بكماله
وقول زفر هذا خلاف حديث أبي هريرة ((من أدرك ركعة من الصبح أو من العصر
44

وقول أبي ثور في هذا الباب كله كقول مالك سواء
وقال أحمد بن حنبل في الحائض تطهر والكافر يسلم والغلام يحتلم مثل ذلك أيضا
وقال في المغمى عليه يقضي الصلوات كلها التي كانت في إغمائه
وهو قول عبيد الله بن الحسن لا فرق عندهما بين النائم والمغمى عليه في أن كل واحد منهما يقضي ما فاته بالنوم والإغماء
وهو قول عطاء بن أبي رباح
وروي مثل ذلك عن عمار بن ياسر وعمران بن حصين
وروى بن رستم عن محمد بن الحسن أن النائم إذا نام أكثر من يوم وليلة فلا قضاء عليه
قال أبو عمر لا أعلم أحدا قال هذا القول من الفقهاء غير محمد بن الحسن في هذه الرواية عنه والمشهور عنه في كتبه غير ذلك كسائر العلماء ورواية بن رستم عنه خلاف السنة فيمن نام أو نسي أنه يقضي
وقد أجمعوا أنه من نام خمس صلوات فدون أن يقضي فكذلك في القياس ما زاد على الخمس
وكذلك قول من قال في المغمى عليه أنه يقضي خمس صلوات ولا يقضي ما زاد - لاحظ له في النظر
ولا حجة لهم في حديث عمار لأنه قضى صلاة يوم وليلة إذ أغمي عليه ولم يقل إنه لو أغمي علي أكثر لم أقض
ولا فرق في القياس بين خمس وأكثر من خمس
وأصح ما في المغمى عليه يفيق أنه لا قضاء عليه لما فات وقته وهو قول بن شهاب والحسن وبن سيرين وربيعة ومالك والشافعي وأبي ثور وهو مذهب عبد الله بن عمر أغمي عليه فلم يقض شيئا فات وقته وهو القياس وسنبين ذلك عند حديث بن عمر إن شاء الله
وأما مراعاة مالك للحائض الفراغ من غسلها فإن الشافعي خالفه في ذلك فجعلها إذا طهرت كالجنب وألزمها إذا طهرت قبل خروج وقت الصلاة ولم تشتغل بشيء غير غسلها ففاتها الوقت ما يلزم الجنب من تلك الصلاة
وهو قول بن عليه قالا وشغلها بالاغتسال لا يضع عنها ما لزمها بطهرها من فرض الصلاة لأن الصلاة إنما تسقط عنها ما دامت حائضا فإذا طهرت فليست بحائض بل هي كالجنب
45

وقال الشافعي وبن علية لو أن امرأة حاضت في أول وقت الظهر بمقدار ما تمكنها فيه صلاة الظهر ولم تكن صلت لزمها قضاء تلك الصلاة لأن الصلاة تجب بأول الوقت وليست السعة في الوقت تسقط ما وجب بأوله فإن لم تدرك من أول الوقت إلا مقدار ركعة أو مقدار ما لا تتم فيه الصلاة حتى حاضت لم تلزمها الصلاة
وقال بعض أصحاب الشافعي لم يجز أن يجعل أول الوقت ها هنا كآخره فنلزمها بإدراك ركعة الصلاة كلها أو الصلاتين كما فعلنا في آخر وقت [لأن البناء في آخر الوقت] يتهيأ على الركعة ولا يتهيأ البناء في أول الوقت لأن تقديم ذلك قبل دخول الوقت لا يجوز
وأما الوجه الثاني من حديث أبي هريرة هذا فهو جواز من صلى من الصبح ركعة قبل طلوع الشمس وركعة بعدها فإن العلماء اختلفوا في ذلك
فقال الكوفيون لا يقضي أحد صلاة عند طلوع الشمس ولا عند قيام الظهيرة ولا عند غروب الشمس إلا عصر يومه خاصة فإنه لا يأمن أن يصليها عند غروب الشمس من يومها لأنه يخرج إلى وقت لا تجوز فيه الصلاة ولا يؤمر بتأخير صلاة إلى ذلك الوقت إلا أنه لو دخل في صلاة العصر فاصفرت الشمس أتمها إذا كانت عصر يومه خاصة ولو دخل في صلاة الفجر فلم يكملها حتى طلعت الشمس بطلت عليه واستقبلها بعد ارتفاع الشمس
وحجتهم حديث عقبة بن عامر في النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها وعند استوائها رواه جماعة من أئمة أهل الحديث منهم بن وهب عن موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن عقبة بن عامر الجهني قال ((ثلاث ساعات كان رسول الله ينهانا أن نصلي فيهن أو نقبر فيهن موتانا حين تطلع الشمس بازغة (1) حتى ترتفع وحين يقوم قائم الظهيرة حتى ترتفع الشمس وحين تطفل (2) الشمس حتى تغرب
46

وجعلوا نهيه عن ذلك عموما كنهيه عن صيام يوم الفطر والأضحى فلا يجوز لأحد أن يقضي فيهما فرضا ولا يتطوع بصيامهما
وزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أخر الصلاة - إذ نام عنها في الوادي لأنه انتبه عند طلوع الشمس (1)
وذكروا عن أبي بكرة وكعب بن عجرة أن كل واحد منهما نام عن صلاة الصبح فلم يصلها - وقد انتبه عند طلوع الشمس - حتى ارتفعت
وقد ذكرنا خبريهما ((التمهيد)) وقد اختلف عن أبي بكرة في ذلك ولم يختلف عن كعب بن عجرة فيما علمت
وقال مالك والثوري والشافعي والأوزاعي - وهو قول عامة العلماء - من أهل الحديث والفقه من نام عن صلاة أو نسيها أو فاتته بوجه من وجوه الفوت ثم ذكرها عند طلوع الشمس واستوائها أو غروبها أو بعد الصبح أو العصر - صلاها أبدا متى ذكرها على ما ثبت عن النبي - عليه السلام - من حديث أبي هريرة فيمن أدرك ركعة من الصبح أو العصر قبل طلوع الشمس وقبل غروبها وقوله عليه السلام ((من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها)) (2)
وقد ذكرنا الآثار بذلك من طرق في ((التمهيد)) وأوضحنا القول فيه من جهة تهذيب الآثار
ومعلوم أن النسخ لا يكون إلا فيما يتدافع ويتعارض ولو قال عليه السلام لا صلاة بعد الصبح ولا بعد العصر ولا عند طلوع الشمس ولا عند غروبها ولا استوائها إلا من نسي صلاة أو نام عنها فإنه يصليها في كل وقت - لم يكن في ذلك تناقض ولا تدافع فتدبر هذا الأصل وقف عليه
ولا فرق بين أن يكون كلامه - عليه السلام - ذلك كله في وقت واحد أو وقتين
وقد تقصينا الاحتجاج على الكوفيين في هذه المسألة في ((التمهيد))
ولا وجه لادعائهم على رسول الله أنه إنما أخر الصلاة يوم نومه عن الصبح من أجل انتباهه عند طلوع الشمس لأنه قد ثبت أنهم لم يستيقظوا يومئذ حتى أيقظهم حر الشمس ولا تكون لها حرارة إلا والصلاة تجوز ذلك الوقت
وقد ذكرنا الخبر بذلك في ((التمهيد)) والحمد لله
47

((حديث خامس))
6 - مالك عن نافع مولى عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب كتب إلى عماله إن أهم أمركم عندي الصلاة فمن حفظها (1) وحافظ عليها حفظ دينه ومن ضيعها (2) فهو لما سواها أضيع ثم كتب أن صلوا الظهر إذا كان الفيء ذراعا (3) إلى أن يكون ظل أحدكم مثله والعصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية (4) قدر ما يسير الراكب فرسخين أو ثلاثة قبل غروب الشمس والمغرب إذا غربت الشمس والعشاء إذا غاب الشفق (5) إلى ثلث الليل فمن نام فلا نامت عينه (6) فمن نام فلا نامت عينه فمن نام فلا نامت عينه والصبح والنجوم بادية (7) مشتبكة (8)
هكذا روى مالك عن نافع أن عمر بن الخطاب كتب إلى عماله
ورواه عبيد الله بن عمر عن نافع عن صفية بنت أبي عبيد أن عمر بن الخطاب كتب إلى عماله فذكر مثله بمعناه وفي حديث غير هذا ما كان عليه من الاهتبال (9) بأمور المسلمين إذ ولاه الله أمرهم
وإنما خاطب العمال لأن الناس تبع لهم كما جاء في المثل ((الناس على دين الملك))
وروي عن النبي - عليه السلام - أنه قال ((صنفان من أمتي إذا صلحا صلح الناس هم الأمراء والعلماء))
ومن استرعاه الله رعية لزمه أن يحوطها بالنصيحة ولا نصيحة تقدم على
48

النصيحة في الدين لمن لا صلاة له ولا دين لمن لا صلاة له
روي عن النبي - عليه السلام - أنه قال ((من استرعاه الله رعية فلم يحطها بالنصيحة لم يرح رائحة الجنة)) (1)
وكان عمر لرعيته كالأب الحدب لأنه كان يعلم أن كل راع مسؤول عن رعيته وأما قوله حفظها - فحفظها علم ما لا تتم إلا به من وضوئها وسائر أحكامها
وأما قوله ((وحافظ عليها)) فتحتمل المحافظة على أوقاتها والمسابقة إليها
والمحافظة إنما تكون على ما أمر به العبد من أداء فريضة ولا تكون إلا في ذلك أو في معناه من فعل ما أمر به العبد أو ترك ما نهي عنه
ومن هنا لا يصلح أن تكون المحافظة من صفات الباري ولا يجوز أن يقال محافظ ومن صفاته حفيظ وحافظ جل وتعالى علوا كبيرا
وأما قوله ((أن صلوا الظهر إذا كان الفيء ذراعا)) فإنه أراد فيء الإنسان أن يكون ذراعا زائدا على القدر الذي تزول عليه الشمس صيفا وشتاء وذلك ربع قامة
ولو كان القائم ذراعا لكان مراد عمر من ذلك ربع ذراع ومعناه - على ما قدمناه - لمساجد الجماعات لنا يلحق الناس من الاشتغال ولاختلاف أحوالهم فمنهم الخفيف والثقيل في حركاته
وقد مضى في حديث بن شهاب في أول الكتاب من معاني الأوقات ما يغني عن القول ها هنا في شيء منها
ودخول الشمس صفرة معلومة في الأرض تستغني عن التفسير
والفرسخ ثلاثة أميال واختلف في الميل وأصح ما قيل فيه ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع
وهذا كله من عمر على التقريب وليس في شيء من ذلك تحديد ولكنه يدل على سعة الوقت وما قدمنا في الأوقات يغني والحمد لله
وأما قوله ((وآخر العشاء ما لم تنم)) فكلام ليس على ظاهره ومعناه النهي عن النوم قبلها لأنه قد ثبت النهي عن النوم قبلها واشتهر عند العلماء شهرة توجب القطع أن عمر لا يجهل ذلك
49

ومن تأول على عمر إباحة النوم قبل العشاء فقد جهل ويدلك على ذلك دعاؤه على من نام قبل أن يصلي العشاء وألا تنام عينه فكرر ذلك ثلاثا مؤكدا
وأما الصبح فقد قدمنا أنه كان من مذهبه ومذهب أبي بكر التغليس بالصبح ويشهد لذلك قوله ((والنجوم بادية مشتبكة)) وهذا على إيضاح الفجر لا على الشك فيه لإجماع المسلمين على أن من صلى وهو شاك في الفجر فلا صلاة له
وأما تأويل أصحابنا في حديث عمر هذا إلى عماله أنه أراد مساجد الجماعات فلحديث مالك عن عمه أبي سهيل بن مالك عن أبيه أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى الأشعري ((أن صل الظهر إذا زاغت الشمس)) (1) فهذا على المنفرد لئلا يتضاد خبره أو يكون على الإعلام بأول الوقت ليعلم بذلك رعيته
وأهل العلم لا يرون النوم قبل العشاء ولا الحديث بعدها وقد رخص فيه قوم وسيأتي هذا المعنى مجودا في موضعه إن شاء الله
وقد ذكر الساجي أبو يحيى قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم الشهيدي قال حدثنا حفص عن أشعث عن كردوس قال خرج بن مسعود وأبو مسعود وحذيفة وأبو موسى من عند الوليد وقد تحدثوا ليلا طويلا فجاؤوا إلى سرة المسجد فتحدثوا حتى طلع الفجر
قال أبو عمر هذا معناه عندي أن تكون ضرورة دعتهم إلى هذا في حين شكوى أهل الكوفة بالوليد بن عقبة وابتداء طعنهم على عثمان
وقد جاء في الحديث ((لا سمر بعد العشاء إلا لمصل أو مسافر أو دارس علم)) (2)
وما كان في معنى هذه الثلاثة مما لا بد منه فله حكمها والأصل في هذا حديث أبي المنهال سيار بن سلامة عن أبي برزة الأسلمي قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوخر العشاء التي تدعونها العتمة ويكره النوم قبلها)) (3)
والحديث بعدها رواه عن أبي المنهال شعبة وعوف وغيرهما
ومن هذا الباب قول حذيفة جدب لنا عمر السمر بعد العتمة يعني عابه علينا كذلك شرحه أبو عبيدة وغيره
50

وعن عمر أيضا فيه حديث آخر ((أنه كان يقول لهم إذا صلى العتمة انصرفوا إلى بيوتكم)) ذكره أبو عبيدة أيضا
وسائر ما في حديث أبي سهيل هو في حديث نافع وحديث نافع أتم وقد مضى فيه القول وأمره لأبي موسى بأن يقرأ في الصبح سورتين طويلتين من المفصل - على الاختيار لا على الوجوب
ولا واجب في القراءة غير فاتحة الكتاب وغير ذلك مسنون مستحب وفي حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عمر في ذلك قوله أن صل العشاء ما [بينك] وبين ثلث الليل فإن أخرت فإلى شطر الليل ولا تكن من الغافلين
وقد مضى في آخر وقت المختار من الأحاديث المسندة ثلث الليل ونصف الليل وعلى ذلك اختلاف العلماء الذي ذكرنا
فمن ذهب إلى ثلث الليل تأول قوله * (ولا تكن من الغافلين) * [الأعراف 25] فتؤخرها إلى شطر الليل
ومن ذهب إلى أن آخر وقتها المختار نصف الليل تأول ولا تكن من الغافلين فتؤخرها بعد شطر الليل أو إلى أن يخرج وقتها ولعله ذهب إلى أن آخر وقتها الذي صلاها فيه رسول الله شطر الليل وأن ما بعد ذلك فوت لقوله عليه السلام ((ما بين هذين وقت))
ولست أقول إن من صلاها قبل الفجر صلاها قاضيا بعد خروج وقتها لدلائل
منها حديث أبي هريرة إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى (1)
ولأنها لو فاتت بانقضاء شطر الليل ما لزمت الحائض تطهر والمغمى عليه يفيق إذا أدركا من وقتها ركعة قبل الفجر كما لا تلزمهما بعد الفجر ولا الصبح بعد طلوع الشمس
((حديث سادس))
7 - مالك عن يزيد بن زياد عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل أبا هريرة عن وقت الصلاة فقال أبو هريرة أنا أخبرك صل الظهر إذا كان ظلك مثلك والعصر إذا كان ظلك مثليك والمغرب إذا غربت
51

الشمس والعشاء ما بينك وبين ثلث الليل وصل الصبح بغبش (1) يعني الغلس
وهذا الحديث موقوف من رواية مالك عن أبي هريرة وقد ذكرناه عن أبي هريرة في ((التمهيد)) مرفوعا واقتصر فيه على ذكر أواخر الأوقات المستحبة دون أوائلها
فكأنه قال له صل الظهر من الزوال إلى أن يكون ظلك مثلك والعصر من ذلك الوقت إلى أن يكون ظلك مثليك وجعل للمغرب وقتا واحدا على ما مضى من اختيار أكثر العلماء وذكر من العشاء أيضا آخر الوقت المستحب وذلك لعلمه بفهم المخاطب عنه ولاشتهار الأمر بذلك والعمل ولقوله تعالى * (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل) * [الإسراء 78]
وقد تقدم في الأوقات ما فيه شفاء فلا وجه لتكريره هنا
ورواية عبيد الله عن أبيه بغبس بالسين
ورواية بن وضاح بغبش بالشين المنقوطة
وكذلك رواه سحنون عن بن القاسم عن مالك
وكذلك رواه أكثر الرواة للموطأ ومعناهما متقارب وهو اختلاط النور بالظلمة
((حديث سابع))
8 - مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك أنه قال كنا نصلي العصر ثم يخرج الإنسان إلى بني عمرو بن عوف فيجدهم يصلون العصر
وقد ذكرنا من أسنده عن مالك في ((التمهيد)) وهذا يدل على معنيين
أحدهما تعجيل رسول الله للصلاة في أول وقتها
والثاني سعة الوقت وبنو عمرو بن عوف على ثلثي فرسخ من المدينة من رواية حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه
9 - مالك عن بن شهاب عن أنس بن مالك أنه قال كنا نصلي العصر ثم يذهب الذاهب إلى قباء فيأتيهم والشمس مرتفعة
52

وقد ذكرنا في ((التمهيد)) أيضا من أسند هذا الحديث عن مالك فقال فيه عن بن شهاب عن أنس بن مالك قال ((كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر ثم يذهب الذاهب إلى العوالي فيأتيهم والشمس مرتفعة
ولم يختلف عن مالك أنه قال فيه إلى قباء ولم يتابعه أحد من أصحاب بن شهاب وسائر أصحاب بن شهاب يقولون فيه ثم يذهب الذاهب إلى العوالي وهو الصواب عند أهل الحديث والمعنى متقارب في ذلك والعوالي مختلفة المسافة فأقربها إلى المدينة ميلان وثلاثة وأبعدها ثمانية ونحوها
والمعنى الذي له أدخل مالك هذا الحديث في موطئه تعجيل العصر خلافا لأهل العراق الذين يقولون بتأخيرها فنقل ذلك خلفهم عن سلفهم بالبصرة والكوفة
قال الأعمش كان إبراهيم يؤخر العصر
وقال أبو قلابة إنما سميت العصر لتعتصر
وأما أهل الحجاز فعلى تعجيل العصر سلفهم وخلفهم
وقد ذكرنا الآثار عنهم بذلك في ((التمهيد))
وفي اختلاف أحوال أهل المدينة والعوالي في صلاة العصر ما يدل على سعة وقتها ما دامت الشمس بيضاء نقية
وقد أوردنا من الآثار عند ذكر هذا الحديث في ((التمهيد)) ما يوضح ذلك والحمد لله
((حديث ثامن))
10 - مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن القاسم بن محمد أنه قال ما أدركت الناس إلا وهم يصلون الظهر بعشي
53

قال مالك يريد الإبراد بالظهر
قال وأهل الأهواء يصلون الظهر عند الزوال بخلاف ما حمل عمر الناس عليه
وذكر إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا بن أبي أويس قال قال مالك سمعت أن عمر بن الخطاب قال لأبي محذورة إنك بأرض حارة فأبرد ثم أبرد ثم أبرد ثم نادني وكأني عندك
وكان مالك يكره أن تصلي الظهر عند زوال الشمس ولكن بعد ذلك ويقول تلك صلاة الخوارج
قال أبو عمر الإبراد يكون في الحر وقد تقدم في معناه ما فيه كفاية وهذا كله استحباب واختيار والأصل في المواقيت ما ذكرناه في سائر هذا الباب والله الموفق سبحانه
((2 - باب وقت الجمعة))
11 - مالك عن عمه أبي سهيل بن مالك عن أبيه أنه قال كنت أرى طنفسه (1) لعقيل بن أبي طالب يوم الجمعة تطرح إلى جدار المسجد الغربي فإذا غشي الطنفسة كلها ظل الجدار خرج عمر بن الخطاب وصلى الجمعة قال مالك ((والد أبي سهيل)) ثم نرجع بعد صلاة الجمعة فنقيل قائلة الضحاء (2)
روى هذا الحديث عبد الرحمن بن مهدي عن مالك عن عمه أبي سهيل بن مالك عن أبيه فقال فيه ((كان لعقيل طنفسه مما يلي الركن الغربي فإذا أدرك الظل الطنفسة خرج عمر بن الخطاب فصلى الجمعة ثم نرجع فنقيل
وروى حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن عامر بن أبي عامر ((أن العباس كانت له طنفسه في أصل جدار المسجد عرضها ذراعان أو ذراعان وثلث وكان طول الجدار ستة عشر ذراعا فإذا نظر إلى الظل قد جاوز الطنفسه أذن المؤذن وإذا أذن نظرنا إلى الطنفسه فإذا الظل قد جاوزها))
قال أبو عمر جعل مالك الطنفسة لعقيل وجعلها محمد بن إسحاق للعباس والله أعلم
54

المعنى في طرح الطنفسة لعقيل عند الجدار الغربي من المسجد وكان يجلس عليها ويجتمع إليه وكان نسابة عالما بأيام الناس
وأدخل مالك هذا الخبر دليلا على أن عمر بن الخطاب لم يكن يصلي الجمعة إلا بعد الزوال وردا على من حكى عنه وعن أبي بكر أنهما كانا يصليان الجمعة قبل الزوال وإنكارا لقول من قال إنها صلاة عيد فلا بأس أن تصلى قبل الزوال
وقد ذكرنا في ((التمهيد)) الخبر عن أبي بكر وعمر أنهما كانا يصليان الجمعة قبل الزوال
وعن عبد الله بن مسعود أنه كان يصلي الجمعة ضحى
حدثنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني قال حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا غندر عن شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة قال ((كان عبد الله بن مسعود يصلي بنا الجمعة ضحى ويقول إنما عجلت بكم خشية الحر عليكم))
وحديث حميد عن أنس ((كنا نبكر الجمعة ونقيل بعدها))
وحديث سهل بن سعد ((كنا نبكر بالجمعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نرجع فنتغدى ونقيل))
وحديث جابر قال ((كنا نصلي الجمعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نرجع فنقيل))
وذكرنا علل هذه الأخبار وضعف أسانيد بعضها وأنه لم يأت من وجه يحتج به إلى ما يدفعها من الأصول المشهورة
ولهذا ومثله أدخل مالك حديث طنفسة عقيل ليوضح أن وقت الجمعة وقت الظهر لأنها مع قصر حيطانهم وعرض الطنفسة لا يغشاها الظل إلا وقد فاء الفيء وتمكن الوقت وبان في الأرض دلوك الشمس
وعلى هذا جماعة فقهاء الأمصار الذين تدور الفتوى عليهم كلهم يقول إن الجمعة لا تصلى إلا بعد الزوال
إلا أن أحمد بن حنبل قال من صلى قبل الزوال لم أعبه
قال أبو بكر بن أثرم قلت لأحمد بن حنبل يا أبا عبد الله ما ترى في صلاة الجمعة قبل الزوال فقال فيها من الاختلاف ما علمت
ثم ذكر ما ذكرنا من الآثار عن أبي بكر وعمر وبن مسعود وجابر وسهل بن سعد وأنس
وعن مجاهد أنها صلاة عيد
55

وهي آثار كلها ليست بالقوية ولا نقلها الأئمة
ومن جهة النظر لما كانت الجمعة تمنع من الظهر دون غيرها من الصلوات - دل على أن وقتها وقت الظهر
وقد أجمع المسلمون على أن من صلاها وقت الظهر فقد صلاها في وقتها
فدل ذلك على أنها ليست كصلاة العيد لأن العيد لا تصلى بعد الزوال
حدثنا أحمد بن عبد الله قال حدثنا الحسن بن إسماعيل قال حدثنا عبد الملك بن بحر قال حدثنا محمد بن إسماعيل الصايغ قال حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق قال ((صليت خلف علي بن أبي طالب الجمعة بعد ما زالت الشمس))
قال سنيد حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل بن سبع عن أبي رزين قال ((صليت خلف علي بن أبي طالب الجمعة حين زالت الشمس))
وعلى هذا مذهب الفقهاء كلهم لا تجوز الجمعة عندهم ولا الخطبة لها إلا بعد الزوال
إلا أنهم اختلفوا في سعة وقتها وآخره
فروى بن القاسم عن مالك قال وقت الجمعة وقت الظهر لا تجب إلا بعد الزوال وتصلى إلى غروب الشمس
قال بن القاسم إن صلى من الجمعة ركعة ثم غربت الشمس صلى الركعة الأخرى بعد المغيب وكانت جمعة
وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما والحسن بن حي وقت الجمعة وقت الظهر فإن فات وقت الظهر بدخول وقت العصر لم تصل الجمعة
وقال أبو حنيفة وأصحابه إن دخل وقت العصر وقد بقي من الجمعة سجدة أو قعدة فسدت الجمعة ويستقبل الظهر
وقال الشافعي إذا خرج الوقت قبل أن يسلم أتمها ظهرا يعني إذا زاد الظل عن المثل على ما قدمناه من قوله وأصله في ذلك
وهو قول عبد الملك بن عبد العزيز الماجشون
وأما قول أبي سهيل عن أبيه ثم نرجع بعد صلاة الجمعة فنقيل قائلة الضحاء - فمعلوم أن من صلى بعد زوال الشمس الجمعة لا يرى في ذلك اليوم ضحى فلم يبق إلا ما تأوله أصحابنا أنهم كانوا يهجرون يوم الجمعة فيصلون في الجامع على ما في حديث ثعلبة بن أبي مالك القرظي أنهم كانوا يصلون إلى أن يخرج عمر بن
56

الخطاب فإذا صلوا الجمعة انصرفوا فاستدركوا راحة القائلة والنوم فيها على ما جرت عادتهم ليستعينوا بذلك على قيام الليل والله أعلم
وهذا تأويل حسن غير مدفوع
12 - مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن بن أبي سليط أن عثمان بن عفان صلى الجمعة بالمدينة وصلى العصر بملل (1)
قال مالك وذلك للتهجير (2) وسرعة السير
اختلف فيما بين المدينة وملل
فروينا عن بن وضاح أنه قال اثنان وعشرون ميلا ونحوها
وقال غيره ثمانية عشر ميلا
وهذا كما قاله مالك أنه هجر بالجمعة فصلاها في أول الزوال ثم أسرع السير فصلى العصر ((بملل)) ليس في أول وقتها - والله أعلم - ولكنه صلاها والشمس لم تغرب ولعله صلاها ذلك اليوم لسرعة السير والشمس بيضاء نقية
وليس في هذا ما يدل على أن عثمان صلى الجمعة قبل الزوال كما زعم من ظن ذلك واحتج بحديث مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن بن أبي سليط قال ((كنا نصلي مع عثمان بن عفان الجمعة فننصرف وما للجدر ظل))
وهذا الخبر الثاني عن عثمان ليس عند القعنبي ولا عند يحيى بن يحيى صاحبنا وهما من آخر من عرض على مالك ((الموطأ)) وهذا وإن احتمل ما قال فيحتمل أن يكون عثمان صلى الجمعة في أول الزوال
ومعلوم أن الحجاز ليس للقائم فيها كبير ظل عند الزوال
وقد ذكر أهل العلم بالتعديل أن الشمس بمكة تزول في حزيران على دون عشر أقدام وهذا أقل ما تزول الشمس عليه في سائر السنة بمكة والمدينة فإذا كان هذا أو فوقه قليلا فأي ظل يكون للجدر حينئذ بالمدينة أو مكة فإذا احتمل الوجهين لم يجز أن يضاف إلى عثمان أنه صلى الجمعة قبل الزوال إلا بيقين ولا يقين مع احتمال التأويل
والمعروف عن عثمان في مثل هذا أنه كان متبعا لعمر لا يخالفه
وقد ذكرنا عن علي أنه كان يصليها بعد الزوال وهو الذي يصح عن سائر الخلفاء وعليه جماعة العلماء والحمد لله
57

ومن بكر بالجمعة في أول الزوال لم يؤمن عليه من العامة فساد التأويل الذي لم يجز على الفقهاء
روى حبيب كاتب مالك عن مالك عن ربيعة عن أنس ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة عند الزوال))
حدثنا أحمد بن قاسم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا محمد بن الحسن الصوفي قال حدثنا الهيثم بن خارجة قال حدثنا إسماعيل بن عياش عن عمرو بن مهاجر أن عمر بن عبد العزيز كان يصلي الجمعة حين يفيء الفيء تحت رأس الإنسان ذراعا ونحوه في الساعة السابعة وهذا كله على السعة في وقتها
((3 - باب من أدرك ركعة من الصلاة))
13 - مالك عن بن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة))
هكذا هذا الحديث في الموطأ عند جماعة الرواة
وروى عبيد الله بن عبد المجيد أبو علي الحنفي عن مالك عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة ووقتها))
وهذا أيضا لم يقله عن مالك غيره وهو مجهول لا يحتج به
والصواب عن مالك ما في الموطأ
وكذلك رواه جماعة رواه بن شهاب كما رواه مالك في الموطأ
إلا ما رواه نافع بن يزيد عن يزيد بن الهاد عن عبد الوهاب بن أبي بكر عن بن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة وفضلها)) وهذا لفظ أيضا لم يقله أحد عن بن شهاب
وقد روى هذا الحديث الليث بن سعد عن بن الهاد عن بن شهاب فلم يذكر في الإسناد عبد الوهاب ولا جاء بهذه اللفظة أعني قوله وفضلها
58

وقد اختلف الفقهاء في معنى هذا الحديث فقالت طائفة منهم أراد بقوله ذلك أنه أدرك وقتها
حكي عن داود بن علي وأصحابه قالوا إذا أدرك الرجل من الظهر أو العصر ركعة وقام فصلى الثلاث ركعات فقد أدرك الوقت في جماعة وثوابه على الله تعالى
قال أبو عمر هؤلاء قوم قد جعلوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة)) في معنى قوله ((من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع فقد أدرك الصبح))
وليس كما ظنوا لأنهما حديثان لكل واحد منهما معنى على ما بيناه في كتابنا هذا وفي ((التمهيد)) أيضا والحمد لله
وقال آخرون من أدرك ركعة من الصلاة في جماعة فقد أدرك فضل الجماعة لأن صلاته صلاة جماعة في فضلها وحكمها واستدلوا على ذلك من أصولهم بأنه لا يعيد في جماعة من أدرك ركعة من صلاة الجماعة
وقال آخرون معنى الحديث أن مدرك ركعة من الصلاة مدرك لحكمها كله وهو كمن أدرك جميعها فيما يفوته من سهو الإمام وسجوده لسهوه وإن لم يدركه معه وأنه لو أدرك وهو مسافر ركعة من صلاة المقيم لزمه حكم المقيم في الإتمام ونحو هذا من حكم الصلاة وهذا قول مالك وأصحابه
والحديث يقتضي عمومه وظاهره أن مدرك ركعة من صلاة الإمام مدرك للفضل والوقت والحكم إن شاء الله وإن لم يدرك الركعة بتمامها فلم يدرك حكم الصلاة
وأما الفضل فإن الله يتفضل بما يشاء على من يشاء والفضل فضله يؤتيه من يشاء
وإذا كان الذي ينام عن صلاته بالليل يكتب له أجر صلاته والذي ينوي الجهاد فيحبسه العذر يكتب له أجر المجاهد والمريض يكتب له ما كان يعمله صحيحا ومنتظر الصلاة في صلاة فأين مدخل النظر ها هنا
وقد وردت آثار عن النبي صلى الله عليه وسلم فيمن توضأ فأحسن وضوءه ثم راح فوجد الناس قد صلوا أنه يعطيه أجر من صلاها وحضرها
قد ذكرناها في ((التمهيد)) وذكرنا هناك عن أبي هريرة وهو الذي روى حديث ((من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة - أنه قال إذا انتهى إلى القوم وهم قعود في صلاتهم فقد دخل في التضعيف وإذا انتهى إلى القوم وقد سلم الإمام ولم يتفرقوا فقد دخل في التضعيف
59

قال عطاء بن أبي رباح وكان يقال إذا خرج من بيته وهو ينويهم فقد دخل في التضعيف
وعن أبي وائل وشريك من أدرك التشهد فقد أدرك فضلها
وقال أبو سلمة - وهو رواية هذا الحديث - من خرج من بيته قبل أن يسلم الإمام فقد أدرك
وهذا كله يؤيد أن الفضل والأجر على قدر النية فلا مدخل للقياس والنظر وما كل مصل يتقبل منه فكيف يضاعف له والله يؤتي فضله من يشاء
وفي هذا الحديث دليل على أن من لم يدرك من الصلاة ركعة فلم يدركها ولا له مدخل في حكمها من حصول سهو لم يدركه مع إمامة وانتقال فرضه من ركعتين إلى أربع ونحو هذا
إلا أن الفقهاء اختلفوا في معنى هذا الدليل ها هنا فمن ذلك قولهم من أدرك ركعة من الجمعة أضاف إليها أخرى ومن لم يدرك ركعة منها صلى ظهرا
هذا قول مالك والشافعي وأصحابهما والثوري والحسن بن حي والأوزاعي وزفر بن الهذيل ومحمد بن الحسن في الأشهر عنه والليث بن سعد وعبد العزيز بن سلمة وبن حنبل
وورد ذلك عن علي بن أبي طالب وبن مسعود وبن عمر وعلقمة والأسود والحسن وسعيد بن المسيب وغيره وإبراهيم وبن شهاب وبه قال إسحاق وأبو ثور
وقال بن شهاب هي السنة
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ((إذا أحرم في الجمعة قبل سلام الإمام صلى ركعتين)) روي ذلك عن إبراهيم النخعي والحكم بن عيينة وحماد بن أبي سليمان وهو قول داود
وحجتهم قوله عليه السلام ((ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا)) (1) قالوا والذي فاته ركعتان لا أربع
ومن ذلك أيضا اختلافهم فيمن فاتته الخطبة يوم الجمعة فإن عطاء بن أبي
60

رباح وطاوسا ومجاهدا ومكحولا قالوا من فاتته الخطبة يوم الجمعة صلى أربعا قالوا لم تقصر الصلاة في يوم الجمعة إلا من أجل الخطبة فمن لم يدركها صلى ظهرا
وهذا قول يبطل بقوله - عليه السلام - ((من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة))
حدثني محمد بن عبد الله بن حكيم قال حدثنا محمد بن معاوية القرشي قال حدثنا إسحاق بن أبي حسان الأنماطي قال حدثنا هشام بن عمار قال حدثنا عبد الحميد قال حدثنا الأوزاعي قال سألت الزهري عن رجل فاتته خطبة الإمام يوم الجمعة وأدرك الصلاة فقال حدثني أبو سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركها))
وأما مسألة المسافر يدرك ركعة من صلاة المقيم فأيسر الناس في ذلك مالك
قال إذا لم يدرك المسافر من صلاة الإمام ركعة صلى ركعتين وإن أدرك منها ركعة تامة بسجدتيها صلى أربعا
وهو قول الحسن البصري وإبراهيم النخعي وبن شهاب الزهري وقتادة
وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل وأبو ثور إذا دخل المسافر في صلاة المقيم صلى أربعا صلاة مقيم وإن أدركها في التشهد
وروي ذلك عن بن عباس وبن عمر وجماعة من التابعين
وقال الشافعي إذا أحرم قبل أن يسلم الإمام لزمته صلاة المقيم
وفي هذه المسألة قولان شاذان أحدهما لطاوس والشعبي والثاني لإسحاق بن راهويه قد ذكرتهما في ((التمهيد))
وأما سجود السهو فقال مالك إذا أدرك مع الإمام ركعة لزمه أن يسجد معه لسهوه وسواء أدرك السهو أو لم يدرك وإن لم يدرك معه ركعة لم يلزمه السجود منه
ومذهبه في ذلك أن سجدتي السهو إن كانتا قبل السلام سجدهما معه وإن كانتا بعد السلام لم يسجدهما معه وسجدهما إذا أتم صلاته
وهو قول الأوزاعي والليث بن سعد
وقال الشافعي والكوفيون وسائر الفقهاء من دخل مع الإمام في بعض صلاته لزمه سهوه وسجد معه
61

وعن الشافعي أيضا أنه يسجدهما بعد القضاء أيضا
وهذا كله في [حديث] من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركها ومن لم يدرك منها ركعة فلم يدركها واستعمال الناس بهذا الحديث واستعمال نصه دليل خطأ به مالك وأصحابه
14 - مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر بن الخطاب كان يقول إذا فاتتك الركعة فقد فاتتك السجدة
15 - مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت كانا يقولان من أدرك الركعة فقد أدرك السجدة
هكذا رواه يحيى بن يحيى
وأما القعنبي وبن بكير وأكثر رواه الموطأ فرووه عن مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت كانا يقولان ((من أدرك الركعة قبل أن يرفع الإمام رأسه فقد أدرك السجدة))
16 - مالك أنه بلغه أن أبا هريرة كان يقول من أدرك الركعة فقد أدرك السجدة ومن فاته قراءة أم القرآن فقد فاته خير كثير
معنى إدراك الركعة ها هنا أن يركع المأموم قبل أن يرفع الإمام رأسه من الركوع
هذا قول مالك وأكثر العلماء وفيه اختلاف
روي عن أبي هريرة ((من أدرك القوم ركوعا يعتد بها))
وهذا قول لا نعلم أن أحدا قال به من فقهاء الأمصار وفيه وفي إسناده نظر
وقد روي معناه عن أشهب وروي عن جماعة من التابعين ضد ذلك
قالوا إذا أحرم الداخل والناس ركوع أجزأه وإن لم يدرك الركوع
وبهذا قال بن أبي ليلى والليث بن سعد وزفر بن الهذيل قالوا إذا كبر قبل أن يرفع الإمام رأسه ركع كيف أمكنه واتبع الإمام وكان بمنزلة التابع واعتد بالركعة
وقد روي عن بن أبي ليلى والليث بن سعد وزفر بن الهذيل والحسن بن
62

زياد أنه إذا كبر بعد رفع الإمام رأسه من الركعة قبل أن يركع اعتد بها
وقال الشعبي إذا انتهيت إلى الصف المؤخر ولم يرفعوا رؤوسهم وقد رفع الإمام رأسه فقد أدركت لأن بعضهم أئمة بعض
قال جمهور الفقهاء من أدرك الإمام راكعا فكبر وركع وأمكن يديه من ركبتيه قبل أن يرفع الإمام رأسه من الركعة فقد أدرك الركعة ومن لم يدرك ذلك فقد فاتته الركعة ومن فاتته الركعة فقد فاتته السجدة أي لا يعتد بها ويسجدهما
هذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم والثوري والأوزاعي وأبي ثور وأحمد وإسحاق
وروى ذلك عن علي بن أبي طالب وبن مسعود وزيد بن ثابت وبن عمر
وقد ذكرنا الآثار بذلك في ((التمهيد))
وبه قال عطاء وإبراهيم وعروة بن الزبير وميمون بن مهران
وذكر بن أبي شيبة عن عبد الأعلى عن معمر عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن بن عمر وزيد بن ثابت قالا إذا أدرك القوم ركوعا فإنه تجزئه تكبيرة واحدة
وهو قول إبراهيم وعروة وعطاء والحسن وقتادة والحكم وميمون وجماعة إلا أنهم يستحبون أن يكبر تكبيرتين واحدة للإحرام وثانية للركوع
وإن كبر واحده لافتتاح الصلاة أجزأه من الركعة وعلى هذا مذهب الفقهاء بالحجاز والعراق والشام
وقال بن سيرين وحماد بن أبي سليمان لا يجزئه حتى يكبر تكبيرتين واحدة يفتتح بها وثانية يركع بها
والقول الأول أصح من جهة الأثر والنظر لأن التكبير لما عدا الإحرام مسنون يستحب قد أجمعوا أنه لا يضر سقوط التكبيرة منه والتكبيرتين
وسنبين هذا الباب ونوضحه في افتتاح الصلاة إن شاء الله
وأما قول أبي هريرة ((من فاتته قراءة أم القرآن فقد فاته خير كثير)) فإن بن وضاح وجماعة معه قالوا ذلك لموضع التأمين والله أعلم
يعنون قوله عليه السلام ((من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه
وسيأتي هذا فيما بعد إن شاء الله عز وجل
63

((4 - باب ما جاء في دلوك الشمس وغسق الليل))
17 - مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول دلوك الشمس ميلها (1)
18 - مالك عن داود بن الحصين قال أخبرني مخبر أن عبد الله بن عباس كان يقول دلوك الشمس إذا فاء الفيء (2) وغسق الليل اجتماع الليل وظلمته
قال أبو عمر المخبر ها هنا عكرمة وكذلك رواه الدراوردي عن عكرمة عن بن عباس وكان مالك يكتم اسمه لكلام سعيد بن المسيب فيه وقد [صرح به] في كتاب الحج
وقد ذكرنا في ((التمهيد)) السبب الموجب لكلام بن المسيب في عكرمة ومن [قال] بتفضيل عكرمة والثناء عليه
ومات عكرمة عند داود بن الحصين بالمدينة
ولم يختلف عن بن عمر في أن دلوك الشمس ميلها روي ذلك عنه من وجوه ثابتة إلا أن الألفاظ مختلفة والمعنى واحد
منهم من يروي عنه دلوكها زوالها
ومنهم من يقول عنه دلوكها ميلها بعد نصف النهار وكل سواء وهو قول الحسن ومجاهد
ورواه مجاهد أيضا عن قيس بن السائب وهو قول أبي جعفر محمد بن علي والضحاك بن مزاحم وعمر بن عبد العزيز
وكذلك روي عن الشعبي ومجاهد عن بن عباس دلوكها زوالها
وأما عبد الله بن مسعود فلم يختلف عنه أن دلوكها غروبها
وهو قول علي بن أبي طالب وأبي وائل وطائفة والوجهان في اللغة معروفان
وقال بعض أهل اللغة دلوكها من زوالها إلى غروبها
وأما غسق الليل فالأكثر على أنه أراد به صلاة العشاء
64

وروي عن مجاهد غسق الليل غروب الشمس
وقال غيره غسق الليل المغرب والعشاء
((5 - باب جامع الوقوت))
19 - مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله))
ومعناه عند أهل اللغة الذي يصاب بأهله وماله إصابة يطلب فيها وترا فيجتمع عليه غمان غم ذهاب أهله وماله وغم بما يقاسي من طلب الوتر
يقول فالذي تفوته صلاة العصر لو وفق لرشده وعرف قدر ما فاته من [الخير] والفضل كان كالذي أصيب بأهله وماله على ما ذكرنا
وقد ذكرنا شواهد هذا على وزنه في ((التمهيد)) ومن أحسنها قول الأعرابي
(كأنما الذئب إذ يعدو على غنمي
* في الصبح طالب وتر كان فاتارا (1))
وهذا عندنا على أن تفوته صلاة العصر بغير عذر حتى تغيب الشمس ولا يدرك منها ركعة قبل الغروب
ومن قال إن ذلك إن يؤخرها حتى تصفر الشمس فليس بشيء
والدليل على ذلك أن مالكا قال في الموطأ في رواية بن القاسم في هذا الموضع ووقت صلاة الظهر والعصر إلى غروب الشمس
وقد يحتمل أن يكون خروج قوله عليه السلام في هذا الحديث على جواب سؤال السائل كأنه قال يا رسول الله [ما مثل] الذي تفوته صلاة العصر فقال هو كمن وتر أهله وماله
فإن كان هذا هكذا فيدخل في معنى العصر حينئذ الصبح والعشاء بطلوع الشمس وطلوع الفجر
وقد أوضحنا معنى الحديث وبسطناه في ((التمهيد)) فمن تأمله هناك يستغني بذلك
65

واختلاف العلماء في الصلاة الوسطى على هذين القولين في الصبح والعصر هو الأكثر الذي عليه الجمهور
20 - مالك عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب انصرف من صلاة العصر فلقي رجلا لم يشهد العصر فقال عمر ما حبسك (1) عن صلاة العصر (2) فذكر له الرجل عذرا فقال عمر طففت (3) قال مالك ويقال لكل شيء وفاء وتطفيف
قال بعض أصحابنا وبعض من تقدمه ممن شرح الموطأ إن الرجل الذي لقيه عمر لم يشهد العصر في هذا الحديث - فهو عثمان بن عفان وهو لا يوجد في أثر علمته وإنما عثمان هو الذي جاء وعمر يخطب فقال له عمر أية ساعة هذه وذلك يوم الجمعة
وروي ذلك أيضا من طرق ثابتة قد ذكرتها في ((التمهيد))
وأما الرجل المذكور في هذا الحديث رجل من الأنصار من بني حديدة
حدثنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي قال حدثنا بن أبي ذئب عن أبي حازم التمار عن بن حديدة الأنصاري صاحب النبي - عليه السلام - قال ((لقيني عمر بن الخطاب بالزوراء (4) وأنا ذاهب إلى صلاة العصر فسألني أين تذهب فقلت إلى الصلاة فقال طفقت فأسرع قال فذهبت إلى المسجد فصليت ورجعت فوجدت جاريتي قد احتبست علينا من الاستقاء فذهبت إليها برومة فجئت بها والشمس صالحة))
قال قيل للقعنبي ما رومة قال بئر عثمان بن عفان
وأما قول عمر للرجل طففت فمعناه أنك نقصت نفسك حظها من الأجر بتأخرك عن صلاة الجماعة
وأظنه لم يقبل عذره المذكور في حديث مالك لأن من حبسه عذر مانع عن عمل صالح يريده فقد قدمنا من الآثار ما يبين به أنه يكتب له مثل أجر عمله
66

وأما التطفيف في لسان العرب فهو الزيادة على العدل والنقصان منه وذلك ذم لفاعله
قال الله تعالى * (ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون) * [المطففين 1 - 3]
ومن ذمه الله - تعالى - استحق عقوبته كما أن من مدحه استحق ثوابه
وأما قول مالك لكل شيء وفاء وتطفيف فإنه يعني أن هذه اللفظة تدخل في كل شيء مذموم زيادة ونقصانا
وروى أبو حميد الزبيري قال حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن علي قال ((الصلاة كالكيل فمن وفى وفي له))
وروى بن عيينة وغيره عن الأعمش عن مالك بن الحارث عن مغيث بن سمي (ويل للمطففين) قال التطفيف في الصلاة والوضوء والمكيال والميزان
حدثنا خلف بن قاسم قال حدثنا عبد الله بن عمر بن إسحاق قال حدثنا أحمد بن محمد بن الحجاج قال حدثنا أحمد بن صالح قال حدثنا سلمة بن شبيب وحبيش بن أصرم ومؤمل قال حدثنا عبد الرزاق عن بكار بن عبد الله عن وهب بن منبه قال ترك من التطفيف
وحدثنا خلف بن القاسم بن شعبان قال حدثنا محمد بن محمد بن يزيد قال حدثنا الصلت بن مسعود قال حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال حدثنا بن شبرمة عن سالم بن أبي الجعد عن سلمان قال ((الصلاة كيل ووزن فمن وفى وفي له ومن نقص نقص له وتلا * (ويل للمطففين) *
ورواه سفيان الثوري عن شيخ كوفي يكنى أبا نصر عن سالم بن أبي الجعد عن سلمان قال ((الصلاة مكيال فمن وفى وفي له ومن طفف فقد علمتم ما قيل في المطففين)) ويغفر الله لمن يشاء ويعذب من يشاء
21 - مالك عن يحيى بن سعيد أنه كان يقول إن المصلي ليصلي الصلاة وما فاته وقتها ولما فاته من وقتها أعظم أو أفضل من أهله وماله
هكذا هذا الحديث في الموطأ من قول يحيى بن سعيد
وهو مروي عن النبي - عليه السلام - إلا أنها وجوه ضعيفة الإسناد ويردها أيضا أطول الآثار الصحاح
67

فمن ذلك أن غير مالك طائفة تروي هذا الحديث عن يحيى بن سعيد عن يعلى بن مسلم عن طلق بن حبيب عن النبي عليه السلام وهذا مرسل وطلق بن حبيب ثقة عندهم فيما نقل إلا أنه رأس من رؤوس المرجئة وكان مع ذلك عابدا فاضلا وكان مالك يثني عليه لعبادته ولا يرضى مذهبه
وقد روي مسندا إلا أنه حديث يدور على يعقوب بن الوليد وهو متروك الحديث
حدثنا أحمد بن القاسم بن عيسى قال حدثنا عبد الله بن محمد بن حنانه قال حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي قال حدثني جدي قال حدثنا يعقوب بن الوليد عن بن أبي ذئب عن عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن أحدكم ليصلي الصلاة وما فاته من وقتها أشد عليه من أهله وماله))
وأما الأصول التي ترد هذا الحديث (فمنها) حديث نافع عن بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله))
فلم يقع التمثيل والتشبيه ها هنا إلا لمن فاته وقت الصلاة كله بدليل قوله ((من أدرك ركعة من العصر)) وبدليل قوله حين صلى في طرفي الوقت ((ما بين هذين وقت))
وحديث يحيى بن سعيد يدل أن من فاته بعض وقت الصلاة في حكم من فاته الوقت كله في ذهاب أهله وماله
وقد حكى بن القاسم عن مالك أنه لم يعجبه قول يحيى بن سعيد المذكور وذلك لما وصفنا والله أعلم
وقد يحتمل حديث يحيى بن سعيد وما كان مثله من الحديث المسند فمن فاته أول الوقت أن يكون قد فاته من الفضل ما كان خيرا من أهله وماله لأن الفضائل التي يستحق عليها ثواب الآخرة قليلها أفضل من الدنيا وما فيها لا أنه كمن وتر أهله وماله على ما في حديث بن عمر
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها)) (1)
والذي يفيدنا حديث يحيى بن سعيد والحديث المرفوع - تفضيل أول الوقت
68

على آخره لأن من فاته أول الوقت فاته كمن فاته الوقت كله
والدليل على تفضيل أول الوقت على آخره حديث أبي عمرو الشيباني عن بن مسعود قال ((سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل قال الصلاة لأول وقتها)) (1)
وحديث عبد الملك بن عمير عن أبي خيثمة عن الشفاء ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((أفضل الأعمال الصلاة لأول وقتها))
وحديث عبد الله بن عمر عن القاسم بن غنام عن بعض أمهاته عن أم فروة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل قال ((الصلاة في أول وقتها))
وقد ذكرنا هذه الآثار من طرق في كتاب ((التمهيد))
وفي قوله تعالى * (فاستبقوا الخيرات) * [البقرة 148] ما يكفي مع أنه معلوم في شواهد العقول أنه مزيد وإلى الطاعة أفضل ممن تأخر عنها وإن كان مباحا له التأخير وبالله التوفيق
قال مالك من أدرك الوقت وهو في سفر فأخر الصلاة ساهيا أو ناسيا حتى قدم على أهله أنه إن كان قدم على أهله وهو في الوقت فليصل صلاة المقيم وإن كان قد قدم وقد ذهب الوقت فليصل صلاة المسافر لأنه إنما يقضي مثل الذي كان عليه
قال مالك وهذا الأمر الذي أدركت عليه الناس وأهل العلم ببلدنا
أما قوله ساهيا فهو الذي يسهو فلا يذكر غفلة وشغلا وأما قوله ناسيا فهو الذي يذكر في أول الوقت صلاته ثم ينسى وقد قيل إن السهو والنسيان متداخلان ومعناهما واحد
وأما قوله إن كان قدم على أهله وهو في الوقت وقوله إن كان قدم وقد ذهب الوقت فقد تقدم مذهبه وما يراعى من الوقت في ذلك وما كان مثله في صلاتي النهار وصلاتي الليل وفي الآخرة منها عند ذكر قوله عليه السلام ((من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس)) فلا وجه لتكرار ذلك
وأما قوله إنه إنما يقضي مثل الذي كان عليه فإن الحجة في ذلك قوله عليه السلام من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها
69

فأشار إلى المنسية وهي التي فاتته ووجبت عليه فيقضيها على حسب ما كان يصليها لأنها لزمته بالذكر فصارت واجبة عليه بهيئتها وهذه المسألة يختلف فيها الفقهاء أئمة الفتوى فذهب مالك إلى ما ذكرنا ها هنا وهو قول الثوري وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد والأوزاعي كلهم يقول إذا خرج وقد بقي عليه من الوقت شيء أقله ركعة قصر ومن قدم وقد بقي عليه من الوقت مثل ذلك أتم
وقال الشافعي والليث بن سعد والحسن بن حي وزفر إذا خرج بعد دخول الوقت بمقدار ما يصلي فيه تلك الصلاة أو ركعة منها أتم
قال أبو عمر قد مضى في آخر الوقت المختار في صلاة العتمة ثلث الليل ونصف الليل في الأحاديث المسندة وقول عمر وغيره - ما فيه إيضاح هذا المعنى وبالله التوفيق
وكذلك إن قدم المسافر قبل خروج الوقت أتم
وقد مضى في هذا مراعاتهم للركعة وللتكبير
ومن راعى أول الوقت وتمكن الصلاة فيه ومن راعى آخره واعتبر الركعة منه فأغنى عن إعادته ها هنا
وأما اختلافهم فيمن نسي صلاة السفر فلم يذكرها إلا وهو مسافر - وهو من هذا المعنى - فإن مالكا والثوري وأبا حنيفة وأصحابه قالوا إذا نسي صلاة حضرية فذكرها في السفر صلى أربعا وإن نسيها سفرية وذكرها في الحضر صلى ركعتين
وقال الأوزاعي وعبيد الله بن الحسن والشافعي وأحمد بن حنبل يصلي صلاة مقيم في المسألتين معا لأن الأصل أربع فإذا زالت علة السفر لم يجزه إلا أربع ويؤخذ له مع الاختلاف - بالثقة ليؤدي فرضه بيقين
وقال البصريون وبن علية وطائفة - وهو قول الحسن البصري - من نسي صلاة في حضر فذكرها في سفر صلاها سفرية ولو نسيها في السفر وذكرها في الحضر
صلاها أربعا لأنها وجبت عليه بالذكر لها فيصليها كما من لم ينسها وكما لو نسيها وهو مريض وذكرها صحيحا صلاها قائما كما يقدر ولو نسيها صحيحا فذكرها وهو مريض صلاها قاعدا على حسب طاقته وحاله في الوقت
70

قال مالك الشفق الحمرة التي في المغرب فإذا ذهبت الحمرة فقد وجبت صلاة العشاء وخرجت من وقت المغرب
اختلف العلماء في الشفق فقال مالك والثوري والشافعي وبن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل الشفق الحمرة وهو قول بن عمر
وقال أبو حنيفة الشفق البياض وروي ذلك عن أنس بن مالك وأبي هريرة وهو قول عمر بن عبد العزيز
وروى الثوري عن مزاحم بن زفر قال كتب إلينا عمر بن عبد العزيز فكان في كتابه ووقت العشاء إذا ذهب البياض
وقال أحمد بن حنبل يعجبني أن تصلي إذا ذهب البياض في الحضر و [تجب] في السفر إذا ذهبت الحمرة
واللغة تقضي أن الشفق اسم للبياض والحمرة جميعا والحجة لمن قال ((إنه الحمرة - حديث النعمان بن بشير ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء لسقوط القمر لثالثة)) (1)
وهذا لا محالة قبل ذهاب البياض
وروي عن بن عباس في الشفق القولان جميعا
وزعم الخليل أنه ارتقب البياض فلم يكد يغيب إلى طلوع الفجر
22 - مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر أغمي عليه فذهب عقله فلم يقض الصلاة (2)
قال مالك وذلك فيما نرى والله أعلم أن الوقت قد ذهب فأما من أفاق في الوقت فإنه يصلي
قال أبو عمر ذهب مالك والشافعي وأصحابهما مذهب بن عمر في الإغماء أنه لا يقضي ما فاته في إغمائه من الصلوات التي أغمي عليه فيها إن خرج وقتها
71

وقد خالف بن عمر في ذلك عمار وعمران بن حصين
ونذكر ذلك ومن ذهب إليه من الفقهاء أئمة الأمصار بعد إن شاء الله وبالله التوفيق
وحجة مالك ومن ذهب مذهبه ومذهب بن عمر في ذلك أن القلم مرفوع عن المغمى عليه قياسا على المجنون المتفق عليه لأنه لا [يشبه] المغمى عليه إلا أصلان أحدهما المجنون الذاهب العقل والآخر النائم
ومعلوم أن النوم لذة والإغماء مرض فهي بحال المجنون أشبه والأخرى أن المغمى عليه لا ينتبه بالإنباه بخلاف النائم
ولما كان العاجز عن القيام في الصلاة يصلي جالسا ويسقط عنه القيام ثم إن عجز عن الجلوس سقط عنه حتى يبلغ حاله مضطجعا إلى الإيماء فلا يقدر على الإيماء فيسقط عنه ما سوى الإيماء فكذلك إن عجز عن الإيماء بما لحقه من الإغماء يسقط عنه فلا يلزمه إلا ما يراجعه عقله وذهنه في وقته لا ما انقضى وقته
هذا ما يوجبه النظر لأنها مسألة ليس فيها حديث مسند
وفيها عن بن عمر وعمار بن ياسر اختلاف فابن عمر لم يقض ما خرج وقته وعمار أغمي عليه يوما وليلة فقضى
وقد روي عن عمران بن حصين مثل ذلك
ذكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن السدي عن رجل يقال له يزيد عن عمار بن ياسر أنه أغمي عليه الظهر والعصر والمغرب والعشاء فأفاق في بعض الليل فقضاهن
قال وحدثنا حفص بن غياث عن التيمي عن أبي مجلز عن عمران بن حصين قال يقضي المغمى عليه الصلوات كلها
فذهب مالك والشافعي وأصحابه إلى مذهب بن عمر
وهو قول طاوس والحسن وبن سيرين والزهري وربيعة والأوزاعي ويحيى بن سعيد الأنصاري وبه قال أبو ثور
وكل هؤلاء يجعل وقت الظهر والعصر النهار كله إلى المغرب ووقت المغرب والعشاء الليل كله على ما تقدم من أصولهم في ذلك
قال أبو حنيفة وأصحابه إن أغمي عليه يوما وليلة قضى وإن أغمي عليه أكثر لم يقض وجعلوا من أغمي عليه يوما وليلة في حكم النائم ومن أغمي عليه أكثر في حكم المجنون الذي رفع عنه القلم
72

قالوا وإنما قضى عمار لأنه أغمي عليه يوما وليلة وهو قول إبراهيم النخعي وقتادة والحكم وحماد وإسحاق بن راهويه
وقال الحسن بن حي من أغمي عليه خمس صلوات فما دونهن قضي ذلك كله وإن أغمي عليه أياما قضى خمس صلوات ينظر حين يفيق فيقضي ما يليه
وقال عبيد الله بن الحسن المغمى عليه كالنائم يقضى كل صلاة في أيام إغمائه
وبه قال أحمد بن حنبل وهو قول عطاء بن رباح
ورواية محمد بن رستم عن محمد بن الحسن أن النائم إذا كان نومه أكثر من يوم وليلة لم يقض - منكرة شاذة خارجة عن الأصول لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر النائم بقضاء ما نام عنه من الصلوات ولم يحد في ذلك حدا ولو كان من شرعه في ذلك حد بعدد أو وقت لذكره والله أعلم
واختلف عن الثوري في المغمى عليه قال مرة كقول أبي حنيفة وقال الفريابي عنه إنه كان يعجبه أن يقضي صلاة يوم وليلة كقول الحسن بن حي
وروي عن قبيصة عن سفيان فيمن أغمي عليه يومين وليلتين ثم أفاق بعد طلوع الشمس لم يكن عليه قضاء الفجر وإذا أغمي عليه قبل الفجر ثم أفاق بعد ما طلعت الشمس فأحب إلي أن يقضي
((6 - باب النوم عن الصلاة))
23 - مالك عن بن شهاب عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قفل (1) من خيبر أسري (2) حتى إذا كان من آخر الليل عرس (3) وقال لبلال ((اكلأ (4) لنا الصبح)) (5) ونام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وكلأ بلال ما قدر له ثم استند إلى راحلته وهو مقابل الفجر (6) فغلبته عيناه فلم يستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا
73

بلال ولا أحد من الركب حتى ضربتهم الشمس (1) ففزع رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) فقال بلال يا رسول الله أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((اقتادوا)) (4) فبعثوا رواحلهم (5) واقتادوا شيئا (6) ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأقام الصلاة فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ثم قال حين قضى الصلاة ((من نسي الصلاة فليصلها إذا ذكرها فإن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه * (وأقم الصلاة لذكري) * [طه 14]
هذا الحديث مرسل في الموطأ عند جميع رواته فيما علمت
وقد ذكرت في ((التمهيد)) من تابع مالكا عن بن شهاب من أصحابه في إرساله ومن وصله فأسنده
وذكرت هناك من روى عن النبي - عليه السلام - من أصحابه نومه عن الصلاة في سفره فإنه روي عنه من وجوه ذكرتها في حديث زيد بن أسلم من ((التمهيد))
وقول بن شهاب عن سعيد بن المسيب في هذا الحديث إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قفل من خيبر أسرى - أصح من قول من قال إن ذلك كان مرجعه من غزاة حنين
وفي حديث بن مسعود أن نومه ذلك كان عام الحديبية وذلك في زمن خيبر
وكذلك قال بن إسحاق وأهل السير إن نومه عن الصلاة كان حين قفوله من خيبر
والقفول الرجوع من السفر ولا يقال قفل إذا سار مبتدئا
قال صاحب العين قفل الجيش قفولا وقفلا إذا رجعوا وقفلتهم أنا هكذا وهو القفول والقفل
وخروج الإمام بنفسه في الغزوات من السنن وكذلك إرساله السرايا كل ذلك سنة مسنونة
74

والسري سير الليل ومشيه وهو لفظة مؤنثة وسرى وأسرى لغتان قرئ بهما ولا يقال لسير النهار سرى ومنه المثل السائر عند الصباح يحمد القوم السرى
والتعريس نزول آخر الليل ولا تسمي العرب نزول أول الليل تعريسا
وقوله اكلأ لنا الصبح أي أرقب لنا الصبح واحفظ علينا وقت صلاته
وأصل الكلء الحفظ والمنع والرعاية وهي لفظة مهموزة قال الله تعالى * (قل من يكلؤكم بالليل والنهار) * [الأنبياء 42] أي يحفظكم
ومنه قول بن هرمة
(إن سليمى والله يكلؤها (1
*)
وفي هذا الحديث إباحة المشي على الدواب بالليل وذلك على قدر الاحتمال ولا ينبغي أن يصل المشي عليها ليلا ونهارا وقد أمر - عليه السلام - بالرفق بها وأن ينجى عليها بنقيها
وفيه أمر الرفيق بما خف من الخدمة والعون في السفر وذلك محمول على العرف في مثله
وإنما قلنا بالرفيق ولم نقل بالمملوك لأن بلالا كان حرا يومئذ قد كان أبو بكر أعتقه بمكة وكانت خيبر سنة ست من الهجرة
وقد أوضحنا في ((التمهيد)) معنى نوم النبي - عليه السلام - عن صلاته في سفره حتى طلعت الشمس مع قوله - عليه السلام - ((إن عيني تنامان ولا ينام قلبي)) (2)
والنكتة في ذلك أن الأنبياء - عليهم السلام - تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم ولذلك كانت رؤيا الأنبياء وحيا وكذلك قال بن عباس رؤيا الأنبياء وحي وتلا * (افعل ما تؤمر) * [الصافات 102]
وقد روي عن النبي - عليه السلام - أنه قال ((إنا معشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا))
وقد ذكرنا الحديث بذلك في ((التمهيد
75

وقال تعالى حاكيا عن إبراهيم نبيه - عليه السلام - أنه قال لابنه * (إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر) * [الصافات 102]
ونومه عليه السلام في سفره من باب قوله ((إني لأنسى أو أنسى لأسن)) فخرق نومه ذلك عادته عليه السلام ليسن لأمته
ألا ترى إلى قوله في حديث العلاء بن خباب ((لو شاء الله لأيقظنا ولكنه أراد أن تكون سنة لمن بعدكم))
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن عبيدة بن حميد عن يزيد بن أبي زياد عن تميم بن أبي سلمة عن مسروق عن بن عباس قال ((ما يسرني أن لي الدنيا بما فيها بصلاة النبي - عليه السلام - الصبح بعد طلوع الشمس))
وكان مسروق يقول ذلك أيضا
قرأت على عبد الوارث أن قاسما حدثهم قال حدثنا أحمد بن زهير حدثنا بن الأصبهاني قال حدثنا عبيدة بن حميد عن يزيد بن أبي زياد عن تميم عن أبي سلمة عن مسروق عن بن عباس قال ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فعرسوا من الليل فلم يستيقظوا حتى طلعت الشمس قال فأمر فأذن ثم صلى ركعتين))
قال بن عباس ((فما يسرني بهما الدنيا وما فيها)) يعني الرخصة
قال أبو عمر وذلك عندي - والله أعلم - لأنه كان سببا إلى أن علم أصحابه المبلغون عنه إلى سائر أمته أن مراد الله من عباده الصلاة وإن كانت مؤقتة أن من لم يصلها في وقتها فإنه يقضيها أبدا متى ما ذكرها ناسيا كان لها أو نائما عنها أو متعمدا لتركها
ألا ترى أن حديث مالك في هذا الباب عن بن شهاب عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها))
والنسيان في لسان العرب يكون الترك عمدا ويكون ضد الذكر
قال الله - تعالى - * (نسوا الله فنسيهم) * [التوبة 67] أي تركوا طاعة الله تعالى والإيمان بما جاء به رسوله فتركهم الله من رحمته
وهذا مما لا خلاف فيه ولا يجهله من له أقل علم بتأويل القرآن
فإن قيل فلم خص النائم والناسي بالذكر في قوله في غير هذا الحديث ((من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها))
قيل خص النائم والناسي ليرتفع التوهم والظن فيهما لرفع القلم في سقوط المأثم عنهما بالنوم والنسيان
76

فأبان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سقوط الإثم عنهما غير مسقط لما لزمهما من فرض الصلاة وأنها واجبة عليهما عند الذكر لها يقضيها كل واحد منهما بعد خروج وقتها إذا ذكرها
ولم يحتج إلى ذكر العامد معهما لأن العلة المتوهمة في الناسي والنائم ليست فيه ولا عذر له في ترك فرض قد وجب عليه من صلاته إذا كان ذاكرا له
وسوى الله - تعالى - في حكمه على لسان نبيه بين حكم والصلاة الموقوتة والصيام الموقوت في شهر رمضان - بأن كل واحد منهما يقضى بعد خروج وقته
فنص على النائم والناسي في الصلاة لما وصفنا ونص على المريض والمسافر في الصوم
وأجمعت الأمة ونقلت الكافة فيمن لم يصم رمضان عامدا وهو مؤمن بفرضه وإنما تركه أشرا وبطرا تعمد ذلك ثم تاب عنه - أن عليه قضاءه فكذلك من ترك الصلاة عامدا
فالعامد والناسي في القضاء للصلاة والصيام سواء وإن اختلفا في الإثم كالجاني على الأموال المتلف لها عامدا وناسيا إلا في الإثم وكان الحكم في هذا الشرع بخلاف رمي الجمار في الحج التي لا تقضى في غير وقتها لعامد ولا لناس فوجوب الدم فيها ينوب عنها وبخلاف الضحايا أيضا لأن الضحايا ليست بواجبة فرضا
والصلاة والصيام كلاهما فرض واجب ودين ثابت يؤدى أبدا وإن خرج الوقت المؤجل لهما
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((دين الله أحق أن يقضى)) (1)
وإذا كان النائم والناسي للصلاة - وهما معذوران - يقضيانها بعد خروج وقتها كان المتعمد لتركها المأثوم في فعله ذلك أولى بالا يسقط عنه فرض الصلاة وأن يحكم عليه بالإتيان بها لأن التوبة من عصيانه في تعمد تركها هي أداؤها وإقامة تركها مع الندم على ما سلف من تركه لها في وقتها
77

وقد شذ بعض أهل الظاهر وأقدم على خلاف جمهور علماء المسلمين وسبيل المؤمنين فقال ليس على المتعمد لترك الصلاة في وقتها أن يأتي بها في غير وقتها لأنه غير نائم ولا ناس
وإنما قال رسول الله ((من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها))
قال والمتعمد غير الناسي والنائم
قال وقياسه عليهما غير جائز عندنا كما أن من قتل الصيد ناسيا لا يجزئه عندنا
فخالفه في المسألة جمهور العلماء وظن أنه يستتر في ذلك برواية جاءت عن بعض التابعين شذ فيها عن جماعة المسلمين
وهو محجوج بهم مأمور باتباعهم
فخالف هذا الظاهر عن طريق النظر والاعتبار وشذ عن جماعة علماء الأمصار ولم يأت فيما ذهب إليه من ذلك بدليل يصح في العقول
ومن الدليل على أن الصلاة تصلي وتقضى بعد خروج وقتها كالصائم سواء وإن كان إجماع الأمة الذين أمر من شذ منهم بالرجوع إليهم وترك الخروج عن سبيلهم يغني عن الدليل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم ((من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح)) ولم يخص متعمدا من ناس
ونقلت الكافة عنه - عليه السلام - أن من أدرك ركعة من صلاة العصر قبل الغروب صلى تمام صلاته بعد الغروب وذلك بعد خروج الوقت عند الجميع ولا فرق بين عمل صلاة العصر كلها لمن تعمد أو نسي أو فرط وبين عمل بعضها في نظر ولا اعتبار
ودليل آخر وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل هو ولا أصحابه يوم الخندق صلاة الظهر والعصر حتى غربت الشمس لشغله بما نصبه المشركون له من الحرب ولم يكن يومئذ ناسيا ولا نائما ولا كانت بين المسلمين والمشركين يومئذ حرب قائمة ملتحمة وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر في الليل
ودليل آخر وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بالمدينة لأصحابه يوم انصرافه من الخندق ((لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة (1) فخرجوا متبادرين وصلى
78

بعضهم العصر في [طريق] بني قريظة خوفا من خروج وقتها المعهود ولم يصلها بعضهم إلا في بني قريظة بعد غروب الشمس فلم يعنف رسول الله - عليه السلام - إحدى الطائفتين وكلهم غير ناس ولا نائم وقد أخر بعضهم الصلاة حتى خرج وقتها ثم صلاها وقد علم رسول الله ذلك فلم يقل لهم إن الصلاة لا تصلى إلا في وقتها ولا تقضى بعد خروج وقتها
ودليل آخر وهو قوله - عليه السلام - ((سيكون بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن ميقاتها قالوا أفنصليها معهم قال نعم)) (1)
حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إسحاق بن الحسن الحربي قال حدثنا أبو حذيفة يوسف بن مسعود قال حدثنا سفيان الثوري عن منصور عن هلال بن يساف عن أبي المثني الحمصي عن أبي أبي بن امرأة عبادة بن الصامت عن عبادة بن الصامت قال ((كنا عند النبي - عليه السلام - فقال إنه سيكون بعدي أمراء تشغلهم أشياء حتى لا يصلوا الصلاة لميقاتها قالوا نصليها معهم يا رسول الله قال نعم)) (2)
قال أبو عمر أبو المثنى الحمصي هو الأملوكي ثقة روى عن عتبة وأبي بن أم حرام وكعب الأحبار
وأبو أبي بن أم حرام ربيب عبادة له صحبة وقد سماه وكيع وغيره في هذا الحديث عن الثوري وقد ذكرناه في الكنى
وفي هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أباح الصلاة بعد خروج ميقاتها ولم يقل إن الصلاة لا تصلى إلا في وقتها
والأحاديث في تأخير الأمراء الصلاة حتى يخرج وقتها كثيرة جدا وقد كان الأمراء من بني أمية أو أكثرهم يصلون الجمعة عند الغروب
وقد قال عليه السلام ((التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى
79

وقد أعلمهم أن وقت الظهر في الحضر ما لم يخرج وقت العصر
روي ذلك عنه من وجوه صحاح قد ذكرت بعضها في صدر هذا الكتاب في المواقيت
حدثنا عبد الله بن محمد بن أسد قال حدثنا حمزة بن محمد بن علي حدثنا أحمد بن شعيب النسائي قال حدثنا سويد بن نصر قال حدثنا عبد الله - يعني بن المبارك عن سليمان بن المغيرة عن ثابت عن عبد الله بن رباح عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يحين وقت الأخرى)) (1)
فقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعل هذا مفرطا والمفرط ليس بمعذور وليس كالنائم ولا الناسي عند الجميع من جهة العذر
وقد أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته على ما كان من تفريطه
وقد روي في حديث أبي قتادة هذا ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((وإذا كان الغد فليصلها لميقاتها))
وهذا أبعد وأوضح في أداء المفرط الصلاة عند الذكر وبعد الذكر
وحديث أبي قتادة هذا صحيح الإسناد إلا أن هذا المعنى قد عارضه حديث عمران بن الحصين في نوم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الصبح في سفره وفيه قالوا يا رسول الله ألا نصليها من الغد قال لا إن الله [لا] ينهاكم عن الربا ثم يقبله منكم)) (2)
وروي من حديث أبي هريرة عن النبي عليه السلام
وقد روى عبد الرحمن بن علقمة الثقفي - وهو مذكور في الصحابة - قال ((قدم وفد ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلوا يسألونه فشغلوه فلم يصل يومئذ الظهر إلا مع العصر))
وأقل ما في هذا أنه أخرها عن وقتها الذي كان يصليها فيه بشغل اشتغل به
وعبد الرحمن بن علقمة من ثقات التابعين
وقد أجمع العلماء على أن تارك الصلاة عامدا حتى يخرج وقتها عاص لله وذكر بعضهم أنها كبيرة من الكبائر وليس ذلك مذكورا عند الجمهور في الكبائر
وأجمعوا على أن على العاصي أن يتوب من ذنبه بالندم عليه واعتقاد ترك
80

العودة إليه قال الله تعالى " وتوبوا إلى الله جميعا آية المؤمنون لعلكم تفلحون " [النور 31]
ومن لزمه حق لله أو لعباده لزمه الخروج منه
وقد شبه عليه السلام حق الله تعالى بحقوق الآدميين وقال ((دين الله أحق أن يقضى))
والعجب من هذا الظاهري في نقضه أصله وأصل أصحابه فيما وجب من الفرائض بإجماع أنه لا يسقط إلا بإجماع مثله أو سنة ثابتة لا تنازع في قبولها والصلوات المكتوبات واجبات بإجماع
ثم جاء من الاختلاف بشذوذ خارج عن أقوال علماء الأمصار وأتبعه دون سند روي في ذلك وأسقط به الفريضة المجتمع على وجوبها ونقض أصله ونسي نفسه والله أسأله التوفيق لما يرضاه والعصمة مما به ابتلاه
وقد ذكر أبو الحسن بن المغلس في كتابه ((الموضح على مذهب أهل الظاهر)) قال فإذا كان الإنسان في مصر في حش (1) أو موضع نجس أو كان مربوطا على خشبة ولم تمكنه الطهارة ولا قدر عليها لم تجب عليه الصلاة حتى يقدر على الوضوء فإن قدر على الطهارة تطهر وصلى متى ما قدر على الوضوء والتيمم
قال أبو عمر هذا غير ناس ولا نائم وقد أوجب أهل الظاهر عليه الصلاة بعد خروج الوقت ولم يذكر بن المغلس خلافا بين أهل الظاهر في ذلك
وهذا الظاهري يقول لا يصلي أحد الصلاة بعد خروج وقتها إلا النائم والناسي لأنهما خصا بذلك ونص عليهما
فإن قال هذا معذور كما أن النائم والناسي معذوران وقد جمعهما العذر - قيل له قد تركت ما أصلت في نفي القياس واعتبار المعاني وألا يتعدى النص مع أن العقول تشهد أن غير المعذور أولى بإلزام القضاء من المعذور
وقد ذكر أبو عبد الله أحمد بن محمد الداودي البغدادي في كتابه المترجم بجامع مذهب أبي سليمان داود بن علي بن خلف الأصبهاني في باب ((صوم الحائض وصلاتها)) من كتاب الطهارة - قال كل ما تركت الحائض من صلاتها حتى يخرج وقتها فعليها إعادتها
قال ولو تركت الصلاة حتى يخرج وقتها [وتريثت] عن الإتيان بها حتى حاضت أعادت تلك الصلاة بعينها إذا طهرت
81

فهذا قول داود وهذا قول أهل الظاهر فما أرى هذا الظاهري إلا قد خرج عن جماعة العلماء من السلف والخلف - وخالف جميع فرق الفقهاء وشذ عنهم ولا يكون إماما في العلم من أخذ بالشاذ من العلم
وقد أوهم في كتابه أن له سلفا من الصحابة والتابعين تجاهلا منه أو جهلا فذكر عن بن مسعود ومسروق وعمر بن عبد العزيز في قوله تعالى * (أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا) * [مريم 59] قالوا أخروها عن مواقيتها قالوا ولو تركوها لكانوا بتركها كفارا وهؤلاء يقولون بكفر تارك الصلاة عمدا ولا يقولون بقتله إذا كان مقرى بها فكيف يحتج بهم على أن من قضى الصلاة فقد تاب من تضييعها قال الله تعالى * (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى) * [طه 82]
ولا تصح لمضيع الصلاة توبة إلا بأدائها كما لا تصح التوبة من دين الآدمي إلا بأدائه
ومن قضى صلاة فرط فيها فقد تاب وعمل صالحا والله لا يضيع أجر من أحسن عملا
وذكر عن سليمان أنه قال الصلاة مكيال فمن وفى وفي له ومن طفف فقد علمتم ما قال الله تعالى في المطففين
وهذا لا حجة فيه لأن الظاهر من معناه أن المطفف قد يكون الذي لم يكمل صلاته بركوعها وسجودها وحدودها وإن صلاها في وقتها
وذكر عن بن عمر أنه قال لا صلاة لمن لم يصل الصلاة لوقتها
وكذلك نقول لا صلاة له كاملة كما لا صلاة لجار المسجد ولا إيمان لمن لا أمانة له
ومن قضى الصلاة فقد صلاها وتاب من سيئ عمله في تركها وكل ما ذكر في هذا المعنى فغير صحيح ولا له في شيء منه حجة لأن ظاهره خلاف ما تأوله والله أسأله العصمة والتوفيق
وأما فزع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان فزعا منه وإشفاقا وحزنا على ما فاته من صلاته في وقتها بالنوم الغالب عليه وحرصا على بلوغ الغاية من طاعة ربه ونحو ذلك كما فزع حين قام إلى صلاة الكسوف فزعا يجر رداءه وكان فزع أصحابه في انتباههم لأنهم لم يعرفوا حكم من نام عن صلاته في رفع المأثم عنه وإباحة القضاء له
ولذلك قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن الله قبض أرواحنا ولو شاء لردها إلينا في حين غير هذا
82

ويجوز أن يكون فزعهم لما رأوه من فزعه حين انتباهه إشفاقا وفزعا كفزعهم حين صلى بهم عبد الرحمن بن عوف الصبح ورسول الله صلى الله عليه وسلم مشتغل بطهوره ثم أتى فأدرك معهم ركعة فلما سمعوا تكبيرة فزعوا فلما قضى صلاته قال ((أحسنتم)) (1)
ولم يكن فزعه - عليه السلام - من عدو خافه كما زعم بعض من تكلم في معاني الموطأ
وفي هذا الحديث تخصيص قوله عليه السلام ((رفع القلم عن النائم حتى يستيقظ)) وبيان أنه إنما رفع عنه الإثم في تأخير الصلاة لما يغلبه من النوم ولم يرفع عنه وجوب الإتيان بها إذا انتبه وذكرها وكذلك الناسي
وفي قوله عليه السلام ((حتى يستيقظ)) في النائم وفي الساهي فليصلها إذا ذكرها - بيان ما قلنا وبالله توفيقنا
وأما قول بلال ((أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك)) - يعني من النوم - فصنف من الاحتجاج لطيف يقول إذا كنت في منزلتك من الله قد غلبتك عينك وقبضت نفسك فأنا أحرى بذلك
وقد روى بن شهاب عن علي بن حسين قال ((دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على علي بن أبي طالب وفاطمة وهما نائمان فقال ألا تصلون ألا تصلون فقال علي يا
رسول الله إنما أنفسنا بيد الله فإذا أراد أن يبعثها بعثها فأنصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ " وكان الإنسان أكثر شيء جدلا * (2) [الكهف
83

وفي قول علي إنما أنفسنا بيد الله وقول بلال أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك مع قوله عليه السلام إن الله قبض أرواحنا وقوله - عليه السلام - في حديث أبي جحيفة ((إنكم كنتم أمواتا فرد الله إليكم أرواحكم مع قوله تعالى * (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها) * [الزمر 42] - دليل واضح على أن الروح والنفس شيء واحد
وقد أثبتنا بما بينا في النفس والروح عن السلف ومن بعدهم بما فيه شفاء في مرسل زيد بن أسلم من ((التمهيد)) والحمد لله وأما قوله ((فبعثوا رواحلهم واقتادوا شيئا)) - فإنه أراد أثاروا جمالهم واقتادوا سيرا قليلا والإبل إذا كان عليها الأوقار فهي الرواحل
واختلف العلماء في معنى اقتيادهم وخروجهم من ذلك الوادي فقال أهل الحجاز إنما كان ذلك لأن الوقت قد كان خرج فلم يخف فوتا آخر وتشاءم بالموضع الذي نابهم فيه فقال هذا واد به شيطان)) كما قال تعالى حاكيا عن موسى عليه السلام * (وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره) * [الكهف 63]
وقد روى معمر عن الزهري في هذا الحديث عن بن المسيب قال ((فاقتادوا رواحلهم وارتحلوا عن المكان الذي أصابتهم فيه الغفلة))
وذكر وكيع عن جعفر بن برقان عن الزهري ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نام عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس فقال لأصحابه تزحزحوا عن المكان الذي أصابتكم فيه الغفلة فصلى ثم قال * (وأقم الصلاة لذكري) *
وذلك كله نحو مما أشرنا إليه وليس من باب الطيرة وإنما هو من باب الكراهة
وأما أهل العراق فزعموا أن تأخير رسول الله صلى الله عليه وسلم لتلك الصلاة حتى خرج من الوادي إنما كان لأنه انتبه في حين طلوع الشمس
قالوا ومن سنته ألا يصلي عند طلوع الشمس ولا غروبها
ومن حجتهم ما أنبأنا سعيد بن نصر وأحمد بن قاسم وعبد الوارث بن سفيان قالوا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني قال حدثنا بندار محمد بن بشار قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا شعبة عن جامع بن شداد قال سمعت عبد الرحمن بن علقمة قال سمعت بن مسعود يقول ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من يكلأنا الليلة فقال بلال أنا فناموا حتى طلعت الشمس فقال افعلوا كما كنتم تفعلون ففعلنا قال ((كذلك فافعلوا ثم نام أو نسي))
واحتجوا بقوله عليه السلام ((إذا بدا حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تبرز وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغيب
84

وبالآثار التي رواها الصنابحي وغيره في النهي عن الصلاة في حين طلوع الشمس وحين غروبها
وحملوا ذلك على الفرائض وعلى النوافل وقالوا لما كان يوم الفطر والأضحى لا يؤدى فيهما صيام رمضان ولا نفل لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن صيامهما - فكذلك هذه الأوقات لا تصلى فيها فريضة ولا نافلة لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيها
وهذا يرد قوله - عليه السلام - ((من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر))
وروى أبو رافع عن أبي هريرة أن النبي - عليه السلام - أنه قال ((إذا أدركت ركعة من صلاة الفجر قبل طلوع الشمس فصل إليها أخرى))
وقد ذكرناه بإسناده في ((التمهيد))
وهذه إباحة منه لصلاة الفريضة في حين طلوع الشمس وحين غروبها فدل ذلك على أن نهيه المذكور عن الصلاة في حين طلوع الشمس وحين غروبها لم يكن عن الفرائض وإنما أراد به التطوع والنافلة
وأما قوله ((فأمر بلالا فأقام الصلاة)) فيحتمل أنه لم يأمره بالأذان وإنما أمره بالإقامة فقط
وهذا مذهب مالك في الموطأ في الصلاة الفائتة أنها تقام بغير أذان وأنه لا يؤذن لصلاة فريضة إلا في وقتها
ويحتمل أن يكون أمره فأقام الصلاة بما تقام به من الأذان والإقامة
وقد روي عن النبي - عليه السلام - أنه حين نام عن صلاة الفجر في سفره أمر بلالا فأذن وأقام وفي بعضها أنه أمره فأقام ولم يذكر أذانا
واختلف الفقهاء في الأذان والإقامة للصلوات الفوائت
فقال مالك والأوزاعي والشافعي من فاتته صلاة أو صلوات حتى خرج وقتها أقام لكل صلاة إقامة إقامة ولم يؤذن
وقال الثوري ليس عليه في الفوائت أذان ولا إقامة
وقال أبو حنيفة من فاتته صلاة واحدة صلاها بأذان وإقامة فإن لم يفعل فصلاته تامة
وقال محمد بن الحسن إذا فاتته صلوات فإن صلاهن بإقامة إقامة كما فعل
85

النبي - عليه السلام - يوم الخندق فحسن وإن أذن وأقام لكل صلاة فحسن ولم يذكر خلافا بينه وبين أصحابه في ذلك
وقال أحمد بن حنبل وأبو ثور وداود يؤذن ويقيم لكل صلاة فاتته على ما روي عن النبي - عليه السلام - حين نام في سفره عن صلاة الفجر
قال أبو عمر كأنهم ذهبوا إلى أن ما ذكر الصحابة والرواة في أحاديث نوم النبي - عليه السلام - عن صلاة الفجر في سفره من الأذان مع الإقامة حجة على من لم يذكر
إلا ما ذكرنا من احتمال لفظ الإقامة في التأويل
وقد ذكرنا الأحاديث بذلك في ((التمهيد)) من طرق كثيرة عن جماعة من الصحابة
منها ما أنبأناه سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا أبو أسامة عن هشام عن الحسن عن عمران بن حصين قال ((سرينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عرس بنا من آخر الليل قال فاستيقظنا وقد طلعت الشمس قال فجعل الرجل يثور إلى طهوره دهشا فازعا فقال النبي - عليه السلام - ((ارتحلوا قال فارتحلنا حتى إذا ارتفعت الشمس نزلنا فقضينا من حوائجنا ثم أمر بلالا فأذن فصلينا ركعتين ثم أمر بلالا فأقام فصلى بنا النبي - عليه السلام - قال فقلنا يا رسول الله أفنقضيها لميقاتها من الغد فقال لا ينهاكم الله عن الربا ويأخذه منكم))
ومن حجة من قال إن الفائتة يقام لها ولا يؤذن - حديث أبي سعيد الخدري وحديث بن مسعود عن يوم الخندق فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حبس يومئذ عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء إلى هوي من الليل (1) ثم أقام لكل صلاة (2) ولم يذكر أذانا
حدثنا عبد الوارث حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا إبراهيم بن عبد الرحمن حدثنا عمار بن عبد الجبار الخرساني قال حدثنا بن أبي ذئب
وحدثنا أحمد بن عبد الله قال حدثنا الميمون بن حمزة الخشني حدثنا الطحاوي حدثنا المزني حدثنا الشافعي حدثنا بن أبي بديل عن بن أبي ذئب عن المقبري عن أبي سعيد الخدري عن أبيه قال حبسنا يوم الخندق عن الصلاة حتى كان هوي من الليل حتى كفينا وذلك قوله * (وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا) * [الأحزاب 25] فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأقام فصلى الظهر كما كان يصليها في وقتها ثم أقام العصر فصلاها كذلك ثم أقام المغرب فصلاها ثم أقام
86

العشاء فصلاها كذلك وذلك قبل أن ينزل في صلاة الخوف * (فإن خفتم فرجالا أو ركبانا) * (1) [البقرة 239]
معنى حديثهما سواء
وحدثنا عبد الوارث حدثنا قاسم حدثنا أحمد بن محمد السري حدثنا أبو نعيم حدثنا عبد الوارث حدثنا هشام بن عبد الله عن أبي الزبير عن نافع بن جبير عن مطعم عن أبي عبيدة عن بن مسعود قال ((كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فحبسنا عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء قال فأمر رسول الله بلالا فأقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ثم أقام فصلى المغرب ثم أقام فصلى العشاء ثم قال ما على الأرض عصابة يذكرون الله غيركم))
قال أبو عمر يعني الصلاة في ذلك الوقت وهذان الحديثان حجة في أن الفوائت يقام لها ولا يؤذن
واستدل بعض من يقول بأنها يؤذن لها ويقام بما في هذين الحديثين من قوله ((ثم أقام للعشاء فصلاها)) والعشاء مفعولة في وقتها ليست بفائتة ولا بد لها من الأذان فدل ذلك على أن قوله ((ثم أقام فصلى العشاء)) إنما أراد إقامتها بما تقام به على سنتها من الأذان والإقامة
قال فكذلك سائر ما ذكر معها من الصلوات
قال أبو عمر قد يحتمل أن تكون العشاء صليت في تلك الليلة بعد نصف الليل لقوله في الحديث ((هوي من الليل)) وذلك بعد خروج وقتها فكان حكمها في ذلك حكم صلاة المغرب بعد مغيب الشفق على ما في الأحاديث المسندة
وإذا احتمل ذلك فهي فائتة حكمها حكم غيرها مما ذكر من الصلاة معها
وصح بظاهر هذين الحديثين أن الفوائت يقام لها ولا يؤذن وبالله التوفيق
وأما صلاة ركعتي الفجر لمن نام عن صلاة الفجر ولم ينتبه لها إلا بعد طلوع الشمس فإن مالكا قال يبدأ بالمكتوبة ولم يعرف ما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركعتي الفجر يومئذ
وذكر أبو قرة موسى بن طارق في سماعه من مالك قال قال مالك فيمن نام عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس إنه لا يركع ركعتي الفجر ولا يبدأ بشيء قبل الفريضة
قال وقال مالك لم يبلغنا أن النبي - عليه السلام - صلى ركعتي الفجر حين نام عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس
87

قال بن وهب سئل مالك هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نام عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس ركع ركعتي الفجر قال ما علمت
قال أبو عمر ليس في شيء من رواية مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركع ركعتي الفجر في ذلك وإنما صار في ذلك إلى ما روى
وعلى مذهبه في ذلك جمهور أصحابه إلا أشهب وعلي بن زياد فإنهما قالا يركع ركعتي الفجر قبل أن يصلي الصبح قالا قد بلغنا ذلك عن النبي - عليه السلام - أنه صلاهما يومئذ
وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما والثوري والحسن بن صالح يركع ركعتي الفجر إن شاء ولا ينبغي له أن يدعهما
وإليه ذهب أحمد وإسحاق وأبو ثور وداود لما روي في ذلك من حديث عمران بن حصين وغيره
وقد ذكرنا ذلك في باب مرسل زيد بن أسلم من التمهيد
وقد كان يجب على أصل مالك أن يركعهما قبل أن يصلي الصبح لأن قوله من أتى مسجدا قد صلي فيه لا بأس أن يتطوع قبل المكتوبة إذا كان في سعة من الوقت
ومعلوم أن من انتبه بعد طلوع الشمس لا يخاف من فوت الوقت أكثر مما هو فيه
وكذلك قال أبو حنيفة والشافعي وداود يتطوع إذا كان في الوقت سعة
وقال الثوري أبدأ بالمكتوبة ثم تطوع بما شئت وهو قول الحسن بن حي
وقال الليث بن سعد كل واجب من صلاة فريضة أو صلاة نذر أو صيام - يبدأ به قبل النفل
رواه بن وهب عنه وقد روى عنه بن وهب خلاف ذلك قال بن وهب سمعت الليث يقول في الذي يدرك الإمام في قيام رمضان ولم يصل العشاء أنه يصلي معهم بصلاتهم فإذا فرغ صلى العشاء قال وإن علم أنهم في القيام قبل أن يدخل في المسجد فوجد مكانا طاهرا فليصل العشاء ثم يدخل معهم في القيام
وأما قوله في الحديث ((من نسي الصلاة فليصلها إذا ذكرها فإن الله يقول * (وأقم الصلاة لذكري) * فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ((من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها)) من وجوه قد ذكرناها في التمهيد وفي بعضها ((فذلك وقتها))
واحتج القائلون بأن من ذكر صلاة وهو في صلاة فسدت عليه صلاته التي هو فيها حتى يصلي التي ذكر قبلها من أصحابنا وغيرهم - بقوله هذا ((فليصلها إذا ذكرها))
قالوا فهو مأمور بإقام الصلاة المذكورة في حين الذكر فصار ذلك وقتا لها
88

فإذا ذكرها وهو في صلاة فكأنها مع صلاة الوقت صلاتان من يوم واحد اجتمعتا عليه في وقت واحد
فالواجب أن يبدأ بالأولى منهما فلذلك فسدت عليه التي هو فيها كما لو صلى العصر قبل صلاة الظهر من ذلك اليوم
وفسادها من جهة الترتيب إلا أن ذلك عند مالك وأصحابه ومن يقول بقولهم لا تجب إلا مع الذكر وحصول الوقت بالترتيب وقلة العدد وذلك صلاة يوم فما دون
فإذا خرج الوقت سقط الترتيب وكذلك سقط الترتيب مع كثرة العدد لما في ذلك من المشقة وما لا يطاق عليه ويفحش القياس فيه لأنه لو ذكر صلاة عام فرط فيها أو ذكر صلاة بين وقتها وبين صلاة وقته عام قبح بالمفتى أن يأمره بصلاة عام ونحوه قبل أن يصلي صلاة وقته
واحتج بعضهم في وجوب الترتيب بحديث أبي جمعة واسمه حبيب بن سباع وله صحبة قال ((صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب يوم الأحزاب فلما سلم قال هل علم أحد منكم أني صليت العصر قالوا لا يا رسول الله قال فصلى العصر ثم صلى المغرب))
وهذا حديث لا يعرف إلا عن بن لهيعة عن مجهولين لا تقوم بهم حجة
وقال الشافعي وداود بن علي وأبو جعفر الطبري لا يلزم الترتيب في شيء من ذلك
وقالوا فيمن ذكر صلاة وهو في صلاة غيرها وحده أو وراء إمام يتمادى في صلاته فإذا أتمها صلى التي ذكر ولم يعد الأخرى بعدها
وليس الترتيب عند هؤلاء بواجب فيما قل ولا فيما كثر إلا في صلاة اليوم بعينه
وحجتهم أن الترتيب إنما يجب في اليوم وأوقاته كما يجب ترتيب أيام رمضان في رمضان لا في غيره فإذا خرج الوقت سقط الترتيب
ألا ترى أن رمضان تجب الرتبة فيه والنسق لوقته فإذا انقضى سقطت الرتبة ولم يجب على الذي لم يصمه في وقته لمرض أو سفر إلا عدة من أيام أخر
وكذلك من عليه أيام من شهر رمضان فلم يصمها حتى دخل عليه رمضان آخر أنه يصومه ثم يصوم الأيام من الأول بعده ولا يعيده
وهذا إجماع من علماء المسلمين وإنما اختلفوا في الإطعام مع قضاء الأيام لمن فرط وهو قادر على الصيام
89

فأما داود ومن نفى القياس فإنهم احتجوا في سقوط الترتيب بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ركعتي الفجر يومئذ وهو ذاكر للصبح
قالوا فقد صلى صلاة سنة وهو ذاكر فيها لصلاة فريضة فلم تفسد عليه فأحرى ألا تفسد عليه صلاة فريضة إذا ذكر فيها أخرى قبلها
وهذا عندي احتجاج فاسد غير لازم من وجوه
منها أن لا ترتيب بين السنن والفرائض
ومنها أنه لم يذكر في ركعتي الفجر صلاة قبلها وإنما كان ذاكرا فيها صلاة بعدها
وهذا لا خفاء فيه لمن أنصف نفسه
ولا معنى لقول النبي - عليه السلام - ((فليصلها إذا ذكرها فإن الله تعالى يقول * (وأقم الصلاة لذكري) * عند من لا يرى الترتيب إلا إيجاب الصلاة على كل من نام عنها أو تركها أو نسيها إذا ذكرها وأنه لازم لكل من ذكر صلاة لم يصلها أن يصليها إذا ذكرها وأن النائم عنها والناس لها إذا ذكرها في حكم من ذكرها في وقتها وليس في ذلك عندهم إيجاب ترتيب
وقد أجمع علماء المسلمين أن من ذكر صلوات كثيرة كصلاة شهر أو أكثر أو ما زاد على صلاة يوم وليلة لم يلزمه ترتيب ذلك مع صلاة وقته فكذلك القليل من الصلوات في القياس والنظر وبالله التوفيق
وسيأتي من هذا المعنى زيادة مسائل عن العلماء يزيد الناظر فيها بيانا وعلما عند ذكر حديث مالك إن شاء الله
وأما معنى قوله تعالى * (وأقم الصلاة لذكري) * فإن أكثر أهل العلم قالوا معناه أن يصلي الصلاة إذا ذكرها
هذا قول إبراهيم والشعبي وأبي العالية وجماعة من العلماء بتأويل القرآن
وقد قرئت (للذكرى) على هذا المعنى وكان بن شهاب يقرؤها كذلك
وقال مجاهد * (وأقم الصلاة لذكري) * أن يذكر فيها قال فإذا صلى عبد ذكر ربه
24 - مالك عن زيد بن أسلم أنه قال عرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة بطريق مكة ووكل بلالا أن يوقظهم للصلاة فرقد بلال ورقدوا حتى استيقظوا وقد
90

طلعت عليهم الشمس فاستيقظ القوم وقد فزعوا فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يركبوا حتى يخرجوا من ذلك الوادي وقال ((إن هذا واد به شيطان)) فركبوا حتى خرجوا من ذلك الوادي ثم أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزلوا وأن يتوضؤوا وأمر بلالا أن ينادي بالصلاة أو يقيم فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس ثم انصرف إليهم وقد رأى من فزعهم فقال ((يا أيها الناس إن الله قبض أرواحنا ولو شاء لردها إلينا في حين غير هذا فإذا رقد أحدكم عن الصلاة أو نسيها ثم فزع إليها فليصلها كما كان يصليها في وقتها))
ثم التفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر فقال ((إن الشيطان أتى بلالا وهو قائم يصلي فأضجعه فلم يزل يهدئه (1) كما يهدأ الصبي حتى نام)) ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأخبر بلال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فقال أبو بكر أشهد أنك رسول الله))
وقد ذكرنا هذا الحديث متصلا مسندا من وجوه كثيرة في ((التمهيد)) بمعان متقاربة
وفيها ما يدل على أن نومه عليه السلام كان منه مرة واحدة
ويحتمل أن يكون مرتين لأن في حديث بن مسعود أنا أوقظكم
وقد يمكن أن رسول الله لم يجبه إلى ذلك وأمر بلالا أن يوقظهم لأن في أكثر الأحاديث أن بلالا كان موكلا بذلك على ما في حديثي مالك
وفي بعض الأحاديث أن ذلك النوم كان منه - عليه السلام - زمن الحديبية وفي بعضها زمن خيبر وفي بعضها بطريق مكة
ويشبه أن يكون كل واحدا لأن عمرة الحديبية كانت زمن خيبر وهو طريق مكة لمن شاء ويجوز أن يكون غير ذلك والله أعلم
وأما قول عطاء بن يسار إن ذلك كان في غزوة تبوك فليس بشيء وأحسبه وهما والله أعلم
وقد ذكرنا الآثار بذلك في ((التمهيد)) وقد مضى معنى التعريس وكثير من معاني ألفاظ هذا الحديث فيما تقدم من القول في الحديث الذي قبله
وقوله في هذا الحديث ((فاستيقظ رسول الله وقد فزعوا)) تفسيره قوله فيه ((ثم
91

انصرف إليهم وقد رأى من فزعهم فقال يا أيها الناس إن الله قبض أرواحنا ولو شاء لردها إلينا في حين غير هذا))
وهذا القول منه لما رأى من فزعهم دليل على أن فزعهم لم يكن من أجل عدو يخشونه ولو كان فزعهم من العدو كما زعم بعض أصحابنا ممن فسر الموطأ أن فزعهم كان من خوف العدو لما قال لهم هذا القول
والوجه عندي في فزعهم أنه كان وجلا وإشفاقا على ما قدمناه ذكره ولم يكونوا علموا سقوط المأثم عن النائم وعدوه تفريطا
فلذلك قال لهم - عليه السلام - ((ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة)) (1)
وقد ذكرنا الخبر بذلك فيما مضى من هذا الباب
وقد تقدم خروجهم من هذا الوادي وما ذهب إليه أهل الحجاز وأهل العراق في ذلك
وفي حديث بن شهاب ((فاقتادوا رواحلهم))
وفي حديث زيد بن أسلم ((فركبوا حتى خرجوا من ذلك الوادي))
وهذا يحتمل أن يكون بعضهم اقتاد راحلته وبعضهم ركب على ما فهموا من أمره بذلك كله لأن في حديث بن شهاب ((فاقتادوا)) وفي حديث زيد بن أسلم ((فركبوا))
وليس في ذلك تعارض ولا تدافع وممكن أن يجري من القول ذلك كله
وفي رواية بن جريج عن عطاء بن أبي رباح في حديث نوم النبي - عليه السلام - عن صلاة الصبح في السفر قال ((فركع ركعتين في معرسه ثم سار ساعة ثم صلى الصبح))
قال بن جريج فقلت لعطاء بن أبي رباح أي سفر كان قال لا أدري
قال أبو عمر في سيره عليه السلام بعد أن ركع ركعتي الفجر أوضح دليل على أن خروجه من ذلك الوادي وتركه للصلاة كان لبعض ما وصفنا في الحديث قبل هذا لا لأنه انتبه حين بدا حاجب الشمس كما زعم أهل الكوفة لأنه معلوم أن الوقت الذي تحل فيه صلاة النافلة والصلاة المسنونة أحرى أن تحل فيه صلاة الفريضة
واختلف القائلون بقول الحجازيين فقال بعضهم من نام عن الصلاة في سفره ثم انتبه بعد خروج الوقت لزمه الزوال عن ذلك الموضع
وإذا كان واديا خرج عنه لقوله - عليه السلام - اركبوا واخرجوا من هذا الوادي إن [الشيطان] هدأ بلالا كما يهدأ الصبي
92

قال فكل موضع يصيب المسافرين فيه مثل ما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في ذلك الموضع من النوم عن الصلاة حتى يخرج وقتها فينبغي الخروج [منه] وإقامة الصلاة في غيره لأنه موضع مشؤوم ملعون كما روي عن علي قال
((نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أصلي بأرض بابل فإنها ملعونة)) (1)
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ((لما أتى وادي ثمود أمر الناس فأسرعوا وقال هذا واد ملعون وقد روي أنه أمر بالعجين الذي عجن بماء ذلك الوادي فطرح))
وقال آخرون منهم أما ذلك الوادي وحده إن علم وعرض فيه مثل ذلك العارض فواجب الخروج منه على ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما سائر المواضع فلا
وذلك الموضع وحده مخصوص بذلك لأن الله تعالى قال * (وأقم الصلاة لذكري) *
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها))
ولم يخص الله ولا رسوله موضعا من المواضع إلا ما جاء في ذلك الوادي خاصة
وقال آخرون كل من انتبه من نوم أو ذكر بعد نسيان أو ترك صلاة عمدا ثم ثاب إلى أدائها فواجب على كل واحد منهم أن يقيم صلاته تلك بأعلى ما يمكنه في كل موضع ذكرها فيه واديا كان أو غير واد
وذلك أن الموضع الطاهر [في واد تؤدى الصلاة فيه] وسواء ذلك الوادي وغيره لأن قوله عليه السلام إن هذا واد به شيطان خصوص له لا يشركه فيه غيره لأنه كان يعلم من حضور الشياطين بالمواضع ما لا يعلم غيره ولعل ذلك الوادي لم يحضره ذلك الشيطان إلا في ذلك الوقت
وذكر إسماعيل في ((المبسوط)) عن الحكم بن محمد عن محمد بن مسلم قال ليس على من نام عن الصلاة في واد أن يؤخرها حتى يخرج من ذلك الوادي لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((إن هذا واد به شيطان))
ولا يعلم الناس من ذلك الوادي ولا من غيره ما يعلم من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال ((من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن الله يقول * (وأقم الصلاة لذكري) *
قال أبو عمر الذي عليه العمل عندي وفيه الحجة لمن اعتصم به قوله - عليه السلام ((جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا)) (2)
ولم يخص واديا من غيره في هذا الحديث
93

وفي قوله عليه السلام ((جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا)) ما يبيح الصلاة في المقبرة والمزبلة والحمام وقارعة الطريق وبطون الأودية إذا سلم كل ذلك من النجاسة لأن قوله ذلك ناسخ لكل ما خالفه
ولا يجوز أن ينسخ بغيره لأن ذلك من فضائله عليه السلام وفضائله لا يجوز عليها النسخ لأنها لم تزل تترى به حتى مات ولم يبتز شيئا منها بل كان يزادا فيها
ألا ترى أنه كان عبدا غير نبي ثم نبأه الله ثم أرسله فصار رسولا نبيا ثم غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ووعده أن يبعثه المقام المحمود الذي يبين به فضله عن سائر الأنبياء قبله
وفي كل ما قلنا من ذلك جاءت الآثار عنه عليه السلام قال ((كنت عبدا قبل أن أكون نبيا وكنت نبيا قبل أن أكون رسولا))
ومما يوضح ما قلنا أنه صلى الله عليه وسلم قد أخبر الله عنه في أول أمره أنه قال * (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) * [الأحقاف 9]
وقال ((لا يقل أحدكم إني خير من يونس بن متى)) (1)
وقال له رجل ما خير البرية فقال ((ذلك إبراهيم)) (2)
ثم شك في نفسه وفي موسى - عليه السلام - فلم يدر من تنشق الأرض عنه قبل
94

وقال له رجل أنت الكريم بن الكرماء فقال ((ذلك يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم)) (1)
ثم لما غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأخبر أنه يبعث المقام المحمود قال ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر)) (2)
فلذلك قلنا إن فضائله لا يجوز عليها النسخ ولا التبديل ولا النقص
ألا ترى إلى قوله عليه السلام ((أوتيت خمسا)) وقد روي ((ستا)) وروى فيه ثلاثا وأربعا وهي تنتهي إلى أكثر من سبع قال فيهن ((لم يؤتهن أحد قبلي بعثت إلى الأحمر والأسود ونصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت أمتي خير الأمم وأحلت لي الغنائم لم تحل لأحد قبلي وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأتيت الشفاعة وبعثت بجوامع الكلم وبينا أنا نائم أوتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت بين يدي وزويت (3) لي مشارق الأرض ومغاربها وأعطيت الكوثر وهو خير كثير وعذب ولي حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد نجوم السماء من شرب منه لم يظمأ بعدها أبدا وختم بي النبيون)) (4)
فهذه كلها فضائل خص بها رسول الله صلى الله عليه وسلم منها قوله ((جعلت لي الأرض مسجدا وتربتها طهورا))
وهذه الخصال رواية جماعة من الصحابة وبعضهم يذكر ما لم يذكره غيره وهي صحاح ورويت في آثار شتى
95

فلذلك قلنا إن قوله صلى الله عليه وسلم ((جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا)) ناسخ للصلاة في ذلك الوادي وغيره وفي كل موضع من الأرض طاهر
وقد ذكرنا في ((التمهيد)) اختلاف الفقهاء في الصلاة في المقبرة والحمام وأتينا بالحجة من طريق الآثار والاعتبار على من قال إنها مقبرة المشركين في باب ((مرسل زيد بن أسلم)) من ((التمهيد)) والحمد لله
ولما لم يجز أن يقال في نهيه عن الصلاة في المزبلة والمجزرة والمقبرة والحمام ومحجة الطريق ومعاطن الإبل (1) مزبلة كذا ولا مجزرة كذا ولا حمام كذا فكذلك لا
يجوز أن يقال مقبرة كذا ولا أن يقال مقبرة المشركين فلا حجة ولا دليل
وأقام الدليل على أن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بناه في مقبرة المشركين
وقد أوضحنا هذا الحديث بما فيه كفاية في باب ((مرسل زيد بن أسلم)) من ((التمهيد))
وأما قوله في مرسل حديث زيد هنا ((ثم أمر بلالا أن يؤذن أو يقيم)) فهكذا رواه مالك على الشك
وقد مضى ما للعلماء من التنازع والأقوال في الأذان للفوائت من الصلوات في الحديث قبل هذا
ومضى المعنى في النفس والروح فلا معنى لإعادة ذلك هنا
وأما قوله ((فإذا رقد أحدكم عن الصلاة أو نسيها ثم فزع إليها فليصلها إذا ذكرها كما كان يصليها في وقتها)) فقد مضى ما لمالك وأصحابه والكوفيين في تأويل ذلك
وتقدم أيضا قولهم في استنباطهم من قوله عليه السلام ((فليصلها إذا ذكرها)) وجوب ترتيب الصلوات الفوائت إذا كانت صلاة يوم وليلة
وقول الشافعي ومن تابعة في إسقاط وجوب الترتيب في ذلك وتأويل الحديث عندهم وما ذهب إليه كل فريق منهم ووجوه أقوالهم وتلخيص مذاهبهم كل هذا في هذا الباب مجود والحمد لله فلا معنى لإعادة شيء من ذلك هنا والله الموفق للصواب
96

((7 - باب النهي عن الصلاة بالهاجرة (1)))
25 - مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((إن شدة الحر من فيح جهنم (2) فإذا اشتد الحر فأبردوا (3) عن الصلاة)) (4)
وقال ((اشتكت النار إلى ربها فقالت يا رب أكل بعضي بعضا فأذن لها بنفسين (5) في كل عام نفس في الشتاء ونفس في الصيف
قال أبو عمر قد أسند مالك هذا الحديث بتمام معناه في الموطأ برواية له عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان عن أبي سلمة وعن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه ألفاظ حديث زيد هذا كله ومعانيه (6) وأسنده أيضا مختصرا عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم (7)
وقد ذكرنا في ((التمهيد)) من رواه من التابعين عن أبي هريرة ومن رواه مع أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة
وهو حديث عند أهل السنة والعلم بالحديث صحيح لا مقال فيه لأحد
وأما قوله ((إن شدة الحر من فيح جهنم)) فالفيح سطوع الحر في شدة القيظ كذلك قال صاحب العين وغيره من أهل العلم بلسان العرب
وأما إضافة ذلك إلى جهنم - أعاذنا الله منها - فمجاز لا حقيقة كما تقول العرب في الشمس إذا اشتد حرها هذه نار تريد كالنار
97

وكذلك يقال فلان نار يريد أنه يفعل كفعل النار مجازا واستعارة
ومعلوم أن نار جهنم تفضل نار بني آدم سبعين جزءا أو تسعة وستين جزءا
وفي هذا ما يوضح لك أن ذلك مجاز أو لغة معروفة في لسان العرب ومن قال قولهم ومنه أحرق الحزن قلبي وأحرق فلان فؤادي بقوله كذا ومن هذا المعنى قيل الحر من فيح جهنم والله أعلم
وأما قوله ((فإذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة)) فمعنى الإبراد بها تأخيرها عن أول وقتها حتى يزول سموم الهاجرة لأن الوقت فيه سعة - والحمد لله - على ما مضى في كتابنا هذا واضحا
واختلف العلماء في شيء من هذا المعنى فذكر إسماعيل بن إسحاق وأبو الفرج عمرو بن محمد أن مذهب مالك في الظهر وحدها أن يبرد بها وتؤخر في شدة الحر وسائر الصلوات تصلى في أوائل أوقاتها
قال أبو الفرج أختار لك لجميع الصلوات أول أوقاتها إلا الظهر في شدة الحر لقوله - عليه الصلاة والسلام - ((إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة))
وأما بن القاسم فحكى عن مالك أن الظهر تصلى إذا فاء الفيء ذراعا في الشتاء والصيف للجماعة والمنفرد على ما كتب به عمر إلى عماله
وقال بن عبد الحكم وغيره من أصحابنا إن معنى كتاب عمر مساجد الجماعات وأما المنفرد فأول الوقت أولى به وهو في سعة من الوقت كله
وإلى هذا مال فقهاء المالكيين من البغداديين ولم يلتفتوا إلى رواية بن القاسم
وقد مضى في الأوقات ما يكفي في صدر هذا الكتاب والحمد لله
وقال الليث بن سعد يصلى الصلوات كلها الظهر وغيرها في أول الوقت في الشتاء والصيف وهو أفضل
وكذلك قال الشافعي إلا أنه استثنى فقال إلا أن يكون إمام جماعة ينتاب (1) من المواضع البعيدة فإنه يبرد بالظهر
وقد روي عنه أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإبراد كان بالمدينة لشدة حر الحجارة ولأنه لم يكن بالمدينة مسجد غير مسجده فكان ينتاب من بعد فيتأذون بشدة الحر فأمرهم بالإبراد لما في الوقت من السعة
وقال العراقيون تصلى الظهر في الشتاء والصيف في أول الوقت واستثنى أبو
98

حنيفة شدة الحر فقال يؤخر في ذلك حتى يبرد والاختلاف في هذا متقارب جدا وقال الأثرم قلت لأحمد بن حنبل أي الأوقات أعجب إليك في الصلوات كلها قال أولها إلا في صلاتين في العشاء الآخرة والظهر في شدة الحر قال وأما في الشتاء فيعجل بها
قال أبو عمر أما الأحاديث عن عمر في كتابه إلى عماله ففيها إذا زاغت الشمس وفيها إذا فاء الفيء ذراعا وقد مضى القول فيها في موضعها من صدر هذا الكتاب
وقد احتج من لم ير الإبراد بالظهر بحديث خباب بن الأرت قال شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء (1) فلم يشكنا (2) يقول فلم يعذرنا وقد ذكرنا هذا الحديث بإسناده وعلته في التمهيد
وتأول من رأى الإبراد في قول خباب هذا فلم يشكنا ولم يحوجنا إلى الشكوى لأنه رخص لنا في الإبراد
وذكر أبو الفرج أن أحمد بن يحيى ثعلب فسر قوله فلم يشكنا على هذا المعنى
حدثنا محمد بن إبراهيم (بن سعيد) حدثنا محمد بن معاوية حدثنا أحمد بن شعيب حدثنا عبيد الله بن سعيد حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم أخبرنا خالد بن دينار أبو خلدة قال سمعت أنس بن مالك قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان الحر أبرد وإذا كان البرد عجل (3)
حدثنا عبد الله بن محمد (بن عبد المؤمن) قال حدثنا محمد بن بكر (بن عبد الرزاق) حدثنا أبو داود قال حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا عبيدة بن حميد عن أبي مالك الأشجعي عن كثير بن مدرك عن الأسود بن يزيد أن عبد الله بن مسعود قال كان قدر صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر في الصيف ثلاثة أقدام إلى خمسة وفي الشتاء خمسة أقدام إلى سبعة (4)
وحدثنا عبد الله بن محمد حدثنا حمزة بن محمد حدثنا أحمد بن شعيب قال حدثنا أبو عبد الرحمن الأذرمي قال حدثنا عبيدة بن حميد فذكره بإسناده
99

وهذا كله يدل على سعة الوقت والحمد لله
وقد تقدم قول القاسم بن محمد ما أدركت الناس إلا وهم يصلون الظهر بعشي
وذكرنا هناك قول عمر لأبي محذورة - وهو معه بمكة إنك في بلدة حارة فأبرد ثم أبرد ثم أبرد
وقال مالك إن أهل الأهواء لا يبردون يعني الخوارج
وأما قوله اشتكت النار إلى ربها فقالت يا رب أكل بعضي بعضا فإن أهل العلم اختلفوا في ذلك فحمله بعضهم على الحقيقة وحمله منهم جماعة على المجاز
فالذين حملوه على الحقيقة قالوا أنطقها الله الذي أنطق كل شيء وفهم عنها كما فهم عن الأيدي والأرجل والجلود وأخبر عن شهادتها ونطقها (1) وعن النمل بقولها (2) وعن الجبال بتسبيحها
واحتجوا بقوله تعالى " يا جبال أوبي معه سبأ 10] أي سبحي معه
وبقوله " يسبحن بالعشي والإشراق " [ص 18]
وبقوله " وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم " [الإسراء 44]
وبقوله " وتقول هل من مزيد " [ق 30]
وبقوله " سمعوا لها تغيظا وزفيرا " [الفرقان 12]
وبقوله " قالتا أتينا طائعين " [فصلت 11]
فلما كان مثل هذا - وهو في القرآن كثير - حملوا بكاء السماء والأرض (3 " وانفطار السماء وانشقاق الأرض (4) وهبوط الحجارة من خشية الله (5) كل ذلك وما كان مثله على الحقيقة وكذلك إرادة الجدار الانقضاض
واحتجوا على صحة ما ذهبوا إليه من الحقيقة في ذلك بقوله تعالى * (يقص الحق) * [الأنعام
100

وبقوله * (والحق أقول) * [ص 84]
وأما الذين حملوا ذلك كله وما كان مثله على المجاز قالوا أما قوله * (سمعوا لها تغيظا وزفيرا) * * (تكاد تميز من الغيظ) * فهذا تعظيم من الله تعالى لشأنها
قالوا وقول النبي - عليه السلام - ((اشتكت النار إلى ربها)) من باب قول عنتزة
(وشكا إلي بعبرة وتحمحم (1
*)
وقول الآخر
(شكا إلي جملي طول السرى
* صبرا جميلا فكلانا مبتلى (2))
وكقول الحارثي
(يريد الرمح صدر أبي براء
* ويرغب عن دماء بني عقيل (3))
وقال غيره
(رب قوم غبروا (4) من عيشهم
* في نعيم وسرور وغدق)
(سكت الدهر زمانا عنهم
* ثم أبكاهم دما حين نطق)
وقال غيره
(وعظتك أجداث صمت
* ونعتك أزمنة جفت (5))
(وتكلمت عن أوجه
* تبلى وعن صور سبت)
(وأرتك قبرك في القبور
* وأنت حي لم تمت)
وهذا كثير في أشعارهم وقد ذكرنا كثيرا منها في التمهيد وقالوا هذا كله على المجاز والتمثيل والمعنى في ذلك أنها لو كانت ممن تنطق لكان نطقها هذا وفعلها
وذكروا قول حسان بن ثابت حيث يقول
(لو أن اللوم ينسب كان عبدا
* قبيح الوجه أعور من ثقيف (6))
وسئل أبو العباس أحمد بن يزيد النحوي عن قول الملك " إن هذا أخي له تسع
101

وتسعون نعجة ولى نعجة واحدة) [ص 23] وهم الملائكة لا أزواج لهم فقال نحن طول النهار نفعل هذا فنقول ضرب زيد عمرا وإنما هذا تقدير كأن المعنى إذا وقع هذا فكيف الحكم فيه
وذكروا قول عدي بن زيد العبادي للنعمان بن المنذر أتدري ما تقول هذه الشجرة أيها الملك قال وما تقول قال تقول
(رب ركب قد أناخوا حولنا
* يشربون الخمر بالماء الزلال (1))
(ثم أضحوا لعب الدهر بهم
* وكذاك الدهر حال بعد حال)
وأحسن ما قيل في معنى هذا الحديث ما ورد عن الحسن البصري
قال أبو عمر القول الأول يعضده عموم الخطاب وظاهر الكتاب وهو أولى بالصواب والله أعلم
وأحسن ما قيل في هذا المعنى ما فسره الحسن البصري قال اشتكت النار إلى ربها فقالت يا رب أكل بعضي بعضا فخفف عني قال فخفف عنها وجعل لها كل عام نفسين فما كان من برد يهلك شيئا فهو من زمهريرها وما كان من سموم يهلك شيئا فهو من حرها
فقوله من زمهرير [يهلك شيئا وحر يهلك شيئا] يفسر ما أشكل من ذلك لكل ذي فهم
ومعلوم أن نفسها في الشتاء غير الشتاء ونفسها في الصيف غير الصيف لقوله نفس في الشتاء ونفس في الصيف
وقول الحسن من زمهريرها وحرها موجود في الأحاديث المسندة الصحاح
حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا عبد الله بن إدريس عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتكت النار إلى ربها فقالت يا رب أكل بعضي بعضا فجعل لها نفسا في الشتاء ونفسا في الصيف فشدة ما تجدون من البرد من زمهريرها وشدة ما تجدون في الصيف من الحر من سمومها
والشدة والشدائد هو معنى قول الحسن والله أعلم
102

وفي هذا الحديث دليل على أن الجنة والنار مخلوقتان بعد وهو قول جماعة أهل السنة أهل الفقه والحديث
وحجتهم من الآثار في ذلك حديث أنس عن النبي - عليه السلام - أنه قال لجبريل - عليه السلام - ((لم أر ميكائيل ضاحكا قط فقال ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار))
وقد ذكرناه بإسناده في التمهيد وحديث أبي هريرة عن النبي - عليه السلام - قال ((لما خلق الله الجنة دعا جبريل فأرسله إليها فقال انظر إلى الجنة وإلى ما أعددت لأهلها)) الحديث بطوله ذكرناه بإسناده وتمامه في التمهيد وأحاديث سواه في معناه والحمد لله
قال أبو عمر هذا آخر ما عمله مالك - رحمه الله - في الأوقات وقدم باب الوقوت على باب العمل في الوضوء ليدل على أن أول فرض الصلاة دخول وقتها وأن الوضوء لا يلزم لها إلا بعد دخول وقتها ولكنه مباح عمله قبل
وسقط ليحيى بن يحيى باب النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر من موضعه الذي هو فيه في الموطأ عند جماعة رواته وهو عندهم قبل هذا الباب وبعد باب النوم عن الصلاة فلما سقط له ها هنا استدركه فوضعه في آخر كتاب الصلاة بعد باب العمل في الدعاء وليس له هناك مدخل فرأينا أن نضعه في كتابنا هذا هنا لما ذكرناه وبالله توفيقنا
((8 - باب النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر))
هكذا ترجمه هذا الباب في الموطأ عند جماعة الرواة وكانت حقيقته أن يقال فيه باب النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها ثم يذكر النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر
26 - مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله الصنابحي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((إن الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان فإذا ارتفعت فارقها ثم إذا استوت قارنها فإذا زالت فارقها فإذا دنت للغروب قارنها فإذا غربت فارقها))
ونهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في تلك الساعات
103

تابع يحيى على قوله في هذا الحديث عن عبد الله الصنابحي جمهور الرواة منهم القعنبي وغيره
قال فيه مطرف عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي عبد الله الصنابحي وتابعه إسحاق بن عيسى الطباع وطائفة وهو الصواب
وهو أبو عبد الله الصنابحي واسمه عبد الرحمن بن عسيلة وقد ذكرنا في التمهيد خبره وأنه من كبار التابعين لا صحبة له
وروينا عنه أنه قال لم يكن بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خمس ليال توفي وأنا بالجحفة فقدمت وأصحابه متوافدون
وعن بن وهب عن عمرو بن الحارث عن يزيد بن أبي حبيب عن الحسن عن الصنابحي قال خرجنا من اليمن مهاجرين فقدمنا الجحفة فأقبل راكب فقلت الخبر فقال دفنا رسول الله منذ خمس ليال
واضطرب بن معين في حديث الصنابحي هذا فمرة قال يشبه أن تكون له صحبة ومرة قال أحاديثه مرسلة ليس له صحبة وهذا هو الصحيح وقد أوضحنا هذا المعنى عند ذكر هذا الحديث
وأحاديث الصنابحي التي في الموطأ مشهورة جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق شتى من حديث أهل الشام وممن رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن عبسة وأبو أمامة الباهلي وعقبة بن عامر ومرة بن كعب البهزي وقد ذكرناها بطرقها في ((التمهيد))
وأما قوله عليه السلام ((إن الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان)) وفي بعض الروايات ((تطلع بين قرني الشيطان)) - وقد ذكرنا الآثار بذلك كله في التمهيد - فإن للعلماء في ذلك قولين
أحدهما أن ذلك اللفظ على الحقيقة فإنها تطلع وتغرب على قرن الشيطان وعلى رأس الشيطان وبين قرني شيطان على ظاهر الحديث حقيقة لا مجازا من غير تكييف لأنه لا يكيف ما لا يرى
وحجة من قال هذا القول - حديث عكرمة عن بن عباس أنه قال له ((أرأيت ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في أمية بن أبي الصلت آمن شعره وكفر قلبه قال هو حق فما أنكرتم من شعره قالوا أنكرنا قوله
(والشمس تطلع كل آخر ليلة
* حمراء يصبح لونها يتورد (1))
(ليست بطالعة لهم في رسلها
* إلا معذبة وإلا تجلد
104

فما بال الشمس تجلد فقال والذي نفسي بيده ما طلعت الشمس قط حتى ينخسها سبعون ألف ملك فيقولون لها اطلعي اطلعي [فتقول] لا أطلع على قوم يعبدونني من دون الله فيأتيها ملك عن الله يأمرها بالطلوع فتشتعل لضياء بني آدم فيأتيها شيطان يريد أن يصدها عن الطلوع فتطلع بين قرنيه فيحرقه الله عنها وما غربت الشمس قط إلا خرت ساجدة فيأتيها شيطان يريد أن يصدها عن السجود فتغرب بين عينيه فيحرقه الله تحتها
وذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ما طلعت إلا بين قرني شيطان ولا غربت إلا بين قرني شيطان))
وقد ذكرنا إسناد حديث عكرمة هذا في ((التمهيد))
وقال آخرون معنى هذا الحديث عندنا على المجاز واتساع الكلام وأنه أريد بقرن الشيطان هنا أمة تعبد الشمس وتسجد لها وتصلي في حين غروبها وطلوعها تقصد بذلك
الشمس من دون الله
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره التشبه بالكفار في شيء من أمورهم ويحب مخالفتهم فنهى عن الصلاة في هذه الأوقات لذلك
وهذا التأويل جائز في لغة العرب معروف في لسانها لأن الأمة تسمى عندهم قرنا والأمم قرونا
قال الله تعالى * (وكم أهلكنا قبلهم من قرن) * [مريم 74]
* (وقرونا بين ذلك كثيرا) * [الفرقان 38]
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((خير الناس قرني)) (1)
وجائز أن يضاف القرن إلى الشيطان لطاعتهم له
وقد سمى الله الكفار حزب الشيطان
ومن حجة من تأول هذا التأويل في هذا الحديث من طريق الآثار حديث عمرو بن عبسة السلمي وقد ذكرناه من طرق كثيرة في التمهيد وفيه ((فإذا طلعت الشمس فأقصر عن الصلاة فإنها تطلع على قرن الشيطان ويصلي لها الكفار
105

وبعضهم يقول فيه ((وحينئذ يسجد لها الكفار))
وبعضهم يقول فيه ((وهي ساعة صلاة الكفار)) وفيه ((فإذا اعتدل النهار فأقصر فإنها ساعة تسجر فيها جهنم)) (1)
وحديث أبي أمامه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث عمرو بن عبسة وكلها بأحسن سياقة في ((التمهيد))
وأجمع العلماء على أن نهية - عليه السلام - عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها صحيح غير منسوخ وأنه لم يعارضه شيء إلا اختلفوا في تأويله ومعناه
فقال علماء الحجاز مالك والشافعي وغيرهما معناه المنع من صلاة النافلة دون الفريضة ودون الصلاة على الجنازة وهذه جملة قولهم
وقال أهل العراق والكوفيون وغيرهم كل صلاة نافلة أو فريضة أو على جنازة فلا تصلي عند طلوع الشمس ولا عند غروبها ولا عند استوائها لأن الحديث لم يخص نافلة من فريضة إلا عصر يومه لقوله - عليه السلام ((من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر)) (2)
ولهم حجج قد ذكرناها في صدر هذا الكتاب وقد مضى الرد عليهم فيما ذهبوا إليه من ذلك فيما تقدم من هذا الكتاب
وقد ردوا ظاهر الحديث إذ قالوا ببعضه ودفعوا بتأويلهم بعضه لأن الحديث جمع الصبح والعصر وهم قالوا عصر يومه دون صبح يومه وزعموا أن مدرك ركعة من العصر يخرج إلى وقت تباح فيه الصلاة وهو بعد المغرب ومدرك ركعة من الصبح يخرج من الثانية إلى الوقت المنهي عنه وهو الطلوع
وهذا الحكم لا برهان لصاحبه فيه ولا حجة له فيه لأن من ذكرنا قد صلى ركعة من العصر والمغرب وفي قوله - عليه السلام - ((من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها)) (3) مع قوله - عليه السلام ((من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر)) (4) أوضح دليل على أن نهيه عليه السلام كان عن الصلاة عند الطلوع وعند الغروب لم يقصد به إلى الفريضة وإنما قصد به إلى ما عدا الفرائض من الصلوات
106

وعلى هذا التأويل تكون الأحاديث مستعملة كلها في هذا الباب فلا يرد بعضها ببعض لأن علينا في الكل الاستعمال ما وجدنا إلى ذلك سبيلا ولا يقطع بنسخ شيء من القرآن إلا بدليل لا معارض له أو إجماع
وأما اختلاف العلماء في الصلاة عند الاستواء فإن مالكا وأصحابه لا بأس بالصلاة عندهم نصف النهار إذا استوت الشمس في وسط السماء لا في يوم جمعة ولا غيره ولا أعرف هذا النهي وما أدركت أهل الفضل إلا وهم يسجدون ويصلون نصف النهار
وهذا ما حكى عنه بن القاسم وغيره أنه لم يعرف النهي في ذلك وفي موطئه الذي قرئ عليه إلى أن مات - النهي عن الصلاة إذا استوت الشمس في حديث الصنابحي لقوله فيه ((فإذا استوت قارنها)) ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في تلك الساعات
وقد روي عن مالك أنه قال لا أكره التطوع نصف النهار ولا أحبه ويدل قوله هذا على أنه لم يصح عنده حديث زيد بن أسلم هذا عن عطاء بن يسار عن الصنابحي في ذلك والله أعلم
وما أدري ما هذا وهو يوجب العمل بمراسيل الثقات ورجال هذا الحديث ثقات وأحسبه مال في ذلك إلى حديثه عن بن شهاب عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي ((أنهم كانوا في زمن عمر بن الخطاب يصلون يوم الجمعة حتى يخرج عمر بن الخطاب)) ومعلوم أن خروج عمر كان بعد الزوال بدليل حديث طنفسة عقيل وقد مضى ذلك في صدر الكتاب
فإذا كان خروج عمر بعد الزوال وكانت صلاتهم إلى خروجه فقد كانوا يصلون وقت استواء الشمس وإلى هذا ذهب مالك لأنه عمل معمول به في المدينة لا ينكره منكر
ومثل هذا العمل عنده أقوى من خبر الواحد فلذلك صار إليه وعول عليه
ويوم الجمعة وغير الجمعة عنده سواء لأن الفرق بينهما لم يصح عنده في أثر ولا نظر
وممن رخص أيضا في الصلاة نصف النهار الحسن البصري وطاوس ورواية عن الأوزاعي وقد روي عن طاوس تخصيص يوم الجمعة
وقال أبو يوسف والشافعي وأصحابه لا بأس بالتطوع نصف النهار يوم الجمعة خاصة وهي أيضا رواية عن الأوزاعي وأهل الشام
وحجة الشافعي ومن قال بقوله ما رواه الشافعي عن إبراهيم بن محمد عن إسحاق بن عبد الله عن سعيد بن سعيد المقبري عن أبي هريرة ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
107

نهى عن الصلاة نصف النهار إلى أن تزول الشمس إلا يوم الجمعة))
قال أبو عمر إبراهيم بن محمد هذا هو بن أبي يحيى وإسحاق هذا هو بن أبي فروة وهما متروكان ليس فيما ينقلانه ويرويانه حجة
ولكن الشافعي احتج مع حديث بن أبي يحيى بحديث مالك عن بن شهاب عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي المذكور وقال النهي عن الصلاة عند استواء الشمس صحيح إلا أنه خص منه يوم الجمعة بما روي من العمل المستفيض في المدينة في زمان عمر وغيره من الصلاة يوم الجمعة حتى يخرج عمر وبما رواه بن أبي يحيى وغيره مما يعضده العمل المذكور قال والعمل في مثل ذلك لا يكون إلا توقيفا وإن كان حديث بن أبي يحيى ضعيفا فإنه تقويه صحة العمل به
قال أبو عمر قد روى إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن السائب بن يزيد قال كان عمر إذا خرج - يعني يوم الجمعة - ترك الناس الصلاة وجلسوا
ومعلوم أن خروج عمر إنما كان بعد الزوال لأنه بخروج الإمام يندفع الأذان
وكذلك في حديث بن شهاب عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي ((وأذن المؤذنون))
وقد روى مجاهد عن أبي الخليل عن أبي قتادة قال ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة تكره نصف النهار إلا يوم الجمعة فإن جهنم تسجر إلا يوم الجمعة)) (1)
ومنهم من أوقفه على أبي قتادة ومثله لا يكون رأيا
وقد ذكرنا هذين الحديثين بإسنادهما في ((التمهيد))
وروى سفيان بن عيينة عن بن طاوس عن أبيه قال يوم الجمعة صلاة كله
وكان عطاء بن أبي رباح يكره الصلاة نصف النهار في الصيف ولا يكره ذلك في الشتاء
وقال بن سيرين تكره الصلاة في ثلاث ساعات وتحرم في ساعتين تكره بعد العصر وبعد الصبح ونصف النهار في شدة الحر وتحرم حين تطلع الشمس حتى يستوي طلوعها وحين تصفر حتى يستوي غروبها
وذكره عبد الرزاق عن هشام بن حسان عن بن سيرين وعن بن جريج عن عطاء
وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن والثوري والحسن بن حي وعبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل لا يجوز التطوع نصف النهار في شتاء ولا صيف لحديث الصنابحي وحديث عمرو بن عبسة ومن ذكرنا معهما في ذلك
108

ولا يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه أن تصلي فريضة فائتة ولا نافلة ولا صلاة سنة ولا على جنازة لا عند طلوع الشمس ولا عند غروبها ولا عند استوائها إلا ما ذكرنا عنهم في عصر يومه من أجل حديث الصنابحي وما كان مثله
وقد مضى في هذا الباب وغيره من هذا الكتاب في ذلك ما يغني عن رده ها هنا
ولا خلاف عن مالك وأصحابه أن الصلاة على الجنائز ودفنها نصف النهار جائز
وذكر بن القاسم عن مالك قال لا بأس على الصلاة على الجنائز بعد العصر ما لم تصفر الشمس فإذا اصفرت لم يصل على الجنائز إلا أن يخاف عليها فيصلى عليها حينئذ
قال ولا بأس بالصلاة على الجنازة بعد الصبح ما لم يسفر فإذا أسفر فلا تصلوا عليها إلا أن تخافوا عليها
وذكر بن عبد الحكم عن مالك أن الصلاة على الجنائز جائزة في ساعات الليل والنهار وعند طلوع الشمس وغروبها واستوائها
وقال الثوري لا يصلى على الجنازة إلا في مواقيت الصلاة وتكره الصلاة عليها نصف النهار وبعد العصر حتى تغيب الشمس وبعد الصبح حتى تطلع الشمس
وقال الليث بن سعد لا يصلى على الجنازة في الساعات التي تكره فيها الصلاة
وقال الأوزاعي يصلى عليها ما دام في ميقات العصر فإذا ذهب عنهم ميقات العصر لم يصلوا عليها حتى تغرب الشمس
وقال الشافعي يصلى على الجنائز في كل وقت والنهي عن الصلاة في تلك الساعات إنما هو عن النوافل المبتدأة والتطوع وأما عن صلاة فريضة أو سنة فلا لحديث قيس في ركعتي الفجر وحديث أم سلمة في قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعتين اللتين تصليان بعد الظهر - بعد العصر
27 - مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ((إذا بدا حاجب الشمس (1) فأخروا الصلاة حتى تبرز وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغيب
109

هذا الحديث مرسل في الموطأ عند جماعة رواته
وقد ذكرنا في ((التمهيد)) من رواه عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في غير الموطأ فأخطأ فيه ولم يتابع عليه
والحديث صحيح لهشام بن عروة عن أبيه عن بن عمر لا عن عائشة
حدثنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال حدثنا عمرو بن علي قال حدثنا يحيى بن سعيد قال حدثنا هشام بن عروة قال أخبرني أبي قال أخبرني بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إذا طلع حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تشرق وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغرب)) (1)
قال أبو عمر الكلام في الحديث الذي قبل هذا يغني عن الكلام في هذا لأن المعنى فيهما سواء
الحجازيون على ما ذكرنا من تلخيص مذاهبهم والكوفيون على أصلهم المذكور عنهم
28 - مالك عن العلاء بن عبد الرحمن قال دخلنا على أنس بن مالك بعد الظهر فقام يصلي العصر فلما فرغ من صلاته ذكرنا تعجيل الصلاة أو ذكرها فقال سمت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ((تلك صلاة المنافقين تلك صلاة المنافقين تلك صلاة المنافقين يجلس أحدهم حتى إذا اصفرت الشمس وكانت بين قرني الشيطان أو على قرن الشيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قيلا))
هذا الحديث يدل على أن الناس كانوا يتوسعون فيما وسع الله عليهم من سعة الوقت فقوم يصلون في أول الوقت وقوم يصلون في وسطه وقوم في آخره
وقد مضى في صدر هذا الكتاب أن آخر وقت الظهر عند طائفة العلماء منهم مالك وغيره هو أول وقت العصر بلا فصل وأن من أهل العلم من يجعل بينهما فصلا وإن قل منهم الشافعي
وفي هذا الحديث دليل على استحباب أنس بن مالك تعجيل العصر وتفضيل أول الوقت فيها
110

وأما قوله في صلاة المنافقين إنها كانت عند اصفرار الشمس فذلك ذم منه لمن آخر صلاته ذاكر إلى ذلك الوقت وتحذير من التشبه بأفعال المنافقين الذين كانوا لا يأتون الصلاة إلا كسالى
وقد كان من أمراء بني أمية من لا يصلي إلا ذلك الوقت وبعده ولذلك قال حذيفة بن اليمان - رحمه الله - قال كان المنافقون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرون النفاق وأنتم تجهرون به
وفي حديث أنس هذا دليل على أن قوله - عليه السلام ((من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر)) إنما ذلك لأصحاب الضرورات كما قال مالك ومن تابعه لا لأن لأحد أن يتعمد فيضع صلاته ذلك الوقت
وقد مضى في أول هذا الكتاب في هذا المعنى ما يغني عن إعادته ها هنا
وما أعلم حديثا أبين من الرد على إسحاق وداود في قولهما في حديث أبي هريرة عن النبي عليه السلام ((من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر)) الحديث إن ذلك لكل أحد من أصحاب الضرورات وغيرهم - من حديث أنس هذا من رواية يعلى بن عبد الرحمن وقد ذكرناه من طرق في ((التمهيد)) بألفاظ مختلفة ومعنى واحد وفيها عن العلاء أن الذي صلى معه الظهر يومئذ خالد بن عبد الله بن أسيد القشيري بالبصرة ثم دخل بأثر ذلك على أنس بن مالك فوجده يصلي العصر
وقد حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا إبراهيم بن حمزة قال حدثنا عبد العزيز بن محمد عن عمرو بن يحيى المازني عن خالد بن خلاد قال صلينا مع عمر بن عبد العزيز الظهر يوما ثم دخلنا على أنس بن مالك فوجدناه [قائما يصلي العصر فقلنا إنما انصرفنا الآن من الظهر مع عمر فقال إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم] يصلي هذه الصلاة هكذا فلا أتركها أبدا
29 - مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((لا يتحر أحدكم فيصلي عند طلوع الشمس ولا عند غروبها))
قال أبو عمر يحتمل قوله ((لا يتحر أحدكم)) وجهين
111

أحدهما ألا يترك أحد صلاته ذاكرا لها إلى حين طلوع الشمس أو غروبها وهذا عمل الفرائض
والثاني أن يكون المقصود بذلك إلى التطوع
وليس يقال لمن نام فلم ينتبه أو نسي فلم يذكر إلا في ذلك الوقت أنه تحراه وقصده والنهي إنما توجه في هذا الحديث إلى من تحرى ذلك وليس النائم والناسي بمتحر لذلك فلا حجة على مالك والشافعي في هذا الحديث لإجازتهم للنائم والناسي أن يصليا فرضهما في ذلك الوقت كما زعم الكوفيون
ولا خلاف بين المسلمين أن صلاة التطوع كلها غير جائز أن يصلى شيء منها عند طلوع الشمس ولا عند غروبها وإنما اختلفوا في الصلوات المكتوبات والمفروضات على الكفاية والمسنونات
وقد مضى في ذلك كله ما يكفي والحمد لله
30 - مالك عن محمد بن يحيى بن حبان عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس
قال أبو عمر روي عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس وعن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس من حديث عمر بن الخطاب وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وسعد بن أبي وقاص ومعاذ بن عفراء وغيرهم وهي أحاديث صحاح لا مدفع فيها إلا أن العلماء اختلفوا في تأويلها وفي
خصوصها وعمومها واختلف العلماء في هذا الباب اختلافا كثيرا لاختلاف الآثار فيه
فقال منهم قائلون لا بأس بالتطوع بعد الصبح وبعد العصر لأن النهي إنما قصد به إلى ترك الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها وذكروا مثل حديث الصنابحي وشبهه
قالوا فالنهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر هذا معناه لإجماع المسلمين على الصلاة على الجنائز بعد الصبح وبعد العصر إذا لم يكن عند طلوع الشمس ولا عند غروبها
112

قالوا وإنما خرج النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر على قطع الذريعة لأنه لو أبيحت الصلاة النافلة بعد الصبح وبعد العصر لم يؤمن التمادي فيها إلى حين طلوع الشمس وغروبها
هذا مذهب عبد الله بن عمر وقال به جماعة
ذكر عبد الرزاق عن بن جريج عن نافع أنه سمع بن عمر يقول أما أنا فلا أنهى أحدا يصلي من ليل أو نهار أي ساعة شاء غير ألا يتحرى طلوع الشمس ولا غروبها
وهو قول عطاء وطاوس وعمرو بن دينار وبن جريج
وروي عن بن مسعود نحوه
ومذهب عائشة في ذلك كمذهب بن عمر
وروى بن وهب عن بن طاوس عن أبيه عن عائشة قالت أوهم بن عمر إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة أن يتحرى بها طلوع الشمس وغروبها
أخبرنا عبد الله بن أسد وعبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا إبراهيم بن جامع قال حدثنا علي بن عبد العزيز قال حدثنا عفان بن مسلم ومحمد بن أبي نعيم قال حدثنا بن وهب عن خالد فذكره
ومن حجة من قال بهذا القول حديث علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((لا تصلوا بعد العصر إلا أن تكون الشمس بيضاء نقية)) (1)
وقد ذكرناه بإسناده في التمهيد
وهو مذهب زيد بن خالد الجهني أيضا لأنه رآه عمر بن الخطاب يركع بعد العصر ركعتين فمشى إليه وضربه بالدرة فقال له يا أمير المؤمنين اضرب فوالله لا أدعهما بعد أن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليهما فقال له عمر يا زيد لولا أني أخشى أن يتخذهما الناس سلما إلى الصلاة حتى الليل لم أضرب فيهما
وقد ذكرنا هذا الخبر وسائر أخبار هذا الباب في ((التمهيد))
وقد قيل إن النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر إنما هو إعلام بألا يتطوع بعدهما ولم يقصد الوقت بالنهي كما قصد الشروق والغروب بالنهي عن الصلاة فيهما
ألا ترى أنه جائز لمن جاء المسجد بعد صلاة العصر وهو لم يصل العصر أن
113

يتطوع بركعتين وبأكثر قبل أن يصلي العصر ثم يصلي العصر والشمس بيضاء نقية ولا يجوز ذلك في تلك الساعة لمن قد صلى العصر والصبح
وقال آخرون أما الصلاة بعد الصبح إذا كانت نافلة أو سنة ولم تكن قضاء فرض فلا تجوز لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب الشمس نهيا مطلقا إلا أنه موقوف على كل ما عدا الفرض من الصلاة لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس أو من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك) يعني الوقت
وممن قال بهذا مالك بن أنس وأصحابه وإليه ذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه
قال أحمد وإسحاق لا يصلى بعد العصر إلا صلاة فائتة أو صلاة على جنازة
ومذهب مالك في ذلك هو مذهب عمر بن الخطاب وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة وهم رووا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس وعن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس وهم أعلم بما رووا
وحسبك بضرب عمر على ذلك بالدرة ولا يكون ذلك إلا عن بصيرة
وكذلك بن عباس روى الحديث في ذلك عن عمر عن النبي - عليه السلام - قال به علي ظاهره وعمومه
حدثنا عبد الوارث حدثنا قاسم حدثنا أحمد حدثنا عفان حدثنا همام حدثنا قتادة عن أبي العالية عن بن عباس قال حدثني رجال مرضيون منهم عمر - وأرضاهم عندي عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس)) (1)
وهذا الحديث هو أثبت الأحاديث رواه عن قتادة جماعة منهم شعبة وسعيد بن أبي عروبة وهشام الدستوائي وأبان العطار وهمام بن يحيى ومنصور بن زاذان ولم يختلفوا فيه وإليه ذهب بن عباس أنه سأله عن الركعتين بعد العصر فنهاه عنهما فقال لا أدعهما فقال بن عباس * (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) * [الأحزاب
114

وقال الشافعي إنما المعنى في نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر - التطوع المبتدأ أو النافلة وأما الصلوات المفروضات والمسنونات وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواظب عليه من النوافل فلا
واحتج أيضا بحديث قيس حدثني يحيى بن سعيد الأنصاري رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتي الفجر بعد السلام من الصبح فسكت عنه إذ أخبره أنهما ركعتا
الفجر
وقد روي من حديث هشام بن سعد مثل ذلك
واحتج أيضا بحديث أم سلمة وعائشة في الركعتين اللتين قضاهما رسول الله وأنه قال ((يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أي ساعة شاء من ليل أو نهار)) (1)
وأما أبو ثور فقال لا يصلي أحد تطوعا بعد الفجر إلى أن تطلع الشمس إلى أن تزول ولا بعد العصر إلى أن تغرب الشمس إلا صلاة فائتة من الفرائض أو صلاة على جنازة أو على أثر طواف أو صلاة لبعض الآيات أو ما يلزم من الصلوات
واحتج بكثير من آثار هذا الباب فيها حديث جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم ((يا بني عبد مناف)) الحديث
وقال آخرون أما التطوع بعد العصر فجائز لحديث عائشة ((ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين بعد العصر في بيتي قط)) (2)
وأما التطوع بعد الصبح فلا لأن الآثار غير ثابتة في ذلك
وحديث عائشة صحيح والأصل ألا يعمل من عمل البر إلا بدليل لا معارض له وقد تعارضت الآثار في الصلاة بعد العصر فواجب الرجوع إلى قوله * (وافعلوا الخير) * [الحج 77] والصلاة فعل خير فلا يمنع من فعلها إلا بما لا تعارض له هذا قول داود بن علي
وقال آخرون لا يصلى عند طلوع الشمس ولا بعد الصبح ولا بعد العصر ولا عند الغروب ولا عند الاستواء شيء من الصلوات كلها إلا عصر اليوم
فهذا قول أبي حنيفة وأصحابه على ما قدمنا عنهم
وقال مالك من طاف بالبيت بعد العصر أخر ركعتي الطواف حتى تغرب
115

الشمس وكذلك من طاف بعد الصبح لم يركعهما حتى تطلع الشمس
وقال أبو حنيفة يركعهما إلا عند طلوع الشمس وغروبها واستوائها
وبعض أصحاب مالك يرى الركوع للطواف بعد الصبح ولا يراه بعد العصر
وهذا لا وجه له في النظر ولا يصح به أثر
وحكم سجود التلاوة بعد الصبح والعصر عند الفقهاء كحكم الصلاة على أصولهم التي ذكرنا عنهم
وأما السلف من الصحابة والتابعين فروينا عن بن عباس وبن عمر وبن الزبير والحسن والحسين وعطاء وطاوس ومجاهد والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير أنهم كانوا يطوفون بعد العصر وبعضهم بعد الصبح أيضا ويصلون بإثر فراغهم من طوافهم ركعتين في ذلك الوقت
وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود
31 - مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب كان يقول لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها فإن الشيطان يطلع قرناه مع طلوع الشمس ويغربان مع غروبها
وكان يضرب الناس على تلك الصلاة
قد تقدم في الحديث المسند قبل هذا معنى لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها
وقد تقدم قبل ذلك معنى قرن الشيطان
ومعنى ضرب عمر على الصلاة بعد العصر وإذا كان يضربهم على الصلاة بعد العصر فأحرى أن يضربهم على الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها وقد بان مذهبه ومذهب ابنه في ذلك بما أوردناه قبل هذا والحمد لله
32 - مالك عن بن شهاب عن السائب بن يزيد أنه رأى عمر بن الخطاب يضرب المنكدر في الصلاة بعد العصر
116

في هذا الحديث ما كان عليه عمر من تفقده أمر من استرعاه الله أمره وكذلك يلزم الأئمة والسلاطين الاهتبال بأمر الدين والقيام بأمر المسلمين وصلاح دنياهم بما أباح الله لهم
روينا عن الحسن البصري أنه قال ما ورد علينا قط كتاب عمر بن عبد العزيز إلا بإحياء سنة أو إماتة بدعة أو ورد مظلمة فهؤلاء هم الأئمة الذين هم لله في الأرض حجة
((9 - باب النهي عن دخول المسجد بريح الثوم وتغطية الفم في الصلاة))
33 - مالك عن بن شهاب عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((من أكل من هذه الشجرة (1) فلا يقرب مساجدنا يؤذينا بريح الثوم))
قد ذكرنا هذا الحديث متصلا مسندا في ((التمهيد)) من طرق شتى
روى يحيى وجماعة ((مساجدنا)) وروت طائفة ((مسجدنا)) والمعنى واحد و (مساجدنا) أعم وإن كان الواحد من الجنس في معنى الجماعة و (مساجدنا) تفسير (مسجدنا)
وفي بعض الآثار المسندة ((فلا يقربنا ولا يصلين معنا)) وفي بعضها ((فلا يغشانا في مساجدنا ولا يأتينا يمسح جبهته))
وفي حديث جابر بن عبد الله عن النبي - عليه السلام - قال ((من أكل الثوم أو البصل أو الكراث فلا يقربنا في مساجدنا فإن الملائكة تتأذى بما يتأذى به الآدميون)) (2)
وفي بعض الموطآت مالك عن بن شهاب عن سليمان بن يسار قال ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأكل الثوم ولا الكراث ولا البصل من أجل أن الملائكة تأتيه ومن أجل أنه يكلم جبريل عليه السلام))
رواه في الموطأ عبد الله بن يوسف التنيسي عن مالك ورواه إسماعيل بن أبي أويس عنه
وفي هذا الحديث من الفقه إباحة الثوم لسائر الناس لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما
117

امتنع من أكل الثوم والبصل لعلة ليست موجودة في غيره فصار ذلك خصوصا
وفي حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم ((من أكله فلا يقرب هذا المسجد لأن قوله ((من أكل من هذه الشجرة)) دليل على إباحة أكلها لا على تحريمها كما زعم بعض أهل الظاهر الذين يوجبون إتيان الجماعة فرضا ويمنعون من أكل الثوم والبصل ومن أكله لا يدخل المسجد لصلاة
وفي ذلك دليل على أن شهود الجماعة ليس بفريضة [خلافا أيضا لأهل الظاهر الذين يوجبونها ويحرمون أكل الثوم من أجل شهودها))
وقد ذكرنا من أكل الثوم من السلف في ((التمهيد)) على حسب ما بلغنا
واختلف العلماء في معان من هذا الحديث
فقال بعضهم إنما خرج النهي على مسجد النبي عليه السلام - [من أجل جبريل ونزوله فيه على النبي صلى الله عليه وسلم
وقال الجمهور حكم مسجد النبي] وسائر المساجد سواء
قال أبو عمر وملائكة الوحي وغيرها سواء لأنه قد أخبر أنه يتأذى منه بنو آدم وقال يؤذينا بريح الثوم)) ولا يحل إذا لجليس ولا لمسلم حيث كان
وقد ذكرنا في ((التمهيد)) حديث عمر قال ((أيها الناس إنكم تأكلون من شجرتين خبيثتين البصل والثوم ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل أمر به فأخرج إلى البقيع))
ففي هذا الحديث أن الناس كانوا يأكلون الثوم والبصل وأنهم لم ينهوا عن أكلهما ولكنهم أبعدوا من المسجد من أجلهما
وفي حديث المغيرة بن شعبة وغيره ((فلا يقربنا حتى يذهب ريحهما)) وذلك كله إباحة لأكلهما وللتأخر عن المسجد من أجل ذلك
وفي حديث عمر أيضا ما يدل أن كل ما يتأذى به كالمجذوم وغيره يبعد عن المسجد
وقد شاهدت شيخنا أبا عمر الإشبيلي أحمد بن عبد الملك بن هاشم أفتى في رجل شكاه جيرانه وأثبتوا عليه أنه يؤذيهم في المسجد بلسانه ويده - بأن يخرج عن المسجد ويبعد عنه فقلت له وما هذا وقد كان في أدبه بالسوط ما يردعه فقال الاقتداء بحديث النبي - عليه السلام - أولى ونزع بحديث عمر المذكور
وروى بن وهب عن مالك أنه سئل عن آكل الثوم يوم الجمعة فقال بئس ما صنع حين آكل الثوم وهو ممن يجب عليه حضور الجمعة
118

وقال عنه بن القاسم الكراث كالثوم إذا وجد من ريحها ما يؤذيه
وفي كون الخضر بالمدينة وإجماع أهلها على أنه لا زكاة فيها دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأخذ منها الزكاة ولو أخذ منها الزكاة ما خفي عليهم فكانت الخضرة مما عفي عنه من الأموال كما عفي عن سائر العروض التي ليست للتجارة
وسيأتي هذا المعنى في هذا الكتاب عند قوله عليه السلام ((فيما سقت السماء العشر)) (1) إن شاء الله
34 - مالك عن عبد الرحمن بن المجبر أنه كان يرى سالم بن عبد الله إذا رأى الإنسان يغطي فاه وهو يصلي جبذ الثوب (2) عن فيه جبذا شديدا حتى ينزعه عن فيه
عبد الرحمن المجبر هو عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب وإنما قيل لابنه عبد الرحمن المجبر لأنه سقط فتكسر فجبر فقيل له المجبر
وقد قيل إنه كان يقال له المكسر فقالت حفصة بل هو المجبر
وقيل إنما قيل له المجبر لأن أباه توفي وهو في بطن أمه فسمته حفصة المجبر لعل الله يجبره
وقال فيه الزبير بن بكار المجبر وسائر الناس يقولون بتحريك الجيم وتشديد الباء
وكان بن معين يضعف عبد الرحمن المجبر هذا وليس قوله بشيء لأنه لا يحفظ له حديث منكر أتى به
وأما تغطية الفم والأنف في الصلاة فمكروه لمن أكل ثوما وإنما أصل الكراهية فيه لأنهم كانوا يتلثمون ويصلون على تلك الحال فنهوا عن ذلك
ذكر بن وهب قال أخبرني الوليد بن المغيرة أن وهب بن عبد الله المعاوي حدثه قال ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضعن أحدكم ثوبه على أنفه وهو في الصلاة فإن ذلك خطم (3) الشيطان
119

قال بن وهب وكره أن يغطي الإنسان أنفه في الصلاة
وقال بن عبد الحكم لا يغطي أنفه في الصلاة
وقال بن الجهم معنى ذلك ليباشر الأرض بأنفه عند سجوده كما يباشرها بجبهته
وكره التلتم في الصلاة عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وعكرمة وطاوس وإبراهيم والحسن
وروي عن علي
وقال حميد بن عبد الرحمن الرقاشي قال حدثنا بكر بن عامر قال كان إبراهيم والشعبي يكرهان أن يغطي الرجل فاه في الصلاة
120

((2 كتاب الطهارة))
((1 - باب العمل في الوضوء))
35 - مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أنه قال لعبد الله بن زيد بن عاصم وهو جد عمرو بن يحيى المازني وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ فقال عبد الله بن زيد بن عاصم نعم فدعا بوضوء (1) فأفرغ (2) على يده فغسل يديه مرتين مرتين ثم تمضمض واستنثر (3) ثلاثا ثم غسل وجهه ثلاثا ثم غسل يديه مرتين مرتين إلى المرفقين (4) ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر (5) بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه ثم غسل رجليه (6)
هكذا في ((الموطأ)) عند جميع رواته - فيما علمت - في إسناد هذا الحديث ((وهو جد عمرو بن يحيى في جده عبد الله بن زيد بن عاصم))
ولم يقل أحد من رواة هذا الحديث عن عمرو بن يحيى في عبد الله بن زيد بن
121

عاصم وهو جد عمرو بن يحيى ألا مالك ولم يتابعه أحد على ذلك
وهو عمرو بن يحيى بن عمارة بن أبي حسن المازني الأنصاري لا خلاف في ذلك
ولجده أبي حسن صحبة فيما ذكر بعضهم على ما ذكرنا في كتاب ((الصحابة)) وعسى أن يكون جده لأمه
وقد ذكرنا طرق هذا الحديث في ((التمهيد)) واختلاف رواته في سياقته وألفاظه
وليس عند القعنبي في الموطأ
وذكره سحنون في المدونة بألفاظ لا تعرف لمالك في إسناده ولا متنه
وقد أوضحنا معنى ذلك كله في ((التمهيد)) والحمد لله
فأما ما في هذا الحديث من المعاني فأول ذلك غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء مرتين
فجملة قول مالك في ذلك أنه كره أن يدخل أحد يديه في وضوئه قبل أن يغسلهما إذا كان محدثا وإن كانت يده طاهرة لم يضر ذلك وضوءه
هذا هو المشهور عنه والمعروف من مذهبه فيما روى عنه بن القاسم وبن وهب وأشهب وغيرهم إلا ما ذكره بن وهب عن بن القاسم عن مالك في الذي يستيقظ فيدخل يده في الإناء أنه لا بأس بذلك
وذكر عن بن وهب وأصبغ أنهما كرها ذلك
وقال بن وهب ليس على المتوضئ غسل يده إذا كانت طاهرة وكانت بحضرة الوضوء
وسنورد ما للعلماء في هذا المعنى مستوعبا في باب وضوء النائم إن شاء الله
وأما قوله ثم مضمض واستنثر ثلاثا فالثلاث في ذلك في سائر الأعضاء أكمل الوضوء وأتمه وما زاد فهو اعتداء ما لم تكن الزيادة لتمام نقصان وهذا لا خلاف فيه
والمضمضة معروفة وليس إدخال الإصبع ودلك الأسنان بها من المضمضة فمن شاء فعل ومن شاء لم يفعل
وحسب المتمضمض أخذ الماء من اليد بفيه وتحريكه متمضمضا به وطرحه عنه فإن فعل ذلك ثلاثا فقد بلغ غاية الكمال
وأما الاستنثار فهو دفع الماء من الأنف والاستنشاق أخذه بريح الأنف
وهما كلمتان مرويتان في الآثار المرفوعة وغيرها متداخلتان في المعنى وأهل العلم يعبرون بالواحدة عن الأخرى
122

وقد ذكرنا الآثار الواردة بهما في ((التمهيد))
فأما اختلاف العلماء في حكمهما فإن مالكا والشافعي وأصحابهما يقولون المضمضة والاستنثار سنة لا فريضة لا في الوضوء ولا في الجنابة
وهذا قول الأوزاعي والليث بن سعد
وبه قال محمد بن جرير الطبري
وروي ذلك عن الحسن البصري وبن شهاب والحكم بن عتيبة ويحيى بن سعيد وقتادة
فمن توضأ ولم يأت بهما ولا عملهما في وضوئه وصلى فلا إعادة عليه عند واحد من هؤلاء العلماء
وحجة من لم يوجبهما أن الله لم يذكرهما في كتابه ولا أوجبهما رسوله ولا اتفق الجميع على إيجابهما والفرائض لا تثبت إلا من هذه الوجوه
وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري هما فرض في الجنابة وسنة في الوضوء فإن تركهما في غسله من الجنابة وصلى أعاد كمن ترك لمعة ومن تركهما في وضوئه فلا شي عليه
والحجة لهم قوله - عليه السلام ((تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وأنقوا البشر)) (1) وفي الأنف ما فيه من الشعر وأنه لا يوصل إلى غسل الأسنان والشفتين إلا بالمضمضة
وقد قال عليه السلام ((العينان تزنيان والفرج يزني)) (2) ونحو ذلك إلى أشياء نزعوا بها تركت ذكرها
وقال بن أبي ليلى وحماد بن أبي سليمان هما فرض في الغسل والوضوء جميعا وهو قول إسحاق بن راهويه
وروي عن عطاء والزهري مثل ذلك أيضا وروي عنهما مثل قول مالك والشافعي
123

وكذلك اختلف أصحاب دواد فمنهم من قال هما فرض في الغسل والوضوء جميعا ومنهم من قال إن المضمضة سنة والاستنشاق فرض
وكذلك اختلف عن أحمد بن حنبل على هذين القولين المذكورين عن داود وأصحابه
ولم يختلف قول أبي ثور وأبي عبيد أن المضمضة سنة والاستنشاق واجب قالا من ترك الاستنشاق وصلى أعاد ومن ترك المضمضة لم يعد
وكذلك القول عند أحمد بن حنبل في رواية وعند أصحاب داود أيضا مثله
واحتج من أوجبهما في الوضوء وفي غسل الجنابة أن الله تعالى قال * (ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا) * [النساء 43]
كما قال في الوضوء * (فاغسلوا وجوهكم) * [المائدة 6]
فما وجب في الواحد من الغسل وجب في الآخر
ولم يحفظ أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ترك المضمضة والاستنشاق في وضوئه ولا غسله للجنابة وهو المبين عن الله عز وجل مراده
وقد بين أن مراد الله بقوله * (فاغسلوا وجوهكم) * المضمضة والاستنشاق مع غسل سائر الوجه
وحجة من فرق بين المضمضة والاستنشاق أن النبي - عليه السلام - فعل المضمضة ولم يأمر بها وأفعاله مندوب إليها ليست بواجبة إلا بدليل
وفعل عليه السلام الاستنثار وأمر به وأمره على الوجوب إلا أن يستبين غير ذلك من مراده
وهذا على أصلهم في ذلك ولكل واحد منهم اعتلالات وترجيحات يطول ذكرها
وأما غسل الوجه ثلاثة على ما في حديث عبد الله بن زيد هذا فهو الكمال والغسلة الواحدة إذا أوعبت تجزئ بإجماع من العلماء لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توضأ مرة مرة ومرتين وثلاثة
وهذا أكثر ما فعل من ذلك عليه السلام وتلقت الجماعة ذلك من فعله على الإباحة والتخيير في الثنتين والثلاث إلا أن ثبت أن شيئا من ذلك نسخ لغيره فقف على إجماعهم فيه
قال بن القاسم عن مالك ليس في ذلك توقيت قال الله تعالى * (فاغسلوا وجوهكم) * ولم يوقت
124

وذكر عنه بن عبد الحكم قال لا أحب الاقتصار على اثنتين وإن عمتا
والوجه مأخوذ من المواجهة وهو من منابت شعر الرأس إلى العارض والذقن والأذنين وما أقبل من اللحيين
واختلف في البياض الذي بين الأذنين والعارض فروى بن وهب عن مالك قال ليس ما خلف الصدغ الذي من وراء شعر اللحية إلى الأذن من الوجه
وزعم عبد الوهاب أن مذهبه محمول في ذلك على أن غسل الوجه إلى العارض فرض وغسل ما بين العارض إلى الأذن سنة
وقال الشافعي يغسل المتوضئ وجهه من منابت شعر لحيته إلى أصول أذنيه ومنتهى اللحية إلى ما أقبل من وجهه وذقنه
قال فإن كان أمرد غسل بشرة وجهه كلها فإن نبتت لحيته وعارضاه أفاض على لحيته وعارضيه وإن لم يصل الماء إلى بشرة وجهه التي تحت الشعر أجزأه إذا كان شعره كثيرا
قال أبو عمر قد أجمعوا أن ليس على المتيمم أن يمسح ما تحت عارضيه فقضى إجماعهم في ذلك على مراد الله منه لأن الله أمر المتيمم بمسح وجهه كما أمر المتوضئ بغسله
وقال أحمد بن حنبل غسل الوجه من منابت شعر الرأس إلى ما انحدر من اللحيين والذقن وإلى أصول الأذنين ويتعاهد البياض الذي بين العارض والأذن
وقال أبو حنيفة وأصحابه البياض الذي بين العذار والأذن - من الوجه وغسله واجب
قال أبو عمر في اختلاف العلماء بالمدينة وغيرها قديما فيما أقبل من الأذنين هل هو من الرأس أو من الوجه ما يوضح أن البياض الذي بين الأذنين والعارض من الوجه
وسأذكر اختلاف العلماء في الأذنين في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله
قرأت على محمد بن عبد الله بن حكم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا الفضل بن الحباب القاضي بالبصرة قال حدثنا أبو الوليد الطيالسي قال حدثنا قيس بن الربيع عن جابر بن هرمز قال سمعت عليا يقول أبلغ بالوضوء مقاص الشعر
واختلف في تخليل اللحية والذقنه فذهب مالك والشافعي والثوري والأوزاعي أن تخليل اللحية ليس بواجب في الوضوء
وقال مالك وأكثر أصحابه وطائفة من أهل المدينة ولا في غسل الجنابة
125

وذكر بن عبد الحكم عن مالك أن الجنب يخلل لحيته ويستحب ذلك له وليس ذلك على المتوضئ
قال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلل أصول شعره في غسله من الجنابة
وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري والأوزاعي والليث بن سعيد وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد وداود والطبري ومن قال بقوله تخليل اللحية في غسل الجنابة واجب وهذا على من احتاج إلى ذلك لكثرة شعره ليصل الماء إلى بشرته
وأظن مالكا ومن قال بقوله ذهبوا إلى أن الشعر لا يمنع من وصول الماء
وذكر بن عبد الحكم عن مالك قال ويحرك اللحية في الوضوء إن كانت كثيرة ولا يخللها
قال وأما في الغسل فليحركها وإن صغرت وتخليلها أحب إلينا
وذكر بن القاسم عن مالك قال يحرك المتوضىء ظاهر لحيته من غير أن يدخل يده فيها
قال وهي مثل أصابع الرجل يعني أنها لا تخلل
وقال بن عبد الحكم تخليل اللحية واجب في الوضوء والغسل
وروى أبو فروة موسى بن طارق قال سمعت مالكا يذكر تخليل اللحية فيقول يكفيها ما مسها من الماء مع غسل الوجه ويحتج في ذلك بحديث عبد الله بن زيد لم يذكر فيه تخليل اللحية
وقال الأوزاعي ليس تحريك اللحية وتخليل العارضين بواجب
وقال بن خواز بنداذ اتفق الفقهاء على أن تخليل اللحية ليس بواجب في الوضوء إلا شيئا روي عن سعيد بن جبير
قال أبو عمر الذي روي عن سعيد بن جبير قوله ما بال الرجل يغسل لحيته قبل أن تنبت فإذا نبتت لم يغسلها وما بال الأمرد يغسل ذقنه ولا يغسله ذو اللحية
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خلل لحيته في وضوئه من وجوه كلها ضعيفة
وأما الصحابة والتابعون فروي عن جماعة منهم تخليل اللحية وأكثرهم لم يفرقوا بين الوضوء والجنابة وروي عن جماعة منهم الرخصة في ترك تخليل اللحية
وإيجاب غسل ما تحت اللحية مع الاختلاف فيه دون دليل قاطع فيه لا يصح ومن احتاط فخلل لم يعب
قال الطحاوي التيمم واجب فيه مسح اللحية ثم سقط بعد هذا عندهم جميعهم فكذلك الوضوء
126

وأما ما انسدل من اللحية فذكر عن سحنون عن بن القاسم قال سمعت مالكا يسأل هل سمعت بعض أهل العلم يقول إن اللحية من الوجه الماء (1) قال قال نعم قال وتخليلها في الوضوء ليس من أمر الناس وعاب ذلك على من فعله
قيل لسحنون أرأيت من غسل وجهه ولم يمر الماء على لحيته قال هو بمنزلة من لم يمسح رأسه وعليه الإعادة
واختلف قول الشافعي فيما انسدل من شعر اللحية فقال مرة أحب إلى أن يمر الماء على ما سقط من اللحية على الوجه فإن لم يفعل ففيها قولان يجزئه في أحدهما ولا يجزئه في الآخر لأنه لا يجعل ما سقط من منابت شعر الوجه - من الوجه يعني بقوله ما سقط ما انسدل
قال أبو عمر من جعل غسل ما انسدل من اللحية واجبا جعلها وجها والله قد أمر بغسل الوجه أمرا مطلقا لم يخص صاحب لحية من أمرد فكل ما وقع عليه اسم وجه فواجب غسله لأن الوجه مأخوذ من المواجهة وغير ممتنع أن تسمي اللحية وجها فوجب غسلها لعموم الظاهر
ومن لم يوجب غسل ما انسدل من اللحية ذهب إلى أن الأصل المأمور بغسله بشرة الوجه وإنما وجب غسل اللحية لأنها ظهرت فوق البشرة حائلة دونها وصارت البشرة باطنا وصار الظاهر هو شعر اللحية فوجب غسلها بدلا من البشرة وما انسدل من اللحية ليس لحية فما يلزم غسله فيكون غسل اللحية بدلا منه كما أن جلد الرأس مأمور بغسله أو مسحه فلما نبت الشعر ناب مسح الشعر عن مسح جلدة الرأس لأنه ظاهر فهو بدل منه وما انسدل من الرأس وسقط فليس تحته بشرة يلزم مسحها ومعلوم أن الرأس المأمور بمسحه ما علا ونبت فيه الشعر وما سقط من شعره وانسدل فليس برأس وكذلك ما انسدل من اللحية ليس بوجه والله أعلم
ولأصحاب مالك أيضا في هذه المسألة قولان كأصحاب الشافعي سواء والله أعلم
وأما غسل اليدين فقد جاء في حديث عبد الله بن زيد هذا ((أن رسول الله غسلهما مرتين مرتين إلى المرفقين))
وجاء عن عثمان وعلي في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه غسلهما ثلاثا ثلاثا وهو أكمل الوضوء وأتمه
127

وروى بن عباس أنه توضأ مرة مرة وهو أقل ما يجزئ إذا كانت سابغة وقد مضى القول في هذا المعنى
وقد أجمعوا على أن الأفضل أن يغسل اليمنى قبل اليسرى وأجمعوا على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك كان يتوضأ وكان - عليه السلام - يحب التيامن في أمره (1) كما في طهوره وغسله وغير ذلك من أموره
وكذلك أجمعوا أن من غسل يسرى يديه قبل اليمنى أنه لا إعادة عليه
وروينا عن علي وبن مسعود أنهما قالا لا نبالي بأي ذلك بدأنا
قال معن بن عيسى سألت عبد العزيز بن أبي سلمة عن إجالة الخاتم عند الوضوء قال إن كان ضيقا فأجله وإن كان واسعا فأقره
قال وقال مالك ليس عليه ذلك
وقال محمد بن عبد الحكم كقول محمد بن أبي سلمة
وأما إدخال المرفقين في الغسل فعلى ذلك أكثر العلماء وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وأصحابه
إلا زفر فإنه اختلف عنه في ذلك فروى عنه أنه يجب غسل المرافق مع الذراعين وروى عنه أنه لا يجب ذلك وبه قال الطبري وبعض أصحاب مالك المتأخرين وبعض أصحاب داود
فمن أوجب غسلها حمل قوله * (وأيديكم إلى المرافق) * [المائدة 6] على أن * (إلي) * ها هنا بمعنى الواو أو بمعنى مع فتقدير قوله ذلك عندهم وأيديكم والمرافق أو مع المرافق
واحتج بعضهم بقوله تعالى * (من أنصاري إلى الله) * [الصف 14] أي مع الله
وقوله * (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) * [النساء 2] أي مع أموالكم
وأنكر بعض أهل اللغة أن تكون (إلى) بمعنى الواو وبمعنى مع
وقال لو كان كذلك لوجب غسل اليدين من أطراف الأصابع إلى أصل الكتف
وقال لا يجوز أن تخرج (إلى) عن معناها وذلك أنها بمعنى الغاية أبدا
وقال جائز أن تكون (إلى) ها هنا بمعنى الغاية وتدخل المرافق في الغسل
128

لأن الثاني إذا كان من الأول كان ما بعد (إلى) داخلا فيما قبله فدخلت المرافق في الغسل لأنها من اليدين ولم يدخل الليل في الصيام بقوله * (ثم أتموا الصيام إلى الليل) * [البقرة 187] لأن الليل ليس من النهار كأنه يقول ما كان من الجنس دخل الحد منه في المحدود وما لم يكن من الجنس لم يدخل في المحدود منه حدة
ومن لم يوجب غسلها حمل (إلى) على الغاية كقوله * (ثم أتموا الصيام إلى الليل) * وليس بشيء مما قدمنا من الحجة لقول الجمهور الذين لا يجوز عليهم جهل التأويل ولا تحريفه لأن القائلين بسقوط إدخال المرفقين في غسل الذراعين قليل وقولهم في ذلك كالشذوذ ومن غسل المرفقين مع الذراعين فقد أدى فرضة بيقين واليقين في أداء الفرائض واجب
وأما المسح بالرأس فقد أجمعوا أن من مسح برأسه كله فقد أحسن وعمل أكمل ما يلزمه
على أنهم قد أجمعوا على أن اليسير لا يقصد إلى إسقاطه متجاوز عنه لا يضر المتوضئ
وجمهورهم يقول بمسح الرأس مسحة واحدة موعبة كاملة لا يزيد عليها إلا الشافعي فإنه قال من توضأ ثلاثا مسح رأسه ثلاثا على ظاهر الحديث في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا
وفي بعض الروايات عن عثمان في صفة وضوء رسول الله ثم يمسح رأسه ثلاثا
وأكثرها على مرة واحدة
وروى مسح الرأس ثلاثا عن أنس بن مالك وسعيد بن جبير وعطاء وغيرهم
وكان بن سيرين يقول يمسح رأسه مرتين
وكان مالك يقول في مسح الرأس يبدأ بمقدم رأسه ثم يذهب بيديه إلى مؤخرة ثم يردهما إلى مقدمه على حديث عبد الله بن زيد
قال وهو أبلغ ما سمعت في مسح الرأس وهو قول الشافعي في أن حديث عبد الله بن زيد أحسن ما جاء في مسح الرأس
وروي عن بن عمر أنه كان يبدأ من وسط رأسه ويدير ويعيد إلى حيث بدأ
وفي حديث عبد الله بن زيد ((بدأ بمقدم رأسه)) وهو الذي ينبغي أن يمتثل ويحمل عليه
129

وروى معاوية والمقدام بن معدي عن النبي - عليه السلام ((ثم يمسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر)) فقد توهم بعض الناس أنه بدأ بمؤخر رأسه لقوله ((فأقبل بهما)) وتوهم غيره أنه بدأ من وسط رأسه فأقبل بيديه وأدبر وهذه كلها ظنون
وفي قوله ((بدأ بمقدم رأسه)) ما يرفع الإشكال لمن امتثل نفسه لأنه مفسر لقوله ((فأقبل بهما وأدبر))
وهو كلام يحتمل أن يكون على التقديم والتأخير كأنه قال فأدبر بهما وأقبل والواو لا توجب رتبة ولا تعقيبا
وإذا احتمل الكلام التأويل كان قوله ((بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه)) يوضح ما أشكل من ذلك
وهذا كله معنى قول مالك
وأما قول الحسن بن حي يبدأ من مؤخر رأسه فإنه قد روي في حديث الربيع بنت معوذ بن عفراء أنها وصفت وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت ((ومسح رأسه مرتين بدأ بمؤخر رأسه ثم بمقدمه وبأذنيه ظهورهما وبطونهما))
وقد ذكرنا علة إسناده في ((التمهيد))
وأجمع العلماء أن من عم رأسه بالمسح فقد أدى ما عليه وأتى بأكمل شيء فيه وسواء بدأ بمقدم رأسه أو بوسطه أو بمؤخره وإن كان لم يفعل ما استحب منه
واختلف الفقهاء فيمن مسح بعض رأسه
فقال مالك الفرض مسح جميع الرأس فإن ترك شيئا منه كان كمن ترك غسل شيء من وجهه هذا هو المعروف من مذهب مالك
وهو مذهب بن علية قال بن علية قد أمر الله تعالى بمسح الرأس في الوضوء كما أمر بمسح الوجه في التيمم وأمر بغسله في الوضوء
وقد أجمعوا أنه لا يجوز غسل بعض الوجه في الوضوء ولا مسح بعضه في التيمم
وقد أجمعوا على أن الرأس يمسح كله ولم يقل أحد إن مسح بعضه سنة وبعضه فريضة فدل على أن مسحه كله فريضة
واحتج إسماعيل وغيره من أصحابنا على وجوب العموم في مسح الرأس بقوله تعالى * (وليطوفوا بالبيت العتيق) * [الحج 29] وقد أجمعوا أنه لا يجوز الطواف ببعضه فكذلك مسح الرأس
والمعنى في قوله * (وامسحوا برؤوسكم) * أي امسحوا رؤوسكم ومن مسح بعض رأسه فلم يمسح رأسه
130

واختلف أصحاب مالك في ذلك فقال أشهب يجوز مسح بعض الرأس
وذكر أبو الفرج قال اختلف متأخروا أصحابنا في ذلك فقال بعضهم لا بد أن يمسح كل الرأس أو أكثره وإذا مسح أكثره أجزأه
قال وقال آخرون إذا مسح الثلث فصاعدا أجزأه
قال وهذا أشبه القولين عندي وأولاهما من قبل أن الثلث فما فوقه قد جعله مالك في حيز الكثير في غير موضع من كتبه ومذهبه
وزعم الأبهري أنه لم يقل أحد من أصحاب مالك ما ذكره أبو الفرج عنهم فإن المعروف لمحمد بن مسلمة ومن قال بقوله أن الممسوح من الرأس إن كان المتروك الأقل جاز على أصل مالك في أن الثلث عنده قدر يسير في كثير من مسائله
قال أبو عمر ما ذكره أبو الفرج والأبهري عن محمد بن مسلمة كلاهما خارج عن أصول مالك في الثلث فمرة يجعله حدا في اليسير ومرة في الكثير
وأما الشافعي فقال الفرض مسح بعض الرأس وقال احتمل قوله عز وجل * (وامسحوا برؤوسكم) * مسح بعض الرأس ومسح جميعه فدلت السنة على أن يجزئ
وقال في موضع آخر من كتابه فإن قيل مسح الوجه في التيمم يدل على عموم غسله فلا بد أن يأتي بالمسح على جميع موضع الغسل منه ومسح الرأس أصل فهذا فرق ما بينهما
قال أبو عمر السنة التي ذكر الشافعي أنها دلت على أن مسح بعض الرأس يجزئ هي مسحه بناصيته عليه السلام والناصية مقدم الرأس فقط
جاء ذلك في آثار كثيرة منها ما أخبرناه عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا أبي قال حدثنا إسماعيل بن علية عن أيوب عن محمد بن سيرين عن عمرو بن وهب قال كنا عند المغيرة بن شعبة فقال ((مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم بناصيته
131

وقد روى بكر المزني عن الحسن عن بن المغيرة عن أبيه عن النبي - عليه السلام - مثله
ومن حديث أنس عن النبي - عليه السلام - مثله
ذكرهما أبو داود وقد ذكرتهما بإسنادهما في التمهيد
وقال أبو حنيفة وأصحابه إن مسح المتوضئ بعض رأسه أجزأه ويبدأ بمقدم رأسه إلى مؤخره
واختلف أصحاب داود فقال بعضهم مسح الرأس كله واجب فرضا كقول مالك وقال بعضهم المسح ليس شأنه الاستيعاب في لسان العرب والبعض يجزئ
وقال الثوري والأوزاعي والليث بن سعد يجزئ مسح بعض الرأس ويمسح المقدم وهو قول داود وأحمد
وقد قدمنا عن جميعهم أن مسح جميع الرأس أحب إليهم
وكان بن عمر وسلمة بن الأكوع يمسحان مقدم رؤوسهما
وعن جماعة من التابعين إجازة مسح بعض الرأس ذكر ذلك عنه بن أبي شيبة وعبد الرزاق
وقال أبو حنيفة إن مسح رأسه أو بعضه بثلاثة أصابع فيما زاد أجزأه وإن مسح بأقل من ذلك لم يجزه
وقال الثوري والشافعي [إن مسح بإصبع واحد أجزأه وإن مسح بأقل من ذلك لم يجزئه
واتفق مالك والشافعي] وأبو حنيفة على أن الرأس يجزئ مسحه إلا بماء جديد يأخذه له المتوضئ كما يأخذه لسائر الأعضاء
ومن مسح رأسه بما فضل من البلل في يديه من غسل ذراعيه لم يجزه
وقال الأوزاعي وجماعة من التابعين يجزئه
وذكر بن حبيب عن بن الماجشون أنه قال إذا نفذ الماء عنه مسح رأسه ببلل لحيته واختاره بن حبيب
والمرأة عند جميع الفقهاء في مسح رأسها كالرجل سواء كل مما أصله
وأما غسل الرجلين ففي حديث عبد الله بن زيد هذا ((ثم غسل رجليه)) ولم يجر
وفي حديث عثمان وعلي إذ وصفا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات عنهما ((ثم غسل رجليه ثلاثا)) وفي بعضها ((ثم غسل رجليه حتى أنقاهما)) وفي بعضها ((ثم غسل رجليه)) فقط
132

وأجمع العلماء أن غسلة واحدة في الرجلين وسائر أعضاء الوضوء تجزئ إذا كانت سابغة وإذا أجزأت المرة الواحدة في الوجه والذراعين فأحرى أن تجزئ في الرجلين لأنهما عند بعض العلماء ممسوحتان وهما في التيمم مع الرأس يسقطان
والقول عند العلماء في دخول الكعبين في غسل الرجلين كهو في المرفقين مع الذراعين كل على أصله
وسنبين ما في ذلك كله للعلماء في هذا الباب عند قوله عليه السلام ((ويل للأعقاب من النار)) (1) إن شاء الله
ويأتي ذكر الأذنين وحكمهما في بابهما من هذا الكتاب بحول الله وعونه
36 - مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينثر (2) ومن استجمر (3) فليوتر)) (4)
37 - مالك عن بن شهاب عن أبي إدريس الخولاني عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((من توضأ فليستنثر (5) ومن استجمر فليوتر))
عند بعض شيوخنا في حديث أبي الزناد ((فليجعل في أنفه ماء)) وبعضهم ليس عنده ماء والمعنى قائم
133

وأما قوله ((ثم لينثر)) وفي حديث بن شهاب ((فليستنثر)) فإنه يقال نثر واستنثر بمعنى واحد وهو دفع ما استنشقه من الماء بريح الأنف
وليس في الموطأ حديث هنا بلفظ الاستنشاق ولا يكون الاستنثار إلا بعد الاستنشاق ولفظ الاستنشاق موجود في حديث أبي هريرة وفي حديث أبي رزين العقيلي
ويؤخذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمضمض واستنشق من حديث عثمان وعلي وعائشة وغيرهم
ففي حديث أبي هريرة من رواية معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبي - عليه السلام - قال ((إذا توضأ أحدكم فليستنشق بمنخره من الماء ثم لينثر)) (1)
وفي حديث أبي رزين العقيلي - واسمه لقيط بن صبرة - قال ((قلت يا رسول الله أخبرني عن الوضوء قال أسبغ الوضوء وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما)) (2)
وفي حديث سلمة بن قيس قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إذا استنشقت فانثر وإذا استجمرت فأوتر)) (3)
وأما الاستنثار ففي حديث أبي هريرة ما في الموطأ بإسنادين
وروى بن أبي ذئب عن قارظ بن شيبة عن أبي غطفان أنه سمع بن عباس يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((استنثروا مرتين بالغتين أو ثلاثا)) (4)
وقد ذكرنا أسانيد هذه الأحاديث كلها في ((التمهيد))
وقد جمعها الزهري في حديث عثمان فجود
حدثنا محمد بن إبراهيم حدثنا محمد بن معاوية حدثنا أحمد بن شعيب قال حدثنا أحمد بن محمد بن المغيرة حدثنا عثمان عن شعيب عن الزهري أخبرني عطاء بن يزيد الليثي عن حمران أن عثمان بن عفان دعا بوضوء فأفرغ على
134

يديه من إنائه فغلسها ثلاث مرات ثم أدخل يمينه في الوضوء فمضمض واستنشق واستنثر وذكر تمام الحديث
واختلف العلماء فيمن ترك الاستنشاق والاستنثار في وضوئه ناسيا أو عامدا أعاد الوضوء وبه قال أبو ثور وأبو عبيد في الاستنثار خاصة دون المضمضة وهو قول داود في الاستنثار خاصة
وكان أبو حنيفة وأصحابه والثوري يذهبون إلى إيجاب المضمضة والاستنشاق في الجنابة دون الوضوء
وكان حماد بن أبي سليمان وبن أبي ليلى وطائفة يوجبونهما في الوضوء والجنابة معا
وأما مالك والشافعي والأوزاعي وأكثر أهل العلم فإنهم ذهبوا إلى أنه لا فرض في الوضوء واجب إلا ما ذكر الله في القرآن وذلك غسل الوجه واليدين إلى المرفقين ومسح الرأس وغسل الرجلين
وقد أوضحنا معاني أقوالهم وعيون احتجاج كل واحد منهم فيما تقدم من هذا الباب والحمد لله
وأما قوله ((ومن استجمر فليوتر)) فمعنى الاستجمار إزالة الأذى من المخرج بالأحجار والجمار عند العرب الحجارة الصغار
وقد ذكرنا تصريف هذه اللفظة في اللغة وشواهد الشعر على ذلك في التمهيد
والاستجمار هو الاستنجاء وهو إزالة النجو من المخرج بالماء أو بالأحجار
واختلف الفقهاء في ذلك هل هو فرض واجب أو سنة مسنونة
فذهب مالك وأبو حنيفة وأصحابهما إلى أن ذلك ليس بواجب فرضا وأنه سنة لا ينبغي تركها وتاركها مسيء فإن صلى كذلك فلا إعادة عليه إلا أن مالكا يستحب له الإعادة في الوقت وعلى ذلك أصحابه
وأبو حنيفة يراعي [أن يكون] ما خرج عن في المخرج مقدار الدرهم على أصله وسيأتي ذكره في موضعه
وقال الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو ثور وداود والطبري الاستنجاء واجب ولا تجزئ صلاة من صلى دون أن يستنجي بالأحجار أو بالماء والمخرج مخصوص بالأحجار عند الجميع
ويجوز عند مالك وأبي حنيفة الاستنجاء بأقل من ثلاثة أحجار إذا ذهب النجو لأن الوتر يقع على الواحد فما فوقه من الوتر عندهم مستحب وليس بواجب
135

وقد روي من حديث أبي هريرة عن النبي - عليه السلام - ((من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج)) (1)
وقد ذكرناه بإسناده في ((التمهيد))
وقال الشافعي لا يجوز أن يقتصر على أقل من ثلاثة أحجار وهو قول أحمد بن حنبل وإلى هذا ذهب أبو الفرج المالكي
وحجة من قال بهذا القول حديث سلمان الفارسي ((أنه قال له رجل إن صاحبكم ليعلمكم حتى الخراءة قال أجل نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول أو نستنجي بأيماننا أو نكتفي بأقل من ثلاثة أحجار)) (2) وحديث أبي هريرة عن النبي - عليه السلام - ((أنه كان يأمر بثلاثة أحجار وينهي عن الروث والرمة)) (3) وهما حديثان ثابتان بإجماع من أهل النقل
وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي كل ما قام مقام الأحجار من سائر الأشياء الطاهرة فجائز الاستنجاء به ما لم يكن مأكولا
وقال مالك وأبو حنيفة إن استنجى بعظم أجزأه وبئس ما صنع
وقال الشافعي لا يجزئ لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك
وقال الطبري كل طاهر ونجس أزال النجو أجزأ
وقال داود وأهل الظاهر لا يجوز الاستنجاء بغير الأحجار الطاهرة
ولا فرق عند مالك وأبي حنيفة في مخرج البول والغائط بين المعتادات (4) وغيره المعتادات (5) أن الأحجار تجزئ فيها وهو المشهور من قول الشافعي
وقد روي عن الشافعي أنه لا يجزئ فيما عدا الغائط والبول إلا الماء وكذلك ما عدا المخرج وما حوله مما يمكن التحفظ منه فإنه لا يجزئ فيه الأحجار ولا يجزئ فيه إلا الماء
وسيأتي حكم المذي (6) في موضعه إن شاء الله
136

وحكى بن خواز بنداذ عن مالك وأصحابه أن ما حول المخرج مما لا بد منه في الأغلب والعادة لا يجزئ فيه إلا الماء ولم أر عن مالك هذا القياس
وقالت طائفة من أصحابنا إن الأحجار تجزئ في مثل ذلك لأن ما لا يمكنه التحفظ منه مثل الشعر وما يقرب منه حكمه حكم المخرج
واختلف أصحاب الشافعي أيضا فمنهم من قال تجزئ فيه الأحجار ومنهم من أبى ذلك
وأما أبو حنيفة وأصحابه فعلى أصلهم أن النجاسة تزول بكل ما أزال عينها وأذهبها ماء كان أو غيره وقدر الدرهم عندهم معفو عنه أصلا
وقال داود النجاسة بأي وجه زالت أجزأ ولا تحد بقدر الدرهم
قال مالك تجوز الصلاة بغير الاستنجاء والاستنجاء بالحجارة حسن والماء أحب إليه ويغسل ما هنالك بالماء من لم يستنج لما يستقبل
وقال الأوزاعي تجوز ثلاثة أحجار والماء أطهر
ومن جعل من العلماء الاستنجاء واجبا جعل الوتر فيه واجبا وسائر أهل العلم يستحبون فيه الوتر
وسيأتي ذكر الاستنجاء بالماء عند قول سعيد بن المسيب
قال يحيى سمعت مالكا يقول في الرجل يتمضمض ويستنثر من غرفة واحدة إنه لا بأس بذلك
قال أبو عمرو في حديث عبد الله بن زيد بن عاصم ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمضمض واستنشق واستنثر من كف واحدة))
حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا محمد بن بكر حدثنا أبو داود حدثنا مسدد قال حدثنا خالد بن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه عن عبد الله بن زيد بن عاصم بهذا الحديث قال ((فمضمض واستنشق من كف واحدة ففعل ذلك ثلاث مرات)) وذكر نحو حديث مالك وهو أمر لا أعلم فيه خلافا أنه من شاء فعله
ومن أهل العلم من يستحسنه ومنهم من يستحب أن يستنشق من غير الماء الذي تمضمض منه وكل قد روي
38 - مالك أنه بلغه أن عبد الرحمن بن أبي بكر قد دخل على عائشة
137

زوج النبي يوم مات سعد بن أبي وقاص فدعا بوضوء (1) فقالت له عائشة يا عبد الرحمن أسبغ الوضوء (2) فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ((ويل للأعقاب (3) من النار))
هذا الحديث يروى متصلا مسندا عن النبي - عليه السلام - من وجوه شتى من حديث عائشة ومن حديث أبي هريرة ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ومن حديث عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي وقد ذكرتها كلها في ((التمهيد)) والحمد لله
وحديث عبد الله بن عمرو وأبي هريرة وعبد الله بن الحارث بن جزء لا علة في شيء من أسانيدها ولا مقال
وفيه من الفقه غسل الرجلين
وفي ذلك تفسير لقوله تعالى " وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين " [المائدة 6] فرويت بخفض * (وأرجلكم) * ونصبها وفي هذا الحديث دليل على أن المراد بذلك غسل الأرجل لا مسحها لأن المسح ليس شأنه استيعاب الممسوح فدل على أن من جر الأرجل عطفها على اللفظ لا على المعنى والمعنى فيهما الغسل على التقديم والتأخير كأنه قال فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برؤوسكم والقراءتان صحيحتان مستفيضتان
ومعلوم أن الغسل مخالف للمسح وغير جائز أن تبطل إحدى القراءتين بالأخرى فلم يبق إلا أن يكون المعنى الغسل أو العطف على اللفظ
وكذلك قال أشهب عن مالك أنه سئل عن قراءة من قرأ ((وأرجلكم)) بالخفض فقال هو الغسل
وهذا التأويل تعضده سنة رسول الله المجتمع عليها بأنه كان يغسل رجليه في وضوئه مرة ومرتين وثلاثا
وجاء أمره في ذلك موافقا لفعله فقال ((ويل للعراقيب من النار ويل للعراقيب وبطون الأقدام من النار))
وقد ذكرنا الألفاظ بهذه الآثار مسندة في ((التمهيد
138

وقد وجدنا العرب تخفض بالجوار والاتباع على اللفظ بخلاف المعنى والمراد عندها المعنى كما قال امرؤ القيس
(كبير أناس في بجاد مزمل (1
*)
فخفض بالجوار وإنما المزمل الرجل والإعراب فيه الرفع وكذلك قوله أيضا
(صفيف شواء أو قدير معجل (2
*)
وكان الوجه أن يقول أو قديرا معجلا ولكنه خفض للاتباع
وكما قال زهير
(لعب الزمان بها وغيرها
* بعدي سوافي المور والقطر (3))
قال أبو حاتم كان الوجه (والقطر) بالرفع ولكنه جره بالجوار على المور كما قالت العرب هذا جحر ضب خرب
ومن هذا قراءة أبي عمرو * (يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس) * [الرحمن 35] بالجر لأن النحاس هو الدخان [وقراءة يحيى بن وثاب [ذو القوة المتين بالخفض]
ومن هذا أيضا قول النابغة
(لم يبق غير طريد غير منفلت
* أو موثق في حبال القد مسلوب (4))
فخفض
139

ومثله قوله الآخر
(فهل أنت إن ماتت أتانك راحل
* إلى آل بسطام بن قيس فخاطب (1))
بكسر الباء
ومنه أيضا قول الشاعر
(حي دارا أعلامها بالجناب
* مثل ما لاح في الأديم الكتاب)
فجر (الكتاب) بالجوار ل (لأديم) وموضعه الرفع ب (لاح) وقد يكون (الكتاب) مخفوضا ردا على (ما) بدلا من (ما)
وقد يراد بالمسح الغسل من قول العرب تمسحت للصلاة والمراد الغسل
وعلى هذا التأويل الذي ذكرنا في إيجاب غسل الرجلين جمهور العلماء وجماعة فقهاء الآثار
وإنما روي مسح الرجلين عن بعض الصحابة والتابعين وتعلق به بعض المتأخرين
ولو كان مسح الرجلين يجزئ ما أتى الوعيد بالنار على من لم يغسل عقبيه وعرقوبيه أو فاته شيء من بطون قدميه لأنه معلوم أنه لا يعذب بالنار إلا على ترك الواجب
وقد أجمع المسلمون أن من غسل قدميه فقد أدى الواجب عليه من قال منهم بالمسح ومن قال بالغسل فاليقين ما أجمعوا عليه
واختلاف العلماء في دخول الكعبين في غسل الرجلين - كما ذكرنا في دخول المرفقين في الذراعين وجملة مذهب مالك وتلخيص مذهبه في ذلك أن المرفقين إن بقي شيء
منهما مع القطع غسل
قال وأما الكعبان إذا قطعت الرجل على السنة في سرقة أو خرابة فهما باقيان في القطع ولا بد من غسلهما مع الرجلين
والكعبان هما الناتئان في طرق الساق
وعلى هذا مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وداود في الكعبين
وقال الطحاوي للناس في الكعبين ثلاثة أقوال
فالذي يذهب إليه محمد بن الحسن أن في القدم كعبا وفي الساق كعبا ففي كل رجل كعبان
140

قال وغيره يقول في كل قدم كعب وموضعه ظهر القدم مما يلي الساق
قال وآخرون يقولون الكعب هو الدائر بمغرز الساق وهو مجتمع العروق من ظهر القدم على العراقيب
قال والعرب تقول الكعبان هما العرقوبان
قال أبو عمر احتج بعض من قال في الكعبين بقولنا بحديث النعمان بن بشير قال ((أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال أقيموا صفوفكم قال فلقد رأيت الرجل يلزق كعبه بكعب صاحبه)) (1)
والعرقوب هو مجمع مفصل الساق والقدم والعقب هو مؤخر الرجل تحت العرقوب
وقال مالك ليس على أحد تخليل الأصابع من رجليه في الوضوء ولا في الغسل ولا خير في الجفاء والغلو رواه بن وهب وغيره عنه
قال بن وهب تخليل أصابع رجليه في الوضوء مرغب فيه ولا بد من ذلك في أصابع اليدين وإن لم يخلل أصابع رجليه فلا بد من إيصال الماء إليها
وقال بن القاسم عن مالك فيمن توضأ في نهر فحرك رجليه في الماء إنه لا يجزئه حتى يغسلهما بيديه
قال بن القاسم وإن قدر على غسل إحداهما بالأخرى أجزأ
قال أبو عمر يلزم من قال إن الغسل لا يكون إلا بمرور اليدين أن يقول لا يجزئه غسل إحداهما بالأخرى
وقد روي عن النبي - عليه السلام ((أنه كان إذا توضأ يدلك أصابع رجليه بخنصره)) (2)
وهذا عندنا محمول على الكمال
وقد روي عن بن وهب قال لما حدثت مالكا بحديث المستورد بن شداد عن النبي - عليه السلام - ((أنه كان يخلل أصابع رجليه)) (3) رأيته يتعهد ذلك في وضوئه
39 - مالك عن يحيى بن محمد بن طحلاء عن عثمان بن عبد الرحمن أن
141

أباه حدثه أنه سمع عمر بن الخطاب يتوضأ بالماء وضوءا لما تحت إزاره
يريد الاستنجاء
يحيى بن محمد بن طحلاء مديني مولى لبني ليث وروي عنه وعن أخيه يعقوب بن محمد بن طحلاء الحديث ويحيى قليل الحديث جدا
وأما عثمان بن عبد الرحمن فمديني أيضا قرشي تيمي وهو عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله يجتمع مع طلحة في عبيد الله
أدخل مالك هذا الحديث في الموطأ ردا على من قال عن عمر إنه كان لا يستنجي بالماء وإنما كان استنجاؤه هو وسائر المهاجرين بالأحجار وذكر قول سعيد بن المسيب في الاستنجاء بالماء إنما ذلك وضوء النساء وقول حذيفة لو استنجيت بالماء لم تزل يدي في نتن
ذكر أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن همام عن حذيفة أنه سئل عن الاستنجاء بالماء فقال إذا لا تزال يدي في نتن
وهو مذهب معروف عن المهاجرين
وأما الأنصار فمشهور عنهم أنهم كانوا يتوضؤون بالماء ومنهم من كان يجمع بين الطهارتين فيستنجي بالأحجار ثم يتبع آثار الأحجار الماء
قال الشعبي لما نزلت * (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) * [التوبة 108] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((يا أهل قباء ما هذا الثناء الذي أثنى الله عليكم قالوا ما منا أحد إلا وهو يستنجي في الخلاء بالماء))
وعن محمد بن يوسف بن عبد الله بن سلام مثل هذا المعنى سواء في أهل قباء وزاد إنا لنجده مكتوبا عندنا في التوراة الاستنجاء بالماء
ولا خلاف أن قوله تعالى * (يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) * نزلت في أهل قباء لاستنجائهم بالماء
وذكر فيه أبو داود حديثا مسندا ذكرناه في ((التمهيد))
وروت معاذة العدوية عن عائشة قالت ((مرن أزواجكن أن يغسلوا أثر الغائط والبول بالماء فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله
142

والماء عند فقهاء الأمصار أطهر وأطيب وكلهم يجيز الاستنجاء بالأحجار على ما مضى في هذا الكتاب عنهم والحمد لله
قال يحيى سئل مالك عن رجل توضأ فنسي فغسل وجهه قبل أن يتمضمض أو غسل ذراعيه قبل أن يغسل وجهه فقال أما الذي غسل وجهه قبل أن يتمضمض فليمضمض ولا يعد غسل وجهه وأما الذي غسل ذراعيه قبل وجهه فليغسل وجهه ثم ليعد غسل ذراعيه حتى يكون غسلهما بعد وجهه إذا كان ذلك في مكانه أو بحضرة ذلك
قوله هذا يدل على أن الترتيب عنده لا يراعى في المسنون مع المفروض وإنما يراعي في المفروض من الوضوء إلا أن مراعاته لذلك ما دام في مكانه فإن بعد شيئا استأنف الوضوء ولو صلى لم يعد صلاته
وكذلك ذكر بن عبد الحكم وبن القاسم وسائر أصحابه عند إلا علي بن زياد فإنه حكى عن مالك أنه قال من نكس وضوءه يعيد الوضوء والصلاة ثم رجع فقال لا إعادة عليه في الصلاة
وحكى بن حبيب عن بن القاسم من نكس من مفروض وضوئه شيئا أصلح وضوءه بالحضرة فأخر ما قدم وغسل ما بعده وإن كان قد تطاول غسل ما نسي وحده
قال بن حبيب لا يعجبني ذلك لأنه إذا فعل ذلك فقد أخر من الوضوء ما ينبغي أن يقدم والصواب غسل ما بعده إلى تمام الوضوء قال وكذلك قال لي بن الماجشون ومطرف
وجملة قول مالك في هذه المسألة أنه يستحب لمن نكس وضوءه ولم يصل أن يستأنف الوضوء على نسق الآية ثم يصلي فإن صلى ثم ذكر ذلك لم نأمره بإعادة الصلاة لكنه يستحب له استئناف الوضوء على النسق لما يستقبل ولا يرى ذلك واجبا عليه
وقال المتأخرون من المالكيين ترتيب الوضوء عند مالك سنة لا ينبغي تركها ولا يفسدون صلاة من صلى بوضوء منكوس
وبمثل قول مالك قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي والليث بن سعد والمزني صاحب الشافعي وداود بن علي كلهم يقولون من غسل ذراعيه أو رجليه قبل أن يغسل وجهه أو قدم غسل رجليه قبل غسل يديه أو مسح رأسه قبل غسل وجهه عامدا أو غير عامد فذلك يجزيه إذا أراد بذلك الوضوء الصلاة
وحجتهم أن الواو لا توجب التعقيب ولا تعطي رتبة عند جماعة البصريين من
143

النحويين وقالوا في قول العرب أعط زيدا وعمرا دينارا دينارا إن ذلك إنما يوجب الجمع بينهما في العطاء ولا يوجب تقدمة زيد على عمرو في العطاء قالوا فقوله تعالى * (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) * [المائدة 6] إنما يوجب ذلك الجمع بين الأعضاء المذكورة في الغسل ولا يوجب النسق
وقد قال الله تعالى * (وأتموا الحج والعمرة لله) * [البقرة 196] فبدأ بالحج قبل العمرة وجائز عند الجميع أن يعتمر الرجل قبل أن يحج
وكذلك قوله تعالى " وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة البقرة 43]
وجائز لمن وجب عليه إخراج زكاته في حين صلاة أن يبدأ بإخراج الزكاة ثم يصلي الصلاة في وقتها عند الجميع
وكذلك قوله تعالى " فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله " [النساء 92]
لا يختلف العلماء أنه جائز لمن وجب عليه في قتل الخطأ إخراج الدية وتحرير الرقبة أن يخرج الدية ويسلمها قبل أن يحرر الرقبة وهذا منسوق بالواو وهذا كثير في القرآن
فدل ذلك أن الواو لا توجب رتبة قالوا ولسنا ننكر - إذا صحب الواو بيان يوجب التقدمة - أن ذلك كله لموضع البيان كما ورد البيان بالإجماع في قوله " أركعوا واسجدوا " [الحج 77] وقوله عليه السلام في الصفا والمروة ((نبدأ بما بدأ الله به) * (1)
وإنما قلنا إن حق الواو في اللغة التسوية لا غير حتى يأتي البيان بغير ذلك فنحفظه
قالوا ولو كانت الواو توجب الرتبة ما احتاج النبي - عليه السلام - أن يبين الابتداء بالصفا وإنما بين ذلك إعلاما لمراد الله من الواو بذلك الموضع ولم يختلف في أنه ينبغي أن يبدأ بما بدأ الله به وإنما التنازع فيمن لم يفعل ما دل عليه
وقد روي عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود أنهما قالا ((لا نبالي بأي أعضائنا بدأنا في الوضوء إذا أتممت وضوئي)) وهم أهل اللسان ولم يبن لهم من الآية إلا معنى الجمع لا معنى الترتيب
144

وقد قال الله تعالى * (يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين) * [آل عمران 43]
ومعلوم أن السجود بعد الركوع وإنما أراد الجمع لا الرتبة وليس وضوءه - عليه السلام - على نسق الآية أبدا - بيانا لمراد الله من آية الوضوء كبيانه لركعات الصلوات لأن آية الوضوء بينة مستغنية عن البيان والصلوات مجملة مفتقرة إليه
هذه جملة ما احتج به كثير من القائلين بقول مالك والكوفيين في مسألة تنكيس الوضوء
وقال الشافعي وسائر أصحابه إلا المزني وأحمد بن حنبل وأبو عبيد القاسم بن سلام وإسحاق بن راهويه وأبو ثور - كلهم يقول من نكس وضوءه عامدا أو ناسيا لم يجزئه ولا تجزئه صلاة حتى يكون وضوءه على نسق الآية
وإلى هذا ذهب أبو مصعب صاحب مالك وذكره عن أهل المدينة ومعلوم أن مالكا منهم وإمام فيهم
قال أبو مصعب من قدم في الوضوء يديه على وجهه ولم يتوضأ على ترتيب الآية فعليه الإعادة لما صلى بذلك الوضوء
واحتج القائلون بهذا القول من الشافعيين وغيرهم بأن قالوا الواو توجب الرتبة والجمع جميعا وذكروا ذلك عن الكسائي والفراء وهشام بن معاوية
قالوا وذلك زيادة في فائدة الخطاب في قول القائل أعط زيدا وعمرا
قالوا ولو كانت الواو توجب الرتبة أحيانا كما قال * (اركعوا واسجدوا) * ولا توجبها أحيانا كما قال * (واسجدي واركعي) * لكان في فعل رسول الله بيان لمراد الله
تعالى من ذلك لأنه لم يتوضأ قط منذ افترض الله عليه الوضوء للصلاة إلا على نسق الآية فصار ذلك فرضا كما كان بيانه لعدد ركعات الصلوات ومقادير الزكوات فرضا
وضعفوا الحديث المذكور عن علي وبن مسعود وقالوا هذا منقطع لا يصح لأن حديث علي انفرد به عبد الله بن عمرو الجملي ولم يسمع من علي
وحديث بن مسعود إنما يرويه مجاهد عن بن مسعود ومجاهد لم يسمع من بن مسعود والمنقطع من الحديث لا تجب به حجة
قالوا على أن حديث بن مسعود ليس فيه من صحيح النقل إلا قوله ((ما أبالي باليمنى بدأت أو باليسرى)) وهذا ما لا تنازع فيه إلا ما في الابتداء باليمنى من الاستحباب رجاء البركة ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحب التيامن في أمره كله
قالوا وقد روي عن علي أنه قال ((أنتم تقرون الوصية قبل الدين وقضى رسول
145

الله صلى الله عليه وسلم أن الدين قبل الوصية)) وهو مشهور ثابت عن علي
قالوا فهذا علي قد أوجبت عنده (أو) التي هي في أكثر أحوالها بمعنى الواو - القبل والبعد فالواو عنده أحرى بهذا
وقد قال بن عباس ما ندمت على شيء لم أكن عملت به ما ندمت على المشي إلى بيت الله ألا أكون مشيت لأني سمعت الله تعالى يقول * (يأتوك رجالا وعلى كل ضامر) * [الحج 27] قيد أبا لرجال
فهذا بن عباس قد صرح بأن الواو توجب عنده القبل والبعد والترتيب
وعن عون بن عبد الله في قوله تعالى " ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها " [الكهف 49]
قال ضج والله القوم من الصغائر قبل الكبائر فهذا أيضا مثل ما تقدم عن بن عباس
وقد ذكرنا الخبرين عنهما بأسانيدهما في التمهيد
قالوا وحروف العطف كلها قد أجمعوا على أنها توجب الرتبة إلا الواو فإنهم اختلفوا فيها فالواجب أن يكون حكمها حكم أخواتها من حروف العطف
وأما قوله تعالى * (يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين) * فجائز أن تكون عبادتها في شريعتها السجود قبل الركوع
وإن صح أن ذلك ليس كذلك فالوجه فيه أن الله تعالى أمرها بالقنوت وهو الطاعة ثم السجود وهو الصلاة بعينها كما قال تعالى * (وأدبار السجود) * [ق 40] يريد أدبار الصلوات
ثم قال " واركعي مع الراكعين آل عمران 43] أي اشكري مع الشاكرين
ومنه قوله تعالى " وخر راكعا وأناب ص 24] أي سجد شكرا لله
وكذلك قال بن عباس إنها سجدة شكر
قالوا وقد قال الله تعالى * (اركعوا واسجدوا) * [الحج 77] فأجمعوا أن السجود بعد الركوع
واحتجوا أيضا بقوله عليه السلام نبدأ بما بدأ الله به فبدأ بالصفا (1 " وقال " إن الصفا والمروة من شعائر الله البقرة 158]
قالوا ومن الدليل على الترتيب في أعضاء الوضوء دخول المسح بين الغسلين لأنه
146

لو قدم ذكر الرجلين وأخر المسح لما فهم المراد من تقديم المسح فأدخل المسح بين الغسلين ليعلم أنه قدم على الرجلين ليثبت ترتيب الرأس قبل الرجلين ولولا ذلك لقال فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برؤوسكم ولما احتاج أن يأتي بلفظ ملتبس محتاج إلى التأويل لولا فائدة الترتيب في ذلك
ألا ترى أن تقديم الرأس ليس من جعل الرجلين ممسوحتين فالفائدة وجوب الترتيب ولهذا وردت الآية بدخول المسح بين الغسلين والله أعلم
قالوا وليس الصلاة والزكاة في التقدمة من هذا الباب في شيء لأنهما فرضان مختلفان أحدهما في بدن والاخر في بدن وقد يجب أحدهما على من لا يجب عليه الآخر وكذلك الدية والرقبة شيئان لا يحتاج فيهما إلى الرتبة
وأما الطهارة ففرض واحد مرتبط بعضه ببعض كالركوع والسجود وكالصفا والمروة اللذين أمرنا فيهما بالترتيب
قالوا والفرق بين جمع زيد وعمرو في العطاء وبين أعضاء الوضوء أنه ممكن أن يجمع بين زيد وعمرو في عطية وليس ذلك ممكنا في أعضاء الوضوء إلا على الرتبة فالواجب ألا يقدم بعضها على بعض لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك قط ولو جاز لفعله لأنه كان إذا خير بين أمرين أتاهما وربما اختار أيسرهما فلما لم يفعل ذلك دل على أن الرتبة في الوضوء كهي في الركوع والسجود المجتمع عليهما والله أعلم
ورجحوا قولهم بالاحتياط الواجب في أداء الفرائض قالوا لأن من توضأ على النسق وصلى كانت صلاته تامة بإجماع
هذا جملة ما احتج به أصحاب الشافعي لهذه المسألة ولهم إدخالات واعتراضات وعليهم مثلها يطول الكتاب بذكرها ولا معنى للإتيان بها والله أعلم
((2 - باب وضوء النائم إذا قام إلى الصلاة))
40 - مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
147

قال ((إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه (1) فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده))
ولم يختلف الرواة لهذا الحديث عن مالك في الموطأ وغيره في قوله ((فليغسل يده)) ولم يقل مرة ولا مرتين ولا ثلاثا وهي رواية الأعرج عن أبي هريرة
وقد ذكرنا في التمهيد من تابعه على ذلك من أصحاب أبي هريرة ومن قال فيه مرتين ومن قال فيه ثلاثا كل ذلك بالأسانيد الصحاح
ورواه سفيان بن عيينة عن أبي الزناد بإسناده فقال فيه ثلاثا فقط وجعله على حديثه عن بن شهاب الزهري في ذلك
وفي هذا الحديث من الفقه إيجاب الوضوء من النوم لقوله ((فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه)) وهو أمر مجتمع عليه في النائم المضطجع إذا غلب عليه النوم واستثقل نوما
41 - مالك عن زيد بن أسلم أن عمر بن الخطاب قال إذا نام أحدكم مضطجعا فليتوضأ
42 - مالك عن زيد بن أسلم أن تفسير هذه الآية * (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) * [المائدة 6] أن ذلك إذا قمتم من المضاجع يعني النوم
واختلف العلماء فيما يوجب الوضوء من النوم
فقال مالك من نام مضطجعا أو ساجدا فليتوضأ ومن نام جالسا فلا وضوء عليه إلا أن يطول نومه
وهو قول الزهري وربيعة والأوزاعي في رواية الوليد بن مسلم عنه قال من نام قليلا لم ينتقض وضوؤه فإن تطاول ذلك توضأ
وبه قال أحمد بن حنبل
وروى الوليد بن مسلم عن الأوزاعي أنه سأل بن شهاب الزهري عن الرجل
148

ينام جالسا حتى استثقل قال إذا استثقل نوما فإنا نرى أن يتوضأ
وأما إن كان نومه غرارا ينام ويستيقظ ولا يغلبه النوم فإن المسلمين قد كان ينالهم ذلك ثم لا يقطعون صلاتهم ولا يتوضؤون منه
قال الوليد سمعت أبا عمرو الأوزاعي يقول إذا استثقل نوما توضأ
وروى محمد بن خالد عن الأوزاعي قال لا وضوء من النوم وإن توضأ ففضل أحدثه وإن ترك فلا حرج ولم يذكر عنه الفصل بين أحوال النائم
وسئل الشعبي عن النوم فقال إن كان غرارا لم ينقض الطهارة
قال أبو عمر الغرار القليل من النوم
قال جرير
(ما بال نومك بالفراش غرارا
* لو كان قلبك يستطيع لطارا (1))
وقال أبو حنيفة وأصحابه لا وضوء إلا على من نام مضطجعا أو متوركا
وقال أبو يوسف إن تعمد النوم في السجود فعليه الوضوء
وقال الثوري والحسن بن حي لا وضوء إلا على من اضطجع
وهو قول حماد بن أبي سليمان والحكم بن عتيبة وإبراهيم النخعي وهو ظاهر قول عمر لأنه خصص المضطجع فوجب أن يكون ما عداه بخلافه
وروى أبو خالد الدالاني - واسمه يزيد عن قتادة عن أبي العالية عن بن عباس ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنما الوضوء على من نام مضطجعا (2)
وهو عند أهل الحديث منكر لم يروه مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم غير أبي خالد الدالاني عن قتادة بإسناده
وقال الليث بن سعد إذا اتضع للنوم جالسا فعليه الوضوء ولا وضوء على القائم والجالس وإذا غلبه النوم توضأ
وقال الشافعي على كل نائم الوضوء إلا الجالس وحده فكل من زال عن حد الاستواء ونام فعليه الوضوء
وسواء نام قاعدا أو ساجدا أو قائما أو راكعا أو مضطجعا
149

وهو قول الطبري وداود بن علي
وروي عن علي وبن مسعود وبن عمر أنهم قالوا [من نام جالسا فلا وضوء عليه
وروي عن بن عمر أنه قال] وجب الوضوء على كل نائم خفق برأسه خفقات
وروي عنه خفقة أو خفقتين
والخبر عنه بإسناده في التمهيد
وقال الحسن وسعيد بن المسيب إذا خالط النوم قلب أحدكم واستغرق نوما فليتوضأ
وروي ذلك أيضا عن بن عباس وأبي هريرة وأنس بن مالك
وبه قال إسحاق وأبو عبيد وهو معنى قول مالك
وروينا عن أبي عبيدة أنه قال كنت أفتي أن من نام جالسا لا وضوء عليه حتى خرج إلى جنبي يوم الجمعة رجل فنام فخرجت منه ريح فقلت له قم فتوضأ فقال لم أنم فقلت
بلى وقد خرجت منك ريح تنقض الوضوء فجعل يحلف أنه ما كان ذلك منه وقال لي بل منك خرجت فتركت ما كنت أعتقد في نوم الجالس وراعيت غلبة النوم ومخالطته للقلب
وكان عبد الله بن المبارك يقول إن نام جالسا أو ساجدا في صلاته فلا وضوء عليه وإن نام ساجدا في غير الصلاة فعليه الوضوء وكذلك إن تعمد النوم جالسا وهو في صلاة فعليه الوضوء
وروي عن أبي موسى الأشعري ما يدل على أن النوم ليس عنده بحدث على أي حال كان حتى يحدث النائم حدثا غير النوم لأنه كان ينام ويوكل من يحرسه
وروي عن عبيدة نحو ذلك وهو يشبه ما نزع إليه أصحاب مالك إلا أنهم يوجبون الوضوء مع الاستثقال من أجل ما يداخله من الشك
وروي عن سعيد بن المسيب أنه كان ينام مرارا مضطجعا ينتظر الصلاة ثم يصلي
وقال المزني صاحب الشافعي النوم حدث كسائر الأحداث قليله وكثيره يوجب الوضوء
وحجته حديث صفوان بن عسال المرادي قال ((كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأمرنا ألا ننزع خفافنا من غائط أو بول أو نوم ولا ننزعها إلا من جنابة))
وقد ذكرناه بإسناده في التمهيد
150

قال ففي هذا الحديث التسوية بين الغائط والبول والنوم مع القياس على ما أجمعوا عليه في أن غلبة النوم وتمكنه حدث يوجب الوضوء فوجب أن يكون قليلة حدثا كما أن كثيرة عند الجمهور حدث
وليس فيما ذكرنا عن الأشعري وعبيدة ما يخرق الإجماع
وقد بينا ذلك في ((التمهيد)) وكذلك بينا الحجة على المزني هنالك أيضا
واحتج من ذهب إلى فعل الأشعري وقول عبيدة بحديث يروى عن النبي - عليه السلام - من حديث علي وحديث معاوية أنه قال ((العينان وكاء (1) السه (2) فإذا نامت العينان استطلق الوكاء)) (3)
وقد احتج بهذا الحديث أصحابنا لمالك أيضا وهما حديثان ضعيفان لا حجة فيهما من جهة النقل وقد ذكرتهما في ((التمهيد))
وأصح ما في هذا الباب من جهة الإسناد حديث بن عمر قال ((شغل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العشاء ليلة فأخرها حتى رقدنا في المسجد ثم استيقظنا ثم رقدنا ثم استيقظنا ثم خرج علينا فقال ليس أحد ينتظر الصلاة غيركم)) (4)
ومثله حديث أنس قال ((كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق رؤوسهم ثم يصلون ولا يتوضؤون)) (5)
وقد ذكرنا هذين الحديثين مع سائر الأحاديث الواردة في النوم عن النبي - عليه السلام - في ((التمهيد)) وكذلك عن الصحابة والتابعين وكلها تدل على أن من نام جالسا لا شيء عليه
ومثله حديث مالك عن نافع عن بن عمر أنه كان ينام جالسا ثم يصلي ولا يتوضأ
قال أبو عمر في قوله - عليه السلام - ((فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده)) ما يدل على نوم الليل وشبهه
151

ومعلوم منه في الأغلب الاضطجاع والاستثقال فعلى هذا خرج الحديث والله أعلم
وأما قوله في الحديث ((فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه)) فإن أكثر أهل العلم ذهبوا إلى أن ذلك ندب لا إيجاب وسنة لا فرض
وكان مالك يستحب لكل من كان على غير وضوء سواء قام من نوم أو غيره أن يغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه
وروى أشهب [عنه] في ذلك تأكيدا واستحبابا وروى بن وهب وبن نافع عن مالك في المتوضئ يخرج منه ريح لحدثان وضوئه ويده طاهرة قال يغسل يده قبل أن يدخلها في الإناء أحب إلي
قال بن وهب وقد كان قبل ذلك يقول إن كانت يده طاهرة فلا بأس أن يدخلها في الوضوء قبل أن يغسلها
ثم قال أحب إلي أن يغسل يده إذا أحدث قبل أن يدخلها في وضوئه وإن كانت طاهرة
وذكر بن عبد الحكم عنه قال من استيقظ من نومه أو مس فرجه أو كان جنبا أو امرأة حائضا فأدخل أحدهم يده في وضوئه فليس ذلك يضره كان الماء قليلا أو كثيرا إلا أن يكون في يده نجاسة
قال ولا يدخل أحدهم يده في وضوء قبل أن يغسلها
قال أبو عمر الفقهاء على هذا كلهم يستحبون ذلك ويأمرون به
فإن أدخل أحد يده بعد قيامه من نومه في وضوئه قبل أن يغسلها ويده نظيفة لا نجاسة فيها فلا شيء عليه ولا يضر ذلك وضوءه
وقد ذكرنا في ((التمهيد)) عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم كانوا يتوضؤون من المطاهر
وفي ذلك ما يدلك على أن إدخال اليد السالمة من الأذى في إناء الوضوء لا يضره ذلك
وقد كان الحسن البصري فيما روى عنه أشعث الحمراني يقول إذا استيقظ أحدكم من النوم فغمس يده في الإناء قبل أن يغسلها أهراق ذلك الماء
وإلى هذا ذهب أهل الظاهر فلم يجيزوا الوضوء به لأنه عندهم ماء منهي عن استعماله لأن عندهم المنهي عنه لا معنى له إلا هذا كأنه قال فلا يدخل يده فإن فعل لم يتوضأ بذلك الماء
152

وإلى هذا المعنى ذهب بعض أصحاب داود
ومحصل مذهب داود عند أكثر أصحابه أن فاعل ذلك عاص إذا كان بالنهي عالما والماء طاهر والوضوء به جائز ما لم تظهر فيه نجاسة
وروى هشام عن الحسن قال من استيقظ من نومه فغمس يده في وضوئه فلا يهرقه
وعلى هذا جماعة الفقهاء
واختلف أيضا عن الحسن البصري في الفرق بين نوم الليل والنهار في ذلك فروي عنه أنه كان يسوي بين نوم الليل والنهار في غسل اليد وروي عنه أنه كان لا يجعل نوم النهار مثل نوم الليل ويقول لا بأس إذا استيقظ من نوم النهار أن يغمس يده في وضوئه
وإلى هذا ذهب أحمد بن حنبل
وقد ذكرنا الإسنادين والروايتين عن الحسن في ((التمهيد))
وذكر أبو بكر الأثرم قال سمعت أحمد بن حنبل يسأل عن الرجل يستيقظ من نومه فيغمس يده في الإناء قبل أن يغسلها فقال أما بالنهار فليس به عندي بأس وأما إذا قام من النوم بالليل فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها قيل لأحمد فما يصنع بذلك قال إن صب الماء وأبدله فهو أحسن وأسهل
قال أبو عمر إنما خرج ذكر المبيت على الأغلب ونوم النهار في معنى نوم الليل في القياس لأنه نوم كله
وفي قولهم بت أراعي النجوم دليل على أن المبيت غير النوم وأنه يكون بنوم وبغير نوم
واحتج بعض أصحاب الشافعي لمذهبه في الفرق بين ورود الماء على النجاسة وبين ورودها عليه بحديث أبي هريرة هذا قال ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خاف على النائم المستيقظ من نومه أن تكون في يده نجاسة - أمره بطرح الماء من الإناء على يده ليغسلها ولم يأمر بإدخال يده في الإناء ليغسلها فيه بل نهاه عن ذلك فدلنا ذلك مع نهيه عن البول في الماء الذائم وحديث ولوغ الكلب في الإناء (1) وأمره
153

بالصب على بول الأعرابي (1) على أن النجاسة إذا وردت على الماء أفسدته وإذا ورد الماء عليها طهرها إلا أن تغلب عليه لأنها لو أفسدته مع وروده عليها لم تصح طهارة أبدا في شيء من الأشياء وشرطوا أن يكون ورود الماء على النجاسة صبا مهراقا
قال أبو عمر هذا خلاف أصلهم أن الشك لا يوجب شيئا وأن كل شيء على أصل حاله حتى يتبين خلافه
وينبغي أن تكون اليد على طهارتها حتى تتبين فيها النجاسة وهذا عين الفقه وعليه الفقهاء لأن غسل اليد ها هنا هو عندهم ندب واستحسان واحتياط لا علة كما زعم من قال إن ذلك كان منه - عليه السلام - لأنهم كانوا يستنجون بالأحجار فيبقى للأذى هناك آثار فربما جالت اليد فأصابت ذلك الأذى فندبوا إلى غسل اليد قبل إدخالها في الإناء لذلك
وقد يجوز أن يكون الأصل في مخرج النهي ما ذكر ثم ثبت الندب في ذلك لمن استنجى بالماء قياسا على المحدث النائم
وينتقض على الشافعي أصله في ورود الماء على النجاسة وورودها عليه باعتبار القلتين لأن النجاسة عنده لو ورد الماء عليها فيما دون القلتين أفسدته إلا أن تكون غسلا وصبا مهراقا
وسيأتي القول في حكم الماء في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله
وأما معنى قول الله تعالى * (إذا قمتم إلى الصلاة) * [المائدة 6] فقال زيد بن أسلم وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي إن ذلك القيام من النوم
وروي عن عمر وعلي ما يدل على أن الآية عني بها تجديد الوضوء لكل صلاة
فيكون - على هذا - الوضوء لمن قام إلى الصلاة وهو محدث واجبا وعلى غير محدث ندبا وفضلا
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة إلا يوما واحدا عام الفتح
وكان جماعة من الصحابة يفعلون ذلك
وقد ذكرنا الآثار بذلك كله في ((التمهيد
154

وروي عن بن عباس وسعد بن أبي وقاص وأبي موسى الأشعري وجابر بن عبد الله وعبيدة السلماني وأبي العالية الرياحي وسعيد بن المسيب والأسود بن يزيد والحسن البصري وإبراهيم النخعي والسري أيضا - أن الآية عني بها حال القيام إلى الصلاة على غير الطهر وهذا أمر مجتمع عليه لا خلاف بين الفقهاء فيه والحمد لله
وروى سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه ((أن النبي - عليه السلام - كان يتوضأ لكل صلاة فلما كان يوم الفتح صلى خمس صلوات بوضوء واحد فقال له عمر يا رسول الله فعلت شيئا لم تكن تفعله فقال عمدا فعلته يا عمر)) (1)
أي ليعلم الناس ذلك
[ومن الدليل أن الأمر بالوضوء على من وجب عليه القيام إلى الصلاة في قوله عز وجل * (إذا قمتم إلى الصلاة) * الآية - ليس بواجب إلا إن كان محدثا على غير وضوء ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يجمع بين الصلاتين في أسفاره ولا يتوضأ إلا للأولى منهما وكذلك فعل بعرفة والمزدلفة في جمعة بين الصلاتين بهما
ومن الدليل على ذلك أيضا ما روي في الآثار الصحاح أنه صلى الله عليه وسلم أكل كتفا مستها النار وطعاما مسته النار وقام إلى الصلاة ولم يتوضأ (2)
وإنما ذكرنا هذا لأنا قد أوضحنا اختلاف العلماء في الوضوء مما غيرت النار في موضعه من هذا الكتاب وأتينا بالآثار المروية في إيجاب الوضوء على من أكل ما غيرته النار من الطعام وبالله التوفيق
155

وكان بن عمر يتوضأ لكل صلاة فقيل له في ذلك [فقال] ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من توضأ على طهر كتبت له عشر حسنات)) (1)
وهذا كله يدلك على معنى [الفرض وموضع الفضل وهذا أمر مجمع عليه فسقط القول فيه
وفي هذا الحديث من الفقه أيضا الفرق] بين ورود النجاسة على الماء وبين ورود الماء عليها لأن النبي - عليه السلام - نهي القائم إلى وضوئه من نومه أن يغمس يده في الإناء لئلا يكون فيها من النجاسة ما يفسد الماء عليه وأمره بصب الماء على يده وغسلها ببعض ماء الإناء الذي نهاه أن يغمس يده فيه
فدل على أن الماء يطهر النجاسة بأن يصب عليها حتى تزول بقليل الماء زالت أو كثيرة على حسب المعهود عند الناس من تطهير الأنجاس ولم تعتبر في ذلك قلة ولا كثرة ولا مقدار كما قال عليه السلام في الماء الذي ترد عليه النجاسة وهذا بين لمن وفق وبالله التوفيق
قال مالك الأمر عندنا أن لا يتوضأ من رعاف ولا من دم ولا من قيح يسيل من الجسد ولا يتوضأ إلا من حدث يخرج من ذكر أو من دبر أو نوم
أما قوله الأمر عندنا إلى آخر كلامه - فإنه لم يرد الأمر المجتمع عليه لأن الخلاف موجود بالمدينة في الرعاف
وكلامه هذا ليس على ظاهره عند جميع أصحابه لأنهم لا يختلفون في الملامسة مع اللذة والقبلة مع اللذة أن ذلك يوجب الوضوء وكذلك مس الذكر
وسيأتي ذكر ذلك في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله
وأما الدم السائل والفصد والحجامة فجمهور أهل المدينة على أن لا وضوء في شيء من ذلك
وبه قال الشافعي وهو الحق لأن الوضوء المجتمع عليه لا يجب أن ينتقض إلا بسنة أو إجماع
وإنما أوجب العراقيون الوضوء في ذلك قياسا على المستحاضة لقول النبي - عليه السلام - ((إنما ذلك عرق وليس بالحيضة)) (2) ثم أمرها بالوضوء لكل صلاة
156

والكلام عليهم يأتي عند ذكرنا حديث المستحاضة إن شاء الله
وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي الفصد والحجامة والرعاف وكل نجس يخرج من الجسد من أي موضع يوجب الوضوء
وقال الأوزاعي إذا كان دما عبيطا (1) فعليه الوضوء وإن كان مثل دم اللحم فلا وضوء فيه
وأما قوله ولا يتوضأ إلا من حدث يخرج من قبل أو دبر أو نوم فإنه أراد ما كان من الأحداث معتادا وهو البول والرجيع (2) ففيهما وردت الكناية لقوله تعالى * (أو جاء أحد منكم من الغائط) * [النساء 43 والمائدة 6] ولا وضوء عنده في الدم الخارج من الدبر ولا في الدود إلا أن يخرج معهما شيء من الأذى لأن ذلك ليس من معنى ما قصد بذكر المجيء من الغائط
وذكر بن عبد الحكم عن مالك قال من خرج من دبره دود أو دم فلا وضوء عليه
وقال سحنون من خرج من دبر دود فعليه الوضوء لأنها لا تسلم من بلة
وقال الشافعي كل ما خرج من السبيلين الذكر والدبر من دود أو حصاة أو دم أو غير ذلك ففيه الوضوء لإجماعهم على أن المذي (3) والودي (4) فيهما الوضوء وليسا من المعتادات التي يقصد الغائط لهما
وكذلك ما يخرجه الدواء ليس معتادا وفيه الوضوء بإجماع
وقد أجمعوا على أن الريح الخارجة من الدبر حدث يوجب الوضوء واجتمعوا على أن الجشاء ليس فيه وضوء بإجماع وقد أجمعوا على أن الريح الخارجة من الدبر حدث فدل ذلك على مراعاة المخرجين فقط
وبقولي الشافعي في ذلك كله يقول بن عبد الحكم
قال الشافعي والدود والدم إذا خرجا من غير المخرج فلا وضوء في شيء منهما ووافق أبو حنيفة وأصحابه في الدود وخالفوه في الدم على ما قدمنا عنهم
وعن الأوزاعي في الدود روايتان إحداهما كقول الشافعي والأخرى كقول مالك
157

والقيح والدم عند مالك سواء وقد رخص في القيح بعض العلماء
وأما النوم فقد مضى حكمه فيما تقدم ويأتي ذكر القلس (1) والرعاف (2) في موضعه إن شاء الله
((3 - باب الطهور للوضوء))
43 - مالك عن صفوان بن سليم عن سعيد بن سلمة من آل بني الأزرق عن المغيرة بن أبي بردة وهو من بني عبد الدار أنه سمع أبا هريرة يقول جاء رجل إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ من ماء البحر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((هو الطهور ماؤه الحل ميتته))
اختلف العلماء في هذا الإسناد فقال محمد بن عيسى الترمذي سألت البخاري عنه فقال حديث صحيح
فقلت له إن هشيما يقول فيه المغيرة بن أبي برزة
فقال وهم فيه إنما هو المغيرة بن بردة
وهشيم إنما وهم في الإسناد وهو في المقطعات أحفظ
وقال غير البخاري سعيد بن سلمة رجل مجهول لم يرو عنه غير صفوان بن سليم وحده
قال ولم يرو عن المغيرة بن أبي بردة غير سعيد بن سلمة
قال أبو عمر قد روى عنه يحيى بن سعيد الأنصاري رواه عنه سفيان بن عيينة وغيره
ذكر بن أبي عمرو الحميدي والمخزومي عن بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن رجل من أهل المغرب يقال له المغيرة بن أبي عبد الله بن أبي بردة ((أن ناسا من بني مدلج أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله إنا نركب البحر)) وساق الحديث بمعنى حديث مالك
قد ذكرناه في التمهيد وهو مرسل لا يصح فيه الاتصال
158

ويحيى بن سعيد أحفظ من صفوان بن سليم وأثبت من سعيد بن سلمة
وليس إسناد هذا الحديث مما تقوم به حجة عند أهل العلم بالنقل لأن فيه رجلين غير معروفين بحمل العلم في رواية صفوان بن سليم وفي رواية يحيى بن سعيد نحو ذلك في المغيرة بن أبي بردة
وقد روي هذا الحديث أيضا عن النبي - عليه السلام - من حديث الفراسي رجل من بني فراس من بني مدلج بإسناد ليس بالقائم أيضا في حديث الليث بن سعد
وقد ذكرناه في التمهيد
والفراسي مذكور في الصحابة غير معروف
قال أبو عمر المغيرة بن أبي بردة كان مع موسى بن نصير في مغازيه بالمغرب وكان موسى يؤمره على الجيوش هنالك وفتح في المغرب فتوحات
وهذا إسناد وإن لم يخرجه أصحاب الصحاح فإن فقهاء الأمصار وجماعة من أهل الحديث متفقون على أن ماء البحر طهور بل هو أصل عندهم في طهارة المياه الغالبة على النجاسات المستهلكة لها وهذا يدلك على أنه حديث صحيح المعنى يتلقى بالقبول والعمل الذي هو أقوى من الإسناد المنفرد
واختلف رواة الموطأ فبعضهم يقول من آل بني الأزرق كما قال يحيى وبعضهم يقول من آل الأزرق وكذلك قال القعنبي وبعضهم يقول من آل بن الأزرق وكذلك قال بن القاسم وبن بكير وهذا كله غير متضاد
وقد جاء عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص كراهية الوضوء بماء البحر
وليس في أحد حجة مع خلاف السنة
وقد روى قتادة عن موسى بن سلمة الهذلي قال سألت بن عباس عن الوضوء بماء البحر فقال هما البحران يريد قول الله تعالى * (هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج) * [الفرقان 53] لا تبال بأيهما توضأت
وهذا إجماع من علماء الأمصار الذين تدور عليهم وعلى أتباعهم الفتوى وكذلك عندهم كل ماء مستبحر كثير غير متغير بما يقع فيه من الأنجاس
وهذا موضع القول في الماء واختلاف ما فيه للعلماء
فأما الكوفيون فالنجاسة تفسد عندهم قليل الماء وكثيره إذا حلت فيه إلا الماء المستبحر الذي لا يقدر آدمي على تحريك جميعه قياسا على البحر الذي قال فيه رسول الله ((هو الطهور ماؤه الحل ميتته
159

وأما مالك فاختلف عنه في ذلك فروى المصريون عنه خلاف رواية أهل المدينة
فأما رواية أصحابه المصريين عنه فإن بن القاسم روى عن مالك في الجنب يغتسل في حوض من الحياض التي تسقى فيها الدواب ولم يكن غسل ما به من الأذى إن قد أفسد الماء وكذلك جوابه في إناء الوضوء يقع فيه مثل الإبر من البول إنه يفسده
وروي عن مالك في الجنب يغتسل في الماء الدائم الكثير مثل الحياض التي تكون بين مكة والمدينة ولم يكن غسل ما به من الأذى إن ذلك لا يفسد الماء
وهذا مذهب بن القاسم وأشهب وبن عبد الحكم كلهم يقول إن الماء القليل يفسده قليل النجاسة وإن الماء الكثير لا يفسده إلا ما غلب عليه من النجاسة أو غيرها فغيره عن حاله في لونه وطعمه وريحه
ولم يحدوا حدا بين القليل والكثير
ونحو هذا قال الشافعي إلا أنه حد في ذلك حدا لحديث القلتين فقال ما كان دون القلتين فحلت فيه نجاسة أفسدته وإن لم تظهر فيه وإذا بلغ الماء قلتين لم يفسده ما يحل فيه
من النجاسة إلا أن تظهر فيه فتغير منه لونا أو طعما أو ريحا
وحجته فيما ذهب إليه من ذلك حديث عبد الله بن عمر عن النبي - عليه السلام - أنه قال ((إذا كان الماء قلتين لم تلحقه نجاسة ولم يحمل خبثا)) (1)
وبعض رواته يقولون ((إذا كان الماء قلتين أو ثلاثا))
وقد ذكرنا أسانيد هذا الحديث والعلة فيه في ((التمهيد))
واحتج الشافعي بأن الماء القليل تلحقه النجاسة إذا حلت فيه وإن لم يظهر فيه شيء منها بحديث ولوغ الكلب في الإناء (2) وبحديث ((إذا قام أحدكم من نومه)) (3) وبنحو ذلك من الأحاديث
والقلتان عنده وعند أصحابه نحو خمس مئة رطل على ما قدرهما بعض رواه هذا الحديث
160

واعتمد فيه على قول بن جريج وهو أحد أئمة الحديث والفقه والتفسير قال فيه قلتان من قلال هجر
وقد تكلم إسماعيل في هذا الحديث ورده بكثير من القول في كتاب ((أحكام القرآن))
وقد رد الشافعيون عليه قوله في ذلك بضروب من الرد وممن نقض ذلك منهم أبو يحيى في كتاب ((أحكام القرآن))
ومذهب إسماعيل في الماء هو مذهب أهل المدينة من أصحاب مالك وغيرهم وهو خلاف مذهب البصريين من أصحاب مالك في الماء
ولو ذهب إسماعيل في ذلك مذهب المصريين المالكيين ما احتاج إلى رد حديث القلتين ولا إلى الإكثار في ذلك
وروى أهل المدينة عن مالك - ذكر ذلك أبو مصعب وأحمد بن المعذل وغيرهما - أن الماء لا تفسده النجاسة التي تحل فيه قليلا كان أو كثيرا في بئر أو مستنقع أو إناء إلا أن تظهر فيه وتغيره وإن لم يكن ذلك فهو طاهر على أصله
وهو قول بن وهب من أصحاب مالك المصريين وإلى هذا مال إسماعيل وأبو الفرج والأبهري وسائر المالكيين البغداديين وبه قالوا وله احتجوا وإليه ذهبوا وذكر بن وهب عن بن لهيعة عن خالد بن أبي عمران أنه سأل القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله عن الماء الراكد الذي لا يجري تموت فيه الدابة أيشرب منه أو تغسل منه الثياب فقالا انظر بعينك فإن رأيته لا يغيره ما وقع فيه فنرجوا ألا يكون به بأس
قال وأخبرني يونس عن بن شهاب كل ماء فيه فضل عما يصيبه من الأذى حتى لا يغير ذلك لونه ولا طعمه ولا ريحه فهو طاهر يتوضأ به
قال وأخبرني عبد الجبار بن عمر عن ربيعة قال إذا وقعت الميتة في البئر فلم تغير طعمها ولا ريحها فلا بأس أن يتوضأ منها وإن رئي فيها الميتة
قال وإن تغيرت نزع منها قدر ما يذهب الرائحة عنها
وإلى هذا ذهب بن وهب وروى هذا عن بن عباس وبن مسعود وبن المسيب - على اختلاف عنهم - وسعيد بن جبير وهو قول الأوزاعي والليث بن سعد والحسن بن صالح وإليه ذهب داود بن علي ومن اتبعه وهو مذهب أهل البصرة
وهو الصحيح عندنا في النظر وثابت الأثر
وقد ذكرنا الآثار بذلك في التمهيد
161

حديث أبي هريرة وأنس في صب رسول الله الذنوب على بول الإعرابي إذ بال في المسجد (1)
ومنها حديث بن عباس عن النبي - عليه السلام - أنه قال ((الماء لا ينجسه شيء)) (2)
ومنها حديث أبي سعيد الخدري عن النبي - عليه السلام - أنه سئل عن بئر بضاعة فقيل له إنه يطرح فيها لحوم الكلاب والعذرة وأوساخ الناس فقال ((الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب عليه فغيره)) (3)
وهذا إجماع لا خلاف فيه إذا تغير بما غلب عليه من نجس أو طاهر أنه غير مطهر
وقال سهل بن سعد الساعدي ((سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من بئر بضاعة بيدي))
وقد ذكرنا آثار هذا الباب المسندة وغيرها من أقاويل الصحابة والتابعين في باب إسحاق بن أبي طلحة من التمهيد
وذكرنا هناك الحجة لأهل المدينة على الشافعي والكوفيين بما فيه كفاية والحمد لله
وقد حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو علي عبد الصمد بن أبي سكينة الحلبي بحلب قال حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سهل بن سعد الساعدي قال قالوا يا رسول الله إنك تتوضأ من بئر بضاعة وفيها ما ينجي الناس والمحايض والجنب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((الماء لا ينجسه شيء)) (4)
وهذا اللفظ غريب في حديث سعد ومحفوظ من حديث أبي سعيد الخدري لم يأت به في حديث سهل غير بن أبي حازم والله أعلم
162

وقال قاسم هذا من أحسن شيء روي في بئر بضاعة
وأما قوله عليه السلام ((الحل ميتته)) فإن العلماء اختلفوا معنى ذلك على ما جرى به القول عنهم وثبت مفسرا عنهم من مذاهبهم في كتاب الصيد إن شاء الله إذ ذلك أولى به
44 - مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن حميدة بنت أبي عبيدة بن فروة عن خالتها كبشة بنت كعب بن مالك وكانت تحت بن أبي قتادة الأنصاري أنها أخبرتها أن أبا قتادة دخل عليها فسكبت له وضوءا فجاءت هرة لتشرب منه فأصغى لها الإناء (1) حتى شربت
قالت كبشة فرآني انظر إليه (2) فقال أتعجبين يا ابنة أخي قالت فقلت نعم فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((إنها ليست بنجس إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات)) (3)
قال مالك لا بأس به إلا أن يرى على فمها نجاسة
هكذا قال يحيى حميدة بنت أبي عبيدة بن فروة ولم يتابعه أحد على قوله ذلك وهو غلط منه
وأما سائر رواة الموطأ فيقولون حميدة بنت عبيدة بن رفاعة
إلا أن زيد بن الحباب قال فيه عن مالك حميدة بنت عبيدة بن رافع
والصواب رفاعة بن رافع الأنصاري
وقد ذكرناه في كتابنا في الصحابة بما يجب من ذكره هناك
وانفرد يحيى أيضا بقوله عن خالتها كبشة وسائر رواة الموطأ يقولون عن كبشة ولا يذكرون خالتها
واختلف في رفع الحاء ونصبها من حميدة فبعضهم يقول حميدة وبعضهم يقول حميدة وهو الأكثر
163

وتكنى حميدة أم يحيى وهي امرأة إسحاق بن عبد الله بن طلحة
كذلك ذكر يحيى القطان في هذا الحديث عن مالك
وقد ذكرناه بإسناده ومتنه في التمهيد
وكذلك قال فيه بن المبارك عن مالك إلا أنه قال كبشة امرأة أبي قتادة وهذا وهم وإنما هي امرأة بن أبي قتادة
في هذا الحديث إباحة اتخاذ الهر لانتفاع به ومعلوم أن ما جاز الانتفاع به جاز شراؤه وبيعه إلا ما خص بدليل وهو الكلب الذي نهي عن ثمنه
وفيه أن الهر ليس ينجس ما شرب منه وأن سؤره طاهر
وهذا قول مالك والشافعي وأصحابهما والأوزاعي وأبي يوسف القاضي والحسن بن صالح بن حي
فإن ظهرت في فمه نجاسة في الماء الذي شرب منه فالجواب فيه ما مضى في الحديث الذي قبل هذا عن العلماء على أصولهم في الماء
وفيه دليل على أن ما أبيح لنا اتخاذه فسؤره طاهر لأنه من الطوافين علينا
ومعنى الطوافين علينا الذين يداخلوننا ويخالطوننا ومنه قوله تعالى في الأطفال * (طوافون عليكم بعضكم على بعض) * [النور 58] ولذلك قال بن عباس في الهر إنها من متاع البيت
وقد ذكرنا الخبر عنه بذلك في التمهيد
وطهارة الهر دالة على أنه ليس في حي نجاسة إلا ما قام الدليل على نجاسة عينه بالتحريم وهو الخنزير وحده وأن النجاسة إنما هي في الميتات والأبوال والعذرات وإذا لم يكن في حي نجاسة بدليل ما وصفنا دل ذلك على أن الكلب ليس بنجس وأنه لا نجاسة في عينه لأنه من الطوافين علينا وما أبيح لنا اتخاذه للصيد والزرع والماشية فيقاسه الهر
وإذا صح هذا صح أن الأمر بغسل الإناء من ولوغه سبعا عبادة لا لنجاسة
وسيأتي القول في هذا المعنى عند حديث الكلب إن شاء الله
وقد روي عن عائشة عن النبي - عليه السلام ((أنه كان تمر به الهرة فيصغي لها الإناء فتشرب منه ثم يتوضأ بفضلها)) (1) وهو حديث لا بأس به
وكذلك حديث أبي قتادة هذا لا بأس بإسناده أيضا
164

وممن روينا عنه أن الهر ليس بنجس ولا بأس بفضل سؤره للوضوء والشرب العباس بن عبد المطلب وعلي وبن عباس وبن عمر وعائشة وأبو قتادة والحسن والحسين وعلقمة وإبراهيم وعكرمة وعمار بن ياسر
واختلف في ذلك عن أبي هريرة والحسن البصري فروى عطاء عن أبي هريرة أن الهر كالكلب يغسل منه الإناء سبعا وروى أبو صالح ذكوان عن أبي هريرة قال السنور من أهل البيت
وروى أشعث عن الحسن أنه كان لا يرى بأسا بسؤر السنور
وروى يونس عن الحسن أنه قال يغسل الإناء من ولوغه وهذا يحتمل أن يكون رأى في فمه نجاسة ليصح مخرج الروايتين عنه
ولا نعلم أحدا من أصحاب رسول الله روى عنه في الهر أنه لا يتوضأ بسؤره إلا أبا هريرة على اختلاف عنه
وأما التابعون فروينا عن عطاء بن أبي رباح وسعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين أنهم أمروا بإراقة ما ولغ فيه الهر وغسل الإناء منه
وسائر التابعين بالحجاز والعراق يقولون في الهر إنه طاهر لا بأس بالوضوء من سؤره
وروى الوليد بن مسلم قال أخبرني سعيد عن قتادة عن بن المسيب والحسن أنهما كرها الوضوء بفضل الهر
قال الوليد فذكرت ذلك لأبي عمرو الأوزاعي ومالك بن أنس فقالا توضأ فلا بأس به وإن وجدت غيره
وقال أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي الذي صار إليه جل أهل الفتوى من أهل الأمصار من أهل الأثر والرأي جميعا إنه لا بأس بسؤر السنور اتباعا للحديث الذي رويناه يعني عن أبي قتادة عن النبي - عليه السلام -
قال وممن ذهب إلى ذلك مالك في أهل المدينة والليث في أهل مصر والأوزاعي في أهل الشام وسفيان الثوري فيمن وافق من أهل العراق وكذلك قول الشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل وأبي ثور وإسحاق وأبي عبيدة
قال وكان النعمان يكره سؤره وقال أن توضأ به أجزأه وخالفه أصحابه وقالوا لا بأس به
قال أبو عمر ما حكاه المروزي عن أصحاب أبي حنيفة فليس كما حكاه عندنا وإنما خالفه من أصحابه أبو يوسف وحده وأما محمد بن الحسن وزفر بن الهذيل
165

والحسن بن زياد وغيرهم فإنهم يقولون بقول أبي حنيفة وأكثرهم يروون أنه لا يجزئ الوضوء بفضل الهر ويحتجون لذلك
ويروى عن أبي هريرة وبن عمر أنهما كرها الوضوء بسؤر الهر وهو قول بن أبي ليلى
وقد اختلف أيضا عن الثوري في سؤر الهر وذكر في ((جامعه)) أنه يكره سؤر ما لا يؤكل لحمه وهو ممن يكره أكل الهر
وذكره المروزي قال حدثنا عمرو بن زرارة قال حدثنا أبو النضر قال حدثني الأشجعي عن سفيان قال لا بأس بفضل السنور
ولا أعلم لمن كره سؤره حجة من أنه لم يبلغه حديث أبي قتادة أو لم يصح عنده وبلغه حديث أبي هريرة في الكلب فقاس الهر على الكلب
ومن حجتهم أيضا ما رواه قرة بن خالد عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام - أنه قال ((طهور الإناء إذا ولغ فيه الهر أن يغسل مرة أو مرتين))
شك قرة
وهذا الحديث لم يرفعه إلا قرة وحده وقرة ثقة ثبت إلا أنه خالفه فيه غيره فرووه عن بن سيرين عن أبي هريرة قوله
وفي هذا الحديث ما يدل أن أبا قتادة مذهبه أن الماء اليسير تفسده النجاسة وإن لم تظهر فيه لأنه احتج على المرأة التي تعجبت من إصغائه الإناء للهر بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((إنها ليست بنجس)) فلو كانت عند تنجس ما أصغى لها الإناء لأنها كانت تفسده
ومعلوم أن شرب الهر لا يظهر منه في الإناء ما يغيره
وقد مضى القول في الماء وما في حكمه عند حلول النجاسة فيه كثيرا أو قليلا عند العلماء في الحديث قبل هذا والحمد لله
ومعنى إصغاء أبي قتادة للهرة الإناء لتشرب منه امتثال ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((في كل ذي كبد رطبة أجر
166

ولما كانت الهرة وهي سبع يفترس ويأكل الميتة - أنه ليس بنجس دل ذلك أن كل حي لا نجاسة فيه ما دام حيا حاشى الخنزير المحرم العين فإنه قد اختلف فيه فقيل إنه إذا ماس الماء أفسده وهو حي وقيل إنه لا يفسده على حديث في عمر السباع
وظاهر قوله عليه السلام ((الماء لا ينجسه شيء)) يعني إلا ما غلب عليه وظهر فيه من النجاسة بدليل الإجماع على ذلك
وإلى هذا يذهب أكثر أصحابنا وبه نقول
وكذلك الطير كله ما أكل منه الجيف وما لم يأكل لا بأس بسؤره إلا أن تكون في فمه نجاسة تغير الماء اعتبارا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهر
وقد روي عن بن عمر أن الكلاب كانت تقبل وتدبر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يغسل شيء من أثرها
وهذا يدل على أنه ليس في حي نجاسة وإنما النجاسة في الميت وفيما ثبت معرفته عند الناس من النجاسات المجتمع عليها والتي قامت الدلائل بنجاستها كالبول والغائط وسائر ما يخرج من المخرجين والخمر
وقد يكون من الميتة ما ليس بنجس وهو كل شيء ليس له دم سائل مثل بنات وردان (1) والزنبور والعقرب والجعلان (2) والصرار والخنفساء ومض أشبه ذلك
والأصل فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم يطرحه)) (3) ومنهم من يرويه فليمقله (4) والمعنى سواء
وقد ذكرنا الخبر بذلك في التمهيد
ومعلوم أن الذباب مع ضعف خلقه إذا غمس في الماء والطعام مات فيه
167

قال إبراهيم النخعي ما ليس له نفس سائله فليس بنجس يعني بالنفس الدم
وقد رخص قوم في أكل دود التين وما في الطعام من السوس وفراخ النحل واستجازوا ذلك لعدم النجاسة فيه
وكره أكل ذلك جماعة من أهل العلم وقالوا لا يؤكل شيء من ذلك لأنه ليس له حلق ولا لبة فيذكى ولا من صيد الماء فيحل بغير التذكية
واحتجوا بحديث النبي - عليه السلام - في حديث الذباب ((فليغمسه ثم ليطرحه)) وقالوا لو كان مباحا لم يأمر بطرحه
وأما القملة والبرغوث فأكثر أصحابنا يقولون لا يؤكل طعام ماتا فيه أو أحدهما لأنهما نجسان وهما من الحيوان الذي عيشه من دم الحيوان
وكان سليمان بن سالم القاضي الكندي من أصحاب سحنون يقول إن ماتت القملة في الماء طرح ولم يشرب وإن وقعت في الدقيق ولم تخرج في الغربال لم يؤكل الخبز وإن ماتت في شيء جامد طرحت كالفأرة
قال غيره من أصحابنا أما البراغيث فهي كالذباب وكلاهما متناول للدم ويعيش منه
وأما القملة فهي من الإنسان كدمه والدم ما لم يكن مسفوحا لا يقطع بتحريمه وإن كره
قال أبو عمر الذي أقول إن ما لا دم له ولا دم فيه وإن كان يعيش من الدم فالأصل فيه حديث الذباب وأما ما ظهر فيه الدم فهو نجس يعتبر فيه ما أوضحنا من أصول العلماء في الماء وفي قليل الدم وكثيره
وأما الماء فقليل النجاسة يفسده وليس كالماء الذي جعله الله طهورا مطهرا طاهرا وبالله التوفيق
45 - مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن عمر بن الخطاب خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص حتى وردوا حوضا فقال عمرو بن العاص لصاحب الحوض يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السباع
168

فقال عمر بن الخطاب يا صاحب الحوض لا تخبرنا (1) فإنا نرد على السباع (2) وترد علينا
وهذا يدل على أن الماء إذا لم تظهر فيه نجاسة فهو طاهر
ويدل على أن الحيوان لا نجاسة فيه
ويدل على أن السؤال فيما لا يحتاج إليه يجب إنكاره والاحتجاج عليه
وقال غيره إنما رد عمر على عمرو قوله أنه في سعة من ترك السؤال
وقالوا إنما نهى عمر صاحب الحوض عن الخبر لأنه لو أخبره بورودها وولوغها ضاق عليه
وذكروا ما رواه بن علية وغيره عن بن عون قال قلت للقاسم بن محمد أرأيت الغدير يلغ فيه الكلب ويشرب منه الحمار قال ينتظر أحدنا إذا انتهى إلى الغدير حتى يسأل أي كلب ولغ فيه وأي حمار شرب منه أي ليس علينا أن نسأل عن ذلك
قال أبو عمر المعروف من عمر في احتياطه للدين أنه لو كان ولوغ السباع والحمر والكلاب يفسد ماء الغدير لسأل عنه ولكنه رأى ذلك لا يضر والله أعلم
46 - مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول إن كان الرجال والنساء في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتوضؤون جميعا (3)
في هذا الحديث دليل واضح على إبطال قول من قال لا يتوضأ بفضل المرأة لأنه معلوم إذا اغترفا جميعا من إناء واحد كما جاء من غير رواية مالك وقد رواه هشام بن عمار عن مالك كذلك فكل واحد منهما متوضئ بفضل صاحبه
وقد صح عن عائشة أنها قالت ((كنت أتوضأ أنا ورسول الله من إناء واحد من الجنابة
169

والأصل في الماء الطهارة لأن الله قد جعله طهورا فهو كذلك حتى يجمع المسلمون أنه نجس بما دخله والمؤمن لا نجاسة فيه والنجاسة فيه أعراض داخلة والمرأة في ذلك كالرجل إذا سلما مما يعرض من النجاسات
وللعلماء في هذه المسألة خمسة أقوال
أحدها الكراهية لأن يتطهر الرجل بفضل المرأة
والثاني أن تتطهر المرأة بفضل وضوء الرجل
والثالث أنهما إذا شرعا جميعا في التطهر فلا بأس به وإذا خلت المرأة بالطهور فلا خير في أن يتطهر بفضل طهورها
والرابع أنه لا بأس أن يتطهر كل واحد منهما بفضل طهور صاحبه ما لم يكن الرجل جنبا والمرأة حائضا أو جنبا وهو قول بن عمر
(والذي) عليه جماعة فقهاء الأمصار أنه لا بأس بفضل وضوء المرأة وسؤرها حائضا كانت أو جنبا خلت به أو شرعا معا
إلا أحمد بن حنبل فإنه قال إذا خلت المرأة بالطهور فلا يتوضأ منه الرجل إنما الذي رخص فيه أن يتوضأ جميعا
وذكر حديث الحكم بن عمرو الغفاري حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا أحمد بن زهير حدثنا أبي حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثنا شعبة قال حدثنا عاصم الأحول عن أبي حاجب عن الحكم الغفاري أن النبي عليه السلام ((نهى أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة)) (1) لا يدري فضل سؤرها أو فضل طهورها
قال أبو عمر الآثار في الكراهية في هذا الباب مضطربة لا تقوم بها حجة والآثار الصحاح هي الواردة بالإباحة مثل حديث بن عمر هذا ومثل حديث جابر وحديث عائشة وغيرهم كلهم يقول إن الرجال كانوا يتطهرون مع النساء جميعا من إناء واحد وأن عائشة كانت تفعل ذلك وميمونه وغيرهما من أزواجه صلى الله عليه وسلم وعلى ذلك جماعة أئمة الفتوى
وقد روي عن بن عباس أنه سئل عن فضل وضوء المرأة فقال هن ألطف بنانا وأطيب ريحا
وهذا منه جواب بجواز فضلها على كل حال
170

وهذا قول زيد بن ثابت وجمهور الصحابة والتابعين
إلا أن بن عمر كره فضل الجنب والحائض
وسيأتي ذكر ذلك إن شاء الله
((4 - باب ما لا يجب منه الوضوء))
47 - مالك عن محمد بن عمارة عن محمد بن إبراهيم عن أم ولد لإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أنها سألت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إني امرأة أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر قالت أم سلمة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((يطهره ما بعده))
القول في طول الذيل للمرأة وأن ذلك من سنتها - يأتي عند قوله - عليه السلام ((ترخيه شبرا ولا تزيد على الذراع)) (1) في كتاب ((الجامع)) في حديث مالك عن أبي بكر بن نافع إن شاء الله
اختلف الفقهاء في طهارة الذيل للمرأة وأن ذلك سنتها على المعنى المذكور في هذا الحديث
فقال مالك معناه في القشب اليابس والقذر الجاف الذي لا يتعلق منه بالثوب شيء فإذا كان هكذا كان ما بعده من المواضع الطاهرة تطهيرا للثوب
وهذا عنده ليس تطهيرا للنجاسة لأن النجاسة عنده لا يظهرها إلا الماء وإنما هو تنظيف
وهو قول الشافعي وزفر وأحمد بن حنبل كل هؤلاء لا يطهر النجاسة عندهم إلا الغسل بالماء
وقال الأثرم سمعت أحمد بن حنبل يسأل عن حديث أم سلمة ((يطهره ما بعده)) فقال ليس هذا عندي على أنه أصابه بول فمر بعده على الأرض فطهره ولكنه يمر بالمكان يتقذره فيمر بمكان أطيب منه فيطهره
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد كل ما أزال عين النجاسة فقد طهرها والماء وغيره في ذلك سواء
171

قالوا ولو زالت بالشمس أو بغيرها حتى لا تدرك معها ولا يرى ولا يعلم موضعها فذلك تطهير لها
وهو قول داود وقد كان يلزم داود أن يقوده أصله فيقول إن النجاسة المجتمع عليها لا تزول إلا بإجماع على زوالها ولا إجماع إلا مع القائلين بأنها لا يزيلها إلا الماء الذي خصه الله بأن جعله طهورا
وقد أمر رسول الله بغسل النجاسات بالماء لا بغير وبذلك أمر أسماء فقال لها في إزالة دم الحيض من ثوبها حتيه (1) واقرصيه (2) بالماء (3)
وإذا ورد التوقيف والنص على الماء لم يجز خلافه
وللكوفيين آثار يحتجون بها منها حديث موسى بن عبد الله بن يزيد عن امرأة من بني عبد الأشهل قالت ((قلت يا رسول الله إن لنا طريقا إلى المسجد منتنة فكيف نفعل إذا مطرنا أو تطهرنا قال أليس بعدها طريق أطيب منها قلت بلى فقال فهذه بهذه)) (4)
وقد ذكرناه من طرق في التمهيد وهو محتمل للتأويل أيضا
ومن حجتهم أيضا قوله عليه السلام ((إذا وطئ أحدكم بخفيه أو نعليه في الأذى فالتراب لها طهور)) (5)
وهو حديث مضطرب الإسناد لا يثبت اختلاف فيه على الأوزاعي وعلى سعيد) بن أبي سعيد اختلافا لا يسقط به الاحتجاج
واحتجوا أيضا بقول عبد الله بن مسعود ((كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نتوضأ من موطئ)) (6)
وهذا أيضا يحتمل التأويل
واحتجوا بالإجماع على أن الخمر إذا تخللت من ذاتها طهرت وطابت
ومعلوم أن طرقها لم يغسل بماء وهذا أيضا يحتمل التأويل
172

وعلى الكوفيين للحجازين حجاج يطول ذكره واعتراضات بعضهم في ذلك على بعض لا سبيل إلى إيرادها في مثل هذا الكتاب
مالك أنه رأى ربيعة بن عبد الرحمن يقلس (1) مرارا وهو في المسجد فلا ينصرف ولا يتوضأ حتى يصلي
قال يحيى وسئل مالك عن رجل قلس طعاما هل عليه وضوء فقال ليس عليه وضوء وليتمضمض من ذلك وليغسل فاه
قال يحيى وسئل مالك هل في القيء وضوء قال لا ولكن ليتمضمض من ذلك وليغسل فاه وليس عليه وضوء
وقد تقدم من قول مالك أنه قال لا وضوء إلا مما يخرج من ذكر أو دبر أو نوم يعني ثقيلا
وقد تقدم القول في هذا المعنى وما فيه لمالك وسائر العلماء إلا القيء والقلس فنذكره هنا بما فيه من التنازع
أما مالك والشافعي وأصحابهما فلا وضوء في القيء والقلس عند واحد منهم
وقال أبو حنيفة ومحمد في القيء والقلس كله الوضوء إذا ملأ الفم إلا البلغم
وقال أبو يوسف وفي البلغم أيضا إذا ملأ الفم
وقال الثوري والحسن بن حي وزفر في قليل القلس والقيء وكثيره الوضوء إذا ظهر على اللسان
وقال الأوزاعي لا وضوء فيما يخرج من الجوف إلى الفم من الماء إلا الطعام فإن في قليله الوضوء وهو قول بن شهاب في القيء الوضوء
وحجة من أوجب الوضوء في القيء حديث ثوبان ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ قال وأنا صببت له وضوءه))
وهذا حديث لا يثبت عند أهل العلم بالحديث ولا في معناه ما يوجب حكما لأنه يحتمل أن يكون وضوءه ها هنا غسل فمه ومضمضته وهو أصل لفظ الوضوء في اللغة وهو مأخوذ من الوضاءة
والنظر يوجب أن الوضوء المجتمع عليه لا ينتقض إلا بسنة ثابتة لا مدفع فيها أو إجماع ممن تجب الحجة بهم
173

ولم يأمر الله تعالى بإيجاب الوضوء من القيء ولا ثبت به سنة عن رسوله ولا اتفق الجميع عليه
48 - مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر حنط (1) ابنا لسعيد بن زيد وحمله ثم دخل المسجد فصلى ولم يتوضأ
وإنما أدخل مالك هذا الحديث إنكارا لما روي عن النبي - عليه السلام - أنه قال ((من غسل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ))
وهو حديث يرويه بن أبي ذئب عن صالح مولى التوءمة عن أبي هريرة عن النبي - عليه السلام - وقد جاء من غير هذا الوجه أيضا وإعلاما أن العمل عندهم بخلافه
ولم يختلف قوله أنه لا وضوء على من حمل ميتا واختلف قوله في الغسل من غسل الميت وسيأتي ذكر ذلك في الجنائز إن شاء الله
ومعنى الحديث المذكور عن أبي هريرة - والله أعلم - أن من حمل ميتا فليكن على وضوء لئلا تفوته الصلاة عليه وقد حمله وشيعه لا أن حمله حدث يوجب الوضوء فهذا تأويله والله أعلم
((5 - باب ترك الوضوء مما مست النار))
49 - مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ
أشبع مالك هذا الباب في موطئه وقواه لقوة الخلاف بين السلف بالمدينة وغيرها فيه
فذكر حديثين مسندين حديث بن عباس وحديث سويد بن النعمان أن النبي - عليه السلام - أكل السويق (2) ولم يزد على أن تمضمض وصلى
وذكر عن أبي بكر وعمر وعلي وعثمان وبن عباس وعامر بن ربيعة
174

وأبي بن كعب وأبي طلحة الأنصاريين أنهم كانوا لا يرون على من أكل شيئا مسته النار وضوءا وأنهم كانوا يأكلون ذلك ولا يحدثون قبل الصلاة وبعد أكلهم ما مست النار - وضوءا
ودل ذلك من فعله على عمله باختلاف الآثار المسندة في هذا الباب
فأعلم الناظر في موطئه أن عمل الخلفاء الراشدين بترك الوضوء مما مست النار دليل على أنه منسوخ وأن الآثار الواردة بذلك ناسخة للآثار الموجبة له وقد جاء هذا المعنى عن مالك أيضا
وروى محمد بن الحسن أنه سمع مالكا يقول إذا جاء عن النبي - عليه السلام - حديثان مختلفان وبلغنا أن أبا بكر وعمر عملا بأحد الحديثين وتركا الآخر كان في ذلك دلالة على أن الحق فيما عملا به
وقد ذكرت في التمهيد حديث الأوزاعي قال كان مكحول يتوضأ مما مست النار حتى لقي عطاء بن أبي رباح فأخبره عن جابر أن أبا بكر الصديق أكل ذراعا أو كتفا ثم صلى ولم يتوضأ فترك مكحول الوضوء فقيل له أتركت الوضوء فقال لأن يقع أبو بكر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم
وذكرنا حديث حماد بن زيد قال سمعت أيوب يقول لعثمان البتي إذا سمعت أبدا خلافا عن النبي - عليه السلام - وبلغت فانظر ما كان عليه أبو بكر وعمر فشد به يديك
قال حماد بن زيد سمعت خالدا الحذاء يقول كانوا يرون أن الناسخ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان عليه أبو بكر وعمر
وذكرنا حديث الليث عن يحيى بن سعيد قال كان أبو بكر وعمر أتبع الناس لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم
حدثنا عبد الرحمن بن يحيى قال حدثنا أحمد بن سعيد قال حدثنا محمد بن زبان قال حدثنا زكريا بن يحيى كاتب العمري قال حدثني المفضل بن فضالة عن عياش بن عباس القتباني أنه كتب إلى يحيى بن سعيد الأنصاري يسأله هل يتوضأ مما مست النار فكتب إليه هذا مما يختلف فيه وقد بلغنا عن أبي بكر وعمر أنهما أكلا مما مسته النار ثم صليا ولم يتوضآ
وقد حدثنا خلف بن القاسم قال حدثنا بن أبي العقب بدمشق قال حدثنا أبو زرعة قال حدثنا علي بن عياش قال حدثنا بن أحمد عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال ((كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار
175

وأما الآثار الموجبة للوضوء على من أكل شيئا مسته النار فكثيرة منها حديث بن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي سفيان بن المغيرة بن الأخنس ((أنه دخل على أم حبيبة فسقته سويقا ثم قام يصلي فقالت توضأ يا بن أخي فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول توضؤوا مما مست النار))
رواه معمر ويونس وبن جريج وغيرهم عن بن شهاب
ومنها حديث بن أبي ذئب عن بن شهاب عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه زيد بن ثابت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((توضؤوا مما غيرت النار)) (1)
ورواه أبو عاصم وغيره عن بن أبي ذئب
وكانت عائشة تقول ((كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم الوضوء مما مست النار))
وهذا كان مذهب بن شهاب كان الناسخ هو الأمر بالوضوء مما مست النار ويقول لو كان غير ذلك ما خفي على أم المؤمنين عائشة وأم حبيبة
وجاء عن أبي هريرة في هذا الباب نحو مذهب بن شهاب لأن أبا هريرة روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أنه أكل كتف شاة فمضمض وغسل يديه ثم صلى))
وروي عنه ((توضؤوا مما مست النار))
وكان أبو هريرة يتوضأ مما مست النار
وممن روي عنه إيجاب الوضوء مما مست النار زيد بن ثابت وعبد الله بن عمر - على اختلاف عنه - وأنس بن مالك - على اختلاف عنه - وبه قال خارجة بن زيد بن ثابت وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وابنه عبد الملك ومحمد بن المنكدر وعمر بن عبد العزيز وبن شهاب فهؤلاء كلهم مدنيون
وقال به من أهل العراق أبو قلابة والحسن البصري ويحيى بن يعمر وأبو مجلز لاحق بن حميد وكل هؤلاء بصريون
ولا أعلم كوفيا قال به
حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد قال حدثنا أحمد بن سليمان ببغداد قال أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال حدثنا عبد الرزاق عن معمر قال كان يتوضأ مما غيرت النار فقال له بن جريج أنت شهابي يا أبا عروة
وروى عفان عن همام عن قتادة قال قال لي سليمان بن هشام إن هذا
176

يعني الزهري - لا يدعنا نأكل شيئا إلا أمرنا أن نتوضأ يعني مما مست النار فقلت إني سألت عنه سعيد بن المسيب فقال لي إذا أكلته فهو طيب ليس عليك فيه وضوء فإذا خرج فهو خبيث عليك فيه الوضوء
وقد ذكرنا الآثار عن هؤلاء كلهم في التمهيد
وذكرنا في حديث بن وهب عن يونس قال قال لي بن شهاب أطعني وتوضأ مما غيرت النار فقلت لا أطيعك وأدع سعيد بن المسيب ورواه الليث عن يونس مثله
حدثنا خلف بن قاسم قال حدثنا أبو الميمون عبد الرحمن بن عمر بدمشق قال حدثنا أبو زرعة قال حدثنا علي بن عياش قال حدثنا شعيب بن أبي حمزة قال مشيت بين الزهري ومحمد بن المنكدر في الوضوء مما مست النار
وكان الزهري يراه وبن المنكدر لا يراه فاحتج الزهري بأحاديث فلم أزل أختلف بينهما حتى رجع بن المنكدر إلى قول الزهري
وقال عبد الرزاق كان معمر يتوضأ غيرت النار فقال بن جريج أنت شهابي يا أبا عروة
قال عبد الرزاق وكان بن شهاب يتوضأ مما مست النار
وقد قيل لابن شهاب الوضوء مما مست النار كان في أول الإسلام فقال أعيا الفقهاء أن يعرفوا الناسخ والمنسوخ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان منسوخا ما خفي على أم المؤمنين
ونحو هذا حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا هارون بن معروف قال حدثنا حمزة عن رجاء بن أبي سلمة عن أبي رزين قال سمعت الزهري يقول أعيا الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا ناسخ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنسوخه
وروى أبو عاصم عن بن أبي ذئب عن بن شهاب عن عبد الملك بن أبي بكر عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه زيد بن ثابت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((توضؤوا مما غيرت النار)) (1)
قال أبو عمر ذهب بعض من تكلم في تفسير غريب حديث النبي - عليه السلام - إلى أن قوله - عليه السلام - ((توضؤوا مما غيرت النار)) عني به غسل اليدين لأن الوضوء مأخوذ من الوضاءة وهي النظافة فكأنه قال طهروا أيديكم من غمر (2) ما مسته النار ومن دسم ما مسته النار
177

قال أبو عمر هذا لا معنى له عند أهل العلم ولو كان كما ظنه هذا القائل - لكان دسم ما لم تغيره النار وودكه (1) وغمره لا يتنظف منه ولا تغسل منه اليد
وهذا يدلك على ضعف تأويله وسوء نظره وقله علمه بما جاء عن السلف من التنازع في إيجاب الوضوء مما مست النار على ما ذكرنا عنهم في هذا الكتاب
وقد أوردنا في التمهيد عند ذكر حديث مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن بن عباس هذا المذكور ها هنا - زيادات في هذا المعنى من جهة الأثر والنظر لم أر أن لذكرها وجها هنا فمن أراد الوقوف عليها تأملها هناك
ولما اختلفت الآثار في هذا الباب استدل الفقهاء بما وصفنا من أفعال الخلفاء الراشدين من أنهم علموا الناسخ فعملوا به وتركوا المنسوخ
وليس فيما روي عن عائشة وأم حبيبة حجة على عمل الخلفاء
قال أبو عمر وقد روي عن أم سلمة في ذلك خلاف ما روي عنهما مما يوافق عمل الخلفاء
وقد ذكرنا ذلك عنهما في التمهيد
ومن جهة النظر فإن الأصل ألا ينتقض وضوء مجتمع عليه إلا بحديث مجتمع عليه أو بدليل من كتاب أو سنة لا معارض له
أخبرنا عبد الوارث حدثنا قاسم حدثنا بشر بن حماد حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن سفيان قال حدثني بن عون عن عبد الله بن شداد قال قال أبو هريرة ((الوضوء مما غيرت النار)) فقال مروان كيف يسأل أحد عن هذا وهنا أزواج النبي عليه السلام فأرسلني إلى أم سلمة فقالت ((جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد توضأ وضوءه للصلاة فناولته لحما أو كتفا ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ))
وممن قال بإسقاط الوضوء مما مست النار أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وبن عباس وبن مسعود وعامر بن ربيعة وأبي بن كعب وأبو الدرداء وأبو أمامة
وعلى ذلك جماعة فقهاء الأمصار مالك وأصحابه والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن حي وبن أبي ليلى والشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد وداود بن علي ومحمد بن جرير الطبري
إلا أن أحمد وإسحاق وطائفة من أهل الحديث يقولون من أكل شيئا من لحم الجزور خاصة فقد وجب عليه الوضوء
178

وليس ذلك عليه الوضوء في شيء مسته النار غير لحم الجزور
وقال أحمد بن حنبل فيه حديثان صحيحان حديث البراء وحديث جابر بن سمرة يعني عن النبي عليه السلام
وقد ذكرت الحديثين في التمهيد
وممن قال بقول أحمد بن حنبل في إيجاب الوضوء من لحم الجزور إسحاق وأبو ثور ويحيى بن يحيى النيسابوري وأبو خيثمة زهير بن حرب وهو قول محمد بن إسحاق
وأما مالك والشافعي وأبو حنيفة والثوري والليث بن سعد والأوزاعي فكلهم لا يرون في شيء مسته النار وضوءا لحم جزور كان أو غيره لأن أكثر الأحاديث فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل خبزا ولحما وأكل كتفا ونحو هذا ولم يخص لحم إبل من غير لحم إبل
وفي حديث سويد بن النعمان إباحة اتخاذ الزاد في السفر
وفي ذلك رد على الصوفية الذي يقولون لا ندخر بعد فإن غدا له رزق جديد
وفي قول الله تعالى للحاج * (وتزودوا) * [البقرة 197] ما يغني ويكفي
قال أهل التفسير السويق الكعك وفيه ما يلزم من المؤاساة عند نزول الحاجة وأن للسلطان أن يأخذ الناس ببيع فضول ما بأيديهم من الطعام بثمنه إذا اشتدت الحاجة إليه
وما كان منه نزرا اجتهد فيه بلا بدل ونحو هذا لأن المسلم أخو المسلم عليه أن ينصره ويواسيه ولا يجوز له ما استطاع ولا يحل له أن يعلم أن جاره طاو إلى جنبه وهو شبعان ولا يرمقه بما يمسك مهجته
وقد أوضحنا هذا المعنى في موضعه من هذا الكتاب
وقوله في السويق ((فأمر به فثري)) يعني أنه بل بالماء لما كان لحقه من اليبس والقدم
وفي حديث عمر دليل على أنه كان معه غيره
وفي ذلك إباحة اتخاذ الطعام والدعاء إليه - للسلطان وغيره
وأما حديث أنس حيث قال له أبي بن كعب وأبو طلحة أعراقية فقد زعم بعضهم أن عبد الرحمن بن يزيد الأنصاري الذي روى عن أنس هذا الحديث مجهول وذكر أن حديثه ذلك منكر لأن أبي بن كعب توفي سنة عشرين في خلافة عمر ولم
179

تكن العراق يومئذ ممن يضاف إليها مذهب لأنه لم يكن يومئذ إلا أصحاب محمد الذين افتتحوها ومن صحبهم في ذلك وهو مذهب بالمدينة عند أهل العلم أشهر وأكثر منه بالعراق
وهذا كله تحامل من قائله لأن عبد الرحمن بن يزيد هذا هو عندهم عبد الرحمن بن يزيد بن عقبة بن كريم الأنصاري يعرف بالصدق وإن لم يكن مشهورا بحمل العلم فإنه قد روى عنه رجال كبار موسى بن عقبة وبكير بن الأشج وعمرو بن يحيى وأسامة بن زيد الليث وقد روى عنه ثلاثة وقد قيل رجلان فليس بمجهول
وأبي بن كعب قد اختلف في وفاته فقيل توفي في خلافة عمر وقيل توفي في خلافة عثمان على حسب ما ذكرنا من ذلك في بابه من كتابنا في الصحابة
ومعنى قوله أعراقية أي بالعراق استفدت هذا العلم
ولو صح هذا دل على أن ذلك مذهب غير معروف بالمدينة إلا أن هذا المذهب بالمدينة عن زيد بن ثابت وبن عمر وعائشة وغيرهم معروف محفوظ في المصنفات وكذلك أبو طلحة معروف عنه ذلك أيضا
وقد ذكرنا في التمهيد حديث همام عن مطرف الوراق عن الحسن عن أنس بن مالك عن أبي طلحة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((توضؤوا مما غيرت النار))
وذكرنا قول همام قيل لمطرف وأنا عنده عمن أخذ الحسن الوضوء مما مست النار فقال أخذه الحسن عن أنس وأخذه أنس عن أبي طلحة وأخذه أبو طلحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهذا الحديث يعارض حديث عبد الرحمن بن زيد هذا وليس في هذا الباب شيء يعتمد عليه أصح مما قدمنا ذكره من عمل الخلفاء الراشدين وجمهور علماء المسلمين بترك الوضوء مما مست النار وأن ذلك عندهم على العمل بالناسخ وترك المنسوخ وبالله التوفيق
((6 - باب جامع الوضوء))
50 - مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الاستطابة (1) فقال ((أو لا يجد أحدكم ثلاثة أحجار
180

هكذا هذا الحديث عنه جماعة رواة الموطأ إلا بن القاسم في رواية سحنون رواه عن مالك عن هشام عن أبيه عن أبي هريرة
ورواه بعض رواة بن بكير عن بن بكير عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن أبي هريرة
وهذا خطأ وغلط ممن رواه عن مالك هكذا أو عن هشام أيضا أو عروة
وإنما الاختلاف فيه عن هشام بن عروة
فطائفة ترويه عن هشام بن عروة عن عمرو بن خزيمة المزني عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن أبيه ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الاستطابة ثلاثة أحجار ليس فيها رجيع ولا رمة)) (1) منهم أبو أمامة وعبدة بن سليمان وزائدة بن نمير
ورواه بن عيينة عن هشام بن عروة واختلف فيه عن بن عيينة
فرواه عبد الرزاق عن بن عيينة عن هشام بن عروة عن أبي وجزة عن خزيمة بن ثابت عن النبي - عليه السلام -
ورواه إبراهيم بن المنذر عن بن عيينة عن هشام بن عروة عن أبي وجرة عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن أبيه عن النبي عليه السلام
ورواه الحميدي عن بن عيينة عن هشام بن عروة عن أبيه عن النبي - عليه السلام - مرسلا كما رواه مالك
وكذلك رواه بن جريج عن هشام عن أبيه مرسلا كرواية مالك سواء
ورواه معمر عن هشام بن عروة عن رجل من مزينة عن أبيه عن النبي عليه السلام والاختلاف فيه على هشام كثير
قد تقصيناه في ((التمهيد))
وهما حديثان عند هشام قد أوضحنا عللهما فمن أراد الوقوف على ذلك من جهة النقل تأمله في ((التمهيد))
وأما غير هشام فرواه أبو حازم عن مسلم بن قرظ عن عروة عن عائشة عن النبي - عليه السلام -
وقد ذكرنا الأسانيد بذلك في ((التمهيد
181

وأما ذكر أبي هريرة فلا مدخل له عند أهل العلم بالإسناد في هذا الحديث لا من حديث مالك ولا من حديث عروة
وقد ثبت عن أبي هريرة من رواية أبي صالح وغيره عنه عن النبي - عليه السلام ((أنه أمر بثلاثة أحجار ونهي عن الروث والرمة)) (1)
وأما الاستطابة فهي إزالة الأذى عن المخرج بالحجارة أو بالماء
يقال فيه استطاب الرجل وأطاب إذا استنجى
ويقال رجل مطيب إذا فعل ذلك
قال الشاعر
(يا رخما قاظ على مصلوب
* يعجل كف الخارئ المطيب (2))
قاظ نام عليه في اليوم الصائف
والاستطابة والاستنجاء والاستجمار أسماء لمعنى واحد
وقد مضى معنى الاستجمار وما في ذلك لفقهاء الأمصار من الأحكام والمعاني فيما تقدم والحمد لله
وقد ذكرنا الإسناد في الثلاثة الأحجار في التمهيد في باب هشام من حديث عائشة وحديث خزيمة بن ثابت وحديث أبي هريرة وأبي أيوب الأنصاري وحديث السائب بن خلاد وحديث سلمان الفارسي كلها عن النبي - عليه السلام - في الأمر بثلاثة أحجار في الاستنجاء
وذكرنا من أوجبها من العلماء من حمل ذلك على الندب في العدد إذا زال الأذى فيما تقدم من هذا الكتاب والحمد لله
51 - مالك عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة (3) فقال ((السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء
182

الله بكم لاحقون وددت أني قد رأيت إخواننا)) (1) فقالوا يا رسول الله ألسنا بإخوانك قال ((بل أنتم أصحابي وأخواننا الذين لم يأتوا بعد وأنا فرطهم (2) على الحوض)) فقالوا يا رسول الله كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك قال ((أرأيت (3) لو كان لرجل خيل غر (4) محجلة (5) في خيل دهم (6) بهم (7) ألا يعرف خيله)) قالوا بلى يا رسول الله قال ((فإنهم يأتون يوم القيامة غرا (8) محجلين (9) من الوضوء وأنا فرطهم (10) على الحوض فلا يذادن (11) رجال عن حوضي كما يذاد البعير (12) الضال (13) أناديهم ألا هلم (14) ألا هلم ألا هلم فيقال إنهم بدلوا بعدك (15) فأقول فسحقا فسحقا فسحقا)) (16)
في هذا الحديث من الفقه إباحة الخروج إلى المقابر وزيارة القبور وهذا مجتمع عليه للرجال مختلف فيه للنساء
وقد ثبت عن النبي - عليه السلام - أنه قال ((نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ولا تقولوا هجرا فإنها تذكر الآخرة
183

وزار - عليه السلام - قبر أمه يوم الفتح في ألف مقنع
وزارت عائشة قبر أخيها عبد الرحمن
وزار بن عمر قبر أخيه عاصم
ولا خلاف في إباحة زيارة القبور للرجال وكراهيتها للنساء
واحتج بحديث بن عباس قال ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور والمتخذين عليهما المساجد والسرج)) (1)
وروي عن أبي هريرة مثله
وقد ذكرنا الآثار بأسانيدها في ((التمهيد)) عند قوله - عليه السلام - ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور))
وسيأتي ذلك وكشف معناه في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله
وأما قوله - عليه السلام - ((السلام عليكم)) فقد روي ذلك من وجوه عنه عليه السلام ((أنه كان إذا مر على القبور قال السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون غفر الله العظيم لنا ولكم))
وفي بعضها ((السلام عليكم دار قوم مؤمنين أنتم لنا فرط وإنا بكم لاحقون اللهم لا تحرمنا أجورهم ولا تفتنا بعدهم)) (3)
وقد ذكرنا الآثار بذلك في ((التمهيد))
وقد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم البقيع فسلم على الموتى ودعا لهم
وقال صخر بن أبي سمية رأيت عبد الله بن عمر قدم من سفر فقام على باب عائشة فقال السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبه
وقال أبو هريرة من دخل المقابر واستغفر لأهل القبور وترحم عليهم كان كمن شهد جنائزهم
وقال الحسن من دخل المقابر فقال اللهم رب الأجساد البالية والعظام النخرة خرجت من الدنيا وهي بك مؤمنة فأدخل عليها روحا منك وسلاما مني - كتب له بعددهم حسنات
184

وأظن قوله وسلاما مني مأخوذ من قوله - عليه السلام ((السلام عليكم))
وروي عن علي أنه أشرف على المقبرة فقال يا أهل القبور أخبرونا عنا بخبركم أما خبركم قبلنا فالنساء قد تزوجن والمال قد قسم والمساكن قد سكنها قوم غيركم ثم قال أما والله لو نطقوا لقالوا لم نر زادا خيرا من التقوى
وجاء عن عمر - رحمه الله - أنه مر على بقيع الغرقد فقال السلام عليكم يا أهل القبور أخبار ما عندنا أن نساءكم قد تزوجن ودوركم قد سكنت وأموالكم قد قسمت فأجابه هاتف يا عمر بن الخطاب أخبار ما عندنا أن ما قدمنا وجدنا وما أنفقنا فقد ربحنا وما خلفنا فقد خسرناه
وهذا من عمر وعلي على سبيل الاعتبار وما يذكر إلا أولو الألباب
أخبرنا أبو عبد الله عبيد بن محمد قراءة مني عليه سنة تسعين وثلاثمائة في ربيع الأول قال أملت علينا فاطمة بنت الريان المستملي في دارها بمصر في شوال سنة اثنتين وأربعين وثلاث مئة قالت حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي قال حدثنا بشر بن بكير عن الأوزاعي عن عطاء عن عبيد بن عمير عن بن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ما من أحد مر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام))
أخبرنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا عبدة بن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن ميناء أو عن ميناس قال خرج علينا رجل في يوم فيه دفء فأتى الجبان (1) فصلى ركعتين ثم أتى قبرا فاتكأ عليه فسمع صوتا ارتفع عني لا تؤذيني أنتم تعملون ونحن نعلم ولا نعمل لأن تكون لي مثل ركعتيك أحب إلي من الدنيا وما فيها
وروينا عن ثابت البناني قال بينما أنا بالمقابر إذا أنا بهاتف يهتف من ورائي يقول يا ثابت لا يغرنك سكوتها فكم من مغموم فيها والتفت فلم أر أحدا
وروى بن أبي ذئب عن عامر بن سعد أنه كان إذا خرج إلى قبور الشهداء يقول لأصحابه ألا تسلمون على الشهداء فيردون عليكم
وروى يوسف بن الماجشون عن محمد بن المنكدر أنه دخل على جابر بن عبد الله وهو يموت فقال أقرئ رسول الله عني السلام
وروى بن وهب عن عطاء بن أبي خالد قال حدثتني خالتي وكانت من العوابد وكانت كثيرا ما تركب إلى الشهداء قالت صليت يوما على قبر حمزة بن
185

عبد المطلب فلما قمت قلت السلام عليكم فسمعت أذناي رد السلام يخرج من تحت الأرض أعرفه كما أعرف أن الله خلقني وما في الوادي داع ولا مجيب قالت فاقشعرت له كل شعرة مني
وهذا المعنى في الأخبار كثير جدا وليس كتابنا هذا موضعا لإيرادها وفيما ذكرنا منها دليل على المراد من الاعتبار بها والفكرة في المصير إليها
وقد احتج بهذا الحديث في السلام على القبور من زعم أن الأرواح على أبنية القبور
وكان بن وضاح يذهب إلى هذا ويحتج بحكايات فيه عن نفسه وعمن قبله من العلماء قد ذكرتها في غير هذا الموضع
وأما قوله - عليه السلام - ((وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)) ففي معناه قولان
أحدهما أن الاستثناء مردود على معنى قوله دار قوم مؤمنين أي وإنا إن شاء الله بكم لاحقون في حال الإيمان لأن الفتنة لا يأمنها مؤمن وعاقل
ألا ترى قول إبراهيم * (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) * [إبراهيم 35]
وقول يوسف * (توفني مسلما وألحقني بالصالحين) * [يوسف 101] وكذلك كان نبينا صلى الله عليه وسلم يقول اللهم أقبضني إليك غير مفتون
والوجه الآخر أنه قد يكون الاستثناء في الواجبات التي لا بد من وقوعها ليس على سبيل الشك ولكنها لغة للعرب
186

ألا ترى إلى قول الله عز وجل * (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين) * [الفتح 27]
والشك لا سبيل إلى إضافته إلى الله تعالى عن ذلك علام الغيوب
وقوله ((وددت أني قد رأيت إخواننا)) ففيه دليل على أن أهل الدين والإيمان كلهم إخوة في دينهم
قال الله تعالى * (إنما المؤمنون إخوة) * [الحجرات 10]
وقد قرئت * (فأصلحوا بين أخويكم) * و (بين إخوانكم)
فأما الأصحاب فمن صحبك وصحبته وجائز أن يسمى الشيخ صاحبا للتلميذ والتلميذ صاحبا للشيخ والصاحب القرين المماشي المصاحب وهؤلاء كلهم صحابة وأصحاب
وأما قوله إخواننا الذين لم يأتوا بعد فروى أبو عمرة الأنصاري عن النبي - عليه السلام - أنه قيل له يا رسول الله أرأيت من آمن بك ولم يرك وصدقك ولم يرك فقال عليه السلام أولئك إخواننا أولئك معنا طوبى لهم طوبى لهم))
وروى أبو قتادة عن أنس عن أبي أمامة أن النبي عليه السلام قال ((طوبى لمن رآني فآمن بي وطوبى سبع مرات لمن لم يرني وآمن بي))
وروى أبو سعيد الخدري عن النبي عليه السلام أنه قال ((أنتم أصحابي وإخواني الذين آمنوا بي ولم يروني))
ومن حديث أبي سعيد أيضا أن النبي - عليه السلام - قال ((إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري في الأفق من المشرق والمغرب لتفاضل بينهم قالوا يا رسول الله تلك منازل الأنبياء قال بلى والذي نفسي بيده ورجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين)) (1)
وعن أبي هريرة عن النبي - عليه السلام - نحوه
ومن حديث بن أبي أوفى قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقعد وجاءه عمر ((فقال يا عمر إني لمشتاق إلى إخواني قال عمر ألسنا إخوانك يا رسول الله قال لا ولكنكم أصحابي وإخواني قوم آمنوا بي ولم يروني))
وعن بن عباس أنه قال لجلسائه يوما أي الناس أعجب إيمانا قالوا
187

الملائكة قال وكيف لا تؤمن الملائكة والأمر فوقهم يرونه قالوا الأنبياء قال وكيف لا يؤمن الأنبياء والأمر ينزل عليهم غدوة وعشية قالوا فنحن قال وكيف لا تؤمنون وأنتم ترون من رسول الله ما ترون ثم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أعجب الناس إيمانا قوم يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني أولئك إخواني حقا))
وروى أبو صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((من أشد أمتي حبا لي ناس يكونون بعدي يود أحدهم لو رآني بما له وأهله)) (1)
كذا رواه سهيل عن أبيه عن أبي هريرة وأخرجه مسلم
وذكر بن أبي شيبة عن أبي خالد الأحمر عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن أبي صالح عن رجل من بني أسد عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((من أشد أمتي حبا لي قوم يأتون من بعدي يود أحدهم لو يعطي أهله وماله ويراني))
وعن بن عمر قال كنت جالسا عند النبي - عليه السلام - فقال ((أتدرون أي الخلق أفضل إيمانا قلنا الملائكة قال وحق لهم بل غيرهم قلنا الأنبياء قال حق لهم بل غيرهم قلنا الشهداء قال هم كذلك وحق لهم بل غيرهم ثم قال عليه السلام أفضل الخلق إيمانا قوم في أصلاب الرجال يؤمنون بي ولم يروني ويجدون ورقا فيعملون بما فيه فهم أفضل الخلق إيمانا))
وروي هذا من حديث عمر وهو أصح
أخبرنا سهيل بن إبراهيم إجازة قال حدثنا محمد بن فطيس حدثنا يزيد بن سنان حدثنا أبو عامر العقدي حدثنا محمد بن مطرف عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر فذكره بمعناه سواء
قال سفيان بن عيينة تفسير هذا الحديث وما كان مثله في كتاب الله وهو قوله * (وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله) * [آل عمران 101]
ومن حديث أبي جمعة وكانت له صحبة قال قلنا يا رسول الله هل أحد خير منا قال قوم يجيئون من بعدكم فيجدون كتابا بين لوحين يؤمنون بما فيه ويؤمنون بي ولم يروني ويصدقون بما جئت به ويعملون به فهم خير منكم))
فقد أخبر - عليه السلام - أن في آخر أمته من هو خير من بعض من صحبه
وهذا الحديث رواه حمزة بن ربيعة عن مرزوق عن نافع عن صالح بن جبير عن أبي جمعة وكلهم ثقات
188

ومن حديث أبي عبد الرحمن الجهني قال ((بينا نحن عند - رسول الله - عليه السلام - إذا طلع راكبان فلما رآهما قال كنديان مذحجيان حتى أتياه فإذا رجلان من مذحج
فدنا أحدهما إليه ليبايعه فلما أخذ بيده قال يا رسول الله أرأيت من رآك فصدقك وآمن بك واتبعك ماذا له قال طوبى له فمسح على يده وانصرف ثم قام الآخر حتى أخذ بيده ليبايعه فقال يا رسول الله أرأيت من آمن بك وصدقك واتبعك ولم يرك قال طوبى له طوبى له ثم مسح على يده وانصرف))
ومن حديث طلحة بن عبيد الله قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أشرفنا على حرة وأقم وتدلينا منها فإذا قبور بمحنية فقلنا يا رسول الله هذه قبور إخواننا فقال هذه قبور أصحابنا ثم مشينا حتى أتينا قبور الشهداء فقال رسول الله هذه قبور إخواننا
وقد ذكرنا أسانيد هذه الأحاديث كلها وغيرها في معناها في كتاب التمهيد
وهي أحاديث كلها حسان ورواتها معروفون وليست على عمومها
كما أن قوله عليه السلام ((خير الناس قرني)) (1) ليس على العموم فهذه أحرى ألا تكون على العموم وبالله التوفيق
وقد قال - عليه السلام - في قبور الشهداء ((قبور إخواننا)) ومعلوم أن الشهداء معه وهو شهيد عليهم لا يقاس بهم من سواهم
إلا أن هذه الأحاديث وما كان مثلها نحو قوله عليه السلام ((أمتي كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره)) (2)
وقوله - عليه السلام - ((خير الناس من طال عمره وحسن عمله))
وقوله - عليه السلام - ((ليس أحد عند الله أفضل من مؤمن يعمر في الإسلام للتهليل والتسبيح والتكبير))
يعارضها قوله - عليه السلام - ((خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم
189

وفي قوله تعالى * (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار) * [التوبة 100]
وقوله * (والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم) * [الواقعة 10 - 12] الآية
ثم قال و * (وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين في سدر مخضود) * [الواقعة 27 28] الآية - ما فيه كفاية وهداية
وتهذيب آثار هذا الباب أن يحمل قوله ((قرني)) - عليه الجملة فقرنه - عليه السلام - جملة خير من القرن الذي يليه
وأما على الخصوص والتفضيل فعلى ما قال عمر في قوله * (كنتم خير أمة) * [آل عمران 110] إنما كانوا كذلك بما وصفهم الله * (تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) * فمن فعل فعلهم فهو منهم
وقد ذكر الله أحوال الناس في القيامة على ثلاثة أصناف * (أزواجا ثلاثة) * فأصحاب الميمنة وهم أصحاب اليمين * (في سدر مخضود) * الآية وأصحاب المشأمة وهم أصحاب الشمال * (في سموم وحميم) * [الواقعة 42] والسابقون السابقون * (في جنات النعيم) * الآية [الواقعة 12] فسوى بين أصحاب اليمين وبين السابقين
والذي يصح عندي - والله أعلم - في قوله ((خير الناس قرني)) أنه خرج على العموم ومعناه الخصوص بالدلائل الواضحة في أن قرنه - والله أعلم - فيه الكفار والفجار كما كان فيه الأخيار والأشرار وكان فيه المنافقون والفساق والزناة والسراق كما كان فيه الصديقون والشهداء والفضلاء والعلماء فالمعنى على هذا كله عندنا أن قوله - عليه السلام - ((خير الناس قرني)) أي خير الناس في قرني كما قال تعالى * (الحج أشهر معلومات) * [البقرة 197] أي في أشهر معلومات فيكون خير الناس في قرنه أهل بدر والحديبية ومن شهد لهم بالجنة خير الناس إن شاء الله
ويعضد هذا التأويل قوله - عليه السلام - ((خير الناس من طال عمره وحسن عمله)) عد من سبق له من الله الحسنى وأصحابه وبالله التوفيق
وأما قوله ((وأنا فرطهم على الحوض)) فالفرط المتقدم الماشي من أمام إلى الماء
هذا قول أبي عبيدة وغيره
وقال بن وهب أنا فرطهم أنا إمامهم وهم ورائي يتبعونني
واستشهد أبو عبيدة وغيره على قوله هذا بقول الشاعر
190

(فأثار فارطهم غطاطا جثما
* أصواتها كتراطن الفرس (1))
وقال القطامي
(فاستعجلونا وكانوا من صحابتنا
* كما تعجل فراط لوراد (2))
وقال لبيد
(فوردنا قبل فراط القطا
* إن من وردي تغليس النهل (3))
قال أبو عمر الفارط ها هنا السابق إلى الماء والنهل الشربة الأولى
وفي حديث أنس أن النبي - عليه السلام - وضع ابنه إبراهيم وهو يجود بنفسه فقال ((لولا أنه موعد صدق ووعد جامع وأن الماضي فرط الباقي)) وذكر الحديث
وقال إبراهيم بن هرمة القرشي
(ذهب الذين أحبهم فرطا
* وبقيت كالمغمور (4) في خلف)
(من كل مطوي على حنق
* متكلف يكفى لا يكفى)
وقال غيره
(ومنهل وردته التقاطا
* لم ألق إذ وردته فراطا (5))
(إلا القطا أوابدا غطاطا
*)
الأوابد الطير التي لا تبرح شتاء ولا صيفا من بلدانها والقواطع التي تقطع من بلد إلى بلد في زمن بعد زمن والأوابد أيضا الإبل إذا توحش منها شيء والأوابد أيضا الدواهي يقال منه جاء فلان بآبدة
وقال الخليل الغطاط طير يشبه القطا
191

وروى عن النبي - عليه السلام - أنه قال ((أنا فرطكم على الحوض)) (1) جماعة منهم بن مسعود وجابر بن سمرة والصنابح بن الأعسر الأحمسي وجندب وسهل بن سعد
وأما قوله ((فليذادن)) فمعناه فليبعدن وليطردن
وقال زهير
(ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه
* يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم (2))
وقال الراجز
(يا أخوي نهنها وذودا
* إني أرى حوضكما مورودا)
وأما رواية يحيى ((فلا يذادن)) على النهي فقيل إنه قد تابعه على ذلك بن نافع ومطرف
وقد خرج بعض شيوخنا معنى حسنا لرواية يحيى ومن تابعه أن يكون على النهي أي لا يفعل أحد فعلا يطرد به عن حوضي
لكن قوله ((أناديهم ألا هلم)) خبر لا يجوز عليه النسخ ولا بد أن يكون والله أعلم
ومما يشبه رواية يحيى ويشهد له حديث سهل بن سعد عن النبي - عليه السلام - قال ((أنا فرطكم أعلى الحوض من ورد شرب ومن شرب لم يظمأ أبدا فلا يردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني ثم يحال بيني وبينهم)) (3)
وهذا في معنى رواية يحيى وقد ذكرنا إسناد هذا الحديث في التمهيد
وأما قوله ((فإنهم يأتون يوم القيامة غرا محجلين من الوضوء)) ففيه دليل على أن الأمم أتباع الأنبياء لا يتوضؤون مثل وضوئنا على الوجه واليدين والرجلين لأن الغرة في الوجه والتحجيل في اليدين والرجلين
هذا ما لا مدفع فيه على هذا الحديث إلا أن يتأول متأول أن وضوء سائر الأمم
192

لا يكسبها غرة ولا تحجيلا وأن هذه الأمة بورك لها في وضوئها بما أعطيت من ذلك شرفا لها ولنبينا عليه السلام كسائر فضائلها على سائر الأمم كما فضل نبيها بالمقام المحمود وغيره على سائر الأنبياء والله أعلم
وقد يجوز أن يكون الأنبياء يتوضؤون فيكتسبون بذلك الغرة والتحجيل ولا يتوضأ أتباعهم ذلك الوضوء كما خص نبينا عليه السلام بأشياء دون أمته منها نكاح ما فوق الأربع والموهوبة بغير صداق والوصال وغير ذلك
فيكون من فضائل هذه الأمة أن تشبه الأنبياء كما جاء عن موسى - عليه السلام - أنه قال يا رب أجد أمة كلهم كالأنبياء فاجعلهم أمتي فقال تلك أمة أحمد في حديث فيه طول
وقد روى سالم بن عبد الله بن عمر عن كعب الأحبار أنه سمع رجلا يحدث أنه رأى في المنام أن الناس جمعوا للحساب ثم دعي الأنبياء مع كل نبي أمته وأنه رأى لكل نبي نورين يمشي بينهما ولمن اتبعه من أمته نور واحد يمشي به حتى دعي محمد عليه السلام فإذا شعر رأسه ووجه نور كله يراه كل من نظر إليه وإذا لمن اتبعه من أمته
نوران كنور الأنبياء
فقال كعب وهو لا يشعر أنها رؤيا من حدثك بهذا الحديث وما علمك به فأخبره أنها رؤيا فناشده كعب الله الذي لا إله إلا هو لقد رأيت ما تقول في منامك فقال نعم والله لقد رأيت ذلك فقال كعب والذي نفسي بيده أو قال والذي بعث محمدا بالحق إن هذه لصفة أحمد وأمته وصفة الأنبياء في كتاب الله لكان ما قرأته في التوراة وإسناد هذا الخبر في التمهيد وقد قيل إن سائر الأمم كانوا يتوضؤون والله أعلم
وهذا لا أعرفه من وجه صحيح
وأما قوله - عليه السلام - إذا توضأ ثلاثا ثلاثا ((هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي)) فلم يأت من وجه ثابت ولا له إسناد يحتج به لأنه حديث يدور على زيد بن الحواري العمي والد عبد الرحيم بن زيد هو انفرد به وهو ضعيف جدا عند أهل العلم بالنقل
وقد اختلف عليه فيه أيضا فمرة يجعله من حديث أبي بن كعب ومرة يجعله من حديث بن عمر
وقد ذكرنا ذلك من طرق في التمهيد
وهو أيضا منكر لأن فيه لما توضأ ثلاثا ثلاثا قال ((هذا وضوئي ووضوء خليل الله إبراهيم ووضوء الأنبياء قبلي
193

وقد توضأ - عليه السلام - مرة مرة ومرتين مرتين ومحال أن يقصر عن ثلاث لو كانت وضوء إبراهيم والأنبياء قبله وقد أمر أن يتبع ملة إبراهيم
وقد روى عبد الله بن بسر عن النبي - عليه السلام - أنه قال ((أمتي يوم القيامة غر من السجود ومحجلون من الوضوء)) (1)
ومن حديث أبي هريرة قال قال رسول الله - عليه السلام - ((تردون علي غرا محجلين من الوضوء سيمى أمتي ليس لأحد غيرها)) (2)
ومن حديث أبي ذر وأبي الدرداء قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إنه أول من يؤذن له في السجود يوم القيامة وأول من يؤذن له برفع رأسه فانظر بين يدي فأعرف أمتي بين الأمم وأنظر عن يميني فأعرف أمتي بين الأمم وأنظر عن شمالي فأعرف أمتي بين الأمم فقال رجل يا رسول الله كيف تعرف أمتك من بين الأمم ما بين نوح إلى أمتك قال غر محجلون من آثار الوضوء ولا يكون من الأمم كذلك أحد غيرهم)) (3)
ومن حديث بن مسعود أنهم قالوا يا رسول الله كيف تعرف من لم تر من أمتك قال ((غر محجلون بلق من الوضوء)) (4)
وقد ذكرنا أسانيد هذه الأحاديث في التمهيد
وكلها تدل على صحة ما ذكرنا من أن هذه الأمة مخصوصة بالغرة والتحجيل من سائر الأمم والله أعلم
وأما قوله ((فسحقا)) فمعناه فبعدا والسحق والبعد والإسحاق والإبعاد والتسحيق والتبعيد سواء وكذلك النأي والبعد لفظتان بمعنى واحد إلا أن سحقا وبعدا هكذا إنما يجيء بمعنى الدعاء على الإنسان كما نقول أبعده الله وقاتله الله وسحقه الله ومحقه الله أيضا
ومن هذا قوله تعالى * (في مكان سحيق) * [الحج 31] يعني من مكان بعيد
194

وكل من أحدث في الدين ما لا يرضاه الله ولم يأذن به فهو من المطرودين عن الحوض والمبعدين والله أعلم
وأشدهم طردا من خالف جماعة المسلمين وفارق سبيلهم مثل الخوارج على اختلاف فرقها والروافض على تباين ضلالها والمعتزلة على أصناف أهوائها وجميع أهل الزيغ والبدع فهؤلاء كلهم مبدلون
وكذلك الظلمة المسرفون في الجور والظلم وتطميس الحق وقتل أهله وإذلالهم كلهم مبدل يظهر على يديه من تغيير سنن الإسلام أمر عظيم فالناس على دين الملوك
ورحم الله بن المبارك فإنه القائل
(وهل بدل الدين إلا الملوك
* وأحبار سوء ورهبانها)
وروي عن النبي - عليه السلام - أنه قال ((صنفان من أمتي إذا صلحا صلح الناس الأمراء والعلماء))
وروي عن إبراهيم النخعي أنه قال من أراد الله فأخطأ أقل فسادا مما جاهر بترك الحق المعلنين بالكبائر المستخفين بها
كل هؤلاء يخاف عليهم أن يكونوا عنوا بهذا الخبر
وقد قال بن القاسم قد يكون من غير أهل الأهواء من هو شر من أهل الأهواء وصدق بن القاسم
ولا يعتبر أعظم مما وصفنا عن أئمة الفسق والظلم ولكنه لا يخلد في النار إلا كافر جاحد ليس في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان ويغفر الله لمن يشاء ويعذب من يشاء ولا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء والله المستعان
52 - مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن حمران مولى عثمان بن عفان أن عثمان بن عفان جلس على المقاعد (1) فجاء المؤذن فآذنه (2) بصلاة
195

العصر فدعا بماء فتوضأ ثم قال والله لأحدثنكم حديثا لولا أنه في كتاب الله ما حدثتكموه ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ((ما من امرئ يتوضأ فيحسن وضوءه ثم يصلي الصلاة إلا غفر له ما بينه وبين الصلاة الأخرى (1) حتى يصليها))
قال مالك أراه (2) يريد هذه الآية " وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من اليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين " [هود 14]
حمران مولى عثمان بن عفان هو حمران بن أبان بن النمر بن قاسط بن عم صهيب
وقد ذكرنا نسبه عند ذكر هذا الحديث من ((التمهيد)) وكان من سبي عين التمر وهو أول سبي قدم المدينة في زمان أبي بكر الصديق وسباه خالد بن الوليد
وقد ذكرنا خبر حمران مستوعبا في التمهيد
وكان أحد العلماء الجلة روى عنه كبار التابعين بالحجاز والعراق وقد ذكرناهم في التمهيد
وهكذا هذا الحديث في الموطأ عند جماعة رواته ليس فيه صفة الوضوء ثلاثا ولا اثنتين
وقد رواه جماعة عن هشام بن عروة بإسناده هذا فذكروا فيه صفة الوضوء والمضمضة والاستنثار وغسل الوجه واليدين ثلاثا واختلفوا في ألفاظه والمعنى واحد فمنهم شعبة وأبو أسامة وبن عيينة ورواه عن عروة أيضا جماعة ذكروا فيه أن النبي - عليه السلام - توضأ ثلاثا منهم أبو الزناد وأبو الأسود وعبد الله بن أبي بكرة
حدثنا سفيان بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان قال حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن حمران قال توضأ عثمان بن عفان ثلاثا ثلاثا قال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ((ما من رجل يتوضأ فيحسن الوضوء ثم يصلي إلا غفر له ما بينه وبين الصلاة الأخرى حتى يصليها))
المقاعد مصاطب حول المسجد كان يقعد عليها عثمان وقيل بل كانت حجارة بقرب دار عثمان يقعد بها مع الناس
196

وإنما كان الخلفاء يحتاجون إلى الإذن بالصلاة مع الأذان لما كانوا فيه من الشغل بأمور المسلمين
وفي هذا الحديث من الفقه تقديم كتاب الله ومعانيه في طلب الحجة ورواية من روى لولا أنه في كتاب الله - هو يحيى - معناه لولا أن تصديقه في كتاب الله والله أعلم
وتأول مالك ذلك على الآية التي ذكر قوله تعالى " إن الحسنات يذهبن السيئات "
وقد روي عن عروة في ذلك أنه قال معنى قوله تعالى * (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى) * الآية وقال بكلا الوجهين جماعة العلماء
ورواية بن بكير وطائفة لولا أنه في كتاب الله وروايته أيضا محتملة للوجهين جميعا
وفي هذا الحديث أيضا أن الصلاة تكفر الذنوب وهو تأويل قوله " إن الحسنات يذهبن السيئات " على ما نزع به مالك
والقول في ذلك عندي كالقول في قوله عليه السلام ((الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر)) (1) لأن الكبائر لا يمحوها إلا التوبة منها وقد افترضها تعالى على كل مذنب بقول " وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون " [النور 31]
والفرائض أيضا لا تؤدى إلا بقصد وإرادة ونية صادقة
وقد أوضحنا هذا المعنى في التمهيد وذكرنا هناك حديث بن عباس عن النبي - عليه السلام - أنه قال ((لم أر شيئا أحسن طلبا ولا أحسن إدراكا من حسنة حديثة لذنب قديم)) ثم قرأ " إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين "
53 - مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله الصنابحي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((إذا توضأ العبد المؤمن فتمضمض خرجت الخطايا من فيه
197

وإذا استنثر (1) خرجت الخطايا من أنفه فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه حتى تخرج من تحت أشفار عينيه (2) فإذا غسل يديه خرجت الخطايا من يديه حتى تخرج من تحت أظفار يديه فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه فإذا غسل رجليه خرجت الخطايا من رجليه حتى تخرج من تحت أظفار رجليه)) قال ((ثم كان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة له)) (3)
قال أبو عيسى الترمذي سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن حديث مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله الصنابحي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((إذا توضأ العبد المؤمن فتمضمض خرجت الخطايا من فيه)) الحديث
فقال لي وهم مالك في قوله عبد الله الصنابحي وإنما هو أبو عبد الله وأسمه عبد الرحمن بن عسيلة ولم يسمع من النبي - عليه السلام - والحديث مرسل
قال أبو عمر هو كما قال البخاري وقد بينا ذلك فيما مضى من هذا الكتاب بواضح من القول والحجة
وقد روي حديث الصنابحي هذا مسندا من وجوه من حديث عمرو بن عبسة وغيره وقد ذكرنا ذلك في التمهيد
وجاء في هذا الحديث فرض الوضوء وسنته مجيئا واحدا في حط الخطايا وتكفير الذنوب فدل ذلك على أن من شر المؤمن وما ينبغي له أن يأتي بما ذكرنا في هذا الحديث من المضمضة والاستنثار وغسل الوجه واليدين والرجلين ومسح الرأس وإنما اختلفوا في مسح الرجلين وغسلهما وقد أوضحنا ذلك فيما مضى
وليس في الموطأ ذكر المضمضة في حديث مرفوع غير هذا وغير حديث عبد الله بن زيد بن عاصم ولا في الموطأ حديث مرفوع فيه ذكر الأذنين إلا حديث الصنابحي هذا
وقد استدل بعض أهل العلم على أن الأذنين من الرأس وأنهما يمسحان بماء واحد مع الرأس بحديث الصنابحي هذا لقوله ((فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من أذنيه)) فنذكر أقاويل العلماء في ذلك ها هنا
قال مالك وأصحابه الأذنان من الرأس إلا أنه يستأنف لهما ماء جديد سوى الماء الذي مسح به الرأس
198

وقال الشافعي كقول مالك يستأنف للأذنين الماء ولا يمسحان مع الرأس إلا أنه قال هما سنة على حيالهما لا من الوجه ولا من الرأس كالمضمضة والاستنثار
وقول أبي ثور في ذلك كقول الشافعي سواء
وقول أحمد بن حنبل في ذلك كقول مالك سواء أن الأذنين من الرأس وأنه يستأنف لهما ماء جديد
وأحتج مالك والشافعي بأن عبد الله بن عمر كان يأخذ لأذنيه ماء غير الماء الذي مسح به رأسه
واحتج أصحاب الشافعي بإجماع القائلين بعموم مسح الرأس إلا أنه لا إعادة على من صلى ولم يمسح أذنيه وبإجماع العلماء على أن الحاج لا يحلق ما عليهما من الشعر
وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري الأذنان من الرأس يمسحان مع الرأس بماء واحد وروي عن جماعة من السلف من الصحابة والتابعين مثل هذا القول
وحجة من قال به حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عباس عن النبي - عليه السلام - أنه كذلك فعل
وهو موجود أيضا في حديث عبيد الله الخولاني عن بن عباس عن علي في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفي حديث طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده عن النبي عليه السلام
ومن حجتهم حديث الصنابحي هذا قوله عليه السلام ((فإذا مسح رأسه خرجت الخطايا من أذنيه)) كما قال في الوجه ((من أشفار عينيه)) وفي اليدين ((من تحت أظفاره)) ومعلوم أن العمل في ذلك بماء واحد
وقال بن شهاب الزهري الأذنان من الوجه لأنهما مما يواجهك ولا ينبت عليهما شعر الرأس وما لا ينبت عليه شعر الرأس فهو من الوجه إذ كان فوق الذقن ولم يكن قفا وقد أمر الله بغسل الوجه أمرا مطلقا وكل ما واجهك فهو وجه
ومن حجته أيضا قوله - عليه السلام - في سجوده ((سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره)) فأضاف السمع إلى الوجه
وقال الشعبي ما أقبل منهما فمن الوجه وظاهرهما من الرأس فيغسل ما أقبل منهما مع الوجه ويمسح ما أدبر منهما مع الرأس
وهو قول الحسن بن حي وإسحاق بن راهويه
199

وحكي هذا القول عن الشافعي والمشهور عنه ما تقدم ذكره
وقد روي عن أحمد بن حنبل مثل قول الشعبي وإسحاق في ذلك
وقال داود إن مسح أذنيه فحسن وإن لم يمسح فلا شيء عليه
وأما سائر أهل العلم فيكرهون للمتوضئ ترك مسح أذنيه ويجعلونه تارك سنة من سنن النبي - عليه السلام - ولا يوجبون عليه إعادة صلاة صلاها كذلك
إلا إسحاق بن راهويه فإنه قال إن ترك مسح أذنيه أو غسلهما عمدا لم يجز
وقال أحمد إن تركهما عمدا أحببت أن يعيد
وقد كان بعض أصحاب مالك يقول من ترك سنة من سنن الوضوء أو الصلاة أعاد أبدا
وهذا عند العلماء قول ضعيف وليس لقائله سلف ولا له حظ من النظر ولو كان هذا لم يعرف الفرض من السنة
وقال بعضهم من ترك مسح أذنيه فقد ترك مسح بعض رأسه وهو ممن يقول الفرض مسح بعض الرأس وأنه يجزئ المتوضئ مسح بعضه
وقوله هذا كله ليس على أصل مالك ولا مذهبه الذي إليه يعتزي
وقد مضى القول في مسح الرأس فيما تقدم من هذا الكتاب
قال أبو عمر المعنى الذي يجب الوقوف على حقيقته في الأذنين أن الرأس قد رأينا له حكمين فما واجه منه كان حكمه الغسل وما علا منه وما كان موضعا لنبات الشعر كان حكمه المسح واختلاف الفقهاء في الأذنين إنما هو هل حكمهما المسح كحكم الرأس أو حكمهما الغسل كالوجه أولهما من كل واحد منهما حكم أو هما من الرأس فيمسحان معه بماء واحد
فلما قال عليه السلام في حديث الصنابحي هذا ((فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من أذنيه)) ولم يقل إذا غسل وجهه خرجت الخطايا من أذنيه علمنا أن الأذنين من الرأس فهذا يشهد لقول من رأى مسحهما مع الرأس
وقد زدنا هذا المعنى بيانا في التمهيد والحمد لله
وقد استدل بعض من لم ير الوضوء بالماء المستعمل بحديث الصنابحي هذا وما كان مثله وقال خروج الخطايا مع الماء يوجب التنزه عنه وسماه بعضهم ماء الذنوب
وهذا عندي لا وجه له لأن الذنوب لا أشخاص لها تمازج الماء فتفسده وإنما معنى قوله ((خرجت الخطايا مع الماء)) إعلام منه بأن الوضوء للصلاة عمل يكفر الله
200

به السيئات عن عباده المؤمنين رحمة منه بهم وتفضلا عليهم ترغيبا في ذلك
واختلف الفقهاء في الوضوء بالماء المستعمل وهو الذي قد توضئ به مرة فقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما لا يتوضأ به ومن توضأ به أعاد لأنه ليس بماء مطلق وعلى من لم يجد غيره التيمم لأنه ليس بواجد ماء
ومن حجتهم على الذين أجازوا الوضوء به عند عدم غيره لما كان مع الماء القراح غير المستعمل كلا ماء كان عند عدمه أيضا كلا ماء ووجب التيمم
وقال بقولهم في ذلك أصبغ بن الفرج وهو قول الأوزاعي
وقد روى ذلك أيضا عن مالك أنه يجوز التيمم لمن وجد الماء المستعمل
واحتج بعضهم بقوله - عليه السلام - ((لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه من الجنابة)) (1)
ومعلوم أن الماء الدائم الكثير المستعمل فيه من الجنابة - لا يمنع أحدا من الغسل فيه إلا لأنه يكون مستعملا وقد أدى به فرض وهو دائم غير جار
وأما مالك فقال لا يتوضأ به إذا غيره من الماء ولا خير فيه ثم قال إذا لم يجد غيره توضأ به ولم يتيمم لأنه ماء طاهر ولم يغيره شيء
وقال أبو ثور وداود الوضوء بالماء المستعمل جائز لأنه ماء طاهر لا ينضاف إليه شيء فواجب أن يكون مطهرا كما هو طاهر لأنه إذا لم يكن في أعضاء المتوضئ به نجاسة فهو ماء طاهر بإجماع
ومن حجتهم أن الماء قد يستعمل في العضو الواحد لا يسلم منه أحد فكذلك استعماله في عضو بعد عضو
وإلى هذا مذهب أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي
واختلف عن الثوري في هذه المسألة فالمشهور عنه أنه لا يجوز الوضوء بالماء المستعمل وأظنه أنه حكي عنه أنه قال هو ماء الذنوب
وقد روي عنه خلاف ذلك وذلك أنه قال فيمن نسي مسح رأسه فقال يأخذ من بلل لحيته فيمسح به رأسه وهذا استعمال منه بالماء المستعمل
وقد روي عن علي وبن عمر وأبي أمامة وعطاء بن أبي رباح والحسن
201

البصري وإبراهيم النخعي ومكحول وبن شهاب أنهم قالوا فيمن نسي مسح رأسه فوجد في لحيته بللا إنه يجزئه أن يمسح بذلك البلل رأسه
وقال بذلك بعض أصحاب مالك فهؤلاء على هذا يجيزون الوضوء بالماء المستعمل والله أعلم
وأما مالك والشافعي وأبو حنيفة ومن قال بقولهم فلا يجوز عندهم لمن نسي مسح رأسه ووجد في لحيته بللا أن يمسح رأسه بذلك البلل ولو فعل لم يجزه عندهم وكان كمن لم يمسح
وأما اختلافهم في رمي الجمار بما قد رمي به فسيأتي موضعه إن شاء الله
وقد أوضحنا أن الطهارة للصلاة والمشي إليها وعملها لا يكفر إلا الصغائر دون الكبائر بضروب من الحجج الواضحة من جهة الآثار والاعتبار في هذا الموضع من كتاب التمهيد والحمد لله
فمن ذلك حديث أبي هريرة وحديث عمران بن حصين وحديث بن مسعود وحديث سلمان الفارسي كلها عن النبي - عليه السلام - أنه قال الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما من الخطايا والذنوب ما اجتنبت الكبائر)) (1) أو ((ما لم تغش الكبائر)) وفي حديث سلمان ((ما لم تصب المقتلة)) (2) وما ((اجتنبت المقتلة)) على حسب اختلاف ألفاظ المحدثين
وهذه الآثار كلها بأسانيدها في التمهيد والحمد لله
54 - مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((إذا توضأ العبد المسلم (أو المؤمن) فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء (أو مع آخر قطر الماء) فإذا غسل يديه خرجت من يديه كل خطيئة بطشتها (3) يداه مع الماء (أو مع أخر قطر الماء) فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه (4) مع الماء (أو مع آخر قطر الماء) حتى يخرج نقيا (5) من الذنوب
202

روى هذا الحديث بن وهب عن مالك فذكر فيه الرجلين كما ذكر اليدين ولم يذكر الرجلين في هذا الحديث عن مالك غيره
وفي رواية يحيى عن مالك وطائفة (بطشتهما) على التثنية وكذلك في رواية بن وهب (بطشتهما) رجلاه وفي ذلك ما لا يخفي من الوهم
وأما قوله ((العبد المسلم)) أو ((المؤمن)) فهو شك من المحدث من مالك أو غيره
وأما قوله ((مع الماء)) أو ((مع آخر قطر الماء)) فهو شك من المحدث أيضا ولا يجوز أن يكون ذلك من النبي - عليه السلام - وإنما حمل المحدث على ذلك التحري لألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم
وقد أوضحنا في كتاب العلم اختلاف العلماء في الإتيان بألفاظ الحديث دون معناه وبمعناه دون ألفاظه
والمؤمن والمسلم عندنا واحد لقوله تعالى * (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) * [الذاريات 35 36] وقد تنازع العلماء في هذا المعنى وستراه في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله
وفي هذا الحديث تكفير الخطايا بالوضوء وأن أعمال البر تكفر الذنوب بها وهو معنى قول الله تعالى " إن الحسنات يذهبن السيئات " وقد مضى ذلك قبل هذا والحمد لله
55 - مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك أنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحانت (1) صلاة العصر فالتمس الناس وضوءا (2) فلم يجدوه فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء في إناء فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الإناء يده ثم أمر الناس يتوضؤون منه (3) قال أنس فرأيت الماء ينبع (4) من تحت أصابعه فتوضأ الناس حتى توضؤوا من عند آخرهم
جاء في هذا الحديث تسمية الماء وضوءا ألا ترى إلى قوله ((فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء في إناء)) والوضوء بفتح الواو هو الماء والوضوء بالضم المصدر
203

والعرب تسمي الشيء باسم ما يؤول إليه وما قرب منه
وفي هذا الحديث إباحة الوضوء للجماعة من إناء يغترفون منه في حين واحد ولم يراعوا هل أصاب أحدهم مقدار مد فما زاد من الماء كما قال من ذهب إلى أن الوضوء لا يجوز بأقل من مد ولا الغسل بأقل من صاع
وهذا المعنى مبين في موضعه من هذا الكتاب والحمد لله
وفيه العلم العظيم من أعلام نبوته - عليه السلام - وهو نبع الماء من بين أصابعه وكم له من مثل ذلك صلى الله عليه وسلم
والذي أعطي - عليه السلام - من هذه الآية المعجزة أوضح في آيات الأنبياء وبراهينهم مما أعطى موسى - عليه السلام - إذ ضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا
وذلك أن من الحجارة ما يشاهد انفجار الماء منها كما قال تعالى * (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار) * [البقرة 74] ولم يشاهد قط أحد من بني آدم يخرج من بين أصابعه الماء غير نبينا عليه السلام
وقد عرض له هذا مرارا مرة بالمدينة ومرة بالحديبية قبل بيعته المعروفة ببيعة الرضوان فتوضأ من الماء الذي نبع من بين أصابعه جميع من حضر في ذلك اليوم وهم ألف وأربعمائة وقد قيل ألف وخمسمائة
وقد ذكرنا في التمهيد هذا الحديث من طرق وما كان في معناه من أعلام لنبوته وآياته ومعجزاته عليه السلام
وأما حديث مالك عن نعيم بن عبد الله المجمر أنه سمع أبا هريرة يقول ((من توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج عامدا إلى المسجد)) الحديث ففيه الترغيب في أسباغ الوضوء والمشيء إلى الصلاة وترك الإسراع إليها لمن سمع الإقامة والإخبار بفضل ذلك كله
وكان بن عمر يسرع المشي إذا سمع الإقامة وخالف في ذلك أبا هريرة
وسيأتي القول في معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ((فلا تأتوها وأنتم تسعون)) في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله
56 - مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه سئل عن الوضوء من الغائط بالماء فقال سعيد إنما ذلك وضوء النساء
204

هذا مذهب المهاجرين في الاستنجاء بالأحجار والاقتصار عليها وبن المسيب من أبنائهم وفقهائهم
وقد ذكرنا هذا المعنى مجودا فيما مضى
وليس في عيب سعيد بن المسيب الاستنجاء بالماء ما يسقط فضله لثناء الله على أهل قباء
وقد ثبت عن النبي - عليه السلام - الاستنجاء بالماء وإنما الاستجمار رخصة وتوسعة في طهارة المخرج
وقد أوضحنا من ذلك ما أغنى عن تكريره ها هنا والله الموفق للصواب
أخبرنا أحمد بن قاسم حدثنا قاسم بن أصبغ أخبرنا الحارث بن أبي أسامة حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن معاذة عن عائشة أنها قالت لنسوة عندها ((مرن أزواجكن أن يغسلوا عنهم أثر الغائط والبول فإني أستحييهم وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله))
57 - مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات))
كذلك قال مالك ((إذا شرب الكلب)) وسائر رواة هذا الحديث عن أبي الزناد وغيره على كثرة طرقه عن أبي هريرة - كلهم يقول ((إذا ولغ)) (1) لا أعلم أحدا يقول ((إذا شرب)) غير مالك والله أعلم
ورواه عن أبي هريرة جماعة منهم الأعرج وأبو صالح وأبو رزين وثابت الأحنف وهمام بن منبه وعبد الرحمن والد السدي وعبيد بن حنين وثابت بن عياض وأبو سلمة بن عبد الرحمن كلهم بمعنى حديث مالك هذا لم يذكروا فيه التراب لا في أول الغسالات ولا في آخرها
205

ورواه بن سيرين عن أبي هريرة واختلف عليه في ذلك فمن رواته من قال فيه ((أولاهن بالتراب)) ومنهم من قال ((السابعة بالتراب)) وبذلك كان الحسن يفتي ولا أعلم أحدا أفتى بذلك غيره
وممن كان يفتي بغسل الإناء سبعا من ولوغ الكلب بدون شيء من التراب من السلف والصحابة والتابعين بن عباس وأبو هريرة وعروة بن الزبير ومحمد بن سيرين وطاوس وعمرو بن دينار
وأما الفقهاء أئمة الأمصار فاختلفوا في معنى هذا الحديث اختلافا كثيرا فجملة مذهب مالك عند أصحابه اليوم أن الكلب طاهر وأن الإناء يغسل منه سبعا عبادة ولا يهرق شيء مما ولغ فيه غير الماء وحده ليسارة مئونته وأن من توضأ به إذا لم يجد غيره أجزأه وأنه لا يجوز التيمم لمن كان معه ماء ولغ فيه كلب وأنه لم يدر ما حقيقة هذا الحديث
واحتج بأنه يؤكل صيده فكيف يكره لعابه وقال مع هذا كله لا خير فيما ولغ فيه كلب ولا يتوضأ به أحب إلي هذا كله روى بن القاسم عنه
وقد روى عنه بن وهب أنه لا يتوضأ بماء ولغ فيه كلب ضاريا كان الكلب أو غير ضار ويغسل الإناء منه سبعا
وقد كان مالك في أول أمره يفرق بين كلب البادية وغيره في ذلك ثم رجع إلى ما ذكرت لك
فتحصيل مذهب مالك أن التعبد إنما ورد في غسل الإناء الطاهر من ولوغ الكلب خاصة من بين سائر الطاهرات وشبهه أصحابنا بأعضاء الوضوء الطاهرة تغسل عبادة
وقال الشافعي وأصحابه الكلب نجس وإنما وردت العبادة في غسل نجاسته سبعا تعبدا فهذا موضع الخصوص عنده لا أنه طاهر خص بالغسل عبادة
واحتج هو وأصحابه بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في غير ما حديث ((إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فأريقوه ثم اغسلوه سبع مرات)) (1)
قالوا فأمر بإراقة الماء كما أمر بطرح الفأرة التي وقعت في السمن
واحتجوا بالإجماع على أنه لا يجوز أن يغسل الإناء بذلك الماء ولو كان طاهرا لجاز غسله به
206

وقالوا لو كان عبادة في غسل طاهر لوردت الغسلات فيه على جهة الفضل كالوضوء
وقد أجمعوا أن جميع الغسلات واجب فدل على أنه ليس كأعضاء الوضوء
قالوا ولو كان عبادة في غسل الإناء الطاهر لوجب غسله عند الولوغ أريد استعمال الإناء أم لا
وقد أجمعوا أنه لا يلزم غسله إلا عند الاستعمال فدل على أنه لنجاسة لا لطهارة لأنه لا يحل لنا استعمال الأنجاس
والكلام لهم وعليهم يطول ذكره وقد تقصيناه في غير هذا الكتاب
وقال أبو حنيفة وأصحابه الكلب نجس ويغسل الإناء من ولوغه مرتين أو ثلاثا كسائر النجاسات من غير حد فردوا الأحاديث في ذلك وما صنعوا شيئا
واحتج الطحاوي بأن أبا هريرة هذا هو الذي روى الحديث وعلم مخرجه
وكان يفتي بغسل الإناء من ولوغه مرتين أو ثلاثا
فدل ذلك على أنه لم يصح عنه أو قد علم ما نسخه
وهذا عند الشافعي غير لازم لأن الحجة في السنة لا فيما خالفها ولم يصل إلينا قول أبي هريرة إلا من جهة أخبار الآحاد كما وصل إلينا المسند من جهة أخبار الآحاد العدول فالحجة في المسند
وإذا جاز للكوفيين أن يقولوا لو صح الحديث عند أبي هريرة ما خالفه - جاز لخصمائهم أن يقولوا لا يجوز أن يقبل عن أبي هريرة خلاف ما رواه وشهد به على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رواه عنه الثقات الجماهير لأن في تركه ما رواه وشهد به على رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير أن يحكى عنه ما ينسخه جرحه ونقيصة وحاش للصحابة من ذلك فهم أطوع الناس لله ولرسوله
وقد روي عن أبي هريرة أنه أفتى بغسل الإناء سبعا من ولوغ الكلب وهذا أولى من رواية من روى عنه أنه خالف ما رواه بغير حجة سوى الظن الذي لا يغني من الحق شيئا
وما أعلم للكوفيين سلفا في ذلك إلا ما ذكره معمر قال سألت الزهري عن الكلب يلغ في الإناء قال يغسل ثلاث مرات
وقال عبد الرزاق عن بن جريج سألت عطاء كم يغسل الإناء الذي يلغ فيه الكلب قال سبعا وخمسا وثلاثا كل ذلك قد سمعت
وقال الثوري والليث بن سعد في غسل الإناء من ولوغ الكلب كقول أبي
207

حنيفة يغسل حتى يغلب على القلب أن النجاسة قد زالت من غير حد
وقال الأوزاعي سؤر الكلب في الإناء نجس وفي المستنقع غير نجس
قال ويغسل الثوب من لعابه ويغسل ما أصاب الصيد من لعابه
وقال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور والطبري سؤر الكلب نجس ويغسل الإناء منه سبعا أولاهن بالتراب
وهو قول أهل الظاهر
وقال داود سؤر الكلب طاهر وغسل الإناء منه سبعا فرض إذا ولغ فيه وما في الإناء من طعام وشراب أو ماء فهو طاهر يؤكل الطعام ويتوضأ بذلك الماء ويغسل سبعا لولوغه فيه
وروى بن القاسم عن مالك أنه لا يغسل الإناء من ولوغ الكلب إلا إذا ولغ في الماء وأما إن كان فيه طعام فيؤكل كل الطعام ولا يغسل الإناء
وروى بن وهب عنه أنه يؤكل الطعام ويغسل الإناء سبعا ولا يراق الماء وحده
وتحصيل مذهبه عند أصحابه أن غسل الإناء من ولوغ الكلب استحباب وكذلك يستحب لمن وجد غيره ألا يتوضأ به
وفي ((التمهيد)) زيادات عن مالك في هذا الباب وكذلك عن الشافعي وغيرهما
وذكرنا هناك طرفا من احتجاجاتهم إذ لا يمكن تقصي اعتراضاتهم وبالله التوفيق
حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا محمد بن وضاح حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم قال حدثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي وعبد الرحمن بن نمر أنهما سمعا بن شهاب الزهري يقول في إناء قوم ولغ فيه كلب فلم يجدوا ماء غيره قال يتوضأ به
قال الوليد فذكرته لسفيان فقال هذا والله الفقه - يقول الله تعالى * (فلم تجدوا ماء) * وهذا ماء وفي النفس منه شيء فأرى أن يتوضأ به ويتيمم
قال الوليد والوجه في هذا أن يتيمم ويصلي ثم يتوضأ بذلك الماء ويصلي خوفا من أن يكون من أهل الماء فلا تجزئه الصلاة بالتيمم ثم إذا وجد ماء غيره غسل أعضاءه وما مس ذلك الماء من ثيابه
قال الوليد وقلت لمالك بن أنس والأوزاعي في كلب ولغ في إناء ماء فقالا لا يتوضأ به
208

فقلت لهما إني لم أجد غيره فقالا لي توضأ به إذا لم تجد غيره
قلت لهما أيغسل الإناء من ولوغ الكلب المعلم سبعا كما يغسل من غير المعلم قالا نعم
58 - مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((استقيموا ولن تحصوا (1) واعملوا وخير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن))
يتصل معنى هذا الحديث ولفظه مسندا من حديث ثوبان ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي - عليه السلام - وقد ذكرتها بطرقها في التمهيد
وقد رواه سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن رجل يقال له إسماعيل بن أوسط شامي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((اعملوا وخير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن))
قال أبو عمر هو شامي كما قال وهو إسماعيل بن أوسط بن إسماعيل البجلي معدود في الشاميين قليل الحديث يروي عن أبي كبشة عن أبيه وروى عنه المسعودي وغيره
وقد روى سفيان بن عيينة أيضا عن منصور عن سالم بن أبي الجعد عن ثوبان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((استقيموا ولن تحصوا واعملوا وخير أعمالكم الوضوء ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن))
والذي عندي في تأويل هذا الحديث أن قوله ((استقيموا)) يعني على الطريقة النهجة التي نهجت لكم وسددوا وقاربوا فإنكم لن تطيقوا الإحاطة في أعمال البر كلها ولا بد للمخلوقين من ملال وتقصير في الأعمال فإن فإن قاربتم ورفقتم بأنفسكم كنتم أجدر أن تبلغوا ما يراد منكم
وقد ذكرنا في التمهيد بإسناد عن الحسن في قول الله عز وجل * (علم أن لن تحصوه) * [المزمل 2] قال لن تطيقوه
209

((7 - باب ما جاء في المسح بالرأس والأذنين))
59 - مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يأخذ الماء بإصبعيه لأذنيه
وقد تقدم في هذا الكتاب عن الصنابحي عن النبي - عليه السلام - عند قوله ((فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من أذنيه)) - حكم الأذنين في المسح وغيره وما للعلماء في ذلك من التنازع وكشف مذاهبهم في ذلك ومعاني أقوالهم فلا معنى لتكريره هنا
وكذلك مضى القول مستوعبا في مسح الرأس عند قوله - عليه السلام - في حديث عبد الله بن زيد بن عاصم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ بمقدم رأسه الحديث وتقصينا مذاهب العلماء في مسح الرأس هناك بما يجب من الذكر فيه والحمد لله
60 - مالك أنه بلغه أن جابر بن عبد الله الأنصاري سئل عن المسح على العمامة فقال لا حتى يمسح الشعر بالماء
وهذا الحديث رواه عبد الرحمن بن إسحاق عن أبي عبيدة عن محمد بن عمار بن ياسر قال سألت جابر بن عبد الله عن المسح على العمامة فقال ((أمس الشعر بالماء)) لا أعلم أنه يتصل بغير هذا الإسناد
رواه عبد الرحمن بن إسحاق عن يزيد بن زريع وبشر بن الفضل وغيرهما
61 - مالك عن هشام بن عروة أن أبا عروة بن الزبير كان ينزع العمامة ويمسح رأسه بالماء
62 - مالك عن نافع أنه رأى صفية بنت أبي عبيد امرأة عبد الله بن عمر تنزع خمارها وتمسح على رأسها بالماء ونافع يومئذ صغير
وفي هذا الحديث جواز شهادة الصغير إذا أداها كبيرا وفي معناها جواز شهادة الفاسق إذا أداها تائبا صالحا وشهادة الكافر إذا أداها مسلما
210

وأما المسح على الرأس فقد تقدم القول فيه مستوعبا في حديث عمرو بن يحيى المازني من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم
وأما المسح على العمامة فاختلف أهل العلم في ذلك واختلفت فيه الآثار فروي عن النبي - عليه السلام - أنه مسح على عمامته من حديث عمرو بن أمية الضمري وحديث بلال وحديث المغيرة بن شعبة وحديث أنس وكلها معلومة
وقد خرج البخاري في الصحيح عنده عن عمرو بن أمية الضمري وقد ذكرنا إسناده والعلة فيه ببيان واضح في كتاب ((الأجوبة عن المسائل المستغربة من كتاب البخاري)) فمن أراد الوقوف على ذلك تأمله هناك والحمد لله
وروي عن جماعة من السلف من الصحابة والتابعين ذكرهم المصنفون بن أبي شيبة وعبد الرزاق وبن المنذر أنهم أجازوا المسح على العمامة
وبه قال الأوزاعي وأبو عبيد القاسم بن سلام وأحمد وإسحاق وأبو ثور للآثار الواردة في ذلك وقياسا على الخفين ولأن الرأس والرجلين عندهم ممسوحان ساقطان في التيمم
واختلاف هؤلاء فيمن مسح على العمامة ثم نزعها كاختلافهم فيمن مسح على الخفين ثم نزعهما
واختلفوا إذا انحل كور (1) منها أو كوران بما لم أر لذكره وجها ها هنا
وقالت طائفة من هؤلاء يجوز مسح المرأة على الخمار ورووا عن أم سلمة زوج النبي - عليه السلام - أنها كانت تمسح على خمارها
وأما الذين لم يروا المسح على العمامة ولا على الخمار فعروة بن الزبير والقاسم بن محمد والشعبي والنخعي وحماد بن أبي سليمان
وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي وأصحابهم
وفي الموطأ سئل مالك عن المسح على العمامة وعلى الخمار فقال لا ينبغي أن يمسح الرجل ولا المرأة على عمامة ولا خمار وليمسحا على رؤوسهما
والحجة لمالك ومن قال بقوله - ظاهر قوله تعالى * (وامسحوا برؤوسكم) * [المائدة 6] ومن مسح على العمامة فلم يمسح برأسه
وقد أجمعوا أنه لا يجوز مسح الوجه في التيمم على حائل دونه فكذلك الرأس
211

والخطاب في قوله * (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) * [النساء 43] كالخطاب في قوله * (وامسحوا برؤوسكم) *
ولا وجه لما اعتلوا به من أن الرأس والرجلين ممسوحان وأنه لما اتفقوا على المسح على الخفين فكذلك العمامة لأن الرجلين عند الجمهور مغسولتان ولا يجزئ المسح عليهما دون حائل وقد قام الدليل على وجوب الغسل لهما فلا معنى للاعتبار بغير ذلك
فإن قيل إن الرأس والرجلين يسقطان في التيمم فدل على أنهما ممسوحان
قيل له وقد يسقط بدن الجنب كله في التيمم ولا يعتبر بذلك فسقط ما اعتلوا به
وقد بينا وجه القول في مسح القدمين وغسلهما ورجحنا الغسل واحتججنا له في غير هذا الموضع بما يغني عن إعادته ها هنا
فإن قيل فهب أن الرجلين مغسولتان هلا كان المسح على العمامة قياسا عليهما في الخفين
قيل له قد أجمعوا على أن المسح على الخفين مأخوذ من طرق الأثر لا من طريق القياس ولو كان من طريق القياس لوجب القول بالمسح على القفازين وعلى كل ما غيب الذراعين من غير علة ولا ضرورة فدل على أن المسح على الخفين خصوص لا يقاس عليه ما كان في معناه
ولما لم يجز أن يقاس الذراعان - وهما مغسولان - على الرجلين المغسولتين إذا كان كل واحد منهما مغيبا فيما يستره مما يصلح لباسه فأحرى ألا يقاس العضو المستور بالعمامة وهو ممسوح على عضو مغسول إذ كان كل واحد منهما مغيبا
وهذا ما لا ينكره أحد من العلماء القائلين بالقياس وبالله التوفيق
وفي هذا الباب وسئل مالك عن رجل توضأ فنسي أن يمسح برأسه حتى جف وضوءه فقال أرى أن يمسح برأسه وإن كان قد صلى أن يعيد الصلاة
هذا يدل من قوله على أن الفور لا يجب عنده إلا مع الذكر وأن النسيان يسقط وجوبه
ولذلك أوجب على العامد لترك مسح رأسه مؤخرا لذلك أو لشيء من مفروض وضوئه استئناف الوضوء من أوله ولم يره على الناسي
212

((8 - باب المسح على الخفين))
63 - مالك عن بن شهاب عن عباد بن زياد وهو من ولد المغيرة بن شعبة عن أبيه عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب لحاجته في غزوة تبوك قال المغيرة فذهبت معه بماء فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فسكبت عليه الماء فغسل وجهه ثم ذهب يخرج يديه من كمي جبته فلم يستطع من ضيق كمي الجبة فأخرجهما من تحت الجبة فغسل يديه ومسح برأسه ومسح على الخفين فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الرحمن بن عوف يؤمهم وقد صلى بهم ركعة فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعة التي بقيت عليهم ففزع الناس فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((أحسنتم))
قال أبو عمر حديث مالك عن بن شهاب عن عباد بن زياد في المسح على الخفين قد ذكرنا في التمهيد علة إسناده وما وقع لمالك وبعض الرواة عنه من الوهم فيه
وذكرنا هناك طرقه عن المغيرة من حديث بن شهاب وغيره بما فيه شفاء لذلك المعنى والحمد لله
وذكرنا هناك أيضا من روى المسح على الخفين من الصحابة عن النبي - عليه السلام - كما رواه المغيرة ومن أفتى به وعمل به منهم - رضي الله عنهم ومن التابعين وجماعة فقهاء المسلمين وأنهم الكافة والجماعة والعامة التي لا يحصى عددها وصحبنا منهم أعدادا فوصلت الرواية إلينا بذلك عنهم فمن أراد الوقوف على ذلك نظر إليه هناك
وفي حديث مالك هذا من العلم ضروب منها خروج الإمام بنفسه في الغزو لجهاد العدو وكانت تلك غزوة تبوك آخر غزاة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وذلك في سنة تسع من الهجرة وهي الغزوة المعروفة بغزوة العسرة
قال بن إسحاق خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك فصالحه أهل أيلة وكتبت لهم كتابا
213

وذكر خليفة بن خياط عن المدائني كان خروجه إليها في رجب ولم يختلفوا أن ذلك في سنة تسع
وفيه أدب الخلاء والبعد عن الناس عند حاجة الإنسان
وفيه على ظاهر حديث مالك وأكثر الروايات ترك الاستنجاء بالماء مع وجود الماء لأنه لم يذكر أنه استنجى بالماء وإنما ذكر أنه صب عليه فغسل وجهه ويديه ومسح برأسه وعلى الخفين
وفي غير حديث مالك فتبرز ثم جاء فصببت على يديه من الإداوة فغسل كفيه وتوضأ
وفي حديث الشعبي عن عروة بن المغيرة عن أبيه فخرج لحاجته ثم أقبل حتى جئته بالإداوة
وفي الآثار كلها أن الإداوة كانت مع المغيرة وليس في شيء منها أنه ناولها رسول الله فذهب بها ثم لما انصرف ردها إليه وأمره أن يصب منها عليه
ولو كان ذلك فيها أو في شيء منها بان بذلك أنه استنجى بالماء ولكن لم يذكر ذلك في شيء من الآثار
فلذلك استنبط من تقدم من أصحابنا من هذا الحديث أنه جائز الاستجمار بالأحجار مع وجود الماء
وقال بن جريج وغيره في هذا الحديث ((فتبرز لحاجته قبل الغائط فحملت معه إداوة))
وقال معمر ((فتخلف وتخلفنا معه بإداوة))
واستدل بهذا وما كان مثله من كره الأحجار مع وجود الماء من العلماء
فإن صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استنجى بالماء يومئذ من نقل من يقبل نقله وإلا فالاستدلال من حديث مالك وما كان مثله صحيح بأن في هذا الحديث ترك الاستنجاء بالماء والعدول عنه إلى الأحجار مع وجود الماء
وأي الأمرين كان فإن الفقهاء اليوم مجمعون على أن الاستنجاء بالماء أطهر وأطيب وأن الأحجار رخصة وتوسعة وأن الاستنجاء بها جائز في السفر والحضر
وقد مضى القول في أحكام الاستنجاء فيما مضى من هذا الكتاب
وفيه لبس الضيق من الثياب بل ينبغي أن نقول وذلك في الغزو مستحب لماء في ذلك من التأهب والانشمار والتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في لباسه مثل ذلك في السفر وليس به بأس عندنا في الحضر لأنه لم يوقف على أن ذلك لا يكون إلا في السفر
214

وفيه أن العمل الذي لا طول فيه جائز بين أثناء الوضوء لمن اضطر إليه ولا يلزم مع ذلك استئناف الوضوء وذلك إذا كان ذلك من أسباب الوضوء كاستقاء الماء وغسل الإناء ونزع الخف وما أشبه ذلك
فإن أخذ المتوضئ في غير عمل الوضوء وطال تركه للوضوء استأنفه من أوله ولا ينبغي لأحد أن يدخل على نفسه شغلا وهو يتوضأ حتى يفرغ من وضوئه
وإذا كان العمل اليسير في الصلاة لا يقطعها فهو أحرى ألا يقطع الوضوء
وفيه أن الرجل الفاضل والعالم والسلطان جائز أن يخدم ويعان على حوائجه وإن كان أعوانه في ذلك أحرارا ليسوا بغلمان رق
وفيه الوضوء بما لا تدخل فيه اليد من الآنية فإذا كان كذلك حسن الصب حينئذ منه على المتوضئ
وفيه انه إذا خيف فوت وقت الصلاة أو فوت الوقت المختار منها لم ينتظر الإمام وإن كان فاضلا جدا
وقد احتج الشافعي بأن أول الوقت أفضل بهذا الحديث
وقال معلوم أن النبي - عليه السلام - لم يكن ليشتغل عن الصلاة حتى يخرج وقتها كلها
وقال لو أخرت الصلاة لشيء من الأشياء عن أول وقتها لأخرت لإمامته عليه السلام وفضل الصلاة معه إذ قدموا عبد الرحمن بن عوف في السفر
وفيه جواز أن يقدم الناس في مساجدهم إماما لأنفسهم بغير إذن الوالي وأن ذلك ليس كالجمعة التي هي إلى الولادة ولا يفتات عليهم فيها إلا أن يعطلوها أو تنزل نازلة ضرورة
وفيه جواز ائتمام الوالي في عمله برجل من رعيته
وفيه بيان لقول النبي - عليه السلام - ((لا يؤمن أحدكم في سلطانه إلا بإذنه)) (1) يعني بدليل هذا الحديث إلا لفضل في الوقت وخوف فوته وفي معنى ذلك ما كان أشد ضرورة من ذلك أو مثله
215

وفيه جواز صلاة الفاضل خلف المفضول
وفيه أنه رسول الله حين صلى مع بن عوف ركعة جلس معه في الأولى ثم قضى ما فاته من الأخرى فكان فعله هذا كقوله ((إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه)) (1)
وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ذلك في فعلهم ذلك ((أحسنتم)) دليل أنه ينبغي أن يحمد ويشكر كل من برز إلى أداء فرضه وعمل ما يجب عليه عمله
وفيه فضل لعبد الرحمن إذ قدمه جماعة الصحابة لأنفسهم في صلاتهم بدلا من نبيهم عليه السلام
وفيه الحكم الجليل الذي فرق بين أهل السنة وأهل البدع وهو المسح على الخفين لا ينكره إلا مبتدع خارج عن جماعة المسلمين فأهل الفقه والأثر لا خلاف بينهم في ذلك بالحجاز والعراق والشام وسائر البلدان إلا قوما ابتدعوا فأنكروا المسح على الخفين وقالوا إنه خلاف القرآن وعمل القرآن نسخه
ومعاذ الله أن يخالف رسول الله كتاب الله الذي جاء به
قال الله تعالى * (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) * [النحل 44]
وقال * (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) * [النساء 65]
والقائلون بالمسح على الخفين هم الجم الغفير والعدد الكثير الذين لا يجوز عليهم الغلط ولا التشاغر ولا التواطؤ وهم جمهور الصحابة والتابعين وهم فقهاء المسلمين
وقد روي عن مالك إنكار المسح على الخفين في السفر والحضر وهي رواية أنكرها أكثر القائلين بقوله والروايات عنه بإجازة المسح على الخفين في الحضر والسفر أكثر
وأشهر وعلى ذلك بنى موطأه وهو مذهبه عند كل من سلك اليوم سبيله لا ينكره منهم أحد والحمد لله
216

وروى شعبة والثوري وبن عيينة وأبو معاوية وغيرهم عن الأعمش عن إبراهيم عن همام بن الحارث قال رأيت جريرا بال وتوضأ من مطهرة ومسح على خفيه فقيل له أتفعل هذا فقال وما يمنعني أن أفعل وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله
قال إبراهيم فكانوا - يعني أصحاب عبد الله وغيرهم - يعجبهم هذا الحديث ويستبشرون به لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة
وقد ذكرنا هذا الخبر عن جرير وعن إبراهيم من طرق في التمهيد
أخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا داود قال حدثنا علي بن الحسين الدرهمي قال حدثنا أبو داود عن بكير بن عامر عن أبي زرعة عن عمرو بن جرير أن جريرا بال ثم توضأ ومسح على الخفين فقيل له في ذلك فقال أما ينبغي أن أمسح وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح
قالوا إنما كان ذلك قبل نزول المائدة
قال ما أسلمت إلا بعد نزول المائدة
قال أبو عمر قال أهل السير كان إسلام جرير في آخر سنة عشر وقيل في أول سنة عشر وقيل في أول سنة إحدى عشرة وفيها مات رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقد تأول جماعة من العلماء قول الله عز وجل * (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) * [المائدة 6] أنه أراد إذا كانا في الخفين نحو أربعين من الصحابة
وقد روي عن الحسن البصري أنه قال أدركت سبعين رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحون على الخفين
وعمل بالمسح على الخفين أبو بكر وعمر وعثمان وعلى وسائر أهل بدر وأهل الحديبية وغيرهم من المهاجرين والأنصار وقد ذكرنا كثيرا منهم في التمهيد
ولم يرو عن أحد من الصحابة إنكار المسح على الخفين إلا عن بن عباس وعائشة وأبي هريرة
فأما بن عباس وأبو هريرة فقد جاء عنهما بالأسانيد الصحاح خلاف ذلك وموافقة لسائر الصحابة
ذكر أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن إدريس عن فطر قال قلت لعطاء إن عكرمة يقول قال بن عباس سبق الكتاب الخفين قال عطاء كذب عكرمة أنا رأيت بن عباس يمسح عليهما
217

وروى أبو زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة أنه كان يمسح على خفيه
وذكر الأثرم قال سمعت أحمد بن حنبل وقيل له ما تقول فيما روي عن أبي هريرة وأبي أيوب وعائشة في إنكار المسح على الخفين فقال إنما روي عن أبي أيوب أنه قال حبب إلي الغسل فإن ذهب ذاهب إلى قول أبي أيوب الأنصاري حبب إلي الغسل لم أعبه قال إلا أن يترك رجل المسح ولا يراه كما صنع أهل البدع فهذا لا يصلى خلفه
ثم قال نحن لا نذهب إلى قول أبي أيوب ونرى المسح أفضل
ثم قال ومن تأول تأويلا سائغا لا يخالف فيه السلف صلينا خلفه وإن كنا نرى غيره
ثم قال لو أن رجلا لم ير الوضوء من الدم ونحن نراه كنا لا نصلي خلفه إذا كنا لا نصلي خلف سعيد بن المسيب ومالك ومن سهل في الوضوء من الدم
قال أبو عمر لا أعلم أحدا من الصحابة جاء عنه إنكار المسح على الخفين ممن لا يختلف عليه فيه إلا عائشة
وكذلك لا أعلم أحدا من فقهاء المسلمين روي عنه إنكار ذلك إلا مالكا والروايات الصحاح عنه بخلاف ذلك موطؤه يشهد للمسح على الخفين في الحضر والسفر وعلى ذلك جميع أصحابه وجماعة أهل السنة وإن كان من أصحابنا من يستحب الغسل ويفضله على المسح من غير إنكار للمسح على معنى ما روي عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال أحب إلي الغسل
وقد ذكرنا في ((التمهيد)) حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن عن بن عمر أنه كان يقول لا يحيكن في صدر أحدكم المسح على الخفين وإن جاء من الغائط لأني كنت من أشد الناس في المسح
وذكر بن أبي شيبة حدثنا هشيم عن مغيرة عن إبراهيم قال مسح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخفين فمن ترك ذلك رغبة عنه فإنما هو من الشيطان
حدثنا محمد بن زكريا حدثنا أحمد بن شعيب حدثنا أحمد بن خالد حدثنا مروان بن عبد الملك حدثنا أبو حاتم حدثنا الأصمعي حدثنا المعتمر بن سليمان قال كان أبي لا يختلف عليه في شيء من الدين إلا أخذ بأشده إلا المسح على الخفين فإنه كان يقول هو السنة واتباعها الأفضل
وقد زدنا هذا المعنى بيانا في ((التمهيد))
واختلف الفقهاء في المسح في السفر فروي عن مالك ثلاث روايات في ذلك
218

إحداها - وفي أشدها نكارة - إنكاره المسح في السفر والحضر
والثانية كراهية المسح في الحضر وإباحته في السفر
والثالثة إباحة المسح في السفر والحضر وعلى ذلك فقهاء الأمصار بالحجاز والعراق والشام والمشرق والمغرب
وقد روي عن النبي - عليه السلام - أحاديث في المسح في الحضر كلها معلولة قد ذكرناها في التمهيد
وأحسنها ما حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بن وضاح قال حدثنا أبو الطاهر أحمد بن عمر بن السرح قال حدثنا عبد الله بن نافع عن داود
بن قيس عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أسامة بن زيد ((أن النبي - عليه السلام - دخل دار رجل فتوضأ ومسح على خفيه))
قال بن وضاح فقلت لأبي علي عبد العزيز بن عمران بن مقلاص أمسح رسول الله على خفيه في الحضر قال نعم
ثم حدثني بهذا الحديث عن الشافعي عن عبد الله بن نافع بإسناده مثله
قال بن نافع وقال لي أبو مصعب دار حمل بالمدينة
قال وقال لي زيد بن بشر عن بن وهب قد مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر والحضر
قال أبو عمر وقد ذكرنا حديث أسامة بن زيد هذا من طرق في التمهيد كلها من طريق عبد الله بن نافع وأن مالكا انفرد به بالإسناد المذكور
وذكرنا هناك أيضا أن عيسى بن يونس انفرد به عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة بقوله ((كنت أمشي مع النبي - عليه السلام - بالمدينة فأتى سباطه قوم فبال قائما ثم توضأ ومسح على خفيه (1)
ولم يقل فيه أحد ((بالمدينة)) غير عيسى بن يونس وهو ثقة فاضل إلا أنه خولف في ذلك عن الأعمش وسائر من رواه عن الأعمش لا يقول فيه ((بالمدينة))
قال بن وضاح السباطة المزبلة والمزابل لا تكون إلا في الحضر والله أعلم
219

قال أبو عمر قول بن وضاح المزابل لا تكون إلا في الحضر تحكم منه
وممكن أن تكون في البادية في الحضر ومن مر بالبادية من المسافرين لم يمتنع عليه البول عليها
وأظن بن وضاح إنما قصد بقوله - الاحتجاج لرواية عيسى بن يونس أن ذلك كان بالمدينة فجاء بلفظ غير مهذب والله أعلم
قال أبو عمر احتج بعض من لم ير المسح في الحضر من أصحابنا بحديث شريح بن هانئ ((أنه سأل عائشة أم المؤمنين عن المسح على الخفين فقالت له سل عليا فإنه كان يغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم))
وليس في الحديث أكثر من جهل عائشة المسح على الخفين وليس من جهل شيئا كمن علمه
وقد سأل شريح بن هانئ عليا كما أمرته عائشة فأخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في المسح على الخفين ((ثلاثة أيام للمسافر ويوم وليلة للمقيم))
وهو حديث ثابت صحيح نقله أئمة حفاظ
حدثنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا بكر بن حماد حدثنا مسدد حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة عن الحكم عن القاسم بن محمد عن شريح بن هانئ قال سألت عائشة عن المسح على الخفين فقالت سل علي بن أبي طالب فإنه كان يغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوم وليلة للمقيم)) (1)
رفعه كما رفعة شعبة وأبو خالد الدالاني عن الحكم وأبو معاوية عن الأعمش عن الحكم وكذلك رواه مرفوعا عن المقدام بن شريح عن أبيه ومن رفعه أحفظ وأثبت ممن وقفه
وأحتج بعض أصحابنا للمسح في السفر دون الحضر بأنها رخصة لمشقة السفر
220

قياسا على الفطر والقصر وهذا ليس بشيء لأن القياس والنظر لا يعرج عليه مع صحة الأثر
واختلف العلماء في توقيت المسح على الخفين
فقال مالك وأصحابه والليث بن سعد لا وقت للمسح على الخفين ومن لبس خفيه وهو طاهر يمسح ما بدا له في الحضر والسفر المقيم والمسافر في ذلك سواء
وروي مثل ذلك عن عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص وعقبة بن عامر وعبد الله بن عمر والحسن البصري
وقد ذكرنا الأسانيد عنهم في التمهيد
وروي في المسح بلا توقيت عن النبي - عليه السلام - حديث أبي بن عمارة وهو حديث لا يثبت وليس له إسناد قائم
وقال أبو حنيفة وأصحابه وسفيان الثوري والأوزاعي والحسن بن حي والشافعي وأحمد بن حنبل وداود والطبري للمقيم يوم وليلة وللمسافر ثلاثة أيام ولياليهن
وقد روي عن مالك التوقيت في المسح في رسالته إلى بعض الخلفاء وأنكر ذلك أصحابه
وروي التوقيت عن النبي - عليه السلام - من وجوه كثيرة من حديث علي بن أبي طالب وخزيمة بن ثابت وصفوان بن عسال وأبي بكرة وغيرهم
وروي عن عمر بن الخطاب التوقيت في المسح على الخفين من طرق قد ذكرتها في ((التمهيد)) أكثرها من حديث أهل العراق وبأسانيد حسان
وثبت ذلك عن علي وبن مسعود وبن عباس وسعد بن أبي وقاص على اختلاف عنه وعمار بن ياسر وحذيفة وأبي مسعود الأنصاري والمغيرة بن شعبة وغيرهم
وعليه جمهور التابعين وأكثر الفقهاء وهو الاحتياط عندي لأن المسح ثبت بالتواتر واتفق عليه جماعة أهل السنة واطمأنت النفس إلى ذلك
فلما قال أكثرهم إنه لا يجوز المسح للمقيم أكثر من يوم وليلة خمس صلوات ولا يجوز للمسافر أكثر من خمس عشرة صلاة ثلاثة أيام ولياليها - وجب على العالم أن يؤدي صلاته بيقين واليقين الغسل حتى يجمعوا على المسح ويتفق جمهورهم على ذلك ويكون الخارج عنهم في ذلك شاذا كما شذ عن جماعتهم من لم ير المسح
ذكر أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا حاتم بن إسماعيل بن عبد الرحمن بن حرملة
221

قال قال لي سعيد بن المسيب إذا أدخلت رجليك في الخفين وهما طاهران وأنت مقيم - كفاك إلى مثلها من الغد وللمسافر ثلاث ليال
واختلف الفقهاء أيضا في الخف المخرق والمسح عليه
فقال مالك وأصحابه يمسح عليه إذا كان الخرق يسيرا ولم تظهر منه القدم فإن ظهرت منه القدم لم يمسح عليه
وقال بن خويز منداد معناه أن يكون الخرق لا يمنع الانتفاع به ومن لبسه يكون مثله يمشي فيه وينتفع به
وبنحو قول مالك في ذلك قال الثوري والليث بن سعد والشافعي على اختلاف عنهم في ذلك
وقد روي عن الثوري إجازة المسح على الخف المخرق وإن تفاحش خرقه
قال بعضهم عنه ما دام يسمى خفا
قال وقد كان خفاف المهاجرين والأنصار لا تسلم من الخرق
وروي عن الشافعي فيه تشديد قال في الكتاب المصري إذا كان الخرق في مقدم الرجل فلا يجوز أن يمسح عليه إذا بدا منه شيء
وقال الأوزاعي يمسح على الخف وعلى ما ظهر من القدم
وهو قول الطبري
وأصله جواز المسح إذا كان ما ظهر منه يغطيه الجورب وإن ظهر شيء من القدم لم يمسح
وهذا على أصله في إجازة المسح على الجوربين إذا كانا ثخينين
وهو قول الثوري وأبي يوسف ومحمد
ولا يجوز المسح على الجوربين عند أبي حنيفة والشافعي إلا أن يكونا مجلدين
وهو أحد قولي مالك ولمالك قول آخر لا يجوز المسح على الجوربين وإن كانا مجلدين
واختلفوا فيمن نزع خفيه بعد أن مسح عليهما
فقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما إذا كان ذلك غسل قدميه
وقال مالك والليث مثل ذلك إلا أنهما قالا إن غسلهما مكانه أجزأه وإن أخر غسلهما استأنف الوضوء
222

وقال الحسن بن حي إذا خلع نعليه أعاد الوضوء من أوله ولم يفرق بين تراخي الغسل وغيره
وقال بن أبي ليلى وداود إذا نزع خفيه بعد المسح صلى كما هو وليس عليه غسل رجليه ولا استئناف الوضوء قياسا على مسح شعر الرأس
وقال بكل قول من هذه الأقوال جماعة من فقهاء التابعين
وروي عن الأوزاعي في هذه روايتان إحداهما يعيد الوضوء والأخرى أنه يغسل رجليه خاصة
وعن إبراهيم النخعي في ذلك ثلاث روايات
إحداها أنه لا شيء عليه مثل قول بن أبي ليلى وهو قول الحسن البصري
والثانية أن يعيد الوضوء
والثالثة أن يغسل قدميه
فوجه قول بن أبي ليلى ومن قال بقوله أن نزع الخف ليس بحدث وقد كان على طهارة تجب له الصلاة بها ثم اختلفوا فلا يزيل اختلافهم طهارته وشبهه بعضهم بالمسح على الرأس ثم حلقه
ومن قال يغسل قدميه حجته أن العلة الموجبة للمسح مغيب القدمين في الخفين فإذا ظهرتا عاد الحكم إلى أصله فوجب غسله
ومن قال بغسلهما مكانه وابتدأ الوضوء راعى تبعيض الوضوء وهذا المعنى راعى من رأى استئناف الوضوء والله أعلم
وفي التمهيد مسائل من هذا الباب وآثار كثيرة ليس موضع ذكرها هذا الكتاب
وأما حديث مالك في تأخير المسح على الخفين حين بال في السوق وتوضأ (1) فمحمول عند أصحابنا أنه نسي لا أنه تعمد تبعيض وضوئه وهو محتمل لذلك
وليس في حديث أنس موضع للقول غير المسح في الحضر والباب كله يدل عليه
64 - مالك عن نافع وعبد الله بن دينار أنهما أخبراه أن عبد الله بن عمر قدم الكوفة على سعد بن أبي وقاص وهو أميرها فرآه عبد الله بن عمر يمسح على
223

الخفين فأنكر ذلك عليه فقال له سعد سل أباك إذا قدمت عليه فقدم عبد الله فنسي أن يسأل عمر عن ذلك حتى قدم سعد فقال أسألت أباك فقال لا فسأله عبد الله فقال عمر إذا أدخلت رجليك في الخفين وهما طاهرتان فامسح عليهما قال عبد الله وإن جاء أحدنا من الغائط فقال عمر نعم وإن جاء أحدكم من الغائط
وذكرنا هذا الحديث من طرق عن عبد الله بن دينار وأبي الزبير وأبي سلمة عن عبد الرحمن كلهم عن بن عمر بهذا المعنى
وإنكار بن عمر على سعد إنما كان المسح في الحضر لأنه جهل مسح الخفين في الحضر وهو بين في حديث مالك
وفي رواية بن جريج عن نافع في هذا الخبر ((وهو مقيم بالكوفة)) وهو ظاهر حديث مالك وهذا يقتضي المسح للمقيم فمن أراد رواية هذا الخبر باختلاف ألفاظه واتفاق معانيه نظره في التمهيد
وأما قول عمر وشرطه فيه ((إذا أدخلت رجليك في الخفين وهما طاهرتان)) فقد ثبت ذلك عن النبي - عليه السلام - من حديث الشعبي عن عروة بن المغيرة بن شعبة عن أبيه عن النبي - عليه السلام - رواه عن الشعبي يونس بن أبي إسحاق وذكره بن أبي زائدة ومجالد بن سعيد وغيرهم
قال الشعبي شهد لي عروة على أبيه كذلك وشهد أبوه عن النبي - عليه السلام
وقد ذكرت ذلك كله في ((التمهيد)) بالطرق والأسانيد
وأجمع العلماء على أنه لا يجوز أن يمسح على الخفين إلا من لبسهما على طهارة إلا أنهم اختلفوا في هذا المعنى فيمن قدم في وضوئه غسل رجليه ولبس خفيه ثم أتم وضوءه هل يمسح عليهما أم لا)
وهذا إنما يصح على قول من أجاز تقديم أعضاء الوضوء بعضها على بعض ولم يوجب النسق ولا الترتيب فيها
وهي مسألة قد ذكرناها فيما تقدم من كتابنا هذا
وأما هذه المسألة فقال أبو حنيفة وأصحابه من غسل رجليه ولبس خفيه ثم أكمل وضوءه أجزأه أن يمسح عليهما
وقال مالك والشافعي لا يجزئه إلا أن يكون لبس خفيه بعد أن أكمل الوضوء
وقال الطحاوي محتجا للكوفيين يجوز أن يقال إن رجليه طاهرتان إذا غسلهما
224

ولم يكمل الطهارة قبل ذلك كما يقال صلى ركعتين وإن لم يتم صلاته
وقال غيره منهم إنما يراعى الحدث والحدث لا يرد إلا على طهارة كاملة فهو كمن يقدم رجليه
وحجة أصحابنا أن من لبس خفيه قبل كمال طهارته فكأنه مسحهما قبل غسل رجليه لأن في حديث المغيرة إذا أدخلت رجليك في الخفين وأنت طاهر فامسح عليهما ولا يكون طاهرا إلا بكمال الطهارة وكذلك في حديث أبي بكرة إذا تطهر فلبس خفيه مسح عليهما
وهذا يقتضي أن يكون لبسه خفيه بعد تقدم طهارته على الكمال
وأما أصحاب الشافعي فيبطلون الطهارة على غير الترتيب وليس عندهم على طهارة من فعل ذلك فكيف يمسح
وقد تقدم القول في ذلك لهم وعليهم
ومن هذه المسألة تفرع الجواب فيمن لبس أحد خفيه بعد غسل إحدى رجليه وقبل أن يغسل الأخرى
فقال مالك لا يمسح على خفيه من فعل ذلك لأنه قد لبس الخف الآخر قبل تمام طهارته وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق
وقال أبو حنيفة والثوري والمزني والطبري وداود يجوز له أن يمسح وهو قول طائفة من أصحابنا منهم مطرف
وقد أجمعوا أنه لو نزع الخف الأول بعد لبسه جاز له المسح
وفي هذا الباب سئل مالك عن رجل توضأ وعليه خفاه وسها عن المسح عليهما حتى جف وضوءه وصلى
قال ليمسح على خفيه وليعد الصلاة ولا يعد الوضوء
هذا لأن تبعيض الوضوء عنده سهوا لا يضره ولو تعمد ذلك ابتدأ الوضوء
وهذا أصل قد تكرر القول فيه
((9 - باب العمل في المسح على الخفين))
65 - مالك عن هشام بن عروة أنه رأى أباه يمسح على الخفين قال وكان
225

لا يزيد إذا مسح على الخفين على أن يمسح ظهورهما ولا يمسح بطونهما
66 - مالك أنه سأل بن شهاب عن المسح على الخفين كيف هو فأدخل بن شهاب إحدى يديه تحت الخف والأخرى فوقه ثم أمرهما
قال مالك وقول بن شهاب أحب ما سمعت إلي في ذلك
ولم يختلف قول مالك أن المسح على الخفين على حسب ما وصف بن شهاب إلا أنه لا يرى الإعادة على من اقتصر على مسح ظهور الخفين إلا في الوقت
ومن فعل ذلك وذكر في الوقت مسح أعلاهما وأسفلهما ثم أعاد تلك الصلاة في الوقت
وهو قول بن القاسم وجمهور أصحاب مالك إلا بن نافع فإنه رأى الإعادة على من فعل ذلك في الوقت وبعده
وكلهم يقول فمن مسح بطونهما دون ظهورهما يعنون أسفلهما دون أعلاهما - أعاد أبدا إلا أشهب فإنه لم ير الإعادة من ذلك أيضا إلا في الوقت
وقد روي عن بعض أصحاب الشافعي أنه أجاز أن يمسح على باطن الخف دون ظهره
وأما الشافعي فقد نص أنه لا يجوز المسح على أسفل الخف ويجزئه على ظهره فقط
ويستحب ألا يقصر أحد عن ظهور الخفين وبطونهما معا كقول مالك وبن شهاب
وهو قول عبد الله بن عمر ذكر عبد الرزاق عن بن جريج عن نافع عن بن عمر أنه كان يمسح ظهور خفيه وبطونهما
ورواه الثوري عن بن جريج
ورواه بن وهب عن أسامة بن زيد عن نافع عن بن عمر أنه كان يمسح أعلاهما وأسفلهما
وذكر الزبيدي عن الزهري قال إنما هما بمنزلة رجليك ما لم تخلعهما
والحجة لمالك والشافعي في مسح ظهور الخفين وبطونهما معا - حديث المغيرة بن شعبة عن النبي - عليه السلام - ((أنه كان يمسح أعلى الخف وأسفله
226

رواه ثور بن زيد عن رجاء بن حيوة عن كاتب المغيرة عن المغيرة ولم يسمعه ثور من رجاء
وقد بينا علته في التمهيد
وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري يمسح ظاهر الخفين دون بطونهما
وبه قال أحمد وإسحاق وداود
وهو قول علي بن أبي طالب وقيس بن سعد بن عبادة وعروة بن الزبير والحسن البصري وعطاء بن أبي وضاح وجماعة
والحجة لهم ما ذكر أبو داود قال حدثنا محمد بن العلاء قال حدثنا حفص بن غياث عن الأعمش عن أبي إسحاق عن عبد خير عن علي قال ((لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه)) (1)
وروى بن أبي الزناد عن أبيه عن عروة بن الزبير عن المغيرة بن شعبة قال ((رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح ظهري الخفين))
وهذان الحديثان يدلان على بطلان قول أشهب ومن تابعه أنه يجوز الاقتصار بالمسح على باطن الخف
ومن جهة النظر ظاهر الخف في حكم الخف وباطنه في حكم النعل ولا يجوز المسح على النعلين وأيضا فإن المحرم لا فدية عليه في النعلين يلبسها ولا فيما له أسفل ولا ظهر له من الخف
ولو كان لخف المحرم ظهر قدم ولم يكن له أسفل لزمته الفدية فدل على أن المراعي في الخف ما يستر ظهور القدمين وهو المراعي في المسح والله أعلم
((10 - باب ما جاء في الرعاف))
67 - مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا رعف (2) انصرف فتوضأ ثم رجع فبنى (3) ولم يتكلم
227

68 - مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عباس كان يرعف فيخرج فيغسل الدم عنه ثم يرجع فيبني على ما قد صلى
69 - مالك عن يزيد بن عبد الله بن قسيط الليثي أنه رأى سعيد بن المسيب رعف وهو يصلي فأتى حجرة أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فأتي بوضوء فتوضأ ثم رجع فبنى على ما قد صلى
في هذا الباب وجوه من الفقه اختلف العلماء قديما وحديثا
منها الرعاف هل هو حدث يوجب الوضوء للصلاة أم لا
ومنها بناء الراعف على ما قد صلى
ومنها بناء المحدث أي حدث كان إذا نزل بالمصلي بعد أن صلى بعض صلاته فانصرف فتوضأ هل يبني على ما صلى أم لا
ونحن نورد في هذا الباب ما في ذلك للعلماء مختصرا كافيا بعون الله
فأول ذلك قوله عن بن عمر ((إنه لما رعف انصرف فتوضأ)) حمله أصحابنا على أنه غسل الدم ولم يتكلم وبنى على ما صلى
قالوا وغسل الدم يسمى وضوءا لأنه مشتق من الوضاءة وهي النظافة
قالوا فإذا احتمل ذلك لم يكن لمن ادعى علي بن عمر أنه توضأ للصلاة في دعواه ذلك - حجة لاحتماله الوجهين
وكذلك تأولوا حديث سعيد بن المسيب لأنه قد ذكر الشافعي وغيره عنه أنه رعف فمسحه بصوفة ثم صلى ولم يتوضأ
قالوا ويوضح ذلك فعل بن عباس أنه غسل الدم عنه وصلى
وحمل أفعالهم على الاتفاق منهم أولى
وخالف أهل العراق في هذا التأويل فقالوا إن الوضوء إذا أطلق ولم يقيد بغسل دم وغيره فهو الوضوء المعلوم للصلاة وهو الظاهر من إطلاق اللفظ
مع أنه معروف من مذهب بن عمر ومذهب أبيه عمر إيجاب الوضوء من الرعاف وأنه كان عندهما حدثا من الأحداث الناقضة للوضوء إذا كان الرعاف
228

ظاهرا سائلا وكذلك كل دم سال من الجسد وظهر
فذكر بن أبي شيبة قال حدثنا هشيم قال أخبرنا بن أبي ليلى عن نافع عن بن عمر قال من رعف في صلاته فلينصرف وليتوضأ فإن لم يتكلم بنى على صلاته وإن تكلم استأنف الصلاة
وذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم عن بن عمر قال ((إذا رعف الرجل في الصلاة أو ذرعه القيء أو وجد مذيا فإنه ينصرف فيتوضأ))
ثم عن نافع عن بن عمر قال من رعف في صلاته فلينصرف وليتوضأ ثم يرجع فيتم ما بقي على ما مضى ما لم يتكلم
وقال الزهري الرعاف والقيء سواء يتوضأ منهما ويبني ما لم تتكلم
وذكر عبد الرزاق عن بن جريج عن عبد الحميد بن جبير أنه سمع سعيد بن المسيب يقول إن رعفت في الصلاة فاسدد منخريك وصل كما أنت فإن خرج من الدم شيء فتوضأ وأتم على ما مضى ما لم تتكلم
قال أبو عمر ذكر بن عمر للمذي المجتمع على أن فيه الوضوء مع القيء والرعاف يوضح مذهبه فيما ذكرنا
وروي مثل ذلك عن علي وبن مسعود وعلقمة والأسود وعامر الشعبي وعروة بن الزبير وإبراهيم النخعي والحكم بن عتيبة وحماد بن أبي سليمان كلهم يرى الرعاف وكل دم سائل من الجسد حدثا يوجب الوضوء للصلاة وبذلك قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي وعبيد الله بن الحسن والأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه في الرعاف والفصادة والحجامة وكل نجس خارج من الجسد يرونه حدثا ينقض الطهارة ويوجبها على من أراد الصلاة
فإن كان الدم يسيرا غير سائل ولا خارج فإنه لا ينقض الوضوء عند جميعهم ولا أعلم أحدا أوجب الوضوء من يسير الدم إلا مجاهدا وحده والله أعلم
وقد احتج أحمد بن حنبل في ذلك بأن عبد الله بن عمر عصر بثرة فخرج منها دم ففتله بيده ثم صلى ولم يتوضأ
قال أبو عمر قد ذكرنا الخبر عن بن عمر وعن بن أبي أوفى بالإسناد عنهما في ((التمهيد))
وفي الموطأ عن سعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله في الدم اليسير الخارج من الأنف إذا غلبه بالفتل حتى لا يقطر ولا يسيل - نحو ذلك
ومعلوم من مذهب سالم أنه كمذهب أبيه في الرعاف
229

وذكر بن أبي شيبة حدثنا معمر بن سليمان عن عبيد الله بن عمر قال رأيت سالم بن عبد الله صلى ركعة من صلاة الغداة ثم رعف فخرج فتوضأ ثم جاء فبنى على ما صلى
واحتج من رأى الدم السائل من الجسد ينقض الوضوء بحديث مرفوع من حديث عائشة لا يثبته أهل الحديث ولا عندهم له إسناد تجب به حجة
واحتجوا أيضا بقول النبي - عليه السلام - للمستحاضة ((إنما ذلك عرق وليست بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة فإذا ذهبت فاغتسلي وصلي وتوضئي لكل صلاة)) (1)
قالوا فأوجب - عليه السلام - الوضوء على المستحاضة من دم العرق والسائل فكذلك كل دم يسيل من الجسد
قال أبو عمر قوله في المستحاضة وتوضئي لكل صلاة لفظ قد اختلف فيه رواة ذلك الحديث وسنذكره في باب المستحاضة إن شاء الله
وأما مذهب أهل المدينة فقال مالك الأمر عندنا أنه لا يتوضأ من رعاف ولا قيء ولا قيح ولا دم يسيل من الجسد ولا يتوضأ إلا من حدث يخرج من ذكر أو دبر أو نوم
هذا قوله في موطئه وعليه جماعة أصحابه
وكذلك الدم عنده يخرج من الدبر لا وضوء فيه
ولا وضوء عنده إلا في المعتادات من الخارج من المخرجين على ما تقدم عنه في بابه من هذا الكتاب
وإليه ذهب داود وقول الشافعي في الرعاف والحجامة والفصد وسائر الدماء الخارجة من الجسد كقول مالك سواء إلا ما يخرج من المخرجين القبل والدبر فإنه عنده حدث ينقض الوضوء
وسواء كان الخارج من المخرجين ماء أو حصاة أو دودا أو بولا أو رجيعا على ما تقدم أيضا من مذهبه في موضعه في هذا الكتاب
ومن حجته في ذلك أن دم العرق في المستحاضة إنما وجب فيه الوضوء لأنه
230

خرج من المخرج وكل ما خرج من سبيل البول والغائط ففيه الوضوء قال ولا يجوز قياس سائر الجسد على المخرجين لأنهما مخصوصان في الاستنجاء بالأحجار وبأنهما سبيلا الأحداث المجتمع عليها ليس سائر الجسد يشبههما
وممن كان لا يرى في الدماء الخارجة من غير المخرجين وضوءا طاوس ويحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة بن أبي عبد الرحمن وأبو الزناد وبه قال أبو ثور
وقال يحيى بن سعيد ما أعلم على الراعف وضوءا
قال وهذا الذي عليه الناس
والحجة لأهل المدينة ولمن قال بقولهم إن الوضوء المجتمع عليه لا يجب أن يحكم بنقضه إلا بحجة من كتاب أو سنة لا معارض لمثلها أو بالإجماع من الأمة وذلك معدوم فيما وصفنا والله أعلم
وأما بناء الراعف على ما قد صلى ما لم يتكلم فقد ثبت ذلك عن عمر وعلي وبن عمر وروي عن أبي بكر أيضا ولا مخالف لهم في ذلك من الصحابة إلا المسور بن مخرمة وحده
وروي أيضا البناء للراعف على ما صلى ما لم يتكلم عن جماعة التابعين بالحجاز والعراق والشام ولا أعلم بينهم في ذلك اختلافا إلا الحسن البصري فإنه ذهب في ذلك مذهب المسور بن مخرمة إلا أنه لا يبني من استدبر القبلة في الرعاف وغيره وهو أحد قولي الشافعي واستحب ذلك إبراهيم النخعي وبن سيرين
ذكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع قال حدثنا الربيع عن الحسن قال إذا استدبر القبلة استقبل وإن التفت عن يمينه أو شماله مضى في صلاته
قال وكيع وحدثنا سفيان عن حماد عن إبراهيم قال أحب إلي في الرعاف إذا استدبر القبلة أن يستقبل
قال بن أبي شيبة حدثنا هشيم قال حدثنا منصور عن بن سيرين قال أجمعوا على أنه إذا تكلم استأنف
قال وأنا أحب أن يتكلم ويستأنف
وقال مالك من رعف في صلاته قبل أن يعقد منها ركعة تامة بسجدتيها فإنه ينصرف فيغسل الدم عنه ويرجع فيبتدئ الإقامة والتكبير والقراءة
ومن أصابه الرعاف في وسط صلاته أو بعد أن يرجع منها ركعة بسجدتيها انصرف فغسل الدم عنه وبنى على ما صلى حيث شاء إلا الجمعة فإنه لا يتمها إلا في الجامع
231

قال مالك ولولا خلاف من مضى لكان أحب إلي للراعف أن يتكلم ويبتدئ الصلاة من أولها
قال مالك ولا يبنى أحد في القيء ولا في شيء من الأحداث ولا يبنى إلا الراعف وحده
وعلى هذا جمهور أصحاب مالك ومنهم من يرى أن يبنى الراعف على ما مضى قليلا كان أو كثيرا
وعن الشافعي في الراعف روايتان إحداهما يبني والأخرى لا يبني
وأما البناء في سائر الأحداث فقال أبو حنيفة وأصحابه كل حدث سبق المصلي في صلاته بولا كان أو غائطا أو رعافا أوريحا فإنه ينصرف ويتوضأ ويبنى على ما قد صلى
وهو قول بن أبي ليلى وبه قال داود يبني في كل حدث بعد أن يتوضأ وليس الرعاف ولا القيء عنده حدثا
وهو قول الشافعي في القديم ثم رجع عنه في الكتاب المصري
وقال أبو حنيفة وأصحابه من أحدث في ركوعه أو سجوده يعيد ما أحدث فيه ولا يعتد به
وكذلك قال مالك في الرعاف إذا رعف قبل تمام الركعة بسجدتيها لم يعتد بها ولم يبن عليها
وقال الثوري إذا كان حدثه من رعاف أو قيء توضأ وبنى وإن كان حدثه من بول أو ريح أو ضحك في الصلاة أعاد الوضوء والصلاة
وهو قول إبراهيم في رواية
وقال الزهري يبني في الرعاف والقيء خاصة بعد أن يتوضأ ولا يبني في سائر الأحداث
وليس الضحك في الصلاة حدثا عند الحجازيين
وقال الأوزاعي إن كان حدثه من قيء أو ريح توضأ أو استقبل وإن كان من رعاف توضأ وبنى وكذلك الدم كله عنده مثل الرعاف
وقال بن شبرمة من أحدث انتقض وضوءه فإن كان إماما قدم رجلا فصلى بقية صلاته فإن لم يفعل وصلى كل رجل ما عليه أجزأه والإمام يتوضأ ويستقبل
قال أبو عمر قد أجمع العلماء على أن الراعف إذا تكلم لم يبن فقضى إجماعهم بذلك على أن المحدث أحرى ألا يبني لأن الحدث إن لم يكن كالكلام في مباينته للصلاة كان أشد منه الكلام
232

وهذا أوضح لمن أراد الله هداه
قال أبو عمر روى الكوفيون عن علي وعن سلمان الفارسي فيمن احدث في صلاته من بول أو ريح أو قيء أو رعاف أو غائط أن يتوضأ ويبني
إلا أن أكثر الأحاديث عن علي ليس فيها إلا ذكر القيء والرعاف لا غير ولا يصح عنه البناء إلا في القيء والرعاف
وهو قول بن شهاب
قال أبو عمر واحتج بعض أصحابنا وأصحاب الشافعي في هذا الباب بحديث شعبة عن قتادة عن أبي المليح عن أبيه عن النبي عليه السلام قال ((لا يقبل الله صدقة من غلول ولا صلاة بغير طهور)) (1)
وبحديث معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا هو أحدث حتى يتوضأ))
وقد نوزعوا في تأويل ذلك وبالله التوفيق
((11 - باب العمل في الرعاف))
70 - مالك عن عبد الرحمن بن حرملة الأسلمي أنه قال رأيت سعيد بن المسيب يرعف فيخرج منه الدم حتى تختضب أصابعه من الدم الذي يخرج من أنفه ثم يصلي ولا يتوضأ
71 - مالك عن عبد الرحمن بن المجبر أنه رأى سالم بن عبد الله يخرج من أنفه الدم حتى تختضب أصابعه ثم يفتله (2) ثم يصلي ولا يتوضأ
قد مضى في الباب قبل هذا ما يغني عن تكراره فيه
ولا أعلم أحدا من العلماء أوجب الوضوء للصلاة من قليل الدم يخرج من الجسد رعافا كان أو غيره إلا ما قدمت لك عن مجاهد
233

والذين يوجبون الوضوء منه كلهم يراعي فيه أن يغلبه فلا يقدر على فتله لسيلانه وظهوره على ما تقدم
وقد مضى مذهب مالك وغيره في هذا الباب والله الموفق للصواب
والأصل عندي فيه أنه الوضوء المجتمع عليه لا ينتقض بما فيه تنازع واختلاف إلا أن تصح سنة بذلك يجب التسليم لها
ووجه تبويب مالك لهذا الباب بعد الذي قبله أنه أعلم الخلاف في الباب الأول وجعل هذا الباب يبين لك ما عليه العمل عندهم في الدم الخارج من الجسد إلا أنه لا وضوء فيه وأنه لو كان حدثا لاستوى قليله وكثيره كسائر الأحداث وهذا هو الحق وبالله التوفيق
((12 - باب العمل فيمن غلبه الدم من جرح أو رعاف))
72 - مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن المسور بن مخرمة أخبره أنه دخل على عمر بن الخطاب من الليلة التي طعن فيها فأيقظ عمر لصلاة الصبح فقال عمر نعم ولاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة فصلى عمر وجرحه يثعب دما
ومعنى يثعب ينفجر وانثعب انفجر وثعب الماء فجره قاله صاحب العين
وحديث عمر هذا هو أصل هذا الباب عند العلماء فيمن لا يرقأ دمه ولا ينقطع رعافه أنه لا بد له من الصلاة في وقتها إذا أيقين أنه لا ينقطع قبل خروج الوقت
وليس حال من وصفنا حاله بأكثر من سلس البول والمذي لأن البول والمذي متفق على أن خروجهما في الصحة حدث
وكذلك اختلفوا في البول والمذي الخارجين لعلة مرض أو فساد هل يوجب خروجهما الوضوء كخروجهما في الصحة
وسنذكر هذا في بابه في هذا الكتاب إن شاء الله
وفائدة حديث عمر عند أصحابنا أنه صلى وجرحه لا يرقأ (1) ولم يذكر وضوءا وقد نزعوا فيما نزعوا فيه من ذلك وأجمعوا أنه لا يمنع ذلك من أراد الصلاة على كل حال
234

وذكر عبد الرزاق عن معمر عن هشام بن عروة قال كانت لي دمامل فسألت أبي عنها فقال إذا كانت ترقأ فاغسلهما وتوضأ وإن كانت لا ترقأ فتوضأ وصل وإن خرج منها شيء فإن عمر قد صلى وجرحه يثعب دما
وحديث عمر رواه مالك في ((الموطأ)) عن هشام بن عروة عن أبيه أن المسور بن مخرمة أخبره أنه دخل على عمر بن الخطاب من الليلة التي طعن فيها فأيقظ عمر لصلاة الصبح فقال عمر نعم ولاحظ في الإسلام لمن تركع الصلاة فصلى عمر وجرحه يثعب دما
ورواه سفيان الثوري عن هشام بن عروة عن أبيه قال حدثني سليمان بن يسار أن المسور بن مخرمة أخبره قال دخلت أنا وبن عباس على عمر حين طعن فقلنا الصلاة فقال ((أما إنه لاحظ لأحد في الإسلام أضاع الصلاة)) فصلى وجرحه يثعب دما
ذكره عبد الرزاق ووكيع عن الثوري
وذكر بن وهب قال أخبرني يونس بن يزيد عن بن شهاب أن سليمان بن يسار أخبره أن المسور بن مخرمة أخبره عن عمر بن الخطاب إذ طعن أنه دخل هو وبن عباس من الغد فأفزعوه للصلاة ففزع وقال ((نعم لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة)) فصلى والجرح يثعب دما
وروى معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن بن عباس قال لما طعن عمر احتملته أنا ونفر من الأنصار حتى أدخلناه منزله فلم يزل في غشية واحدة حتى أسفر الصبح فقال رجل إنكم لن تفزعوه بشيء إلا بالصلاة قال فقلنا الصلاة يا أمير المؤمنين قال ففتح عينيه ثم قال أصلى الناس قلنا نعم قال ((أما إنه لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة)) فصلى وجرحه يثعب دما
وأما قول عمر لاحظ في الإسلام فالحظ النصيب يقول لا نصيب في الإسلام
وقوله يحتمل وجهين (أحدهما) خروجه من الإسلام بذلك (والآخر) أنه لا كبير حظ له في الإسلام
كما قيل لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد (1) ولا إيمان لمن لا أمانة له (2) وليس المسكين بالطواف (3) ونحو هذا @ 236 @
وهو كلام خرج على ترك عمل الصلاة لا على جحودها
وأجمع المسلمون أن جاحد فرض الصلاة كافر حلال دمه كسائر الكفار بالله وملائكته وكتبه ورسله ولا له دين يفر عليه دمه واختلف في تارك الصلاة وهو قادر عليها غير جاحد بفرضها
فثبت عن عمر قوله ((لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة))
وثبت عن بن مسعود أنه قال ما تارك الصلاة بمسلم
وروي عن النبي - عليه السلام - أنه قال ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)) (1)
وآثار كثيرة مذكورة في التمهيد بنحو ذلك
وقال مالك وأصحابه إذا أبى من الصلاة وقال لا أصلي ضربت عنقه
وهو معنى قول الشافعي
وقال الشافعي يقول له الإمام صل فإن قال لا أصلي سئل عن العلة التي من أجلها ترك الصلاة فإن ادعى علة بجسده لا يطيق من أجلها القيام والركوع والسجود قيل له
صل كيف أطقت فإن قال لا أصلي وحضر وقتها فلم يصل وأبي حتى خرج وقتها قتله الإمام
ذكره الطبري عن الربيع عن الشافعي
وذكر المزني قال الشافعي يقال لمن ترك الصلاة حتى خرج وقتها بلا عذر إن صليت وإلا استتبناك فإن تبت وإلا قتلناك كما من يكفر يقال له إن آمنت وإلا قتلناك
وقد قيل يستتاب ثلاثا فإن صلى فبها وإلا قتل وذلك حسن
قال المزني وقد قال في المرتد إن لم يتب قتل ولا ينتظر به ثلاثا لقوله
235

عليه السلام ((من بدل دينه فاضربوا عنقه)) (1) وقد جعل تارك الصلاة بلا عذر كتارك الإيمان فله حكمه في قياس قوله لأنه عنده مثله فلا ينتظر به ثلاثا
وقال أبو حنيفة وأصحابه يعاقب ويضرب ويحبس أبدا حتى يصلي
وبه قال داود
وذكر الطبري بإسناد له عن الزهري قال إذا ترك الرجل الصلاة فإن كان إنما تركها لأنه ابتدع دينا غير الإسلام قتل وإن كان إنما هو فاسق فإنه يضرب ضربا مبرحا ويسجن حتى يرجع
قال والذي يفطر رمضان كذلك
قال الطبري وهو قولنا وإليه يذهب جماعة أهل الأمة من أهل الحجاز والعراق مع شهادة النظر له بالصحة
وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وطائفة تارك الصلاة وهو مقر بها إذا أبى أن يصليها - كافر خارج بذلك من الإسلام فيستتاب فإن تاب وصلى وإلا قتل ولم يرثه ورثته وكان ماله فيئا
وقد ذكرنا وجوه هذه الأقوال كلها والاعتلال لها من القرآن والسنة والآثار في ((التمهيد)) عند قوله عليه السلام في حديث زيد بن أسلم وحديث بسر بن محجن ((ما لك لم تصل معنا ألست برجل مسلم)) (2) فمن أراد الوقوف على ذلك قابله هناك إن شاء الله
73 - وفي حديث مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال ما ترون فيمن غلبه الدم من رعاف فلم ينقطع عنه قال مالك قال يحيى بن سعيد ثم قال سعيد بن المسيب أرى أن يومئ برأسه إيماء
سؤال العالم وطرحه العلم على تلاميذه وجلسائه
وأما قول سعيد أرى أن يومئ برأسه إيماء فذلك لما كان في ترك الإيماء من تلوث ثيابه في ركوعه وسجوده وأنه لا يسلم من كانت تلك حاله من تنجيس موضع سجوده ونجاسه ثيابه
237

فإذا جاز لمن في الطين المحيط والماء أن يصلي إيماء من أجل الطين فالدم أولى بذلك
ولا أعلم مالكا اختلف في قوله في الراعف الذي لا ينقطع رعافه أنه لا يصلي إلا إيماء واختلف قوله في الصلاة في الطين والماء الغالب
وفي الصلاة في الطين حديث مرفوع من حديث يعلى بن أمية ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى مضيق ومعه أصحابه والسماء من فوقهم والبلة من أسفلهم وحضرت الصلاة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤذن وأقام وتقدمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم على راحلته وهم على رواحلهم يومئ إيماء فجعل السجود أخفض من الركوع))
وقد ذكرناه بإسناده في التمهيد
وعن أنس بن مالك وجابر بن زيد وطاوس وعمارة بن غزية أنهم صلوا في الماء والطين بالإيماء والدم أحرى بذلك والله أعلم
ذكر بن وهب عن يونس عن بن شهاب قال إذا غلبه الرعاف فلم يقدر على القيام والركوع والسجود أومأ برأسه إيماء
((13 - باب الوضوء من المذي))
74 - مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن سليمان بن يسار عن المقداد بن الأسود أن علي بن أبي طالب أمره أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل إذا دنا من أهله فخرج منه المذي ماذا عليه قال علي فإن عندي ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أستحي أن أسأله قال المقداد فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال ((إذا وجد ذلك أحدكم فلينضح (1) فرجه بالماء وليتوضأ وضوءه للصلاة))
قال أبو عمر حديث مالك عن أبي النضر عن سليمان بن يسار عن المقداد لم يسمعه سليمان من المقداد ولا من علي لأنه لم يدركهما
وقد ذكرنا مولده ووفاته ووفاة المقداد في التمهيد
238

وإنما روى سليمان بن يسار هذا الخبر عن بن عباس عن علي ذكره بن وهب عن مخرمة بن بكير عن أبيه عن سليمان بن يسار عن بن عباس قال قال علي أرسلت المقداد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن المذي
الحديث مذكور في التمهيد
ورواه سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء عن بن عباس أنه سمع عليا بالكوفة فذكر الحديث
وقد خولف في ذلك عمرو بن دينار على حسب ما ذكرناه في التمهيد
وسماع سليمان بن يسار من بن عباس صحيح
والحديث ثابت عند أهل العلم صحيح له طرق شتى عن علي وعن المقداد وعن عمار أيضا كلها صحاح حسان
أحسنها ما ذكره عبد الرزاق عن بن جريج قال قلت لعطاء أريت إن وجدت المذي أكنت ماسحه مسحا قال لا المذي أشد من البول يغسل غسلا ثم أقبل يحدثنا
قال أخبرني عايش بن أنس أخو بني سعد بن ليث قال تذاكر علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر والمقداد بن الأسود المذي فقال علي إني رجل مذاء فاسألوا عن ذلك النبي عليه السلام فإني أستحي أن أسأله عن ذلك لمكان ابنته مني ولولا مكان ابنته لسألته قال عايش فسأله أحد الرجلين عمار أو المقداد
قال عطاء قد سماه عايش فنسيته فقال النبي عليه السلام ((ذلكم المذي إذا وجده أحد منكم فليغسل ذلك منه ثم ليتوضأ فيحسن وضوءه ثم لينضح فرجه))
قال بن جريج فسألت عطاء عن قول النبي عليه السلام ((يغسل ذلك منه)) قلت حيث المذي يغسل منه أم ذكره كله فقال بل حيث المذي منه فقط
فقلت لعطاء أرأيت إن وجدت مذيا فغسلت ذكري كله أأنضح مع ذلك فرجي منه قال لا حسبك
قال أبو عمر في رواية يحيى عن مالك في هذا الحديث ((فلينضح فرجه وليتوضأ وضوءه للصلاة
وفي رواية بن بكير والقعنبي وبن وهب وسائرهم ((فليغسل فرجه وليتوضأ وضوءه للصلاة)) وهذا هو الصحيح
وقد رواه عبد الرزاق (1) عن مالك كما رواه يحيى قال ((فلينضح فرجه
239

ولو صحت رواية يحيى ومن تابعة كانت مجملة تفسرها رواية غيره لأن النضح في لسان العرب يكون مرة الغسل ومرة الرش
وقد ذكرنا شواهد ذلك في غير هذا الموضع
ولا يختلفون أن صاحب المذي عليه الغسل لا الرش وإنما اختلفوا فيما يغسل منه الذكر كله
فقالت طائفة يغسل منه الذكر كله وقيل لا يغسل منه إلا المخرج كالبول
وقد قال عمر فليغسل ذكره
75 - مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب قال إني لأجده ينحدر مني مثل الخريزة (1) فإذا وجد ذلك أحدكم فليغسل ذكره وليتوضأ وضوءه للصلاة يعني المذي
واختلف عن بن عباس في ذلك فروى عنه عكرمة وغيره اغسل ذكرك وما أصابك ثم توضأ وضوءك للصلاة
وقال عكرمة هي ثلاثة المني والودي والمذي
فأما الودي فإنه الذي يكون مع البول وبعده ففيه غسل الفرج والوضوء للصلاة
وأما المذي فهو إذا لاعب الرجل امرأته ففيه غسل الفرج والوضوء للصلاة
وأما المني فهو الماء الذي تكون فيه الشهوة الكبرى ومنه يكون الولد ففيه الغسل
قال أبو عمر يحتمل قوله ((ففيه غسل الفرج)) أن يكون الذكر كله ويحتمل أن تكون الحشفة (2)
وقد روى عبد الرزاق عن الثوري عن منصور عن مجاهد عن بن عباس في المذي والودي والمني حق الغسل ومن المذي والودي الوضوء يغسل حشفته ويتوضأ
وعن الثوري عن زياد بن الفياض قال سمعت سعيد بن جبير يقول في المذي يغسل حشفته
240

وعن هشيم عن أبي حمزة عن بن عباس في المذي قال اغسل ذكرك وما أصابك وتوضأ وضوءك للصلاة
قال أبو عمر أما لفظ المذي عند أهل اللغة ففي ((الغريب)) المصنف عن الأموي قال مذيت وأمذيت وهو المذي والمني والودي مشددات
قال أبو عبيدة وغيره يخفف المذي والودي
قال والصواب عندنا أن المني وحده بالتشديد والآخران بالتخفيف
وفي ((الجمهرة)) قال والمذي الماء الذي يخرج عند الإنعاظ وليس كالذي يوجب الغسل
قال بن دريد ربما قيل المذي مشددا ولم يذكر الودي
وفي بعض نسخ ((العين)) ودي مشدد وفي بعضهما مخفف
وقال مالك المذي عندنا أشد من الودي لأن الفرج يغسل عندنا من المذي والودي عندنا بمنزلة البول
وقال مالك وليس على الرجل أن يغسل أنثييه من المذي إلا أن يظن أنهما أصابهما منه شيء
قال مالك والودي يكون من الجمام يأتي بأثر البول أبيض خاثرا
قال والمذي تكون معه شهوة وهو رقيق إلى الصفرة يكون عند ملاعبة الرجل أهله وعند حدوث الشهوة
قال أبو عمر قد جعل مالك المذي أشد من البول وقال لأن الفرج يغسل منه
ومعلوم أن البول يغسل منه المخرج والحشفة فإذا كان المذي أشد منه فلا وجه لذلك إلا أن يغسل منه الذكر كله
ووجه يحتمله أيضا قد اختلف الفقهاء فيه وهو أنه لا مدخل للأحجار في المذي وأنه لا يستنجى منه بالأحجار كما يصنع بالبول والغائط ولا بد له من الغسل بالماء
وهو عندي معنى قول مالك لأن الفرج يغسل من المذي
والأصل في النجاسات عنده أنه لا يطهرها إلا الماء وحده إلا ما خص به البول والغائط من الأحجار وذلك لتواترهما ولأنهما ينوبان الإنسان كثيرا فخفف في أمرهما والله أعلم
واختلف أصحابنا فيما يغسل من أجل المذي من الذكر
241

فقال بعضهم يغسل مخرجه كالبول
وقال بعضهم يغسل الذكر كله عبادة إلا المخرج فإنه للنجاسة
وقد اختلف في ذلك السلف قديما كما ذكرت لك
وقال الشافعي لا يجوز الاستنجاء من الدم الخارج من الدبر ولا من المذي كما لا يجوز للمستحاضة أن تستنجي بغير الماء
وأبو حنيفة على أصله في جواز إزالة النجاسات بكل ما أزالها
ومن الحجة في غسل جميع الذكر من المذي ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم ((يغسل ذكره ويتوضأ)) وحمله على عموم الفائدة أولى
حدثنا سعيد بن نصر حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا بن وضاح حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع وأبو معاوية وهشيم عن الأعمش عن منذر بن يعلى الثوري عن أبي يعلى عن محمد بن الحنفية عن علي قال كنت رجلا مذاء فكنت أستحي أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته فأمرت المقداد فسأله فقال ((يغسل ذكره ويتوضأ))
وليس في شيء من أحاديث المذي ذكر للاستنجاء على كثرتها واختلاف طرقها
((14 - باب الرخصة في ترك الوضوء من المذي))
76 - مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه سمعه ورجل يسأله فقال إني لأجد البلل وأنا أصلي أفأنصرف فقال له سعيد لو سال على فخذي ما انصرفت حتى أقضي صلاتي
77 - مالك عن الصلت بن زبيد أنه قال سألت سليمان بن يسار عن البلل أجده فقال انضح ما تحت ثوبك بالماء (1) واله عنه
وترجمته في هذا الباب بالرخصة في ترك الوضوء من المذي ليست من الباب في شيء لأنه لا رخصة عند أحد من علماء المسلمين في المذي الخارج على الصحة كلهم يوجب الوضوء منه وهي سنة مجمع عليها لا خلاف والحمد لله فيها
242

حدثنا عبد الوارث بن سفيان وسعيد بن نصر قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بن وضاح حدثنا أبو بكر بن شيبة حدثنا هشيم بن بشر عن يزيد بن أبي زياد قال حدثنا عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المذي فقال ((فيه الوضوء وفي المني الغسل)) (1)
ولما صح الإجماع في وجوب الوضوء من المذي لم يبق إلا أن تكون الرخصة في خروجه من فساد وعلة فإذا كان خروج كذلك فلا وضوء فيه عند مالك ولا عند سلفه وعلماء أهل بلده لأن ما لا يرقأ ولا ينقطع فلا وجه للوضوء منه
ومعنى قول سعيد بن المسيب أنه يلزم من فحش سلس بوله أو مذيه ولم يرقأ دم جرحه أو دمله أن يغسله من ثوبه ولا يدخل في صلاته حتى يغسل ما فحش منه وكثر فإذا دخل في الصلاة لم يقطعها ولو سال على فخذه
فأراد سعيد بقوله ذلك أن كثرة المذي وفحشه في البدن والثوب لا يمنع المصلي من تمام صلاته وليس كذلك ابتداءه لأنه يؤمر بغسل الكثير الفحش منه قبل دخوله في الصلاة ولا يؤمر بقطعها
وفي رواية بن القاسم عن مالك في هذا الحديث عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال يحيى بن سعيد وأخبرني من كان عند سعيد أنه قال للرجل فإذا انصرفت إلى أهلك فاغسل ثوبك
قال يحيى وأما أنا فلم أسمعه منه وهذه الزيادة رواها يحيى بن مسكين وغيره عن بن القاسم وهي توضح لك ما فسرنا وبالله توفيقنا
ذكر بن وهب عن الليث بن سعد أن كثير بن فرقد حدثه أن عبد الرحمن الأعرج حدثه أن عمر بن الخطاب قال إني لأجد المذي ينحدر مني مثل الجمان أو اللؤلؤ فما التفت إليه ولا أباليه
وهذا يدل أن عمر استنكحه (2) أمر المذي وغلب عليه وسلس منه كما يسلس البول فقال فيه القول
وهذا خلاف القول الذي حكى عنه أسلم مولاه في حال الصحة على ما في الموطأ
243

وذكر بن أبي ذئب في موطئه عن أخيه المغيرة بن عبد الرحمن أنه قال كان يخرج مني المذي قال فربما توضأت المرتين والثلاث فأتيت ربيعة بن أبي عبد الرحمن فسألته فقال والله ما أدري ائت القاسم بن محمد فسله عسى أن تجد عنده علما قال فجئت القاسم فسألته فقال إنما ذلك من الشيطان فاله عنه فلهوت عنه فانقطع عني
وهذا الباب فيمن كان خروج المذي منه لعلة وفساد لا لصحة وشهوة وهو الذي يسميه أصحابنا المستنكح وهو صاحب السلس الذي لا ينقطع مذيه أو بوله لعلة نزلت به من كبر أو برد أو غير ذلك
وقد أجمع العلماء على أنه لا يسقط ذلك عنه فرض الصلاة وأن عليه أن يصليها في وقتها على حالته تلك إذ لا يستطيع غيرها
واختلفوا في إيجاب الوضوء عليه للصلاة مع حاله تلك فذهب مالك أنه لا يجب له الوضوء لكل صلاة ولكنه يستحب له ذلك اعتبارا بالمستحاضة والوضوء عنده لها استحباب أيضا
وحجته قوله تعالى * (أو جاء أحد منكم من الغائط) * [النساء 43 والمائدة 6] وذلك لما كان معتادا معروفا قصد الغائط من أجله ولأن دم المستحاضة دم عرق ولا يوجب ذلك عنده وضوءا
وقد مضى في باب الأحداث وجه قوله ويأتي القول في المستحاضة في موضعه إن شاء الله
وقال الشافعي يتوضأ لكل صلاة
وقال الأوزاعي يجمع بين الظهر والعصر بوضوء واحد
وقال الثوري والأوزاعي والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما الوضوء على المستحاضة واجب لكل صلاة رووا في ذلك آثارا سنذكرها أو بعضها في بابها إن شاء الله
وقالوا تؤدى صلاتها على تلك الحال فكذلك وضوءها
وكذلك قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ((فإذا أدبرت الحيضة فاغتسلي وتوضئي لكل صلاة)) (1)
244

وسنوضح ذلك في باب المستحاضة إن شاء الله
((15 - باب الوضوء من مس الفرج))
78 - مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه سمع عروة بن الزبير يقول دخلت على مروان بن الحكم فتذاكرنا ما يكون منه الوضوء فقال مروان ومن مس الذكر الوضوء فقال عروة ما علمت هذا فقال مروان بن الحكم أخبرتني بسرة بنت صفوان أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ((إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ))
قد ذكرنا بسرة والاختلاف في نسبها في كتاب الصحابة وفي التمهيد أيضا
وذكرنا في التمهيد ما وقع عندي في نسخة عبيد الله بن يحيى عن أبيه من الوهم في إسناد هذا الحديث
وذكرنا الاختلاف فيه على عروة وعلى هشام وعلي بن شهاب
وذكرنا ما يصح من ذلك في حديث بسرة وأنه لا يصح فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما في ((الموطأ)) من رواية مالك عن عبد الله بن أبي بكر سمع عروة سمع مروان سمع بسرة سمعت النبي عليه السلام
وقد وهم فيه بن وهب فذكره في موطئه قال
أخبرني مالك وبن لهيعة وعمرو بن الحارث عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عروة بن الزبير عن بسرة وهذا خطأ على مالك
وقد أوضحنا علل ذلك في التمهيد ونذكر ها هنا عيونا كافية إن شاء الله
حدثنا خلف بن القاسم قال حدثنا محمد بن زكريا بن يحيى بن المقدسي
245

ببيت المقدس قال حدثنا مضر بن محمد قال سألت يحيى بن معين أي حديث يصح في مس الذكر فقال يحيى لولا حديث جاء عن عبد الله بن أبي بكر لقلت لا يصح فيه شيء فإن مالكا يقول حدثنا عبد الله بن أبي بكر قال حدثنا عروة قال حدثنا مروان قال حدثتني بسرة
فهذا يحيى بن معين موضعه من هذا الشأن الموضع المعلوم وقد صحح حديث بسرة من رواية مالك وكان يقول بالوضوء من مس الذكر لذلك
ومن قال في حديث بسرة إنه عن حرسي جاهل - متعسف لا يدري وذلك أنه اعتل بعلة لو تدبرها أمسك عنها
ذكر سفيان بن عيينة قال حدثني عبد الله بن أبي بكر قال تذاكر أبي وعروة ما يتوضأ منه فقال عروة في مس الذكر الوضوء فقال أبي إن هذا لشيء ما سمعته فقال عروة بلى
أخبرني مروان بن الحكم قال أخبرتني بسرة بنت صفوان أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ((من مس ذكره فليتوضأ)) فقلت إني أشتهي أن ترسل - وأنا شاهد - رجلا أو قال حرسيا إلى بسرة فأرسل فجاء الرسول من عندها بذلك
وحديث شعيب عن الزهري قال أخبرني عبد الله بن أبي بكر أنه سمع عروة بن الزبير يقول ذكر مروان في إمارته على المدينة أنه يتوضأ من مس الذكر إذا أفضى إليه الرجل بيده فأنكرت ذلك وقلت لا وضوء على من مسه فقال مروان أخبرتني بسرة بنت صفوان أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالوضوء من مس الذكر
قال عروة فلم أزل أماري مروان حتى دعا رجلا من حرسه فأرسله إلى بسرة فسألها فأخبرته بمثل الذي حدثني به عنها مروان
وهذان الحديثان قد ذكرتهما في التمهيد بأسانيدهما وفيهما سماع عروة من مروان وسماع مروان من بسرة
وإرسال من أرسلا إلى بسرة حرسيا كان أو شرطيا - لا يقدح فيما صح من سماع مروان له من بسرة بل يزيدة قوة
وهذا ما لا خفاء به على من له أدنى علم ومعرفة فهذا هو الصحيح في حديث بسرة وعروة عن مروان عن بسرة سماعا وكل من خالف ذلك فقد أخطأ فيه
والاختلاف فيه كثير على هشام وعلي بن شهاب والصحيح فيه ما ذكره بن معين وغيره على ما وصفت لك والرواية الصحيحة عن بن شهاب مثل رواية مالك قد تقدمت من حديث بن عيينة عن بن شهاب
246

وكذلك رواه عقيل بن خالد عن بن شهاب
وكذلك رواه الليث عن عبد الرحمن بن خالد عن بن شهاب عن عبد الله بن أبي بكر أنه سمع عروة يحدث عن مروان أن بسرة أخبرته
وفي رواية بن شهاب هذا الحديث عن عبد الله بن أبي بكر ما يدخل في رواية الكبار عن الصغار وبالله التوفيق
وقد كان أحمد بن حنبل يصحح حديث بسرة في مس الذكر أيضا ويفتي به ويقول وحديث أم حبيبة أيضا في مس الذكر لا أدفعه
ذكر أبو علي سعيد بن السكن الحافظ قال كان أحمد بن حنبل يذهب إلى حديث بسرة ويختاره
قال وصحح حديث أم حبيبة أيضا
قال بن السكن ولا أعلم في حديث أم حبيبة علة إلا أنه قيل إن مكحولا لم يسمعه من عتبة بن أبي سفيان
قال أبو عمر حديث أم حبيبة حدثنا عبد الوارث بن سفيان وسعيد بن نضر قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا المعلى بن المنصور قال حدثنا الهيثم بن حميد قال حدثنا يعلى عن مكحول عن عتبة بن أبي سفيان عن أم حبيبة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من مس ذكره فليتوضأ))
وذكر أبو زرعة قال كان أحمد بن حنبل يعجبه حديث أم حبيبة في مس الذكر ويقول هو حسن الإسناد
فهذا إماما أهل الحديث قد قضيا بتصحيح حديث بسرة فصححاه
ثم قال إنه ناسخ لحديث طلق بن علي لأن طلق بن علي قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبني المسجد ثم رجع إلى بلاد قومه وإسلام بسرة بنت صفوان إنما كان عام الفتح وحفظها متأخر عن تاريخ حديث طلق بن علي
وقد صحح بن السكن في هذا الباب أيضا حديث أبي هريرة
حدثنا خلف بن قاسم قال حدثنا سعيد بن عثمان بن السكن ومحمد بن إبراهيم بن إسحاق السراج قال حدثنا علي بن محمد بن سليمان البزاز قال حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني قال حدثنا أصبغ بن الفرج قال حدثنا عبد الرحمن بن القاسم قال حدثني نافع بن أبي نعيم ويزيد بن عبد الملك بن المغيرة عن
247

سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((من أفضى بيده إلى فرجه ليس دونه حجاب فقد وجب عليه الوضوء)) (1)
قال بن السكن هذا الحديث من أجود ما روي في هذا الباب لرواية بن القاسم صاحب مالك عن نافع بن أبي نعيم وأما يزيد فضعيف والله أعلم
قال أبو عمر كان حديث أبي هريرة هذا لا يعرف إلا بيزيد بن عبد الملك هذا حتى رواه أصبغ بن الفرج عن بن القاسم عن نافع بن أبي نعيم وزيد بن عبد الملك النوفلي جميعا عن بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة
وأصبغ وبن القاسم ثقتان فقيهان فصح الحديث بنقل العدل على ما ذكر بن السكن
إلا أن أحمد بن حنبل كان لا يرضي نافع بن أبي نعيم القارئ وخالفه بن معين فيه فقال هو ثقة وقال أحمد بن حنبل هو ضعيف منكر الحديث
وروى سحنون هذا الحديث عن بن القاسم فلم يذكر فيه نافع بن أبي نعيم
وأما الصحابة القائلون بإيجاب الوضوء من مس الذكر فعمر بن الخطاب وبن عمر وأبو هريرة - على اختلاف عنه - والبراء بن عازب وزيد بن خالد الجهني وجابر بن عبد الله وسعد بن أبي وقاص في رواية أهل المدينة عنه
ومن التابعين سعيد بن المسيب في رواية عبد الرحمن بن حرملة عنه رواه بن أبي ذئب وحاتم بن إسماعيل عن عبد الرحمن بن حرملة عن سعيد بن المسيب أن الوضوء واجب على من مس ذكره
وروى بن أبي ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يرى في مس الذكر شيئا
ومعمر عن قتادة عن سعيد بن المسيب أنه كان يراه كبعض جسد ولا يتوضأ منه
وهذا أصح عندي من حديث عبد الرحمن بن حرملة لأنه ليس بالحافظ وقتادة حافظ وقد تابعه الحارث بن عبد الرحمن
وكان عطاء بن أبي رباح وطاوس وعروة بن الزبير وسليمان بن يسار وأبان بن عثمان وبن شهاب ومجاهد ومحكول وجابر بن زيد والشعبي والحسن وعكرمة وجماعة أهل الشام والمغرب وأكثر أهل الحديث يرون الوضوء من مس الذكر
248

وبه قال الأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق وداود والطبري
وفي الموطأ الحديث عن سعد وبن عمر وعروة
وأما سائر الصحابة والتابعين ففي كتاب عبد الرزاق وأبي بكر بن أبي شيبة
وقال الليث ومن مس بين أليتيه فعليه الوضوء
وقال الشافعي من مس دبره فعليه الوضوء لأنه فرج
وهو قول عطاء والزهري وميمون بن مهران والرجال والنساء في ذلك عنده سواء
واضطرب قول مالك في إيجاب الوضوء منه واختلف مذهبه فيه والذي تقرر عليه المذهب عند أهل المغرب من أصحابه - أنه من مس ذكره أمره بالوضوء ما لم يصل فإن صلى أمره بالإعادة في الوقت فإن خرج الوقت فلا إعادة عليه واختلف أصحابه وأتباعه على أربعة أقوال فمنهم من لم ير على من مس ذكره وضوءا ولا على من صلى بعد أن مسه إعادة صلاته في وقت ولا غيره وممن ذهب إلى هذا سحنون والعتقي
ورأى الإعادة في الوقت بن القاسم وأشهب ورواية عن بن وهب
ومنهم من رأى الوضوء عليه واجبا ورأى الإعادة على من صلى بعد أن مسه الوقت وبعده منهم أصبغ بن الفرج وعيسى بن دينار وهو مذهب بن عمر لأنه أعاد منه صلاة الصبح بعد طلوع الشمس وهو قول الشافعي
وأما إسماعيل بن إسحاق وأصحابه البغداديين المالكيون كابن بكير وبن المنتاب وأبي الفرج والأبهري - فإنهم اعتبروا في مسه وجود اللذة كملامس النساء عندهم فإن التذ الذي لمس ذكره وجب عليه الوضوء وإن صلى - وقد مسه - قبل أن يتوضأ أعاد الصلاة أبدا وإن خرج الوقت وإن لم يلتذ بمسه فلا شيء عليه وهذا قول رابع ومن ذهب إلى هذا سوى بين باطن الكف وظاهرها
واختلفوا فيمن مسه ناسيا وعلى ثوب خفيف أو مسه بذراعه أو بظاهر كفه أو قصد إلى مسه بشيء من أعضائه سوى يده
فمنهم من يرى في ذلك كله الوضوء
ومنهم من لم ير عليه في ذلك شيئا
وتحصيل المذهب عند المالكيين من أهل المغرب أن من مس ذكره بباطن الكف أو الراحة أو بباطن الأصابع دون حائل انتقض وضوءه ومن مس ذكره بخلاف ذلك لم ينتقض وضوءه
249

وقد روى بن وهب عن مالك في ذلك روايتين أحسنهما أنه بباطن كفه انتقض وضوؤه
ففرق في ذلك بين العمد والنسيان وليس هذا حكم الأحداث وهذا قول الليث بن سعد وداود بن علي لأن الحديث ورد فيمن مس ذكره أو مس فرجه ولا يكون ماسا إلا من قصد إلى اللمس لأن الفاعل حقيقة هو من قصد إلى الفعل أراده
مس ذكره ناسيا أو على ثوب وأن كان خفيفا فلا شيء عليه وإن أفضى إليه
وقال الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز والشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق خطؤه وعمده سواء كسائر الأحداث
قال أبو عمر لا يصح في مس الذكر لمن صحح فيه الأثر إلا الإعادة في الوقت وبعده لمن مس دون حائل بين يده وبينه
79 - مالك عن نافع عن سالم بن عبد الله أنه قال كنت مع عبد الله بن عمر في سفر فرأيته بعد أن طلعت الشمس توضأ ثم صلى قال فقلت له إن هذه الصلاة ما كنت تصليها قال إني بعد أن توضأت لصلاة الصبح مسست فرجي ثم نسيت أن أتوضأ فتوضأت وعدت لصلاتي
وروى بن جريج عن بن شهاب عن سالم عن بن عمر أنه صلى بهم بطريق مكة العصر قال فركبنا فسرنا ما قدر لنا أن نسير ثم أناخ بن عمر فتوضأ فصلى العصر وحده فسلم فقلت له صليت معنا العصر أفنسيت قال لم أنس ولكن مسست ذكري قبل أن أصلي فلما ذكرت ذلك توضأت وعدت لصلاتي
وقد روي عن عمر بن الخطاب في هذا قول ابنه عبد الله بن عمر حدثنا قاسم ومحمد بن عبد الله بن حكم قالا حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أبو خليفة الفضل بن الحباب القاضي قال حدثنا أبو الوليد الطيالسي قال حدثنا نافع بن عمر الجمحي عن بن مليكة عن عمر بن الخطاب أنه صلى بالناس فأهوى بيده فأصاب فرجه فأشار إليهم كما أنتم فخرج فتوضأ ثم رجع إليهم
قال أبو عمر أما أهل العراق فجمهور علمائهم على أن لا وضوء في مس الذكر وعلى ذلك مضى أسلافهم بالكوفة والبصرة
وورد ذلك عن علي وبن مسعود وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان وعبد
250

الله بن عباس وأبي الدرداء وعمران بن حصين لم يختلف عن هؤلاء في ذلك
واختلف فيه عن أبي هريرة وسعد بن أبي وقاص فروي عنهما القولان جميعا
وبإسقاط الوضوء منه قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن وسفيان الثوري وشريك والحسن بن حي وأبو حنيفة وأصحابه وعبيد الله بن الحسن
ذكر عبد الرزاق عن الثوري قال دعاني وبن جريج بعض أمرائهم فسألنا عن مس الذكر فقال بن جريج يتوضأ من مس الذكر وقلت أنا لا وضوء من مس الذكر فلما اختلفنا قلت لابن جريج أرأيت لو أن رجلا وضع يده في مني قال يغسل يده قلت فأيما أنجس المني أم الذكر قال المني فقلت فكيف هذا قال ما ألقاها على لسانك إلا شيطان
قال أبو عمر يقول الثوري إذا لم يجب الوضوء من مس المني فأحرى ألا يجب من مس الذكر وإذا لم يجب من النجس فأحرى ألا يجب من الطاهر
وإنما ساغت المناظرة في هذه المسألة لاختلاف الآثار فيها عن النبي - عليه السلام - واختلاف أصحابه - رحمهم الله - ومن بعدهم في ذلك ولو كان فيها أثر لا معارض له ولا مطعن لسلم الجميع له وقال به
ومن ذهب مذهب العراقيين في مس الذكر من أهل الحديث ضعف الأحاديث الواردة عن النبي - عليه السلام - في إيجاب الوضوء فيه وعللها ولم يقبل شيئا منها
وقد حكى أبو زرعة عن بن معين أنه قال أي إسناد رواية مالك في حديث بسرة لولا أن قاتل طلحة في الطريق
قال أبو عمر الحديث المسقط للوضوء من مس الذكر أحسن أسانيده ما رواه مسدد وغيره عن ملازم بن عمرو عن عبد الله بن زيد عن قيس بن طلق بن علي قال قدمنا على النبي - عليه السلام - فجاءه رجل كأنه بدوي فقال يا رسول الله ما ترى في مس الرجل ذكره بعد ما يتوضأ فقال ((وهل هو إلا بضعة منه)) (1)
ورواه أيوب قاضي اليمامة عن قيس بن طلق عن أبيه عن النبي عليه السلام
251

ورواه هشام بن حسان وشعبة والثوري وبن عيينة وجرير الرازي عن محمد بن جابر اليمامي عن قيس بن طلق عن أبيه مثله
وهذا حديث انفرد به أهل اليمامة وقد ذكرنا أسانيدها في التمهيد
وقد استدل جماعة من العلماء على أنه منسوخ بحديث بسرة وما كان مثله بأن إيجاب الوضوء منه مأخوذ من جهة الشرع لا ينفي العقل التعبد به ولا يوجبه لاجتماعه مع سائر الأعضاء فمحال أن يتقدم الشرع بتخصيص إيجاب الوضوء منه من بين سائر الأعضاء
ثم قال ((إنما هو بضعة منك)) وقد كان خصها بحكم شرعه وجائز أن يجب منه الوضوء بعد ذلك القول شرعا حادثا لأنه يحدث من أمره لعباده ما يشاء
وفي مس الذكر من معناه مسائل كثيرة تنازع العلماء فيها قد ذكرناها في التمهيد
((16 - باب الوضوء من قبله الرجل امرأته))
80 - مالك عن بن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر أنه كان يقول قبله الرجل امرأته وجسها بيده من الملامسة فمن قبل امرأته أو جسها بيده فعليه الوضوء
81 - مالك أنه بلغه أن عبد الله بن مسعود كان يقول من قبلة الرجل امرأته الوضوء
82 - مالك عن بن شهاب مثل ذلك
قال أبو عمر هذا الباب يقتضي القول في القبلة وسائر الملامسة
وفي الملامسة معان ومسائل
أحدها هل الملامسة الجماع أو ما دون الجماع مما يجانس الجماع مثل القبلة وشبهها ثم هل هي اللمس باليد خاصة أو بسائر البدن
وهل اللذة من شرطها أم لا
وكل ذلك قد تنازع فيه العلماء ونحن نذكر فيه من ذلك ما حضرنا على شرط الاختصار والبيان والله المستعان
252

اختلف العلماء من الصحابة فمن بعدهم في معنى الملامسة التي أوجب الله تعالى فيها الوضوء لمن أراد الصلاة بقوله تعالى * (أو لامستم النساء) * [المائدة 6]
فروي عن عمر بن الخطاب بإسناد ثابت من أسانيد أهل المدينة أنه كان يقبل امرأته ويصلي قبل أن يتوضأ
ذكره عبد الرزاق عن بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم عن عبد الله بن عمر أن عاتكة ابنة زيد قبلت عمر بن الخطاب وهو صائم فلم ينهها قال وهو يريد المضي إلى الصلاة ثم صلى ولم يتوضأ
وهذا الحديث رواه مالك عن يحيى بن سعيد أن عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل امرأة عمر بن الخطاب كانت تقبل رأس عمر بن الخطاب وهو صائم فلا ينهاها (1)
ولم يذكر وضوءا ولا صلاة ولم يقم إسناده وحذف من متنه ما لم يذهب إليه
وسنذكر بعد في هذا الباب من لم ير في القبلة وضوءا ومن ذهب إلى معنى قوله تعالى * (أو لامستم النساء) * هو الجماع نفسه لا غيره إن شاء الله
ذكر مالك حديث عمر هذا في باب الرخصة في القبلة للصائم رواه بن جريج عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب خرج إلى الصلاة فقبلته امرأته فصلى ولم يتوضأ
وروى الدراوردي عن بن أخي بن شهاب عن سالم عن أبيه عن بن عمر أنه قال القبلة من اللمم يتوضأ منها
وهذا عندهم خطأ لأن أصحاب بن شهاب يجعلونه عن بن عمر لا عن عمر
وذكر إسماعيل بن إسحاق أن مذهب عمر بن الخطاب في الجنب لا يتيمم فدل على أنه كان يرى الملامسة ما دون الجماع كما ذهب بن مسعود فإن صح عن عمر ما ذكر إسماعيل ثبت الخلاف في القبلة عن عمر والله أعلم
وأما بن مسعود فلم يختلف عنه أن اللمس ما دون الجماع وأن الوضوء واجب على من قبل امرأته كمذهب بن عمر سواء
وهو ثابت عن بن عمر من وجوه من حديث سالم نافع عنه
وحديث بن مسعود رواه الأعمش عن إبراهيم عن أبي عبيدة بن عبد الله بن
253

مسعود عن أبيه قال يتوضأ الرجل من المباشرة ومن اللمس بيده ومن القبلة إذا قبل امرأته وكان يقول في هذه الآية * (أو لامستم النساء) * قال هو الغمز ذكره وكيع
عن الأعمش إلا أنهم يقولون لم يسمع أبو عبيدة من أبيه
وممن رأى في القبلة الوضوء من التابعين عبيدة السلماني وكان يقول الملامسة باليد منها الوضوء
ورأى الوضوء في القبلة عامر الشعبي وسفيان وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي ومكحول الدمشقي وبن شهاب الزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة بن عبد الرحمن ومالك بن أنس وأصحابه
ذكر بن وهب عن مالك والليث بن سعد وعبد العزيز بن أبي سلمة قبلة الرجل امرأته الوضوء
وهو قول جمهور أهل المدينة والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه
ذكر بن قتيبة عن وكيع عن عبد العزيز بن أبي سلمة قال سألت الزهري عن القبلة فقال كان العلماء يقولون فيها الوضوء
قال حدثنا غندر عن شعبة عن الحكم وحماد قالا إذا قبل أو لمس فعليه الوضوء
ولم يشترط بن عمر وبن مسعود وعبيدة ولا أحد من هؤلاء في القبلة ولا في اللمسة - وجود لذة
ذهب الشافعي إلى أن من لمس امرأة بيده مفضيا إليها ليس بين يده وجسمها ستر ولا حجاب قل أو كثر فعليه الوضوء والتذ أو لم يلتذ لشهوة كان لمسه لها أو لغير شهوة على ظاهر حديث بن عمر وبن مسعود وعبيدة السلماني ومن قال بقولهم في أن معنى الملامسة اللمس باليد ولأنه لمس من في لمسها ولمس مثلها شهوة فسواء وقعت اللذة أو لم تقع
قال وهو ظاهر قوله تعالى * (أو لامستم النساء) * ولم يقل لشهوة أو لغير شهوة
قال ولا معنى للذة من فوق الثوب ولا من تحته
قالوا وإنما المعنى في القبلة الفعل لا الشهوة
قالوا وكل من لم يفض في ملامسته إلى البشرة بملامس لأنه إنما لمس الثوب
254

وإلى هذا ذهب أبو عبد الله بن نصر المروزي واختاره واحتج بالإجماع في إيجاب الغسل وهي الطهارة الكبرى على المستكرهة والنائمة إذا جاور الختان الختان وإن لم تقع لذة
قال أبو عمر الذي ذهب إليه مالك وأصحابه في اشتراط اللذة ووجود الشهوة عند الملامسة - أصح إن شاء الله لأن الصحابة لم يأت عنهم في معنى الملامسة إلا قولان أحدهما الجماع نفسه والآخر ما دون الجماع من دواعي الجماع وما يشبهه
ومعلوم في قول القائلين هو ما دون الجماع أنهم أرادوا ما ليس بجماع ولم يريدوا اللطمة ولا قبلة الرجل ابنته رحمة ولا اللمس لغير اللذة
ولما لم يجز أن يقال إن اللمس أريد به اللطم وما شاكله لم يبق إلا أن يكون اللمس ما وقع فيه اللذة والشهوة لأنه لا خلاف فيمن لطم امرأته أو داوى جرحها ولا في المرأة ترضع أولادها أنه لا وضوء على واحد من هؤلاء فكذلك من قصد إلى اللمس ولم يلتذ في حكمهم
ذكر بن أبي شيبة عن معاوية عن إبراهيم قال إذا قبل لشهوة نقض الوضوء
قال حدثنا جرير عن مغيرة عن حماد قال إذا قبل الرجل امرأته وهي لا تريد ذلك فإنما يجب الوضوء عليه وليس عليها وضوء
وإن قبلته فإنما يجب الوضوء عليها ولا يجب عليه
وإن وجد شهوة وجب عليه الوضوء
وإن قبلها وهي لا تريد فوجدت شهوة وجب عليها الوضوء
وهذا معنى قول مالك سواء
وذكر عبد الرزاق عن الثوري عن محل الضبي عن إبراهيم قال إذا قبل الرجل لشهوة أو لمس لشهوة فعليه الوضوء
فهؤلاء اشترطوا اللذة حتى في القبلة
ويحتمل أن يكون ذكر الشهوة في القبلة ورد للفرق بين قبلة الزوجة والأمة وبين قبلة الأم والابنة والله أعلم
هذا كله قول مالك وأصحابه والحسن بن حي إلا أنهم من اشترط اللذة في القبلة فأكثرهم يوجبون الوضوء من قبلة الرجل من يحل له وطؤها ومن لا يحل التذ بذلك أو لم يلتذ إلا أن تكون القبلة رحمة كقبلة الرجل الطفلة من بناته
255

وأما الذين ذهبوا إلى أن اللمس هو الجماع نفسه وأن الله كنى عنه بذلك كما كنى عنه بالرفث والمباشرة والمسيس ونحو ذلك - فمنهم عبد الله بن مسعود ومسروق بن الأجدع والحسن البصري وعطاء بن أبي رباح وطاوس اليماني
ذكر عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أن عبيد بن عمير وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح اختلفوا في الملامسة فقال سعيد وعطاء هو اللمس والغمز وقال عبيد بن عمير هو النكاح فخرج عليهم عبد الله بن عباس - وهم كذلك - فسألوه وأخبروه بما قالوا فقال أخطأ الموليان وأصاب العربي هو الجماع ولكن الله يعف ويكني
وقد ذكرنا هذا المعنى عن بن عباس من وجوه كثيرة في التمهيد
ولا خلاف عنه فيه ومحفوظ عنه قوله ما أبالي أقبلت امرأتي أو شممت ريحانا
وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري وسائر الكوفيين إلا بن حي
ورووا عن علي بن أبي طالب مثل ذلك
واختلفوا في ذلك عن الأوزاعي فذكر عنه الطحاوي والطبري أن لمس الرجل امرأته لا وضوء فيه على كل حال
وذكر عنه المروزي قوله في هذا الباب كقول الشافعي
وروى الوليد بن مسلم عن الأوزاعي في الذي يقبل امرأته إن جاء يسألني فقلت يتوضأ فإن لم يتوضأ لم أعب عليه
وقال الرجل يدخل رجليه في ثياب امرأته فيمس فرجها وهو على وضوء لم أر عليه وضوءا
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد من مس فرجه أو فرج غيره أو قبل أو باشر أو لمس لشهوة أو لغير شهوة فلا وضوء عليه إلا أن يخرج منه مذي
وحجة من ذهب إلى هذا - الأثر المرفوع حدثناه أبو محمد إسماعيل بن عبد الرحمن قال حدثنا محمد بن العباس الحلبي حدثنا محمد بن عبد الله الطائي بحمص حدثنا العباس بن الوليد بن مزيد حدثنا شعيب بن شابور حدثنا سعيد بن بشير عن منصور بن زاذان عن الزهري عن أبي سلمة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبلها ثم يخرج إلى الصلاة ولا يتوضأ
وذكر بن أبي شيبة قال حدثنا وكيع عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت
256

عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قبل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ فقلت من هي إلا أنت فضحكت (1)
وهذا الحديث عندهم معلول فمنهم من قال لم يسمع حبيب من عروة
ومنهم من قال ليس هو عروة بن الزبير وضعفوا هذا الحديث ودفعوه وصححه الكوفيون وثبتوه لرواية الثقات أئمة الحديث له
وحبيب بن أبي ثابت لا ينكر لقاؤه عروة لروايته عمن هو أكبر من عروة وأجل وأقدم موتا وهو إمام من أئمة العلماء الجلة وروي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي - عليه السلام - قبل وهو صائم وقال ((إن القبلة لا تنقض الوضوء)) (2)
وهذا عند الحجازيين خطأ وإنما هو لا تنقض الصوم
وذكر بن أبي شيبة قال حدثنا وكيع عن سفيان عن أبي روق عن إبراهيم التيمي عن عائشة أن النبي - عليه السلام - قبل ثم صلى ولم يتوضأ
وذكر عبد الرزاق عن الثوري مثله
وهو مرسل لا خلاف فيه لأنه لم يسمع إبراهيم التيمي عن عائشة ولم يروه أيضا غير أبي روق وليس فيما انفرد به حجة
وقال الكوفيون أبو روق ثقة ولم يذكره أحد بجرحه ومراسل الثقات عندهم حجة وإبراهيم التيمي أحد العباد الفضلاء
وذكر عبد الرزاق عن الأوزاعي قال أخبرني عمرو بن شعيب عن امرأة أسماها سمعت عائشة تقول كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ ثم يخرج إلى الصلاة فيقبلني ثم يمضي إلى الصلاة فما يحدث وضوءا
وهذه المرأة التي روى عمرو بن شعيب عنها هذا الحديث مجهولة قيل هي زينب السهمية ولا تعرف أيضا
وذكر عبد الرزاق (3) عن إبراهيم بن محمد عن معبد بن نباتة عن محمد بن عمرو عن عروة عن عائشة قالت قبلني رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صلى ولم يحدث وضوءا
257

وذكر الزعفراني عن الشافعي قال لو ثبت حديث معبد بن نباتة في القبلة لم أر فيها شيئا ولا في اللمس ولا أدري كيف معبد بن نباتة هذا فإن كان ثقة فالحجة فيما روي عن النبي عليه السلام
قال أبو عمر هو مجهول لا حجة فيما رواه عندنا
وإبراهيم بن أبي يحيى عند أهل الحديث ضعيف متروك الحديث
والحجة لنا على من لم ير الملامسة إلا الجماع أن إطلاق الملامسة زلا تعرف العرب منه إلا اللمس باليد
وقد بينا وجه اعتبار اللذة في ذلك قال الله تعالى * (فلمسوه بأيديهم) * [الأنعام 7] وقال عليه السلام ((اليدان تزنيان)) (1) وزناهما اللمس
ومنه بيع الملامسة وهو لمس الثوب باليد
تقول العرب لمست الثوب والحائط ونحو هذا
وقرئت الآية * (أو لامستم النساء) *
وذلك يفيد اللمس باليد وحمل الظاهر والعموم على التصريح أولى من حمله على الكناية
وقد روى عبد الله بن عمير عن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل قال أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن رجل أتى امرأة لا تحل له فأصاب منها ما يصيب الرجل من امرأته إلا الجماع فقال النبي - عليه السلام - ((يتوضأ وضوءا حسنا فأمره بالوضوء لما نال منها ما دون الجماع (2)
وهذا هو المذهب لأن بن أبي ليلى لم يلق معاذا ولا أدركه ولا رآه
وسيأتي من القول في لمس ذوات المحارم ذكر عند ذكر أبي قتادة في حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامة ابنة ابنته زينب في الصلاة وهو يبطل ما ذهب إليه الشافعي في أحد قوليه في لمس ذوات المحارم واستدلال بعموم الظاهر ولأنهن من جنس ما يقصد باللمس للذة كالزوجات والأجنبيات ولا معنى لهذا الاعتبار إذا صحت بخلافه الآثار
وفي حديث عائشة إذ قالت ((فقدت رسول الله فالتمسته فوقعت يدي على
258

ظاهر قدمه وهو يصلي (1) - دليل على أن كل لمس لا يتولد معه لذة فليس من معنى الآية في الملامسة
وقد جعل جمهور السلف القبلة من الملامسة وهي بغير اليد فدل على أن الملامسة وإن كانت في الأغلب في اليد فإن المعنى فيها التقاء البشرتين فبأي عضو وقعت ومعها شهوة فيلتذ
وهذا تحصيل مذهب مالك عند جماعة أصحابه واللامس والملموس عند مالك وأصحابه سواء التذ أو من التذ منهما
والشعر من أبعاض الملموس سواء عندهم مع وقوع اللذة وخالفنا الشافعي في الشعر
وللشافعي في الملموس قولان
أحدهما أن لا وضوء عليه لحديث عائشة المذكور وهو قول داود قال لأن الله لم يقل أو لمسكم النساء
والقول الآخر عليه الوضوء كقول مالك وأصحابه لأنه ملتذ بلمس يوجب الوضوء وهما متلامسان والمعنى فيهما وجود اللذة
وأصحابنا يوجبون الوضوء على من لمس مع الحائل إذا كان رقيقا وكانت اللذة موجودة مع اللمس
وجمهور العلماء يخالفونهم في ذلك وهو الحق عندي لأن اللذة [إذا تعرت من اللمس] لم توجب وضوءا [بإجماع وكذا اللمس إذا تعرى من اللذة لم يوجب وضوءا] عند أصحابنا
ومن لمس الثوب والتذ فقد التذ بغير مباشرة ولا مماسة ولا ملامسة وبالله التوفيق
((17 - باب العمل في غسل الجنابة))
83 - مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين أن
259

رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة (1) بدأ بغسل يديه ثم توضأ كما يتوضأ للصلاة ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعره ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيديه ثم يفيض الماء على جلده كله (2)
وروى القاسم بن محمد وجميع بن عمير والأسود بن يزيد عن عائشة عن النبي - عليه السلام - في صفة غسل الجنابة مثل ذلك بمعناه
وهذا الحديث في وصف الاغتسال من الجنابة من أحسن ما روي في ذلك وفيه فرض وسنة
فأما السنة فالوضوء قبل الاغتسال وثبت ذلك عن النبي - عليه السلام - من وجوه كثيرة من حديث عائشة وحديث ميمونة وغيرهما فإن لم يتوضأ المغتسل للجنابة قبل الغسل ولكنه عم جسده ورأسه ويديه وجميع بدنه بالغسل بالماء وأسبغ ذلك فقد أدى ما عليه إذا قصد الغسل ونواه لأن الله تعالى إنما افترض على الجنب الغسل دون الوضوء بقوله * (ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا) * [النساء 43] وقوله * (وإن كنتم جنبا فاطهروا) * [المائدة 6]
وهذا إجماع من العلماء لا خلاف بينهم فيه والحمد لله إلا أنهم مجمعون أيضا على استحباب الوضوء قبل الغسل للجنب تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه الأسوة الحسنة ولأنه أعون على الغسل وأما الوضوء بعد الغسل فلا وجه له عند أهل العلم
وقد روى أبو إسحاق السبيعي عن الأسود بن يزيد عن عائشة قالت كان النبي علي السلام لا يتوضأ بعد الغسل (3)
وفي رواية أيوب لحديث مالك هذا عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ((فيخلل أصول شعره مرتين أو ثلاثا ثم يفرغ الماء على سائر جسده))
وأيوب ثقة حافظ
قال أيوب فقلت لهشام فغسل رجليه بعد ذلك فقال وضوءه للصلاة
وهذا يدل على أن أعضاء الوضوء لا يعيد المغتسل غسلها في غسله لأنه قد غسلها في وضوئه
والابتداء بالوضوء في غسل الجنابة يقتضي تقديم أعضاء الوضوء في الغسل سنة مسنونة في تقديم تلك الأعضاء خاصة لأنه ليس في الغسل رتبة وليس ذلك من
260

باب السنة التي هي غير الفرض ولذلك لم يحتج أن يعيد تلك الأعضاء بنية الجنابة لأنه بذلك غسلها وقدم الغسل لها على سائر البدن
وقد أجمع العلماء على أن الوضوء لا يعاد بعد الغسل من أوجب منهم المضمضة والاستنشاق ومن لم يوجبها فدل على ما وصفنا والحمد لله
وقد ذكرنا في التمهيد حديث عائشة وحديث ميمونة من طرق والمعنى فيها كلها متقارب
وفي قول عائشة ((يدخل أصابعه في الماء فيخلل أصول شعره)) ما يقتضي تخليل شعر الرأس وشعر اللحية
واختلف قول مالك في تخليل الجنب لحيته في غسله
فروى بن القاسم عنه - أنه ليس ذلك عليه
وروى أشهب أن عليه أن يخلل لحيته من الجنابة
وذكر بن عبد الحكم عن مالك قال هو أحب إلينا
وكذلك اختلاف الفقهاء في تخليل الجنب لحيته في غسله على هذين القولين
وحديث عائشة يشهد بصحة قول من رأى التخليل في ذلك لأنه بيان منه - عليه السلام - لقوله تعالى * (وإن كنتم جنبا فاطهروا) * [المائدة 6]
وأما قوله ((ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات)) فالعدد في ذلك استحباب وما أسبغ وعم وبالغ في ذلك أجزأه
ذكر عبد الرزاق عن معمر عن أبي إسحاق عن رجل يقال له عاصم أن رهطا أتوا عمر بن الخطاب فسألوه عن الغسل من الجنابة فقال أما الغسل فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اغسل رأسك ثلاث مرات وادلكه ثم أفض الماء على جلدك
وأما قوله ((ثم يفيض الماء على جلده كله)) فقد اختلف العلماء في الجنب يغتسل فيصب الماء على جلده ويعمه بذلك ولا يتدلك فالمشهور من مذهب مالك أنه لا يجزئه ذلك حتى يتدلك لأن الله تعالى أمر الجنب بالاغتسال كما أمر المتوضئ بغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ولم يكن بد للمتوضئ من إمرار يديه بالماء على وجهه ويديه [إلى المرفقين] فكذلك جميع جسد الجنب ورأسه في حكم وجه المتوضئ ويديه وهذا قول المزني واختياره
وقال أبو الفرج المالكي وهذا هو المعقول من لفظ الاغتسال في اللغة ومن لم يمر يديه - فلم يفعل غير صب الماء ولا يسميه أهل اللسان العربي غاسلا بل يسمونه صابا للماء ومنغمسا فيه
261

ثم قال ويخرج هذا عندي - والله أعلم - أنه لما كان المعتاد من المنغمس في الماء وصابه عليه - أنهما لا يكادان يسلمان من أن ينكب الماء عن المواضع المأمور بها - وجب لذلك عليهما أن يمرا أيديهما على أبدانهما
قال فأما إن طال مكث الإنسان في ماء أو والى صبه عليه من غير أن يمر يديه على بدنه فإنه ينوب ذلك عن إمرار يديه
ثم قال وإلى هذا المعنى ذهب مالك
هذا كله قول أبي الفرج وقد عاد إلى جواز الغسل للمنغمس في الماء إذا بالغ ولم يتدلك ونقض ما تقدم له وخالف ظاهر قول مالك وأصحابه إلا أن على ذلك جماعة الفقهاء وجمهور العلماء
وقد روي عن ميمون بن مهران كقول مالك سواء في ذلك
وروي نحوه عن أبي العالية
واختلف فيه عن الحسن وعطاء
سئل مالك عن الجنب يفيض عليه الماء قال لا بل يغتسل غسلا
وقال أبو العالية يجزئ الجنب من غسل الجنابة أن يغوص غوصة غير أنه يمر يديه على جلده
وذكر دحيم عن كثير بن هشام عن جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران قال إذا اغتسلت من الجنابة فاغسل جلدك وكل شيء تناله يدك
وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما والثوري والأوزاعي يجزئ الجنب إذا انغمس في الماء ولم يتدلك وبه قال أحمد بن حنبل وأبو ثور وداود وإسحاق والطبري ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم
وهو قول عامر الشعبي وإبراهيم النخعي وبن شهاب الزهري وحماد بن أبي سليمان وعلي بن حسين ومحمد بن علي
وروى مروان بن محمد الطاطري - وهو من ثقات التابعين - عن مالك بن أنس مثل ذلك
وقد ذكرناه بإسناده في التمهيد
واختلف عن الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح في هذه المسألة على القولين جميعا
وقد ذكرنا في التمهيد عنهما مع جماعة من التابعين غيرهما أنهم قالوا إذا انغمس الرجل في نهر انغماسة أجزأه
262

ومن حجتهم أن كل من صب عليه الماء فقد اغتسل لقول العرب غمستني السماء
قال أبو عمر أمر الله تعالى المتوضئ بغسل جسده كله وبين ذلك رسول الله باغتساله ونقلت كافة العلماء مثل ما تواترت به أخبار الآحاد العدول بأن فعل رسول الله في غسله وجهه ويديه في وضوئه كان بإمرار كفيه على وجهه ويديه إلى مرفقيه وأن غسله من الجنابة كان بعد وضوئه بإفاضة الماء على جلده كله ولم يذكروا تدلكا ولا عركا بيديه
وأمر رسول الله بغسل النجاسات من الثياب فمرة قال لأسماء في دم الحيض اقرصيه واعركيه (1) ومرة أمر في بول الغلام بأن يصب عليه الماء وأن يتبع لبول الماء دون عرك ولا مرور بيد (2)
فدل هذا كله على أن الغسل في لسان العرب يكون مرة بالعرك ومرة بالصب والإفاضة
كل ذلك يسمى غسلا في اللغة العربية
وقد حكي عن بعض العرب غسلتني السماء يعني بما انصب عليه من الماء
وإذا كان هذا على ما وصفنا فغير نكير أن يكون الله تعبد عباده في الوضوء بأن يمروا بالماء أكفهم على وجوههم وأيديهم إلى المرافق ويكون ذلك غسلا وأن يفيضوا الماء على أنفسهم في غسل الجنابة والحيض ويكون ذلك غسلا موافقا للسنة غير خارج من اللغة وأن يكون كل واحد من الأمرين أصلا في نفسه لا يجب رد أحدهما إلى صاحبه لأن الأصول لا يرد بعضها إلى بعض قياسا
وهذا ما لا خلاف بين الأمة فيه وإنما ترد الفروع قياسا على الأصول وبالله التوفيق
وقد وصفت عائشة وميمونة غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم من الجنابة - ولم تذكرا تدلكا
وكذلك الحديث الذي ذكر عن عمر بن الخطاب قوله ثم أفض الماء على جلدك ولم يذكر تدلكا
وذكر عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن زيد بن أسلم قال سمعت علي بن الحسين يقول ما مس الماء منك وأنت جنب فقد طهر ذلك المكان
263

وقال أبو عمر إذا نوى بصب الماء وانغماسه فيه غسل الجنابة
واختلف الفقهاء في الوضوء وفي الغسل من الجنابة بغير نية
فقال ربيعة والليث والشافعي وأحمد وأبو ثور وإسحاق وأبو عبيدة وداود والطبري لا تجزئ الطهارة للصلاة والغسل من الجنابة ولا التيمم إلا بنية وحجتهم في ذلك قوله تعالى * (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) * [البينة 5]
والإخلاص النية في التقرب إليه والقصد إلى أداء ما افترض وقال صلى الله عليه وسلم ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)) (1) وهذا يقتضي أن يكون كل عمل بغير نية لا يجزئ
وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري أما كل طهارة بماء كالوضوء والغسل من الجنابة فإنها تجزئ بغير نية ولا يجزئ التيمم إلا بنية
وقال الأوزاعي والحسن بن حي يجزئ الوضوء والغسل والتيمم بغير نية له (واختلف عن زفر فروي عنه لا يجزئ بغير نية) كقول أبي حنيفة والثوري وروي عنه أنه يجزئه كقول الحسن بن حي والأوزاعي
وروى بن المبارك والفريابي وعبد الرزاق عن الثوري قال إذا علمت الرجل التيمم لم يجزك إلا أن تكون نويته وإن علمته الوضوء أجزاك وإن لم تنوه
وروى أبو المغيرة عبد القدوس عن الأوزاعي أنه سئل عن رجل علم آخر التيمم - وهو لا ينوي التيمم لنفسه - فحضرت الصلاة فقال يصلي بتيممه ذلك كما لو توضأ وهو لا ينوي الصلاة كان طاهرا
وحجة من أسقط وجوب النية في الطهارة بالماء أن ذلك ليس منه فرض ونافلة فيحتاج المتوضئ فيه إلى نية
قالوا وإنما يحتاج إلى النية فيما فيه من الأعمال فرض ونفل ليفرق بالنية بين الفريضة والنفل
وأما الوضوء فهو فرض للنافلة وللفريضة ولا يصنعه أحد إلا لذلك فاستغنى عن النية
264

قالوا وأما التيمم فهو بدل من الوضوء فلا بد فيه من النية
ومن جمع في ذلك بين التيمم والوضوء فحجته في ذلك واحدة ومن حجتهم أيضا الإجماع على إزالة النجاسات من الأبدان والثياب بغير نية وهي طهارة واجبة فرضا عندهم
قالوا وكذلك الوضوء
قال أبو عمر الصحيح في هذا الباب قول من قال لا تجزئ طهارة للصلاة إلا بنية لها وقصد إليها لأن المفترضات لا تؤدى إلا بقصد وإرادة ولا يسمى الفاعل فاعلا حقيقة إلا بقصد منه إلى الفعل
ومحال أن يتأدى عن المرء ما لم يقصد إلى أدائه وينويه بفعله لأنه لا تكون قربه إلا من متقرب بها قد انطوى ضميره عليها وهو الإخلاص الذي أمر الله به عباده وبالله التوفيق
واختلف الفقهاء فيمن اغتسل للجمعة وهو جنب ولم يذكر
فقالت طائفة تجزئه لأنه اغتسل للصلاة واستباحها وليس عليه مراعاة الحدث ونحوه كما ليس عليه أن يراعي حدث البول والغائط والريح وغير ذلك من الأحداث وإنما عليه أن يتوضأ للصلاة فكذلك الغسل للصلاة يوم الجمعة يجزئه من الجنابة
وممن قال بهذا من أصحاب مالك بن وهب وأشهب وبن نافع وبن كنانة ومطرف وعبد الملك ومحمد بن مسلمة وإليه ذهب المزني من أصحاب الشافعي
وقال آخرون لا يجزئ الجنب غسل يوم الجمعة من غسل الجنابة إذا كان ناسيا لجنابته في حين الغسل ولم يقصد إلى ذلك لأن الغسل للجمعة سنة والاغتسال من الجنابة فرض ومحال أن تجزئ سنة عن فرض كما لا تجزئ ركعتا الفجر عن صلاة الصبح ولا أربع ركعات قبل الظهر عن صلاة الظهر
وهو قول بن القاسم وبن عبد الحكم عن مالك
ولم يختلف أصحاب مالك فيمن اغتسل للجنابة لا ينوي الجمعة أنه غير مغتسل للجمعة ولا يجزئه من غسل الجمعة إلا ما ذكره محمد بن عبد الحكم وأبو إسحاق البرقي عن أشهب أنه قال يجزئه غسل الجنابة من غسل الجمعة
وقال عبد العزيز بن أبي سلمة والثوري والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه والليث بن سعد والطبري من اغتسل للجنابة يوم الجمعة أجزأه غسل الجنابة من غسل الجمعة والجنابة جميعا
265

وأجمعوا في الجنب ينوي بغسله الجنابة والجمعة أنه يجزئه عنهما إلا شيئا روي عن مالك قال به أهل الظاهر أنه لا يجزئ عن واحد منهما إذا خلط النية فيهما قياسا على من خلط الفرض بالنافلة في الصلاة
وهذا لا يصح لأهل الظاهر لدفعهم القياس وقول من قال بهذا تعسف وشذوذ من القول ولا سلف لقائله ولا وجه له
وذكر أبو بكر الأثرم قال قلت لأحمد بن حنبل رجل اغتسل يوم الجمعة من جنابة ونوى مع ذلك غسل الجمعة فقال أرجو أن يجزئه منهما جميعا
قلت له يروى عن مالك أنه قال لا يجزئه عن واحد منهما فأنكره
قال أبو بكر حدثنا أحمد بن أبي شعيب قال حدثنا موسى بن أعين عن ليث عن نافع عن بن عمر أنه كان يغتسل للجمعة والجنابة غسلا واحدا
حدثنا أحمد بن عبد الله قال حدثني أبي قال حدثنا عبد الله بن يونس حدثنا بقي حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا جرير عن ليث عن نافع عن بن عمر أنه كان يغتسل للجمعة والجنابة غسلا واحدا
ولا مخالف له - علمت - من الصحابة
84 - مالك عن بن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من إناء هو الفرق (1) من الجنابة
وقد ذكرنا في ((التمهيد)) من وافق مالكا على لفظه في هذا الحديث ومن زاد فيه من رواته
وليس في حديث مالك هذا إلا الاقتصار على ما يكفي من الماء من غير تحديد وأن الإسراف فيه مذموم
وذلك رد على الإباضية ومن ذهب مذهبهم في الإكثار من الماء
وهو مذهب ظهر قديما وسئل عنه بعض الصحابة والتابعين فلذلك سيق هذا الحديث ومثله
266

وقد ذكرنا من آثار هذا الباب في ((التمهيد)) كثيرا يدل على ما وصفنا والحمد لله
وجملة الآثار المنقولة في هذا عن النبي - عليه السلام - يدل على أن لا توقيت فيما يكفي من الماء في الغسل والطهارة ولذلك ما استحب السلف ذكر المقدار من غير كيل
روى عبد الرزاق عن بن جريج قال سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير يقول صاع للغسل من غير أن يكال قال وأخبرنا بن جريج قال قلت لعطاء كم بلغك أنه يكفي الجنب قال صاع من ماء من غير أن يكال
وقد روى القعنبي عن سليمان بن بلال عن عبد الرحمن بن عطاء أنه سمع سعيد بن المسيب سأله رجل من أهل العراق عما يكفي الإنسان في غسل الجنابة فقال لي سعيد إن لي تورا (1) يسع مدين من ماء أو نحوهما وأغتسل به فيكفيني وتفضل فيه فضلة
فقال الرجل والله إني لأستنثر بمدين من ماء
فقال سعيد بن المسيب فما تأمرني إن كان الشيطان يلعب بك
فقال له الرجل فإن لم يكفني فإني رجل - كما ترى - عظيم
فقال له سعيد ثلاثة أمداد فقال إن ثلاثة أمداد قليل قال له فصاع
قال عبد الرحمن وقال لي سعيد إن لي ركوة (2) أو قدحا ما تسع إلا نصف المد أو نحوه وإني لأتوضأ منه وربما فضل فضل
قال عبد الرحمن فذكرت هذا الحديث الذي سمعت من سعيد بن المسيب لسليمان بن يسار فقال وأنا يكفيني مثل ذلك
قال عبد الرحمن فذكرت ذلك لأبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر فقال أبو عبيدة هكذا سمعنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفي ((التمهيد)) زيادات في هذا المعنى عن جماعة من العلماء ولا خلاف بينهم في هذا الباب والحمد لله
وأما الفرق فبتحريك الراء وقد روي عن يحيى وغيره بإسكان الراء
267

قال الخليل بن أحمد الفرق مكيال
وقال بن وهب الفرق مكيال من خشب
كان بن شهاب يقول إنه يسع خمسة أقساط بأقساط بني أمية
وقد فسر محمد بن عيسى الأعشى الفرق بثلاثة أصوع قال وهي خمسة أقساط
قال وفي الخمسة أقساط اثنا عشر مدا بمد النبي عليه السلام
قال بن مزين قال لي عيسى بن دينار قال لي بن القاسم وسفيان بن عيينة الفرق يحمل ثلاثة أصوع
وقال أبو داود سمعت أحمد بن حنبل يسأل عن الفرق فقال ثلاثة أصوع
وهذا كله قريب بعضه من بعض
وقد روي عن مجاهد ما يخالف ذلك
روى موسى الجهني عن مجاهد أنه أتى بقدح حزرته بثمانية أرطال فقال حدثتني عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بمثل هذا
قال أبو عمر غسل الأعضاء في الوضوء وسائر الجسم في الغسل إنما يكون بمباشرة الماء لذلك وما أمر الله بغسله فلا يجزئ فيه المسح فمن قدر أن يتوضأ بمد أو أقل ويغتسل بصاع أو دون بعد أن يسبغ ويعم فذلك حسن جائز عند جماعة العلماء بالحجاز والعراق ولا يخالف في ذلك إلا ضال مبتدع وبالله التوفيق
وأما فعل بن عمر في نضحه الماء في عينيه إذ كان يغتسل من الجنابة - فشئ لم يتابع عليه لأن الذي عليه غسل ما ظهر لا ما بطن
وله - رحمه الله - أشياء شذ فيها حمله الورع عليها
وفي أكثر الموطآت سئل مالك عن نضح بن عمر الماء في عينيه فقال ليس على ذلك الأمر عندنا وليس هذا عند يحيى
85 - وأما قول عائشة إذ سئلت عن غسل المرأة من الجنابة فقالت ((لتحفن (1) على رأسها ثلاث حفنات من الماء ولتضغث رأسها بيديها
268

فذلك إنكار منها قول من رأى أن تنقض المرأة ضفائر رأسها عند غسلها لأن الذي عليها بل شعرها وإيصال الماء إلى أصوله وإسباغ ذلك وعمومه
وقد أنكرت على عبد الله بن عمرو بن العاص أمره النساء أن ينقضن رؤوسهن عند الغسل وقالت ما كنت أزيد أن أغرف على رأسي ثلاث غرفات مع رسول الله
رواه أيوب بن أبي الزبير عن محمد بن عمير عن عائشة أنه بلغها عن عبد الله بن عمرو
وفي حديث أم سلمة يا رسول الله أأنقض رأسي عند الغسل فقال يكفيك أن تصبي على رأسك ثلاث مرات (1)
وقال سعيد لكل صبة عصرة
وقال مالك اغتسال المرأة من الحيض والجنابة سواء ولا تنقض رأسها
((18 - باب واجب الغسل إذا التقى الختانان))
86 - مالك عن بن شهاب عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون إذا مس الختان (2) الختان فقد وجب الغسل
هذا حديث صحيح عن عثمان بأن الغسل يوجبه التقاء الختانين
وهو يدفع حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن عطاء بن يسار أخبره أن زيد بن خالد الجهني أخبره أنه سأل عثمان بن عفان قال قلت أرأيت إذا جامع الرجل امرأته ولم يمن قال عثمان يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ويغسل ذكره سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال وسأل عن ذلك عليا والزبير وطلحة وأبي بن كعب فأمروه بذلك
وهذا حديث منكر لا يعرف من مذهب عثمان ولا من مذهب علي ولا من مذهب المهاجرين انفرد به يحيى بن أبي كثير ولم يتابع عليه
269

وهو ثقة إلا أنه جاء بما شذ فيه وأنكر عليه ونكارته أنه محال أن يكون عثمان سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يسقط الغسل من التقاء الختانين ثم يفتي بإيجاب الغسل منه
ولا أعلم أحدا قال بأن الغسل من التقاء الختانين منسوخ بل قال الجمهور إن الوضوء منه منسوخ بالغسل ومن قال بالوضوء منه أجازه وأجاز الغسل فلم ينكره
ذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال كان عمر وعثمان وعائشة والمهاجرون الأولون يقولون إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل
وقد تدبرت حديث عثمان الذي انفرد به يحيى بن أبي كثير فليس فيه تصريح بمجاوزة الختان الختان وإنما فيه جامع ولم يمس وقد تكون مجامعة ولا يمس فيها الختان الختان لأنه لفظ مأخوذ من الاجتماع يكنى به عن الوطء
وإذا كان كذلك فلا خلاف حينئذ فيما قال عثمان إنه يتوضأ وجائز أن يسمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يكون معارضا لإيجاب الغسل بشرط التقاء الختانين
قال أبو بكر الأثرم قلت لأحمد بن حنبل حديث حسين المعلم عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عطاء بن يسار عن زيد بن خالد قال سألت (عنه) خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان وعليا وطلحة والزبير وأبي بن كعب فقالوا الماء من الماء أفيه علة تدفعه بها قال نعم ما يروى من خلافه عنهم قلت عن علي وعثمان وأبي بن كعب قال نعم
وقال أحمد بن حنبل الذي أرى إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل
قيل إنه قد كنت تقول غير هذا
قال ما أعلمني قلت غير هذا قط
قيل له قد بلغنا ذلك عنك قال الله المستعان
وقال يعقوب بن شيبة سمعت علي بن المديني وذكر هذا الحديث فقال إسناد حسن ولكنه حديث شاذ غير معروف
قال علي وقد روي عن عثمان وعلي وأبي بن كعب بأسانيد جياد - أنهم أفتوا بخلافه
قال يعقوب بن شيبة هو حديث منسوخ
كانت هذه الفتوى في أول الإسلام ثم جاءت السنة بعد ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل
270

قال أبو عمر قول يعقوب بن شيبة هذا مأخوذ مما حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر حدثنا أبو داود حدثنا أحمد بن صالح حدثنا بن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن بن شهاب قال حدثني بعض من أرضى أن سهل بن سعد أخبره أن أبي بن كعب أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما جعل ذلك رخصة في أول الإسلام ثم أمر بالغسل ونهى عن ذلك قال أبو داود يعني الماء من الماء
قال موسى بن هارون وقد روى أبو حازم هذا الحديث عن سهل بن سعد وأظن بن شهاب منه سمعه لأنه لم يسمعه من سهل بن سعد وقد سمع من سهل أحاديث فإن كان بن شهاب سمعه من أبي حازم فإنه ثقة رضا
قال أبو عمر حديث أبي حازم في ذلك ذكره أبو داود أيضا قال حدثنا محمد بن مهران الرازي قال حدثنا مبشر الحلبي عن محمد بن مطرف أبي غسان عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال حدثني أبي بن كعب أن الفتيا التي كانوا يفتون الماء من الماء كانت رخصة رخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام ثم أمر بالاغتسال بعد
وذكر بن أبي شيبة قال حدثنا سهل بن يوسف قال حدثنا شعبة عن سيف بن وهب عن أبي حرب بن أبي الأسود عن عميرة بن يثربي عن أبي بن كعب قال إذا التقى ملتقاهما فقد وجب الغسل
وذكره البخاري في تاريخه قال حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا سهل بن يوسف بإسناده مثله في باب عميرة بن يثربي وفي حديث سيف بن وهب
وأما حديث الأعمش عن ذكوان بن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري عن النبي - عليه السلام - قال ((إذا أعجل أحدكم أو أقحط (1) فلا يغتسل)) (2) - فليس فيه حجة لأنه يحتمل أن يكون جوابا لمن أعجل أو أقحط عن بلوغ التقاء الختانين
271

وكذلك حديث بن شهاب عن أبي سلمة عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((الماء من الماء)) (1) رواه بن وهب عن عمرو [بن الحارث] عن بن شهاب ورواه جماعة من أصحاب بن شهاب كذلك قال وكان أبو سلمة يفعل ذلك - لا حجة فيه أيضا لأن قوله ((الماء من الماء)) لا يدفع أن يكون [الماء] من التقاء الختانين
ولا خلاف أن الماء - وهو الاغتسال - يكون من الماء الذي هو الإنزال لأن من أوجب الغسل من التقاء الختانين [يوجبه] من ((الماء من الماء))
والتقاء الختانين زيادة حكم وقد قيل معنى ((الماء من الماء)) في الاحتلام لا في اليقظة لأنه لا يجب الماء في الاحتلام إلا مع إنزال الماء
وهذا مجتمع عليه فيمن رأى أنه يجامع ولا ينزل أنه لا غسل عليه وإنما الغسل في الاحتلام على من أنزل الماء هذا ما لم يختلف فيه العلماء
وقد روى شريك عن أبي الجحاف - واسمه داود بن أبي عوف - عن عكرمة عن بن عباس قال إنما الماء من الماء في الاحتلام وإنما الرواية في التقاء الختانين عن المهاجرين من الصحابة
فذكر بن أبي شيبة قال حدثنا بن علية عن شعبة عن أبي عون عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه سمع من عمرو أو عن أخيه سمعه من عمرو وقال إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل
قال حدثنا بن أبي عيينة عن بن طاوس عن أبيه قال سمعت بن عباس يقول أما [أنا] فإذا خالطت أهلي اغتسلت
قال حدثنا أسامة بن عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر قال إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل
وذكر عبد الرزاق (2) عن الثوري عن جابر عن الشعبي قال حدثني الحارث عن علي وعلقمة عن عبد الله ومسروق عن عائشة قالوا إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل
وعن معمر عن عبد الله بن محمد بن عقيل أن عليا قال كما يجب منه الحد كذلك يجب منه الغسل
وعن محمد بن مسلم عن عمرو بن دينار عن أبي جعفر محمد بن علي بن
272

حسين أن عليا وأبا بكر وعمر قالوا ما أوجب الحدين الجلد والرجم - أوجب الغسل
وعن بن جريج وعبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر قال إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل
وهو عند مالك عن نافع عن بن عمر وعن الثوري عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن بن مسعود سئل عن ذلك فقال إذا بلغت ذلك اغتسلت قال سفيان والجماعة على الغسل
ذكر أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو بكر بن عياش عن عاصم عن زر عن علي قال إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل
قال وحدثنا وكيع عن حنظلة الجمحي عن سالم عن بن عمر قال قال عمر إذا خالط الرجل أهله فقد وجب الغسل
قال وحدثنا وكيع عن مسعر عن معبد بن خالد عن علي وعن غالب بن أبي الهذيل عن إبراهيم عن علي قال إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل
وكيف يصح عن علي حديث عطاء بن يسار عن زيد بن خالد مع تواتر الطرق بخلاف ذلك
وأما أبو بكر وعمر فلم يختلف عنهما في ذلك
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا بن أبي إدريس عن الشيباني عن بكير بن الأخنس عن سعيد بن المسيب قال قال عمر لا أوتي برجل فعله - يعني جامع ولم يغتسل وهو لم ينزل - إلا نهكته عقوبة
قال وحدثنا حفص عن حجاج عن أبي بكر قال أجمع المهاجرون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي أن ما أوجب الحد من الجلد والرجم أوجب الغسل
وذكر عبد الرزاق (1) أخبرنا مجاهد عن أبيه قال اختلف المهاجرون والأنصار فيما يوجب الغسل فقال الأنصار الماء من الماء وقال المهاجرون ((إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل فحكموا بينهم علي بن أبي طالب واختصموا إليه فقال علي أرأيتم لو أبصرتم رجلا يدخل ويخرج أيجب عليه الحد قالوا نعم قال أفيوجب الحد ولا يوجب صاعا من ماء فقضى للمهاجرين فبلغ ذلك
273

عائشة فقالت ربما فعلنا ذلك أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فقمنا واغتسلنا
وهذا أيضا يعارض حديث عطاء بن يسار عن زيد بن خالد قال حدثنا بن علية عن أيوب عن عكرمة قال يوجب الحد والرجم ولا يوجب إناء من ماء
وهو قول شريح وأبي هريرة وإليه انصرف أبي وزيد بن ثابت والنعمان بن بشير وسهل بن سعد وبن عباس وعليه عامة الصحابة والتابعين وجمهور فقهاء الأمصار
87 - مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أنه قال سألت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ما يوجب الغسل فقالت هل تدري ما مثلك يا أبا سلمة مثل الفروج (1) يسمع الديكة تصرخ فيصرخ معها إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل
ففيه دليل على أن أبا سلمة كان عندها ممن يقول بذلك وأنه قلد فيه من لا علم له به فعاتبته بذلك لأنه كان أعلم الناس بذلك لأنه كان أعلم الناس بذلك المعنى لمكانها من رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقد تقدم عن أبي سلمة روايته عن عطاء وعن أبي سعيد أنه كان يفعل ذلك ولذلك قرعته عنه بما ذكر مالك في حديثه والله أعلم
88 - وأما حديث مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن أبا موسى الأشعري أتى عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها لقد شق علي اختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في أمر إني لأعظم أن أستقبلك به فقالت ما هو ما كنت سائلا عنه أمك فسلني عنه فقال الرجل يصيب أهله يكسل ولا ينزل (2) فقالت إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل فقال أبو موسى الأشعري لا أسأل عن هذا أحدا بعدك أبدا
274

فإنه وإن لم يكن مسندا في ظاهرة - فإنه يدخل في المسند بالمعنى والنظر لأنه محال أن ترى عائشة نفسها حجة على غيرها من الصحابة في حين تنازعهم واختلافهم في هذه المسألة النازلة بينهم ومحال أن يسلم أبو موسى لعائشة قولها من رأيها في مسألة قد خالفها فيها من الصحابة غيرها برأيه لأن كل واحد منهم ليس بحجة على صاحبة عند التنازع في الرأي فلم يبق إلا أن تسليم أبي موسى لها كان لعلمه أن ما احتجت به كان عن رسول الله
ومع ما ذكرنا من هذا الاستدلال فقد روي حديثها هذا عنها مسندا عن النبي عليه السلام
فمن ذلك ما رواه أبو قرة موسى بن طارق عن مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن أبي موسى عن عائشة عن النبي - عليه السلام - قال ((إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل))
وروى علي بن زيد عن بن المسيب قال نازع أبو موسى ناسا من الأنصار فقالوا الماء من الماء قال سعيد فانطلقت أنا وأبو موسى حتى دخلنا على عائشة فقال لها أبو موسى الذي تنازعوا فيه فقالت عائشة عندي الشفاء من ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إذا جلس بين الشعب الأربع وألصق الختان بالختان فقد وجب الغسل)) (1)
وروى حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن عبد الله بن رباح عن عبد العزيز بن النعمان عن عائشة قالت ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقى الختانان اغتسل))
وروى القاسم بن محمد وعطاء بن أبي رباح وأم كلثوم بنت أبي بكر كلهم عن عائشة قالت ((كنت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نفعله فنغتسل))
وقد ذكرنا أسانيد [هذه الأحاديث] عن عائشة كلها في التمهيد وهي مرفوعة مسندة فدل على صحة التأويل المذكور وبالله التوفيق
وروى مثل ذلك جماعة من الصحابة أيضا فمن ذلك حديث شعبة وسعيد وأبان وهمام وحماد بن سلمة وهشام وكلهم عن قتادة عن الحسن عن رافع
275

عن أبي هريرة عن النبي - عليه السلام - قال ((إذا قعد بين شعبها الأربع وألزق الختان بالختان فقد وجب الغسل)) (1)
وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إذا التقى الختانان وتوارت الحشفة فقد وجب الغسل)) (2)
وقد ذكرنا أسانيدها في التمهيد
وعلى هذا مذاهب أهل العلم وبه الفتوى في جميع الأمصار فيما علمت
وممن قال بذلك من الفقهاء مالك وأصحابه وسفيان الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه والليث بن سعد والحسن بن حي والشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور وأبو عبيد والطبري
واختلف أصحاب داود في هذه المسألة فمنهم من قال في هذه المسألة بما عليه الفقهاء والجمهور على ما وصفنا من إيجاب الغسل بالتقاء الختانين ومنهم من قال لا غسل إلا بإنزال الماء الدافق وجعل في الإكسال الوضوء
واحتج من ذهب إلى هذا بما رواه يحيى القطان وغيره عن هشام بن عروة قال أخبرني أبو أيوب الأنصاري قال أخبرني أبي بن كعب أنه قال يا رسول الله إذا جامع الرجل امرأته فلم ينزل قال ((يغسل ما مس المرأة ثم يتوضأ ويصلي)) (3)
وهذا الحديث قد صح عن أبي بن كعب وصح بما قدمنا أنه منسوخ وأن الفتيا بذلك كانت في أول الإسلام ثم أمروا بالغسل فلا حجة في هذا عند أحد يعرف ما يقول
وفي حديث مالك ما يدل على أن أبي بن كعب كان يفتي بما حدث به عنه أبو أيوب حتى صح عنده بعد ما ذكره عنه سهل بن سعد فنزع عن ذلك ورجع عنه
89 - مالك عن يحيى بن سعيد عن عبد الله بن كعب مولى
276

عثمان بن عفان أن محمود بن لبيد الأنصاري سأل زيد بن ثابت عن الرجل يصيب أهله ثم يكسل ولا ينزل فقال زيد يغتسل فقال له محمود إن أبي بن كعب كان لا يرى الغسل فقال له زيد بن ثابت إن أبي بن كعب نزع عن ذلك (1) قبل أن يموت
وفي رجوع أبي بن كعب عن القول بما سمعه من النبي - عليه السلام - ورواه عنه - ما يدل على أنه كان منسوخا ولولا ذلك ما رجع عنه لأن ما لم ينسخ من الكتاب والسنة لا يجوز تركه ولا الرجوع عنه لأحد صح عنده
حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا مطلب بن شعيب قال حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني الليث قال حدثنا عقيل عن بن شهاب عن سهل بن سعد قال حدثني أبي بن كعب أن الفتيا التي كانوا يفتون بها قولهم إن الماء من الماء - رخصة كان رسول الله رخص بها في أول الإسلام ثم أمرنا بالغسل بعد
وقد تقدم أن بن شهاب لم يسمعه من سهل بن سعد وإنما رواه عن أبي حازم عن سهل بن سعد وهو حديث صحيح ثابت بنقل العدول والثقات له
فإن قيل إن رافع بن خديج وأبا سعيد الخدري وعبد الله بن عباس وأبا مسعود وسعد بن أبي وقاص كانوا يقولون الماء من الماء قيل لقائل ذلك قد قلنا إن الماء من الماء يحتمل أن يكون معناه الاحتلام وإن لم ينزل في احتلامه فلا يضره ما رأى من جماعه
وقد روى عن بن عباس وسعد بن أبي وقاص وبن مسعود - إيجاب الغسل من التقاء الختانين على خلاف ما حكى هذا القائل عنهم
ولا حجة في قول أحد مع السنة
وقد ثبت عن النبي - عليه السلام - ما قدمنا ذكره في هذا الباب مما فيه كفاية ومقنع وحجة قاطعة عند ذوي الألباب
ولهذه المسألة أيضا حظ من النظر وذلك أن الصلاة لا تجب أن تؤدي إلا بطهارة متيقنة
وقد أجمعوا على أنه من اغتسل من الإكسال فقد أدى صلاته بطهارة مجتمع
277

عليها والصلاة يجب أن يحتاط لها وكيف وفي ثبوت السنة بصحيح الأثر ما يغني عن كل نظر وبالله التوفيق
((19 - باب وضوء الجنب إذا أراد أن ينام أو يطعم قبل أن يغتسل))
90 - مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أنه قال ذكر عمر بن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يصيبه جنابة من الليل فقال له رسول الله ((توضأ واغسل ذكرك ثم نم))
(وهذا من التقديم والتأخير أراد اغسل ذكرك)
وكذلك رواه سفيان الثوري وشعبة عن عبد الله بن دينار عن بن عمر فقالا فيه يغسل ذكره ويتوضأ
وقد رواه عن مالك جماعة كذلك في غير الموطأ ولم يختلف رواة الموطأ أنه كما رواه يحيى توضأ واغسل ذكرك ثم نم
ورواية بن جريج لهذا الحديث عن نافع كرواية الثوري وشعبة عن بن عيينة عن عبد الله بن دينار في المعنى
قال فيه إن عمر استفتى النبي - عليه السلام - فقال أينام أحدنا وهو جنب قال نعم ليتوضأ
ولم يذكر غسل الذكر في الوضوء لا قبل ولا بعد لقول عائشة
91 - إذا أصاب أحدكم المرأة ثم أراد أن ينام فلا ينم حتى يتوضأ وضوءه
278

للصلاة ليبين أن الوضوء الذي أمر به النبي - عليه السلام - عمر بن الخطاب هو الوضوء للصلاة ثم أتبعه بفعل بن عمر أنه كان لا يغسل رجليه إذا توضأ وهو جنب للأكل أو للنوم
ولم يعجب مالكا فعل بن عمر وأظنه أدخله إعلاما أن ذلك الوضوء ليس بلازم وما أعلم أحدا من أهل العلم أوجبه فرضا إلا طائفة من أهل الظاهر وأما سائر الفقهاء بالأمصار فلا يوجبونه وأكثرهم يأمرون به ويستحبونه
وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وجماعة الصحابة والتابعين
قال مالك لا ينام الجنب حتى يتوضأ وضوءه للصلاة قال وله أن يعاود أهله ويأكل قبل أن يتوضأ إلا أن يكون في يده قذر فيغسلها
قال وأما الحائض فتنام قبل أن تتوضأ وقول الشافعي في هذا كله نحو قول مالك
وقال الليث بن سعد لا ينام الجنب حتى يتوضأ رجلا كان أو امرأة
وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري لا بأس أن ينام الجنب على غير وضوء وأحب إليهم أن يتوضأ
قال فإذا أراد أن يأكل مضمض وغسل يديه وهو قول الحسن بن حي
وقال الأوزاعي الحائض والجنب إذا أرادا أن يأكلا أو يناما غسلا أيديهما
وقال سعيد بن المسيب إن شاء الجنب نام قبل أن يتوضأ
قال أبو عمر وقد ذكرنا الآثار المرفوعة عن عمر وعائشة عن النبي - عليه السلام - في وضوء الجنب عند النوم ولم تختلف عنهما الآثار في ذلك إلا من رواية من أخطأ في الحديث عند أهل العلم به على ما بيناه في التمهيد
واختلفت الرواية المرفوعة عن عائشة في وضوء الجنب عند النوم
وأحسن الأسانيد عن عائشة في ذلك ما رواه بن المبارك وغيره عن يونس عن الزهري عن أبي سلمة عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وإذا أراد أن يأكل ويشرب غسل يديه ثم يأكل ويشرب
279

وقد ذكرنا الاختلاف عنه في هذا الحديث وذكرنا طرق حديث عائشة وطرق حديث بن عمر عن عمر بذلك في التمهيد
ورواه الحكم عن إبراهيم عن الحسن عن عائشة أن النبي - عليه السلام - كان إذا أراد أن يأكل أو ينام - وهو جنب - توضأ
وذكر أحمد بن زهير عن أحمد بن حنبل عن يحيى القطان قال ترك شعبة حديث الحكم في الجنب إذا أراد أن يأكل
وأما حجة من ذهب من الكوفيين وغيرهم إلى أن الجنب لا بأس أن ينام قبل أن يتوضأ فحديث ذكره أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد بن سلمة قال حدثنا عطاء الخرساني عن يحيى بن يعمر عن عمار بن ياسر أن النبي - عليه السلام - رخص للجنب إذا أكل أو شرب أو نام أن يتوضأ
وقالوا معناه ألا يتوضأ لأنه في ذلك رخصة وهذا محتمل للتأويل لا حجة فيه
قال أبو داود وبين يحيى بن يعمر وعمار بن ياسر فيه رجل
وروى سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن الأسود عن عائشة أن النبي - عليه السلام - كان ينام وهو جنب ولا يمس ماء
قال سفيان وهذا الحديث خطأ ونحن نقول به
وقد أوضحنا قول سفيان هذا في ((التمهيد))
وقد عارض حديث بن عمر وحديث عائشة في هذا الباب بحديث سعيد بن الحويرث عن بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الخلاء فأتى بطعام فقالوا ألا نأتيك بطهر فقال ((لا أصلي فأتطهر)) وبعضهم يقول فيه ألا تتوضأ فقال ((ما أردت الصلاة فأتوضأ)) ثم تناول عرقا فأكل منه ولم يمس ماء
وهو حديث صحيح رواه أيوب وحماد بن زيد وسفيان بن عيينة وبن جريج عن عمرو بن دينار سمع سعيد بن الحويرث سمع بن عباس وقد سمعه بن جريج من سعيد بن الحويرث وطرقه في التمهيد
قالوا ففي هذا الحديث أن الوضوء لا يكون إلا لمن أراد الصلاة وذلك رفع الوضوء عند النوم وعند الأكل والله أعلم
280

((20 - باب إعادة الجنب الصلاة وغسله إذا صلى ولم يذكر وغسله ثوبه))
92 - مالك عن إسماعيل بن حكيم أن عطاء بن يسار أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر في صلاة من الصلوات ثم أشار بيديه أن امكثوا فذهب ثم رجع على جلده أثر الماء
قد ذكرنا عطاء بن يسار وأخويه بما يجب من ذكر المولد والوفاة والحال واللقاء في التمهيد
وهذا حديث منقطع وقد روي متصلا مسندا من حديث أبي هريرة وحديث أبي بكرة وقد ذكرت طرقها في التمهيد
وفي بعضها ((أنه كبر)) كما في حديث مالك وفي بعضها أنه ((قام في مصلاه)) وفي بعضها أنه لما انصرف ((كبر)) وفي رواية الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة لهذا الحديث ((فقال لهم مكانكم)) وفي حديث أبي بكرة ((فأومأ رسول الله بيده أن مكانكم)) وكلامه وإشارته في ذلك سواء لأنه كان في غير صلاة
أخبرنا عبد الله بن محمد حدثنا عبد الحميد بن أحمد حدثنا الخضر بن داود حدثنا أبو بكر الأثرم قال سألت أحمد بن حنبل عن حديث أبي بكرة أن النبي عليه السلام ((أشار أن امكثوا فذهب ثم رجع وعلى جلده أثر الغسل فصلى بهم)) ما وجهه قال وجهه قال وجهه أنه ذهب فاغتسل قيل له كان جنبا قال نعم
ثم قال يرويه بعض الناس أنه كبر وبعضهم يقول لم يكبر قيل له فلو فعل هذا إنسان اليوم أكنت تذهب إليه قال نعم
قال أبو عمر من ذكر أنه كبر زاد زيادة حافظ يجب قبولها وفي حديث مالك وغيره أنه كبر على ما قد أوردناه في التمهيد
ومن روى أو اعتقد أنه لم يكبر فقد أراح نفسه من الكلام في هذا الباب وإنما القول والتوجيه فيه على من روى أنه كبر ثم قال لهم وأشار إليهم أن امكثوا
وقد ظن بعض شيوخنا أن في إشارته إليهم أن امكثوا دليلا على أنه إذا انصرف إليهم بنى بهم لأنه لم يتكلم وهذا جهل وغلط فاحش ولا يجوز عند أحد من
281

العلماء أن يبني أحد على ما صنع من صلاته غير طاهر ولا يخلو أمره عليه السلام إذا رجع من [أحد] ثلاثة أوجه
إما أن يكون بنى على التكبيرة التي كبرها وهو جنب وبنى القوم معهم على تكبيرهم فإن كان هذا فهو منسوخ بالسنة والإجماع
أما السنة فقوله عليه السلام ((لا يقبل الله صلاة بغير طهور)) (1) فكيف يبني على ما صلى وهو غير طاهر وتكبيرة الإحرام ركن من أركان الصلاة فكيف يجتزئ بها وقد عملها على غير طهارة هذا لا يظنه ذو لب ولا يقوله أحد لأن علماء المسلمين مجمعون على أن الإمام وغيره من المصلين لا يبني أحد منهم على شيء عمله في صلاته وهو على غير طهارة وإنما اختلفوا في بناء المحدث على ما قد صلى وهو طاهر قبل حدثه
وقد بينا ذلك فيما مضى من هذا الكتاب في باب بناء الراعف والحمد لله
والوجه الآخر أن يكون - عليه السلام - حين انصرف بعد غسله استأنف صلاته واستأنفها أصحابه معه بإحرام جديد وأبطلوا إحرامهم وإن كانوا قد أحرموا معه وكان لهم أن يعتدوا به لو استخلف من يتم بهم
فإن كان هذا فليس في الحديث معنى يشكل حينئذ على مذهب من روى أنه كبر ثم أشار إليهم أن امكثوا ثم انصرف
وأما من روى أنه لم يكبر أولا وكبر لما انصرف فليس في روايته شيء يحتاج إلى قول غير انتظار الإمام إذا كان في الوقت سعة وهذا أمر مجتمع على جوازه ولا مدخل أيضا للقول فيه
والوجه الثالث أن يكون النبي - عليه السلام - كبر محرما مستأنفا لصلاته وبنى القوم خلفه على ما مضى من إحرامهم فهذا وإن كان فيه النكتة المجيزة لصلاة القوم خلف الإمام الجنب لاستجزائهم بإحرامهم فإنه لا يصح ولا يخرج على مذهب مالك لأنه حينئذ يكون إحرام القوم قبل إحرام إمامهم
وهذا غير جائز عند مالك وجمهور الفقهاء وإنما أجازه الشافعي في أحد قوليه
والصحيح عن الشافعي ما ذكره البويطي وغيره عنه أن إحرام المأموم لا يصح
282

إلا بعد تكبيرة إمامه في إحرامه ومن كبر قبل إمامه فلا صلاة له لا يحتمل الحديث غير هذه الأوجه ولا يخلوا من أحدها وليس في شيء منها ما يدل على جواز صلاة المأموم الطاهر خلف الإمام الجنب على مذهب مالك فتدبره تجده كذلك إن شاء الله
وأما الشافعي فيصح الاستدلال بهذا الحديث على أصله في أن صلاة القوم عنده غير مرتبطة بصلاة إمامهم لأن الإمام قد تبطل صلاته وتصح صلاة من خلفه وقد تبطل صلاة المأموم وتصح صلاة الإمام (بوجوه أيضا كثيرة) فلذلك لم تكن صلاتهما مرتبطة ولذلك لم يضرهم (عنده) اختلاف نياتهم ونيته في صلاة واحدة لأن كلا يصلي بنفسه ولا يحتمل فرضا عن صاحبه
ولذلك أجاز في أحد قوليه إحرام المأمومين قبل إمامهم وإن كان لا يستحب لهم ذلك لأنه مستحيل أن يدخلوا في صلاة إمامهم ولم يدخل فيها بعد ولأصحابه دلائل واحتجاجات للقولين ليس كتابنا هذا موضعا لذكرها
وجملة قول مالك وأصحابه في إمام أحرم بقوم فذكر أنه جنب أو على غير وضوء - أنه يخرج ويقدم رجلا فإن خرج ولم يقدم أحدا قدموا لأنفسهم من يتم بهم الصلاة فإن لم يفعلوا وصلوا أفرادا أجزأتهم صلاتهم فإن انتظروه ولم يقدموا أحدا لم تفسد صلاتهم
وروى يحيى بن يحيى عن بن نافع قال إذا انصرف الإمام ولم يقدم وأشار إليهم امكثوا - كان حقا عليهم ألا يقدموا أحدا حتى يرجع فيتم بهم
قال أبو عمر قوله فيتم بهم لا يصح في الجنب وغير المتوضئ وإنما يصح فيمن أحدث
وأما من لم يكن على طهارة فإنه يبتدئ بهم لا يتم وقد أوضحنا هذا بما يغني عن تكراره
وقد جعل قوم منهم الشافعي وداود بن علي هذا الحديث أصلا في ترك الاستخلاف لمن أحدث في صلاته
فقال الشافعي الاختيار عندي إذا أحدث الإمام حدثا لا تجوز معه الصلاة من رعاف أو انتقاض وضوء أو غيره - أن يصلي القوم فرادى ولا يقدموا أحدا فإن قدموا أو قدم الإمام رجلا فأتم بهم ما بقي من صلاتهم - أجزأتهم صلاتهم
[قال] وكذلك لو أحدث الإمام الثاني والثالث والرابع
قال ولو أن إماما كبر وقرأ وركع أو لم يركع حتى ذكر أنه على غير طهارة فكان خروجه أو غسله قريبا - فلا بأس أن يقف الناس [في صلاتهم حتى يتوضأ
283

ويرجع فيستأنف ويتمون لأنفسهم كما فعل رسول الله - عليه السلام - حين ذكر أنه جنب فانتظره القوم فاستأنف لنفسه لأنه لا يعتد بتكبيرة كبرها وهو جنب ويتم القوم لأنفسهم لأنهم لو أتموا لأنفسهم حين خرج عنهم إمامهم أجزأتهم صلاتهم
قال وإن كان خروج الإمام يتباعد أو طهارته تثقل صلوا لأنفسهم
قال وسواء أشار إليهم أن ينتظروه أو كلمهم لأنهم في غير صلاة فإن انتظروه وكان قريبا فحسن وإن خالفوه فصلوا لأنفسهم فرادى أو قدموا غيره أجزأتهم صلاتهم
قال والاختيار عندي للمأمومين إذا فسدت على الإمام صلاته أن يبنوا فرادى ولا ينتظروه وليس أحد كرسول الله صلى الله عليه وسلم
قال الشافعي ولو أن إماما صلى ركعة ثم ذكر أنه جنب فخرج واغتسل وانتظره القوم [فرجع] فبنى على الركعة فسدت عليه وعليهم صلاتهم لأنهم يأتمون به عالمين أن صلاته فاسدة وليس له أن يبني على ركعة صلاها جنبا
قال ولو علم بعضهم ولم يعلم بعض فسدت صلاة من علم ذلك منهم
قال أبو عمر احتج من أجاز انتظار القوم للإمام [إذا أحدث] بحديث هذا الباب وفيه ما ذكرنا من الاختلاف في تكبيره عليه السلام
واحتج أيضا بما حدثنا محمد بن عبد الله بن حكم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أبو خليفة الفضل بن الحباب قال حدثنا أبو داود الطيالسي قال حدثنا نافع بن عمر عن بن أبي مليكة أن عمر بن الخطاب صلى بالناس فأهوى بيده فأصاب فرجه فأشار إليهم كما أنتم فخرج فتوضأ ثم رجع فأعاد
قال أبو عمر كذا قال ((فأعاد)) وفيه نظر
وقد تقدم في مس الذكر في بابه ما يكفي وكذلك في بناء الراعف والمحدث
وقال داود إذا أحدث الإمام في صلاته صلى القوم أفرادا
وأما أهل الكوفة وأكثر أهل المدينة فقائلون بالاستخلاف لمن نابه شيء في صلاته فإن جهل الإمام ولم يستخلف تقدمهم واحد منهم بإذنهم أو بغير إذنهم وأتم بهم وذلك عندهم عمل مستفيض
إلا أن أبا حنيفة إنما يرى الاستخلاف لمن أحرم وهو طاهر ثم أحدث ولا يرى لإمام جنب أو على غير وضوء إذا ذكر ذلك في صلاته أن يستخلف
وليس في هذه المسألة عندي موضع للاستخلاف لأن القوم عندهم في غير صلاة هم وإمامهم
284

قال أبو عمر لا تتبين لي حجة من كره الاستخلاف استدلالا بحديث هذا الباب لأن رسول الله ليس في الاستخلاف كغيره إذ لا عوض منه مع سعة الوقت ولا يجوز لأحد أن يتقدم بين يديه إلا بإذنه وقد قال لهم ((مكانكم)) فلزمهم أن ينتظروه وهذا إذا صح أنه تركهم في صلاة وقد قيل إنه لم يكن كبر
وقد قال بعض من روى أنه كبر إنهم استأنفوا معه فلو صح هذا بطلت النكتة التي منها نزع من كره الاستخلاف
وقد أجمع المسلمون على الاستخلاف فيمن يقيم لهم أمر دينهم ودنياهم والصلاة أعظم الدين
وفي حديث سهل بن سعد دليل على جواز الاستخلاف لتأخر أبي بكر وتقدم النبي - عليه السلام - في تلك الصلاة
وحسبك بما مضى عليه عمل الناس
وسيأتي القول في حديث سهل بن سعد في بابه من هذا الكتاب إن شاء الله
ذكر مالك حديث عمر بن الخطاب حين صلى وهو جنب ثم ذكر فاغتسل وغسل ثوبه وأعاد صلاته من أربعة طرق عن هشام بن عروة منها طريقان وطريق عن إسماعيل بن أبي حكيم وطريق عن يحيى بن سعيد وليس في شيء منها أن القوم الذين صلوا خلفه أعادوا وفي جميعها غسل المني من ثوبه واغتساله وإعادته صلاته ولا في شيء منها أنه صلى بالناس إلا في حديث يحيى بن سعيد وهو أحسنها ومعلوم أنه كان إمامهم
93 - مالك عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار أن عمر بن الخطاب صلى بالناس الصبح ثم غدا إلى أرضه بالجرف فوجد في ثوبه احتلاما فقال لما إنا أصبنا الودك (1) لانت العروق فاغتسل وغسل الاحتلام من ثوبه وعاد لصلاته (2)
94 - وفي حديثه عن إسماعيل بن أبي حكيم عن سليمان بن يسار أن عمر بن الخطاب [غدا إلى أرضه بالجرف (3) فوجد في ثوبه احتلاما (4) فقال] لقد
285

ابتليت بالاحتلام منذ وليت أمر الناس [فاغتسل وغسل ما رأى في ثوبه من الاحتلام ثم صلى بعد أن طلعت الشمس]
وليس في حديثي سليمان بن يسار أنه غسل من ثوبه ما رأى فيه الاحتلام ونضح ما لم ير وذلك في حديثي هشام بن عروة
ففي غسل عمر الاحتلام من ثوبه دليل على نجاسته لأنه لم يكن ليشتغل مع شغل السفر بشيء طاهر
ولم يختلف العلماء فيما عدا المني من كل ما يخرج من الذكر أنه نجس
وفي إجماعهم على ذلك ما يدل على نجاسة المني المختلف فيه ولو لم تكن له علة جامعة بين ذلك إلا خروجه مع البول والمذي والودي مخرجا واحدا لكفى
وأما الرواية المرفوعة فيه فروى عمرو بن ميمون بن مهران عن سليمان بن يسار عن عائشة قالت كنت أغسله من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم (1)
وروى همام بن الحارث والأسود عن عائشة كنت أفركه من ثوب رسول الله (2)
وحديث همام بن الحارث والأسود أثبت من جهة الإسناد
ولا حجة في غسله لأنه جائز غسل المني وفركه عند من رآه طاهرا كما يجوز غسل الطين الطري وفركه إذا يبس
وأما اختلاف السلف والخلف في نجاسة المني فروي عن عمر بن الخطاب وجابر بن سمرة أنهم غسلوه من ثيابهم وأمروا بغسله
ومثله عن بن عمر وعائشة اختلاف عنهما
وروينا عن جبير بن نفير أنه أرسل إلى عائشة يسألها عن المني في الثوب فقالت إن شئت فاغسله وإن شئت فاحككه
وروي عن سعيد بن المسيب أنه أمر بغسله وروي عنه أنه قال إذا صلى فيه لم يعد
وقال مالك غسل الاحتلام من الثوب أمر واجب مجتمع عليه عندنا
286

وعن الأوزاعي نحوه
ولا يجزئ عند مالك وأصحابه في المني ولا في سائر النجاسات إلا الغسل بالماء ولا يجزئ فيه عنده الفرك وأنكره ولم يعرفه
وأما أبو حنيفة وأصحابه فالمني عندهم نجس ويجزئ فيه الفرك على أصلهم في النجاسة أنه يطهرها كل ما أزال عينها من الماء وغير الماء
وقال الثوري يفرك فإن لم يفركه أجزته صلاته
وقال الحسن بن حي لا تعاد الصلاة من المني في الثوب وإن كثر وتعاد من المني في الجسد وإن قل
وكان يفتي مع ذلك بفركه من الثوب إذا كان يابسا وبغسله إذا كان رطبا
وقال الليث بن سعد هو نجس ويعيد منه في الوقت ولا يعيد بعده ويفركه من ثوبه بالتراب قبل أن يصلي
وقال الشافعي المني طاهر ويفركه من ثوبه إذا كان يابسا وإن لم يفركه فلا بأس به
وأما النجاسات فلا يطهرها عنده إلا الغسل بالماء كقول مالك سواء
والمني عند أبي ثور وأحمد وإسحاق وداود طاهر كقول الشافعي ويستحبون غسله رطبا وفركه يابسا
وهو قول سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عباس كان سعد يفرك المني من ثوبه وقال بن عباس هو كالنجاسة أمطه (1) عنك بإذخرة (2) وامسحه بخرقة
وكذلك التابعون مختلفون بالحجاز والعراق على هذين القولين منهم من يرى فركه ومنهم من لا يرى إلا غسله ويطول الكتاب بذكرهم
وأما قول عمر - رحمه الله - ((أغسل ما أرى وأنضح ما لم أر - فالنضح - لا محالة - ها هنا الرش بدليل قوله أغسل ما رأيت فجعل النضح غير الغسل وهو الظاهر في النضح وإن كان قد يعبر في مواضع بالنضح عن الغسل على حسب ما يفهمه السامع
ولا خلاف بين العلماء أن النضح في حديث عمر هذا معناه الرش وهو عند أهل العلم طهارة ما شك فيه كأنهم جعلوه دفعا للوسوسة ندب بعضهم إلى ذلك وأباه بعضهم وقال لا يزيده النضح إلا شرا
287

وفي رواية أخرى لا يزيده النضح إلا قذرا والأصل في الثوب الطهارة وكذلك الأرض وجسد المؤمن حتى يصح حلول النجاسة في شيء من ذلك
فمن استيقن حلول المني في ثوبه غسل موضعه منه إذا اعتقد نجاسته كغسله سائر النجاسات على ما قد بينا وإن لم يعرف موضعه غسله كله فإن شك هل أصاب ثوبه شيء منه أم لا [نضحه بالماء] على ما وصفنا وعلى هذا مذهب الفقهاء لما ذكرنا
روى معمر عن الزهري عن طلحة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة أنه كان يقول في الجنابة تصيب الثوب إن رأيت أثره فاغسله وإن خفي عليك فاغسل الثوب كله وإن شككت [فلم تدر] أصاب الثوب أم لا فانضحه
وروي نحو ذلك عن بن عمر وسعيد بن المسيب وأنس بن مالك وبن سيرين والشعبي وجماعة من التابعين
وقال عيسى بن دينار من صلى بثوب مشكوك في نجاسته أعاد في الوقت
وقال بن نافع لا إعادة عليه وهو الصواب لما قدمنا في كل شيء طاهر أنه على طهارته حتى يصح حلول النجاسة فيه
وأما قول عمر ((لقد ابتليت بالاحتلام منذ وليت أمر الناس)) فذلك - والله أعلم - باشتغاله بأمور المسلمين ليلا ونهارا عن النساء
وأما قوله لعمرو بن العاص حين قال له دع ثوبك يغسل فقال ((لو فعلتها لكانت سنة)) فإنما كان ذلك لعلمه بمكانه من قلوب المؤمنين ولاشتهار قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء من بعدي)) (1) وأنهم كانوا يمتثلون أفعالهم فخشي التضييق على من ليس له إلا ثوب واحد - وكان رحمه الله - يؤثر التقلل من الدنيا والزهد فيها
وفي إعادة عمر صلاته وحده دون الذين صلوا خلفه دليل على صحة ما ذهب إليه الحجازيون أنه لا يعيد من صلى خلف الجنب وغير المتوضئ إذا لم يعلموا حاله
288

وأما اختلاف العلماء في القوم يصلون خلف إمام ناس لجنابته فقال مالك وأصحابه والثوري والأوزاعي والشافعي وأصحابه لا إعادة عليهم
وروي عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وعليه أكثر العلماء وحسبك بحديث عمر فإنه صلى بجماعة من الصحابة صلاة الصبح ثم غدا إلى أرضه بالجرف فوجد في ثوبه احتلاما فغسله واغتسل وأعاد صلاته وحده ولم يأمرهم بإعادة الصلاة
وهذا في جماعتهم من غير نكير من واحد منهم وقد روي عنه أنه أفتى بذلك
وروى شعبة عن الحكم عن إبراهيم قال قال عمر في جنب صلى بقوم قال يعيد ولا يعيدون
قال شعبة وقال حماد أعجب إلي أن يعيدوا
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو خالد الأحمر عن حجاج عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي في الجنب يصلي بالقوم قال يعيد ولا يعيدون
روى أحمد بن حنبل قال حدثنا هشيم عن خالد بن سلمة قال أخبرني محمد بن عمرو بن المصطلق أن عثمان بن عفان صلى بالناس صلاة الفجر فلما أصبح وارتفع النهار فإذا هو بأثر الجنابة فقال كبرت والله كبرت والله فأعاد الصلاة ولم يأمرهم أن يعيدوا
ذكره أبو بكر الأثرم عن أحمد بن حنبل قال وسمعت أحمد يقول يعيد ولا يعيدون قال سألت سليمان بن حرب عن ذلك فقال إذا صح لنا عن عمر شيء اتبعناه ولم نعده نعم يعيد ولا يعيدون
وذكر عن الحسن وإبراهيم وسعيد بن جبير مثله
وهو قول إسحاق وأبى ثور وداود
إلا أن الأثرم حكى عن أحمد قال إذا صلى إمام بقوم وهو على غير وضوء ثم ذكر قبل أن يتم فإنه يعيد ويعيدون ويبتدئون الصلاة فإن لم يذكر حتى يفرغ من صلاته أعاد وحده ولم يعيدوا
كأنه استعمل حديث النبي - عليه السلام - وحديث عمر
وقال أبو حنيفة عليهم الإعادة لأن صلاتهم مرتبطة بصلاة إمامهم فإذا لم تكن له صلاة لم تكن لهم
وهو قول الشعبي وحماد بن أبي سليمان وروي عن علي مثله
289

ذكره عبد الرزاق عن إبراهيم بن زيد عن عمرو بن دينار عن أبي جعفر محمد بن علي بن حسين عن علي رضي الله عنه وهو غير متصل
واختلف مالك والشافعي - والمسألة بحالها - في الإمام يتمادى في صلاته ذاكرا لجنابته أو ذاكرا أنه على غير وضوء أو مبتدئا صلاته كذلك وهو مع ذلك معروف بالإسلام
فقال مالك وأصحابه إذا عرف الإمام بأنه على غير طهارة وتمادى في صلاته - بطلت صلاة من خلفه لأنه أفسدها عليهم
وقال الشافعي صلاة القوم جائزة تامة ولا إعادة عليهم إذا لم يعلموا حال إمامهم لأنهم لم يكلفوا علم ما غاب عنهم وقد صلوا خلف رجل مسلم في علمهم
وهو قول أكثر القائلين بأن الإعادة على من صلى خلف إمام جنب ناس لجنابته وإليه ذهب بن نافع صاحب مالك
ومن حجتهم أنه لا فرق بين عمد الإمام ونسيانه لأنهم لم يكلفوا علم الغيب في حاله وإنما تفسد صلاتهم إذا علموا بأن إمامهم على غير طهارة فتمادوا خلفه فيكونون حينئذ المفسدين على أنفسهم وأما هو فغير مفسد بما لا يظهر من حاله إليهم لكن حاله في نفسه تختلف فيأثم في عمده إن تمادى بهم ولا إثم عليه إن لم يعلم ذلك وسها عنه
وأما قول مالك فيمن رأى في ثوبه احتلاما لا يدري متى كان ولا يذكر شيئا رآه في منامه إنه يغتسل ويعيد ما صلى من أحدث نوم نامه [ولم يعد ما كان قبله - فهذا من قول مالك يرد قول] يرون على من شك في حدثه بعد أن أيقن بالوضوء إعادة الوضوء [قال وذلك أنه صلى بطهارة مشكوك فيها]
وخالفه أكثر العلماء في ذلك فلم يروا الشك عملا ولا دفعوا به اليقين في الأصل
وكان بن خواز منداذ يقول قول مالك فيمن شك في الحدث وهو على طهارة إن عليه الوضوء - استحباب واستحسان
وكان عبد الملك بن حبيب يقول الوضوء عليه واجب ويقول في هذه المسألة [يلزمه] أن يعيد ما صلى من أول نوم نامه في ذلك الثوب إذا كان عليه لا يلبس معه غيره
290

((21 - باب غسل المرأة إذا رأت في المنام مثل ما يرى الرجل))
95 - مالك عن بن شهاب عن عروة بن الزبير أن أم سليم قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة ترى في المنام مثل ما يرى الرجل أتغتسل فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ((نعم فلتغتسل)) فقالت لها عائشة أف لك (1) وهل ترى ذلك المرأة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ((تربت يمينك (2) ومن أين يكون الشبه)) (3)
قال أبو عمر قد ذكرنا من وصل حديث بن شهاب في هذا الباب ومن تابع مالكا على إرساله في كتاب التمهيد ومن وصله أيضا من أصحاب مالك على خلاف الموطأ ومن وصله عن بن شهاب من أصحابه فإنما رواه عنه عن عروة عن عائشة
وكذلك رواه مسافع عن عروة عن عائشة
وأما حديث هشام بن عروة فمتصل مسند
96 - رواه مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت جاءت أم سليم امرأة أبي طلحة
291

الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت فقال ((نعم إذا رأت الماء)) (1)
وكذلك رواه سائر من رواه عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة لا عن عروة عن عائشة وهو الصحيح عندهم لعروة عن زينب عن أمها لا عن عائشة والله أعلم
وفي هذا الحديث والذي قبله - إيجاب الغسل على النساء إذا احتلمن ورأين الماء حكمهن في ذلك حكم الرجال في الاحتلام إذا كان معه الإنزال
وهذا ما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء والحمد لله
وأكثر أصحاب بن شهاب يقولون في هذا الحديث نعم إذا وجدت الماء
وكذلك في حديث أم سلمة وأنس في قصة أم سليم وكذلك روته خولة بنت حكيم عن النبي عليه السلام
والعلماء على ذلك مجمعون فيمن وجد الماء الدافق من الرجال والنساء
وقد أوضحنا في التمهيد هذا المعنى
وقد روي هذا المعنى ملخصا من أخبار الآحاد العدول مرفوعا
رواه عبد الله بن عمر عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاما قال ((يغتسل)) وعن الرجل يرى أنه قد احتلم ولا يجد البلل قال لا غسل عليه فقالت أم سليم ((المرأة ترى ذلك أعليها الغسل قال نعم إنما النساء شقائق الرجال (2)
وروى قتادة عن أنس أن أم سليم سألت رسول الله عن المرأة ترى في المنام ما يرى الرجل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إذا رأت ذلك فأنزلت فعليها الغسل)) فقالت أم سلمة أيكون هذا يا رسول الله قال نعم ماء الرجل غليظ أبيض وماء المرأة رقيق أصفر فأيهما سبق أو علا أشبهه الولد (3)
حدثنا سعيد بن نصر حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا محمد حدثنا أبو بكر حدثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا سعيد بن عروبة عن قتادة عن أنس
292

وهذا واضح لا إشكال فيه ولا مدخل للقول وقد ذكرنا أسانيد هذه الأحاديث في التمهيد
وفي هذا الحديث ما كان عليه نساء ذلك الزمان من الاهتبال (1) والاهتمام بأمر دينهن والسؤال عنه
وهذا يلزم كل مؤمن ومؤمنة إذا جهل شيئا من أمر دينه أن يسأل عنه
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((شفاء العي السؤال)) (2)
وقالت عائشة رحم الله نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يسألن عن أمر دينهن
وكانت أم سليم من فواضل نساء الأنصار
وفيه أيضا دليل على أن النساء ليس كلهن يحتلمن ولهذا أنكرت عائشة وأم سلمة سؤال أم سليم وقد يعدم الاحتلام في بعض الرجال فالنساء أحرى أن يعدم ذلك فيهن
وقد قيل إن إنكار عائشة لذلك إنما كان لصغر سنها وكونها مع زوجها لأنها لم تحض إلا عنده ولم تفقده فقدا طويلا إلا بموته عليه السلام فلذلك لم تعرف في حياته الاحتلام لأن الاحتلام لا يعرفه النساء ولا أكثر الرجال إلا عند عدم الجماع بعد المعرفة به فإذا فقد النساء أزواجهن احتلمن والوجه الأول عندي أصح وأولى والله أعلم لأن أم سلمة فقدت زوجها وكانت كبيرة عالمة بذلك وأنكرت منه ما أنكرت عائشة رحمها الله فدل ذلك على أن من النساء من لا تنزل الماء في غير الجماع الذي يكون حقيقة في اليقظة والله أعلم
وفيه جواز الإنكار والدعاء بالسوء على من اعترض فيما لا علم له به
وفيه أن الشبه يكون من سبق الماء وعلوه وغلبته والله أعلم على ما مضى في الآثار التي ذكرنا
ومثلها ما ذكره بن وهب قال أخبرنا بن أبي ذئب عن سعيد بن أبي سعيد المقبري [عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة] عن أم سليم امرأة أبي طلحة قالت يا رسول الله هل على المرأة ترى زوجها في المنام يقع عليها - غسل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم إذا رأت بللا فقالت أم سلمة يا رسول الله وتفعل ذلك المرأة
293

فقال ((ترب جبينك)) [وأنى يكون شبه الخؤولة إلا من ذلك أي النطفتين سبقت إلى الرحم غلبت على الشبه
قال أبو عمر كذا قال جبينك] والمعروف تربت يمينك وتربت يداك والله أعلم
وقد أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ببغداد قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثنا أبي قال حدثنا يزيد بن هارون وحجاج بن محمد قالا أخبرنا بن أبي ذئب عن المقبري عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أم سلمة أن أم سليم قال حجاج امرأة أبي طلحة قالت يا رسول الله المرأة ترى زوجها في المنام يقع عليها أعليها غسل قال نعم إذا رأت بللا فقالت أم سلمة أو تفعل ذلك المرأة فقالت تربت يمينك أنى يأتي شبه الخؤولة إلا من ذلك أي النطفتين سبقت إلى الرحم غلبت على الشبه))
وقال حجاج في حديثه ((ترب جبينك))
وروى أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أم سلمة عن أمها مثل حديث مالك عن هشام بن عروة المذكور في هذا الباب إلا أنه قال فقالت أم سلمة - وغطت وجهها - أو تحتلم المرأة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم [تربت يداك] فبم يشبهها ولدها
وقد روى ثوبان مولى النبي عن النبي - عليه السلام - ما يخالف الحديث المذكور في الشبه رواه معاوية بن سلام [عن أخيه زيد بن سلام] أنه سمع أبا سلام الحبشي يقول حدثني أبو أسماء الرحبي أن ثوبان مولى النبي عليه السلام حدثه أن حبرا من أحبار اليهود قال لرسول الله أسألك عن الولد فقال رسول الله ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا (1) بإذن الله وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا (2) بإذن الله فقال اليهودي أشهد أنك نبي ثم انصرف وذكر تمام الحديث
وأما قوله في الحديث ((أف لك)) فيجر ويرفع وينصب بتنوين وغير تنوين
ذكر ذلك أبو عبيدة وغيره وقال هو ما غلظ من الكلام وقبح وقال غيره معنى هذه اللفظة أنه يقال جوابا لما يستثقل من الكلام وما يضجر منه وقالوا الأف والتف بمعنى قالوا والأف وسخ الأذن والتف وسخ الأظفار
وأما قوله ((تربت يداك)) و ((تربت يمينك)) ففيه قولان
294

أحدهما أن يكون استغنت يداك أو يمينك كأنه يعرض لها بالجهل لما أنكرت ما لا ينبغي أن ينكر وأنها كانت تحتاج أن تسأل عن ذلك فخاطبها بضد المعنى تنبيها وتأنيبا كما قيل في قوله تعالى * (ذق إنك أنت العزيز الكريم) * [الدخان 49] وكما تقول لمن كف عن السؤال فيما جهله أما أنت فاستغنيت أن تسأل عن مثل هذا أي لو أنصفت
نفسك ونصحت لها لسألت
وقال غيره هو كما يقال للشاعر إذا أجاد قاتله الله وأخزاه لقد أجاد ويله مسعر حرب وقال [ويل أمه] وهو يريد مدحه
وهذا كله عند من قال هذا القول فرارا من الدعاء على عائشة تصريحا وأن ذلك غير ممكن من النبي - عليه السلام - عندهم
وأنكر أكثر أهل العلم باللغة والمعاني أن تكون هذه اللفظة بمعنى الاستغناء وقالوا لو كانت بمعنى الاستغناء لقال أتربت يمينك لأن الفعل منه رباعي يقال أترب الرجل إذا استغنى وترب إذا افتقر وقالوا معنى قوله ((تربت يمينك)) أي افتقرت من العلم بما سألت عنه أم سليم ونحو هذا
قال أبو عمر أما قوله ((تربت يمينك)) فمعلوم من دعاء العرب بعضهم على بعض مثل قاتله الله وهوت أمه وثكلته أمه وعقرا حلقا ولليدين والفم ونحو هذا والشبه والشبه مثل المثل والمثل والقتب والقتب
((22 - باب جامع غسل الجنابة))
97 - مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول لا بأس أن يغتسل بفضل المرأة ما لم تكن حائضا أو جنبا
قال أبو عمر هذا معنى قد اختلفت فيه الآثار واختلفت فيه أيضا فقهاء الأمصار
قال الوليد بن مسلم سمعت الأوزاعي يقول لا بأس بفضل وضوء المرأة إلا أن تكون حائضا أو جنبا
قال الوليد وقال مالك والليث بن سعد يتوضأ به إذا لم يجد غيره ولا يتيمم
وفي هذه المسألة للسلف خمسة أقوال
295

أحدها قول بن عمر هذا وبه قال الأوزاعي وروي ذلك عن الحسن والشعبي رواه هشيم وغيره عن يونس عن الحسن
وقال إسماعيل بن أبي خالد سألت الشعبي عن فضل وضوء الحائض والجنب فنهى أن يتوضأ به
والثاني الكراهية أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة وأن تتوضأ المرأة بفضل الرجل
رواه داود بن عبد الله الأودي عن حميد بن عبد الرحمن الحميري قال لقيت رجلا صحب النبي - عليه السلام - ما صحبه أبو هريرة أربع سنين فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغتسل الرجل بفضل المرأة ولا تغتسل المرأة بفضله
هكذا رواه أبو خيثمة زهير بن معاوية عن داود بن عبد الله الأودي عن حميد بن عبد الرحمن الحميري
ورواه أبو عوانة عن داود الأودي عن حميد بن عبد الرحمن الحميري عن أبي هريرة فأخطأ فيه
وروى عبد العزيز بن المختار عن عاصم الأحول عن عبد الله بن سرجس أن النبي - عليه السلام - نهى أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة والمرأة بفضل الرجل ولكن ليشرعا جميعا
وقد روى سليمان التيمي عن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي - عليه السلام - نهى أن يغتسل الرجل والمرأة من إناء واحد
والوجه الثالث الكراهية أن يتوضأ الرجل بفاضل طهور المرأة والترخيص في أن تتطهر المرأة بفضل طهور الرجل
ورواه شعبة عن عاصم الأحول عن عبد الله بن سرجس عن النبي عليه السلام
ورواه سليمان التيمي عن أبي حاجب عن رجل من أصحاب النبي عن النبي عليه السلام ورواه شعبة عن عاصم الأحول وهو عاصم بن سليمان عن أبي حاجب عن الحكم الغفاري عن النبي عليه السلام
واسم أبي حاجب سوادة بن عاصم
وهو قول الحسن وسعيد بن المسيب رواه قتادة عنهما
وروى الوليد بن مسلم قال أخبرني سالم أنه [سمع الحسن يقول] أكره الوضوء بفضل المرأة حائضا كانت أو غير حائض
296

والقول الرابع أنهما إذا شرعا جميعا في التطهر فلا بأس به وإذا خلت المرأة بالطهور فلا خير في أن يتوضأ بفضل طهورها
روي ذلك عن جويرية زوج النبي عليه السلام
ورواه الشيباني عن عكرمة
ورواه الأوزاعي عن عطاء
وهو قول أحمد بن حنبل
قال الأثرم قلت لأبي عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - فضل وضوء المرأة فقال إذا خلت به تتوضأ منه إنما الذي رخص فيه أن يتوضأ معا جميعا
وذكر حديث الحكم بن عمرو الغفاري فقال هو يرجع إلى أن الكراهة إذا خلت به المرأة قيل له فالمرأة تتوضأ بفضل الرجل قال أما الرجل فلا بأس به إنما كرهت المرأة
وجاء عن عطاء أنه قال لا يصلح للرجل أن يغتسل بماء اغتسلت به المرأة إلا أن يشرعا فيه جميعا
ذكره دحيم عن محمد بن شعيب عن الأوزاعي ومعاوية بن سلام عن عطاء
وذكره عبيد الله بن موسى عن زكريا عن الشعبي قال لا يغتسل الرجلان [جميعا] إذا أجنبا والرجل والمرأة يغتسلان جميعا
وهذا غريب عجيب
والقول الخامس أنه لا بأس أن يتطهر كل واحد منهما بفضل طهور صاحبه شرعا جميعا أو خلا كل واحد منهما به
وعلى هذا القول فقهاء الأمصار وجمهور العلماء والآثار في معناه متواترة
فمنها حديث بن عباس أن امرأة من نساء النبي - عليه السلام - اغتسلت من الجنابة رأى رسول الله أن يغتسل من فضلها فأخبرته أنها اغتسلت منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((الماء لا ينجسه شيء)) (1)
وروى عكرمة عن بن عباس من طرق كثيرة ومنهم من يجعله عن بن عباس
297

عن ميمونة ومنهم من قال فيه بعض أزواج النبي عليه السلام
وروى بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء جابر بن زيد عن بن عباس أن ميمونة أخبرته أنها كانت تغتسل هي والنبي - عليه السلام - من إناء واحد - هو الفرق - من الجنابة
ولحديث عائشة طرق متواترة منهم من يقول فيه يشرعان فيه جميعا
ومنهم من يقول فيه [وهما] جنبان
وروي أيضا حديث عائشة من طرق سعيد بن المسيب وعكرمة ومعاذة العدوية كلهم عن عائشة بمعنى واحد
وروى أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أم سلمة مثله قالت كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد من الجنابة
وروي من حديث علي بن أبي طالب وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل هو وبعض نسائه من إناء واحد
وروي عن أم صبية الجهنية - وهي خولة بنت قيس - أنها قالت اختلفت يدي ويد رسول الله صلى الله عليه وسلم في إناء واحد
ومن حديث أم هانئ قالت اغتسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وميمونة من إناء واحد
وقال بن عمر كان الرجال والنساء يتوضؤون من إناء واحد في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقال بن عباس لا بأس أن تتوضأ بفضلها وتتوضأ بفضلك وكان يقول هن ألطف بنانا وأطيب ريحا
وقال الزهري تتوضأ بفضلها كما تتوضأ بفضلك
وقال مالك لا بأس بذلك حائضا كانت أو جنبا
وقال الشافعي لا بأس أن يتوضأ بفضل الحائض والجنب لأن النبي - عليه السلام - اغتسل هو وعائشة من إناء واحد فكل واحد منهما مغتسل بفضل وضوء صاحبه وليست الحيضة في اليد وليس المؤمن بنجس وإنما هو متعبد بأن يمس الماء في بعض حالاته دون بعض
قال أبو عمر في حديث عائشة وميمونة من نقل الحفاظ ذكر الجنابة وهو قاطع لقول من قال لا يغتسل بفضل الحائض والجنب وهو قول الحجازيين والعراقيين
298

98 - وأما حديث مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يعرق في الثوب وهو جنب ثم يصلي فيه
99 - وبه عن بن عمر أن جواريه كن يغسلن رجليه ويعطينه الخمرة (1) وهن حيض
فلا خلاف بين العلماء في طهارة عرق الجنب وعرق الحائض
قال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن ليس بنجس)) (2)
وقالت عائشة قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم (ناوليني الخمرة فقلت إني حائض فقال) ((إن حيضتك ليست في يدك)) (3)
فدل هذا على أن كل عضو منها ليس فيه نجاسة فهو طاهر
وقد أجمعوا على جواز نكاح الكتابية وان لا غسل على زوجها منها إلا كما هو عليه من المسلمة
ومعلوم أنه لا يؤمن عليه عرقها معه وإذا لم يكن عرق الكافرة نجسا فعرق الجنب أحرى بذلك وإنما النجاسة على ما قدمنا ذكره من الأثفال الخارج من السبيلين والميتات
وأما البصاق والعرق فظاهر عن الجميع نقلا وعملا إلا ما روي عن سلمان لا وجه له ولا يصح عنده
299

وقد ثبت عن النبي - عليه السلام - أنه كان يبصق في ثوبه وهو يصلي (1) وأمر المصلي أن يبصق في ثوبه أو تحت قدميه ولا يبصق قبالة وجهه إذا صلى (2)
والأمر في هذا أوضح من أن يحتاج فيه إلى أكثر من هذا لأن العلماء مجمعون عليه والحمد لله
وهذا المعنى يقتضي قول مالك في الجنب يدخل إصبعه في الماء ليعلم حره من برده
وقد مضى ذكر الماء وحكم قليله في ورود النجاسة عليه ووروده عليها فلا وجه لإعادته وتكريره
فأما قول مالك في رجل له نسوة أنه لا بأس أن يطأ الرجل جاريته قبل أن يغتسل ويكره أن يطأ الرجل المرأة الحرة في يوم الأخرى - فوجه ذلك أن الجواري لا قسم لهن عليه فله أن يطأ جميعهن في اليوم والليلة
وقد روي عن النبي - عليه السلام - أنه طاف على نسائه في غسل واحد (3) وهذا معناه في حين قدومه من سفر أو نحوه في وقت ليس لواحدة منهن يوم معين معلوم فجمعن حينئذ ثم دار بالقسم عليهن بعد - والله أعلم - لأنهن كن حرائر وسنته عليه السلام - فيهن العدل في القسم بينهن وألا يمس الواحدة في يوم الأخرى
وهذا قول جماعة الفقهاء
وهو مروي عن بن عباس وعطاء وروي عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمر في الجنب إذا أراد أن يعود توضأ وضوءه للصلاة
قال أحمد بن حنبل إن توضأ فهو أعجب إلي فإن لم يفعل فأرجو ألا يكون به بأس
وكذلك قال إسحاق إلا أنه قال لا بد من غسل الفرج إن أراد أن يعود
300

((23 - باب التيمم))
ذكر فيه عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة حديثها في خروجها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره إذ انقطع العقد لها فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ملتمسا له مع الناس وهم على غير ماء ولا ماء معهم وحضرت الصلاة - وهم على تلك الحالة - فنزلت آية التيمم
100 - ساقه مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء (1) أو بذات الجيش (2) انقطع عقد لي فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه (3) وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا ألا ترى ما صنعت عائشة أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء قالت عائشة فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام فقال حبست (4) رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء وقالت عائشة فعاتبني أبو بكر فقال ما شاء الله أن يقول (5) وجعل يطعن بيده في خاصرتي (6) فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح على غير ماء فأنزل الله تبارك وتعالى آية التيمم فتيمموا فقال أسيد بن حضير ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر قالت فبعثنا البعير (7) الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته
قال أبو عمر هذا الحديث عندي أصح حديث روي في التيمم والله أعلم
301

والسفر المذكور [فيه كان في] غزوة المريسيع إلى بني المصطلق بن خزاعة في سنة ست من الهجرة وقيل سنة خمس
في هذا الحديث من الفقه خروج النساء في الأسفار مع أزواجهن [جهاد] كان السفر أو غيره لأنه إذا جاز جاز خروجهن مع ذوي المحارم والأزواج إلى الجهاد - مع الخوف عليهن وعلى من معهن من الرجال في الإيغال في أرض العدو فأحرى أن يخرجن إلى غير الجهاد من الحج والعمرة وسائر الأسفار المباحة
وخروجهن إلى الجهاد مع ذوي المحارم والأزواج إنما يصح - والله أعلم - في العسكر الكبير الذي الأغلب منه الأمن عليهن
وقد ذكرت في ((التمهيد)) حديث أنس أن النبي - عليه السلام - كان يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار يسقين الماء ويداوين الجرحى (1) وحديث الربيع بنت معوذ بن عفراء أنه قيل لها هل كنتن تخرجن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو قالت نعم كنا نخرج معه نسقي الجرحى ونداويهم (2)
وهذا كله مقيد بقوله عليه السلام لا تسافر المرأة مسيرة يوم وليلة إلا مع زوجها أو ذي محرم منها (3)
ومقيد أيضا بحديث عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يسافر أقرع بين نسائه فأيهن خرج سهمها خرج بها (4)
وسيأتي القول في هذا المعنى في موضعه إن شاء الله
302

وقد ذكرنا في ((التمهيد)) أيضا اختلاف ألفاظ الرواة لهذا الحديث عن عائشة في العقد لمن كان في الموضع الذي سقط فيه ومن سماه عقد ومن سماه قلادة وكل ذلك من نقل الثقات ولا يقدح شيء من ذلك في المعنى المقصود إليه من الحديث
وليس في الموطأ حديث مرفوع في التيمم غير هذا وهو أصل التيمم إلا أنه ليس فيه رتبة التيمم وكيفيته
وقد نقلت آثار عن النبي - عليه السلام - مختلفة في كيفية التيمم هل هو ضربة أو ضربتان [وهل يبلغ به المرفقان أم لا] وهل الرواية في التيمم إلى الآباط عن عمار منسوخة أم لا وكل ذلك مبسوط في التمهيد ويأتي فيه ها هنا ما يغني ويكفي إن شاء الله
وأجمع العلماء بالأمصار بالمشرق والمغرب - فيما علمت - أن التيمم بالصعيد عند عدم الماء طهور كل مسلم مريض أو مسافر وسواء كان جنبا أو على غير وضوء ولا يختلفون في ذلك
وكان عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود يقولان إن الجنب لا يطهره إلا الماء وأنه لا يستبيح بالتيمم الصلاة أبدا بقوله تعالى * (وإن كنتم جنبا فاطهروا) * [المائدة 6] وقوله * (ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا) * [النساء 43] وخفيت عليهما السنة في ذلك ولم يصل إليهما من ذلك إلا قول عمار وكان عمر حاضرا ذلك معه فأنسي قصد عمار وارتاب في ذلك بحضوره معه ونسيانه لذلك (فلم) يقنع بقوله فذهب هو وبن مسعود إلى أن الجنب لم يدخل في المراد بقوله * (وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا) * [المائدة 6] وكانا يذهبان إلى أن الملامسة ما دون الجماع
وقد ذكرنا اختلاف العلماء في معنى الملامسة فيما مضى والحمد لله
وروى أبو معاوية عن الأعمش عن أبي وائل عن بن مسعود قال لا يتيمم الجنب وإن لم يجد الماء شهرا
ولم يتعلق أحد من فقهاء الأمصار من قال إن الملامسة الجماع ومن قال إنها ما دون الجماع بقول عمر وبن مسعود في ذلك ولا ذهب إليه لما روي عن النبي - عليه السلام - من حديث عمار وحديث عمران بن حصين وحديث أبي ذر أنه - عليه السلام - أمر الجنب بالتيمم إذا لم يجد الماء ولو غاب عن الماء شهرا
303

وقد ذكرنا الآثار بذلك في التمهيد
وقد غلط بعض الناس في هذا المعنى عن بن مسعود فزعم أنه كان يرى الجنب إذا تيمم ثم وجد الماء لم يغتسل ولا وضوء عليه حتى يحدث
وهذا لا يقوله أحد من علماء المسلمين ولا روى عن أحد من السلف ولا الخلف - فيما علمت - إلا عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ولا يعرف عنه والمحفوظ عن بن مسعود ما وصفنا عنه
وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر وغيره ((التراب كافيك ما لم تجد الماء ولو أقمت عشر سنين لا تجده فإذا وجدت الماء فاغتسل)) وفي بعض الروايات ((فأمسه بشرتك)) (1) - دليل واضح على أن الجنب إذا وجد الماء لزمه استعماله وأن تيممه ليس بطهارة كاملة وإنما هو استباحة للصلاة ثم هو على حاله جنب عند وجود الماء
وقد أمليت في هذه المسألة ما فيه كفاية في باب أفردته لها والحمد لله
واختلف الفقهاء في الذي يدخل عليه وقت الصلاة ويخشى خروجه وهو لا يجد الماء ولا يستطيع الوصول إليه ولا إلى صعيد يتيمم به
فقال بن القاسم في المحبوس إذا لم يجد ماء ولم يقدر على الصعيد - صلى كما هو وأعاد إذا قدر على الماء أو على الصعيد
وقال أشهب في المتهدم عليهم والمحبوس والمربوط ومن صلب في خشبة ولم يمت وحان وقت الصلاة عليه إنه لا صلاة على واحد من هؤلاء حتى يقدروا على الماء أو على الصعيد فإن قدروا على ذلك توضؤوا أو تيمموا وصلوا
304

وقال بن القاسم في هؤلاء وفي كل من معه عقله إنهم يصلون على حسب ما يقدرون ثم يعيدون إذا قدروا على الطهارة بالماء أو بالصعيد عند عدم الماء
وروى معن بن عيسى عن مالك فيمن كتفه الوالي وحبسه عن الصلاة حتى خرج وقتها إنه لا إعادة عليه
وإلى هذه الرواية - والله أعلم - ذهب بن خواز منذاد لأنه قال في الصحيح من مذهب مالك أن كل من لم يقدر على الماء ولا الصعيد حتى خرج الوقت أنه لا يصلي ولا إعادة عليه
قال ورواه المدنيون عن مالك وهو الصحيح من مذهبه
قال أبو عمر لا أدري كيف أقدم على أن جعل هذا الصحيح من مذهب مالك مع خلافه جمهور السلف وعامة الفقهاء وجماعة المالكيين وأظنه ذهب إلى ظاهر حديث مالك في هذا في قوله وليسوا على ماء وليس معهم ماء فنام رسول الله حتى أصبح وهذا لا حجة فيه لأنه لم يذكر أنهم لم يصلوا بل فيه نزلت آية التيمم
وفي حديث عمر أنهم تيمموا يومئذ إلى المناكب في حين نزول الآية
وقد روى هشام بن عروة في هذا الحديث أنهم صلوا بغير وضوء إلا أنه لم يذكر إعادة
ويحتمل أن تكون الإعادة مأخوذة من حديث عمار كأنهم إذ نزلت التيمم توضؤوا وأعادوا ما كانوا قد صلوا بغير وضوء
وعلى هذا ترتبت الآثار وعلى هذين القولين فقهاء الأمصار
وأما قول بن خواز منداذ في سقوط الصلاة عمن معه عقله لعدم الطهارة فقول ضعيف مهجور شاذ مرغوب عنه
وقال بن القاسم كيف تسقط الصلاة عمن معه عقله [لعدم الطهارة] لم يغم عليه ولم يجن وعلى هذا سائر العلماء فيمن لم يصل إلى الصعيد ولا الماء فإذا زال المانع له توضأ أو تيمم وصلى
وذكر بن حبيب قال سألت مطرفا وبن الماجشون وأصبغ بن الفرج عن الخائف تحضره الصلاة وهو على دابته على غير وضوء ولا يجد إلى النزول للوضوء والتيمم سبيلا فقال بعضهم يصلي كما هو على دابته إيماء فإذا أمن توضأ إن وجد الماء أو تيمم إن لم يجد الماء وأعاد الصلاة في الوقت وبعد الوقت
وقال لي أصبغ بن الفرج لا يصلي وإن خرج الوقت حتى يجد السبيل إلى الطهور بالماء أو الصعيد عند عدم الماء
305

قال ولا يجوز لأحد أن يصلي بغير طهور
قال عبد الملك بن حبيب وهذا أحب إلي قال وكذلك الأسير المغلول لا يجد السبيل إلى الوضوء والمريض المثبت الذي لا يجد من يناوله الماء ولا يستطيع التيمم هما مثل الذي وصفنا من الخائف
وكذلك قال أصبغ بن الفرج في هؤلاء الثلاثة
قال وهو أحسن ذلك عندي وأقواه
وأما الشافعي فعنه في هذا روايتان إحداهما لا يصلي حتى يجد طهارة والأخرى يصلي كما هو ويعيد الصلاة وهو المشهور عنه
قال المزني وإذا كان محبوسا لا يقدر على طهارة بماء أو تراب نظيف صلى وأعاد إذا قدر
وقال أبو حنيفة في المحبوس في المصر إذا لم يجد ماء ولا ترابا نظيفا لم يصل فإذا وجد ذلك صلى
وقال أبو يوسف ومحمد والثوري والشافعي والطبري يصلي ويعيد كقول بن القاسم
وقال أبو ثور القياس ألا يصلي من لا يجد الماء ولا قدر عليه ولا على الصعيد وإن خرج الوقت فإذا قدر على ذلك صلى بالطهارة تلك الصلاة ثم رجع فقال بقول الشافعي ومن تابعه في هذا الباب
وقد قال أبو ثور أيضا إن القياس فيمن لم يقدر على الطهارة أن يصلي كما هو ولا يعيد كمن لا يقدر على الثوب وصلى عريانا الصلاة لازمة له يصلي على ما يقدر ويؤدي ما عليه بقدر طاقته
وعند أبي يوسف وأبي حنيفة ومحمد والشافعي إن وجد المحبوس في المصر ترابا نظيفا صلى في قولهم وأعاد
وقال زفر لا يتيمم ولا يصلي وإن وجد ترابا نظيفا على أصله لأنه لا يتيمم أحد في الحضر
وقال بن القاسم لو تيمم من لا يجد الماء في المصر على التراب النظيف أو على وجه الأرض لم تكن عليه إعادة إذا وجد الماء بعد الوقت
قال أبو عمر ها هنا مسألة أخرى في تيمم الذي يخشى فوت الوقت وهو في الحضر نذكرها بعد إن شاء الله
306

قال أبو عمر أما الذين ذهبوا إلى ألا يصلي حتى يجد الطهارة فحجتهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا يقبل الله صلاة بغير طهور)) (1) وليس فرض الوقت بأوكد من هذا كما أنه لا يقبلها قبل وقتها
وأما الذين ذهبوا إلى أن يصلي كما هو ويعيد فاحتاطوا للصلاة في الوقت على حسب الاستطاعة لاحتمال قوله ((بغير طهور)) لمن قدر عليه ولم يكونوا على يقين من هذا التأويل فرأوا الإعادة واجبة مع وجود الطهارة
قال أبو عمر في حديث مالك هذا عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قولها ((فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح على غير ماء ولم يكن يومئذ طهارة غير الماء وحينئذ نزلت آية التيمم)) دليل على أن من عدم الماء لم يصل حتى يمكنه والله أعلم
وقد يحتمل قولها ((حتى أصبح)) قارب الصباح أو طلع الفجر ولم تطلع الشمس حتى نزلت آية التيمم والله أعلم
وقد ذكرنا في ((التمهيد)) في هذا الموضع الأحاديث عن النبي عليه السلام أنه قال ((لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول)) (2)
وقوله عليه السلام ((لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)) (3) بالأسانيد الصحاح والحمد لله
وقوله في حديث مالك وليسوا على ماء وليس معهم ماء دليل واضح على أن الوضوء بالماء قد كان لازما لهم قبل نزول آية التيمم وهي آية الوضوء وأنهم لم يكونوا يصلون إلا بوضوء قبل نزول الآية
ألا ترى قوله ((فأنزل الله آية التيمم)) وهي آية الوضوء المذكورة في تفسير المائدة أو الآية التي في سورة النساء ليس التيمم مذكورا في غير هاتين الآيتين وهما مدنيتان
307

وليست الآية بالكلمة أو الكلمتين وإنما هي الكلام المجتمع الدال على الإعجاز الجامع لمعنى يستفاد القائم بنفسه
ومعلوم أن غسل الجنابة لم يفترض قبل الوضوء فكما انه معلوم عند جميع أهل السير أن النبي صلى الله عليه وسلم افترضت عليه الصلاة بمكة والغسل من الجنابة وأنه لم يصل قط بمكة إلا بوضوء مثل وضوئه بالمدينة ومثل وضوئنا اليوم
وهذا ما لا يجهله عالم ولا يدفعه إلا معاند
وفيما ذكرنا دليل على أن آية الوضوء إنما نزلت ليكون فرضها المتقدم متلوا في التنزيل ولها نظائر ليس هذا موضع ذكرها
وفي قوله في حديث مالك ((فنزلت آية التيمم)) ولم يقل فنزلت آية الوضوء ما يدلك أن الذي طرأ عليهم من العلم في ذلك الوقت حكم التيمم لا حكم الوضوء بالماء والله أعلم
ومن فضل الله ونعمته على عباده أن نص على حكم الوضوء وهيئته بالماء ثم أخبر بحكم التيمم عند عدم الماء فقال أسيد بن الحضير ((ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر))
وفي قوله ((وليس معهم ماء)) دليل على أنه غير واجب حمل الماء للوضوء وأنه جائز سلوك كل طريق مباح سلوكها وإن عدم الماء في بعضها
وأما التيمم فمعناه في اللغة القصد مجملا ومعناه في الشريعة القصد إلى الصعيد خاصة للطهارة للصلاة عند عدم الماء فيضرب عليه بباطن كفيه ثم يمسح بهما وجهه ويديه
وقد ذكرنا شواهد الشعر واللغة على لفظ التيمم في التمهيد
وأما الصعيد فقيل وجه الأرض وقيل بل التراب خاصة والطيب طاهر لا خلاف في ذلك
وأما اختلاف العلماء في الصعيد فقال مالك وأصحابه الصعيد وجه الأرض ويجوز التيمم عندهم على الحصباء والجبل والرمل والتراب وكل ما كان وجه الأرض
وقال أبو حنيفة وزفر يجوز أن يتيمم بالنورة والحجر والزرنيخ والجص والطين والرخام وكل ما كان من الأرض
وقال الأوزاعي يجوز التيمم على الرمل
308

وقال الثوري وأحمد بن حنبل يجوز التيمم بغبار الثوب واللبد ولا يجوز عند مالك
وقال بن خويز منداد يجوز التيمم عندنا على الحشيش إذا كان ذلك وجه الأرض
واختلفت الرواية عن مالك في التيمم على الثلج فأجازه مرة وكرهه أخرى ومنع منه
ومن الحجة لمذهب مالك في هذا الباب قوله تعالى * (صعيدا زلقا) * [الكهف 40] " وصعيدا جرزا " [الكهف 8]
والجرز الأرض الغليظة التي لا تنبت شيئا
وقوله عليه السلام ((جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا)) (1)
فكل موضع جازت الصلاة فيه من الأرض جائز التيمم به
وقال - عليه السلام - ((يحشر الناس يوم القيامة على صعيد واحد)) (2) أي أرض واحدة
وقال الشافعي وأبو يوسف الصعيد التراب ولا يجزئ عندهم التيمم بغير التراب
وقال الشافعي لا يقع الصعيد إلا على تراب غبار أو نحوه فأما الصخرة الغليظة والرقيقة والكثيب الغليظ - فلا يقع عليه اسم صعيد
وقال أبو ثور لا تيمم إلا على تراب أو رمل
قال أبو عمر أجمع العلماء على أن التيمم بالتراب جائز واختلفوا فيما عداه [من الأرض
309

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((جعلت لي الأرض مسجدا وجعلت تربتها لي طهورا)) (1)
وروى هذا جماعة من حفاظ العلماء عن الصحابة عن النبي - عليه السلام - وهو يغضي على رواية من روى ((جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا)) (2) ويفسرها والله أعلم
ذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا محمد بن فضيل عن أبي مالك الأشجعي عن ربعي بن خراش عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((فضلنا على الأنبياء بثلاث جعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا)) (3) وذكر تمام الحديث
قال حدثنا يحيى بن أبي بكير عن زهير بن محمد عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن محمد بن الحنفية أنه سمع علي بن أبي طالب يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء نصرت بالرعب وأعطيت مفاتيح الأرض وسميت أحمد وجعل لي التراب طهورا وجعلت أمتي خير الأمم)) (4)
والآثار بهذا كثيرة وهي تفسر المجمل والله أعلم
وقال بن عباس أطيب الصعيد أرض الحرث
وذكر عبد الرزاق عن الثوري عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه قال سئل بن عباس أي الصعيد أفضل فقال الحرث وفي قول بن عباس هذا ما يدل على أن الصعيد يكون غير أرض الحرث
وجماعة الفقهاء على إجازة التيمم بالسباخ إلا إسحاق بن راهويه فإنه قال لا تيمم بتراب السبخة
وروي عن بن عباس فيمن أدركه التيمم وهو في طين قال يأخذ من الطين فيطلي به بعض جسده فإذا جف تيمم به
واختلف الفقهاء في كيفية التيمم
فقال مالك والشافعي وأصحابهما والثوري وبن أبي سلمة والليث ضربتان ضربة للوجه [يمسح بها وجهه] وضربة لليدين يمسحهما إلى المرفقين يمسح اليمنى باليسرى واليسرى باليمنى إلا أن بلوغ المرفقين عند مالك ليس
310

بفرض وإنما الفرض عنده إلى الكوعين والاختيار عنده إلى المرفقين
وأما سائر من ذكرنا معه من الفقهاء فإنهم يرون بلوغ المرفقين بالتيمم فرضا واجبا
وممن روي عنه التيمم إلى المرفقين عبد الله بن عمر والشعبي والحسن البصري وسالم بن عبد الله بن عمر
وقال الأوزاعي التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى الكوعين وهما الرسغان
وروي ذلك عن علي بن أبي طالب
وقد روي عن الأوزاعي - وهو أشهر عنه - أن التيمم ضربة واحدة يمسح بها وجهه ويديه إلى الكوعين وهو قول عطاء والشعبي في رواية
وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود بن علي والطبري
وهذا أثبت ما يروى في حديث عمار
ورواه أبو وائل شقيق بن سلمة عن أبي موسى عن عمار فقال فيه ضربة واحدة لوجهه وكفيه ولم يختلف في حديث أبي وائل هذا
ورواه سفيان الثوري وأبو معاوية وجماعة عن الأعمش عن أبي وائل ولم يختلفوا فيه وسائر أسانيد حديث عمار مختلف فيها
وقال مالك إن مسح وجهه ويديه بضربة واحدة أجزأه وإن مسح يديه إلى الكوعين أجزأه وأحب إلي أن يعيد في الوقت والاختيار عند مالك ضربتان وبلوغ المرفقين
وحجة من رأى التيمم إلى الكوعين - ما ثبت عن النبي - عليه السلام - من حديث عمار وغيره أنه قال في التيمم ضربة للوجه والكفين (1)
وفي [بعض الآثار عن عمارة ضربة للوجه وضربة للكفين]
وحديثه هذا غير حديثه عند نزول آية التيمم وقد بينا ذلك في التمهيد
قال الله تعالى * (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) * [النساء 43 والمائدة 6] ولم يقل إلى المرفقين كما قال في الوضوء وقال تعالى * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) * [المائدة 38] وأجمعوا أن القطع إلى الكوعين
وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والليث بن سعد والشافعي لا تجزيه إلا
311

ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين وبه قال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم وإليه ذهب إسماعيل بن إسحاق القاضي
وقد رويت بذلك آثار عن النبي - عليه السلام - من حديث عمار أيضا وغيره وقد ذكرنا ذلك في ((التمهيد))
حدثنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا أحمد بن زهير حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا إبان بن يزيد قال سئل قتادة عن التيمم في السفر فقال كان بن عمر يقول إلى المرفقين وكان الحسن يقول إلى المرفقين وكان إبراهيم يقول إلى المرفقين
قال وحدثني محدث عن الشعبي عن عبد الرحمن بن أبزى عن عمار بن ياسر عن النبي - عليه السلام - قال إلى المرفقين
قال أبو عمر أحاديث عمار في التيمم كثيرة الاضطراب وإن كان رواتها ثقات
ولما اختلفت الآثار في كيفية التيمم وتعارضت كان الواجب في ذلك الرجوع إلى ظاهر القرآن وهو يدل على ضربتين ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين قياسا على الوضوء واتباعا لفعل عمر رحمه الله
ولما كان غسل الوجه بالماء غير غسل اليدين - فكذلك يجب أن تكون الضربة في التيمم للوجه غير الضربة لليدين قياسا ونظرا - والله أعلم - إلا أن يصح عن النبي - عليه السلام - خلاف ذلك فيسلم له
وقال بن أبي ليلى والحسن بن حي التيمم ضربتان يمسح بكل ضربة منهما وجهه وذراعيه ومرفقيه
وما أعلم أحدا قال ذلك غيرهما والله أعلم
وقال بن شهاب الزهري يبلغ بالتيمم الآباط ولم يقل ذلك غيره - فيما علمت - والله أعلم إلا ما في حديث عمار حين نزول آية التيمم وهو حديث رواه بن شهاب من رواية مالك وغيره عنه عن عبيد الله بن عتبة عن أبيه عن عمار بن ياسر
ومن أصحاب بن شهاب من يرويه عن بن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن بن عباس فذكر نحو حديث عائشة أنها حبست الناس وليس معهم ماء فأنزل الله على رسوله رخصة [التيمم] بالصعيد الطيب فقام المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسحوا بأيديهم الأرض ورفعوها ولم يقبضوا من التراب شيئا فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب من بطون أيديهم إلى الآباط
312

وقد ذكرنا طرق هذا الحديث في ((التمهيد)) واختلافهم في إسناده وألفاظه إلا أنهم لم يختلفوا عن بن شهاب في هذا الحديث أن التيمم إلى المناكب
وهو حجة لابن شهاب فيما ذهب من ذلك إليه مع أن اللغة تقضي أن اليدين من المناكب إلا أن الحديث بذلك ليس فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بذلك
والآثار عن النبي - عليه السلام - أنه أمر بالتيمم إلى المرفقين وإلى الكوعين كثيرة
وقد يحتمل أن يكون من تيمم عند نزول الآية إلى المناكب أخذ بظاهر الكلام وما تقتضيه اللغة من عموم لفظ الأيدي ثم أحكمت الأمور بعد بفعل النبي - عليه السلام - وأمره بالتيمم إلى المرفقين
وروي عنه إلى الكوعين كما روي ضربة واحدة وضربتان وكل ذلك صحيح عنه وصار من ذلك الفقهاء كل إلى ما رواه وما أداه إليه اجتهاده ونظره
وأجمع العلماء على أن الطهارة بالتيمم لا ترفع الجنابة ولا الحدث إذا وجد الماء إلا شيء روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن رواه بن جريج وعبد الحميد بن جبير بن شيبة عنه
ورواه بن أبي ذئب عن عبد الرحمن بن حرملة عنه أنه قال في الجنب المتيمم يجد الماء إنه على طهارة ولا يحتاج إلى غسل ولا وضوء حتى يحدث
وأما سائر العلماء الذين هم الحجة على من خالف جميعهم فقالوا في الجنب إذا تيمم ثم وجد الماء إنه يلزمه الغسل لما يستقبل
حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا محمد بن بكر حدثنا أبو داود حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن أيوب عن أبي قلابة عن رجل من بني عامر أنه سمع أبا ذر يقول كنت أعزب عن الماء ومعي أهلي فتصيبني الجنابة فأصلي بغير طهور فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ((يا أبا ذر إن الصعيد طيب طهور وإن لم تجد الماء عشر سنين فإذا وجدت الماء فأمسسه جلدك)) (1)
ورواه سفيان الثوري وغيره عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن عمرو بن بجدان عن أبي ذر أنه سمعه يقول قال لي رسول الله ((إن الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجده فليمسسه بشرته))
وقد روي عن أبي سلمة فيمن تيمم وصلى ثم يجد الماء في الوقت أنه يتوضأ ويعيد الصلاة
313

وهذا تناقض وقلة روية ولم يكن أبو سلمة عندهم يفقه كفقه أصحابه التابعين بالمدينة
حدثنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا أحمد بن زهير حدثنا مؤمل بن إهاب قال حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال كان أبو سلمة يباري بن عباس فحرم بذلك علما كثيرا
وأجمع الجمهور من الفقهاء أن من طلب الماء فلم يجده وتيمم وصلى ثم وجد الماء في الوقت - وقد كان اجتهد في الطلب فلم يجد الماء ولا نسيه في رحله - أن صلاته ماضية إلا أنهم منهم من يستحب له أن يعيد صلاته بعد وضوئه أو بعد غسله ما دام في الوقت
وأجمع العلماء أن من تيمم بعد أن طلب الماء فلم يجده ثم وجد الماء قبل دخوله في الصلاة أن تيممه باطل لا يجزيه أن يصلي به وأنه قد عاد بحاله قبل التيمم
واختلفوا إذا وجد الماء بعد دخوله في الصلاة
فقال مالك والشافعي وأصحابهما إلا المزني - وبه قال داود بن علي والطبري يتمادى في صلاته وتجزيه فإذا فرغ توضأ للصلاة الأخرى بذلك الماء لأنه إذا وجد الماء ولم يكن في الصلاة وجب عليه الوضوء به للصلاة فإذا كان في الصلاة لم يقطعها لرؤيته الماء وهو فيها
قالوا لأنه لم تثبت في ذلك سنة توجب عليه قطع صلاته بعد دخوله فيها ولا إجماع يجب التسليم له
قالوا وليس قول من قال إن رؤية الماء حدث من الأحداث بشيء لأن ذلك لو كان كذلك لكان الجنب إذا تيمم ثم وجد الماء يعود كالمحدث لا يلزمه إلا الوضوء وكان الذي يطرأ عليه الماء وهو في الصلاة بالتيمم - عند الكوفيين - يقطعها ثم يتوضأ ويبني كالمحدث عندهم وهم لا يقولون بذلك ولا غيرهم فصح أن رؤية الماء ليست بحدث ولا كالحدث
ومن حجتهم أيضا أن من وجب عليه الصوم في ظهار أو قتل فصام منه أكثره ثم وجد الرقبة - أنه لا يلغي صومه ولا يعود إلى الرقبة فكذلك من دخل في الصلاة بالتيمم لا يقطعها ولا يعود إلى الوضوء بالماء
وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي وجماعة أهل العراق من أهل الرأي والحديث منهم أحمد بن حنبل وإليه ذهب المزني صاحب الشافعي وبه قال بن علية من طرأ عليه الماء - وهو في الصلاة أو وجده أو علمه
314

في رحله وهو في الصلاة - قطع وخرج إلى استعماله في الوضوء أو الغسل ثم استقبل صلاته ولم يجز له أن يتمادى في صلاته متيمما وقد وجد الماء
وحجتهم أن التيمم لما بطل بوجود الماء قبل الدخول في الصلاة وصار المتيمم في حكم من ليس على طهارة لوجود الماء قبل دخوله في الصلاة فكذلك إذا دخل في الصلاة لأنه لما لم يجز له أن يبتدئ صلاته بالتيمم مع وجود الماء فكذلك لا يجب له التمادي فيها ولا عمل شيء منها بالتيمم وهو واجد للماء وإذا بطل بعض الصلاة بطل جميعها
واحتجوا بالإجماع في المعتدة بالشهور ولا يبقى عليها إلا أقلها ثم تحيض - أنها تستقبل عدتها بالحيض
والذي يطرأ عليه الماء وهو في الصلاة ولم يبق عليه منها إلا أقلها - كذلك
وللفريقين ضروب من الاحتجاج والإدخال والمعارضة تركت ذلك لأن الذي ذكرت كاف وبالله التوفيق
وفي هذا الحديث التيمم في السفر وهو أمر مجمع عليه
واختلف العلماء [في التيمم في الحضر] عند عدم الماء
فذهب مالك وأصحابه - على اضطراب منهم في ذلك - إلى أن التيمم في السفر والحضر سواء إذا عدم الماء أو تعذر استعماله لمرض أو خوف شديد أو خوف خروج الوقت
وهذا قول أبي حنيفة ومحمد بن الحسن
وحجتهم أن ذكر الله تعالى - المرضى والمسافرين في شرط التيمم خرج على الأغلب ممن لا يجد الماء
وأما الحاضرون فالأغلب عليهم وجود الماء فلذلك لم ينص عليهم فإذا لم يجد الحاضر الماء أو منعه منه مانع لا يقدر على دفعه وجب عليه التيمم للصلاة في وقتها لأن التيمم إنما ورد لإدراك وقت الصلاة وخوف فوته محافظة على الوقت
فكل من لم يجد الماء وخاف فوت وقت الصلاة كان له أن يتيمم إن كان مريضا أو مسافرا بالنص وإن كان حاضرا صحيحا فبالمعنى والله أعلم
وقال الشافعي لا يجوز للحاضر الصحيح أن يتيمم إلا أن يخاف الهلاك على نفسه وبه قال الطبري
وقال أبو يوسف وزفر لا يجوز التيمم في الحضر ولا لمرض ولا لخوف خروج الوقت
315

وقال الشافعي والليث بن سعد والطبري إذا عدم في الحضر الماء وخاف فوات الوقت جاز له التيمم وإن كان صحيحا كما جاز للمريض والمسافر إلا أنه يعيد إذا وجد الماء
وحجة الشافعي وهؤلاء أن الله - تعالى - جعل التيمم رخصة للمريض والمسافر كالفطر وقصر الصلاة ولم يبح التيمم إلا بشرط المرض والسفر لقول الله تعالى * (وإن كنتم مرضى أو على سفر) * [النساء 43] فلا دخول للحاضر ولا للصحيح المقيم في ذلك لخروجهما من شرط الله - تعالى - في ذلك
والكلام بين الفرق في هذه المسألة يطول وفيما أومأنا إليه كفاية والحمد لله
قال أبو عمر التيمم للمريض والمسافر إذا لم يجد الماء بالكتاب والسنة والإجماع إلا ما ذكرت لك في تيمم الجنب
فإذا وجد المريض والمسافر الماء حرم عليهما التيمم إلا أن يخاف المريض ذهاب نفسه وتلف مهجته في استعماله الماء فيجوز له حينئذ التيمم مع وجود الماء بالسنة لا بالكتاب إلا أن يتأول * (ولا تقتلوا أنفسكم) * [النساء 69]
والسنة في ذلك ما أجازه النبي - عليه السلام - في حديث جابر من التيمم للمجروح وكان مسافرا صحيحا بقوله ((قتلوه قتلهم الله)) (1)
وقد روي من حديث بن عباس أيضا ذكر أبو داود
وذكر حديث عمرو بن العاص في خوف شدة البرد والمريض أحرى بجواز ذلك قياسا ونظرا واتباعا لمعنى الكتاب والله أعلم
وقال عطاء لا يتيمم المريض إذا وجد الماء ولا غير المريض لأن الله تعالى قال * (وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا) * [النساء 43 المائدة 6] فلم يبح التيمم إلا عند عدم الماء وفقده ولولا الأثر الذي ذكرنا وقول جمهور العلماء لكان قول عطاء صحيحا والله أعلم
316

واختلف الفقهاء في التيمم هل تصلى به صلوات كالوضوء بالماء أم هو لازم لكل صلاة
فقال مالك لا يصلي صلاتين بتيمم واحد ولا يصلي نافلة ومكتوبة بتيمم واحد إلا أن تكون نافلة بعد المكتوبة
قال فإن صلى ركعتي الفجر بتيمم الفجر - أعاد التيمم لصلاة الفجر
وقال الشافعي يتيمم لكل صلاة فرض ويصلي الفرض والنافلة وصلاة الجنائز بتيمم واحد ولا يجمع بين صلاتي فرض بتيمم واحد في سفر ولا حضر وهو قول بن عباس
وقال شريك يتيمم لكل صلاة نافلة وفريضة
ومن حجة من رأى التيمم لكل صلاة فرضا واجبا - أن الله أوجب على كل قائم إلى الصلاة طلب الماء وأوجب عند عدمه التيمم
وعلى المتيمم عند دخول وقت صلاة أخرى مثل ما عليه في الأولى وليست الطهارة بالصعيد كالطهارة بالماء لأنها طهارة ضرورة لاستباحة الصلاة قبل خروج الوقت وليست بطهارة كاملة بدليل بطلانها بوجود الماء قبل الصلاة وأن الجنب يعود جنبا بعدها إذا وجد الماء
وكذلك أمر كل من استباح بها الصلاة أن يطلب الماء للصلاة الأخرى فإذا طلب الماء ولم يجده لزمه التيمم بظاهر قوله * (فلم تجدوا ماء فتيمموا) *
قالوا ولما أجمعوا أنه لا تيمم قبل دخول الوقت دل على أنه يلزمه التيمم لكل صلاة لئلا يكون تيممه قبل الوقت
وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والليث بن سعد والحسن بن حي وداود يصلي ما شاء بتيمم واحد ما لم يحدث لأنه طاهر ما لم يجد الماء وليس عليه طلب الماء إذا يئس منه
والكلام في هذه المسألة بين المختلفين كثير جدا لم أر لذكره وجها
ولم يختلف قول مالك وأصحابه فيمن تيمم للصلاة فصلاها فلما سلم منها ذكر صلاة نسيها أنه تيمم لها
واختلفوا فيمن صلى صلاتي فرض بتيمم واحد
فروى يحيى عن بن القاسم فيمن صلى صلوات كثيرة بتيمم واحد أنه يعيد ما زاد على واحدة في الوقت واستحب له أن يعيد أبدا
317

وروى أبو زيد بن أبي الغمر عنه أنه يعيد أبدا
وقال أصبغ بن الفرج أن جمع بين صلاتين بتيمم واحد نظر فإن كانتا مشتركتين في الوقت أعاد الآخرة في الوقت وإن كانتا غير مشتركتين في الوقت أعاد الثانية أبدا
وذكر بن عبدوس أن بن نافع روى عن مالك في الذي يجمع بين الصلاتين أنه يتيمم لكل صلاة
وقال أبو الفرج [في ذاكر الصلوات] إن قضاهن بتيمم واحد فلا شيء عليه
وقد ذكرنا اختلاف قول مالك وأصحابه في هذه المسألة في كتاب جمعناه في اختلافهم
قال أبو عمر قد اقتضى ما كتبنا في هذا الباب القول في معاني ما ذكره مالك في موطئه في التيمم وذلك ثلاثة أبواب إلا قوله سئل مالك عن رجل تيمم أيؤم أصحابه وهم متوضئون فقال يؤمهم غيره أحب إلي ولو أمهم هو لم أر بذلك بأسا
ثم قال في ذلك الباب من قام إلى الصلاة فلم يجد ماء فعمل بما أمره الله به من التيمم فقد أطاع الله وليس الذي وجد الماء بأطهر منه ولا أتم صلاة لأنهما أمرا جميعا فكل عمل بما أمره الله به
وهذا من قول مالك يقضي بأنه لا بأس أن يؤم المتيمم المتوضئ وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف والشافعي وزفر والثوري
وقال الأوزاعي ومحمد بن الحسن والحسن بن حي لا يؤم متيمم متوضأ ومن حجة هؤلاء أن شأن الإمامة الكمال ومعلوم أن الطهارة بالصعيد طهارة ضرورة كما قلنا بدليل الإجماع على أن الجنب إذا صلى بالتيمم ثم وجد الماء لزمه الغسل وأن المتيمم غير الجنب يلزمه الوضوء إذا وجد الماء فأشبهت القاعد المريض يؤم قائما والأمي يؤم قارئا
وقال محمد بن الحسن إنما تيمم بن عمر بالمدينة لأنه كان في آخر الوقت ولو كان في سعة من الوقت ما تيمم وهو بطرف المدينة ينظر إلى الماء ولكنه خاف خروج
الوقت فتيمم
318

((24 - باب ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض))
101 - مالك عن زيد بن أسلم أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما يحل لي من امرأتي وهي حائض فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لتشد عليها إزارها (1) ثم شأنك بأعلاها)) (2)
102 - مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت مضطجعة (3) مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوب واحد وأنها قد وثبت وثبة شديدة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ما لك لعلك نفست)) (4) يعني الحيضة فقالت نعم قال ((شدي على نفسك إزارك ثم عودي إلى مضجعك)) (5)
في حديث ربيعة من الأحكام جواز نوم الشريف مع أهله في ثوب واحد وسرير واحد
وفيه أنه عليه السلام - لم يكن يعلم من الغيب إلا ما أعلمه الله
ومعنى قوله ((نفست)) أي أصبت بالدم والنفس اسم من أسماء الدم
قال إبراهيم النخعي كل ما ليس له نفس سائلة يموت في الماء لا يفسده يعني بها دما سائلا
وقد ذكرنا معاني هذين الحديثين متصلة بالأسانيد القوية في كتاب ((التمهيد))
وتدل ترجمة (هذا) الباب والحديث فيه على أن الحائض لا يقرب منها ما تحت الإزار ولا يحل منها إلا ما فوقه
319

وهو تفسير لقوله تعالى * (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض) * [البقرة 222]
فبين عليه السلام كيف اعتزالهن ومعنى قوله * (ولا تقربوهن حتى يطهرن) * [البقرة 223] أنه أراد الجماع لا المؤاكلة ولا المشاربة ولا المجالسة ولا المضاجعة في ثوب واحد ونحو هذا كله وأنه أراد الجماع نفسه وجعل المئزر قطعا للذريعة وتنبيها على الحال والله أعلم
103 - مالك عن نافع أن عبيد بن عبد الله بن عمر أرسل إلى عائشة يسألها هل يباشر الرجل امرأته وهي حائض فقالت لتشد إزارها على أسفلها (1) ثم يباشرها إن شاء (2)
قال أبو عمر لا أجد بعد السنة أقعد بهذا المعنى من عائشة فكانت تفتي بمعنى ما وعت عن النبي - عليه السلام - في ذلك
وقد ذكرنا في التمهيد حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن اليهود كانت إذا حاضت منهم امرأة أخرجوها ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيت فسئل رسول الله عن ذلك فأنزل الله " تعالى ويسألونك عن المحيض قل هو أذى " [البقرة 222] فقال رسول الله ((جامعوهن في البيوت واصنعوا كل شيء إلا النكاح)) (3)
فبان في هذا الحديث المعنى الذي فيه نزلت الآية ومراد الله بها على لسان نبيه عليه السلام
وأما قول الفقهاء في مباشرة الحائض وما يستباح منها - فقال مالك والأوزاعي والشافعي وأبو حنيفة وأبو يوسف له منها ما فوق الأزار وهو قول سالم بن عبد الله والقاسم بن محمد
وحجتهم ظواهر الآثار عن عائشة وميمونة وأم سلمة عن النبي - عليه السلام - أنه كان يأمر إحداهن أن تشد إزارها ثم يباشرها
320

وقال سفيان الثوري ومحمد بن الحسن وبعض أصحاب الشافعي يجتنب موضع الدم
وممن روي عنه هذا المعنى بن عباس ومسروق بن الأجدع وإبراهيم النخعي وعكرمة
وهو قول داود بن علي
ومن حجتهم حديث ثابت عن أنس عن النبي - عليه السلام - قوله ((اصنعوا كل شيء ما خلا النكاح) (1)
وفي رواية بعض رواته ((ما خلا الجماع))
وحديث الأعمش عن ثابت بن عبيد عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ناوليني الخمرة من المسجد قلت إني حائض قال إن حيضتك ليست في يدك)) (2)
رواه أبو إسحاق السبيعي عن البهزي عن عائشة وقد ذكرنا هذه الأحاديث بأسانيدها في التمهيد
وفيها دليل على أن كل عضو منها (ليست فيه الحيضة [فهو] في الطهارة بمعنى أنه يبقى على ما كان ذلك العضو عليه) قبل الحيضة ودل على أن الحيض لا حكم له في غير موضعه الذي أمرنا بالاجتناب له من أجله
وروى أيوب عن أبي معشر عن إبراهيم عن مسروق قال سألت عائشة ما يحل لي من امرأتي وهي حائض قالت كل شيء إلا الفرج
وروى الليث عن حكيم بن الأشج عن أبي مرة مولى عقيل عن حكيم بن عقال سألت عائشة ما يحل لي من امرأتي إذا حاضت قالت ما عدا فرجها
وإذا ترتبت هذه الآثار مع حديث زيد بن أسلم في هذا الباب وحديث ربيعة والأحاديث عن أزواج النبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرهن أن تشد كل واحدة
منهن عليها إزارها إذا حاضت ثم يباشرها - لم تتدافع وكان بعضها يعضد بعضا على ما تأولنا من قطع الذريعة في شد الإزار لئلا يتطرق إلى الموضع المحظور والله أعلم
وقد ذكر أبو داود في السنن حديثا مسندا عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها وهي حائض - ((اكشفي عن فخذيك فكشفت فوضع خده وصدره على فخذي وحنيت عليه حتى دفئ وكان قد أوجعه البرد
321

وهذا يبين لك ما قلناه وبالله توفيقنا
واختلف الفقهاء في الذي يأتي امرأته وهي حائض
فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم يستغفر الله ولا يعود ولا شيء عليه (من غرم)
وهو قول ربيعة ويحيى بن سعيد وبه قال داود
وروي عن محمد بن الحسن أنه قال يتصدق بنصف دينار لحديث خصيف عن مقسم عن بن عباس عن النبي - عليه السلام - فإذا وقع على أهله وهي حائض فليتصدق بنصف دينار (1)
وقال أحمد بن حنبل يتصدق بدينار أو بنصف دينار وقال أحمد ما أحسن حديث عبد الحميد بن عبد الرحمن عن مقسم عن بن عباس عن النبي - عليه السلام - في الذي يأتي امرأته وهي حائض يتصدق بدينار أو بنصف دينار (2)
ورواه الثوري وشعبة وغيرهما عن الحكم بن عتبة عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب
وقال أبو داود هي الرواية الصحيحة وربما لم يرفعه شعبة
وقال الطبري استحب له أن يتصدق بدينار أو بنصف دينار فإن لم يفعل فلا شيء عليه
وهو قول الشافعي ببغداد ثم رجع عنه بمصر
وقالت فرقة من أهل الحديث إن وطئ في الدم فعليه دينار (وإن وطئ في انقطاع الدم فعليه نصف دينار)
لحديث علي بن الحكم البناني عن أبي الحسن الجزري عن مقسم عن بن عباس عن النبي - عليه السلام - بذلك كذلك رواه بن جريج عن علي بن الحكم عن مقسم عن بن عباس
وقال الأوزاعي من وطئ امرأته وهي حائض يتصدق بخمسي دينار ورواه عن يزيد بن أبي مالك عن عبد الحميد عن عبد الرحمن عن النبي عليه السلام
قال أبو عمر حجة من لم يوجب عليه إلا الاستغفار والتوبة - اضطراب هذا
322

الحديث عن بن عباس مرسلاوالذمم على البراءة لا يجب أن يثبت فيها شيء لمسكين ولا غيره إلا بدليل لا مدفع فيه وذلك معدوم في هذه المسألة
واختلف الفقهاء أيضا في وطء الحائض بعد الطهر
فقال مالك وأكثر أهل المدينة إذا انقطع عنها الدم لم يجز وطؤها حتى تغتسل وبه قال الشافعي والطبري ومحمد بن مسلمة
وقال أبو يوسف وأبو حنيفة ومحمد إن انقطع دمها بعد مضي عشرة أيام كان له أن يطأها قبل الغسل فإن كان انقطاعه قبل العشرة لم يجز حتى تغتسل أو يدخل عليها وقت صلاة
قال أبو عمر هذا الحكم لا وجه له وقد حكموا للحائض بعد انقطاع دمها بحكم الحائض في العدة وقالوا لزوجها عليها الرجعة ما لم تغتسل
فعلى قياس قولهم هذا لا يجب أن توطأ حتى تغتسل وهو الصواب مع موافقة أهل الحجاز في ذلك
104 - وذكر مالك أنه بلغه أن سالم بن عبد الله وسليمان بن يسار سئلا عن الحائض هل يصيبها زوجها إذا رأت الطهر قبل أن تغتسل فقالا لا حتى تغتسل
فإن قيل أن في قوله تعالى * (ولا تقربوهن حتى يطهرن) * [البقرة 222] دليلا على أنهن إذا طهرن من المحيض حل ما حرم منهن من أجل المحيض لأن حتى غاية فما بعدها بخلافها
فالجواب أن في قوله تعالى * (فإذا تطهرن) * دليلا على تحريم الوطء بعد الطهر حتى يتطهرن بالماء لأن تطهرن تفعلن من قوله تعالى * (وإن كنتم جنبا فاطهروا) * [المائدة 6] ويريد الاغتسال بالماء وقد يقع التحريم بالشيء ولا يزول بزواله لعلة أخرى
دليل ذلك قوله تعالى في المبتوتة * (فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) * [البقرة 230] وليس بنكاح الزوج تحل له حتى يطلقها الزوج وتعتد منه
ومن ذلك قوله عليه السلام ((ولا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض حيضة
323

ومعلوم أنها لا توطأ نفساء ولا حائض حتى تطهر ولم تكن (حتى) هنا بمبيحة لما قام الدليل على حظره
وفي المسألة اعتراضات يطول ذكرها
((25 - باب طهر الحائض))
105 - مالك عن علقمة بن أبي علقمة عن أمه مولاة عائشة أم المؤمنين أنها قالت كان النساء يبعثن إلى عائشة أم المؤمنين بالدرجة (1) فيها الكرسف (2) فيه الصفرة من دم الحيضة يسألنها عن الصلاة فتقول لهن لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء (3) تريد بذلك الطهر من الحيضة
106 - عن عبد الله بن أبي بكر عن عمته عن ابنة زيد بن ثابت أنه بلغها أن نساء كن يدعون بالمصابيح من جوف الليل ينظرن إلى الطهر فكانت تعيب ذلك عليهن وتقول ما كان النساء يصنعن هذا
وفي حديث عائشة هذا ما كان نساء السلف عليه من الاهتبال بأمر الدين وسؤال من يطمع بوجود علم ما أشكل عليهن عنده قالت عائشة رحم الله نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يسألن عن أمر دينهن
قال أبو عمر وهكذا المؤمن مهتبل بأمر دينه فهو رأس ماله كما قال الحسن رأس مال المؤمن دينه لا يخلفه في الرحال ولا يأتمن عليه الرجال
وأما قوله ((الدرجة)) فمن رواه هكذا فهو على تأنيث الدرج وكان الأخفش يرويه الدرجة ويقول (هي) جمع درج مثل خرجه خرج وترسه وترس
وأما الكرسف فالقطن والصفرة بقية دم الحيض
واختلف قول مالك في الصفرة والكدرة
ففي ((المدونة)) لابن القاسم عنه أنه قال في المرأة ترى الصفرة والكدرة في أيام حيضتها وفي غير أيام حيضتها قال مالك ذلك حيض وإن لم تر مع ذلك دما
324

وذكر بن عبدوس في المجموعة لعلي بن زياد عن مالك قال ما رأت المرأة من الصفرة والكدرة في أيام الحيض أو في أيام الاستطهار فهو كالدم وما رأته بعد ذلك فهو استحاضة وهذا قول صحيح إلا أن الأول أشهر عنه
وقد اختلف علماء المدينة على هذين القولين
وأما قول الشافعي والليث بن سعد وعبيد الله بن الحسين فهو أن الصفرة والكدرة حيض في أيام الحيض
وهو قول أبي حنيفة ومحمد
وقال أبو يوسف لا تكون الكدرة حيضا إلا بأثر الدم
وهو قول داود أن الصفرة والكدرة لا تعد حيضا إلا بعد الحيض لا قبله لأن الأمة قد اختلفت فيهما قبل الحيض وبعده فما اختلفوا فيه من ذلك قبل لم يثبت إذ لا دليل عليه
وأما اختلافهم فيهما بعد فلن يزول ما أجمعوا عليه إلا بالإجماع وهو النقاء بالجفوف والقصة البيضاء
واحتج بحديث أم عطية ((كنا لا نعد الصفرة ولا الكدرة بعد الغسل شيئا)) (1)
قال تريد بعد الطهر وأما ما اتصل منها بالحيض فهو من الحيض
قال أبو عمر القياس أن الصفرة والكدرة قبل الحيض وبعده سواء كما أن الحيض في كل زمان سواء وما احتج به داود لا معنى له
واختلف أصحاب الشافعي وأصحاب أبي حنيفة في ذلك أيضا فمرة قالوا الصفرة والكدرة حيض في أيامها المعهودة ومرة قالوا ليس ذلك بحيض على جميع الأحوال
ولم يختلف قول مالك وأصحابه أنها حيض في أيام الحيض
وأما قول عائشة ((لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء)) فإنها تريد لا تعجلن بالاغتسال إذا رأيتن الصفرة لأنها بقية من الحيضة حتى ترين القصة البيضاء وهو الماء الأبيض الذي يدفعه الرحم عند انقطاع الحيض (يشبه) لبياضه بالقص وهو الجص @ 326 @
ومنه الحديث نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تقصيص القبور (1) ويروى عن تجصيص القبور (2) يريد تلبيسها بالجص
واختلف أصحاب مالك عنه في علامة الطهر
ففي ((المدونة)) قال مالك إذا كانت المرأة ممن ترى القصة البيضاء فلا تصلي حتى تراها إلا أن يطول ذلك بها
وقال بن حبيب تطهر بالجفوف وإن كانت ممن ترى القصة البيضاء
قال والجفوف أبرأ للرحم من القصة البيضاء فمن كان طهرها القصة البيضاء فرأت الجفوف فقد طهرت قال ولا تطهر التي طهرها الجفوف برؤيتها القصة البيضاء حتى ترى الجفوف
قال وذلك أن أول الحيض دم ثم صفرة ثم كدرة ثم يكون نقاء كالقصة ثم ينقطع فإذا انقطع قبل هذه المنازل فقد برئت الرحم من الحيض
قال والجفوف أبرأ وأوعب وليس بعد الجفوف انتظار شيء
وأما قول ابنة زيد بن ثابت فإنما أنكرت على النساء افتقادهن أحوالهن في غير أوقات الصلوات وما قاربها لأن جوف الليل ليس بوقت للصلاة وإنما على النساء افتقاد أحوالهن (للصلاة) في أوقات الصلوات فإن كن قد طهرن تأهبن بالغسل لما عليهن من الصلاة
وفي هذا الباب سئل مالك عن الحائض تطهر فلا تجد ماء أتتيمم قال نعم فإن مثلها مثل الجنب إذا لم يجد الماء تيمم وهذا إجماع - كما قال - مالك - لا خلاف فيه والحمد لله ه
22
((26 - باب جامع الحيضة))
107 - مالك أنه بلغه أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت في المرأة الحامل ترى الدم أنها تدع الصلاة
325

وهذه مسألة اختلف العلماء فيها قديما وحديثا بالمدينة وغيرها واختلف فيها عن عائشة أيضا وعن سعيد بن المسيب وعن بن شهاب
108 - ذكر مالك أنه سأل بن شهاب عن (المرأة) الحامل ترى الدم قال تكف عن الصلاة
قال مالك وذلك الأمر عندنا
ولم يختلف عن يحيى بن سعيد وربيعة أن الحامل إذا رأت دما فهو حيض تكف من أجله عن الصلاة
وهو قول مالك وأصحابه والليث بن سعد والشافعي في أحد قوليه وهو قول قتادة وبه قال عبد الرحمن بن مهدي وإسحاق بن راهويه وأبو جعفر الطبري
وذكر حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد قال لا يختلف عندنا عن عائشة أنها كانت تقول في الحامل ترى الدم إنها تمسك عن الصلاة حتى تطهر
وقد روى عن بن عباس أن الحامل تحيض والله أعلم
واختلف عن مالك هل تستطهر أم لا
فروى عنه بن القاسم وعلي بن زياد أنها لا تستطهر وإليه ذهب المغيرة وعبد الملك وأبو مصعب والزهري
وروى عنه أشهب ومطرف وبن عبد الحكم أنها تستطهر بثلاثة أيام وهو قول أصبغ
وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي وعبد الله بن الحسن العنبري والحسن بن صالح بن يحيى ليس ما تراه الحامل على حملها من الدم والصفرة والكدرة حيضا وإنما هو استحاضة لا يمنعها من الصلاة وبه قال داود بن علي وهو قول مكحول الدمشقي والحسن البصري ورواية عن بن شهاب الزهري ومحمد بن المنكدر وجابر بن زيد وعكرمة وعطاء بن أبي رباح والشعبي وإبراهيم النخعي وحماد وبه قال أحمد بن حنبل وأبو عبيد وأبو ثور
ذكر دحيم قال حدثنا الوليد بن مسلم عن سعيد بن عبد العزيز أنه سمع الزهري يقول الحامل لا تحيض فلتغتسل ولتصل (قال ولا يكون حيض على حمل)
وحدثنا الوليد قال حدثنا أبو عمرو الأوزاعي عن الزهري مثل ذلك
327

وقد روي عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار أن الحامل تحيض
ذكره دحيم قال حدثنا الليث عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال الحامل إذا رأت الدم لم تصل
قال وحدثنا الوليد قال وحدثنا الليث عن ربيعة قال الحامل إذا رأت الدم لم تصل لا قبل خروج الولد ولا بعده
والحجة لكلا القولين من جهة النظر تكاد أن تتوارى
وكلهم يمنع الحامل من الصلاة إذا كانت في الطلق وضربة المخاض لأنه عندهم دم نفاس
ولأصحاب مالك في الحامل ترى الدم اضطراب من أقوالهم ورواياتهم عن مالك قد ذكرناها في كتاب اختلاف قول مالك وأصحابه
وأصح ما في مذهب مالك عند أولي الفهم من أصحابنا رواية أشهب أن الحامل والحائل إذا رأتا الدم سواء في الاستطهار وسائر أحكام الحيض
وإليه ذهب عبد الملك بن حبيب قال ((وأول الحمل وآخره في ذلك سواء وهو الصحيح من مذهب مالك والشافعي والله أعلم
وروى أبو زيد عن عبد الملك بن الماجشون في الحامل ترى الدم تقعد أيام حيضها ثم تغتسل وتصلي ولا تستطهر قال ولقد قال أكثر الناس إن الحامل إذا رأت الدم لم تمسك عن الصلاة لأن الحامل عندهم لا تحيض
وروى عن المغيرة المخزومي أنه قال الحامل وغيرها سواء وهو قول أصبغ رواه أبو زيد عنه
وذكر بن عبدوس عن سحنون أنه أنكر رواية مطرف عن مالك في الحامل التي أيامها في الشهور وقال ليس هذا مذهب مالك ولا غيره وهو خطأ ولا تكون امرأة نفساء إلا بعد الولادة
قال أبو عمر رواية مطرف هذه وقوله بها قول ضعيف يزدريه أهل العلم
واختلف أهل التأويل في (معنى) قوله تعالى " وما تغيض الأرحام وما تزداد الرعد 8]
فقال جماعة منهم ما تغيض الأرحام ما تنقص من التسعة الأشهر وما تزداد عليها
وممن روي ذلك عنه بن عباس والحسن ومجاهد وسعيد بن جبير
328

والضحاك بن مزاحم وعطية العوفي فهؤلاء ومن تابعهم قالوا معنى الآية نقصان الحمل عن التسعة الأشهر
وقال آخرون بل (هو) خروج الدم وظهوره من الحائل واستمساكه وزيادته على التسعة الأشهر
روي ذلك أيضا عن جماعة منهم عكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير والشعبي
وسنذكر اختلاف الفقهاء في مدة الحمل لأنهم اختلفوا في أكثرها ولم يختلفوا في أقلها أنه ستة أشهر - في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله
109 - وأما حديث مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت ((كنت أرجل (1) رأس رسول الله وأنا حائض))
ففيه تفسير لقوله تعالى " فاعتزلوا النساء في المحيض البقرة 222] لأن اعتزالهن كان يحتمل ألا يقربن ولا يجتمع معهن
ويحتمل أن يكون اعتزال الوطء خاصة فأتت السنة بما قدمنا في حديث أنس من أنه أراد الجماع على حسب ما وصفنا
وبمثل ذلك معنى ترجيل عائشة - وهي حائض - لرأسه عليه السلام
وذكرنا في التمهيد من قال عن مالك في هذا الحديث عن عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدني إلي رأسه وأنا في حجرتي وهو معتكف فأرجله وأنا حائض
وذكرنا معاني الاعتكاف وحكم المباشرة فيها والحمد لله
وفي ترجيل عائشة لرأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حائض - دليل على طهارة الحائض وأنه ليس منها شيء نجس غير موضع الحيض ولذلك قال لها - عليه السلام ((إن حيضتك ليست في يدك) * (2) حين سألها أن تناوله الخمرة فقالت إني حائض
وفيه ترجيل الشعر وفي ترجيله لشعره - عليه السلام - وسواكه وأخذه من
329

شاربه ونحو ذلك ما يدل على أنه ليس من السنة ولا الشريعة ما خالف النظافة وحسن الهيئة في اللباس والزينة التي من شكل الرجال - للرجال ومن شكل النساء للنساء
ويدل على أن قوله عليها السلام ((البذاذة من الإيمان)) (1) أراد به اطراح الشهوة في الملبس والإسراف فيه الداعي إلى التبختر والبطر ليصح معاني الآثار ولا تتضاد
ومن معنى هذا الحديث حديث عبد الله بن مغفل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الترجل إلا غبا (2) يريد عند الحاجة لئلا يكون ثائر الرأس شعثه كأنه شيطان كما جاء عنه عليه السلام
وقد ذكرنا الآثار المرفوعة في معاني هذا الباب وشواهد بما وصفنا في مواضع من التمهيد والحمد لله
110 - وأما حديث مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن فاطمة بنت المنذر بن الزبير عن أسماء بنت أبي بكر الصديق أنها قالت سألت امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت أرأيت إحدانا إذا أصاب ثوبها الدم من الحيضة كيف تصنع فيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إذا أصاب ثوب إحداكن الدم من الحيضة فلتقرصه (3) ثم لتنضحه (4) بالماء ثم لتصل فيه))
فقوله فيه عن أبيه غلط لأن أصحاب هشام بن عروة كلهم يقول فيه عن فاطمة بنت المنذر وهي امرأته ولم يرو عنها أبوه شيئا وإنما هشام يروي عنها هذا الحديث وغيره
وأما قوله ((فلتقرصه)) يعني تعركه وتحته وتزيله بظفرها ثم تجمع عليه أصابعها فتغسل موضعه بالماء
330

وقوله ((ولتنضحه)) يريد ولتغسله والنضح الغسل وهو المعروف في اللسان العربي أنه قد يراد بالنضح الغسل بالماء
وهذا الحديث أصل في غسل النجاسات من الثياب لأن الدم نجس إذا كان مسفوحا ومعنى المسفوح الجاري الكثير
ولا خلاف أن الدم المسفوح رجس نجس وأن القليل من الدم الذي لا يكون جاريا مسفوحا متجاوز عنه
وليس الدم كسائر النجاسات التي قليلها رجس مثل كثيرها
وقد ذكرت في التمهيد عن أبي طوالة عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر قال أدركت فقهاءنا يقولون ما أذهبه الحك من الدم فلا يضر وأما أخرجه الفتل مما يخرج من الأنف فلا يضر
وقال مجاهد لم يكن أبو هريرة يرى بالقطرة والقطرتين من الدم بأسا في الصلاة
وتنخم بن أبي أوفى دما في الصلاة
وعصر بن عمر بثرة فخرج منها شيء من دم أو قيح فمسحه بيده وصلى ولم يتوضأ
وذكر بن المبارك عن المبارك بن فضالة عن الحسن أن النبي - عليه السلام - كان يقتل القملة في الصلاة
ومعلوم أن في قتل القملة دما يسيرا
وقد ذكرنا هذه الآثار بأسانيدها في التمهيد
وقد تقدم في فتل سالم لما خرج من أنفه من الرعاف وفي هذا المعنى كفاية
وأجمع العلماء على غسل النجاسات كلها من الثياب والبدن وألا يصلى بشيء منها في الأرض ولا في الثياب
وأما العذرات وأبوال ما لا يؤكل لحمه فقليل ذلك وكثيره رجس وكثيره رجس نجس عند الجمهور من السلف وعليه فقهاء الأمصار
واختلفوا هل غسل النجاسات على ما وصفنا فرض أو سنة
فقال منهم قائلون غسلها فرض واجب ولا تجزئ صلاة من صلى بثوب نجس عالما كان بذلك أو ساهيا عنه
واحتجوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بغسل الأنجاس من الثياب والأرض والبدن
فمن ذلك حديث هذا الباب وهو حديث أسماء في غسل دم الحيض من الثوب ولم تخص منه مقدار درهم من غيره
331

ومنها أمره بصب الماء على بول الصبي إذا بال في حجره (1)
ومنها أمره بصب الذنوب من الماء على بول الأعرابي إذ بال في المسجد (2)
ومنها أنه قال - عليه السلام - ((أكثر عذاب القبر في البول)) (3)
واحتجوا بإجماع الجمهور الذين هم الحجة على من شذ عنهم ولا يعد خلافهم خلافا عليهم - أن من صلى عامدا بالنجاسة يعلمها في بدنه أو ثوبه أو على الأرض التي صلى عليها وهو قادر على إزاحتها واجتنابها وغسلها ولم يفعل وكانت كثيرة أن صلاته باطلة وعليه إعادتها كمن لم يصلها
فدل هذا على ما وصفنا من أمر رسول الله بغسل النجاسات وغسلها له من ثوبه على أن غسل النجاسة فرض واجب وإذا كان فرضا غسلها لم يسقط فرض غسلها على من نسيه وصلى بثوب نجس لأن الفرائض لا يسقطها النسيان كما لو نسي مسح رأسه أو غير ذلك من فرائض وضوئه أو صلاته
وممن ذهب إلى هذا في غسل النجاسة قليلها وكثيرها إلا ما وصفنا من الدم اليسير نحو دم البراغيث ولما كان مثله - الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو ثور وإليه مال أبو الفرج المالكي وهو مذهب الكوفيين إلا أنهم راعوا ما زاد على مقدار الدرهم قياسا على المخرج في الاستنجاء
وقد (روي عن بن عباس ما يدل على أن غسل النجاسة فرض مأخوذ) من قوله تعالى * (وثيابك فطهر) * [المدثر 4] كما قال بن سيرين
ويأتي ذلك بعد احتجاجا لما ذهب إليه أبو الفرج إن شاء الله تعالى
وقال آخرون غسل النجاسة سنة واجبة مؤكدة وليس بفريضة
قالوا والدليل على ذلك أن كتاب الله تعالى ليس فيه ما يوجب غسل الثياب
332

وتأولوا قوله تعالى * (وثيابك فطهر) * على ما تأوله عليه جمهور السلف من أنها طهارة القلب وطهارة الجيب ونزاهة النفس عن الدنايا والآثام والذنوب
وذكروا قول سعيد بن جبير اقرأ علي آية بغسل الثياب
ذكره أبو بكر قال حدثنا وكيع قال حدثنا سفيان عن أبي شيخ عن سعيد بن جبير قال اقرأ على آية بغسل الثياب
قالوا وقول بن سيرين إنه أراد بذلك تطهير الثياب - شذوذ لم يقله غيره
وقد أشبعنا هذا المعنى بأقاويل المفسرين من السلف ومن تابعهم من الفقهاء في التمهيد بالآثار والنظر والاعتبار والحمد لله
وتقصينا هناك أقاويل الفقهاء فيمن صلى بثوب نجس أو على ثوب نجس أو على موضع نجس أو كانت في بدنه نجاسة أو تيمم على موضع نجس فمن أراد ذلك تأمله هناك
ومن الحجة لمن جعل غسل النجاسة (سنة) حديث حماد بن سلمة عن أبي نعامة السعدي عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال ((بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره فلما رأى ذلك القوم خلعوا نعالهم فلما قضى رسول الله صلاته قال ما حملكم على إلقائكم نعالكم فقالوا رأيناك ألقيت نعالك فألقينا نعالنا فقال رسول الله إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا)) (1)
وقد ذكرناه في التمهيد مسندا ومرسلا من وجوه
وذكرنا هناك بمثل ذلك حديث بن مسعود أيضا ذكره بن أبي شيبة عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي عن زهير بن معاوية عن أبي حمزة عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال خلع النبي - عليه السلام - نعليه وهو يصلي فخلع من خلفه فقال ما حملكم على خلع نعالكم قالوا يا رسول الله إنك خلعت فخلعنا فقال إن جبريل أخبرني أن في إحداهما قذرا فإنما خلعتهما لذلك فلا تخلعوا نعالكم)) (2)
ولما بنى - عليه السلام - على ما صلى بالنجاسة ولم يقطع صلاته لذلك - علمنا أن غسلها لم يكن واجبا ولو كان واجبا فرضا لم تكن صلاة من صلى بها جائزة ولما تمادى في صلاته إذ رآها وعلمها في نعليه
333

وقد روي عن بن عمر وسعيد بن المسيب وسالم وعطاء وطاوس ومجاهد والشعبي والزهري يحيى بن سعيد الأنصاري في الذي يصلي بالثوب فيه نجاسة وهو لا يعلم ثم علم أنه لا إعادة عليه
وبه قال إسحاق واحتج بحديث أبي سعيد المذكور
ومالك - رحمه الله - مذهبه في هذه المسألة نحو مذهب هؤلاء لأنه لا يرى الإعادة إلا في الوقت والإعادة في الوقت استحباب لاستدراك فضل السنة في الوقت ولا يستدرك فضل السنة بعد الوقت لإجماع العلماء على أن من صلى وحده في الوقت ووجد قوما يصلون جماعة بعد الوقت قد فاتتهم تلك الصلاة بنوم أو عذر - أنه لا يصلي معهم
وكلهم يأمره لو كان في الوقت - أن يعيد الظهر والعشاء هذا ما لم يختلفوا فيه وقد اختلفوا فيما عدا هاتين الصلاتين على ما نذكره في بابه من هذا الكتاب إن شاء الله
ومن ها هنا قال أصحابنا مذهب مالك في غسل النجاسات أنه سنة لا فرض
وجملة قول مالك في هذا الباب أن إزالة النجاسة من الثياب والأبدان واجبة بالسنة وليست بوجوب فرض
وعلى ذلك جماعة أصحابه إلا أبا الفرج فإن غسلها عنده فرض واجب
قالوا ومن صلى بثوب نجس أعاد في الوقت فإن خرج الوقت فلا إعادة عليه
وحجة أبي الفرج ومن قال قوله من المالكيين - وهو قول الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وقد تقدم إلى القول به الحسن ومحمد بن سيرين عالما أهل البصرة وروي عن بن عباس معنى ذلك ذكر محمد بن المثنى ومحمد بن يسار قالا حدثنا يحيى بن سعيد عن بن جريج عن عطاء عن بن عباس في قوله * (وثيابك فطهر) * قال في كلام العرب أنقها إنها القلب وقال بن المثنى في حديثه أنق الثياب
فالحجة لهم ظاهر قوله تعالى * (وثيابك فطهر) * والثياب غير القلوب عند العرب وهي لغة القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم في غسل الدماء والأنجاس من الأبدان والثياب والنعال وقد ذكرنا الآثار بذلك في موضعه من التمهيد
وإجماع العلماء على أن من صلى وثوبه الذي يستر عورته قد امتلأ بولا أو عذرة أو دما وهو عامد فلا صلاة له وعليه الإعادة في الوقت وبعده
وهذا كله دليل عندهم على أن غسل النجاسات فرض واجب وبالله التوفيق
334

وقال مالك لا تعاد الصلاة من يسير الدم في وقت ولا غيره وتعاد من يسير البول والغائط والمذي والمني
قال مالك ومن رأى في ثوبه دما يسيرا - وهو في الصلاة - مضى وفي الدم الكثير ينزعه ويستأنف الصلاة
فإن رآه بعد فراغه أعاد ما دام في الوقت وكذلك البول والرجيع والمذي والمني وخرء الطير التي تأكل الجيف يعيد ما كان في الوقت من صلى ومن لم يعلم بالنجاسة إلا بعد الوقت لم يعد ومن تعمد الصلاة بالنجاسة أعاد أبدا
هذا تحصيل مذهب مالك عند جماعة أصحابه إلا أشهب فإنه لا يعيد المتعمد عنده أيضا إلا في الوقت وقد شذ في قوله ذلك عن الجمهور من السلف والخلف
وروي عن الليث بن سعد في ذلك كمذهب مالك
وقال الشافعي قليل الدم والبول والعذرة والخمر وكثير ذلك سواء تعاد منه الصلاة أبدا والإعادة واجبة لا يسقطها خروج الوقت
واختلف قول مالك في دم الحيض فمرة جعله كسائر الدماء وهو الأشهر عنه ومرة كالبول وهو قول بن وهب إلا ما كان نحو دم البراغيث وما يتعافاه الناس ويتجاوزونه لقلته فإنه لا يفسد الثوب ولا تعاد منه الصلاة
وقول أحمد بن حنبل وأبي ثور في ذلك مثل قول الشافعي إلا أنهما يخالفانه في الدم خاصة فلا يريان غسله حتى يتفاحش
وهو قول الطبري إلا أن الطبري قال إن كانت النجاسة قدر الدرهم أعاد الصلاة أبدا ولم يحد أولئك حدا
وكلهم يروي غسل النجاسة فرضا
وقول أبي يوسف وأبي حنيفة في هذا الباب كقول الطبري في مراعاة قدر الدرهم من النجاسة أنه معفو عنه حتى يكون أكثر فتجب منه الإعادة أبدا ويجب حينئذ غسله فرضا
وقال محمد بن الحسن إن كانت النجاسة ربع الثوب فما دون جازت الصلاة به
وقال أبو يوسف وأبو حنيفة في الدم والعذرة والبول ونحوها إن صلى وفي ثوبه من ذلك مقدار الدرهم جازت صلاته وكذلك الروث عن أبي حنيفة
وقال أبو يوسف ومحمد في الروث حتى يكون كثيرا فاحشا
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف في بول ما يؤكل لحمه حتى يكون كثيرا فاحشا
335

وذهب محمد بن الحسن إلى أن بول ما يؤكل لحمه طاهر كقول مالك
وقال الشافعي بول ما يؤكل لحمه نجس
وليس هذا موضع الاحتجاج لأقوالهم في نجاسة بول الإبل وما يؤكل لحمه وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى وقال زفر في البول قليله وكثيره يفسد الصلاة وفي الدم حتى يكون أكثر من قدر الدرهم
وقال الحسن بن حي في الدم في الثوب يعيد إذا كان مقدار الدرهم وإن كان أقل من ذلك لم يعد
وكان يقول إن كان في الجسد أعاد وإن كان أقل من الدرهم
وقال في البول والغائط يفسد الصلاة القليل والكثير منه إن كان في الثوب
وقال الثوري يغسل الروث والدم ولم يعرف قدر الدرهم
وقال الأوزاعي في البول إذا لم يجد ماء يغسله به تيمم وصلى ولا إعادة عليه إذا وجد الماء
وقد روي عن الأوزاعي أنه إذا وجد الماء في الوقت أعاد
وقال في القيء يصيب الثوب ولا يعلم به حتى يصلي مضت صلاته
وقال إنما جاءت الإعادة في الرجيع
وكذلك في دم الحيض لا يعيد
وقال في البول يعيد في الوقت فإذا مضى الوقت فلا إعادة عليه
وقال الليث في البول والروث والدم وروث الدابة ودم الحيض والمني يعيد فات الوقت أو لم يفت
وقال في يسير الدم في الثوب لا يعيد في الوقت ولا بعده
قال وسمعت الناس لا يرون في يسير الدم يصلى به وهو في الثوب - بأسا ويرون أن تعاد الصلاة في الوقت من الدم الكثير
قال والقيح مثل الدم
قال أبو عمر هذا عن الليث أصح مما تقدم عنه رواه بن وهب وغيره عنه
وقوله هذا حسن جدا
وقد أوردنا أقاويل الفقهاء والسلف في هذا الباب والله الموفق للصواب
336

((27 - باب المستحاضة))
111 - مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت قالت فاطمة بنت أبي حبيش يا رسول الله إني لا أطهر (1) أفأدع الصلاة (2) فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إنما ذلك (3) عرق وليست بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة فإذا ذهب قدرها (4) فاغسلي الدم عنك وصلي))
ولم يختلف رواه مالك في إسناده ولفظه ورواه محمد بن كناسة عن هشام عن أبيه عن عائشة
قال سفيان وتفسيره إذا رأت الدم بعد ما تغسل الدم فقط
وقد رواه حماد بن زيد عن هشام بإسناده فجود لفظه قال فإذا أدبرت الحيضة فاغسلي عنك أثر الدم وتوضئي فقيل لحماد فالغسل قال ومن يشك أن في ذلك غسلا واحدا بعد الحيضة
وقال حماد قال أيوب أرأيت لو خرج من جنبها دم أتغتسل
وقال فيه أبو حنيفة عن هشام بإسناده فإذا أدبرت فاغتسلي لطهرك
وقال فيه أبو معاوية عن هشام بإسناده وإذا أدبرت فاغسلي
قال هشام قال أبي ثم تتوضأ لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت
وكان بن عيينة يقول فيه عن هشام مرة فإذا أدبرت فاغتسلي وصلي ومرة قال اغسلي عنك الدم وصلي ومرة قال كذا أو كذا
وقال فيه حماد بن سلمة عن هشام بإسناده فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وتطهري وصلي
337

قال حماد قال هشام كان عروة يقول الغسل الأول ثم الطهر لكل صلاة
وقال فيه يحيى بن هاشم عن هشام بن عروة بإسناده فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وتوضئي لكل صلاة وصلي
وقد ذكرنا أسانيد هذه الأحاديث ومتونها في التمهيد وذكرنا الاختلاف على الزهري فيه في قصة أم حبيبة بنت جحش واستحاضتها
وكلهم يقول في حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة إن النبي - عليه السلام - قال لفاطمة بنت أبي حبيش إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة
وهذا نص ثابت عنه - عليه السلام - في أن الحيض يمنع من الصلاة
وهذا إجماع من علماء المسلمين نقلته الكافة كما نقلته الآحاد العدول ولا مخالف فيه إلا طوائف من الخوارج يرون على الحائض الصلاة
وأما علماء السلف والخلف وأهل الفتوى بالأمصار فكلهم على أن الحائض لا تصلي ولا تقضي الصلاة أيام حيضها إلا أن من السلف من كان يرى للحائض ويأمرها أن تتوضأ عند وقت الصلاة وتذكر الله وتستقبل القبلة ذاكرة لله جالسة
وروى خالد عن عقبة بن عامر ومكحول قال مكحول كان ذلك من هدي نساء المسلمين في أيام حيضهن
ذكر عبد الرزاق قال قال معمر بلغني أن الحائض كانت تؤمر بذلك عند وقت كل صلاة
وبن جريج عن عطاء قال لم يبلغني ذلك وأنه لحسن
قال أبو عمر هو أمر متروك عند جماعة الفقهاء بل يكرهونه
ذكر دحيم قال حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري عن سليمان التيمي قال سئل أبو قلابة عن الحائض إذا حضرت الصلاة أتتوضأ وتذكر الله فقال أبو قلابة قد سألنا عنه فلم نجد له أصلا
قال دحيم وحدثنا الوليد بن مسلم قال سألت سعيد بن عبد العزيز عن الحائض أنها إذا كان وقت صلاة مكتوبة توضأت واستقبلت القبلة فذكرت الله في غير صلاة ولا ركوع ولا سجود قال ما نعرف هذا ولكنا نكرهه
وقال معمر قلت لابن طاوس أكان أبوك يأمر الحائض عند وقت كل صلاة بطهر وذكر قال لا
وعلى هذا القول جماعة الفقهاء وعامة العلماء اليوم في الأمصار
قال دحيم وحدثنا سعيد بن منصور قال حدثنا حماد بن زيد عن يزيد
338

الرشك عن معاذة عن عائشة أن امرأة سألتها أتقضي المرأة صلاة أيام حيضتها قالت أحرورية (1) أنت كانت إحدانا على عهد رسول الله تحيض فلا تؤمر بقضاء الصلاة (2)
وذكر عبد الرزاق عن معمر عن عاصم الأحول عن معاذة العدوية قالت سألت عائشة فقلت ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة فقالت أحرورية أنت قلت لست بحرورية ولكني أسأل قالت قد كان يصيبنا ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة (3)
وروى قتادة وأبو قلابة عن معاذة العدوية عن عائشة مثله
رواه شعبة وسعيد وغيرهما عن قتادة وحماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة
وذكر عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن معاذة عن عائشة مثله
وذكر بن جريج عن عطاء قال قلت أتقضي الحائض الصلاة قال لا ذلك بدعة
وعن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة مثله سواء
وعن معمر عن الزهري قال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة قلت عمن قال اجتمع الناس عليه وليس في كل شيء تجد الإسناد
وعن الثوري عن رجل عن إبراهيم عن عائشة قالت كنا عند رسول الله فلم يأمر امرأة منا أن تقضي الصلاة
وقال دحيم وحدثنا يعلى بن عبيد عن عبيدة عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت كنا نحيض على عهد النبي - عليه السلام - فما يأمر امرأة منا برد الصلاة
وقال عجلان أبو غالب سألت بن عباس عن النفساء والحائض هل تقضيان
339

الصلاة إذا طهرتا قال هؤلاء نساء النبي - عليه السلام - لو فعلن ذلك أمرنا نساءنا به
وروينا عن حذيفة أنه قال ليكونن قوم في آخر هذه الأمة يكذبون أولاهم ويلعنونهم ويقولون جلدوا في الخمر وليس ذلك في كتاب الله ورجموا وليس ذلك في كتاب الله ومنعوا الحائض الصلاة وليس ذلك في كتاب الله
وهذا كله قد قال به قوم من غالية الخوارج على أنهم اختلفوا فيه أيضا وكلهم أهل زيغ وضلال أما أهل السنة والحق فلا يختلفون في شيء من ذلك والحمد لله
وفي حديث مالك عن هشام بن عروة في هذا الباب دليل على أن المستحاضة لا يلزمها غير ذلك الغسل لأن رسول الله لم يأمرها بغيره ولو لزمها غيره لأمرها به
وفي ذلك رد لقول من رأى عليها الغسل لكل صلاة ولقول من رأى عليها أن تجمع بين صلاتي النهار بغسل واحد وصلاتي الليل بغسل واحد وتغتسل للصبح لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمرها بشيء من ذلك كله في حديث هشام هذا ولا صح ذلك عنه في غيره
وحديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة هذا أصح ما روي في هذا الباب وهو يدفع الغسل الذي وصفنا
وفيه رد لقول من قال بالاستطهار يوما ويومين وثلاثة وأقل وأكثر لأنه أمرها إذا علمت أن حيضتها قد أدبرت وذهبت أن تغتسل وتصلي ولم يأمرها أن تترك الصلاة ثلاثة أيام لانتظار حيض يجيء أو لا يجيء
والاحتياط إنما يجب في عمل الصلاة لا في تركها
ولا يخلو قوله عليه السلام في الحيضة إذا ذهب قدرها أن يكون أراد انقضاء أيام حيضتها لمن تعرف الحيضة وأيامها أو يكون أراد انفصال دم الحيض من دم الاستحاضة لمن تميزه فأي ذلك كان فقد أمرها عند ذهاب حيضتها أن تغتسل وتصلي ولم يأمرها باستطهار
وقال أيضا من نفى الاستطهار السنة تنفي الاستطهار لأن أيام دمها جائز أن تكون استحاضة وجائز أن تكون حيضا والصلاة فرض بيقين فلا يجوز أن تدعها حتى تستيقن أنها حائض
وذكروا أن مالكا وغيره من العلماء قالوا لأن تصلي المستحاضة وليس عليها ذلك خير من أن تدع الصلاة وهي واجبة عليها لأن الواجب الاحتياط للصلاة فلا تترك إلا بيقين لا بالشك فيه
وقال بعض أصحابنا في هذا الحديث دليل على صحة الاستطهار لقوله - عليه
340

السلام - للمستحاضة فإذا ذهب قدرها - يعني الحيض - لأن قدر الحيض قد يزيد مرة وينقص أخرى فلهذا رأى مالك الاستطهار لأن الحائض يجب ألا تصلي حتى تستيقن زواله والأصل في الدم الظاهر من الرحم أنه حيض
ولهذا أجمع الفقهاء على أن يأمروا المبتدأة بالدم بترك الصلاة في أول ما ترى الدم
وكان أقصى الحيض عند مالك خمسة عشر يوما فكان يقول في المبتدأة وفي التي أيامها معروفة فيزيد حيضها إنهما تقعدان إلى كمال خمسة عشر يوما فإذا زاد فهو استحاضة ثم رجع في التي لها أيام معروفة - أن تستطهر بثلاثة أيام على عادتها ما لم تجاوز خمسة عشر يوما احتياطيا للصلاة ثم تغتسل بعد ذلك وتصلي
وكذلك تستطهر المبتدأة على أيام لداتها بثلاثة أيام ما لم تجاوز خمسة عشر يوما ثم تغتسل أيضا وتصلي لأن ما زاد على ذلك دم استحاضة وهو عرق - كما قال عليه السلام - لا يمنع من الصلاة
ولا استطهار عند مالك إلا لهاتين المرأتين في هذين الموضعين وجعل الاستطهار ثلاثة أيام ليستبين فيها انفصال دم الحيض من دم الاستحاضة استدلالا بحديث المصراة (1) إذ حد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام في انفصال اللبن لبن التصرية من اللبن الطارئ
واحتجوا بحديث رواه حرام بن عثمان عن ابني جابر عن جابر أن أسماء بنت مرشد الحارثية كانت تستحاض فسألت النبي - عليه السلام - عن ذلك فقال لها النبي - عليه
السلام ((اقعدي أيامك التي كنت تقعدين ثم استطهري بثلاث ثم اغتسلي وصلي
ورواه إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا إبراهيم بن حمزة قال حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن حرام بن عثمان عن محمد وعبد الرحمن ابني جابر بن عبد الله عن أبيهما عن أسماء بنت مرشد كانت تستحاض فذكر معنى ما ذكرنا
وهذا حديث لا يوجد إلا بهذا الإسناد
وحرام بن عثمان المدني متروك الحديث مجتمع على طرحه لضعفه ونكاره
341

حديثه حتى لقد قال الشافعي الحديث عن حرام بن عثمان حرام
وقال بشر بن عمر سألت مالك بن أنس عن حرام بن عثمان فقال ليس ثقة
وقد مضى اختلاف قول مالك وأصحابه في الحامل ترى الدم هل تستطهر أم لا في صدر هذا الباب
وأما قوله فإذا أدبرت الحيضة فاغسلي عنك الدم وصلي فقد تقدم من رواية الثوري ومحمد بن زيد وحماد بن سلمة وغيرهم ما يفسر ذلك وهو أن تغتسل عند إدبار الحيضة وإقبال استحاضتها كما تغتسل الحائض عند رؤية طهرها لأن المستحاضة طاهر ودمها دم عرق كدم الجرح السائل والخراج وذلك لا يوجب طهارة إذ لا يمنع من صلاة وهذا إنما يكون في امرأة تعرف دم حيضتها من دم استحاضتها
وليس في حديث مالك هذا ذكر الوضوء لكل صلاة المستحاضة وقد ذكرناه في هذا الحديث عنده فلذلك كان مالك يستحبه لها ولا يوجبه عليها كما لا يوجبه على من سلس بوله فلم ينقطع عنه
وممن أوجب الوضوء لكل صلاة على المستحاضة سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والليث بن سعد والشافعي وأصحابه والأوزاعي وهؤلاء كلهم ومالك معهم لا يرون على المستحاضة غسلا غير مرة واحدة عند إدبار حيضتها وإقبال استحاضتها ثم تغسل عنها الدم وتصلي ولا تتوضأ إلا عند الحدث عند مالك وهو قول عكرمة وأيوب السختياني
وكذلك التي تقعد أيامها المعروفة ثم تستطهر عند مالك أو لا تستطهر عند غيره
وتغتسل أيضا عند انقضاء أيامها واستطهارها ولا شيء عليها إلا أن تحدث حدثا يوجب الغسل أو الوضوء عند مالك ومن قال بقوله
وأما عند الشافعي وأبي حنيفة والثوري فتتوضأ لكل صلاة على حسب ما ذكرنا عنهم فيما سلف من كتابنا في سلس البول وذلك واجب عليها عندهم
وذهبت طائفة إلى أن الغسل لكل صلاة واجب عليها لأحاديث رووها بذلك قد ذكرناها في التمهيد
قالوا لأنه لا يأتي عليها وقت صلاة إلا وهي فيه شاكة هل هي حائض أو طاهر مستحاضة أو هل طهرت في ذلك الوقت بانقطاع دم حيضتها أم لا فواجب عليها الغسل للصلاة
قالوا ولو شاء الله لابتلاها بأشد من هذا
342

ورووا هذا عن علي وبن عباس وبن الزبير وسعيد بن جبير
وقد ذكرنا الأسانيد عنهم بذلك في التمهيد
112 - وذكر مالك في الموطأ عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة أنها رأت زينب بنت جحش التي كانت تحت عبد الرحمن بن عوف وكانت تستحاض فكانت تغتسل وتصلي
هكذا رواه يحيى وغيره عن مالك في الموطأ وهو وهم من مالك لأنه لم تكن قط زينب بنت جحش تحت عبد الرحمن بن عوف وإنما كانت تحت زيد بن حارثة ثم كانت تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما التي كانت تحت عبد الرحمن أم حبيبة بنت جحش وكن ثلاث أخوات زينب كما ذكرنا وأم حبيبة تحت عبد الرحمن بن عوف وحمنة بنت جحش تحت طلحة بن عبيد الله وقد قيل إنهن ثلاثتهن استحضن وقد قيل إنهن لم يستحض منهن إلا أم حبيبة وحمنة والله أعلم
وروى الليث بن سعد عن هشام عن عروة عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة أن أم حبيبة بنت جحش كانت تستحاض فكانت تغتسل وتصلي
وكذلك رواه يحيى بن سعيد عن عروة وعمرة عن زينب بنت أبي سلمة (أن أم حبيبة) وذكر الحديث
وقد أسند حديث أم حبيبة هذا - الزهري فرواه عن عروة عن عائشة أن أم حبيبة بنت جحش استحيضت فأمرها رسول الله أن تغتسل لكل صلاة
فإن قيل لم يرفعه إلا محمد بن إسحاق عن الزهري وأما سائر أصحاب الزهري فإنهم يقولون فيه عنه عن عروة عن عائشة أن أم حبيبة بنت جحش استحيضت فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنما هو عرق وليس بالحيضة وأمرها أن تغتسل وتصلي فكانت تغتسل لكل صلاة
قيل لما أمرها رسول الله أن تغتسل لكل صلاة (فهمت عنه فكانت تغتسل لكل صلاة) على أن قوله ((تغتسل وتصلي)) يقتضي ألا تصلي حتى تغتسل
وقد ذكرنا طرق حديث الزهري هذا في ((التمهيد)) واختلاف أصحابه عليه فيه
وقال آخرون يجب عليها أن تغتسل للظهر والعصر غسلا واحدا وللمغرب والعشاء غسلا واحدا وتؤخر الظهر فتصليها في آخر وقتها وتقدم العصر في أول
343

وقتها وكذلك تفعل بالمغرب والعشاء وتغتسل للصبح غسلا واحدا
ورووا بذلك آثارا قد ذكرتها في التمهيد
وروي عن علي وبن عباس أيضا مثل ذلك وقد ذكرت الرواية عنهما في التمهيد وهو قول إبراهيم النخعي وعبد الله بن شداد وفرقة
وقال آخرون تغتسل كل يوم مرة في أي وقت شاءت من النهار
ورواه معقل بن يسار عن علي قال إذا انقضى حيضها اغتسلت كل يوم واتخذت صوفة فيها سمن أو زيت
وقال آخرون تغتسل من طهر إلى طهر
113 - رواه مالك عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن أن القعقاع بن حكيم وزيد بن أسلم أرسلاه إلى سعيد بن المسيب يسأله كيف تغتسل المستحاضة فقال تغتسل من طهر إلى طهر (1) وتتوضأ لكل صلاة فإن غلبها الدم استثفرت (2)
وكان مالك يقول ما أرى الذي حدثني به من طهر إلى طهر إلا قد وهم
قال أبو عمر ليس ذلك بوهم لأنه صحيح عن سعيد معروف عنه من مذهبه في المستحاضة تغتسل كل يوم مرة من طهر إلى طهر
وكذلك رواه بن عيينة عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن قال سألت سعيد بن المسيب عن المستحاضة فقال تغتسل من طهر إلى طهر وتتوضأ لكل صلاة فإن غلبها الدم استثفرت بثوب وصلت
قال سمي فأرسلوني عمن يذكر ذلك فحصبني
وكذلك الثوري عن سمي عن سعيد مثله من طهر إلى طهر
وكذلك رواه وكيع عن سعيد بن أبي عروبة (عن قتادة عن سعيد بن المسيب) مثله من طهر إلى طهر
وهو قول عطاء بن أبي رباح وسالم والحسن البصري
344

وروي مثل ذلك عن بن عمر وأنس بن مالك ورواية عن عائشة
وقد روي عن سعيد بن المسيب في ذلك مثل قول مالك وسائر الفقهاء أنها لا تغتسل إلا من طهر إلى طهر (على) ما وصفنا من انقضاء أيام دمها إذا كانت تميز دم استحاضتها
وعلى هذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة الكوفي وأصحابهم
وروى سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن القعقاع بن حكيم قال سألت سعيد بن المسيب عن المستحاضة فقال ما بقي من الناس أحد أعلم بهذا مني إذا أقبلت الحيضة فلتدع الصلاة وإذا أدبرت الحيضة فلتغتسل وتصلي
وذكره بن أبي شيبة قال حدثنا محمد بن فضيل عن يحيى بن سعيد عن القعقاع بن حكيم قال سألت سعيد بن المسيب عن المستحاضة فقال ما أعلم بهذا مني إذا أقبلت الحيضة فلتدع الصلاة وإذا أدبرت فلتغتسل ولتغسل عنها الدم ولتتوضأ لكل صلاة
قال أبو عمر يحتمل أن تكون هذه الرواية عن سعيد في امرأة ميزت إقبال دم حيضتها وإدباره وإقبال دم استحاضتها تكون رواية مالك عن سمي في امرأة أطبق عليها الدم فلم تميزه والله أعلم
ومن ذكر في هذا الخبر وما كان مثله وتتوضأ لكل صلاة - فقد زاد زيادة صحيحة جاءت بها الآثار المرفوعة وقد ذكرناها في التمهيد
والفقهاء بالحجاز والعراق مجمعون على أن المستحاضة تؤمر بالوضوء لكل صلاة منهم من رأى ذلك عليها واجبا ومنهم من استحبه وقد ذكرنا ذلك والحمد لله
وأما الغسل لكل صلاة فقد مضى القول فيه
114 - مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال ليس على المستحاضة إلا أن تغتسل غسلا واحدا ثم تتوضأ بعد ذلك لكل صلاة
قال مالك الأمر عندنا [في المستحاضة] على حديث هشام بن عروة عن أبيه وهو أحب ما سمعت إلي في ذلك
115 - وأما حديث مالك عن نافع عن سليمان بن يسار عن أم سلمة
345

زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن امرأة كانت تهراق الدماء (1) في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتت لها أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ((لتنظر إلى عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر فإذا خلفت (2) ذلك فلتغتسل ثم لتستثفر (3) بثوب ثم لتصلي
فقد ذكرنا في التمهيد اختلاف الناس في هذا الحديث في إسناد ألفاظه
فمن ذلك أن الليث بن سعد رواه عن نافع فأدخل بين سليمان بن يسار وأم سلمة رجلا لم يسمه
وكذلك رواه أنس بن عياض عن عبد الله بن عمر عن نافع عن سليمان عن رجل من الأنصار عن أم سلمة
وقال فيه أيوب السختياني إن المرأة التي استفتت لها أم سلمة عن استحاضتها هي فاطمة بنت أبي حبيش المذكورة في حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة على ما رواه مالك وغيره عن هشام في هذا الباب
حدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل بن يوسف قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان قال حدثنا سفيان قال حدثنا أيوب السختياني عن سليمان بن يسار أنه سمعه يحدث عن أم سلمة قالت كانت فاطمة بنت أبي حبيش تستحاض فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنه ليس بالحيضة ولكنه عرق وأمرها أن تدع الصلاة قدر إقرائها أو قدر حيضتها ثم تغتسل فإن غلبها الدم استثفرت بثوب وصلت
وقد مضى القول في حديث هشام بن عروة ونذكرها هنا ما يوجب القول في حديث نافع هذا لأنه عندنا حديث آخر
وذلك أن حديث هشام في امرأة عرفت إقبال حيضتها من إدبارها فأجابها رسول الله على ذلك وحديث نافع في امرأة كانت لها أيام معروفة فزادها الدم
346

وأطبق عليها ولم تميز أقبال دم الحيضة من إدباره وانقطاعه وإقبال دم الاستحاضة فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تترك الصلاة قدر أيامها التي كانت تحيضهن من الشهر ثم تغتسل ولم تذكر لها أيضا استطهارا
والقول في الاستطهار هنا كالقول الذي مضى في حديث هشام سواء
وقال أحمد بن حنبل في الحيض ثلاثة أحاديث اثنان ليس في نفسي منهما شيء
أحدهما حديث هشام عن عروة عن أبيه عن عائشة في قصة فاطمة بنت أبي حبيش
والثاني حديث نافع عن سليمان بن يسار عن أم سلمة
وأما الثالث الذي في قلبي منه شيء فحديث حمنة بنت جحش رواه عبد الله بن محمد بن عقيل عن إبراهيم بن محمد بن طلحة عن عمه عمران بن طلحة عن أمه حمنة بنت جحش وقد ذكرناه في التمهيد
فجعل أحمد حديث نافع عن سليمان بن يسار غير حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة
وقال مع أحمد جماعة غيره فلذلك قلنا إنهما حديثان في معنيين مختلفين على ما وصفنا
وأما حديث مالك عن سليمان بن يسار فمعناه عند أهل العلم أنها كانت امرأة لا ينقطع دمها ولا ينفصل ولا ترى منه طهرا وقد زادها - على ذلك - على أيام كانت لها معروفة وتمادى بها فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك لتعلم هل حكم ذلك الدم كحكم دم الحيض إذا كانت عندها وعند غيرها عادة دم الحيض أنه ينقطع فأجابها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرها إذا انقضت أيامها أو عدد أيامها أن تغتسل وتستثفر وتصلي
وأجمع العلماء على أن للدماء الظاهرة من الأرحام ثلاثة أحكام
أحدها دم الحيض يمنع الصلاة وتسقط الصلاة مع وجوده من غير إعادة لها على ما قدمناه عن جماعة العلماء
والثاني دم النفاس عند الولادة وحكمه في الصلاة كحكم دم الحيض بإجماع
وقد اختلف العلماء في مقداره كما اختلفوا في مقدار الحيض وسنبين ذلك كله إن شاء الله
347

والدم الثالث دم ليس بعادة ولا طبع للنساء ولا خلقه معروفه منهن وإنما هو عرق انقطع وسال دمه فهذا حكمه أن تكون المرأة في الأيام التي ينوبها فيها طاهرة ولا يمنعها من صلاة ولا صوم ولا يوقف على دم العرق من غيره إلا بمعرفة ما زاد على هذا الحيض بإجماع أو ما نقص عنه باختلاف
وقد اختلف العلماء في ذلك
فأما فقهاء أهل المدينة فيقولون إن الحيض لا يكون أكثر من خمسة عشر يوما وجائز عندهم أن يكون خمسة عشر يوما فما دون وما زاد على خمسة عشر يوما فلا يكون حيضا وإنما هو استحاضة وهو دم العرق المنقطع
وهذا مذهب مالك وأصحابه في الجملة
وقد روي عن مالك أنه لا وقت لقليل الحيض ولا لكثيره إلا ما يوجد في النساء وأكثر ما بلغه أنه وجد في النساء خمسة عشر يوما
والدفعة عنده من الدم حيض تمنع من الصلاة ولكن الدفعة وما كان مثلها لا تحسب قرءا في العدة
(هذا مذهب) بن القاسم وأكثر المصريين والمدنيين عنه
وقال بن الماجشون عنه أقل الحيض خمسة أيام وأقل الطهر خمسة أيام وهو قول بن الماجشون
قال أبو عمر أما أقل الطهر فقد اضطرب فيه قول مالك وأصحابه
فروى بن القاسم عنه عشرة أيام وروى عنه أيضا [أقل الطهر] ثمانية أيام وهو قول سجنون
وقال عبد الملك بن الماجشون عبد الملك قال أقل الطهر خمسة أيام ورواه عن مالك وإلى هذه الرواية مال بعض البغداديين من المالكيين
وقال محمد بن مسلمة أقل الطهر خمسة عشر يوما وهو اختيار أكثر البغداديين من المالكيين وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما والثوري
وهو الصحيح لأن الله قد جعل عدة ذات الأقراء ثلاثة قروء وجعل عدة من لا تحيض من كبر أو صغر ثلاثة أشهر فكان كل قرء عوضا من شهر والشهر يجمع الطهر والحيض فإذا قل الحيض كثر الطهر وإذا كثر الحيض قل الطهر فلما كان أكثر الحيض خمسة عشر يوما وجب أن يكون أقل الطهر خمسة عشر يوما ليكمل في الشهر الواحد حيض وطهر وهو المتعارف في الأغلب من كثرة النساء وجبلتهن مع دلائل القرآن والسنة على ذلك كما ذكرنا
348

وقال بن أبي عمران عن يحيى بن أكثم أقل الطهر تسعة عشر يوما
واحتج بأن الشهر جعل عدل كل حيضة وطهر في العدة والحيض في العادة أقل من الطهر فلم يجز أن يكون الحيض خمسة عشر يوما ووجب أن يكون عشرة أيام لأن الناس في أكثر الحيض على هذين القولين فلما لم تصح الخمسة عشر لأن العادة في الحيض أن يكون أقل من الطهر صحت العشرة الأيام وإذا صحت العشرة حيضا كان ما بقي طهرا وهو تسعة عشر يوما لأن الشهر قد يكون تسعة وعشرين
وأما اختلافهم مجملا في أقل الحيض وأكثره فكان مالك لا يوقت في قليل الحيض ولا في كثيره
وقال أقله دفقة من دم غير أنها لا تعتد بها من طلاق
ثم قال أكثره الحيض خمسة عشر يوما فيما بلغنا
وقال محمد بن مسلمة أكثره خمسة عشر يوما وأقله ثلاثة أيام
وقال الشافعي أقله يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوما وقد روي عنه مثل قول مالك أن ذلك مردود إلى عرف النساء
وقال الطبري أقله يوم وأكثره خمسة عشر يوما فإن تمادى بها الدم خمسة عشر يوما وزادها قضت صلاة أربعة عشر يوما
وروي عن سعيد بن جبير إذا زاد على ثلاثة عشر يوما فهو استحاضة
وقال أحمد بن حنبل أقصى ما سمعنا سبعة عشر يوما
وكان نساء الماجشون يحضن سبعة عشر يوما
وبه قال بن نافع صاحب مالك
وقال أبو ثور مثل قول الشافعي أقله يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوما
وبه قال أحمد بن حنبل وهو قول عطاء بن أبي رباح
وقال الأوزاعي أقل الحيض يوم
قال وعندنا امرأة تحيض غدوة وتطهر عشية
وقال أبو حنيفة وأصحابه أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة أيام
قال أبو عمر ما نقص عند هؤلاء عن ثلاثة أيام فهو استحاضة لا يمنع من الصلاة إلا عند ظهوره لأنه لا يعلم مبلغ مدته
349

ثم على المرأة قضاء صلاة تلك الأوقات إن كانت أقل من ثلاثة أيام وكذلك ما زاد على عشرة أيام عند الكوفيين وعند الحجازيين على خمسة عشر يوما فهو استحاضة على ما قدمنا
وأما الشافعي والأوزاعي فما كان أقل من يوم أو يوم وليلة فهو استحاضة وهو قول الطبري
واعتبروا في أقل الطهر ما ذكرنا عنهم خمسة عشر يوما فجعلوا ما دونها كدم متصل
وعند محمد بن مسلمة في هذا شيء من خلاف ليس بنا حاجة إلى ذكره
فهذه أصولهم فقف عليها في مقدار الطهر والحيض فلا غنى عنها في المسألة الواردة في الحيضة المنقطعة وفي العدة فمن قاد أصله فيها كان أسعد بالصواب
والمسألة امرأة حاضت يوما أو يومين ثم طهرت يوما أو يومين فتمادى بها الأمر أياما
فأما مالك وأصحابه فقالوا تجمع أيام الدم بعضها إلى بعض وتلغي أيام الطهر وتغتسل عند كل يوم ترى فيه الطهر أول ما تراه وتصلي ما دامت طاهرة وتكف عن الصلاة في أيام الدم وتحصي ذلك فإذا اجتمع لها من الدم خمسة عشر يوما اغتسلت وصلت وعلمنا أنها حيضة انقطعت وإن زادت على خمسة عشر يوما فهي مستحاضة
هذه رواية أهل المدينة عن مالك وهو قول الشافعي في رواية الربيع وغيره عنه
وقال الطحاوي قد أجمعوا أنه لو انقطع ساعة أو نحوها - أنه كدم متصل فكذلك اليوم واليومان لأنه لا يعتد به من طلاق وليس الثلاث عنده كاليومين وهو قول محمد بن مسلمة
وروى بن القاسم والمصريون عنه أنها تضم أيام الدم بعضها إلى بعض فإن دام ذلك بها أيام عادتها استطهرت بثلاثة أيام على أيام حيضتها وإن رأت في أيام الاستطهار طهرا ألغته أيضا حتى تحصل لها ثلاثة أيام من الدم للاستطهار وتصلي وتصوم ويأتيها زوجها وتكون ما جمعته من الدم حيضة واحدة ولا تعتد بشيء من أيام الطهر في عدة من طلاق وتغتسل كل يوم من أيام طهرها عند انقطاع الدم لأنها لا تدري لعل الدم لا يرجع إليها
وقال محمد بن مسلمة إذا كان طهرها يوما وحيضتها يوما فطهرها أقل الطهر وحيضتها أقل الحيض ولكنه يقطع طهرها وحيضها فكأنها قد حاضت
350

خمسة عشر يوما متوالية وطهرت خمسة عشر يوما متوالية فحال الحيضة لا يضرها واجتماع الأيام وافتراقها سواء ولا تكون هذه مستحاضة
فقال محمد بن مسلمة في هذه المسألة بتلفيق الطهر إلى الطهر ولم يقله غيره
وسائر أصحاب مالك إنما يقولون بتلفيق الدم إلى الدم فقط
وقال أبو الفرج ليس بنكير أن تحيض يوما وتطهر يوما وتنقطع الحيضة عليها كما لا ينكر أن يتأخر حيضها عن وقته لأن تأخر بعضه عن اتصاله كتأخره كله فمن أجل ذلك كانت عندنا بالقليل حائضا ولم يكن القليل حيضة لأن الحيضة لا تكون إلا بأن يمضي لها وقت حيض تام وطهر تام أقله فيما روي عن عبد الملك خمسة أيام
قال ولو أن قلة الدم تخرجه من أن تكون (حيضا لأخرجت من أن تكون دم استحاضة لأن دم العرق هو) استحاضة دون دم العرق الكثير الزائد على ما يعرف
قال أبو عمر راعى عبد الملك وأحمد بن المعذل في هذه المسألة ما أصلاه في [أن] أقل الطهر خمسة أيام
وراعى محمد بن مسلمة خمسة عشر يوما
وجعل كل واحد منهم ما يأتي من الدم قبل تمام الطهر مضافا إلى الدم الأول إلا أن يكون بعد تمام مدة أكثر الحيض فيكون حينئذ عرقا ولا تترك فيه الصلاة
وكذلك يلزم كل من أصل في أقل الطهر وأقل الحيض أصلا بعدة معلومة أن يكون ما خرج عنها في النقصان والزيادة استحاضة
وقد جعل بن مسلمة أقل الحيض ثلاثة أيام وهو قول الكوفيين في أقل الحيض فيجب أن يكون ما دونه عنده دم عرق واستحاضة
وأما مذهب بن القاسم وروايته وغيره من المصريين عن مالك فعلى ما احتج له أبو الفرج لأنه جعل اليسير حيضا يمنع من الصلاة ولم يجعله حيضة يعتد بها من طلاق وهو المشهور من أصل قول مالك
وغيره يقول ما لا يعتد به من عدة الطلاق فليس بحيض وإنما هو استحاضة لا يمنع من الصلاة
وقد احتج أصحابنا عليهم في غير موضع والكلام في الحيض والاستحاضة ومقدار الحيض والنفاس بين المختلفين كثير جدا طويل
وقد ذكرنا مذاهبهم وأصول أقوالهم وأضربنا عن الاعتلال لهم بما ذكروه لأنفسهم لما فيه من التطويل والتشغيب ولأن الحيض ومقداره والنفاس ومدته
351

مأخوذ أصلهما من العادة والعرف والآراء والاجتهاد فلذلك كثر بينهم فيه الاختلاف والتشغيب وفيما لوحنا به ما يبين لك المراد منه إن شاء الله
وقد أوضحنا القول وبسطناه في حكم الحيض والاستحاضة ومهدناه في باب نافع وباب هشام بن عروة من التمهيد والحمد لله
قال أبو عمر وأما مسألة تقطع الطهر والحيض فهي لمن تدبرها ناقضة لما أصلوه في أقل الحيض والطهر وأكثرهما فتدبرها تجدها كذلك إن شاء الله
وأما قوله إن المستحاضة إذا صلت آن لزوجها أن يصيبها وكذلك النفساء إذا بلغت أقصى ما يمسك النساء الدم فإن رأت الدم بعد ذلك فإنه يصيبها زوجها لأنها بمنزلة المتسحاضة
قال أبو عمر أما وطء المستحاضة فمختلف فيه بالمدينة وغيرها
ذكر عبد الرزاق عن معمر عن أيوب قال سئل سليمان بن يسار أيصيب المستحاضة زوجها فقال إنما سمعت بالرخصة في الصلاة
قال معمر وسألت الزهري أيصيب المستحاضة زوجها قال إنما سمعنا بالصلاة
وعن الثوري عن منصور قال لا تصوم ولا يأتيها زوجها ولا تمس المصحف
وروي عن عائشة أنه لا يأتيها زوجها وبه قال بن علية
وذكر عن شريك عن منصور عن إبراهيم قال المستحاضة تصوم وتصلي ولا يأتيها زوجها
وعن حماد بن زيد عن حفص بن سليمان عن الحسن مثله
وعن عبد الواحد بن سالم عن حريث عن الشعبي مثله وهو قول الحكم وبن سيرين
وحجة من ذهب هذا المذهب أن الله تعالى قد سمى الحيض أذى وأمر باعتزال النساء من أجله وهو دم خارج من الفرج وأجمعوا على نجاسته وغسل الثوب منه فكل دم يجب غسله ويحكم بنجاسته - فحكمه حكم دم الحيض في تحريم الوطء إذا وجد في موضع الوطء
وذكر إسماعيل بن إسحاق قال أخبرنا مصعب قال سمعت المغيرة بن عبد الرحمن - وكان من أعلى أصحاب مالك - يقول قولنا في المستحاضة - إذا استمر بها الدم بعد انقضاء أيام حيضتها - أنا لا ندري هل ذلك انتقال من دم حيضها إلى أيام
352

أكثر منها أم ذلك استحاضة فنأمرها أن تغتسل إذا مضت أيام حيضها وتصلي وتصوم ولا يغشاها زوجها احتياطا حتى ينظر إلى ما يصير إليه حالها بعد ذلك فإن كانت حيضتها انتقلت من أيام إلى أكثر منها - عملت فيما تستقبل على الأيام التي انتقلت إليها ولم يضرها ما كانت احتاطت من الصلاة والصيام وإن كان ذلك الدم الذي استمر بها استحاضة كانت قد احتاطت للصلاة والصوم
قال أبو مصعب هذا قولنا وبه نقضي
وقال جمهور الفقهاء المستحاضة تصوم وتصلي وتطوف بالبيت وتقرأ القرآن ويأتيها زوجها
وممن روي عنه إجازة وطء المستحاضة عبد الله بن عباس وسعيد بن المسيب والحسن - على اختلاف عنه وسعيد بن جبير وعكرمة وعطاء بن أبي رباح
وهو قول عطاء والليث بن سعد والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما والثوري والأوزاعي وإسحاق وأبي ثور
وكان أحمد بن حنبل يقول أحب إلي ألا يطأها إلا أن يطول ذلك
وذكر بن المبارك عن الأجلح عن عكرمة عن بن عباس قال في المستحاضة لا بأس أن يجامعها زوجها
وذكر عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن شروس أنه سمع من عكرمة مثله وزاد وإن سال الدم على عقبيها
وعبد الرزاق عن الثوري عن سمي عن بن المسيب وعن الثوري عن يونس عن الحسن قال في المستحاضة تصوم وتصلي ويجامعها زوجها
وعن الثوري عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير أنه سأله عن المستحاضة أتجامع فقال الصلاة أعظم من الجماع
وذكر بن وهب عن عمرو بن الحارث عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه قال المستحاضة تصوم وتصلي ويطؤها زوجها
قال بن وهب وقال مالك أمر أهل الفقه والعلم على ذلك وإن كان دمها كثيرا
وقال مالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إنما ذلك عرق وليس بالحيضة)) فإذا لم تكن حيضة فما يمنعه أن يصيبها وهي تصلي وتصوم
قال أبو عمر حكم الله تعالى في دم الاستحاضة أنه لا يمنع الصلاة وتعبد فيه
353

بعبادة غير عبادة الحيض لذلك وجب ألا يحكم له بحكم الحيض إلا أن يجمعوا على شيء فيكون موقوفا على ذلك وإنما أجمعوا على غسله كسائر الدماء
وأما قول مالك وكذلك النفساء إذا بلغت أقصى ما يمسك النساء الدم فإن العلماء قد اختلفوا قديما وحديثا في مدة دم النفاس الممسك للنساء عن الصلاة والصوم فكان مالك يقول أقصى ذلك شهران ثم رجع فقال يسأل عن ذلك النساء
وأصحابه على أن أقصى مدة النفاس شهران ستون يوما وبه قال عبيد الله بن الحسن وهو قول الشافعي وأبي ثور
وقال الأوزاعي تجلس كامرأة من نسائها فإن لم يكن لها نساء كأمهاتها وأخواتها فأربعون يوما
وروي ذلك عن عطاء وقتادة على اختلاف عن عطاء
وقال أكثر أهل العلم أقصى مدة النفاس أربعون يوما وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس وعثمان بن أبي العاصي وأنس بن مالك وعائذ بن عمر والمزني وأم سلمة زوج النبي عليه السلام
وهؤلاء كلهم صحابة لا مخالف لهم فيه وبه قال سفيان الثوري والليث بن سعد وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد القاسم بن سلام وداود
وقد حكي عن الليث بن سعد أن من الناس من يقول [سبعون] يوما
وروي عن الحسن أنه قال لا يكاد النفاس يجاوز أربعين يوما فإن جاوز خمسين يوما فهي مستحاضة
وحكى الأوزاعي عن أهل دمشق أن أجل النفاس من الغلام ثلاثون يوما ومن الجارية أربعون يوما
وروي عن الضحاك قول شاذ أيضا أن النفساء تنتظر سبع ليال وأربع عشرة ليلة ثم تغتسل وتصلي وهذا لا وجه له
وأما أقل النفاس فقال مالك إذا ولدت المرأة ولم تر دما اغتسلت وصلت
وهو قول الأوزاعي والشافعي وأبي عبيد ومحمد بن الحسن وأبي ثور
ولم يحد الثوري وأحمد وإسحاق في أقل النفاس حدا
وروي عن الحسن البصري عشرين يوما وعن أبي حنيفة خمسة وعشرين يوما وعن أبي يوسف أحد عشر يوما
354

قال أبو عمر التحديد في ضعيف لأنه لا يصح إلا بتوقيف وليس في مسألة أكثر النفاس موضع للاتباع والتقليد إلا من قال بالأربعين فإنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مخالف لهم منهم وسائر الأقوال جاءت عن غيرهم ولا يجوز عندنا الخلاف عليهم بغيرهم لأن إجماع الصحابة حجة على من بعدهم والنفس تسكن إليهم فأين المهرب عنهم دون سنة ولا أصل وبالله التوفيق
((28 - باب ما جاء في بول الصبي))
116 - مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبي فبال على ثوبه فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فأتبعه إياه (1)
117 - مالك عن بن شهاب عن عبيد بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أم قيس بنت محصن أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلسه في حجره (2) فبال على ثوبه فدعا رسول الله بماء فنضحه (3) ولم يغسله (4)
قوله في هذا الحديث ((ولم يغسله)) يريد ولم يفركه ويقرصه بالماء
وقال بعض شيوخنا قوله في هذا الحديث ((ولم يغسله)) ليس في الحديث وزعم أن آخر الحديث ((فنضحه))
ولا يتبين عندي ما قاله لصحة رواية مالك هذه وقد قال فيها ولم يغسله نسقا واحدا
355

وكذلك رواية بن جريج عن بن شهاب في هذا الحديث قال فيه ((ولم يغسله)) كما قال مالك
ورواه عبد الرزاق عن بن عيينة وبن جريج كذلك أيضا
وذكره بن أبي شيبة عن بن عيينة عن الزهري بإسناده قال فيه ((فدعا بماء فرشه ولم يزد))
وقال فيه معمر ((فنضحه ولم يزد))
وهذان الحديثان معناهما واحد وهو صب الماء على البول لأن قوله في حديث هشام ((فأتبعه إياه)) وقوله في حديث بن شهاب ((فنضحه)) سواء
والنضح في هذا الموضع صب الماء وهو معروف في اللسان العربي بدليل قوله عليه السلام ((إني لأعرف قرية ينضح البحر بناحيتها - أو قال بحائطها أو سورها - لو جاءهم رسولي ما رموه بسهم ولا حجر))
وفي حديث آخر ((إني لأعلم أرضا يقال لها عمان ينضح بناحيتها البحر بها حي من المغرب لو أتاهم رسولي ما رموه بسهم ولا حجر)) (1)
وقد يكون النضح أيضا في اللسان العربي الرش
هذا وذاك معروفان في اللسان ففي هذين الحديثين ما يدل على صب الماء على بول الصبي من غير عرك ولا فرك وقد يسمى الصب غسلا بدليل قول العرب غسلتني السماء
وقد أمر - عليه السلام - بصب الذنوب من الماء على بول الأعرابي (2) فدل على أن كل ما يزيل النجاسة ويذهبها - فقد طهر موضعها بعرك وبغير عرك لأن الماء إذا غلب على النجاسة ولم يظهر منها فيه شيء وغمرها طهرها وكان الحكم له لا لها
وقد مضى هذا المعنى محررا فبما تقدم من كتابنا هذا والحمد لله
وقد أجمع المسلمون على أن بول كل صبي يأكل الطعام ولا يرضع نجس كبول أبيه واختلفوا في بول الصبي والصبية إذا كانا يرضعان لا يأكلان الطعام
فقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما بول الصبي والصبية كبول الرجل مرضعين كانا أو غير مرضعين
356

وقال الأوزاعي لا بأس ببول الصبي ما دام يشرب اللبن ولا يأكل الطعام وهو قول عبد الله بن وهب صاحب مالك
وقال الشافعي بول الصبي الذي لم يأكل الطعام ليس بنجس حتى يأكل الطعام ولا يتبين لي فرق ما بين الصبية وبينه ولو غسل كان أحب إلي
وقال الطبري بول الصبية يغسل غسلا وبول الصبي يتبع ماء وهو قول الحسن البصري
وذكر عبد الرزاق عن معمر وبن جريج عن بن شهاب قال مضت السنة بأن يرش بول الصبي ويغسل بول الجارية
ولفظ بن جريج مكان يرش ينضح
وذكر بن أبي شيبة عن محمد بن بكر عن جريج عن بن شهاب قال مضت السنة بأن يرش بول من لم يأكل الطعام [ومضت السنة بغسل بول من أكل الطعام] من الصبيان ولم يفرق بين الغلام والجارية في هذه الرواية
قال أبو عمر هذا أصح ما قيل في هذا الباب على معنى ما فيه من الآثار الصحاح
وتفسير ذلك ما رواه الحسن البصري عن أمه عن أم سلمة قالت بول الغلام يصب عليه الماء صبا وبول الجارية يغسل طعمت أو لم تطعم
وعن عائشة مثله
وكان الحسن يفتي به لصحته عنده
وروى حميد الطويل عن الحسن أنه قال في بول الصبية يغسل غسلا وبول الصبي يتبع بالماء
وهذا أولى ما قيل به في هذا الباب والله الموفق
وقد روى قتادة عن أبي حرب بن أبي الأسود عن أبيه عن علي عن النبي - عليه السلام - أنه قال ((يغسل بول الجارية وينضح على بول الغلام)) (1)
قال قتادة ما لم يطعما الطعام فإذا طعما الطعام غسلا
357

وقد أجمع المسلمون أنه [لا فرق بين بول الرجل والمرأة ففي القياس كذلك] بول الغلام والجارية
وقد رويت بالتفرقة بينهما في أن بول الصبي لا يغسل وبول الجارية يغسل - آثار ليست بالقوية قد ذكرتها في التمهيد
وعلى ما اخترنا في هذا تتفق معاني الآثار ولا تختلف وهو الذي عليه المدار والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل
((29 - باب ما جاء في البول قائما وغيره))
118 - مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال دخل أعرابي المسجد فكشف عن فرجه ليبول فصاح الناس به حتى علا الصوت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((اتركوه فتركوه فبال ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء (1) فصب على ذلك المكان
119 - وعن عبد الله بن دينار أنه قال رأيت عبد الله بن عمر يبول قائما
لم يذكر مالك في حديثه عن يحيى بن سعيد أن الأعرابي بال قائما وترجم الباب في البول قائما
وهذا الحديث رواه يحيى بن سعيد عن أنس سمعه منه عن النبي عليه السلام
كذلك رواه يزيد بن هارون وعبد الله بن المبارك وعبدة بن سليمان عن يحيى بن سعيد قال سمعت أنس بن مالك يحدث بذلك
وقد رواه عن أنس أيضا ثابت البناني وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة وقد ذكرنا طرقه في التمهيد
حدثنا أحمد بن قاسم قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا يحيى بن سعيد قال سمعت
358

أنس بن مالك يقول ((دخل أعرابي المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيه فأتى النبي - عليه السلام - فقضى حاجته فلما قام بال في ناحية المسجد فصاح به الناس فكفهم رسول الله حتى فرغ من بوله ثم دعا بدلو من ماء فصبه على بول الأعرابي)) (1)
وقد رواه أبو هريرة عن النبي - عليه السلام - كما رواه أنس من حديث بن شهاب عن سعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة
وهو حديث ثابت لا مطعن فيه لأحد ولا يختلف أهل الحديث في صحة إسناده وقد ذكرته في التمهيد
وفيه من الفقه أن الماء إذا غلب على النجاسة ولم يظهر فيه شيء منها فقد طهرها وأنها لا تضره ممازجته لها إذا غلب عليها وسواء كان قليلا أو كثيرا وقد جعله الله تعالى طهورا وأنزله علينا ليطهرنا به
وقال رسول الله - عليه السلام - ((الماء لا ينجسه شيء)) (2) يعني إلا ما غلب عليه من النجاسة فغيره
ومعلوم أنه لا يطهر نجاسة حتى يمازجها فإن غلب عليها ولم يظهر فيه شيء منها فالحكم له وإن غلبته النجاسة فالحكم لها إذا ظهر في الماء شيء منها
هذا ما يوجبه ظاهر هذا الحديث وهو [من] أصح ما يروى في الماء عن النبي - عليه السلام -
وإلى هذا المذهب ذهب جمهور أهل المدينة منهم سعيد بن المسيب وسالم والقاسم وبن شهاب وربيعة وأبو الزناد
وهو قول مالك في رواية أهل المدينة عنه وقول أصحابه المدنيين
وقد ذكرنا ما لابن القاسم وغيره من المصريين عن مالك في ذلك وما لسائر العلماء في الماء من المذاهب فيما تقدم والحمد لله
وحديث هذا الباب لا يقدر أصحاب الشافعي ولا أصحاب أبي حنيفة على دفعه وهو ينقض ما أصلوه في الماء إلا أن أصحاب الشافعي فزعوا - لما لزمتهم الحجة به - إلى التفرقة بين ورود الماء على النجاسة وورودها عليه فراعوا في ورودها عليه مقدار القلتين وهو عندهم خمسمائة رطل ولم يراعوا في وروده عليها ذلك المقدار لحديث أسماء في غسل ثوبها من دم الحيض وحديث أبي هريرة في غسل اليد قبل إدخالها في الإناء ونحوهما
359

وقد مضى القول عليهم في ذلك فيما تقدم من هذا الكتاب والله الموفق للصواب
ومن حجتهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم نهى عن البول في الماء الدائم وأمر بصب الماء على بول الأعرابي ونهى أن يدخل [من يستيقظ من نومه] يده في الإناء
ومعلوم أن غسلها من ماء الإناء مخالط لما في اليد من النجاسة
وهذا وما كان مثله كثير دلل على الفرق بين ورود النجاسة على الماء وبين وروده عليها
وقد فرق المسلمون كافة بين غسل النجاسات من الثياب والأبدان وغيرها فلم يراعوا في ذلك مقدارا وبين ورود النجاسات من العذرات والميتات في الآبار والأواني والغدر الصغار
قالوا فدل ذلك على ما ذكرنا من الاعتبار
وأما مذهب جمهور أهل المدينة - وهو قول أهل البصرة وغيرهم - فإنهم لا يعتبرون في قليل الماء ولا كثيره إلا ما غيره
وقد مضى القول في ذلك واضحا والحمد لله
ذكر بن أبي شيبة حدثنا إسماعيل بن علية عن داود بن أبي هند قال سألت سعيد بن المسيب عن الحياض والغدر يلغ فيها الكلاب فقال أنزل الله الماء طهورا فلا ينجسه شيء
وعن القاسم والحسن وعكرمة مثله
وأما البول قائما فليس فيه عند مالك حديث مسند وله فيه عن بن عمر ما ذكره
وقد اختلف في البول قائما فأرفع ما في ذلك ما حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا محمد قال حدثنا أبو بكر حدثنا وكيع حدثنا الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال عليها قائما (1)
وذكر أبو بكر عن بن إدريس عن الأعمش وحميد عن أبي ظبيان قال رأيت عليا بال قائما
360

وذكرنا الأسانيد عن أبي هريرة وبن عمر وسعد بن عبادة وزيد بن ثابت وسعيد بن المسيب والشعبي ومحمد بن سيرين وعروة بن الزبير ويزيد بن الأصم والحكم - أنهم بالوا قياما
ثم ذكرنا في باب من كره البول قائما - إنكار عائشة أن يكون رسول الله بال قائما
وعن عمر قال ما بلت قائما منذ أسلمت
وعن بن مسعود وبن بريدة والشعبي أنهم قالوا من الجفاء أن يبول قائما
وعن الحسن أنه كره البول قائما
وعن مجاهد قال ما بال رسول الله قائما إلا مرة في كثيب أعجبه
قال أبو عمر من أجاز البول قائما فإنما أجازه خوف ما يحدثه البائل جالسا في الأغلب من الصوت الخارج عنه إذا لم يمكنه التباعد عمن يسمعه
ويحتاج مع ذلك أن يرتاد لبوله موضعا دمثا لئلا يطير إليه شيء من بوله
فهذا وجه البول قائما
وبنحو هذا قال عمر بن الخطاب ((البول قائما أحصر للدبر))
وقد جاء عن النبي عليه السلام أنه كان إذا بال قائما لم يبعد عن الناس ولا أبعدهم عن نفسه بل أمر حذيفة بالقرب منه إذ بال قائما
وروى أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق سفيان عن حذيفة قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتهى إلى سباطة قوم (1) فبال قائما فتنحيت فقال ((ادن)) فدنوت حتى قمت عند عقبيه
وروي عنه من مراسيل عطاء وعبيد بن عمير أنه بال جالسا فدنا منه رجل فقال ((تنح فإن كل بائلة تفيخ ويروى ((تفيش))
وقال إسحاق بن راهويه لا ينبغي لأحد أن يتقرب من الرجل وهو يتغوط أو يبول جالسا لقول النبي عليه السلام تنح)) وروي عن النبي عليه السلام من حديث المغيرة بن شعبة أنه كان إذا تبرز تباعد
وبعضهم يقول فيه إذا ذهب أبعد في المذهب
وفي حديث جابر حتى لا يراه أحد
وفي حديث يعلى بن مرة استبعد وتوارى
361

وروى عبد الرحمن بن أبي قراد أنه سمع - عن النبي عليه السلام مثله
وروي عنه عليه السلام من حديث أبي موسى أنه قال ((إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله)) (1)
يعني موضعا دمثا أو ذا صبب ونحوه مما يكون أنزه له من الأذى
وأما قول مالك أنه سئل عن غسل الفرج من البول والغائط هل جاء فيه أثر فقال بلغني أن بعض من مضى كانوا يتوضؤون من الغائط وأنا أحب غسل الفرج من البول فإنه عنى بقوله - والله أعلم - أن بعض من مضى كانوا يتوضؤون من البول وهو عمر بن الخطاب لأن من روايته أنه كان يتوضأ بالماء وضوءا لما تحت إزاره
وقد مضى في كتابنا هذا في قصة أهل قباء وسائر الأمصار أنهم كانوا يتوضؤون من الغائط والبول بالماء ما يكفي
وقد مضى في حديث المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستنجي بالماء من وجوه شتى
ولا خلاف بين العلماء في جواز الاستنجاء من الغائط بالماء فلا معنى للكلام في ذلك
((30 - باب ما جاء في السواك))
120 - مالك عن بن شهاب عن بن السباق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في جمعة من الجمع ((يا معشر المسلمين إن هذا يوم جعله الله عيدا فاغتسلوا ومن كان عنده طيب فلا يضره أن يمس منه وعليكم بالسواك))
121 - وعن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك
362

122 - وعن بن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة أنه قال لولا أن يشق على أمته لأمرهم بالسواك مع كل وضوء
قال أبو عمر قول أبي هريرة في رواية عبد الرحمن عنه لولا أن يشق على أمته
تفسيره ما رواه الأعرج وغيره عنه بأن ذلك إنما علمه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لروايته له عنه عليه السلام
والأحاديث عن النبي - عليه السلام - أنه قال ((لولا أن أشق على أمتي)) كثيرا جدا
منهم من يقول فيها ((مع كل وضوء))
ومنهم من يقول فيها ((مع كل صلاة))
وقد ذكرنا كثيرا منها في التمهيد وذكرنا هناك الاختلاف عن بن شهاب في إسناد حديثه الأول في هذا الباب عن بن السباق عن النبي عليه السلام قوله ((يا معشر المسلمين)) الحديث
وأما قوله فاغتسلوا ففيه الأمر بالغسل للجمعة وذلك عندنا محمول على الندب والفضل بدليل قول عائشة ((كان الناس عمال أنفسهم وكانوا يشهدون الجمعة بهيئاتهم فقيل لهم لو اغتسلتم لئلا يؤذي بعضهم بعضا بريحه)) وأمروا مع ذلك بأخذ الطيب والمس منه لمن قدر عليه
وروى الشافعي وغيره عن (سفيان بن عيينة عن يحيى) بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة قالت ((كان الناس عمال أنفسهم فكانوا يروحون بهيئاتهم يوم الجمعة فقيل لهم لو اغتسلتم))
وروى سفيان بن عيينة أيضا عن عمرو بن دينار عن الزهري قال جاء عثمان بن عفان وعمر يخطب يوم الجمعة فقال عمر ما بال رجال يستأخرون إلى هذه الساعة فقال عثمان ما كان إلا الوضوء فقال عمر الوضوء أيضا))
وفي حديث عمر بن الخطاب حين قال له عثمان يوم الجمعة ما زدت أن سمعت النداء على أن توضأت فقال عمر الوضوء أيضا وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم كان يأمر بالغسل ولم يأمره بالانصراف للغسل ولا بإعادة الصلاة ولا قال له
363

إن الصلاة في الجمعة لا تجزيك بغير غسل ولا رأى ذلك عثمان واجبا عليه دليل واضح على أن غسل الجمعة ليس من فرائض الجمعة
وسيأتي حديث عمر هذا من رواية مالك في غسل الجمعة إن شاء الله
وأبين من هذا في هذا المعنى حديث سمرة وحديث أبي سعيد الخدري كلاهما عن النبي - عليه السلام - أنه قال ((من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل))
وقد ذكرنا حديث أبي سعيد وحديث سمرة بن جندب كلاهما عن النبي عليه السلام بأسانيدهما وذكرنا من روى من الصحابة مثل حديثهما بإسناده أيضا في التمهيد والحمد لله
فبان بذلك أن الغسل لصلاة الجمعة سنة وفضيلة لا فريضة
وأبو سعيد هذا الذي روى عن النبي - عليه السلام ((غسل الجمعة واجب على كل محتلم)) (1) قد روى [((ومن اغتسل] فالغسل أفضل))
وهذا كله يدل على أن أمره بالاغتسال للجمعة ندب وفضل وسنة لا واجب فرضا
وسيأتي هذا المعنى واضحا أيضا في باب غسل الجمعة إن شاء الله
وفي هذا الحديث أيضا الغسل للعيدين لقوله عليه السلام ((إن هذا يوم جعله الله عيدا فاغتسلوا))
والقول في غسل العيدين كالقول في غسل الجمعة إلا أن غسل الجمعة عند بعض أهل العلم آكد في السنة
وفيه أخذ الطيب ومسه لمن قدر عليه يوم الجمعة وفي العيدين
وذلك مندوب إليه حسن مرغب فيه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف خروجه برائحة الطيب إذا خرج إلى الصلاة وإذا مشى
وقد قيل إن رائحته كانت تلك بلا طيب صلى الله عليه وسلم
وذكر ذلك إسحاق بن راهويه وقد قال عليه السلام - ((لا تردوا الطيب فإن طيب الريح خفيف المحمل
364

وقد قال عليه السلام ((حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة))
وقد كان أبو هريرة يوجب الطيب وجوب سنة وأدب والله أعلم
وحدثنا سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس قال سمعت أبا هريرة يوجب الطيب يوم الجمعة فسألت بن عباس عنه فقال لا أعلمه
قال سفيان وأخبرني بن جريج عن عطاء عن بن عباس قال من أتى الجمعة فليمس طيبا إن كان لأهله غير مؤثم من تركه
قال أبو عمر إن كان أبو هريرة يوجب الغسل ويوجب الطيب ما كان في قوله حجة إذ كان الجمهور يخالفونه فيما تأول من ذلك
وروى الوليد بن مسلم عن موسى بن صهيب قال كانوا يقولون الطيب يغني من الغسل يوم الجمعة
وفيه الترغيب في السواك
والآثار في السواك كثيرة جدا
وكان سواك القوم الأراك والبشام وكل ما يجلو الأسنان ولا يؤذيها ويطيب نكهة الفم فجائز الاستنان به
وقال بن عباس ((ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالسواك حتى ظننا أنه سينزل عليه فيه))
وقالت عائشة ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل علي أول ما يبدأ بالسواك)) (1)
وسمعته يقول ((السواك مطهرة للفم مرضاة للرب)) (2)
وكان ربما استاك في الليلة مرارا
والعلماء كلهم يندبون إليه ويستحبونه ويحثون عليه وليس بواجب عندهم
قال الشافعي لو كان واجبا لأمرهم به شق أو لم يشق
وهذا الحديث يحمله أهل العلم على أن ذلك كان منه - عليه السلام - وهو يخطب على المنبر
365

وإذا كان ذلك كذلك كان فيه دليل على أن للخطيب أن يأتي في خطبته بكل ما يحتاج إليه في فصول الأعياد وفضل رمضان والترغيب في صيامه وقيامه وما كان مثل ذلك مما بالناس من حاجة إلى معرفته
وفيه دليل على أن من حلف أن يوم الجمعة يوم عيد فقد بر ولم يحنث
وقد ذكرنا في التمهيد حديث سليمان بن بلال عن عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن بن عباس قال الغسل يوم الجمعة ليس بواجب ومن اغتسل فهو خير وأطهر
ثم قال إن الناس كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسون الصوف وكان المسجد ضيقا متقارب السقف فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة في يوم صائف شديد الحر ومنبره صغير إنما هو ثلاث درجات فخطب الناس فعرقوا في الصوف فصار يؤذي بعضهم بعضا حتى بلغت أرواحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر فقال ((يا أيها الناس إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا وليمس أحدكم أطيب ما يجد من طيبه أو دهنه
366

((3 كتاب الصلاة))
((1 - باب (ما جاء) في النداء للصلاة))
123 - مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أراد أن يتخذ خشبتين (1) يضرب بهما ليجتمع الناس للصلاة فأري عبد الله بن زيد الأنصاري ثم من بني الحارث بن الخزرج خشبتين في النوم فقال إن هاتين لنحو مما يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل ألا تؤذنون للصلاة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استيقظ فذكر له ذلك فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأذان
قال أبو عمر روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة عبد الله بن زيد ورؤياه في بدء الأذان - جماعة من الصحابة بألفاظ مختلفة ومعان متقاربة قد ذكرت منها في التمهيد ما فيه بلاغ وشفاء
على أنا لم نقتصر منها إلا على أحسنها وهي متواترة الطرق من نقل أهل المدينة وأهل الكوفة
ولا أعلم فيها ذكر الخشبتين إلا في مرسل يحيى بن سعيد هذا
وفي حديث أبي جابر البياضي عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن زيد ذكره عبد الرزاق عن إبراهيم بن أبي يحيى عن أبي جابر البياضي وإبراهيم وأبو جابر متروكان
وأما سائر الآثار فإنما فيها أنه أراد أن يتخذ بوقا كبوق اليهود وفي بعضها
367

شبور (1) كشبور النصارى وفي أكثرها الناقوس كناقوس النصارى حتى رأى عبد الله بن زيد رؤياه في الأذان ورأى عمر بن الخطاب مثل ذلك فلما حكى عبد الله بن زيد لرسول الله الأذان الذي علمه في المنام قال له ((ألقه على بلال فإنه أندى منك صوتا)) (2)
وقد ذكرنا الآثار بذلك كله في التمهيد
وفي ذلك أوضح الدلائل على أن الرؤيا من الوحي والنبوة وحسبك بذلك فضلا لها وشرفا ولو لم تكن من الوحي ما جعلها - عليه السلام - شرعة ومنهاجا لدينه والله أعلم
والآثار المروية في الأذان وإن اختلفت الألفاظ فيها فهي متفقة كلها في أن أصل أمره وبدء شأنه كان عن رؤيا عبد الله بن زيد
وقد رآه عمر أيضا
وأجمع المسلمون على أن رسول الله - عليه السلام - أذن له بالصلاة حياته كلها في كل مكتوبة وأنه ندب المسلمين إلى الأذان وسنة لهم
وقد اختلف العلماء في وجوبه على الجماعات والمنفردين على حسب ما نذكره في هذا الباب وفيما بعده من هذا الكتاب والأحاديث عن أبي محذورة في الأذان أيضا مختلفة في التكبير في أوله وفي الترجيع
وعلى حسب اختلاف الروايات في ذلك عن بلال وأبي محذورة - اختلف الفقهاء واختلف كل فريق منهم ببلده أيضا إلا أن الأذان مما يصح الاحتجاج [فيه] بالعمل المتواتر في ذلك في كل بلد ولذلك قال الجلة من المتأخرين بالتخيير والإباحة في كل وجه نقل منه
وأما اختلاف أئمة الأمصار في كيفية الأذان والإقامة فذهب مالك والشافعي وأصحابهما إلى أن الأذان مثنى مثنى والإقامة مرة مرة
إلا أن الشافعي يقول في أول التكبير الله أكبر أربع مرات وذلك محفوظ من رواية الثقات في حديث أبي محذورة وفي حديث عبد الله بن زيد قال وهي زيادة يجب قبولها
368

وزعم الشافعي أن أذان أهل مكة لم يزل في آل أبي محذورة كذلك إلى وقته وعصره
قال أصحابه وكذلك هو حتى الآن عندهم
وذهب مالك وأصحابه إلى أن التكبير في أول الأذان مرتين وقد روي ذلك من وجوه صحاح في أذان أبي محذورة وفي أذان عبد الله بن زيد والعمل عندهم بالمدينة على ذلك في آل سعد القرظ إلى زمانهم
واتفق مالك والشافعي على الترجيع في الأذان وذلك رجوع المؤذن إذا قال أشهد أن لا إله إلا الله مرتين أشهد أن محمدا رسول الله مرتين [رجع] فمد صوته جهرة بالشهادتين مرتين
ولا خلاف بين مالك والشافعي في الأذان إلا في التكبير في أوله فإن مالكا يقوله مرتين الله أكبر الله أكبر والشافعي يقوله أربع مرات
ولا خلاف بينهما في الإقامة إلا في قوله قد قامت الصلاة فإن مالكا يقولها مرة والشافعي يقولها مرتين وأكثر العلماء على ما قال الشافعي وبه جاءت الآثار
وأما الليث بن سعد فمذهبه في الأذان والإقامة كمذهب مالك سواء لا يخالفه في شيء من ذلك
وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي وعبيد الله بن الحسن الأذان والإقامة جميعا مثنى مثنى والتكبير عندهم في أول الأذان وأول الإقامة الله أكبر أربع مرات قالوا كلهم ولا ترجيع في الأذان وإنما يقول أشهد أن لا إله إلا الله مرتين أشهد أن محمدا رسول الله مرتين ثم لا يرجع إلى الشهادة بعد ذلك ولا يمد صوته
وحجتهم في ذلك حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى قال حدثنا أصحاب محمد - عليه السلام - أن عبد الله بن زيد جاء إلى النبي - عليه السلام - فقال يا رسول الله رأيت في المنام كأن رجلا قام وعليه بردان أخضران على جذم حائط (1) فأذن مثنى مثنى وأقام مثنى مثنى وقعد قعدة بينهما قال فسمع بذلك بلال فقام فأذن مثنى وقعد قعدة وأقام مثنى يشفعون الأذان والإقامة (2) وهو (3) قول جماعة التابعين والفقهاء بالعراق
369

قال أبو إسحاق السبيعي كان أصحاب علي وعبد الله يشفعون الأذان والإقامة
[فهذا أذان الكوفيين متوارث عندهم به العمل قرنا بعد قرن أيضا كما توارث الحجازيون في الأذان زمنا بعد زمن على ما وصفنا
وأما البصريون فأذانهم ترجيع التكبير مثل المكيين ثم الشهادة بأن لا إله إلا الله مرة واحدة وبأشهد أن محمدا رسول الله مرة ثم حي على الصلاة مرة ثم حي على الفلاح مرة ثم يرجع المؤذن فيمد صوته ويقول أشهد أن لا إله إلا الله الأذان كله مرتين مرتين إلى آخره
أخبرنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي قال حدثنا أبي قال حدثنا أحمد بن خالد قال حدثنا علي بن عبد العزيز قال حدثنا حجاج بن منهال قال حدثنا يزيد بن إبراهيم أنه سمع الحسن وبن سيرين يصفان الأذان الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله حي على الصلاة حي على الفلاح يسمع بذلك من حوله ثم يرجع فيمد صوته ويجعل إصبعيه في أذنيه فيقول أشهد أن لا إله إلا الله مرتين أشهد أن محمدا رسول الله مرتين حي على الصلاة مرتين حي على الفلاح مرتين الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله]
وأما أحمد بن حنبل فذكر عنه أبو بكر الأثرم أنه سمعه يقول أنا أذهب في الأذان إلى حديث محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن محمد بن عبد الله بن زيد عن أبيه ثم وصفه أبو عبد الله فكبر أربعا وتشهد مرتين مرتين لم يرجع
قال أحمد والإقامة الله أكبر مرتين وسائرها مرة مرة إلا قوله قد قامت الصلاة فإنها مرتين
قال أبو بكر وسمعت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - يقول من أقام مثنى مثنى لم أعنفه وليس به بأس
قيل لأبي عبد الله حديث أبي محذورة صحيح
فقال أما أنا فلا أدفعه
(قيل له أفليس حديث أبي محذورة بعد حديث عبد الله بن زيد)
فقال أليس قد رجع النبي - عليه السلام - إلى المدينة فأقر بلالا على أذان عبد الله بن زيد
قال أبو عمر ذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود بن علي ومحمد بن جرير إلى إجازة القول بكل ما روي عن رسول الله في ذلك وحملوه على
370

الإباحة والتخيير وقالوا كل ذلك جائز لأنه قد ثبت عن النبي - عليه السلام - جواز ذلك وعمل به أصحابه فمن شاء قال الله أكبر الله أكبر مرتين في أول الأذان ومن شاء قال ذلك أربعا ومن شاء رجع في أذانه ومن شاء لم يرجع ومن شاء ثنى الإقامة ومن شاء أفردها إلا قوله قد قامت الصلاة فإن ذلك مرتان مرتان على كل حال
ذكر بن أبي شيبة قال حدثنا بن علية عن يونس عن الحسن قال الإقامة مرة مرة فإذا قال قد قامت الصلاة قال مرتين
ومن حجة من قال قد قامت الصلاة مرتين حديث أيوب عن أبي قلابة عن أنس قال أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة يعني قوله قد قامت الصلاة فإنه يثنيه
وحديث شعبة عن أبي جعفر المؤذن عن أبي المثنى أنه سمع بن عمر يقول كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مثنى مثنى والإقامة مرة مرة إلا قوله قد قامت الصلاة فإنه كان يقوله المؤذن مرتين
واختلف العلماء في وجوب الأذان
فأما مالك وأصحابه فإن الأذان عندهم إنما يجب في مساجد الجماعات حيث يجتمع الناس وقد نص ذلك في موطئه (1)
واختلف المتأخرون من أصحابه على قولين
أحدهما أنه سنة مؤكدة واجبة على الكفاية في المصر وما جرى مجرى المصر من القرى
وقال بعضهم هو فرض على الكفاية
وكذلك اختلف أصحاب الشافعي
وذكر الطبري عن مالك قال إن ترك أهل مصر الأذان عامدين أعادوا الصلاة ولا أعلم خلافا في وجوب الأذان جملة على أهل الأمصار لأنه من العلامة الدالة المفرقة بين دار الإسلام ودار الكفر
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية يقول لهم ((إذا سمعتم الأذان فأمسكوا
371

وكفوا وإن لم تسمعوا الأذان فأغيروا)) أو قال ((فشنوا الغارة)) (1)
وقال عطاء ومجاهد والأوزاعي وداود الأذان فرض ولم يقولوا على الكفاية
وسنزيد المسألة بيانا فيما بعد - إن شاء الله - من هذا الباب ومن باب النداء في السفر بعون الله وقد ذكرنا الآثار بذلك في التمهيد
124 - وأما حديثه عن بن شهاب عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن))
فاختلف العلماء في معناه
فذهب بعضهم إلى أن الذي يسمع النداء يقول مثل ما يقول المؤذن من أول الأذان إلى آخره
وحجتهم ظاهر هذا الحديث وعمومه
وحديث أم حبيبة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندي فسمع المؤذن قال كما يقول حتى يسكت
وحديث عبد الله بن عمرو أن رجلا قال يا رسول الله ما بال المؤذنين يفضلوننا فقال رسول الله ((قل كما يقولون فإذا انتهيت فسل تعط)) (2)
وقال آخرون يقول كما يقول المؤذن في كل شيء إلا في قوله [حي على الصلاة] حي على الفلاح فإنه يقول إذا سمع المؤذن يقول [ذلك] لا حول ولا قوة إلا بالله ثم يتم الأذان معه إلى آخره
وحجتهم حديث عمر بن الخطاب
372

وحديث معاوية عن النبي - عليه السلام - بذلك على أن حديث معاوية مضطرب الألفاظ وقد ذكرنا طرقه في التمهيد
وقال آخرون إنما يقول مثل ما يقول المؤذن في [التكبير والتشهد ورووا بذلك أثرا تأولوه
وقال آخرون إنما يقول مثل ما يقول المؤذن في] التشهد خاصة وإن شاء قال وأنا أشهد بما تشهد به ونحو هذا
واحتجوا بحديث سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((من قال حين يسمع المؤذن وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله رضيت بالله ربا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا - غفر له)) (1)
وبحديث عائشة أن النبي - عليه السلام - كان إذا سمع الأذان قال ((وأنا أشهد وأنا أشهد))
وهذان الحديثان فيهما الإتيان بمعنى الأذان وبمعنى الذكر والإخلاص والتشهد دون لفظه
وقد ذكرنا الآثار كلها بطرقها في التمهيد
واختلف الفقهاء في المصلي يسمع الأذان - وهو في نافلة أو فريضة
فقال مالك إذا أذن وأنت في صلاة مكتوبة فلا تقل مثل ما يقول وإذا كنت في نافلة فقل - مثل ما يقول - التكبير والتشهد فإنه الذي يقع في نفسي أنه أريد بالحديث
هذه رواية بن القاسم ومذهبه
وقال بن خواز منداد فإن قال عند مالك حي على الصلاة إلى آخر الأذان في النافلة كان مسيئا وصلاته تامة وكرهه في المكتوبة
وقال بن وهب يقول المصلي مثل ما يقول المؤذن في المكتوبة والنافلة
373

وقال سحنون لا يقول ذلك في نافلة ولا مكتوبة
وقال الليث مثل قول مالك إلا أنه قال ويقول في موضع حي على الصلاة حي على الفلاح لا حول ولا قوة إلا بالله
وقال الشافعي لا يقول المصلي مثل ما يقول المؤذن لا في نافلة ولا مكتوبة إذا سمعه وهو في الصلاة ولكن إذا فرغ من الصلاة قاله
وذكر الطحاوي قال لم أجد عن أحد من أصحابنا في هذا شيئا منصوصا وقد حدثنا بن أبي عمران عن بن سماعة عن أبي يوسف فيمن أذن في صلاته إلى قوله أشهد أن محمدا رسول الله ولم يقل حي على الصلاة ولا حي على الفلاح - أن صلاته لا تفسد إن أراد الأذان في قول أبي يوسف
وفي قول أبي حنيفة تفسد صلاته إذا أراد الأذان
قال أبو جعفر وقول محمد كقول أبي حنيفة لأنه يقول فيمن يجيب إنسانا - وهو يصلي - بلا إله إلا الله إن صلاته فاسدة
قال فهذا يدل على أن من قولهم إن من سمع الأذان في الصلاة لا يقوله
وذكر بن خواز منداد عن الشافعي أنه قال يقول في النافلة الشهادتين فإن قال حي على الصلاة حي على الفلاح - بطلت صلاته نافلة كانت أو فريضة
قال أبو عمر القياس عندي أنه لا فرق بين المكتوبة والنافلة في هذا الباب لأن الكلام محرم فيهما
وقول حي على الصلاة حي على الفلاح كلام فيها فلا يصلح في شيء من الصلاة
وأما سائر الأذان فمن الذكر الذي يصلح في الصلاة
وقد جاء في الآثار المرفوعة قول لا حول ولا قوة إلا بالله في مكان حي على الصلاة وحي على الفلاح
وقد جاء عن النبي - عليه السلام - في حديث معاوية بن الحكم أنه قال عليه السلام ((إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتهليل والتكبير وتلاوة القرآن
374

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((قولوا مثل ما يقول المؤذن ولم يخص نافلة من فريضة))
فما جاز في الفريضة جاز في المكتوبة إلا أن مالكا كرهه في المكتوبة كراهية من غير تحريم كتحريم الكلام
والذي يوجبه القياس والنظر أن ما كان من الذكر الجائز في الصلاة لم يفرق فيه بين نافلة ولا مكتوبة
وأما من كره ذلك وأبطل الصلاة به فجعله مثل تشميت العاطس ورد السلام وليس كذلك لأن التشميت ورد السلام من الكلام والكلام محرم في الصلاة
قال زيد بن أرقم لما نزلت * (وقوموا لله قانتين) * [البقرة 238] أمرنا بالسكون ونهينا عن الكلام
وقال بن مسعود قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أن الله يحدث من أمره ما يشاء وإن مما أحدث ألا تكلموا في الصلاة)) (1)
وقد أباح فيها - عليه السلام - الذكر بالتهليل والتكبير والتسبيح والتحميد والتمجيد والدعاء فعلم أن الكلام المحرم فيها غير المباح من الذكر وبالله التوفيق
وأما حديثه عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة أن رسول الله - عليه السلام - قال ((لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه - لاستهموا (2) ولو علموا ما في التهجير (3) لاستبقوا إليه ولو يعلمون ما في العتمة (4) والصبح لأتوهما ولو حبوا)) (5) ففيه فضل الأذان والصلاة
375

والأذان إنما هو النداء قال الله تعالى * (إذا نودي للصلاة) * [الجمعة 9] وقال * (وإذا ناديتم إلى الصلاة) * [المائدة 58]
وفي فضائل الأذان آثار كثيرة قد جمعها جماعة
وحسبك بقول رسول الله - عليه السلام - ((لا يسمع صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة)) (1)
وقال عليه السلام ((اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين)) (2)
وقالت عائشة نزلت هذه الآية [في المؤذنين قوله تعالى] * (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين) * [فصلت 32]
وروى بيان وإسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال قال عمر لو كنت أطيق الأذان مع الخلافة لأذنت
وقال سعد بن أبي وقاص لأن أقوى على الأذان أحب إلي من أن أحج أو أعتمر
وقال بن مسعود لو كنت مؤذنا لم أبال ألا أحج أو أعتمر
وقال عمر لبعض أهل الكوفة من مؤذنوكم فقالوا عبيدنا وموالينا فقال إن ذلك لنقص بكم
وقال بن عمر لرجل ما عمله قال الأذان قال نعم العمل يشهد لك كل رطب ويابس يسعك
وعن أبي هريرة مثله
وروى السكري عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال النبي
376

- عليه السلام - ((الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين)) (1)
قالوا يا رسول الله لو تركتنا بعدك ننافس في الأذان فقال إن بعدكم قوما سفلتهم مؤذنوهم))
وهذا الحديث انفرد بهذه الزيادة فيه أبو حمزة وليس بالقوي
وأما الصف الأول ففي فضله آثار كثيرة وأحسنها حديث مالك في الاستهام عليه لأنه أرشد وندب إليه مؤكدا
ومنها حديث أبي بن كعب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن الصف الأول لعلى مثل صف الملائكة ولو تعلمون ما فيه لابتدرتموه)) (2)
ومنها حديث جابر وأبي هريرة وأبي سعيد عن النبي عليه السلام - ((خير صفوف الرجال مقدمها وشرها مؤخرها وخير صفوف النساء المؤخر)) (3)
حدثنا البراء بن عازب عن النبي عليه السلام أنه قال ((إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول)) (4)
وحديث العرباض بن سارية قال كان النبي - عليه السلام - يصلي على الصف المقدم ثلاثا وعلى الثاني واحدة)) (5)
وحديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله - عليه السلام - رأى في بعض أصحابه تأخرا فقال لهم ((تقدموا وأتموا بي وليأتم بكم من بعدكم ولا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله)) (6)
وروت عائشة مثله وزادت ((حتى يؤخرهم الله في النار
377

وهذا الوعيد إنما خرج على المنافقين الذين كانوا يرغبون عن رسول الله وعن القرب منه ويتأخرون عنه
وأما قوله في حديث مالك ((ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا)) (1) فالهاء في (عليه) عائدة على الصف الأول لا على النداء وهو حق الكلام أن يرد الضمير منه إلى أقرب مذكور ولا يرد إلى غير ذلك إلا بدليل
وقد قيل أنه ينصرف إلى النداء أيضا وفسره القائل بأنه الموضع الذي لا يؤذن فيه إلا واحد بعد واحد وهذا موضع لا أعرفه في سنة ثابتة ولا قول صحيح
وقد روي عن سعد بن أبي وقاص أنه أقرع بين قوم اختلفوا في الأذان
ولقول سعد وجوه محتملة فلا حجة فيه لمن ذهب إليه وإنما جاء الاستهام على الصف الأول لا على الأذان
وقد روي منصوصا عن النبي - عليه السلام - وعن طائفة من أصحابه ((لو يعلم الناس ما في الصف الأول ما صفوا فيه إلا بقرعة)) (2)
وآثار هذا الباب كلها عند بن أبي شيبة وأبي داود وسائر المصنفات
وأما التهجير فمعروف وهو البدار إلى الصلاة في أول وقتها وقبل وقتها لمن شاء ثم انتظارها
قال الله تعالى * (فاستبقوا الخيرات) * [البقرة 148]
وقال عليه السلام ((المهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة)) (3)
وتواترت الآثار عن النبي - عليه السلام - أن من انتظر الصلاة - فهو في صلاة ما انتظرها (4)
وحسبك من هذا فضلا إذ الصلاة من أفضل أعمال البر ولا ينتظر بها إلا من هجر إليها
378

وقد سمى رسول الله - عليه السلام - انتظار الصلاة بعد الصلاة رباطا (1)
وجاء رباط يوم خير من صيام شهر (2)
ولا أعلم خلافا بين العلماء أن من بكر وانتظر الصلاة وإن لم يصل في الصف الأول أفضل ممن تأخر عنها ثم صلى في الصف الأول
و [في] هذا ما يوضح لك معنى الصف الأول وأنه ورد من أجل البكور إليه والتقدم والله أعلم
وفي حديث قتادة عن أنس عن النبي - عليه السلام - أنه قال ((أتموا الصف المقدم ثم الذي يليه فما كان من نقص فليكن في المؤخر)) (2)
وأما العتمة والصبح فالآثار فيهما كثيرة أيضا
روى أبو هريرة وأبي بن كعب وعائشة عن النبي - عليه السلام - بمعنى واحد أنه قال ((أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر لو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا)) (3)
وقال أبو الدرداء في مرضه الذي مات فيه ((اسمعوا وبلغوا من خلفكم حافظوا على هاتين الصلاتين - يعني في جماعة - العشاء والصبح ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبوا على مرافقكم وركبكم
وقد روي عن النبي - عليه السلام - ((شهود صلاة العشاء خير من قيام نصف ليلة)) (4)
وعن عمر قال لأن أشهد العشاء والفجر أحب إلي من أن أحيي ما بينهما
وعن الحسن مثله
وقال بن عمر كنا إذا فقدنا الرجل في صلاة العشاء وصلاة الصبح أسأنا به الظن
379

وهذه الآثار كلها بطرقها في كتاب أبي بكر بن أبي شيبة
125 - وأما حديثه عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب عن أبيه وإسحاق بن عبد الله أنهما أخبراه أنهما سمعا أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إذا ثوب بالصلاة (1) فلا تأتوها وأنتم تسعون (2) وأتوها وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا فإن أحدكم في صلاة ما كان يعمد (3) إلى الصلاة))
فالتثويب ها هنا الإقامة ثاب إليها المؤذن أي رجع إلى ضرب من الأذان للصلاة كما يقال ثاب إلى المريض جسمه
وقد روى بن شهاب هذا الحديث عن أبي سلمة وعن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام قال ((إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون)) الحديث وهو مما يبين لك أن التثويب هنا الإقامة
وقد ذكرنا طرق هذا الحديث في التمهيد من حديث بن شهاب وغيره
وأما قوله ((وأنتم تسعون)) فالسعي ها هنا المشي على الأقدام بسرعة والاشتداد فيه وهو مشهور في اللغة ومنه السعي بين الصفا والمروة
وقد يكون السعي أيضا في كلام العرب العمل بدليل قوله تعالى * (ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها) * [الإسراء 19] و * (إن سعيكم لشتى) * [الليل 4] ونحو هذا كثير
واختلف العلماء في السعي إلى الصلاة لمن يسمع الإقامة
126 - فروى مالك عن نافع عن بن عمر أنه سمع الإقامة وهو بالبقيع فأسرع المشي [إلى المسجد]
وروي عن عمر بن الخطاب أنه كان يهرول إلى الصلاة
380

وفي إسناده لين وضعف
وعن بن مسعود أنه قال لو قرأت * (فاسعوا إلى ذكر الله) * [الجمعة 9] لسعيت حتى يسقط ردائي
وكان يقرأ " فامضوا إلى ذكر الله " وهي قراءة عمر أيضا
وعن بن مسعود أنه قال أحق ما سعينا إليه الصلاة
وعن الأسود بن يزيد وعبد الرحمن بن يزيد وسعيد بن جبير أنهم كانوا يهرولون إلى الصلاة
فهؤلاء كلهم ذهبوا إلى أن من خاف الفوت سعى ومن لم يخف مشى على هينته
وقد روي عن بن مسعود خلاف ما ذكرنا عنه روى عنه القاسم بن عبد الرحمن أنه قال إذا أتيتم الصلاة فأتوها وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا
وروى عنه أبو الأحوص قال لقد رأيتنا وإنا لنقارب بين الخطا
وروى ثابت عن أنس قال خرجنا مع زيد بن ثابت إلى المسجد فأسرعت المشي فحبسني
وعن أبي ذر قال إذا أقيمت الصلاة فامش إليها كما كنت تمشي فصل ما أدركت واقض ما سبقك
وهذه الآثار مذكورة بطرقها كلها في التمهيد
وقد اختلف السلف في هذا الباب كما ترى على القول بظاهر حديث النبي - عليه السلام - في هذا
إلا أن في سماع بن القاسم قال سئل مالك عن الإسراع في المشي إلى الصلاة إذا أقيمت قال ما أرى بذلك بأسا ما لم يسع أو يخف فوت الركعة
قال وسئل مالك عن الرجل يخرج إلى الحرس فيسمع مؤذن المغرب في الحرس فيحرك فرسه ليدرك الصلاة قال مالك لا أرى بذلك بأسا
قال إسحاق بن راهويه إذا خاف فوت التكبيرة الأولى فلا بأس أن يسعى
قال أبو عمر معلوم أن النبي - عليه السلام - إنما زجر عن السعي من خاف الفوت لقوله ((إذا أقيمت الصلاة)) و ((إذا ثوب بالصلاة)) وقال ((فما أدركتم فصلوا)) فالواجب أن يأتي الصلاة من خاف فوتها ومن لم يخف بالوقار
381

والسكينة وترك السعي وتقريب الخطا لأمر النبي - عليه السلام - بذلك وهو الحجة عليه السلام
وقد قال بعض أصحابنا إن بن عمر لم يزد على هيئة مشيته المعهودة لأنه كان من عادته الإسراع في المشي ويقول هو أبعد من الزهو
وهذا عندي خلاف ظاهر الحديث عنه لأن نافعا مولاه قد عرف مشيه وحاله فيه ثم زعم أنه لما سمع الإقامة أسرع المشي وهذا بين
وقد روى بن عيينة عن حصين عن محمد بن زيد قال كان بن عمر إذا مشى إلى الصلاة لو مشت معه نملة ما سبقها
وهذا عندي ليس بمخالف لحديث نافع عنه أنه أسرع إذا سمع الإقامة لأنه يحتمل أن يكون ما حكاه محمد بن زيد عنه في حال لا يخاف فيها أن يفوت شيء من الصلاة مع الإمام وكانت أغلب أحواله
وأما قوله - عليه السلام - في هذا الحديث ((وما فاتكم فأتموا)) على ما رواه مالك وغيره ففيه دليل على أن ما أدرك المصلي مع إمامة فهو أول صلاته
وهذا موضع اختلف العلماء فيه
وقد ذكرنا في التمهيد من قال في هذا الحديث عن النبي - عليه السلام - ((ما فاتكم فأتموا)) ومن قال ((ما فاتكم فاقضوا))
وهذان اللفظان تأولهما العلماء فيما يدركه المصلي من الصلاة مع الإمام هل هو أول صلاته أو آخرها ولذلك اختلفت أقوالهم فيها
فأما مالك بن أنس فاختلفت الرواية عنه في ذلك فروى سحنون عن جماعة من أصحاب مالك عن مالك - منهم بن القاسم - أن ما أدرك فهو أول صلاته ولكنه يقضي ما فاته بالحمد وسورة
وهذا هو المشهور من مذهبه عند أصحابه
قال بن خواز منداد وهو الذي عليه أصحابنا وهو قول الأوزاعي والشافعي ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل وداود والطبري
وروى أشهب عن مالك أن ما أدرك فهو آخر صلاته وهو الذي ذكره بن عبد الحكم عن مالك ورواه عيسى عن بن القاسم عن مالك وهو قول أبي حنيفة والثوري والحسن بن حي
هكذا ذكره بن خواز منداد عن أبي حنيفة
وذكر الطحاوي عن محمد بن الحسن عن أبي حنيفة أن الذي يقضي أول
382

صلاته وكذلك يقرأ فيها ولم يحك خلافا وما ذكره الطحاوي أصح عندهم
وقال أبو بكر الأثرم قلت لأحمد بن حنبل أرأيت قول من قال يجعل ما أدرك مع الإمام أول صلاته ومن قال يجعله آخر صلاته أي شيء يفرق بينهما قال من أجل القراءة فيما يقضي قلت له فحديث النبي - عليه السلام - على أي القولين هو عندك قال على أنه يقضي ما فاته قال - عليه السلام - ((صلوا ما أدركتم واقضوا ما سبقكم))
قال أبو عمر لا خلاف عن مالك وأصحابه أنه من أدرك مع الإمام ركعتين - أنه يقرأ فيهما كما يقرأ إمامه بأم القرآن وحدها في كل ركعة منهما ثم يقوم إذا سلم الإمام فيقرأ بأم القرآن وسورة فيما يقضي في كل ركعة
وهكذا قول الشافعي أيضا
فكيف يصح مع هذا القول قول من قال عنهم إن ما أدرك فهو أول صلاته
بل الظاهر أن ما أدرك فهو آخر صلاته على ما روى أشهب وغيره عن مالك
ولكن الشافعي قد صرح بأن ما أدرك فهو أول صلاته وقوله في القضاء والقراءة كقول مالك سواء وكذلك صرح الأوزاعي بأن ما أدرك من صلاة الإمام فهو أول صلاته
وأظنهم راعوا الإحرام لأنه لا يكون إلا في أول الصلاة والتشهد والتسليم لا يكون إلا في آخرها فمن ها هنا - والله أعلم - قال ما أدرك فهو أول صلاته
وقال الثوري يصنع فيما يقضي مثل ما صنع الإمام فيه
وقال الحسن بن حي أول صلاة الإمام أول صلاتك وآخر صلاة الإمام آخر صلاتك إذا فاتك بعض صلاتك
وأما المزني وإسحاق بن راهويه وداود بن علي فقالوا ما أدركه فهو أول صلاته يقرأ فيه الحمد وسورة إن أدرك ذلك معه وإذا قام إلى القضاء قرأ بالحمد وحدها فيما يقضي لنفسه لأنه آخر صلاته
وهو قول عبد العزيز الماجشون
فهؤلاء اطرد على أصلهم وقولهم وفعلهم
وأما السلف قبلهم فروي عن عمر وعلي وأبي الدرداء ما أدركت فهو آخر صلاتك
وليست الأسانيد عنهم بالقوية في ذلك
وعن بن عمر ومجاهد وبن سيرين مثل ذلك
383

وصح عن سعيد بن المسيب والحسن البصري وعمر بن عبد العزيز ومكحول وعطاء والزهري والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز ما أدركت فاجعله أول صلاتك
والذي يجيء على أصول هؤلاء ما قاله المزني وداود وإسحاق وليس عندي عنهم نص في ذلك
واحتج القائلون بأن ما أدرك هو أول صلاته بقوله عليه السلام - ((ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا)) قالوا والتمام هو الآخر
واحتج الآخرون بقوله ((وما فاتكم فاقضوا)) قالوا فالذي يقضيه هو الفائت
والحجج متساوية لكلا المذهبين من جهة الأثر والنظر إلا أن رواية من روى ((فأتموا)) أكثر والله أعلم
إلا أنه ليس يطرد على أصل من قال ما أدرك فهو أول صلاته إلا ما قال بن أبي سلمة والمزني وإسحاق وداود
وقد زعم بعض المتأخرين من أصحابنا أن من ذهب مذهب عبد العزيز بن أبي سلمة والمزني في هذه المسألة - أسقط الجهر في صلاة الليل وسنة السورة مع أم القرآن في الأوليين
هذا ليس بشيء لأن المأموم مأمور باتباع إمامه والإنصات معه وإذا جاز أن يقعد معه في أولى له ويقوم في ثانيه وتنتقص رتبة صلاته معه فلا يضره ذلك (لأنه أمر باتباعه فكذلك لا يضره سائر ذلك)
ألا ترى إلى إجماعهم أن من أدركه راكعا كبر وانحط ولا يقال له أسقطت فرض القراءة وفرض الوقوف لما أمر به من اتباع إمامه
وقد احتج داود بن علي بأن من أدرك الإمام يوم الجمعة في التشهد صلى ركعتين - بهذا الحديث ((ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا)) أو فأتموا))
قالوا والذي فاته ركعتان لا أربع فليس عليه إلا ما فاته وذلك ركعتان
ولعمري إن هذا لقول لو لم يكن هناك ما يعارضه وينقض تأويل قول داود فيه وذلك قوله - عليه - ((من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة
384

وفي هذا القول دليل كالنص على أن من لم (يدرك من الصلاة ركعة فلم يدرك الصلاة
ومعلوم أن من لم يدرك) الجمعة صلى أربعا
على أن داود قد جعل هذا الدليل أصلا لأحكام يرد بها كثيرا من الأصول الجسام وترك الاستدلال به في هذه المسألة
وأما قوله ((فإن أحدكم في صلاة ما دام يعمد إلى الصلاة)) فيدل على أن الماشي إلى الصلاة كالمنتظر لها وهما من الفضل فيما فيه المصلي إن شاء الله على ظاهر الآثار
وهذا يسير في فضل الله ورحمته بعباده كما أنه من غلبة نوم على صلاة كانت له عادة - كتب له أجر صلاته وكان نومه عليه صدقة
وكذلك من نوى الجهاد أو غيره من أعمال البر وقطعه عنه عائق عجزه وفضل الله عظيم يمن به على من يشاء من عباده وليس فضائل الأعمال مما فيه للمقاييس مدخل والحمد لله
127 - مالك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة الأنصاري ثم المازني عن أبيه أنه أخبره أن أبا سعيد الخدري قال له إني أراك تحب الغنم والبادية (1) فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء فإنه ((لا يسمع مدى صوت المؤذن (2) جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة)) قال أبو سعيد سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال أبو عمر فيه الأذان للمنفرد والمسافر وذلك عند مالك حسن إلا أن الأذان عنده في مساجد الجماعات وحيث يجتمع الناس
فقد ورد في فضائل الأذان للمنفرد والمعتزل آثار حسان سنذكرها بعد في أولى المواضع بها من كتابنا هذا
وفيه إباحة لزوم البادية واكتساب الغنم وأنه ينبغي للمرء أن يحب الغنم والبادية
385

اقتداء بالسلف وفرارا من شر الناس واعتزالا عنهم ولكن في البعد عن الجماعة والجمعة ما فيه من البعد عن الفضائل إلا أن الزمان إذا كثر فيه الشر وتعذرت فيه السلامة طابت العزلة والجليس الصالح - إذا وجد - خير من العزلة والوحدة
وقد روى مالك بهذا الإسناد عن النبي - عليه السلام - ((يوشك أن يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن)) (1)
وأما قوله ((فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة)) فالمدى الغاية حيث ينتهي الصوت
فأما فهم الجماد والموات فلا يدرك كيفيته ذلك إلا الله وفي قوله تعالى * (يا جبال أوبي معه) * [سبأ 10] أي سبحي معه وقوله تعالى " وإن من شيء إلا يسبح بحمده " [الإسراء 44] وقوله * (فما بكت عليهم السماء والأرض) * [الدخان 25] - ما يشهد لهذا المعنى
وقد أوضحنا فيما مضى وجه قول من قال إنه على الحقيقة ومن حمله على المجاز والحمد لله
وسنذكر في العزلة وفضلها ما حضرنا في موضعه من كتابنا
ونذكر اختلاف العلماء في الأذان في السفر في الباب بعد هذا إن شاء الله
128 - وأما حديثه عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله قال ((إذا نودي للصلاة (2) أدبر الشيطان له ضراط حتى لا يسمع النداء (فإذا قضي النداء أقبل حتى إذا ثوب بالصلاة (3) أدبر حتى إذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر (4) بين المرء ونفسه يقول اذكر كذا اذكر كذا لما لم يكن يذكر حتى يظل الرجل إن يدري كم صلى
386

الحديث ففيه أن من شأن الصلاة النداء لها قال تعالى * (وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا) *) [المائدة 58] وقال تعالى * (إذا نودي للصلاة) *) [الجمعة 9]
وأجمع المسلمون على أن الأذان في المكتوبات على ما قد ذكرناه عنهم ولم يختلفوا أن ذلك واجب في المصر على جماعته
واتفق مالك والشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي والثوري وأبو ثور وأحمد وجماعة العلماء على أن الرجل إذا صلى بإقامة في مصر قد أذن فيه فإنه يجزيه
وجملة القول في الأذان أنه عند مالك وأصحابه سنة مؤكدة واجبة على الكفاية وليس بفرض وهو قول أبي حنيفة وأصحابه واختلف أصحاب الشافعي
فمنهم من قال هو فرض على الكفاية ومنهم من قال هو سنة مؤكدة على الكفاية
وهذا في القرى والأمصار التي فيها الجماعات
وتحصيل مذهب مالك في الإقامة أنها سنة أيضا مؤكدة إلا أنها أوكد من الأذان عنده وعند أصحابه ومن تركها فهو مسيء وصلاته مجزية وهو قول الشافعي وسائر الفقهاء فيمن ترك الإقامة أنه مسيء بتركها ولا إعادة عليه
وقال أهل الظاهر والأوزاعي وعطاء ومجاهد هي واجبة ويرون الإعادة على من تركها عامدا أو ناسيا
وقد ذكرنا في التمهيد وجوه أقوالهم في ذلك وسنذكر في الباب بعد هذا أقوال العلماء في الأذان في السفر ووجوهه ونبينه بأبسط وأكمل من ذكرنا له هنا إن شاء الله
وأما قوله ((أدبر الشيطان له ضراط)) فهكذا رواه أبو الزناد عن الأعرج في نقل جماعة أصحاب أبي الزناد
وقد روي فيه له حصاص كذلك رواه سهيل عن أبيه عن أبي هريرة
حدثنا عبد الوارث حدثنا قاسم حدثنا محمد بن غال حدثنا أمية بن بسطام حدثنا يزيد بن زريع حدثنا روح بن القاسم عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه قال سمعت أبا هريرة يروي عن النبي - عليه السلام - قال ((إن الشيطان إذا نودي للصلاة ولى وله حصاص)) (1) الحديث
387

لما يلحقه من الذعر والخزي عند ذكر الله في الأذان وذكر الله تفزع منه القلوب ما لا تفزع من شيء من الذكر لما فيه من الجهر بالذكر وتعظيم الله فيه وإقامة دينه فيدبر الشيطان لشدة ذلك على قلبه حتى لا يسمع الأذان فإذا قضي النداء أقبل على طبعه وحيلته يوسوس في الصدور ويفعل ما يقدر مما قد سلط عليه حتى إذا ثوب بالصلاة - والتثويب ها هنا الإقامة - أدبر أيضا حتى إذا قضي التثويب - وهو الإقامة كما ذكرت لك - أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه فيوسوس في صدره ويشغله بذكر ما لا يحتاج إليه ليخلط عليه حتى لا يدري كم صلى وقد زدنا هذا المعنى بيانا في التمهيد
وفي هذا الحديث فضل للأذان عظيم ألا ترى أن الشيطان يدبر منه ولا يدبر من تلاوة القرآن في الصلاة بدليل قوله ((فإذا قضي التثويب أقبل)) وحسبك بهذا فضلا لمن تدبر
وروى سحنون والحارث بن مسكين عن بن القاسم وبن وهب عن مالك قال استعمل زيد بن أسلم على معدن بني سليم وكان معدنا لا يزال يصاب فيه الناس من قبل الجن فلما وليهم شكوا ذلك إليه فأمرهم بالأذان وأن يرفعوا أصواتهم به ففعلوا فارتفع ذلك عنهم فهم عليه حتى اليوم
قال مالك وأعجبني ذلك من رأي زيد بن أسلم
وقد ذكرنا في ((التمهيد)) من رواية سفيان الثوري وجرير بن حازم عن سليمان الشيباني عن بشير بن عمرو قال سمعت عمر بن الخطاب يقول إن شيئا من الخلق لا يستطيع أن يتحول في غير خلقه ولكن للجن سحرة كسحرة الإنس فإذا خشيتم شيئا من ذلك فأذنوا بالصلاة
وفي رواية الثوري عن الشيباني عن بشير بن عمرو قال ذكرت الغيلان عند عمر بن الخطاب فقال إن شيئا من الخلق لا يستطيع أن يتحول في غير خلقه وذكر تمام الخبر
حدثنا سعيد بن نصر حدثنا قاسم حدثنا محمد حدثنا أبو بكر حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال قال النبي - عليه السلام - ((إذا نادى المؤذن بالصلاة هرب الشيطان حتى يكون بالروحاء)) (1) وهي ثلاثون ميلا من المدينة
388

وأما لفظ التثويب فمأخوذ من ثاب الشيء يثوب إذا رجع كأن المقيم للصلاة عاد إلى معنى الأذان فأتى به
يقال ثوب الداعي إذا كرر دعاءه للحرب
قال حسان بن ثابت
(في فتية كسيوف الهند أوجههم
* لا ينكلون إذا ما ثوب الداعي (1))
وقال حذيفة في معناه
(لخير نحن عند الناس منكم
* إذا الداعي المثوب قال يالا (2))
ويقال ثاب إلى الرجل عقله وثاب إلى المريض جسمه أي عاد إلى حاله
قال عبد المطلب بن هاشم وهو بالمدينة عن أخواله بني النجار
(فحنت ناقتي فعلمت أني
* غريب حين ثاب إلي عقلي)
وقال الشاعر
(لو رأينا التأكيد خطة عجز
* ما شفعنا الأذان بالتثويب (3))
وأما قوله ((حتى يظل الرجل أن يدري كم صلى)) فإنه يريد حتى يصير الرجل لا يدري كم صلى والرواية في (أن) ها هنا عند أكثرهم بالفتح فيكون حينئذ بمعنى لا يدري
وكذلك رواه جماعة الرواة عن مالك بهذا اللفظ ((حتى يظل الرجل إن يدري كم صلى)) بكسر الهمزة فمعناه ما يدري ما صلى (وإن) بمعنى (ما) كثير
وقيل يظل ها هنا بمعنى يبقى لا يدري كم صلى وأنشدوا
(ظللت ردائي فوق رأسي قاعدا
* أعد الحصى ما تنقضي عبراتي (4))
129 - وأما حديثه عن أبي حازم بن دينار عن سهل بن سعد الساعدي أنه قال ساعتان يفتح لهما أبواب السماء (5) وقل داع ترد عليه
389

دعوته حضرة النداء للصلاة (1) والصف في سبيل الله (2)
فقد روي مرفوعا من حديث مالك وغيره وقد ذكرنا ذلك في التمهيد
فمن ذلك ما حدثنا أحمد بن محمد قال حدثنا أحمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جرير قال حدثنا أبو عمرة أحمد بن عبد العزيز الرملي قال حدثنا أيوب بن سويد قال حدثنا مالك بن أنس عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي قال قال رسول الله ((ساعتان تفتح لهما أبواب السماء وقلما يرد على الداعي فيها دعوته حضرة الصلاة والصف في سبيل الله)) (3)
رواه عن أيوب بن سويد هكذا - جماعة منهم مؤمل بن إهاب
وذكرنا في التمهيد أيضا حديث سليمان التيمي عن أنس عن النبي عليه السلام - قال ((إذا نودي بالأذان فتحت أبواب السماء واستجيب الدعاء))
وحديث يزيد الرقاشي عن أنس عن النبي - عليه السلام - قال ((عند الأذان تفتح أبواب السماء وعند الإقامة لا ترد دعوة))
وروى الثوري عن يزيد عن أبي إياس عن أنس قال لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة موقوفا
وقال عطاء عند نزول الغيث والتقاء الزحفين والأذان يستجاب الدعاء
فأما قوله سئل مالك عن الأذان يوم الجمعة هل يكون قبل أن يحل الوقت قال لا يكون حتى تزول الشمس
وقد ذكرنا اختلاف الناس في وقت الجمعة وأن الفقهاء أئمة الأمصار على أنه لا يجوز الأذان لها إلا بعد الزوال كالظهر وللاختلاف في ذلك سئل مالك عنه والله أعلم
ولما أجمع الفقهاء على أنها تنوب في يومها عن الظهر - وجب أن يكون وقتها وقت الظهر قياسا ونظرا وعلى ذلك جماعة الفقهاء
وأما قوله إنه لم يبلغني في الأذان والإقامة إلا ما أدركت الناس عليه فأما الإقامة فإنها لا تثنى وهذا الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا فتصريح بأنه لم يبلغه فيه حديث من أخبار الآحاد وأن الأذان والإقامة عنده مأخوذان من العمل بالمدينة وهو أمر يصح فيه الاحتجاج بالعمل لأنه شيء لا ينفك منه في كل يوم مرارا وقد
390

لا يصح لغيره مثل ذلك لأن كل بلدة أخذت علم شريعتها في أول أمرها عن الصحابة النازلين بها وهم الذين وعوا عن نبيهم وأمروا بالتبليغ فبلغوا
وهذا يدلك أن الأذان وجه الاختلاف فيه الإباحة على ما قدمنا وقد مضى في الأذان والإقامة ما فيه كفاية
وأما قوله في قيام الناس إلى الصلاة إنه لا حد عنده فيه لأن الناس تختلف أحوالهم فمنهم الخفيف والثقيل - فيدل على أنه لم يكن عنده فيه عن السلف ما ينزع به في جواب سائله
وهذه مسألة قديمة لكبار التابعين ومن تلاهم من فقهاء المسلمين
وقد ذكرنا في التمهيد بالأسانيد عن عمرو بن مهاجر قال رأيت عمر بن عبد العزيز ومحمد بن كعب القرظي وسالم بن عبد الله وأبا قلابة وعراك بن مالك الغفاري ومحمد بن مسلم الزهري وسليمان بن حبيب يقومون إلى الصلاة في أول بدء الإقامة
قال وسمعت عمر بن عبد العزيز يقول إذا سمعت النداء بالإقامة فكن أول من أجاب
وقال إذا قال المؤذن قد قامت الصلاة عدل الصفوف بيده عن يمينه ويساره فإذا فرغ المؤذن كبر
وعن عمر بن عجلان قال سمعت عمر بن عبد العزيز بخناصره يقول حين يقول المؤذن قد قامت الصلاة قوموا قد قامت الصلاة
وعن بن المبارك عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال سمعت الزهري يقول ما كان المؤذن يقول قد قامت الصلاة حتى تعتدل الصفوف
وعن بن المبارك عن أبي يعلى قال رأيت أنس بن مالك إذا قيل قد قامت الصلاة قام فوثب
وعن الحسن وبن سيرين أنهما كانا يكرهان أن يقوما حتى يقول المؤذن قد قامت الصلاة
وقال فرقد السبخي للحسن أرأيت إذا أخذ المؤذن في الإقامة أأقوم أم حتى يقول قد قامت الصلاة فقال الحسن أي ذلك شئت
وروى كلثوم بن زياد عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال إذا قال المؤذن الله أكبر وجب القيام فإذا قال حي على الصلاة اعتدلت الصفوف فإذا قال لا إله إلا الله كبر الإمام
391

وقال أبو حنيفة وأصحابه إذا لم يكن الإمام معهم في المسجد فإنهم لا يقومون حتى يروا الإمام
وهو قول الشافعي وداود وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إذا كان الإمام معهم في المسجد فإنهم يقومون في الصف إذا قال المؤذن حي على الفلاح
وقال الشافعي وأصحابه وداود البدار في القيام إلى الصلاة أولى في أخذ المؤذن في الإقامة لأنه بدار إلى فعل بر وليس في شيء من ذلك شيء محدود عندهم
وحجتهم حديث أبي قتادة عن النبي - عليه السلام - أنه قال ((إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني)) (1)
وقد ذكرنا أسانيد هذه الآثار كلها في التمهيد
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل سألت أبي عن الإمام أيكبر إذا قال المؤذن حي على الصلاة قد قامت الصلاة أو حين يفرغ من الإقامة فقال حديث أبي قتادة ((لا تقوموا حتى تروني))
وقد روي عن بن عمر أنه كان يبعث إلى الصفوف فإذا استوت كبر وحديث ((لا تسبقني بآمين)) (2) فأرجو ألا يضيق ذلك
قال أبو عمر قوله وحديث ((لا تسبقني بآمين)) يعني حديث بلال أنه كان يتولى إقامة الصلاة فقال للنبي - عليه السلام - لا تسبقني بآمين أي لا تسبقني بقراءة فاتحة الكتاب فيفوتني معك قول آمين
ومن ها هنا قال أبو هريرة من فاته قراءة أم القرآن فقد فاته خير كثير
حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا محمد بن بكر حدثنا أبو داود قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن راهويه الحنظلي قال حدثنا وكيع عن سفيان عن عاصم عن أبي عثمان عن بلال أنه قال يا رسول الله لا تسبقني بآمين (3)
وفي هذا الحديث أن رسول الله كان يكبر للإحرام ويقرأ وبلال في إقامة الصلاة
وهو مخالف لحديث أبي هريرة وحديث أبي قتادة فلذلك قال أحمد أرجو ألا يضيق شيء مما قيل في هذا الباب
392

وفي حديث بلال أن رسول الله كان يقول آمين
وقال الأثرم قلت لأحمد بن حنبل في حديث أبي قتادة عن النبي عليه السلام ((إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني)) أتذهب إليه
قال أنا أذهب إلى حديث أبي هريرة قال خرج علينا رسول الله وقد أقمنا الصفوف - فأقبل يمشي حتى أتى مقامه فذكر أنه لم يغتسل
إسناده جيد ورواه الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة ولا أدفع حديث أبي قتادة
قال أبو عمر وحديث أبي قتادة رواه يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه عن النبي عليه السلام وخرجه أهل الصحيح كلهم
وأما قوله وسئل عن قوم حضور أرادوا أن يجمعوا المكتوبة فأرادوا أن يقيموا ولا يؤذنوا فقال مالك ذلك مجزئ عنهم وإنما يجب النداء في مساجد الجماعات التي تجمع فيها الصلاة فقد اختلف العلماء في هذه المسألة اختلاف استحباب وما أعلم أحد أفسد صلاة من لم يؤذن إذا أقام بل الصلاة مجزئة عند جميعهم إذا صليت بإقامة وكذلك عند الجمهور ولو لم يقيموا وقد أساءوا
وقال الشافعي ترك رسول الله التأذين حين جمع بين الصلاتين بمزدلفة ويوم الخندق - دليل على أن التأذين ليس بواجب فرضا
ولو لم تجز الصلاة إلا بأذان لم يدع ذلك وهو بمكة
قال وإذا كان هكذا في الأذان كانت الإقامة كذلك لأنهما جميعا غير الصلاة
وقال الشافعي لا أحب لأحد أن يصلي في جماعة ولا وحده إلا بأذان وإقامة والإقامة عنده أوكد وهو قول الثوري ومالك أيضا
قال مالك والثوري لا يجتزئ بإقامة أهل المصر - المصلي وحده
وقال أبو حنيفة وأصحابه إن استجزأ بإقامة أهل المصر وأذانهم أجزأه ويستحبون إذا صلى وحده أن يؤذن ويقيم
ويأتي القول في أذان المسافر والمنفرد في باب الأذان في السفر بعد هذا الباب
وأما قوله وسئل عن تسليم المؤذن على الإمام ودعائه إياه للصلاة ومن أول من سلم عليه فقال لم يبلغني أن التسليم كان في الزمان الأول فهو كما قال لم يكن ذلك في زمن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم
393

ويقال أول من فعل ذلك معاوية أمر المؤذن بأن يشعره ويناديه فيقول السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله الصلاة يرحمك الله
وقد قيل إن المغيرة بن شعبة أول من فعل ذلك والأول أصح
وكان مالك يقول في حي على الصلاة حي على الفلاح - ما يكفي من الدعاء إليها
قال أبو عمر من خشي على نفسه الشغل عن الصلاة بأمور المسلمين وما يجوز فعله فلا بأس أن يقيم لذلك من يؤذنه بالصلاة ويشعره بإقامتها
وأما قوله في مؤذن أذن بقوم ثم انتظر هل يأتيه أحد فأقام فصلى وحده ثم جاء الناس من بعد أن فرغ من الصلاة أنهم يصلون أفرادا ولا يجمعون ولو جمعوا لم يجمع معهم - هذا معنى قوله دون لفظه - فإن بن نافع قال إنما عنى مالك بالمؤذن هنا الإمام الراتب إذا انتظر القوم وصلى ثم أتى الناس لم يجمعوا ولم يؤذن المؤذن
قال بن نافع فإن لم يكن الإمام الراتب فلا بأس أن يجمعوا تلك الصلاة في ذلك المسجد ويصليها ذلك المؤذن معهم
قال أبو عمر تفسير بن نافع لذلك تفسير حسن على أصل مذهب مالك في ذلك لأنه لم يختلف قوله إن كل مسجد له إمام راتب إنه لا تجمع فيه صلاة واحدة مرتين فإن كان مسجد على طريق يصلي فيه المارة يجمعون فيه فلمن جاء بعدهم أن يجمع فيه وهو قول بن القاسم وأجاز ذلك أشهب
وروى بن مزين عن أصبغ قال دخلت المسجد مع أشهب وقد صلى الناس فقال لي يا أصبغ ائتم بي وتنحى إلى زاوية فأتممت به
وفي ((العتبية)) لأشهب عن مالك في مسجد له إمام راتب في بعض الصلوات دون بعض أنه لا بأس أن يجمع فيه من الصلوات مرتين ما لا يجمع بإمام راتب
وروى بن القاسم عن مالك أنه لا تجمع فيه صلاة مرتين لا من الصلوات التي يجمع فيها بالإمام الراتب ولا من غيرها
قال أبو عمر هذه المسألة لا أصل لها إلا إنكار جمع أهل الزيغ والبدع وإلا يتركوا وإظهار نحلتهم وأن تكون كلمة السنة والجماعة هي الظاهرة لأن أهل البدع كانوا يرتقبون صلاة الإمام ثم يأتون بعده فيجمعون لأنفسهم بإمامهم فرأى أهل العلم أن يمنعوا من ذلك وجعلوا الباب بابا واحدا فمنعوا منه الكل والأصل ما وصفت لك
394

وقال الثوري كقول مالك في هذه المسألة لا تجمع صلاة في مسجد واحد مرتين ومن أتى [مسجدا] وقد صلى أهله فليصل وحده
قال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه وأبو ثور وأحمد بن حنبل وإسحاق وداود بن علي وجمهور الفقهاء وأهل العلم لا بأس أن يجمع في المسجد مرتين
واحتج أصحاب داود بالأحاديث في فضل صلاة الجماعة وبأن الله لم ينه عن ذلك ولا رسوله ولا اتفق أهل العلم عليه فلا وجه للنهي عنه
واحتج غيرهم في ذلك أيضا
حدثنا أبو محمد قاسم بن محمد قال حدثنا خالد بن سعيد حدثنا محمد بن إبراهيم بن حنون قال حدثنا محمد بن إسماعيل الصايغ بمكة وأبو داود السجستاني بالبصرة قالا حدثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل قال حدثنا وهيب بن خالد قال حدثنا سليمان بن الأسود عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري أن النبي - عليه السلام - صلى إحدى صلاتي العشي فلما سلم دخل رجل لم يدرك الصلاة معه فاستقبل القبلة ليصلي فقال النبي - عليه السلام - ((ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه)) فقام رجل ممن صلى مع النبي عليه السلام - فصلى معه (1)
قال محمد بن إبراهيم وحدثنا إسماعيل بن إسحاق ومحمد بن إسماعيل قالا حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد عن ثابت عن أنس أنه دخل البصرة وقد صلى أهله ومعه قوم فسأل فقالوا قد صلينا فأمر بإقامة الصلاة وقد تقدم فصلى بمن معه
قال أبو ثور إذا أذنوا وأقاموا وصلوا جماعة فهو أحب إلي
وحدثنا عبد الوارث وسعيد قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا عبدة بن سليمان عن بن أبي عروبة عن أبي المتوكل عن أبي سعيد قال جاء رجل وقد صلى النبي - عليه السلام - فقال ((أيكم يتجر على هذا)) فقام رجل من القوم فصلى معه
395

وذكرنا في المصنف قال حدثنا هشيم قال حدثنا سليمان التيمي عن أبي عثمان قال دخل رجل المسجد وقد صلى النبي - عليه السلام - فقال ((ألا رجل يتصدق على هذا فيقوم فيصلي معه)) (1)
وممن أجاز ذلك بن مسعود وأنس وعلقمة ومسروق والأسود والحسن وقتادة وعطاء على اختلاف عنه
وقال إنما كانوا يكرهون أن يجمعوا مخافة السلطان
وأما قوله وسئل [مالك] عن أهل المسجد هل يصلون بإقامة غير المؤذن فقال لا بأس بذلك إقامته وإقامة غيره سواء فهذه مسألة خلاف أيضا
فأما مالك وأبو حنيفة وأصحابهما فقالوا لا بأس أن يؤذن المؤذن ويقيم غيره
وقال الثوري والليث بن سعد والشافعي وأصحابه من أذن فهو يقيم
وهو قول أكثر أهل الحديث وحجتهم حديث عبد الله بن الحارث الصدائي قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان أول [أذان] الصبح أمرني فأذنت ثم قام إلى الصلاة فقام بلال ليقيم فقال رسول الله ((إن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم)) (2)
وهو حديث انفرد به عبد الرحمن بن زياد الإفريقي وليس بحجة عندهم
وحجة مالك حديث عبد الله بن زيد حين أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأذان فأمره رسول الله أن يلقيه على بلال وقال ((وهو أندى صوتا)) فلما أذن بلال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن زيد ((أقم أنت)) فأقام (3)
وهذا الحديث أحسن إسنادا من حديث الإفريقي
ومن جهة النظر ليست الإقامة مضمنة بالأذان فجائز أن يتولاها غير متولي الأذان
396

وأما قوله لم تزل الصبح ينادى لها قبل الفجر فأما غيرها من الصلوات فإنا لم نرها ينادى لها إلا بعد أن يحل وقتها
فهذا يدلك على أن الأذان عنده مأخوذ من العمل لأنه لا ينفك منه كل يوم فيصح الاحتجاج فيه بالعمل لأنه ليس مما ينسى
وكذلك غيره احتج بالعمل فيه أيضا لما قدمنا ذكره
وكذلك اختلف العلماء في هذه المسألة
فذهب أهل الحجاز والشام وبعض أهل العراق إلى إجازة الأذان لصلاة الفجر قبل طلوع الفجر
وممن قال بذلك مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وداود والطبري وهو قول أبي يوسف القاضي
وروى عبد الملك بن الحسن عن بن وهب قال لا يؤذن لها إلا بالسحر فقيل له وما السحر قال السدس الآخر
وقال بن حبيب يؤذن لها من بعد خروج وقت العشاء وذلك نصف الليل
وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن والثوري لا يؤذن للفجر حتى يطلع الفجر
وهو قول بن مسعود وأصحابه وعائشة وإبراهيم النخعي ونافع مولى بن عمر والشعبي وجماعة
وقد ذكرنا حجة كل فرقة منهم من جهة الآثار في باب حديث الزهري عن سالم عند قوله - عليه السلام ((إن بلالا ينادي بليل)) من كتاب التمهيد
130 - وأما قوله أنه بلغه أن المؤذن جاء إلى عمر بن الخطاب يؤذنه لصلاة الصبح (فوجده نائما) فقال الصلاة خير من النوم فأمره عمر أن يجعلها في نداء الصبح
فلا أعلم أنه روي هذا عن عمر من وجه يحتج به وتعلم صحته وإنما فيه حديث هشام بن عروة عن رجل يقال له إسماعيل لا أعرفه
وذكر بن أبي شيبة قال حدثنا عبدة بن سليمان عن هشام بن عمر عن رجل يقال له إسماعيل قال جاء رجل يؤذن عمر بصلاة الصبح فقال الصلاة
397

خير من النوم فأعجب به عمر وقال للمؤذن أقرها في أذانك
والمعنى فيه عندي أنه قال له نداء الصبح موضع القول بها لا ها هنا كأنه كره أن يكون منه نداء آخر عند باب الأمير كما أحدثه الأمراء بعده على ما قدمنا ذكره في هذا الباب
وإنما حملني على هذا التأويل وإن كان الظاهر من الخبر خلافه لأن التثويب في صلاة الصبح [أي] قول المؤذن الصلاة خير من النوم - أشهر عند العلماء والعامة من أن يظن بعمر - رضي الله عنه - أنه جهل ما سن منه رسول الله - عليه السلام - وأمر به مؤذنيه بالمدينة بلالا وبمكة أبا محذورة
فهو محفوظ معروف في تأذين بلال وأذان أبي محذورة في صلاة الصبح للنبي - عليه السلام - مشهور عند العلماء ونحن نذكر منه طرفا دالا ها هنا إن شاء الله
ذكر بن أبي شيبة قل حدثنا أبو خالد الأحمر عن حجاج عن عطاء قال كان أبو محذورة يؤذن لرسول الله ولأبي بكر ولعمر فكان يقول في أذانه الصلاة خير من النوم
قال وحدثنا حفص بن غياث عن حجاج عن طلحة عن سويد عن بلال وعن حجاج عن عطاء عن أبي محذورة أنهما كانا يثوبان في صلاة الفجر الصلاة خير من النوم
قال وحدثنا وكيع عن سفيان عن عمران بن مسلم عن سويد بن غفلة أنه أرسل إلى مؤذنه إذا بلغت إلى حي على الفلاح فقل الصلاة خير من النوم فإنه أذان بلال
ومعلوم أن بلالا لم يؤذن قط لعمر ولا سمعه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة بالشام إذ دخلها وقد ذكرنا الخبر بذلك في غير هذا الموضع
ذكر بن المبارك وعبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن بلالا أذن ذات ليلة ثم جاء يؤذن النبي - عليه السلام - فنادى الصلاة خير من النوم فأقرت في صلاة الصبح
وذكر بن أبي شيبة عن عبدة بن سليمان عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن بن المسيب مثله وبن المبارك عن يونس بن يزيد عن الزهري قال أخبرني حفص بن عمر بن سعد المؤذن أن جده سعدا كان يؤذن على عهد رسول الله لأهل قباء حتى نقله عمر بن الخطاب في خلافته فأذن له بالمدينة في مسجد النبي عليه السلام فزعم حفص أنه سمع من أهله أن بلالا أتى رسول الله ليؤذنه بصلاة الصبح بعد ما أذن فقيل أنه نائم فنادى بأعلى صوته الصلاة خير
398

من النوم فأقرت في تأذين الفجر ثم لم يزل الأمر على ذلك
وروى الليث بن سعد عن يونس عن الزهري مثله وقال الحسن كان بلال يقول في أذانه بعد حي على الفلاح ((الصلاة خير من النوم)) مرتين
وروى سفيان عن بن عجلان عن نافع عن بن عمر قال كان في الأذان في الأول بعد حي على الفلاح الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم
وأما حديثه عن عمه أبي سهل بن مالك عن أبيه أنه قال ما أعرف شيئا مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة ففيه بيان أن الأذان لم يتغير منه شيء عما كان عليه
وكذلك قال عطاء ما أعلم تأذينهم اليوم يخالف تأذين من مضى
وفيه أن الأحوال تغيرت وانتقلت وتبدلت في زمانه ذلك عما كانوا عليه في زمان الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي - رحمهم الله - في أكثر الأشياء
وقد احتج بهذا بعض من لم ير عمل أهل المدينة حجة وقال لا حجة إلا فيما نقل بالأسانيد الصحاح عن النبي - عليه السلام - وعن الخلفاء الأربعة - رضي الله عنهم ومن سلك سبيلهم من العلماء
131 - وأما حديثه عن نافع أن عبد الله بن عمر سمع الإقامة وهو بالبقيع فأسرع المشي إلى المسجد
فقد مضى القول فيه في صدر هذا الباب والحمد لله
((2 - باب النداء في السفر وعلى غير وضوء))
132 - مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر أذن بالصلاة في ليلة ذات برد
399

وريح فقال ألا صلوا في الرحال (1) ثم قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلة باردة ذات مطر يقول ((ألا صلوا في الرحال))
هكذا عن يحيى في ترجمة هذا الباب وعلى غير وضوء ولم يتابعه أحد على هذه الزيادة من رواة الموطأ فيما علمت ولا في غير هذا الباب ما يدل على ذلك أيضا ولو كان في مكان قوله وعلى غير وضوء والأذان راكبا - كان صوابا لأنها مسألة في الباب مذكورة
وليس في حديث مالك هذا أنه كان في السفر ولكنه قيده بترجمة الباب وقد روي أن ذلك في السفر من وجوه ذكرتها في التمهيد
وفي هذا الحديث من الفقه الأذان في السفر وقد اختلف الفقهاء في ذلك
فروى بن القاسم عن مالك أن الأذان إنما هو في المصر للجماعات في المساجد
وروى أشهب عن مالك إن ترك الأذان مسافر عمدا أعاد الصلاة
وذكره الطبري قال حدثنا يونس بن عبد الأعلى عن أشهب عن مالك
وقال أبو حنيفة وأصحابه أما المسافر فيصلي بأذان وإقامة ويكره أن يصلي بغير أذان ولا إقامة
قالوا وأما المصر فيستحب للرجل إذا صلى وحده أن يؤذن ويقيم فإن استجزأ بأذان الناس وإقامتهم أجزأه
وقال الثوري تجزئك الإقامة من الأذان في السفر وإن شئت أذنت وأقمت
وقال أحمد بن حنبل يؤذن المسافر على حديث مالك بن الحويرث
وقال داود الأذان واجب على كل مسافر في خاصته والإقامة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث ولصاحبه ((إذا كنتما في سفر فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما)) (2) وهو قول أهل الظاهر
واتفق الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري وأحمد وإسحاق وأبو
400

ثور والطبري على أن المسافر إن ترك الأذان عامدا أو ناسيا أجزأته صلاته وكذلك لو ترك الإقامة عندهم - وهم أشد كراهية لتركه الإقامة
واحتج الشافعي أن الأذان غير واجب فرضا من فروض الصلاة بسقوط أذان الواحد عند الجميع بعرفة والمزدلفة
وقد أوضحنا هذا المعنى في ((التمهيد)) بالآثار ووجوه الأقوال
وتحصيل مذهب مالك في الأذان في السفر كالشافعي سواء
وفيه أيضا من الفقه الرخصة في التخلف عن الجماعة في الليلة المطيرة والريح الشديدة
وفي معنى ذلك كل عذر مانع وأمر مؤذ
وإذا جاز التخلف عن الجماعة للعشاء والبول والغائط - فالتخلف عنها لمثل هذا أحرى
والسفر عندي والحضر في ذلك سواء لأن السفر إن دخل بالنص دخل الحضر بالمعنى لأن العلة من المطر والأذى قائمة فيهما
واستدل قوم على أن الكلام في الأذان جائز بهذا الحديث إذا كان مما لا بد منه وذكرنا حديث الثقفي أنه سمع منادي النبي - عليه السلام - في ليلة مطيرة في السفر يقول إذا قال حي على الفلاح ألا صلوا في الرحال
وقد ذكرنا الخبر بإسناده من طرق في ((التمهيد))
واختلف العلماء في كراهية الكلام في الأذان وإجازته
فكان مالك يكره الكلام في الأذان روى ذلك عنه جماعة من أصحابه وقال لم أعلم أحدا يقتدى به تكلم في أذانه وكره رد السلام في الأذان لئلا يشتغل المؤذن بغير ما هو فيه
وكذلك لا يشمت عاطسا فإن فعل شيئا من ذلك وتكلم في أذانه فقد أساء ويبني على أذانه ولا شيء عليه
وقول الشافعي وأبي حنيفة والثوري في ذلك نحو قول مالك قالوا لا يتكلم المؤذن في أذانه ولا إقامته وإن تكلم مضى ويجزئه وهو قول إسحاق
وروي عن الشعبي والنخعي وبن سيرين كراهة الكلام في الأذان
ولم أجد عن أحد من العلماء فيما علمت - إعادة الأذان وابتداءه لمن تكلم فيه إلا عن بن شهاب بإسناد فيه ضعف
401

ورخصت طائفة من العلماء في الكلام في الأذان منهم الحسن وعروة وعطاء وقتادة وإليه ذهب أحمد بن حنبل
وروي عن سليمان بن صرد أنه كان يأمر غلامه بالحاجة في أذانه
وروى الوليد بن مزيد عن الأوزاعي قال لا بأس برد السلام في أذانه ولا يرد في الإقامة
قال الأوزاعي ما سمعت أن مؤذنا قط أعاد أذانه
وقد زدنا في التمهيد هذا الحديث بيانا والحمد لله
133 - وأما حديث مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان لا يزيد على الإقامة في السفر إلا في الصبح (1) فإنه كان ينادي فيها ويقيم وكان يقول إنما الأذان للإمام الذي يجتمع الناس إليه
فيدل على ما قد مضى في الباب قبل هذا من مذهب من قال الأذان غير واجب في السفر لكنه سنة حسنة فمن شاء فعل ومن شاء ترك
134 - ومثله حديثه عن هشام بن عروة أن أباه قال له إذا كنت في سفر فإن شئت أن تؤذن وتقيم فعلت وإن شئت فأقم ولا تؤذن
وذلك نحو رواية بن القاسم عن مالك أن الأذان إنما يجب في الحضر عند الجماعات والحجة له أن المسافر قد سقطت عنه الجمعة فكذلك الجماعة
ولا معنى للتأذين إلا ليجتمع الناس
وحجة من قال إن المكتوبات تقام بأذان وإقامة في الحضر والسفر إجماع المسلمين على الأذان لها في الأمصار وأن ذلك من سنتها فلا تسقط تلك السنة في السفر إذ لم يجمعوا على سقوطها
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذن له في السفر والحضر ويأمر بذلك
وقد أجمعوا على أنه جائز للمسافر الأذان وأنه محمود عليه مأجور فيه
فدل على أن ذلك ليس كما قال من زعم أنه لا معنى له إلا ليجتمع الناس وأن لذلك فضلا كثيرا
402

135 - ألا ترى إلى ما رواه مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول من صلى بأرض فلاة (1) صلى عن يمينه ملك وعن شماله ملك فإذا أذن وأقام الصلاة أو أقام صلى وراءه من الملائكة أمثال الجبال
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة قال قال علي - رضي الله عنه - أيما رجل خرج إلى أرض فحضرت الصلاة فليتخير أطيب البقاع وأنظفها فإن كل بقعة يجب أن يذكر الله فيها فإن شاء أذن وأقام وإن شاء أقام وصلى
قال أبو بكر حدثنا معتمر بن سليمان عن أبيه عن أبي عثمان عن سلمان قال من كان بأرض فلاة فتوضأ ونادى بالصلاة ثم أقام وصلى صلى خلفه من جنود الله وخلقه ما لا يرى طرفاه
وقال سعد بن أبي وقاص لأن أقوى على الأذان أحب إلي من أن أحج وأعتمر وأجاهد
وعن زاذان أنه قال لو يعلم الناس ما في الأذان لاضطربوا عليه بالسيوف (2)
وقد مضى في فضل الأذان ما فيه كفاية
136 - وأما حديثه عن هشام بن عروة عن أبيه قال ((إذا كنت في سفر فإن شئت أن تؤذن وتقيم فعلت وإن شئت أن تقيم ولا تؤذن))
فقد خير فيه عروة من استفتاه وكان يختار لنفسه أن يؤذن ويقيم
ذكره بن أبي شيبة عن أبي أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه
وذلك لفضل الأذان عنده في السفر والحضر والله أعلم
وأما قول مالك في هذا الباب لا بأس أن يؤذن الرجل وهو راكب فلا أعلم فيه خلافا للمسافر ومن كرهه للمقيم لم ير عليه إعادة الأذان
ذكر أبو بكر حدثنا عبدة بن سليمان حدثنا عبيد الله عن نافع عن بن عمر أنه كان يؤذن على البعير وينزل فيقيم
403

وروى أشعث عن الحسن أنه كان لا يرى بأسا أن يؤذن الرجل ويقيم على راحلته ثم ينزل فيصلي
وروى العمري عن عبد الرحمن بن المجبر قال رأيت سالما يقوم على غرز الرحل فيؤذن
وروى وكيع عن محمد بن علي السلمي قال رأيت ربعي بن خراش يؤذن على برذون
ذكر أبو بكر [قال حدثنا] حفص عن حجاج عن أبي إسحاق قال كانوا يكرهون أن يؤذن الرجل وهو قاعد
وروى بن جريج عن عطاء أنه كره أن يؤذن قاعدا إلا من علة أو ضرورة
وأما الإقامة راكبا فقد أجازها قوم وكرهها آخرون
روى بن وهب عن مالك أنه سئل عن الإقامة على الدواب قال لا أرى بذلك بأسا إذا كان ذلك لسرعة السير ثم ينزلون فيصلون
وقال الأوزاعي يؤذن الرجل على ظهر دابته حيث توجهت به ويكره له أن يؤذن وهو جالس
وذكر الزعفراني عن الشافعي قال يؤذن الرجل راكبا في السفر
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد يجزئ الأذان قاعدا ويؤذن المسافر راكبا إن شاء وينزل فيقيم ولو أقام راكبا أجزأه
وذكر أبو الفرج عن مالك قال لا بأس أن يؤذن الرجل قائما وقاعدا وراكبا وجنبا وغير جنب (ولم يذكره في القاعد عن مالك غيره
وأجاز مالك والأوزاعي والثوري الأذان على غير وضوء جنبا وغير جنب)
وقال الشافعي أكره أن يؤذن أو يقيم على غير طهارة فإن فعل لم يعد أذانه ولا إقامته ولو أعاد الإقامة كان حسنا
(وروي عن الأوزاعي مثله سواء) وهو قول أبي حنيفة وأصحابه
قال أبو عمر روينا عن وائل بن حجر قال حق وسنة ألا يؤذن إلا وهو قائم ولا يؤذن إلا وهو على طهر
ووائل بن حجر من الصحابة
وقوله حق وسنة يدخل في المسند وذلك أولى من الرأي والله الموفق
404

((3 - باب قدر السحور من النداء))
137 - مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((إن بلالا ينادي بليل (1) فكلوا واشربوا حتى ينادي بن أم مكتوم))
138 - مالك عن بن شهاب عن سالم بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((إن بلالا ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي بن أم مكتوم))
(قال) وكان بن أم مكتوم رجلا أعمى لا ينادي حتى يقال له أصبحت أصبحت
وقد ذكرنا في التمهيد من وصل حديث بن شهاب فجعله عن سالم عن بن عمر (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)
وفي هذا الحديث جواز الأذان لصلاة الصبح ليلا وفي إجماع المسلمين على أن النافلة لا أذان لها ما دل على أن أذان بلال بالليل إنما كان لصلاة الصبح والله أعلم
وهذا قول علماء أهل الحجاز والشام
وممن أجاز الأذان لصلاة الصبح ليلا مالك والشافعي وأصحابهما والأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وداود والطبري وهو قول أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي الكوفي
وحجتهم حديث هذا الباب لأن فيه الإخبار بأن بلالا كان شأنه أن يؤذن للصبح بليل يقول فإذا جاء رمضان فلا يمنعكم أذانه من سحوركم وكلوا واشربوا حتى يؤذن بن أم مكتوم فإن من شأنه أن يقارب الصباح بأذانه
405

وقال أبو حنيفة والثوري وزفر ومحمد بن الحسن والحسن بن حي وجمهور أهل العراق من التابعين ومن بعدهم لا يجوز الأذان لصلاة الفجر حتى يطلع الفجر
وعندهم في ذلك آثار كثيرة قد ذكرها جماعة من المصنفين منهم بن أبي شيبة وعبد الرزاق وقد ذكرنا في ((التمهيد)) بعضها
منها أن رسول الله قال لبلال ((لا تؤذن حتى يستبين لك الفجر)) (1)
ومنها أن بلالا أذن مرة قبل الفجر فأمره رسول الله أن يعيد الأذان فينادي ألا إن العبد قد نام
وعرض مثل هذا لعمر مع مؤذن له يقال له مسروح أذن قبل الفجر فأمره بمثل ذلك
وآثار كثيرة بمثل هذا المعنى عن بلال وعن سلف أهل العراق إلا أن حديث بن عمر في هذا الباب أثبت عند أهل العلم بالنقل
ومن حجتهم أيضا أن سائر الصلوات قد أجمعوا أنه لا يجوز لها الأذان قبل وقتها
واختلفوا في الصبح فواجب أن ترد الصبح قياسا على غيرها إذ لم يجمعوا فيها على ما يجب التسليم له
والذي أقول به أنه جائز الأذان للصبح قبل الفجر لصحة الإسناد بذلك في حديث بن عمر على أن يؤذن لها مع ذلك المؤذن مؤذن آخر قرب الفجر استحسانا واحتياطا
وإنما قلت ذلك استحسانا ولم نر ذلك واجبا لأنا تأولنا في قوله أصبحت أصبحت قاربت الصباح بدليل قوله ((كلوا واشربوا حتى ينادي بن أم مكتوم)) ولو أذن قبل الفجر لم يؤمروا بالأكل إلى وقت أذانه
وقد أجمعوا أن الصيام من أول الفجر
وشذ في ذلك عنهم من هو محجوج بهم
وتأويل مقاربة الصباح موجودة في الأصول بدليل قوله * (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف) * [البقرة 231] وهذا معناه قاربن بلوغ أجلهن ولو بلغن أجلهن لم يكن لأزواجهن امساكهن بالمراجعة لهن وقد انقضت عدتهن
406

وفي هذا الحديث معان من الصيام ذكرتها عند ذكر هذا الحديث في التمهيد وأخرتها في هذا الكتاب إلى كتاب الصيام لأنه أولى المواضع بذلك
((4 - باب افتتاح الصلاة))
139 - مالك عن بن شهاب عن سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو (1) منكبيه (2) وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك أيضا وقال ((سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد)) وكان لا يفعل ذلك في السجود (3)
هكذا رواية يحيى لم يذكر الرفع عند الركوع وتابعه من رواة الموطأ جماعة وروته أيضا جماعة عن مالك فذكرت فيه رفع اليدين عند الافتتاح وعند الركوع وعند الرفع من الركوع وكذلك رواه أصحاب بن شهاب وهو الصواب
وقد ذكرنا في التمهيد من تابع يحيى على روايته كما وصفنا ومن رواه كما ذكرنا بحمد الله
140 - وذكر عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في الصلاة
قال أبو عمر معنى رفع اليدين عند الافتتاح وغيره - خضوع واستكانة وابتهال وتعظيم لله تعالى واتباع لسنة رسوله عليه السلام وليس بواجب والتكبير [في كل رفع وخفض] أو كد منه
وقد قال بعض العلماء إنه من زينة الصلاة
ذكر بن وهب قال أخبرني عياض بن عبد الله الفهري أن عبد الله بن عمر كان يقول لكل شيء زينة وزينة الصلاة التكبير ورفع الأيدي فيها
407

وعن بن لهيعة عن بن عجلان عن النعمان بن أبي عياش كان يقال لكل شيء زينة وزينة الصلاة التكبير ورفع الأيدي عند الافتتاح وحين يريد أن يركع وحين يريد أن يرفع
وقال عقبة بن عامر [له] بكل إشارة عشر حسنات بكل إصبع حسنة وقد ذكرت الإسناد عن عقبة بن عامر بذلك في التمهيد
واختلف العلماء في رفع الأيدي في الصلاة وعند الركوع [وعند رفع الرأس من الركوع وعند] السجود والرفع منه بعد إجماعهم على جواز رفع الأيدي عند افتتاح الصلاة مع تكبيرة الإحرام
فقال مالك فيما روى عنه بن القاسم يرفع [للإحرام] عند افتتاح الصلاة ولا يرفع في غيرها
قال وكان مالك يرى رفع اليدين في الصلاة ضعيفا
وقال إن كان ففي الإحرام
وهو قول الكوفيين أبي حنيفة وسفيان الثوري والحسن بن حي وسائر فقهاء الكوفة قديما وحديثا وهو قول بن مسعود وأصحابه والتابعين بها]
وقال أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي لا أعلم مصرا من الأمصار تركوا بأجمعهم رفع اليدين عند الخفض والرفع في الصلاة إلا أهل الكوفة فكلهم لا يرفع إلا في الإحرام
وذكر بن خواز بنداد قال اختلفت الرواية عن مالك في رفع اليدين في الصلاة فمرة قال يرفع في كل خفض ورفع على حديث بن عمر ومرة قال لا يرفع [إلا في تكبيرة الإحرام ومرة قال لا يرفع] أصلا والذي عليه أصحابنا [أن] الرفع عند الإحرام لا غير
قال أبو عمر وحجة من ذهب مذهب بن القاسم [في] روايته عن مالك في ذلك حديث بن مسعود وحديث البراء بن عازب عن النبي عليه السلام أنه كان يرفع عند الإحرام مرة لا يزيد عليها
وبعض رواتهما يقول كان لا يرفع في الصلاة إلا مرة (وبعضهم يقول كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة)
وقد ذكرنا الحديثين من طرق في التمهيد وذكرنا العلة عن العلماء فيهما هنا
وروى أبو مصعب وبن وهب عن مالك أنه كان يرفع يديه إذا أحرم وإذا ركع وإذا رفع من الركوع على حديث بن عمر
408

وقد ذكرنا الأسانيد عنهم بذلك عن مالك في التمهيد
ورواه أيضا عن مالك الوليد بن مسلم وسعيد بن أبي مريم وقال بن عبد الحكم لم يرو أحد عن مالك مثل رواية بن القاسم في رفع اليدين
قال محمد والذي آخذ به أن أرفع على حديث بن عمر
وذكر أحمد بن سعيد عن أحمد بن خالد قال كان عندنا جماعة من علمائنا يرفعون أيديهم في الصلاة على حديث بن عمر ورواية من روى ذلك عن مالك وجماعة لا يرفعون إلا في الإحرام على رواية بن القاسم فما عاب هؤلاء على هؤلاء ولا هؤلاء على هؤلاء
وسمعت شيخنا أبا عمر أحمد بن عبد الله بن هاشم يقول كان أبو إبراهيم إسحاق بن إبراهيم شيخنا يرفع يديه كلما خفض ورفع على حديث بن عمر في الموطأ وكان أفضل من رأيت وأفقههم وأصحهم علما فقلت لأبي عمر لم لا ترفع فنقتدي بك قال لا أخالف رواية بن القاسم لأن الجماعة عندنا اليوم عليها ومخالفة الجماعة فيما أبيح لنا ليست من شيم الأئمة
وقال الأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عبيد وأبو ثور وإسحاق ومحمد بن جرير الطبري وجماعة أهل الحديث بالرفع على حديث بن عمر إلا أن من أهل الحديث من يرفع عند السجود والرفع منه على حديث وائل بن حجر وعن النبي - عليه السلام - في ذلك
وقال داود بن علي الرفع عند تكبيرة الإحرام واجب ركن من أركان الصلاة
واختلف أصحابه فقال بعضهم الرفع عند الإحرام وعند الركوع والرفع منه واجب
وقال بعضهم لا يجب [الرفع عند الإحرام ولا غيره فرضا لأنه فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يأمر به]
وقال بعضهم لا يجب الرفع إلا عند الإحرام
وقال بعضهم هو واجب كله لقوله عليه السلام ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) (1)
وحجة من رأى الرفع عند الركوع وعند الرفع منه حديث بن عمر المذكور في
409

هذا الباب عن بن شهاب عن سالم عن أبيه عن النبي - عليه السلام (1) - وهو حديث لا مطعن لأحد فيه
وروى مثل ما روى بن عمر من ذلك عن النبي - عليه السلام - نحو ثلاثة عشر رجلا من الصحابة ذكر ذلك جماعة من أهل العلم بالحديث والمصنفين فيه منهم أبو داود وأحمد بن شعيب والبخاري ومسلم
وأفرد لذلك بابا أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البصري البزار وصنف فيه كتابا أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي من كتابه الكبير أكثر فيه من الآثار وطول
وروي الرفع في الخفض والرفع عن جماعة من الصحابة منهم بن عمر وأبو موسى وأبو سعيد وأبو الدرداء وأنس وبن عباس وجابر
وروي عن الحسن البصري قال كان أصحاب رسول الله يرفعون أيديهم في الصلاة إذا ركعوا وإذا رفعوا كأنها المراوح
ولم يرو عن أحد من الصحابة ترك الرفع عند كل خفض ورفع ممن لم يختلف فيه إلا بن مسعود وحده
وروى الكوفيون عن علي مثل ذلك وروى عنه المدنيون الرفع من حديث عبد الله بن رافع
وكذلك اختلف عن أبي هريرة فروى عنه أبو جعفر القارئ ونعيم المجمر أنه كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة ويكبر في كل خفض ورفع ويقول أنا أشبهكم صلاة برسول الله
وروى عنه عبد الرحمن بن هرمز الأعرج أنه كان يرفع يديه إذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع وهذه الرواية أولى لما فيها من الزيادة
وأما قوله أنا أشبهكم صلاة برسول الله فإنما ذكره أبو سلمة وغيره عنه في التكبير في كل خفض ورفع على ما يأتي بعد إن شاء الله
وروي الرفع عند الركوع والرفع منه عن جماعة من التابعين بالحجاز والعراق
410

والشام يطول الكتاب بذكرهم منهم القاسم بن محمد وسالم والحسن وبن سيرين وعطاء وطاوس ومجاهد ونافع مولى بن عمر وعمر بن عبد العزيز وبن أبي نجيح وقتادة والحسن بن مسلم
وقال بن سيرين هو من تمام الصلاة وقال عمر بن العزيز إن كنا لنؤدب عليها بالمدينة إذا لم نرفع أيدينا
وكان عمر بن عبد العزيز أيضا يقول في ذلك سالم قد حفظ عن أبيه
وقد ذكرنا الأسانيد عن كل من ذكرنا بكل ما وصفنا في التمهيد
وقال أبو بكر الأثرم سمعت أحمد بن حنبل يقول رأيت معتمر بن سليمان ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي وإسماعيل بن علية يرفعون أيديهم عند الركوع وإذا رفعوا رؤوسهم
وقيل لأحمد بن حنبل نرفع عند القيام من اثنتين وبين السجدتين قال لا أنا أذهب إلى حديث سالم عن أبيه ولا أذهب إلى وائل بن حجر لأنه مختلف في ألفاظه
قال أبو عمر قد ذكرنا حديث وائل بن حجر في التمهيد وقد عارضه حديث بن عمر بقوله وكان يرفع بين السجدتين
وقيل لأحمد بن حنبل يرفع المصلي عند الركوع فقال نعم ومن يشك في ذلك كان بن عمر إذا رأى رجلا لا يرفع يديه حصبه
قال أحمد حدثنا الوليد بن مسلم قال سمعت زيد بن رافع قال سمعت نافعا قال كان بن عمر إذا رأى من لا يرفع حصبه
قال أبو عمر كل من رأى الرفع وعمل به من العلماء لا يبطل صلاة من لم يرفع إلا الحميدي وبعض أصحاب داود ورواية عن الأوزاعي
وذكر الطبري قال حدثنا العباس بن الوليد بن زيد عن أبيه عن الأوزاعي قال بلغنا أن من السنة فيما أجمع عليه علماء أهل الحجاز والبصرة والشام أن رسول الله - عليه السلام - كان يرفع يديه حذو منكبيه حين يكبر لافتتاح الصلاة وحين يكبر للركوع وحين يرفع رأسه منه إلا أهل الكوفة فإنهم خالفوا في ذلك أمتهم
قيل للأوزاعي فإن نقص من ذلك [شيئا قال ذلك] نقص من صلاته
قال أبو عمر قد صح عن النبي - عليه السلام - من حديث أبي هريرة وحديث رفاعة بن رافع في الذي أمره أن يعيد صلاته فقال له ارجع فصل فإنك لم تصل ثم علمه فرائض الصلاة دون سننها قال له ((إذا أردت الصلاة فأسبغ الوضوء
411

واستقبل القبلة وكبر ثم اقرأ ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تطمئن رافعا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا)) (1) الحديث فلم يأمره برفع اليدين ولا من التكبير إلا بتكبيرة الإحرام وعلمه الفرائض في الصلاة وسنبين هذا فيما بعد إن شاء الله
فلا وجه لمن جعل صلاة من لم يرفع ناقصة ولا لمن أبطلها مع اختلاف الآثار في الرفع عن النبي - عليه السلام - واختلاف الصحابة ومن بعدهم واختلاف أئمة الأمصار في ذلك
والفرائض لا تثبت إلا بما لا مدفع له ولا مطعن فيه وقول الحميدي ومن تابعه شذوذ عند الجمهور وخطأ لا يلتفت أهل العلم إليه
وقد أوضحنا معاني هذا الباب وبسطناها في التمهيد والحمد لله
واختلفت الآثار عن النبي - عليه السلام - في كيفية رفع اليدين في الصلاة فروي عنه أنه كان يرفع يديه مدا فوق أذنيه مع رأسه روي عنه أنه كان يرفع يديه حذو أذنيه
وروي عنه أنه كان يرفع يديه حذو منكبيه (2) وروي عنه أنه كان يرفعها إلى صدره
وكلها آثار معروفة مشهورة وأثبت ما في ذلك حديث بن عمر هذا وفيه ((حذو منكبيه)) وعليه جمهور التابعين وفقهاء الأمصار وأهل الحديث
141 - وقد روى مالك عن نافع عن بن عمر أنه كان يرفع يديه في الإحرام حذو منكبيه وفي غير الإحرام دون ذلك قليلا
وكل ذلك واسع حسن وبن عمر روى الحديث وهو أعلم بمخرجه وتأويله وكل ذلك معمول عند العلماء به
وأما قوله في الحديث وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك وقال ((سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد)) فإن أهل العلم اختلفوا في الإمام هل يقول سمع
412

الله لمن حمده ربنا ولك الحمد أم يقتصر على سمع الله لمن حمده فقط
فذهب مالك وأبو حنيفة ومن قال بقولهما إلى أن الإمام يقول سمع الله لمن حمده لا غير
وحجتهم حديث الزهري عن أنس عن النبي - عليه السلام - قوله في الإمام ((وإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد)) (1)
فقصر الإمام على قول سمع الله لمن حمده والمأموم على قول ربنا ولك الحمد
وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وجماعة من أهل الحديث يقول الإمام سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد
وقال مالك يقولها المنفرد
وحجتهم في ذلك حديث بن عمر هذا المذكور في هذا الباب وفيه أن رسول الله قال ((سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد)) وما كان مثله
وممن روى عن النبي - عليه السلام - أنه كان يقول سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد - كما روى بن عمر - أبو هريرة من حديث بن شهاب عن أبي بكر عن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعن أبي سلمة عن أبي هريرة ومن حديث أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة
ورواه أبو سعيد الخدري وعبد الله بن أبي أوفى كلهم عن النبي - عليه السلام - أنه كان يقول ((سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد))
وكان أبو هريرة يفتي به ويعمل روى بن عيينة عن أيوب السختياني عن عبد الرحمن الأعرج قال سمعت أبا هريرة - يؤم الناس - إذا قال سمع الله لمن حمده قال ربنا ولك الحمد
وأما المأموم فقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري لا يقول المأموم سمع الله لمن حمده وإنما يقول ربنا ولك الحمد فقط
وقال الشافعي يقول المأموم سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد كما
413

يقول الإمام والمنفرد تأسيا بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم واقتداء بفعل إمامه
وفي حديث بن شهاب عن أنس حجة لمالك في المأموم والإمام وسيأتي في موضعه إن شاء الله
ولم يذكر مالك في هذا الباب - وهو باب افتتاح الصلاة - شيئا من الذكر للاستفتاح غير التكبير ومذهبه التكبير والقراءة متصلة به ليس بينهما تعوذ ولا ذكر بتوجيه ولا غيره ونبين ذلك فيما بعد إن شاء الله
142 - وأما ما ذكره أيضا في هذا الباب عن بن شهاب عن علي بن حسين بن أبي طالب أنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في الصلاة كلما خفض (1) ورفع (2) فلم تزل تلك صلاته حتى لقي الله
143 - وعن بن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أن أبا هريرة كان يصلي لهم (3) فيكبر كلما خفض ورفع فإذا انصرف قال والله إني لأشبهكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
144 - وعن بن شهاب عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر كان يكبر في الصلاة كلما خفض ورفع
145 - وعن أبي نعيم وهب بن كيسان عن جابر بن عبد الله أنه كان يعلمهم التكبير في الصلاة قال فكان يأمرنا أن نكبر كلما خفضنا ورفعنا
وقد ذكرنا في ((التمهيد)) الآثار المروية المسندة في معنى حديث بن شهاب عن علي بن حسين هذا منها حديث مطرف بن الشخير قال صليت أنا وعمران بن حصين خلف علي بن أبي طالب فكان إذا سجد كبر وإذا رفع رأسه كبر وإذا رفع
414

من الركعتين كبر فلما قضى الصلاة وانصرفنا أخذ عمران بيدي فقال لي أذكرني هذا صلاة محمد عليه السلام (1)
وحديث عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك الأشعري أنه جمع قومه فقال ألا أصلي لكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم الظهر فكبر بهم اثنتين وعشرين تكبيرة يعني بتكبيرة الافتتاح يكبر إذا ركع وإذا رفع وإذا سجد
وحديث عكرمة قال صليت خلف شيخ بمكة [فكبر] اثنتين وعشرين تكبيرة فقلت لابن عباس إنه أحمق فقال ثكلتك أمك سنة أبى القاسم (2)
وقد ذكرنا أسانيد هذه الأحاديث في التمهيد
وحديث الزهري عن أبي سلمة وأبي بكر بن عبد الرحمن أن أبا هريرة صلى لهم حين استخلفه مروان على المدينة فكبر حين قام إلى الصلاة وحين ركع وحين رفع رأسه وحين يهوي ساجدا وحين يقوم من اثنتين وبين السجدتين ثم قال والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله (3)
وقد ذكرنا هذا الحديث عن الزهري باختلاف أصحابه عليه في إسناده وألفاظه في التمهيد
وهو حديث ثابت من رواية مالك وغيره عن الزهري ولم يختلف في معناه أن أبا هريرة كان يكبر بهم في كل خفض ورفع ويقول لهم هذه صلاة رسول الله كما قال بن عباس سنة أبي القاسم (4)
وهذا كله يدل على أن التكبير في الخفض والرفع لم يكن مستعملا عندهم ولا ظاهرا فيهم ولا مشهورا من فعلهم في صلاتهم ولو كان ذلك ما كان أبو هريرة [يفعله ويقول إنه] أشبههم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أنكر عكرمة على الشيخ ما قال
415

له بن عباس فيه إنه السنة ولا قال عمران بن حسين في مثل ذلك من صلاة علي لقد أذكرني هذا صلاة محمد عليه السلام
ومثل هذا وأبين حديث أبي إسحاق السبيعي عن يزيد بن أبي مريم عن أبي موسى الأشعري قال صلى بنا علي يوم الجمل صلاة أذكرنا بها صلاة رسول الله كان يكبر في كل خفض ورفع وقيام وقعود قال أبو موسى فإما نسيناها وإما تركناها عمدا
وروى الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير قال حدثني أبو سلمة قال رأيت أبا هريرة يكبر هذا التكبير الذي ترك الناس قال فقلت يا أبا هريرة ما هذا التكبير فقال إنها لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم (1)
وقد ذكرنا أسانيد هذه الأحاديث كلها في التمهيد
وهذا يدلك على أن التكبير في غير الإحرام لم ينقله السلف من الصحابة والتابعين على الوجوب ولا على أنه من مؤكدات السنن بل قد قال قوم من أهل العلم إن التكبير إنما هو إذن بحركات الإمام وشعار الصلاة وليس بسنة إلا في الجماعة وأما من صلى وحده فلا بأس عليه ألا يكبر
ولهذا ما ذكر مالك في هذا الباب حديثه عن بن شهاب عن علي بن حسين وعن بن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعين وعن بن عمر وجابر فعلهما ليبين بذلك أن التكبير في كل خفض ورفع سنة مسنونة وإن لم يعمل بها إلا بعض الصحابة فالحجة في السنة لا فيما خالفها
ومما يدلك على ما وصفنا ما ذكره بن أبي ذئب في موطئه عن سعيد بن سمعان عن أبي هريرة أنه قال ثلاث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلهن تركهن الناس كان إذا قام إلى الصلاة رفع يديه مدا وكان يقف قبل القراءة هنية يسأل الله من فضله وكان يكبر كلما خفض ورفع (2)
وروى أبو إسحاق عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه وعلقمة عن عبد الله بن مسعود قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في كل ركوع وسجود وخفض ورفع
416

وقد ذكرنا إسناده في التمهيد
وقد روي عن النبي - عليه السلام - حديث ليس في الاشتهار ولا في الصحة كأحاديث مالك في هذا الباب ورواه شعبة بن الحجاج عن الحسن بن عمران عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه قال صليت مع النبي - عليه السلام - فلم يتم التكبير وصليت مع عمر بن عبد العزيز فلم يتم التكبير
وقال إسحاق بن منصور سمعت أحمد بن حنبل يقول يروى عن بن عمر أنه كان لا يكبر إذا صلى وحده [قال وكان قتادة يكبر إذا صلى وحده] قال أحمد وأحب إلي أن يكبر من صلى وحده في الفرض وأما التطوع فلا
قال وقلت لأحمد ما الذي نقصوا من التكبير قال إذا انحط إلى السجود من الركوع وإذا أراد أن يسجد السجدة الثانية من كل ركعة
قال أبو عمر ما رواه مالك عن بن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر أن أباه كان يكبر في الصلاة كلما خفض ورفع يرد ما حكى عنه أحمد بن حنبل إلا أن يحمل على المجمل والمفسر فيكون حديث مالك إذا صلى إماما أو مأموما ويكون معنى ما حكى عنه أحمد إذا صلى وحده
وقد روى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عون بن عبد الله قال قال لي عمر بن عبد العزيز أرضي كان عندك عمر وابنه فإنهما كانا لا يكبران هذا التكبير في الخفض والرفع
وسفيان عن عمرو بن دينار قال قال لي أبو الشعثاء يا عمرو صليت خلف بن عباس بالبصرة فلم يكبر هذا التكبير
146 - وقد روى أشهب عن مالك عن بن شهاب عن سالم عن أبيه أنه كان يكبر كلما خفض ورفع ويخفض بذلك صوته
فانفرد أشهب بقوله في حديث [مالك هذا ويخفض بذلك صوته لم يقله عن مالك في هذا الحديث أحد غيره] فيا علمت والله أعلم
قال أبو عمر اختلف الفقهاء فيمن ترك التكبير في الصلاة فكان بن القاسم يقول من أسقط من التكبير في الصلاة ثلاث تكبيرات فما فوقها سجد للسهو قبل السلام فإن لم يسجد بطلت صلاته
417

وإن نسي تكبيرة واحدة أو اثنتين سجد أيضا للسهو قبل السلام فإن لم يفعل فلا شيء عليه
وروي عنه أن التكبيرة الواحدة لا سهو على من سها عنها
وهذا يدل على أن عظم التكبير وجملته عنده فرض وأن اليسير منه متجاوز عنه
وقال أصبغ بن الفرج وبن عبد الحكم من رواية مالك ليس على من لم يكبر في الصلاة من أولها إلى آخرها شيء إذا كبر تكبيرة الإحرام فإن فعله ساهيا سجد للسهو فإن لم يسجد فلا شيء عليه
ولا ينبغي لأحد أن يترك التكبير عامدا لأنه سنة من سنن الصلاة فإن فعل فقد أساء وصلاته ماضية
وعلى هذا القول [جماعة من] فقهاء الأمصار من الشافعيين والكوفيين وجماعة أهل الحديث والمالكيين غير من ذهب منهم مذهب بن القاسم
وقال أبو بكر الأبهري على مذهب مالك الفرائض في الصلاة خمس عشرة فريضة أولها النية ثم الطهارة وستر العورة والقيام إلى الصلاة ومعرفة دخول الوقت والتوجه إلى القبلة وتكبيرة الإحرام وقراءة أم القرآن والركوع ورفع الرأس منه [والسجود ورفع الرأس منه] والقعود الأخير والسلام وقطع الكلام
فلم يذكر الأبهري من التكبير في فرائض الصلاة غير تكبيرة الإحرام
ثم ذكر سنن الصلاة فقال
وسنن الصلاة خمس عشرة سنة أولها الأذان والإقامة ورفع اليدين والسورة مع أم القرآن والتكبير كله سوى تكبيرة الإحرام وسمع الله لمن حمده والاستواء من الركوع ومن السجود والتسبيح في الركوع والتسبيح في السجود والتشهد والجهر في صلاة الليل والسر في صلاة النهار وأخذ الرداء ورد السلام على الإمام إذا سلم من الصلاة
فذكر في سنن الصلاة والتكبير كله سوى تكبيرة الإحرام
وهذا هو الصواب وعليه جماعة أئمة الفقهاء بالأمصار
وإنما اختلف الأئمة من الفقهاء في تكبيرة الإحرام فذهب مالك في أكثر الرواية عنه والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه إلى أن تكبيرة الإحرام فرض واجب من فروض الصلاة
والحجة لهم الحديث الذي ذكرنا عن أبي هريرة ورفاعة بن رافع عن النبي
418

- عليه السلام - أنه قال [للرجل] ((إذا أردت الصلاة فأسبغ الوضوء واستقبل القبلة ثم كبر ثم اقرأ ثم اركع حتى تطمئن)) (1) الحديث
فعلمه ما كان من الصلاة واجبا سكت له عن كل ما كان منه مسنونا ومستحبا مثل التكبير ورفع اليدين والتسبيح ونحو ذلك
فبان بذلك أن تكبيرة الإحرام واجب فعلها مع قوله عليه السلام ((تحريم الصلاة التكبير وتحليلها التسليم)) (2)
رواه علي بن أبي طالب عن النبي عليه السلام ورواه أبو سعيد الخدري وقد ذكرنا الأسانيد بذلك في التمهيد
ومنها حديث سفيان الثوري عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن محمد بن الحنفية عن علي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((تحريم الصلاة التكبير وتحليلها التسليم)) (3)
وقال عبد الرحمن بن مهدي لو افتتح الرجل الصلاة بسبعين اسما من أسماء الله ولم يكبر تكبيرة الإحرام لم يجزه وإن أحدث قبل أن يسلم لم يجزه
وهذا تصحيح من عبد الرحمن بن مهدي لحديث ((تحريمها التكبير وتحليلها التسليم)) وتدين منه به وهو إمام في علم الحديث ومعرفة صحيحه من سقيمه وحسبك به
وقال الزهري والأوزاعي وطائفة تكبيرة الإحرام ليست بواجبة
وقد روي عن مالك في المأموم ما يدل على هذا القول ولم يختلف قوله في الإمام والمنفرد أن تكبيرة الإحرام واجبة على كل واحد منهما وأن الإمام إذا لم يكبر للإحرام بطلت صلاته وصلاة من خلفه وهذا يقضي على قوله في المأموم
والصحيح في مذهبه إيجاب تكبيرة الإحرام وأنها فرض ركن من أركان الصلاة وهو الصواب وكل من خالف ذلك فمخطئ محجوج بما وصفنا وبالله توفيقنا
واختلف الفقهاء في حين تكبير المأموم إذا كبر الإمام تكبيرة الإحرام
419

فقال بن خوار بنداذ قال مالك إذا كبر الإمام كبر المأموم بعده ويكره له أن يكبر في حال تكبيره فإن كبر في حال تكبيره أجزأه وإن كبر قبله لم يجزه
قال وقال أبو حنيفة وزفر ومحمد والثوري وعبيد الله بن الحسن يكبر مع تكبير الإمام
قال محمد بن الحسن فإن فرغ المأموم من التكبيرة قبل الإمام لم يجزه
وقال الثوري يجزئه
وقال أبو يوسف والشافعي في أشهر قوليه لا يكبر المأموم حتى يفرغ الإمام من التكبير
وللشافعي قول آخر إن كبر قبل الإمام أجزأه
وعند بعض أصحابه أنه لو افتتح الصلاة لنفسه ثم أراد أن يدخل في صلاة الإمام كان ذلك على أحد قولي الشافعي
وقالت طائفة من أصحاب داود وغيرهم إن تقدم جزء من تكبير المأموم في تكبير الإحرام لم يجزه وإنما يجزيه أن يكون تكبيره كله في الإحرام بعد إمامه
وإلى هذا ذهب الطحاوي واحتج بأن المأموم إنما أمر أن يدخل في صلاة الإمام بالتكبير والإمام إنما يصير داخلا فيها بالفراغ من التكبير فكيف يصح دخول المأموم في صلاة لم يدخل فيها إمامه بعد
واحتج أيضا لمن أجاز من أصحابه تكبيرهما معا بقوله عليه السلام ((إذا كبر الإمام فكبروا))
[قال] وهذا يدل على أنهم يكبرون معا لقوله ((وإذا ركع فاركعوا)) وهم يركعون معا والقول عنده أصح وهو قول أبي يوسف وأحد قولي الشافعي وهو تحصيل مذهب مالك عند المتأخرين من أصحابه البغداديين
قال أبو عمر محتمل أن يكون قوله إذا كبر فكبروا فيما عدا الإحرام لأن تكبيرة الإحرام قد باينت سائر التكبير بالدلائل التي أوردنا على أن في حديث أبي موسى ((فإن
الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم))
واختلفوا في الوقت الذي يكبر فيه الإمام للإحرام
فقال مالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد بن الحسن لا يكبر حتى يفرغ [المؤذن من الإقامة] وبعد أن تعتدل الصفوف ويقوم الناس في مقاماتهم
والحجة لهم حديث أنس أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يكبر في الصلاة
420

فقال ((أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري)) (1)
وعن عمر وعثمان مثل ذلك في حال التكبير للإحرام حتى تفرغ الإقامة وتستوي الصفوف
وقال أبو حنيفة والثوري وزفر لا يكبر الإمام قبل فراغ المؤذن من الإقامة ويستحبون أن يكون تكبير الإمام في الإحرام إذا قال المؤذن قد قامت الصلاة
وحجتهم حديث الثوري عن عاصم الأحول عن أبي عثمان النهدي عن بلال قلت ((يا رسول الله لا تسبقني بآمين)) (2) وقد ذكرنا إسناده فيما تقدم من هذا الكتاب وهو يدل على أنه كان يكبر قبل فراغ بلال من الإقامة
واختلفوا أيضا في التكبير فيما عدا الإحرام هل يكون مع العمل أو بعده
فذهب مالك وأصحابه إلى أن التكبير يكون في حال الرفع والخفض حين ينحط إلى الركوع وإلى السجود وحين يرفع عنهما إلا في القيام من الجلسة الأولى فإن الإمام وغيره لا يكبر حتى يستوي قائما فإذا اعتدل قائما كبر ولا يكبر إلا واقفا كما لا يكبر في الإحرام إلا واقفا ما لم تكن ضرورة
وروى نحو ذلك عن عمر بن عبد العزيز
وقال أبو حنيفة والثوري والشافعي وجمهور العلماء التكبير في القيام من اثنتين وغيره سواء يكبر في حال الرفع والخفض والقيام والقعود على حديث بن مسعود بذلك عن النبي عليه السلام وهو ظاهر أحاديث الموطأ المرفوعة وقول بن عمر وجابر في الموطأ بمثل ذلك أيضا
وقد أشبعنا هذا المعنى في التمهيد والحمد لله
وقد مضى في هذا الباب بالدلائل الواضحة ما بان به أن تكبيرة الإحرام فرض واجب
وإذا كان ذلك كذلك صح أن الإمام لا يحملها عن المأموم لأنه لا يحمل عنه فرضا
وقد أتى عن مالك وبعض أصحابه في المأموم ينسى تكبيرة الإحرام ما نورده بعد ونوضح ضعفه ووهنه لأنهم حرجوا فيه عما أصلوه في وجوب التكبير للإحرام
421

إلى قول من لم يوجبه وراعوا في ذلك ما لا تجب مراعاته من اختلاف السلف في وجوب تكبيرة الإحرام
والاختلاف ليس بحجة إنما الحجة في الإجماع وبالله التوفيق
وأجمع جمهور العلماء على أن التكبير في افتتاح الصلاة لا يجزئ منه غيره من سائر الذكر تهليلا كان أو تسبيحا أو تحميدا
وعلى هذا مذهب الحجازيين مالك والشافعي ومن اتبعهم وأكثر العراقيين
وروي عن الحكم بن عتبة قال إذا ذكر الله مكان التكبير أجزأه
وقال أبو حنيفة إن افتتح بلا إله إلا الله يجزيه وإن قال اللهم اغفر لي لم يجزه
ولا يجزئ عند مالك إلا ((الله أكبر)) لا غيره
وكذلك قال الشافعي وزاد ويجزي الله الأكبر ولا يجزئ عند المالكيين الله الأكبر
وقال أصحاب مالك والشافعي وأصحابه وأبو يوسف ومحمد بن الحسن من أحسن العربية لم يجزه أن يكبر بالفارسية
وقال أبو حنيفة يجزيه التكبير بالفارسية وإن كان يحسن العربية وكذلك لو قرأ بالفارسية عنده
وأما من نسي من المأمومين تكبيرة الافتتاح فلم يذكرها حتى صلى ولا كبر للركوع تكبيرة ينوي بها الإحرام فلا صلاة له عند جمهور الفقهاء منهم مالك والثوري وربيعة بن أبي عبد الرحمن وإبراهيم النخعي وأحمد بن حنبل وأبو حنيفة والشافعي وإسحاق وأبو ثور
واختلف في ذلك عن حماد بن أبي سليمان والصحيح عنه أنه قال يعيد صلاته ويستأنف كقول إبراهيم
وقال الحكم تجزيه تكبيرة الركوع وهو قول سعيد بن المسيب والحسن البصري والزهري والأوزاعي فإن نوى بتكبيرة الركوع الافتتاح والركوع أجزأه عند مالك إن كان في حال الدخول للصف وكان الإمام راكعا ولا يجزيه عند الشافعي إلا أن يبدأ بنية في تكبيرة الإحرام للإحرام لا للركوع [فإن نوى] بتكبيرة الإحرام الإحرام والركوع بطلت عنده صلاته وعليه إعادتها
وكذلك كل من كبر للإحرام منحطا للركوع لا يجزيه حتى يكون قائما معتدلا
422

فإن هوى بشيء من تكبيرة الإحرام ولم يتمها معتدلا قطع بسلام وابتدأ الإحرام
هذا كله قول الشافعي وبالله التوفيق
147 - ذكر مالك في الموطأ عن بن شهاب أنه كان يقول إذا أدرك الرجل الركعة فكبر تكبيرة واحدة أجزأت عنه تلك التكبيرة
قال مالك وذلك إذا نوى بتلك التكبيرة افتتاح الصلاة
وسئل مالك عن رجل دخل مع الإمام فنسي تكبيرة الافتتاح وتكبيرة الركوع حتى صلى ركعة ثم ذكر أنه لم يكن كبر تكبيرة الافتتاح ولا عند الركوع وكبر في الركعة الثانية قال يبتدئ صلاته أحب إلي ولو سها مع الإمام عن تكبيرة الافتتاح وكبر في الركوع الأول رأيت ذلك مجزيا عنه إذا نوى بها تكبيرة الافتتاح
قال أبو عمر أما قول بن شهاب في المسألة قبل هذا فليس فيه دليل أنه نوى بتكبيرته تلك الافتتاح وهو معروف من مذهبه في ترك إيجاب التكبير للافتتاح فرضا
وأما قول مالك وذلك إذا نوى بتلك التكبيرة الافتتاح فإنما هو على مذهبه كأنه قال وذلك إذا نوى به عندنا تكبيرة الافتتاح
وهذا صحيح لأن الداخل المدرك للإمام راكعا إذا كبر تكبيرة واحدة ينوي بها افتتاح الصلاة وركع بها أغنته عن تكبيرة الركوع
وقد أوضحنا أن التكبير فيما عدا الإحرام سنة فدل ذلك على أن من قال من العلماء يكبر الداخل تكبيرتين إحداهما للافتتاح والأخرى للركوع - أراد الكمال والإتيان بالفرض والسنة ومن اقتصر على تكبيرة الافتتاح [فقد] اقتصر على ما أجزأه
وأما قول مالك في الذي يدخل مع الإمام فينسى تكبيرة الافتتاح والركوع حتى صلى ركعة ثم ذكر ذلك وكبر في الركعة الثانية إنه استحب له أن يبتدئ صلاته
فالجواب أن قوله ثم كبر في الركعة الثانية لا يخلو من أن يكون نوى بالتكبيرة تكبيرة الافتتاح أو لم ينو بها إلا تكبيرة الركوع فقط فإن كان نوى بها الافتتاح - وهو في الركعة الثانية - فوجه الاستحباب له أن يبتدئ صلاته يعني - والله أعلم - بالإقامة والإحرام لأنه راعى فيه قول من قال إن الإحرام ليس بواجب وإنه لو
423

تمادى في صلاته أجزته إلا أن مالكا يرى عليه الإعادة بعد ذلك للأخذ بالأوثق والاحتياط لأداء فرضه
فوجه استحبابه أن يقطع ويبتدئ صلاته - رجوعه إلى أصله في إيجاب تكبيرة الإحرام وترك مراعاة من خالف ذلك فرأى له أن يبتدئ فيصلي ما أدرك ويقضي ما فاته على أنه قد يأتي له - رحمه الله - استحباب في موضع الوجوب
وإن كان لم ينو بها الافتتاح وإنما كبر للركوع دون نية الافتتاح وذلك في الركعة الثانية (فذلك أحرى) أن يقطع ويبتدئ صلاته كما قد روى عنه بن القاسم وغيره ويكون قوله أحب إلي أن يبتدئ صلاته - من باب استحباب ما يجب فعله فإنه قد يأتي له مثل هذا اللفظ في الواجب أحيانا
وقد اضطرب أصحابه في هذه المسألة اضطرابا كثيرا ينقض بعضه ما قد أصلوه في إيجاب تكبيرة الإحرام ولم يختلفوا في وجوبها على المنفرد والإمام كما لم يختلفوا أن الإمام لا يحمل فرضا من فروض الصلاة عمن خلفه
فقف على هذا كله من أصولهم بين لك وجه الصواب إن شاء الله
ومن اضطرابهم في هذه المسألة تفرقتهم بين تكبير الداخل للركوع دون الإحرام في الركعة الأولى وبين تكبيرة الركوع في الركعة الثانية بما لا معنى لإيراده ولا للاشتغال به
كما أنه من راعى في أجوبته قولا لا يصح عنده ولا يذهب إليه فإنه فساد داخل عليه
ألا ترى أنه لا يراعى ذلك أحد منهم ولا من غيرهم في غير هذه المسألة من مسائل الوضوء ولا الصلاة ولا الصيام وأكثر أبواب الشرائع والأحكام وبالله التوفيق لا شريك له
وفيما ذكرنا ما يبين لك به أن من لم يكبر للإحرام ليس في صلاة ومن ليس في صلاة فلا حاجة به إلى القطع بسلام
وهذا موضع قد اضطرب فيه أصحاب مالك أيضا وذلك لمراعاتهم الاختلاف فيما لا تجب مراعاته لأن الاختلاف لا يوجب حكما إنما يوجبه الإجماع أو الدليل من الكتاب والسنة وبذلك أمرنا عند التنازع
وأما الثوري فقال إذا وجدت الإمام راكعا فكبر تكبيرة تنوي بها الافتتاح وكبر أخرى للركوع وكذلك إذا وجدته ساجدا كبر تكبيرة للافتتاح ثم كبر أخرى
424

للسجود ولا تحسب لها فإن وجدته جالسا فكبر للافتتاح واجلس بغير تكبيرة وإذا قمت فقم بتكبير
وقال الشافعي إذا وجد الإمام راكعا فكبر تكبيرة نوى بها الافتتاح أجزأته وكان داخلا في الصلاة فإن نوى بها غير الافتتاح أو نوى بها الافتتاح والركوع جميعا لم يكن داخلا في الصلاة لأنه لم يفرد النية لها
وقال [أبو حنيفة] وأبو يوسف ومحمد مثل قول مالك إذا نوى بتكبيرة الركوع تكبيرة الافتتاح أو تكبيرة الافتتاح والركوع معا أجزأه وهو قول أبي ثور وهو الصحيح عندنا لما قدمنا عن بن عمر أنه كان يغتسل للجنابة والجمعة غسلا واحدا
((5 - باب القراءة في المغرب والعشاء))
ما ذكره في هذا الباب
148 - من قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة المغرب بالطور وبالمرسلات
149 - وقراءته في العشاء بالتين والزيتون
425

ومثل ذلك حديث أنس وجابر بن سمرة أن النبي - عليه السلام - كان يقرأ في الظهر بسبح اسم ربك الأعلى (1) من غير الموطأ
149 م - ومن قراءة أبي بكر الصديق بأم القرآن في المغرب وبقراءته مع ذلك * (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا) * [آل عمران 8] وبالقراءة في كل ركعة بأم
القرآن وسورة من قصار المفصل
150 - وقراءة بن عمر في كل ركعة بأم القرآن وسورة وربما قرأ السورتين والثلاث في ركعة
فكل ذلك من المباح الجائز أن يقول المرء بما شاء مع أم القرآن ما لم يكن إماما يطول على من خلفه
وبنحو ذلك تواترت الآثار في القراءة عن النبي - عليه السلام - في الصلاة مرة يخفف وربما طول صنع ذلك في كل صلاة
وهذا كله يدل على أن لا توقيت في القراءة عند العلماء [بعد فاتحة الكتاب]
وهذا إجماع من علماء المسلمين ويشهد لذلك قوله - عليه السلام - ((من أم الناس فليخفف)) (2) ولم يحد شيئا
426

وإنما اختلفوا في أقل ما يجزئ من القراءة وفي أم القرآن هل يجزئ منها غيرها من القرآن أم لا
وأجمعوا أن لا صلاة إلا بقراءة
وقد قال الشافعي ببغداد تسقط القراءة عمن نسي فإن النسيان موضوع ثم رجع عن هذا بمصر فقال لا تجزئ صلاة من يحسن فاتحة الكتاب إلا بها ولا يجزئه أن ينقص منها حرفا فإن لم يقرأها أو نقص منها حرفا أعاد الصلاة وكذا إن قرأ بغيرها
قال أبو عمر أظن قول الشافعي القديم دخلت الشبهة فيه عليه بما روي عن عمر أنه صلى المغرب فلم يقرأ فيها فذكر ذلك له فقال كيف كان الركوع والسجود قيل حسن قال لا بأس إذن
وهذا حديث منكر وقد ذكره مالك في الموطأ وهو عند بعض رواته ليس عند يحيى وطائفة معه لأنه رماه مالك من كتابه [بأخرة] وقال ليس عليه العمل لأن النبي - عليه السلام - قال ((كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج)) (1)
قال أبو عمر وقد وري عن عمر أنه أعاد تلك الصلاة وهو الصحيح عنه
وروى يحيى بن يحيى النيسابوري قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم النخعي عن همام بن الحارث أن عمر نسي القراءة في المغرب فأعاد الصلاة (2)
وهو حديث متصل وحديث مالك مرسل عن عمر لا يصح والإعادة عنه صحيحة رواها عن عمر جماعة منهم همام وعبد الله بن حنظلة وزياد بن عياض وكلهم لقي عمر وسمع منه وشهد القصة وروى الإعادة عن عمر أيضا غيرهم
وذكر عبد الرزاق عن عكرمة بن عمار عن ضمضم بن جوس عن عبد الله بن حنظلة قال صليت مع عمر فلم يقرأ فأعاد الصلاة
وروى إسرائيل عن جابر عن الشعبي عن زياد بن عياض أن عمر صلى بهم فلم يقرأ فأعاد الصلاة وقال لا صلاة إلا بقراءة
427

وروى معمر عن قتادة وعن أبان عن جابر بن زيد أن عمر أعاد [تلك] الصلاة بإقامة
وقال بن جريج عن عكرمة بن خالد إن عمر أمر المؤذن فأقام وأعاد تلك الصلاة
ذكر عبد الرزاق ذلك عن معمر عن بن جريج
وروى أشهب عن مالك قال سئل مالك عن الذي ينسى القراءة أيعجبك ما قال عمر قال أنا أنكر أن يكون عمر فعله وأنكر الحديث [وقال يرى الناس عمر يصنع هذا في المغرب فلا يسبحون به ولا يخبرونه أرى أن يعيد الصلاة من فعل هذا ويعيد القوم الذين صلوا معه]
وأما اختلافهم فيما يجزئ من القراءة في الصلاة فقال مالك إذا لم يقرأ في الركعتين يعني من صلاة أربع أعاد
وقد قال من لم يقرأ في نصف صلاته أعاد
وقال مرة أخرى من نسي أن يقرأ في الصلاة كلها أو في أكثرها رأيت أن يعيد الصلاة كلها
قال وسنة القراءة أن يقرأ في الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورة وفي الأخريين بفاتحة الكتاب
وقال الأوزاعي يقرأ بأم القرآن فإن لم يقرأ بأم القرآن وقرأ بغيرها أجزأه
قال وإن نسي أن يقرأ في ثلاث ركعات أعاد
وقال الثوري يقرأ في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة ويسبح في الآخرتين وهو قول أبي حنيفة وسائر الكوفيين
قال سفيان وإن لم يقرأ في ثلاث ركعات أعاد الصلاة لأنه لا تجزئه قراءة ركعة
قال وكذلك إن نسي أن يقرأ في ركعة من صلاة الفجر
وقال أبو ثور لا تجزئ صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب في كل ركعة كقول الشافعي المصري وعليه جماعة أصحاب الشافعي
وقال بن خواز منداد المالكي قراءة أم القرآن واجبة عندنا في كل ركعة
قال ولم يختلف قول مالك أنه من نسيها في ركعة من صلاة ركعتين أن يعيد الصلاة ولا تجزئه
واختلف قوله إذا تركها ناسيا في ركعة من صلاة ثلاثية أو رباعية
428

فقال يعيد الصلاة أصلا وهو قول بن القاسم وروايته عنه وقال يسجد سجدتي السهو وتجزئه
وهي رواية بن عبد الحكم عنه قال [قد قيل] يعيد تلك الركعة ويسجد للسهو بعد السلام
قال وقال الشافعي وأحمد بن حنبل لا يجزئه حتى يقرأ بفاتحة الكتاب في كل ركعة نحو قولنا
قال وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي إن تركها عامدا في صلاته كلها وقرأ غيرها أجزأه
قال أبو حنيفة أقله آية وقال أبو يوسف ومحمد ثلاث آيات أو آية طويلة نحو آية الدين
وقال الشافعي أقل ما يجزئه فاتحة الكتاب إن أحسنها فإن كان لا يحسنها ويحسن غيرها من القرآن قرأ بعدها سبع آيات لا يجزئه دون ذلك
وإن لم يحسن شيئا من القرآن حمد الله وكبر بمكان القراءة لا يجزئه غيره
ومن أحسن فاتحة الكتاب فإن ترك منها حرفا واحدا وخرج من الصلاة أعاد
وقال الطبري يقرأ بأم القرآن فإن لم يقرأ بها لم يجزه إلا مثلها من القرآن في عدد آياتها وحروفها
قال أبو عمر قوله عليه السلام لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن فهي خداج غير تمام - حديث أبي هريرة
وقول أبي سعيد الخدري [بين لنا] نبينا عليه السلام أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر فعين فاتحة الكتاب لوجوبها وخير فيما ليس بواجب [رحمة ورفقا]
وهذا كله يشهد لصحة [قول] من أوجب القراءة بها في الصلاة في كل ركعة كما قال جابر لأن ركوع ركعة [لا ينوب] عن ركوع أخرى ولا سجود ركعة ينوب عن سجود أخرى فكذلك لا تنوب قراءة ركعة عن قراءة أخرى
وهي رواية بن القاسم عن مالك واختياره وهو الصواب إن شاء الله
وأما قول أبي بكر في الركعة الثالثة [من المغرب] * (ربنا لا تزغ قلوبنا) * الآية فإنما هو ضرب من القنوت والدعاء لما كان فيه من أمر أهل الردة
والقنوت جائز في المغرب عند جماعة من أهل العلم وفي كل صلاة أيضا وأوكد ذلك في الصبح ومنهم من لا يرى ذلك أصلا وسيأتي في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله
429

151 - وذكر عن بن عمر أنه كان إذا صلى وحده يقرأ في الأربعة جميعا في كل ركعة بأم القرآن وسورة من القرآن وكان يقرأ أحيانا بالسورتين والثلاث في الركعة الواحدة من صلاة الفريضة
قال أبو عمر لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وما تيسر)) (1) علم أن تعيينه لفاتحة الكتاب إيجاب وأن قوله ((ما تيسر)) ندب
وإذا جاز أن يقرأ المصلي مع فاتحة الكتاب بسورة فيها طول - جاز أن يقرأ بسور توازي تلك السورة
وهذا كله مباح عند الجميع إلا أنهم يستحبون ألا يقرأ مع فاتحة الكتاب إلا بسورة واحدة لأنه أكثر ما جاء عن النبي - عليه السلام -
وقد أجمع العلماء على أن لا حد في القراءة واجب بفاتحة الكتاب عند من أوجبها وكفى بهذا
((6 - باب العمل في القراءة))
152 - ذكر فيه [مالك] حديث علي - رضي الله عنه - وليس فيه من معنى القراءة غير النهي عن قراءة القرآن في الركوع وفيه النهي عن لبس القسي (2) وتختم الذهب
رواه مالك وجماعة عن نافع ورواه جماعة عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين
واختلف في إسناده وفي كثير من ألفاظه على إبراهيم اختلافا كثيرا قد ذكرنا ذلك في ((التمهيد))
وعند بن عيينة فيه إسناد لم يختلف فيه رواه عن عمرو بن دينار عن
430

محمد بن علي قال قال علي نهاني رسول الله - ولا أقول نهاكم - أن أقرأ راكعا أو ساجدا أو أتختم الذهب أو ألبس القسي أو أركب على الميثرة (1) الحمراء
وأما القسي فثياب مضلعة بالحرير يقال لها القسية تنسب إلى موضع يقال له قس يذكر أنها قرية من قرى مصر وهي ثياب يلبسها الأمراء ونساؤهم
وقال النمري
(فأدنين حتى جاوز الركب دونها
* حجابا من القسي والحبرات (2))
وقد ذكرنا في التمهيد اختلاف العلماء في لبس قليل الحرير للرجال وفي الثياب التي يخالطها الحرير لهم وبسطنا القول فيه بالآثار والحمد لله
ويأتي من ذلك في كتاب الجامع من هذا الديوان ما فيه كفاية إن شاء الله
وأما قراءة القرآن في الركوع فجميع العلماء على أن ذلك لا يجوز امتثالا لحديث هذا الباب وحديث بن عباس عن النبي - عليه السلام - ((ألا وإني قد نهيت عن القراءة في الركوع والسجود فأما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا فيه بالدعاء فقمن (3) [أن] يستجاب لكم)) (4)
وقد ذكرنا الخبر بذلك مسندا في التمهيد
وأجمعوا أن الركوع موضع لتعظيم الله بالتسبيح وأنواع الذكر واختلف الفقهاء في تسبيح الركوع والسجود
فقال بن القاسم عن مالك إنه لم يعرف قول الناس في الركوع سبحان ربي العظيم وفي السجود سبحان ربي الأعلى وأنكره ولم يحد في الركوع دعاء مؤقتا ولا تسبيحا مؤقتا
وقال إذا أمكن المصلي يديه من ركبتيه في الركوع وجبهته من الأرض في السجود فقد أجزأ عنه
431

قال أبو عمر إنما قال ذلك - والله أعلم - فرارا من إيجاب التسبيح في الركوع والسجود ومن الاقتصار على سبحان ربي العظيم في الركوع وعلى سبحان ربي الأعلى في السجود كما اقتصر عليه غيره من العلماء دون غيره من الذكر
والحجة له قوله عليه السلام ((إذا ركعتم فعظموا الرب وإذا سجدتم فاجتهدوا في الدعاء))
ولم يخص ذكرا من ذكر وأنه - عليه السلام - قد جاء عنه في ذلك ضروب وأنواع تنفي الاقتصار على شيء بعينه من التسبيح والذكر
فمنها حديث مطرف عن وعائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سجوده ((سبوح قدوس رب الملائكة والروح)) (1)
ومنها حديث عوف بن مالك أنه سمع النبي - عليه السلام - يقول في ركوعه وسجوده ((سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة (2)
ومنها أنه كان يدعو في سجوده كثيرا
وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة والشافعي والأوزاعي وأبو ثور وأحمد بن حنبل وإسحاق يقول المصلي في ركوعه سبحان ربي العظيم ثلاثا وفي السجود سبحان ربي الأعلى ثلاثا وهو أقل التمام والكمال في ذلك
وقال الثوري أحب إلي أن يقولها الإمام خمسا في الركوع والسجود حتى يدرك الذي خلفه ثلاث تسبيحات
وحجتهم حديث عقبة بن عامر وقد ذكرناه بإسناده في التمهيد عن النبي - عليه السلام - أنه قال ((لما نزلت * (فسبح باسم ربك العظيم) * [الواقعة 74] قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم اجعلوها في ركوعكم فلما نزلت * (سبح اسم ربك الأعلى) * [الأعلى 1] قال اجعلوها في سجودكم (3)
وحديث حذيفة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه ((سبحان ربي العظيم)) وفي سجوده ((سبحان ربي الأعلى
432

قالوا وهو أولى لأنه تفسير لقوله [في الركوع] ((عظموا فيه الرب))
فهذا عند جمهور العلماء في الفريضة وسائر ما روي عنه - عليه السلام - جعلوه [أنه] كان منه في صلاته بالليل ونافلته واقتصروا في الركوع والسجود من المكتوبات على حديث عقبة بن عامر سبحان ربي العظيم في الركوع ثلاثا وسبحان ربي الأعلى ثلاثا في السجود
وكل ذلك واسع لا حرج في شيء منه ولا يحرج (1) أيضا من تركه والحمد لله الذي جعل في الدين سعة ولم يجعل فيه من حرج
وأما لباس المعصفر (2) والمفدم (3) وغيره من صباغ المعصفر فمختلف فيه أجازه قوم من أهل العلم وكرهه آخرون
ولا حجة عندي لمن أباحه مع ما جاء في حديث هذا الباب من نهيه عليا [عن لبس المعصفر إلا أن يدعى أن ذلك خصوص لعلي وحده لقوله نهاني رسول الله ولا أقول نهاكم
وبعضهم يقول فيه نهاني ولا أقول نهى الناس
وهذا اللفظ محفوظ في حديث علي هذا من وجوه
وليس دعوى الخصوص فيه بشيء لأن الحديث في النهي عن لباس المعصفر والقسي وتختم الذهب - كل ذلك - للرجال دون النساء صحيح مروي من وجوه ثابتة
وقد ذكرنا في ((التمهيد حديث عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((لا أركب الأرجوان ولا ألبس المعصفر)) (4) الحديث
وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى عليه ثوبين معصفرين فأمره بحرقهما
433

وذلك عند العلماء عقوبة لأنه لبسهما بعد علمه بالنهي والله أعلم
وقد جاء عن بن عمر وغيره من أهل المدينة جواز [لبس المعصفر للنساء والرجال
وسترى هذا المعنى واضحا في الجامع إن شاء الله تعالى
وذكر بن القاسم عن مالك قال أكره المعصفر] المفدم للرجال والنساء أن يحرموا فيه لأنه ينتفض
قال مالك وأكرهه أيضا للرجال في غير الإحرام
وذكر أيضا في هذا الباب حديثه عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن أبي حازم التمار عن البياضي
وقد ذكرنا محمد بن إبراهيم وأنه من التابعين ممن لقي سعد بن أبي وقاص وبن عمر وذكرنا روايته ونسبه كل ذلك في التمهيد مذكور
وذكرنا أن أبا حازم التمار اسمه دينار مولى الأنصار
وعن حبيب عن مالك أن اسم أبي حازم التمار يسار مولى قيس بن سعد بن عبادة
وقيل في أبي حازم التمار إنه مولى الغفاريين وقيل هو مولى أبي رهم الغفاري
وأما البياضي فيقول اسمه فروة بن عمرو بن وذفة بن عبيد بن عامر بن بياضة فخذ من الأنصار وقد ذكرناه في الصحابة
ومعنى هذا الحديث في النافلة إذا كان كل أحد يصلي لنفسه
وأما صلاة الفريضة فقد أحكمت السنة جهرها وسرها
وكان أصل هذا الحديث في صلاة رمضان لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجمعهم لها إلا في حديث بن شهاب ويأتي في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله
وقد روى حماد بن زيد هذا الحديث عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن أبي حازم التمار مولى الأنصار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معتكفا في شهر رمضان في قبة على بابها حصير قال وكان الناس يصلون عصبا عصبا قال فلما كان ذات ليلة رفع باب القبة فأطلع رأسه فلما رآه الناس أنصتوا فقال ((إن المصلي يناجي ربه فلينظر أحدكم بما يناجي به ربه ولا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة))
أرسله حماد بن زيد وجاء فيه بالمعنى الذي ذكرنا
434

153 - عن مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبي حازم التمار عن البياضي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على الناس وهم يصلون وقد علت أصواتهم بالقراءة فقال ((إن المصلي يناجي ربه فلينظر بما يناجيه به ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن)) (1)
وقد ذكرنا طرقة في التمهيد منها أن الليث بن سعد رواه عن بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن عطاء بن يسار عن رجل من بني بياضة من الأنصار أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو مجاور في المسجد فوعظ الناس وحذرهم ورغبهم وقال ((ليس مصل يصلي إلا وهو يناجي ربه فلا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن)) (2)
قال الليث وحدثنيه بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن أبي حازم مولى الغفاريين أنه حدثهم هذا الحديث عن البياضي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقد بان برواية الثقات لهذا الحديث ما وصفنا من أن مخرجه كان على ما ذكرنا
وفي معناه أنه لا يحب لكل مصل يقضي فرضه وإلى جنبه من يعمل مثل عمله أن يفرط في الجهر لئلا يخلط عليه كما لا يحب ذلك لمتنفل إلى جنب متنفل مثله
وإذا كان هذا هكذا فحرام على الناس أن يتحدثوا في المسجد بما يشغل المصلي عن صلاته ويخلط عليه قراءته
وواجب لازم على كل من يطاع أن ينهى عن ذلك لأن ذلك إذا لم يجز للمصلي التالي للقرآن - فأين الحديث بأحاديث الناس من ذلك
وقد روي من حديث أبي سعيد مثل حديث البياضي عن النبي - عليه السلام - قد ذكرناه في التمهيد
ومن حديث علي قال ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرفع الرجل صوته قبل العشاء وبعدها فيغلط أصحابه وهم يصلون))
154 - وأما حديثه عن حميد الطويل عن أنس بن مالك أنه قال قمت وراء
435

أبي بكر وعمر وعثمان فكلهم كان لا يقرأ * (بسم الله الرحمن الرحيم) * إذا افتتح الصلاة
فهو في الموطأ عند جمهور رواته عن مالك موقوف على فعل الخلفاء الثلاثة ليس فيه للنبي - عليه السلام - ذكر
ورواه الوليد بن مسلم وموسى بن طارق وأبو قرة عن مالك عن حميد الطويل عن أنس قال صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكلهم لا يقرأ * (بسم الله الرحمن الرحيم) *
هذا لفظ الوليد بن مسلم ولفظ حديث أبو قرة فكانوا لا يجهرون ب * (بسم الله الرحمن الرحيم) *
ورواه إسماعيل بن موسى السدي عن مالك عن حميد عن أنس أن النبي - عليه السلام - وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يفتتحون بالقراءة بالحمد لله رب العالمين
وفي بعض الروايات عن إسماعيل عن مالك بإسناده مرفوعا كانوا يستفتحون ب * (بسم الله الرحمن الرحيم) *
ويرفعه أيضا بن أخي بن وهب قال حدثني عمي قال حدثنا عبد الله بن عمر ومالك بن أنس وسفيان بن عيينة عن حميد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يجهر في القراءة ب * (بسم الله الرحمن الرحيم) *
لم يروه عن بن وهب عن مالك هكذا غيره
وقد ذكرنا الأسانيد عن هؤلاء كلهم عن مالك في التمهيد
وقد روى هذا الحديث عن أنس قتادة وثابت البناني وغيرهما كلهم رووه مرفوعا إلى النبي - عليه السلام - إلا أنهم اختلف عليهم في لفظه اختلافا كثيرا مضطربا متدافعا منهم من يقول فيه صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر ومنهم من يذكر عثمان
ومنهم من لا يذكره فكانوا لا يقرؤون * (بسم الله الرحمن الرحيم) *
ومنهم من قال فكانوا لا يجهرون ب * (بسم الله الرحمن الرحيم) *
وقال كثير منهم فكانوا يفتتحون القراءة ب * (الحمد لله رب العالمين) *
وقال بعضهم فيه فكانوا يجهرون ب " بسم الله الرحمن الرحيم
436

وقال بعضهم كانوا يقرؤون * (بسم الله الرحمن الرحيم) *
هذا اضطراب لا تقوم معه حجة لمن يقرأ * (بسم الله الرحمن الرحيم) * والذين يقرءونها
وقد أجمع قوم من الفقهاء والمحدثين في القراءة * (بسم الله الرحمن الرحيم) * كتبا من أثبتها آية في فاتحة الكتاب ومن نفاها عنها
وقد أفردنا لهذه المسألة كتابا سميناه ((كتاب الإنصاف فيما بين العلماء في قراءة * (بسم الله الرحمن الرحيم) * من الاختلاف))
وأتينا منه في هذا الكتاب بما فيه كفاية في باب القراءة خلف الإمام فيما لا يجهر فيه الإمام بالقراءة
لأن فيه ذكر مالك حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي - عليه السلام
155 - قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل)) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((اقرؤوا يقول العبد * (الحمد لله رب العالمين) * الحديث بتمامه إلى آخر السورة ليس فيه * (بسم الله الرحمن الرحيم) *
وهو أقطع حديث وأثبته في ترك قراءة * (بسم الله الرحمن الرحيم) * في أول فاتحة الكتاب لأن غيره من الأحاديث قد تأولوا فيها فأكثروا التشغيب والتنازع
وأما الاختلاف في * (بسم الله الرحمن الرحيم) * فعلى أوجه
أحدها هل هي من فاتحة الكتاب آية أم لا
والثاني هل هي آية في كل سورة أم لا
والثالث هل هي من القرآن في غير سورة النمل أم لا
والرابع هل تصح الصلاة دون أن يقرأ بها مع فاتحة الكتاب أم لا
والخامس هل تقرأ في النوافل دون الفرائض أم لا
437

وقد أوردنا ما للعلماء في هذه المعاني عند ذكر الباب الثالث من هذا الباب ونختصر القول في القراءة بها خاصة هنا وفي جملة حكمها لأنا قد استوعبناه ومهدناه هناك والحمد لله
قال مالك لا يقرأ * (بسم الله الرحمن الرحيم) * في المكتوبة سرا ولا جهرا في فاتحة الكتاب ولا في غيرها وأما في النافلة فإن شاء قرا وإن شاء ترك وهو قول الطبري
وقال الثوري وأبو حنيفة وبن أبي ليلى وأحمد بن حنبل يقرؤها مع أم القرآن في كل ركعة سرا إلا أن بن أبي ليلى قال إن شاء جهر بها وإن شاء أخفاها
وقال سائرهم يخفيها
وقال الشافعي هي آية من فاتحة الكتاب يخفيها إذا أخفى ويجهر بها إذا جهر
واختلف قوله هل هي آية في [أول] كل سورة أم لا على قولين أحدهما هي آية في فاتحة كل سورة وهو قول بن المبارك والثاني ليست آية في أول كل سورة إلا في فاتحة الكتاب خاصة
وفي معنى حديثه عن عمه أبي سهيل بن مالك عن أبيه أنه قال
156 - ((كنا نسمع قراءة عمر بن الخطاب عند دار أبي جهم بالبلاط)) (1) تفسير لحديث البياضي ((لا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن)) وبيان أن ذلك للمنفردين المصلين المتنفلين
وأما قراءة عمر وسائر الأئمة في المكتوبة وغيرها من صلاة الجهر فلا
وكان عمر مديد الصوت فمن هناك كان يبلغ صوته حيث وصف سامعه
157 - وأما حديث بن عمر أنه كان إذا فاته شيء من صلاته مع الإمام فيما جهر فيه الإمام بالقراءة قام إذا سلم الإمام فقرأ لنفسه فيما يقضي وجهر
فقد تقدم مذهب بن عمر وغيره فيمن أدرك بعض الصلاة مع الإمام هل هو أول صلاته أو آخرها وكيف يقضي - في باب النداء للصلاة فأغنى عن إعادته هنا
438

وأما خبر نافع بن جبير ويزيد بن رومان فمعناه الفتح على المصلي وفيه رد على من كره الفتح على الإمام لأنه إذا جاز الفتح على من ليس معك في صلاة فالإمام أولى بذلك
وقد قال علي إذا استطعمك الإمام فأطعمه يعني الفتح عليه
رواه أبو عبد الرحمن السلمي عن علي وهو يعارض حديث الحارث عن علي عن النبي - عليه السلام - أنه قال لا يفتح على الإمام
وقد تردد رسول الله في آية فلما انصرف قال أين أبي أفلم يكن في القوم أبي يريد الفتح عليه
وقد فتح نافع علي بن عمر رضي الله عنهما في صلاة المغرب
وكره الكوفيون الفتح على الإمام وأجازه مالك والشافعي لأنه لم ينه عنه بوجه يحتج بمثله وهو تلاوة قرآن في الصلاة
((7 - باب القراءة في الصبح))
158 - مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن أبا بكر الصديق صلى الصبح فقرأ فيها سورة البقرة في الركعتين كلتيهما
قال أبو عمر أدخل مالك هذا الحديث - والله أعلم - ليدل به على أن قراءة الصبح طويلة جدا
وعلى هذا يصح استعمال الآثار وترتيب الأحاديث في الإسفار بصلاة الصبح والتغليس بها (1) لأنه معلوم أن أبا بكر لم يدخل فيها إلا مغلسا بعد أن طلع الفجر ثم طول حتى أسفر
فمن فعل هذا كان مستعملا للأحاديث في التغليس والإسفار وهو وجه لا يبعد في استعمال الأحاديث
على أن حديث عائشة ((كان النساء ينصرفن من صلاة الصبح مع رسول الله متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس)) (2) - يدل على غير حديث الإسفار إلا أنه
439

ممكن أن يكون فعله ذلك أحيانا فيصح التغليس ويصح الإسفار
وقد روى الزهري عن أنس أن أبا بكر - رضي الله عنه - صلى الصبح فقرأ فيها في سورة البقرة في الركعتين
وقد أعلمتك فيما تقدم أن القراءة في الصلوات كلها ليس فيها شيء محدود لا يتجاوز في [التطويل والتقصير] لأنه قد ورد فيها كلها التطويل والتقصير
والآثار بذلك مشهورة جدا قد ذكرت منها في التمهيد ما فيه كفاية وهي في المصنفات كثيرة متكررة
ويقضي عليها ويفسرها قوله - عليه السلام ((من أم بالناس فليخفف)) (1) إلا أن يعرف الإمام مذهب من خلفه
وقد روي عن مالك أنه كره أن يقسم المصلي سورة بين ركعتين في الفريضة وذلك أنه لم يبلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثر الصحابة كانوا على قراءة فاتحة الكتاب وسورة (في كل ركعة) وربما قرن بعضهم السورتين (مع فاتحة الكتاب) في ركعة
روي ذلك عن بن مسعود وبن عمر
وهذا كله من فعلهم يدل على التخيير والإباحة فيفعل المصلي من ذلك ما شاء
إلا أن الاختيار ما اختاره مالك من قراءة سورة مع أم الكتاب في الركعتين الأوليين من كل صلاة وكذلك في صلاة الصبح وهو الأكثر
وما بالاقتداء بالصديق - رضي الله عنه - بأس فإنه من الذين هدى الله فأين المهرب عنه
وحديث مالك هذا قد وصله الثقات الأثبات
رواه معمر وسفيان بن عيينة ويونس بن يزيد عن الزهري
وقد روى الزهري عن أنس أن أبا بكر صلى الصبح فقرأ فيها بالبقرة في الركعتين فقيل له حين سلم كادت الشمس تطلع فقال لو طلعت لم تجدنا غافلين
رواه بن عيينة ويونس عن الزهري
وأما قراءة عمر بن الخطاب في صلاة الصبح بسورة يوسف وسورة الحج فعلى ما قلنا من استحباب العلماء لطول القراءة في صلاة الصبح وذلك في الشتاء أكثر منه في الصيف وكذلك قراءة عثمان بسورة يوسف
440

وأما ترداد عثمان لها وتكريره القراءة بها في أكثر أيامه فإنه ربما خف على لسان الإنسان الحافظ للقرآن قراءة بعض سور القرآن دون بعض فمال إلى ما خف عليه فكان ذلك أكثر قراءته وربما أعجبه من سور القرآن ما فيه قصص الأنبياء فقرأها على الاعتبار بها والتذكار لها
وأما أشك أن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا - رضي الله عنهم - كانوا يعرفون من حرص من خلفهم على التطويل ما حملهم عليه أحيانا
وأما اليوم فواجب الاحتمال على التخفيف لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من أم الناس فليخفف فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير وذا الحاجة ومن صلى لنفسه فليطول ما شاء))
وقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل ((أفتان أنت يا معاذ اقرأ ب * (سبح اسم ربك الأعلى) * * (والشمس وضحاها) * (1) ونحو ذلك في العشاء الآخرة
وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال لبعض من طول من الأئمة لا تبغضوا الله إلى عباده
وإذا كان الناس يؤمرون بالتخفيف في الزمن فما ظنك بهم اليوم
ألا ترى إلى ما أجمعوا عليه من تخفيف القراءة في السفر
وقد روي عن النبي - عليه السلام ((إني لأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي مخافة أن أشق على أمه
441

وهذه الآثار كلها في التمهيد بأسانيدها والحمد لله
((8 - باب ما جاء في أم القرآن))
159 - مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب أن أبا سعيد مولى عامر بن كريز أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى أبي بن كعب وهو يصلي فلما فرغ من صلاته لحقه فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على يده وهو يريد أن يخرج من باب المسجد فقال ((إني لأرجو أن لا تخرج من المسجد حتى تعلم سورة (1) ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها)) قال أبي فجعلت أبطئ في المشي رجاء ذلك ثم قلت يا رسول الله السورة التي وعدتني قال ((كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة)) قال ((فقرأت * (الحمد لله رب العالمين) * حتى أتيت على آخرها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((هي هذه السورة وهي السبع المثاني (2) والقرآن العظيم الذي أعطيت))
قال أبو عمر هذا الحديث مرسل في الموطأ هكذا عند جميع رواته فيما علمت
وقد ذكرنا في التمهيد من وصله عن العلاء فجعله عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب
ومنهم من يرويه عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عن أبي بن كعب قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ألا أعلمك سورة ما أنزل في التوراة ولا في الزبور ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها)) وذكر الحديث
ومنهم من قال فيه فقرأت عليه * (الحمد لله رب العالمين) * كما قال مالك
ومنهم من قال فيه فقرأت عليه فاتحة الكتاب
ومنهم من قال فيه فقرأت عليه أم القرآن
ومن أحسنهم له سياقه يزيد بن زريع قال حدثنا روح بن القاسم عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي بن كعب
442

- وهو يصلي - فقال ((السلام عليك أي أبي فالتفت إليه ولم يجبه ثم إن أبيا خفف الصلاة ثم انصرف إلى النبي - عليه السلام - فقال السلام عليك يا رسول الله فقال ((وعليك)) ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك)) فقال يا رسول الله كنت أصلي قال ((أفلست تجد فيما أوحى إلي أن * (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) * [الأنفال 24] قال بلى يا رسول الله ولا أعود أبدا إن شاء الله قال ((أي أبي أتحب أن أعلمك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها)) قلت نعم يا رسول الله قال ((فإني أرجو ألا تخرج من هذا الباب حتى تعلمها)) قال ثم أخذ رسول الله بيدي فحدثني وأنا أتباطأ به مخافة أن أبلغ الباب قبل أن يقضي الحديث فلما دنونا من الباب قلت يا رسول الله السورة التي وعدتني
قال ((كيف تقرأ في الصلاة)) قال فقرأت عليه أم القرآن فقال ((والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها إنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته)) (1)
قال أبو عمر في حديث مالك من الفقه والمعاني مناداة من يصلي وذلك اليوم عندنا محمول على أن يجيب إشارة أو إذا فرغ من صلاته لتحريم الله الكلام في الصلاة
قال زيد بن أرقم كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت * (وقوموا لله قانتين) * [البقرة 238] فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام (2)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن الله أحدث من أمره ألا تكلموا في الصلاة)) (3)
وقد مضى هذا المعنى مجودا والحمد لله فمن دعي اليوم لم يجب حتى يفرغ من صلاته إلا في أمر لم يجد منه بدا أو يقضي به فرضا ثم يقضي صلاته بعد
ولو أجاب أبي رسول الله لكان ذلك خاصا له دون غيره لقوله * (استجيبوا لله وللرسول) *
وقد جاء من وجه صحيح في حديث أبي بن كعب هذا أن رسول الله قال له
443

((ما منعك أن تجيبني أليس قد قال الله * (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) * [الأنفال 24]
وهذا يحتمل أن يكون الدعاء إلى الفرائض والإيمان ويحتمل في كل شيء وليس كلام الناس في الصلاة كذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكرنا وقوله ((إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو ذكر الله وقراءة القرآن)) (1)
وهذا الحديث يدل على العموم والإجماع على تحريم الكلام ويدل على تخصيص النبي - عليه السلام - بذلك والله أعلم
وفيه وضع الرجل يده على يد صديقه إذا حدثه بحديث يريد أن يحفظه وهذا يستحسن من الكبير للصغير لما فيه من التأنيس والتأكيد في الود
وفي قول أبي يا رسول الله السورة التي وعدتني - دليل على حرصه على العلم ورغبته فيه وكذلك كان إبطاؤه في مشيه محبة في العلم وحرصا عليه
وأما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم له ((كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة)) قال فقرأت عليه * (الحمد لله رب العالمين) * - فقد استدل به بعض أصحابنا على سقوط * (بسم الله الرحمن الرحيم) * من أول فاتحة الكتاب وعلى سقوط التوجيه
وهذا لا حجة فيه لأن التوجيه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن عمر بن الخطاب وغيره وقد جاءت به رواية عن مالك
ولكنه يدل أنه لا شيء على من أسقطه ولم يأت به ولأنه لم يقل له ما تقول إذا افتتحت الصلاة وإنما قال له كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة فأجابه إن القراءة في الصلاة لا تفتتح إلا بفاتحة الكتاب فلا يجوز أن يقرأ بغيرها إلا بعد الافتتاح بها بدليل هذا الحديث وما كان مثله ولا حجة فيه في سقوط * (بسم الله الرحمن الرحيم) * وإنما فيه دليل واضح على أنه يفتتح القراءة بها في الصلاة دون غيرها من سور القرآن لأن * (والحمد لله رب العالمين) * اسم لها كما يقال قرأت * (يس والقرآن الحكيم) * وقرأت * (ن والقلم) * وقرأت * (ق والقرآن المجيد) * وهذه كلها أسماء للسور وليس في ذلك ما يسقط * (بسم الله الرحمن الرحيم) * إذا قام الدليل بأنها آية من فاتحة الكتاب على ما نذكره في الباب بعد هذا إن شاء الله
والقول في هذه المسألة بين المتنازعين قد طال وكثر فيه الشغب والذي أقول
444

به أنه من ترك * (بسم الله الرحمن الرحيم) * في فاتحة الكتاب أو غيرها متأولا فلا حرج لأنه لم يقم بإيجاب قراءتها دليل لا معارض له ولا إجماع لأنه لا إجماع في أنها آية إلا في سورة النمل ومن قرأها في فاتحة الكتاب أو غيرها فلا حرج فقد رويت في ذلك آثار كثيرة عن النبي - عليه السلام - مرفوعة وعمل بها جماعة من
السلف منهم بن عمر وبن عباس وقد روى بن نافع عن مالك مثل ذلك وسنبين هذا في الباب بعد هذا إن شاء الله
وفي ذلك دليل على أن فاتحة الكتاب تقرأ في أول ركعة وحكم كل ركعة كحكم تلك الركعة في القياس والنظر وفي هذا حجة لمن أوجب قراءتها
وأما المعنى في قول من قال أم القرآن فهو بمعنى أصل القرآن وأم الشيء أصله كما قيل أم القرى لمكة وقيل لأنها أول ما يقرأ في الصلاة
وكرهت طائفة أن يقال لها أم القرآن وقالوا فاتحة الكتاب ولا وجه لما كرهوا من ذلك لحديث أبي هريرة هذا وما كان مثله وفيه أم القرآن
وأما قوله - عليه السلام - لأبي ((حتى تعلم سورة ما أنزل الله في القرآن ولا في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها)) فمعناه مثلها في جمعها لمعاني الخير لأن فيها الثناء على الله بما هو أهله وما يستحق من الحمد الذي هو له حقيقة لا لغيره لأن كل نعمة وخير فمنه لا من سواه فهو الخالق الرازق ولا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع وهو المحمود على ذلك وإن حمد غيره فإليه يعود الحمد
وفيها التعظيم له وأنه رب العالم أجمع ومالك الدنيا والآخرة وهو المعبود المستعان
وفيها تعليم الدعاء إلى الهدى ومجانبة طريق من ضل وغوى والدعاء لباب العبادة فهي أجمع سورة للخير وليس في الكتاب مثلها على هذه الوجوه والله أعلم
وقد قيل إن معنى ذلك لأنها لا تجزئ الصلاة إلا بها دون غيرها ولا يجزئ غيرها منها وليس هذا بتأويل مجمع عليه
وأما قوله ((هي السبع المثاني والقرآن العظيم)) فمعناه عندي هي السبع المثاني التي أعطيت لقوله تعالى * (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم) * [الحجر 87] فخرج (والقرآن العظيم) على معنى التلاوة
وأولى ما قيل به في تأويل السبع المثاني أنها فاتحة الكتاب لأن القول بذلك أرفع ما روي فيه وهو يخرج في التفسير المسند
445

وقد روي عن بن عباس في قوله تعالى * (ولقد آتيناك سبعا من المثاني) * قال فاتحة الكتاب قيل لها ذلك لأنها تثنى في كل ركعة
وقال بذلك جماعة من أهل العلم بتأويل القرآن منهم قتادة
ذكر عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله * (سبعا من المثاني) * قال هي فاتحة الكتاب تثنى في كل ركعة مكتوبة وتطوع
وقد روي عن بن عباس أيضا في السبع المثاني أنها السبع الطوال البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والأنفال وبراءة وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير لأنها تثنى فيها حدود القرآن والفرائض
والقول الأول أثبت عن بن عباس وهو الصحيح إن شاء الله في تأويل الآية لما ثبت عن النبي - عليه السلام - في ذلك
160 - وأما حديث وهب بن كيسان أنه سمع جابر بن عبد الله يقول من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل إلا وراء الإمام (1)
فقد رواه يحيى بن سلام الإمام صاحب التفسير عن مالك عن أبي نعيم وهب بن كيسان عن جابر عن النبي عليه السلام وصوابه موقوف على جابر كما روي في الموطأ
وفيه من الفقه إبطال الركعة التي لا يقرأ فيها بأم القرآن وهو يشهد بصحة ما ذهب إليه بن القاسم ورواه عن مالك في إلغاء الركعة والبناء على غيرها وألا يعتد المصلي بركعة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب
وتفسير قول جابر هذا ما روي عن النبي - عليه السلام - أنه قال ((لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب)) (2) أي لا ركعة
[وأما قوله فلم يصل إلا وراء الإمام فقد] تقدم هذا المعنى مجودا فعلا وجه لإعادته
وفيه أيضا أن الإمام قراءته لمن خلفه قراءة وهذا مذهب جابر وقد خالفه فيه
446

غيره والاختلاف في القراءة خلف الإمام بين الصحابة والتابعين وأئمة فقهاء المسلمين كثير جدا وسنورده ونمهده عند قوله عليه السلام مالي أنازع القرآن إن شاء الله
((9 - باب القراءة خلف الإمام فيما لا يجهر فيه بالقراءة))
161 - حدثني يحيى عن مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب أنه سمع أبا السائب مولى هشام بن زهرة يقول سمعت أبا هريرة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ((من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن (1) فهي خداج (2) هي خداج هي خداج غير تمام)) قال فقلت يا أبا هريرة إني أحيانا أكون وراء الإمام قال فغمز ذراعي ثم قال اقرأ بها في نفسك (3) يا فارسي فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ((قال الله تبارك وتعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل)) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((اقرأوا يقول العبد الحمد لله رب العالمين
يقول الله تبارك وتعالى حمدني عبدي ويقول العبد الرحمن الرحيم يقول الله أثنى علي عبدي ويقول العبد مالك يوم الدين يقول الله مجدني عبدي يقول العبد إياك نعبد وإياك نستعين فهذه الآية بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل يقول العبد اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل))
وقد ذكرنا في التمهيد من روى هذا الحديث كما رواه مالك عن العلاء عن أبي السائب عن أبي هريرة ومن رواه عن العلاء عن أبيه وأبي السائب جميعا عن أبي هريرة
وهي رواية غريبة عن مالك ومعروفة عن عقيل عن بن شهاب عن أبي السائب عن أبي هريرة وأخطأ فيه زياد بن يونس ومحمد بن خالد بن عثمة فروياه عن مالك عن بن شهاب عن محمد بن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج
447

وفي حديث زياد بن يونس بهذا الإسناد ((من لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصلاته خداج))
وهذا وهم وغلط لإدخال حديث أبي هريرة في حديث عبادة وإنما لفظ حديث عبادة ((لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب)) (1)
على أنه غريب جدا من حديث مالك ومحفوظ لابن عيينة وجماعة عن الزهري ولفظ حديث أبي هريرة ((كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج))
وفي حديث أبي هريرة هذا من الفقه إيجاب قراءة فاتحة الكتاب في كل صلاة وأن الصلاة إذا لم يقرأ فيها فاتحة الكتاب فهي خداج وإن قرئ فيها بغيرها من القرآن
والخداج النقصان والفساد من قولهم أخدجت الناقة وخدجت إذا ولدت قبل تمام وقتها [وقبل تمام الخلق] وذلك نتاج فاسد
وأما تحرير أهل البصرة فيقولون إن هذا اسم خرج على المصدر يقولون أخدجت الناقة ولدها [إذا ولدته] ناقصا للوقت فهي مخدج والولد مخدج والمصدر الأخداج
وأما خدجت فرمت بولدها قبل الوقت ناقصا أو تاما فهي خادج والولد مخدوج وخديج وهذا كله قول الخليل وأبي حاتم والأصمعي
وقال الأخفش خدجت الناقة إذا ألقت ولدها لغير تمام وأخدجت إذا قذفت به قبل الوقت وإن كان تام الخلق
وقد زعم من لم يوجب قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة وقال هي وغيرها سواء وأن قوله خداج يدل على جواز الصلاة لأنه نقصان والصلاة الناقصة جائزة
وهذا تحكم فاسد والنظر يوجب في النقصان ألا تجوز معه الصلاة لأنها صلاة لم تتم
ومن خرج من صلاة قبل أن يتمها فعليه إعادتها تامة كما أمر على حسب حكمها
ومن ادعى أنها تجوز مع إقراره بنقصها فعليه الدليل ولا سبيل إليه من وجه يلزم والله أعلم
448

وأما اختلاف العلماء في هذا الباب فإن مالكا والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبا ثور وداود قالوا لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب
قال بن خواز بنداذ وهي عندنا معينة في كل ركعة قال ولم يختلف قول مالك أن من نسيها في ركعة من صلاة ركعتين إنها تبطل إن لم يأت بركعة يصلها بالركعة التي قرأ فيها ولا تجزيه
واختلف قوله فيمن نسيها في ركعة من صلاة ثلاثية أو رباعية فقال مرة لا يعتد بتلك الركعة ويأتي بركعة يضيفها إلى الثلاث التي قرأ فيها بفاتحة الكتاب ويسجد بعد التسليم كالذي نسي سجدة ويذكر قبل السلام سواء فإن لم يفعل وسلم أو تكلم أو طال ذلك أعاد الصلاة
وهو قول بن القاسم وروايته واختياره
وقال في قول مالك الآخر إنه ليس عنده بالبين
وقال مالك مرة أخرى يسجد سجدتي السهو وتجزيه وهي رواية بن عبد الحكم عنه
قال بن عبد الحكم وقد قيل إنه يعيد تلك الركعة ويسجد للسهو بعد السلام
وقال مرة يسجد سجدتي السهو السلام ثم يعيد الصلاة
وقال الشافعي وأحمد بن حنبل لا تجزيه صلاته حتى يقرأ بفاتحة الكتاب في كل ركعة
وهو قول جابر بن عبد الله على ما تقدم
وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي إن تركها عامدا في صلاته كلها وقرأ غيرها أجزأه على اختلاف عن الأوزاعي في ذلك
وقال الطبري يقرأ المصلي بأم القرآن في كل ركعة فإن لم يقرأ بها لم يجزه إلا مثلها من القرآن عدة آياتها وحروفها
وقال أبو حنيفة لا بد في الأوليين من قراءة أقل ذلك في كل ركعة منها آية
وقال أبو يوسف ومحمد أقله ثلاث آيات أو آية طويلة كآية الدين
وقال مالك إذا لم يقرأ أم القرآن في الأوليين أعاد ولم يختلف قوله في ذلك إلا ما روي عنه في ركعتين لم يخص أوليين من غيرها ومذهبه القراءة بها في الصلاة كلها فإن نسيها في ركعة أو ركعتين فجوابه ما تقدم ذكره
وقال الشافعي أقل ما يجزئ المصلي من القراءة أن يقرأ بفاتحة الكتاب إن
449

أحسنها وإن لم يحسنها - وهو يحسن غيرها من القرآن - قرأ بعددها سبع آيات لا يجزيه دون ذلك فإن لم يحسن شيئا من القرآن حمد الله وكبر مكان القراءة لا يجزيه غيره حتى يتعلمها
قال ومن أحسن فاتحة الكتاب فإن ترك منها حرفا واحدا وخرج من الصلاة أعاد الصلاة
وروي عن عمر وبن عباس وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وعثمان بن أبي العاص وخوات بن جبير أنهم قالوا لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وهو قول بن عمر والمشهور من مذهب الأوزاعي
وأجمع العلماء على إيجاب القراءة في الركعتين الأوليين من صلاة أربع على حسب ما ذكرنا من اختلافهم في فاتحة الكتاب وغيرها
واختلفوا في الركعتين الأخريين فمذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وداود أن القراءة فيهما بفاتحة الكتاب واجبة على الإمام والمنفرد ومن أبى منهم أن يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب فلا صلاة له وعليه إعادتها
إلا أن مالكا اختلف قوله في الناسي لقراءتها في ركعة على ما ذكرنا عنه
وقال الطبري القراءة فيهما واجبة ولم يعين أم القرآن من غيرها
وقد ذكرنا في التمهيد حديث أبي قتادة قال ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورة وفي الأخريين بأم القرآن وكان يسمعنا الآية أحيانا)) (1)
وذكرنا هناك أيضا حديث بن عمر ((أنه جاء رجل فقال يا أبا عبد الرحمن هل في الظهر والعصر قراءة فقال ((وهل تكون صلاة بغير قراءة))
قال أبو عمر معلوم أن الركعة الواحدة صلاة فلا تجوز إلا بقراءة [وكل ركعة كذلك]
وقال أبو حنيفة القراءة في الآخرتين لا تجب وكذلك قال الثوري والأوزاعي
450

قال الثوري يسبح في الآخرتين أحب إلي من أن يقرأ وهو قول جماعة الكوفيين وسلف أهل العراق
وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه يقرأ في الركعتين الأوليين وأما في الأخريين فإن شاء سبح وإن شاء قرأ
وإن لم يقرأ ولم يسبح جازت صلاته وهو قول إبراهيم النخعي ورواه أهل الكوفة عن علي وروى عنه أهل المدينة خلاف ذلك
قال أبو عمر روي عن علي وجابر بن عبد الله والحسن وعطاء والشعبي وسعيد بن جبير القراءة في الركعتين الآخرتين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب في كل ركعة منها وثبت ذلك عن النبي عليه السلام فلا وجه لمن خالفه وبالله التوفيق
واختلفوا فيمن ترك القراءة في كل ركعة
فأما مالك فقد ذكرنا مذهبه واختلاف الرواية عنه
وقال الأوزاعي من قرأ في نصف صلاته مضت صلاته وإن قرأ في ركعة واحدة من المغرب أو الظهر أو العصر أو العشاء ونسي أن يقرأ فيما بقي من صلاته أعاد صلاته
وأما إسحاق بن راهويه فقال إذا قرأ في ثلاث ركعات إماما كان أو منفردا فصلاته جائزة لما أجمع الناس عليه أن من أدرك الركوع أدرك الركعة
قال أبو عمر قاس إسحاق الإمام والمنفرد في القراءة على المأموم فأخطأ القياس لأن الإمام والمنفرد لا يحمل غيره عنه شيئا من صلاته ولا يقلب أحد عليه رتبة صلاته ولا يقلبها هو فتجزئ عنه
وقال الثوري إن قرأ في ركعة من الصبح ولم يقرأ في الأخرى أعاد الصلاة وإن قرأ في ركعة من الظهر أو العصر أو العشاء ولم يقرأ في الثلاث أعاد
وروي عن الحسن البصري أنه قال إذا قرأت في ركعة واحدة من الصلاة أجزأك وقال به أكثر فقهاء البصرة
وقال المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي المدني إذا قرأ بأم القرآن مرة واحدة في الصلاة أجزته ولم تكن عليه إعادة لأنها صلاة قد قرأ فيها بأم القرآن فهي تمام ليست بخداج
وقد روي عن مالك قول شاذ لا يعرفه أصحابه وينكره أهل العلم به أن
451

الصلاة تجزئ بغير قراءة على ما روي عن عمر وهي عن مالك رواية منكرة والصحيح عنه خلافها وقد ذكرنا ذلك عنه
وقال الشافعي عليه أن يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب لا تجزئ الركعة إلا بها
قال وكما لا ينوب سجود ركعة ولا ركوعها عن ركعة أخرى فكذلك لا تنوب قراءة ركعة عن غيرها
وهو ظاهر قول جابر وبه قال عبد الله بن عون وأيوب السختياني وأبو ثور وداود وروي مثله عن الأوزاعي
قال أبو عمر قد أوضحنا الحجة في وجوب قراءة فاتحة الكتاب في كل ركعة من طريق النظر والأثر في كتاب التمهيد
وأما من أجاز القراءة بغيرها فمحجوج بحديث هذا الباب وبقوله عليه السلام ((لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب)) (1)
ولا معنى لقول من قال يأتي بعدد حروفها وآياتها لأن التعيين لها والنص عليها قد خصها بهذا الحكم دون غيرها ومحال أن يجيء بالبدل منها من وجبت عليه فتركها وهو قادر عليها وإنما عليه أن يجيء بها وبعدد آياتها كسائر المفروضات المعينات في العبادات
وأما قوله في هذا الحديث قال تعالى ((قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل)) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((اقرؤوا يقول العبد * (والحمد لله رب العالمين) * فبدأ بالحمد لله رب العالمين ولم يقل * (بسم الله الرحمن الرحيم) * فهذا أوضح شيء وأبينه أن ب * (الحمد لله رب العالمين) * فجعلها آية ثم * (الرحمن الرحيم) * آية " ملك يوم الدين " آية
فهذه ثلاث آيات لم يختلف فيها المسلمون وجاء في هذا الحديث أنها له تبارك اسمه ثم الآية الرابعة جعلها بينه وبين عبده ثم ثلاث آيات لعبده تتمة سبع آيات
فهذا يدل على أن * (أنعمت عليهم) * آية ثم الآية السابعة إلى آخر السورة
وهكذا تكون نصفين بين العبد وبين ربه لأنه قال في قوله * (اهدنا الصراط المستقيم) * إلى آخر السورة فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل
452

وهؤلاء إشارة إلى جماعة من يعقل وما لا يعقل وأقل الجماعة ثلاثة
فعلمنا بقوله هؤلاء أنه أراد هؤلاء الآيات والآيات أقلها ثلاث لأنه لو أراد اثنتين لقال هاتان ولو أراد واحدة لقال هذه بيني وبين عبدي
وإذا كان من قوله * (اهدنا) * إلى آخر السورة ثلاث آيات كانت السبع آيات من قوله * (الحمد لله رب العالمين) * إلى قوله * (ولا الضالين) * وصحت قسمة السبع على السواء ثلاث وثلاث وآية بينهما
قال في الأولى ((حمدني عبدي)) وفي الثانية ((أثنى علي عبدي)) وفي الثالثة ((مجدني عبدي)) وفي الرابعة ((هذه بيني وبين عبدي)) ثم قال في قوله * (اهدنا الصراط المستقيم) * إلى آخر السورة ((هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل))
فلما قال هؤلاء علمنا أنها ثلاث آيات وتقدمت أربعة تتمة سبع آيات ليس فيها * (بسم الله الرحمن الرحيم) * وقد أجمعت الأمة أن فاتحة الكتاب سبع آيات
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((هي السبع المثاني))
وأجمع القراء والفقهاء على أنها سبع آيات إلا أنهم اختلفوا فمن جعل بسم الله الرحمن الرحيم) آية من فاتحة الكتاب لم يعد (أنعمت عليهم) آية ومن لم يجعل بسم الله الرحمن الرحيم) آية عد * (أنعمت عليهم) * آية وهو عدد أهل المدينة وأهل الشام وأهل البصرة
وأما أهل مكة وأهل الكوفة من القراء والفقهاء فإنهم عدوا فيها بسم الله الرحمن الرحيم) آية ولم يعدوا * (أنعمت عليهم) *
وهذا الحديث أبين ما يروى عن النبي - عليه السلام - في سقوط بسم الله الرحمن الرحيم)
من آي فاتحة الكتاب وهو قاطع لموضع الخلاف
فإن قيل كيف تكون قسمة الصلاة عبارة عن السورة وهو يقول ((قسمت الصلاة)) ولم يقل قسمت السورة
قيل معلوم أن القراءة يعبر بها عن الصلاة كما قال * (وقرآن الفجر) * [الإسراء 78] أي قراءة صلاة الفجر فجائز أن يعبر أيضا بالصلاة عن القراءة والقرآن
ومن حجة من قال أن (بسم الله الرحمن الرحيم) ليست آية من فاتحة الكتاب
453

ولا من غيرها إلا في سورة النمل في قوله تعالى * (إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم) * [النمل 30] - قوله تعالى * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * [النساء 82] والاختلاف موجود في * (بسم الله الرحمن الرحيم) * فعلمنا أنها ليست من كتاب الله لأنه تعالى قد نفى الاختلاف عن كتابه بما تلونا وبقوله تعالى * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * [الحجر 9]
ومن جهة الأثر ما ثبت عن النبي - عليه السلام - وعن أبي بكر وعمر وعثمان - أنهم كانوا يفتتحون القراءة " ب الحمد لله رب العالمين " وروي في هذا الحديث عن أنس قال ((صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر وعثمان وعلي فكانوا يستفتحون القراءة ب * (والحمد لله رب العالمين) * (1)
ومن رواة هذا الحديث من يقول فيه فكانوا لا يقرؤون * (بسم الله الرحمن الرحيم) *
وقالت عائشة ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة ب * (الحمد لله رب العالمين) * (2)
وقال أبو نعامة قيس بن عباية الحنفي عن بن عبد الله بن مغفل قال ((سمعني أبي وأنا أقرأ * (بسم الله الرحمن الرحيم) * فقال لي يا بني إياك والحدث فإني صليت مع رسول الله وأبي بكر وعمر فلم أسمع منهم أحدا يقولها فإذا قرأت فقل * (الحمد لله رب العالمين) * (3)
وقد ذكرنا هذه الآثار من طرق بأسانيدها في التمهيد
فهذه الآثار التي احتج بها من كره قراءة * (بسم الله الرحمن الرحيم) * في الصلاة ومن أبى من أن يعدها آية من فاتحة الكتاب وهي أحاديث حسان رواها
454

العلماء المعروفون إلا حديث بن مغفل فإنه حديث ضعيف لأنه لم يعرف بن عبد الله بن مغفل
وللعلماء في * (بسم الله الرحمن الرحيم) * أقاويل
فجملة مذهب مالك وأصحابه أنها ليست عندهم آية من فاتحة الكتاب ولا من غيرها من سور القرآن إلا في سورة النمل وأنه لا يقرأ بها المصلي في المكتوبة في فاتحة الكتاب ولا في غيرها سرا ولا جهرا
قال مالك ولا بأس أن يقرأ بها في النافلة ومن يعرض القرآن عرضا
هذا هو المشهور من مذهب مالك عند أصحابه وعليه يناظر المالكيون من خالفهم
وقد ذكر إسماعيل القاضي عن أبي ثابت عن بن نافع عن مالك أنه قال لا يقرأ ب * (بسم الله الرحمن الرحيم) * في الفريضة والنافلة
هكذا وجدته في نسخة صحيحة من المبسوط عن أبي ثابت عن بن نافع عن مالك وإنما هو محفوظ لابن نافع
وروى يحيى بن يحيى عن بن نافع قال لا أرى أن يتركها في فريضة ولا نافلة وهو قول الشافعي
قال أبو عمر للشافعي في * (بسم الله الرحمن الرحيم) * قولان
أحدهما أنها الآية الأولى من فاتحة الكتاب دون غيرها من السور التي أثبتت في أوائلها
والقول الآخر هي آية من أول كل سورة
وكذلك اختلف أصحابه على القولين جميعا والأول أشهر القولين عنه
وقال عمرو بن هاشم صليت خلف الليث بن سعد فكان يجهر ب * (بسم الله الرحمن الرحيم) * وبآمين
وروى الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن نعيم بن عبد الله المجمر قال ((صليت خلف أبي هريرة فقرأ * (بسم الله الرحمن الرحيم) * قبل أم القرآن وقبل السورة وكبر في الخفض والرفع وقال أنا أشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم
455

وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور وأبو عبيد هي آية من فاتحة الكتاب
حدثنا عبيد بن محمد حدثنا الحسن بن سلمة حدثنا بن الجارود حدثنا إسحاق بن منصور قال قلت لإسحاق بن راهويه رجل صلى صلوات فلم يقرأ فيها * (بسم الله الرحمن الرحيم) * مع * (الحمد لله رب العالمين) * قال يعيد الصلوات كلها
قال أبو عمر هذا قول كل من جعلها الآية الأولى من فاتحة الكتاب وأوجب قراءة فاتحة الكتاب في كل ركعة
وأما أصحاب أبي حنيفة فزعموا أنهم لا يحفظون عنه هل هي آية من فاتحة الكتاب أم لا
ومذهبه أنه يسر بها في الجهر والسر
وقال داود هي آية من القرآن في كل موضع وقعت فيه وليست هي من السورة وإنما هي آية مفردة غير ملحقة بالسور
وزعم الرازي أبو بكر أن مذهب أبي حنيفة هكذا
وقال عطاء هي آية من أم القرآن
واتفق أبو حنيفة والثوري على أن الإمام يقرأ * (بسم الله الرحمن الرحيم) * في أول فاتحة الكتاب سرا ويخفيها في صلاة الجهر وغيرها يخصها بذلك
وروي مثل ذلك عن عمر وعلي وبن مسعود وعمار وبن الزبير
وهو قول الحكم وحماد
وبه قال أحمد بن حنبل وأبو عبيد
وروي عن الأوزاعي مثل ذلك
[وروي أيضا عن الأوزاعي] أنه لا يقرؤها في المكتوبة سرا ولا جهرا ولا هي آية من فاتحة الكتاب
وهو قول الطبري
وقال الشافعي يجهر بها في صلاة الجهر لأنها أول آية من فاتحة الكتاب
وبه قال داود على اختلاف عنه وكذلك اختلف أصحابه
وروي قول الشافعي عن بن عمر وبن عباس وطاوس ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء وعمرو بن دينار لم يختلف عن واحد من هؤلاء في ذلك واختلف فيه عن عمر وبن الزبير
456

حدثنا عبد الوارث حدثنا قاسم حدثنا محمد بن إبراهيم حدثنا عبدان حدثنا الحسين بن يحيى وأبو الأشعث قالا حدثنا المعتمر عن إسماعيل بن حماد عن أبي خالد عن بن عباس ((أن النبي - عليه السلام - كان يجهر ب (بسم الله الرحمن الرحيم))) (1)
حدثنا عبد الوارث حدثنا قاسم حدثنا بن وضاح حدثنا أبو بكر حدثنا حفص بن غياث عن بن جريج عن بن مليكة عن أم سلمة قالت ((كان النبي - عليه السلام - يقرأ * (بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين) * (2)
أخبرنا عبد الله بن محمد حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثنا أبي قال حدثنا يحيى بن سعيد الأموي قال حدثنا بن جريج عن عبد الله بن أبي مليكة عن أم سلمة ((أنها سئلت عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت كان يقطعها آية آية * (بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين) * (3)
قال أبو عمر أما من قرأ بها سرا في صلاة السر وجهر بها في صلاة الجهر فحجته أنها أول آية من فاتحة الكتاب والمناظرة بينه وبين من خالفه في ذلك
وأما من أسر بها في الجهر والسر فإنما مال إلى الأثر وقرأها من جهة الحكم بخبر الواحد الموجب للعمل دون العلم
واحتجوا من الأثر في ذلك بما رواه منصور بن زاذان عن أنس بن مالك قال ((صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسمعنا قراءة (بسم الله الرحمن الرحيم))) (4)
وبما رواه عمار بن زريق عن الأعمش عن شعبة عن ثابت عن أنس قال ((صليت خلف النبي - عليه السلام - وخلف أبي بكر وعمر فلم أسمع أحدا منهم يجهر ب بسم الله الرحمن الرحيم))) (5)
وقد روي عن شعبة وسعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس مثل ذلك
وكذلك رواه هشام الدستوائي عن قتادة عن أنس
457

وقد ذكرنا هذه الأحاديث بأسانيدها وطرقها في كتاب ((الإنصاف فيما بين المختلفين في * (بسم الله الرحمن الرحيم) * من الخلاف)) وفيها ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجهر بها))
وفي ذلك دليل على أنه كان يخفيها
فقال بهذا من رأى أن يخفيها ورووا عن علي ((أنه كان لا يجهر ب * (بسم الله الرحمن الرحيم) * وكان يجهر ب * (الحمد لله رب العالمين) *))
وروى الثوري عن عبد الملك بن أبي بشير عن عكرمة عن بن عباس قال ((الجهر ب * (بسم الله الرحمن الرحيم) * قراءة الأعراب
حدثنا أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن ومحمد بن عبد الله بن حكم قالا حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أبو خليفة الفضل بن الحباب قال حدثنا أبو الوليد الطيالسي قال حدثنا قيس بن الربيع قال حدثنا عاصم بن كليب عن أبيه ((أن عليا - رضي الله عنه - كان لا يجهر ب * (بسم الله الرحمن الرحيم) *
قال وحدثنا أبو الوليد قال حدثنا قيس عن الشعبي عن الحارث عن علي ((أنه كان لا يجهر ب * (بسم الله الرحمن الرحيم) *
[وروى منصور وحماد ومغيرة عن إبراهيم أنه قال أربع يخفيهن الإمام ويقولها سرا الاستعاذة و * (بسم الله الرحمن الرحيم) * وآمين وربنا لك الحمد
وروى الكوفيون عن عمرو بن مسعود مثل ذلك بأسانيد ليست بالقوية
وكان إبراهيم النخعي يقول الجهر ب (بسم الله الرحمن الرحيم) بدعة
وقد ذكرنا هذا الوجه وزدناه بيانا في كتابنا كتاب الإنصاف والحمد لله
وقد تقول بعض العلماء بدعة فيما هو عند مخالفة سنة]
وأما الذين أثبتوها آية في أول فاتحة الكتاب وفي أول كل سورة فإنهم قالوا إن المصحف لم يثبت الصحابة فيه ما ليس من القرآن لأنه محال أن يضيفوا إلى كتاب الله من الذكر ما ليس منه ويكتبوه بالمداد كما كتبوا القرآن
هذا ما لا يجوز لأحد أن يضيفه إليهم
ألا ترى أن الذين رأوا الشكل فيه كرهوه وقالوا نمشتم المصحف كيف يضيفون إليه ما ليس منه
واحتجوا من الأثر بما رواه سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن سعيد بن
458

جبير عن بن عباس قال ((كان النبي - عليه السلام - لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه * (بسم الله الرحمن الرحيم) * (1) ذكره أبو داود
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا بن عيينة وكذلك رواه الحميدي وعلي بن المدني وبن أبي عمر وغيرهم عن بن عيينة وبما رواه محمد بن فضيل عن المختار بن فلفل عن أنس قال ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أنزلت علي سورة فقرأ " بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر " [الكوثر 1] حتى ختمها ثم قال أتدرون ما الكوثر نهر في الجنة وعدنيه ربي (2)
روى بن جريج عن بن أبي مليكة عن أم سلمة ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ بأم القرآن بدأ ب * (بسم الله الرحمن الرحيم) * فعدها آية ثم قرأ * (الحمد لله) * [فعدها ست آيات (3)
وروى بن جريج قال حدثني عبد الله بن عثمان بن خثيم عن أبي بكر بن حفص بن عمر بن سعد بن أبي وقاص عن أنس بن مالك قال ((صلى معاوية للناس بالمدينة العتمة فلم يقرأ * (بسم الله الرحمن الرحيم) * ولم يكبر بعض التكبير الذي يكبر الناس فلما انصرف ناداه من سمع ذلك من المهاجرين والأنصار فقالوا يا معاوية أسرقت الصلاة أم نسيت أين بسم الله الرحمن الرحيم والله أكبر حين تهوي ساجدا فلم يعد معاوية لذلك بعد))
ذكره الشافعي عن عبد المجيد بن عبد العزيز وعن بن جريج وذكره عبد الرزاق عن بن جريج فلم يذكر أنس بن مالك
وعبد المجيد أيضا أقعد من بن جريج وأضبط لحديثه من عبد الرزاق
وذكر عباس الدوري عن يحيى بن معين أنه سئل عن عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد فقال ثقة كان أعلم الناس بحديث بن جريج وكان أصحابه يصلحون كتبهم بكتابه
قال عبد الرزاق وأخبرنا بن جريج قال أخبرني أبي أخبرنا سعيد بن جبير
459

أن بن عباس قال في قوله * (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم) * [الحجر 87] قال أم القرآن
قال وقرأها علي سعيد كما قرأتها عليك ثم قال * (بسم الله الرحمن الرحيم) * الآية السابقة
قال عبد الرزاق فقرأ علي بن جريج * (بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين) * إلى * (ولا الضالين) * سبع آيات
وكذلك رواه جماعة أصحاب بن جريج عنه كما رواه عبد الرزاق
وقد ذكرنا آثار هذا الباب كلها بأسانيدها وطرقها في ((التمهيد)) وكتاب ((الإنصاف))
وذكرنا عن بن عباس وبن عمر وأبي هريرة أنهم كانوا يقرؤون * (بسم الله الرحمن الرحيم) * في افتتاح الصلاة ب * (الحمد لله رب العالمين) * من طرق ثابتة مذكورة في ((التمهيد)) وفي كتاب ((الإنصاف))
وعن بن عمر وعطاء أنهما كانا لا يتركان * (بسم الله الرحمن الرحيم) * يستفتحان بها لأم القرآن وللسورة التي بعدها في المكتوبة والتطوع
وعن يحيى بن جعدة قال ((اختلس الشيطان آية * (بسم الله الرحمن الرحيم) * من الأئمة))
وروى عبد العزيز بن حسين عن عمرو بن دينار عن بن عباس قال ((سرق الشيطان من أئمة المسلمين آية من فاتحة الكتاب أو قال من كتاب الله * (بسم الله الرحمن
الرحيم) *
قال بن عباس نسيها الناس كما نسوا التكبير في الصلاة والله ما كنا نقضي السورة حتى ينزل * (بسم الله الرحمن الرحيم) *
قال أبو عمر عبد العزيز بن حصين وإن كان ضعيفا فإنه لم يأت في حديثه هذا إلا بما جاء به الثقات
وذكر معمر عن الزهري ((أنه كان يفتح ب * (بسم الله الرحمن الرحيم) * ويقول هي آية من فاتحة الكتاب تركها الناس))
وقال مجاهد ((نسي الناس * (بسم الله الرحمن الرحيم) * وهذا التكبير)) وإسناده في التمهيد
قال أبو عمر في قول بن عباس ويحيى بن جعدة ومجاهد وبن شهاب
460

دليل على أن العمل كان عندهم ترك * (بسم الله الرحمن الرحيم) *
فهذا من جهة العمل
وأما من جهة الأثر فحديث العلاء المذكور في هذا الباب عن السائب عن أبي هريرة عن النبي - عليه السلام - اقرؤوا يقول العبد * (الحمد لله رب العالمين) * الحديث ((قسمت الصلاة بيني وبين عبدي)) على حسب ما بينا فيما مضى من هذا الباب مع سائر الآثار التي أوردنا فيه من حديث أنس وعبد الله بن مغفل ((أن النبي عليه السلام وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا لا يقرؤون * (بسم الله الرحمن الرحيم) *
وإن كانت معلولة ففيها استظهار على ما جرى عليه العمل بالمدينة على أن الخلاف بالمدينة في هذه المسألة موجود قديما وحديثا
ولم يختلف أهل مكة في أن * (بسم الله الرحمن الرحيم) * أول آية من فاتحة الكتاب
وقد أفردنا في * (بسم الله الرحمن الرحيم) * كتابا جمعنا فيه الآثار وأقوال أئمة الأمصار لكل فريق منهم سميناه بكتاب ((الإنصاف فيما بين المختلفين في * (بسم الله الرحمن الرحيم) * من الخلاف)) يستغني الناظر فيه إن شاء الله
قال أبو عمر قد اعترض أصحاب الشافعي على من احتج على سقوط بسم الله الرحمن الرحيم بقول الله تعالى * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * [النساء 82] والاختلاف في * (بسم الله الرحمن الرحيم) * موجود وبقوله * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * [الحجر 9] فقالوا المعنى في هذه الآية ما عليه العمل في تأويلها بأنه حق كله لا يوجد فيه باطل وحق وما عداه من كلام الناس فيه الحق والباطل
قالوا والدليل على صحة ذلك وجود الاختلاف فيه عند الجميع في القراءات وفي الأحكام وفي الناسخ والمنسوخ وفي التفسير وفي الإعراب والمعاني وهذا لا مدفع فيه
وأما قوله تعالى * (وإنا له لحافظون) * ففيه قولان لا ثالث لهما
أحدهما إنا له لحافظون عندنا قاله مجاهد وغيره
والثاني وإنا له لحافظون من أن يزيد فيه إبليس أو غيره أو ينقص إن الهاء في قوله (لحافظون) كناية عن النبي صلى الله عليه وسلم أي لحافظون له من كل من أراده بسوء من أعدائه
قال أبو عمر ذكر مالك في هذا الباب عن هشام بن عروة عن أبيه عن
461

يحيى بن سعيد وربيعة عن القاسم بن محمد وعن يزيد بن رومان عن نافع بن جبير بن مطعم أنهم كانوا يقرؤون خلف الإمام فيما لا يجهر فيه الإمام بالقراءة
162 - مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يقرأ خلف الإمام فيما لا يجهر فيه الإمام بالقراءة
163 - مالك عن يحيى بن سعيد وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن القاسم بن محمد كان يقرأ خلف الإمام فيما لا يجهر فيه الإمام بالقراءة
164 - مالك عن يزيد بن رومان أن نافع بن جبير بن مطعم كان يقرأ خلف الإمام فيما لا يجهر فيه بالقراءة
قال مالك وذلك أحب ما سمعت إلي في ذلك
والقراءة عند مالك وأصحابه خلف الإمام فيما لا يجهر فيه الإمام بالقراءة مستحبة مندوب إليها ومنهم من يجعلها سنة
وأما إذا جهر الإمام فلا قراءة عندهم البتة بشيء من القرآن
وسنبين ذلك من مذهبه ومذهب من خالفه في الباب بعد هذا إن شاء الله عز وجل
((10 - باب ترك القراءة خلف الإمام فيما جهر فيه))
165 - ذكر فيه مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا سئل هل يقرأ أحد خلف الإمام قال إذا صلى أحدكم خلف الإمام فحسبه قراءة الإمام (1) وإذا صلى وحده فليقرأ
قال وكان عبد الله بن عمر لا يقرأ خلف الإمام
462

وهذا الحديث عن بن عمر يدل ظاهره على أنه كان لا يقرأ خلف الإمام ولا يرى القراءة خلفه جملة في السر ولا في الجهر
ولكن مالكا - رحمه الله - أدى ما سمع من نافع كما سمعه وبلغه عن بن عمر أن مذهبه كان أنه لا يقرأ خلف الإمام فيما يجهر فيه دون ما أسر فأدخل حديثه في هذا الباب كأنه قيده بترجمة الباب وبما علم من المعنى فيه
ويدل على صحة هذا التأويل عن بن عمر ما ذكره عبد الرزاق قال أخبرنا بن جريج قال حدثني بن شهاب عن سالم أن بن عمر كان ينصت للإمام فيما جهر فيه الإمام بالقراءة في الصلاة لا يقرأ معه
وهذا يدل على أنه كان يقرأ معه فيما أسر فيه وكل من روى عن نافع عن بن عمر من رواية مالك وغيره من الألفاظ المجملة في هذا الحديث فإنه يفسره ويقضي عليه حديث بن شهاب عن سالم هذا والله أعلم
166 - وأما حديثه في هذا الباب عن بن أكيمة الليثي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال ((هل قرأ معي منكم أحد آنفا)) (1) فقال رجل نعم أنا يا رسول الله قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إني أقول ما لي أنازع القرآن)) (2) فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقراءة حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقد ذكرنا بن أكيمة بما يجب من ذكره في التمهيد
والاختلاف في اسمه كثير فقيل عمرو وقيل عامر وقيل عمارة وقيل عمر وقيل عمار
وهو من بني ليث من أنفسهم يكنى أبا الوليد فيما ذكر الواقدي وقال توفي سنة إحدى ومائة وهو بن تسع وسبعين سنة
روي عن بن شهاب يقال إنه لم يرو عنه غيره وأن الذي روى عنه محمد بن عمرو وهو بن أخيه لا هو والذي روى عنه محمد بن عمرو هو الذي
463

روى عنه مالك حديث أم سلمة إذا دخل العشر فأراد أحدكم أن يضحي الحديث والله أعلم
قال بن شهاب كان بن أكيمة يحدث في مجلس سعيد بن المسيب فيصغي إلى حديثه وحسبك بهذا فخرا وثناء
وأما قوله في هذا الحديث فانتهى الناس عن القراءة إلى آخر الحديث فأكثر رواة بن شهاب عنه لهذا الحديث يجعلونه كلام بن شهاب ومنهم من يجعله كلام أبي هريرة وقد أوضحنا ذلك كله في التمهيد
وفقه هذا الحديث الذي من أجله جيء به هو ترك القراءة مع الإمام فيما جهر فيه الإمام بالقراءة فلا يجوز أن يقرأ معه إذا جهر لا بأم القرآن ولا بغيرها على ظاهر هذا الحديث وعمومه
وهذا موضع اختلفت فيه الآثار عن النبي - عليه السلام - واختلف فيه العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين على ثلاثة أقوال
أحدها يقرأ معه فيما أسر فيه ولا يقرأ معه فيما جهر
والثاني لا يقرأ معه لا فيما أسر ولا فيما جهر
والثالث يقرأ معه بأم القرآن خاصة فيما جهر وبأم القرآن وسورة فيما أسر
فأما القول الأول فقال مالك الأمرعندنا أن يقرأ الرجل مع الإمام فيما لا يجهر فيه الإمام بالقراءة ويترك القراءة معه فيما يجهر فيه بالقراءة
وهو قول سعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وسالم بن عبد الله بن عمر وبن شهاب وقتادة
وبه قال عبد الله بن المبارك وأحمد وإسحاق وداود والطبري
إلا أن أحمد بن حنبل قال إن سمع في صلاة الجهر لم يقرأ وإن لم يسمع قرأ
ومن أصحاب داود من قال لا يقرأ فيما قرأ إمامه وجهر ومنهم من قال يقرأ وأوجبوا كلهم القراءة إذا أسر
واختلف في هذه المسألة عن عمر وعلي وبن مسعود فروي عنهم أن المأموم لا يقرأ وراء الإمام لا فيما أسر ولا فيما جهر كقول الكوفيين
وروي عنهم أنه يقرأ فيما أسر ولا يقرأ معه فيما جهر كقول مالك
وهذا أحد قولي الشافعي كان يقوله بالعراق
464

وروي ذلك عن أبي بن كعب وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر
والحجة لهذا القول - وهو المختار عندنا - قول الله تعالى * (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) * [الأعراف 304]
وهذا عند أهل العلم عند سماع القرآن في الصلاة لا يختلفون أن هذا الخطاب نزل في هذا المعنى دون غيره
ومعلوم أن هذا لا يكون إلا في صلاة الجهر لأن السر لا يستمع إليه
وقد ذكرنا في ((التمهيد)) خبر أبي عياض عن أبي هريرة قال كانوا يتكلمون في الصلاة حتى نزلت هذه الآية * (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) * قال إبراهيم بن مسلم فقلت لأبي عياض لقد كنت أظن أنه لا ينبغي لأحد يسمع القرآن ألا يسمع قال لا إنما ذلك في الصلاة المكتوبة فأما في غير الصلاة فإن شئت استمعت وأنصت وإن شئت مضيت ولم تسمع
وروى بن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة قال سمعت مجاهدا يقول ما رأيت أحدا بعد بن عباس أفقه من أبي عياض وروى حماد بن سلمة عن قتادة عن سعيد بن المسيب في قوله تعالى * (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) * قال في الصلاة
وعن أبي العالية والشعبي وبن شهاب والنخعي ومجاهد والحسن البصري وعطاء وزيد بن أسلم مثله إلا أن مجاهدا زاد فقال في الصلاة والخطبة يوم الجمعة وهو قول
قتادة والضحاك بن مزاحم
وقد زدنا هذا المعنى بيانا بالأسانيد والأقوال في كتاب التمهيد
وذكرنا فيه قول بن مسعود إذا كنت خلف الإمام فأنصت للقرآن
وقوله أتقرءون خلف الإمام قالوا نعم قال لا تفقهون ما لكم لا تعقلون * (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) *
وفي قوله أنصت للقرآن ونزوعه بقول الله * (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) * دليل على أنه أراد الجهر خاصة والله أعلم وإن كان الكوفيون يرون عنه ترك القراءة خلف الإمام في السر والجهر
وفي إجماع أهل العلم على أن قوله تعالى * (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) * لم يرد كل موضع يسمع فيه القرآن وإنما أراد الصلاة أوضح الدلائل على أنه لا يقرأ مع الإمام فيما جهر فيه
465

ويشهد لهذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإمام ((وإذا قرأ فأنصتوا)) (1)
وقد ذكرناه بالأسانيد والطرق في ((التمهيد)) من حديث أبي هريرة وأبي موسى الأشعري
وقد صحح هذا اللفظ أحمد بن حنبل
قال أبو بكر الأثرم قلت لأحمد بن حنبل من يقول عن النبي - عليه السلام - من وجه صحيح إذا قرأ فأنصتوا فقال حديث بن عجلان الذي يرويه أبو خالد الأحمر والحديث الذي رواه جرير عن التيمي وقد زعموا أن المعتمر رواه قلت نعم قد رواه المعتمر قال فأي شيء تريده فقد صحح أحمد هذين الحديثين
قال أبو عمر فأين المذهب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وظاهر كتاب الله تعالى
وقال أحمد بن حنبل من لم يسمع قراءة القرآن فجائز له أن يقرأ
وقال في موضع آخر من لم يسمع فعليه أن يقرأ ولو بأم القرآن [لأن المأمور بالإنصات والاستماع من سمع دون من لم يسمع]
وهو قول سعيد بن جبير وعطاء
قال عطاء إذا لم يسمع فإن شاء سبح وإن شاء قرأ
وقد قال بعض أصحاب مالك لا بأس أن يتكلم يوم الجمعة من لا يسمع الخطبة بما شاء من الخير وما به الحاجة إليه
وأما مالك فكرة ذلك في الخطبة ولا يجيز القراءة للمأموم في صلاة الجهر سمع أو لم يسمع
وقد ذكرنا هذه المسألة في موضعها من هذا الكتاب
وقال آخرون لا يترك أحد من المؤمنين خلف إمامه فيما أسر وفيما جهر فيه القراءة لأن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب)) (2) عام لا يخصه شيء وكذلك قوله ((كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج)) (3)
وممن قال هذا الشافعي بمصر وعليه أكثر أصحابه
وهو قول الأوزاعي والليث بن سعد وبه قال أبو ثور
466

وهو قول عبادة بن الصامت وعبد الله بن عمرو وبن عباس
واختلف فيه عن أبي هريرة
وبه قال عروة بن الزبير وسعيد بن جبير ومكحول والحسن البصري
وقد ذكرنا الأسانيد عنهم في التمهيد
قال أبو عمر أما قوله ((كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج)) فهو حديث مالك وغيره عن العلاء بن عبد الرحمن وقد ذكرناه
وأما قوله ((لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب)) فهو حديث بن شهاب عن محمود بن الربيع عن عبادة عن النبي - عليه السلام - رواه عن بن شهاب جماعة من أصحابه منهم معمر ويونس وعقيل وبن عيينة وشعيب وإبراهيم بن سعد وليس عند مالك عن بن شهاب من وجه صحيح عن مالك
وتأول أصحاب الشافعي في قول الله تعالى * (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) * أنه مخصوص بحديث أبي هريرة وحديث عبادة كأنه قال استمعوا وأنصتوا بعد قراءة فاتحة الكتاب فإنه لا صلاة إلا بها
وتأول أصحاب مالك أن الآية موقوفة على الجهر في صلاة الإمام دون السر وهو قول داود
إلا أن داود يرى أن القراءة بفاتحة الكتاب فيما أسر فيه الإمام بالقراءة فرض وأصحاب مالك على الاستحباب في ذلك دون الإيجاب
واختلف البويطي والمزني عن الشافعي في هذه المسألة
فقال البويطي عن الشافعي يقرأ المأموم فيما أسر فيه الإمام بأم القرآن وسورة في الأوليين وبأم القرآن في الآخرتين وما جهر فيه الإمام لا يقرأ إلا بأم القرآن
قال البويطي وكذلك يقول الليث والأوزاعي
وروى المزني عن الشافعي أنه يقرأ فيما أسر وفيما جهر [وهو قول أبي ثور]
[وذكر] الطبري عن العباس بن الوليد بن مزيد عن أبيه عن الأوزاعي قال [يقرأ خلف الإمام فيما أسر وفيما جهر]
وقال إذا جهر فأنصت وإذا [قرأ] فاقرأ في سكتاته بين القراءتين
حدثنا عبد الوارث حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا أحمد بن زهير حدثنا هارون بن معروف حدثنا ضمرة عن الأوزاعي قال أخذت القراءة مع الإمام عن عبادة بن الصامت ومكحول
467

وحجة من ذهب هذا المذهب أنه لا تنوب قراءة أحد عن أحد كما لا ينوب الركوع عن السجود
ومن جهة الأثر حديث محمد بن إسحاق عن مكحول عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الغداة فثقلت عليه القراءة فلما انصرف قال ((إني لأراكم تقرؤون وراء الإمام)) قالوا نعم قال ((فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة إلا بها)) (1)
وفي حديث محمد بن أبي عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال [أتقرؤون وراء الإمام] قالوا نعم قال ((فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب))
إلا أن حديث محمد بن أبي عائشة منقطع مرسل وحديث عبادة من رواية مكحول وغيره متصل مسند من رواية الثقات وهذه الأحاديث كلها مذكورة في ((التمهيد))
قال أبو عمر روى سمرة وأبو هريرة عن النبي - عليه السلام - أنه كانت له سكتات في صلاته حين يكبر ويفتتح الصلاة وحين يقرأ بفاتحة الكتاب وإذا فرغ من القراءة قبل الركوع (2)
قال أبو داود وكانوا يستحبون أن يسكت عند فراغه من السورة لئلا يتصل التكبير بالقراءة
قال أبو عمر فذهب الحسن وقتادة وجماعة إلى أن الإمام يسكت سكتات على ما في هذه الآثار المذكورة ويتحين المأموم تلك السكتات من إمامه فيقرأ فيها بأم القرآن ويسكت فيها في سائر صلاة الجهر فيكون مستعملا للسنة والآية في ذلك
وقال الأوزاعي والشافعي وأبو ثور حق على الإمام أن يسكت سكتة بعد التكبيرة الأولى وسكتة بعد فراغه بقراءة فاتحة الكتاب وبعد الفراغ بالقراءة ليقرأ من خلفه بفاتحة الكتاب
468

قالوا فإن لم يفعل الإمام فاقرأ معه بفاتحة الكتاب على كل حال
وأما مالك فأنكر السكتات ولم يعرفها قال لا يقرأ أحد مع الإمام إذا جهر لا قبل القراءة ولا بعدها
وقد ذكرنا علل حديث السكتتين وعلة حديث بن إسحاق في كتاب التمهيد وكذلك حديث محمد بن أبي عائشة
وقال أبو حنيفة وأصحابه ليس على الإمام أن يسكت إذا كبر ولا إذا فرغ من قراءة أم القرآن ولا إذا فرغ من القراءة ولا يقرأ أحد خلف إمامه لا فيما أسر ولا فيما جهر
وهو قول زيد بن ثابت وجابر بن عبد الله
وروي ذلك عن علي وبن مسعود
وبه قال الثوري وبن عيينة وبن أبي ليلى والحسن بن حي
وهو قول جماعة من التابعين بالعراق
وحجة من قال بهذا القول حديث جابر عن النبي - عليه السلام - أنه قال ((من كان له إمام فقراءته له قراءة)) (1)
وهذا الحديث رواه جابر الجعفي عن أبي الزبير عن جابر عن النبي عليه السلام
وجابر الجعفي لا حجة فيما ينفرد به عند جماعة أهل العلم لسوء مذهبه وكان الثوري وشعبة يثنيان عليه بالحفظ وأما بن عيينة فكان يحمل عليه
وروى يحيى بن سلام عن مالك عن وهب بن كيسان عن جابر عن النبي - عليه السلام - أنه قال ((كل ركعة لا يقرأ فيها بأم القرآن فلم تصل إلا وراء إمام))
وهو حديث لا يصح إلا موقوفا على جابر
واحتجوا أيضا بحديث بن مسعود قال كانوا يقرؤون خلف النبي - عليه السلام - فقال ((خلطتم علي)) (2)
وهذا لا حجة فيه وإنما معناه في الجهر لأن التخليط لا يقع في صلاة السر
ويبين ذلك حديث هذا الباب قوله عليه السلام ((مالي أنازع القرآن)) وهذا في الجهر على ما قدمنا
469

واحتجوا بحديث عمران بن حصين أن النبي - عليه السلام - صلى صلاة الظهر فلما قضى صلاته قال أيكم قرأ * (سبح اسم ربك الأعلى) * فقال بعضهم أنا فقال ((قد عرفت أن بعضكم خالجنيها)) (1)
وهذا الحديث رواه شعبة وجماعة عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن عمران بن حصين
قال شعبة قلت لقتادة ألست تقول لسعيد بن المسيب أنصت للقرآن قال ذلك إذا جهر قلت فقد كرهه هنا قال لو كرهه نهى عنه
وقال بعض القائلين بقول الكوفيين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب)) خاص به من صلى وحده أو كان إماما وكذلك فسره بن عيينة
فأما من صلى وراء إمام فإن قراءته قراءة له
واحتجوا بأن جمهور العلماء مجمعون على أن الإمام إذا لم يقرأ من خلفه لم تنفعهم قراءتهم فدل على أن قراءة الإمام التي تراعى وأن قراءته - كما جاء في الحديث - قراءة لمن خلفه
ورووا عن عمر بن الخطاب أنه لم يقرأ في صلاة صلاها فأعاد بهم الصلاة
ورووا عن علي بن أبي طالب أنه قال من قرأ خلف الإمام فقد أخطأ الفطرة
وهذا لو صح احتمل أن يكون في صلاة الجهر لأنه حينئذ يخالف الكتاب والسنة فكيف وهو غير ثابت عن علي لما ذكرنا من رواية عبيد الله بن أبي رافع عنه خلافه
وكذلك قول زيد بن ثابت من قرأ خلف الإمام فلا صلاة له منكر لا يصح عنه
وقد أجمع العلماء على أن من قرأ خلف الإمام فصلاته تامة ولا إعادة عليه فدل على فساد ما روي عن زيد بن ثابت
وكذلك الحديث المروي عن سعد بن أبي وقاص أنه قال وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام في فيه حجر - حديث منقطع لا يصح ولا نقله ثقة
470

وقد تكلمنا على أحاديث هذا الباب في التمهيد
وما أعلم في هذا الباب من الصحابة من صح عنه ما ذهب إليه الكوفيون فيه من غير اختلاف عنه إلا جابر بن عبد الله وحده فإن عبد الرزاق ذكر عن داود بن قيس عن عبد الله بن مقسم قال سألت جابر بن عبد الله أتقرأ خلف الإمام في الظهر والعصر قال لا
وأما جملة اختلاف العلماء في حكم القراءة خلف الإمام فيما يسر فيه الإمام بالقراءة فإن الكوفيين ذهبوا إلى ما ذكرنا من كراهية القراءة خلفه فيما أسر وفيما جهر وهو قول أصحاب بن مسعود وإبراهيم النخعي وسفيان وأبي حنيفة وسائر أهل الكوفة وحجتهم ما وصفنا
وقال فقهاء الحجاز والشام وأكثر البصريين القراءة مع الإمام فيما يسر فيه بالقراءة وهو قول مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وداود والطبري وحجتهم ما قدمنا ذكره في هذا الباب
ثم اختلف هؤلاء في وجوب القراءة إذا أسر الإمام
فتحصيل مذهب مالك عند أصحابه أن القراءة خلف الإمام فيما يسر فيه بالقراءة سنة ومن تركها فقد أساء ولا يفسد ذلك عليه صلاته
وكذلك قال الطبري القراءة فيما أسر فيه الإمام سنة مؤكدة ولا تفسد صلاة من تركها وقد أساء
وقد ذكر بن خواز بنداد أن القراءة خلف الإمام عند أصحاب مالك فيما أسر فيه الإمام بالقراءة - مستحبة غير واجبة
وكذلك قال الأبهري وإليه أشار إسماعيل بن إسحاق وذكره في الأحكام له
قال حدثنا إبراهيم بن حمزة قال حدثنا عبد الله بن محمد عن أسامة بن زيد قال سألت القاسم بن محمد عن القراءة خلف الإمام فيما لم يجهر فيه فقال إن قرأت فلك في رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة وإن لم تقرأ فلك في رجال من أصحاب رسول الله أسوة
قال وحدثنا القعنبي قال حدثنا سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد قال سمعت القاسم بن محمد يقول إني لأحب أن أشغل نفسي بالقراءة
فيما لم يجهر فيه الإمام بالقراءة عن حديث النفس في الظهر والعصر والثالثة من المغرب والآخرتين من العشاء
وقال الأوزاعي والشافعي وأبو ثور وأحمد وإسحاق وداود القراءة
471

خلف الإمام فيما أسر فيه واجبة ولا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة منها بفاتحة الكتاب أقل شيء إذا أسر الإمام القراءة لأن الإنصات إنما كان للجهر بالقراءة لقول الله تعالى * (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) * [الأعراف 204] ولقوله عليه السلام ((ما لي أنازع القرآن)) وقد ارتفعت هذه العلة في صلاة السر فوجب على كل مصل أن يقرأ لنفسه ولا تنوب عند واحد من هؤلاء قراءة الإمام عن قراءة المأموم كما لا ينوب عنه إحرامه ولا ركوعه ولا سجوده
وقد تكرر هذا المعنى وتلخيص مذهب كل واحد من العلماء مجملا ومفسرا في هذا الباب
قال أبو عمر للشافعي في هذه المسألة أربعة أقوال وقد ذكرناها في التمهيد
((11 - [باب ما جاء في] التأمين خلف الإمام))
167 - ذكر فيه عن بن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن أنهما أخبراه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه))
قال بن شهاب وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ((آمين))
168 - وعن سمي مولى أبي بكر عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((إذا قال الإمام * (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) * فقولوا آمين فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه))
وقد بان في حديث سمي هذا أن معنى التأمين قول الرجل آمين عند فراغه من
472

[قراءة فاتحة الكتاب] والدعاء على حسب اختلاف العلماء في ذلك على ما نورده هنا إن شاء الله
وكذلك قول بن شهاب أيضا بان به أن قوله ((من وافق تأمينه تأمين الملائكة)) أراد بذلك قول آمين
ومعنى آمين الاستجابة أي اللهم استجب لنا واسمع دعاءنا واهدنا سبيل من أنعمت عليه ورضيت عنه
وقيل معناها أشهد لله
وقيل معناها كذلك فعل الله
وفيها لغتان المد والقصر
قال الشاعر فقصر
(
* آمين فزاد الله ما بيننا بعدا (1))
وقال آخر فمد
(ويرحم الله عبدا قال آمينا (2
*)
وفي حديث بن شهاب هذا - وهو أصح حديث يروى عن النبي - عليه السلام - في هذا الباب - دليل على أن الإمام يجهر بآمين ويقولها من خلفه إذا قالها
ولولا جهر الإمام بها ما قيل لهم ((إذا أمن الإمام فأمنوا))
قالوا ومن لا يجهر لا يسمع ولا يخاطب أحد بحكاية من لا يسمع قوله
وقول بن شهاب وكان رسول الله يقول آمين تفسير لمعنى التأمين
هذا كله معنى قول الشافعي
وقد روى المدنيون مثل ذلك عن مالك
473

وفي هذا الحديث من الفقه قراءة أم القرآن في الصلاة ومعناه عندنا في كل ركعة لما قدمنا من الدلائل
ومعلوم أن التأمين إنما وقع على قوله * (اهدنا الصراط المستقيم) * إلى آخر السورة
ويدلك على ذلك قوله في حديث سمي ((إذا قال الإمام * (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) * فقولوا آمين))
ولا خلاف أنه لا تأمين في الصلاة في غير هذا الموضع فسقط الكلام فيه
وفي هذا الحديث أيضا دليل على أن الإمام أيضا يقول آمين لقوله عليه السلام ((إذا أمن الإمام فأمنوا))
ومعلوم أن قول المأموم هو آمين فكذلك يجب أن يكون قول الإمام
وهذا موضع اختلف فيه العلماء
فروى بن القاسم عن مالك أن الإمام لا يقول آمين وإنما يقول ذلك من خلفه دونه وهو قول بن القاسم والمصريين من أصحاب مالك
وحجتهم حديث سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي - عليه السلام - قال ((إذا قال الإمام * (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) * فقولوا آمين))
ومثله حديث أبي موسى الأشعري عن النبي - عليه السلام
ومثله حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إذا قال الإمام * (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) * فقال من خلفه آمين فوافق ذلك قول أهل السماء آمين غفر له ما تقدم من ذنبه))
هذا لفظ حديث سنيد عن إسماعيل بن جعفر عن محمد بن عمر
وفي هذا الحديث دليل على أن الإمام يقتصر على القراءة بإلى * (ولا الضالين) * وأن المأموم يقتصر على التأمين قالوا والدعاء يسمى تأمينا
والتأمين دعاء احتجوا بقوله - تعالى - لموسى وهارون * (قد أجيبت دعوتكما) * [يونس 89] وإنما كان موسى الداعي وهارون يؤمن كذلك قال أهل العلم بتأويل القرآن
فمعنى قوله عليه السلام ((إذا أمن الإمام فأمنوا)) أراد إذا قال الإمام * (اهدنا الصراط المستقيم) * إلى آخر السورة فأمنوا
وقال جمهور أهل العلم يقول الإمام آمين كما يقولها المنفرد والمأموم
474

وهو قول مالك في رواية المدنيين عنه منهم بن الماجشون ومطرف وأبو مصعب وبن نافع وهو قولهم
وبه قال أبو حنيفة والشافعي والثوري والأوزاعي وبن المبارك وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وداود والطبري
وحجتهم أن ذلك ثابت عن النبي - عليه السلام - من حديث أبي هريرة وحديث وائل بن حجر وحديث بلال يا رسول الله لا تسبقني بآمين (1)
وقد ذكرنا الأسانيد بذلك كله عنهم في ((التمهيد))
وقال الكوفيون وبعض المدنيين لا يجهر بها وهو قول الطبري
وقال الشافعي وأصحابه وأبو ثور وأحمد وأهل الحديث يجهر بها
وكان أحمد بن حنبل يغلظ على من كره الجهر بها
وذكر قول بن جريج قال قال لي عطاء كنت أسمع الأئمة يقولون [على أثر أم القرآن] آمين هم أنفسهم ومن وراءهم حتى إن للمسجد ضجة
وأما قوله ((فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)) ففيه أقوال منها
أنه يحتمل أن يكون أراد فمن أخلص في قوله آمين بنية صادقة وقلب خاشع ليس بساه ولا لاه فوافق الملائكة الذين هكذا دعاؤهم في السماء يستغفرون للذين آمنوا من أهل الأرض ويدعون لهم بنيات صادقة ليس عن قلوب غافلة لاهية - غفر له إن شاء الله - ما تقدم من ذنبه
وقال آخرون إنما أراد بقوله ((فمن وافق قوله قول الملائكة وتأمينه تأمين الملائكة)) - الحث على الدعاء للمؤمنين والمؤمنات في الصلاة فمن دعا للمؤمنين والمؤمنات في الصلاة فقد وافق قوله وفعله فعل الملائكة وقولهم في ذلك وقوله تعالى * (اهدنا الصراط المستقيم) * دعاء للداعي وأهل دينه ويقع التأمين على ذلك فلذلك ندبوا إليه والله أعلم
وقال آخرون الملائكة من الحفظة الكاتبين والملائكة المتعاقبون في صلاة الفجر وصلاة العصر يشهدون الصلاة مع المؤمنين فيؤمنون عند قول القارئ * (ولا الضالين) * فمن فعل مثل فعلهم غفر له إن شاء الله
475

وقد تكلمنا على حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي - عليه السلام - قال
169 - ((إذا قال أحدكم آمين وقالت الملائكة في السماء آمين فوافقت إحداهما الأخرى (1) غفر له ما تقدم من ذنبه)) - في كتاب التمهيد
والظاهر في هذا الحديث أن الملائكة المؤمنين على دعاء القارئ ملائكة السماء لما رواه بن جريج عن الحكم بن أبان عن عكرمة قال إذا أقيمت الصلاة فصف أهل الأرض صف أهل السماء فإذا قال أهل الأرض * (ولا الضالين) * قالت الملائكة آمين فوافق تأمين أهل الأرض تأمين أهل السماء غفر لأهل الأرض ما تقدم من ذنوبهم
وروى بن المبارك قال حدثنا عاصم الأحول عن حفصة بنت سيرين عن عبد الله بن مسعود قال إذا قرأ * (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) * ووصل بآمين فإذا وافق تأمينه تأمين الملائكة استجيب الدعاء
وذكر سنيد عن عيسى بن يونس أنه حدثه عن أبيه عن بكر بن ماعز قال سمعت الربيع بن خثيم يقول إذا قرأ الإمام * (ولا الضالين) * فاستعن من الدعاء بما أحببت
والقول في حديث سمي مولى أبي بكر عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا لك الحمد فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)) نحو القول في حديث التأمين وقد مضى القول في سائره فيما مضى من هذا الكتاب والحمد لله
((12 - باب العمل في الجلوس في الصلاة))
170 - مالك عن مسلم بن أبي مريم عن علي بن عبد الرحمن المعاوي
476

أنه قال رآني عبد الله بن عمر وأنا أعبث بالحصباء (1) في الصلاة فلما انصرفت نهاني وقال اصنع كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع فقلت وكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع قال كان إذا جلس في الصلاة وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى وقبض أصابعه كلها وأشار بأصبعه التي تلي الإبهام (2) ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى وقال هكذا كان يفعل
المعاوي منسوب إلى بني معاوية في الأنصار
وفي هذا الحديث النهي عن اللعب بالحصباء والعبث بها في الصلاة وهو أمر مجتمع عليه وكذلك غير الحصباء
ولا يجوز العبث بشيء من الأشياء في الصلاة
وإنما منع بن عمر من أمره المعاوي بالإعادة للصلاة التي يعبث فيها بالحصباء لأن ذلك - والله أعلم - كان منه يسيرا لم يشغله عن صلاته ولا عن إقامة شيء من حدودها
والعمل اليسير في الصلاة لا يفسدها
وقد جاء في حديث أبي ذر مسح الحصباء مرة واحدة وتركها خير من حمر النعم
وقد روي ذلك مرفوعا إلى النبي عليه السلام من حديث أبي ذر وحديث حذيفة وحديث معيقيب الدوسي (3)
وفيه في هذا الحديث دليل على أن لليدين عملا في الصلاة تشغلان به فيها وذلك ما وصف بن عمر في الجلوس وهيئته
وأما القيام فالسنة أن يضع كفه اليمنى على كوع اليسرى
477

وقد قال بن عمر اليدان تسجدان كما يسجد الوجه
وقد قيل إن المقصود له في وضع اليدين حيث وصفنا في القيام والجلوس تسكينهما لأن إرسالهما لا يؤمن العبث معه
وما وصف بن عمر من وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى وقبض أصابع يده تلك كلها إلا السبابة منها فإنه يشير بها ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى مفتوحة مفروجة الأصابع كل ذلك سنة في الجلوس في الصلاة مجتمع عليها لا خلاف - علمته بين العلماء - فيها
وحسبك بهذا إلا أنهم اختلفوا في تحريك أصبعه السبابة فمنهم من رأى تحريكها ومنهم من لم يره
وكل ذلك مروي في الآثار الصحاح المسندة عن النبي - عليه السلام - وجميعه مباح والحمد لله
وروى بن عيينة هذا الحديث عن مسلم بن أبي مريم قال أخبرني علي بن عبد الرحمن المعاوي قال صليت إلى عبد الله بن عمر فقلبت الحصباء فلما فرغ من صلاته قال لا تقلب الحصى فإن تقليب الحصى من الشيطان افعل كما كان رسول الله يفعل فوضع يده اليمنى على فخذه اليمنى فضم أصابعه الثلاث ونصب السبابة ووضع يده اليسرى على فخذه اليسرى
قال سفيان وكان يحيى بن سعيد حدثناه عن مسلم ثم لقيته فسمعته منه وزادني فيه قال هي مذبة الشيطان لا يسهو أحدكم ما دام يشير بأصبعه ويقول هكذا
وقد ذكرنا الإسناد إلى بن عيينة في التمهيد
171 - وأما حديثه عن عبد الله بن دينار أنه سمع عبد الله بن عمر وصلى إلى جنبه رجل فلما جلس الرجل في أربع تربع وثنى رجليه فلما انصرف عبد الله عاب ذلك عليه فقال الرجل فإنك تفعل ذلك فقال عبد الله بن عمر فإني أشتكي
ففيه دليل على أن من لم يقدر على الإتيان بسنة الصلاة أو فريضتها جاء بما
478

يقدر عليه مما لا يباينها والله لا يكلف نفسا إلا وسعها
وفيه أن التربع لا يجوز للجالس في صلاته من الرجال إذا كانوا أصحاء
واختلف فيه للنساء ودليل ذلك أن بن عمر نهى عن ذلك ابنه عبد الله وقال له
172 - سنة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى وتثني رجلك اليسرى فقال له إنك تفعل ذلك - وكان يتربع في الصلاة إذا جلس - فقال بن عمر إن رجلي لا تحملاني
173 - وذكر عن يحيى بن سعيد أن القاسم بن محمد أراهم الجلوس في التشهد فنصب رجله اليمنى وثنى رجله اليسرى وجلس على وركه الأيسر ولم يجلس على قدمه ثم قال أراني هذا عبد الله بن عبد الله بن عمر وحدثني أن أباه كان يفعل ذلك
فهذا كله مذهب مالك وأصحابه في الجلوس للتشهدين جميعا في الصلاة
وقد اختلف الفقهاء في ذلك فجملة قول مالك أن المصلي يفضي بأليته إلى الأرض وينصب رجله اليمنى ويثني رجله اليسرى وجلوس المرأة عنده كجلوس الرجل سواء
وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن حي ينصب اليمنى ويقعد على اليسرى
وكذلك قال الشافعي في الجلسة الوسطى
وقال في الجلسة الآخرة من الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء إذا قعد في الرابعة أماط رجليه جميعا فأخرجهما من وركه الأيمن وأفضى بمقعدته إلى الأرض وأضجع اليسرى ونصب اليمنى
وكذلك القعدة [عنده في الثالثة من المغرب و] في صلاة الصبح
وقال بن حنبل كما قال الشافعي سواء إلا في الجلسة في الصبح
479

وقال الطبري إن فعل هذا فحسن وإن فعل هذا فحسن
كل ذلك قد ثبت عن النبي عليه السلام
قال أبو عمر قد ذكرنا الأحاديث بذلك كله في التمهيد
فالكوفيون يذهبون إلى حديث وائل بن حجر وما كان مثله
والشافعي يذهب في الجلسة الآخرة إلى حديث أبي حميد الساعدي
ومالك يذهب إلى ما رواه في موطئه وكل ذلك حسن
وأما جلوس المرأة فقد ذكرنا عن مالك أن المرأة والرجل في الجلوس في الصلاة سواء لا يخالفها فيما بعد الإحرام إلا في اللباس والجهر
وقال الثوري تسدل المرأة رجليها من جانب واحد
ورواه عن إبراهيم النخعي
وقال الشعبي تقعد كيف تيسر لها
وقال الشافعي تجلس المرأة بأستر ما يكون لها
وقال أبو حنيفة وأصحابه تجلس المرأة كأيسر ما يكون لها
174 - وأما حديث مالك عن صدقة بن يسار عن المغيرة بن حكيم أنه رأى بن عمر يرجع في سجدتين في الصلاة على صدور قدميه فلما انصرف ذكر ذلك له فقال له إنها ليست سنة الصلاة وإنما أفعل هذا من أجل أني أشتكي
ففيه أن بن عمر قال في انصراف المصلي بين السجدتين على صدور قدميه إنها ليست سنة الصلاة والسنة إذا أطلقت فهي سنة رسول الله حتى تضاف إلى غيره كما قيل
سنة العمرين ونحو هذا
وهذا الذي يعني بن عمر أن تكون سنة الصلاة هو الإقعاء المنهي عنه عند جماعة العلماء
ومن جعل الإقعاء انصراف المصلي بين السجدتين على صدور قدميه من العلماء فليس بسنة لأن النبي - عليه السلام - نهى أن يقعي الرجل في صلاته كما يقعي الكلب
480

وقد روي عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي عن النبي - عليه السلام - قال ((لا تقعين على عقبيك في الصلاة)) (1)
وهذا غير صحيح لأن الحارث لم يسمع منه أبو إسحاق غير أربعة أحاديث وليس هذا منها وقد تكلم في الحارث الشعبي وغيره وثقه آخرون
وعن أبي هريرة أنه كره الإقعاء
وعن قتادة مثله
وكره الإقعاء في الصلاة مالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم
وبه قال أحمد وإسحاق وأبو عبيد
إلا أن أبا عبيد قال الإقعاء جلوس الرجل على أليته ناصبا فخذيه مثل إقعاء الكلب والسبع
وهذا إقعاء مجتمع عليه لا يختلف العلماء فيه وهو تفسير أهل اللغة وطائفة من أهل الفقه
قال أبو عبيد وأما أهل الحديث فإنهم يجعلون الإقعاء أن يجعل أليته على عقبيه بين السجدتين
قال أبو عمر قد ذكرنا من قال ذلك أيضا من الفقهاء
وأما الذين أجازوا رجوع المصلي على عقبيه وجلوسه على صدور قدميه بين السجدتين فجماعة
قال طاوس رأيت العبادلة يقعون بن الزبير وبن عباس وبن عمر
وكذلك روى الأعمش عن عطية العوفي قال رأيت العبادلة يقعون في الصلاة بن عباس وبن عمر وبن الزبير
قال أبو عمر أما بن عمر فقد ثبت عنه من وجوه نقلها مالك في موطئه أنه لم يفعل ذلك إلا أنه اشتكى وأن رجليه كانتا لا تحملانه وقد قال إن ذلك ليست سنة الصلاة وكفى هذا فهو يخرج في المسند
ومعلوم عند أهل السير والعلم بالأخبار أن يهود خيبر فدعوا (2) يديه ورجليه فلم
481

تعد كما كانت فكان يشتكي من أجل ذلك وكانت رجلاه لا تحملانه فكان يتربع
وقال حبيب بن أبي ثابت إن بن عمر كان يقعي بعد ما كبر
وأما بن عباس فذكر عبد الرزاق عن معمر عن بن طاوس عن أبيه أنه رأى بن عمر وبن عباس وبن الزبير يقعون بين السجدتين
وذكر أبو داود قال حدثنا يحيى بن معين قال حدثنا حجاج بن محمد عن بن جريج قال أخبرني أبو الزبير أنه سمع طاوسا يقول قلنا لابن عباس الإقعاء على القدمين في السجود قال هي السنة قال قلنا إنا لنراه جفاء بالرجل فقال بن عباس هي سنة نبيك عليه السلام
وقال إبراهيم بن ميسرة عن طاوس قال سمعت بن عباس يقول من السنة أن تمس عقبيك أليتك
فهذا بن عباس يثبت هذا المعنى سنة وهو الذي نفاه بن عمر عن السنة والمثبت أولى من النافي من جهة النظر ومن جهة الأثر أيضا لأن الحديث المسند إنما فيه أن يقعي الرجل كما يقعي الكلب والكلب إنما يقعد على أليته ورجلاه من كل ناحية
قال أبو عبيدة معمر بن المثنى هذا هو الإقعاء عند العرب
وقد ذكرنا في ((التمهيد)) حديث أنس أن النبي - عليه السلام - قال له ((يا بني إذا سجدت فأمكن كفيك وجبهتك من الأرض ولا تنقر نقر الديك ولا تقع إقعاء الكلب ولا تلتفت التفات الثعلب)) (1)
فالذي فسر به الإقعاء معمر بن المثنى أولى عندي والله أعلم
يقال أقعى الكلب ولا يقال قعد وقعوده إقعاؤه ويقال إنه ليس شيء يكون إذا قام أقصر منه إذا قعد إلا الكلب إذا أقعى فمن انصرف بين السجدتين على هذا الحال وقعد في صلاته على هذه السبيل فهو الإقعاء المنهي عنه المجتمع عليه وذلك أن يقعد على أليته وينصب رجليه من الجانبين فمن فعل هذا فقد فعل ما لا يجوز عند أحد من العلماء
ومن أوجب الإعادة على فاعل هذا لم يخرج لأن فعله طابق النهي ففسد والله أعلم
482

ومن لم ير على فاعل ذلك إعادة فلأنها هيئة عمل قد حصل معها الجلوس وهيئة العمل لا يعدم معها العمل وبالله التوفيق
((13 - باب التشهد في الصلاة))
ذكر مالك في التشهد عن عمر (1) وبن عمر (2) وعائشة (3) وليس عنده منها شيء مرفوع إلى النبي عليه السلام وإن كان غيره قد دفع ذلك
ومعلوم أنه لا يقال بالرأي ولو كان رأيا لم يكن ذلك القول من الذكر أولى من غيره من سائر الذكر والله أعلم
ولما علم مالك أن التشهد لا يكون إلا توقيفا عن النبي - عليه السلام - اختار تشهد عمر لأنه كان يعلمه للناس وهو على المنبر من غير نكير عليه من أحد من الصحابة
وكانوا متوافرين في زمان وأنه كان يعلم ذلك من لم يعلمه من التابعين وسائر من حضره من الداخلين في الدين ولم يأت عن أحد حضره من الصحابة أنه قال ليس كما وصفت
وفي تسليمهم له ذلك مع اختلاف رواياتهم عن النبي - عليه السلام في ذلك - دليل على الإباحة والتوسعة فيما جاء عنه من ذلك عليه السلام مع أنه متقارب كله
483

قريب المعنى بعضه من بعض إنما فيه كلمة زائدة في ذلك المعنى أو ناقصة
فتشهد عمر كما حكاه مالك عن بن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القارئ
175 - أنه سمع عمر بن الخطاب وهو على المنبر يعلم الناس التشهد يقول قولوا التحيات لله (1) الزاكيات لله (2) الطيبات (3) الصلوات لله (4) السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله
ويتشهد [عمر هذا قال مالك وأصحابه
ومعنى التحية الملك وقيل التحية العظمة لله
والصلوات هي الخمس والطيبات الأعمال الزكية]
وتشهد بن مسعود ثابت أيضا من جهة النقل عند جميع أهل الحديث مرفوع إلى النبي عليه السلام وهو التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله (5)
وبه قال الثوري والكوفيون وأكثر أهل الحديث وكان أحمد بن خالد بالأندلس يختاره ويميل إليه ويتشهد [به
484

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور أحب التشهد إلينا تشهد بن مسعود الذي رواه عن النبي عليه السلام وهو قول أحمد وإسحاق وداود
وأما الشافعي وأصحابه والليث بن سعد فذهبوا إلى تشهد بن عباس الذي رواه عن النبي عليه السلام
قال الشافعي هو أحب التشهد إلي
رواه الليث بن سعد عن أبي الزبير عن سعيد بن جبير وطاوس عن بن عباس قال
كان رسول الله يعلمنا التشهد كما يعلمنا القرآن فكان يقول ((التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله (1)
وروي عن أبي موسى الأشعري مرفوعا وموقوفا نحو تشهد بن مسعود
وروي عن علي أكمل من هذه الروايات كلها
وفي الموطأ عن بن عمر وعائشة ما قد علمت واختيار العلماء من ذلك ما ذكرت لك وكل حسن إن شاء الله
[والذي أقول به - وبالله التوفيق - أن الاختلاف في التشهد وفي الأذان والإقامة وعدد التكبير على الجنائز وما يقرأ ويدعى به فيها وعدد التكبير في العيدين ورفع الأيدي في ركوع الصلاة وفي التكبير على الجنائز وفي السلام من الصلاة واحدة أو اثنتين وفي وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة وسدل اليدين وفي القنوت وتركه وما كان مثل هذا كله - اختلاف في مباح كالوضوء واحدة واثنتين وثلاثا إلا أن فقهاء الحجاز والعراق الذين تدور عليهم وعلى أتباعهم الفتوى - يتشددون في الزيادة على أربع تكبيرات على الجنائز ويأبون من ذلك
وهذا لا وجه له لأن السلف كبر سبعا وثمانيا وستا وخمسا وأربعا وثلاثا
وقال بن مسعود كبر ما كبر إمامك وبه قال أحمد بن حنبل
وهم أيضا يقولون إن الثلاث في الوضوء أفضل من الواحدة السابغة
وكل ما وصفت لك قد نقلته الكافة من الخلف عن السلف ونقله التابعون
485

بإحسان عن السابقين نقلا لا يدخله غلط ولا نسيان لأنها أشياء ظاهرة معمول بها في بلدان الإسلام زمنا بعد زمن [لا يختلف] في ذلك علماؤهم وعوامهم من عهد نبيهم صلى الله عليه وسلم وهلم جرا فدل على أنه مباح كله [إباحة] توسعة ورحمة والحمد لله
واختلف الفقهاء في وجوب التشهد وفي حكم صلاة من لم يتشهد
فقال مالك من نسي التشهد رجع إليه فعمله إن كان قريبا ولم يتباعد ولم ينتقض وضوءه ثم سجد لسهوه بعد السلام وإن تباعد أو انتقض وضوءه فأرجو أن تجزيه صلاته
قال وليس كل أحد يعرف التشهد فإذا ذكر الله أجزأ عنه
ورواه بن وهب وغيره عن مالك
وقال الأوزاعي من نسي التشهد سجد للسهو أربع سجدات لأن مذهبه أن لكل سهو سجدتين
وقال الثوري لا يسجد إلا سجدتين في السهو عن التشهدين وكذلك من سها مرارا
وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة في سجدتي السهو أنهما للسهو كله
وقال أبو حنيفة وأصحابه إن قعد مقدار التشهد [ولم يتشهد تمت صلاته وإن لم يقعد مقدار التشهد] فسدت صلاته
وقال الشافعي من ترك التشهد الآخر ساهيا أو عامدا فعليه إعادة الصلاة إلا أن يكون الساهي قريبا فيعود إلى تمام صلاته ويتشهد ويصلي على النبي - عليه السلام - في آخر صلاته عن التشهد قبله ولا يغني عنه ما كان قبله من التشهد
قال أبو عمر لا أعلم أحدا أوجب الصلاة على النبي - عليه السلام - فرضا في التشهد الآخر إلا الشافعي ومن سلك سبيله وسنذكر ذلك في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله
وقال أبو ثور من لم يتشهد في الركعة الثانية والرابعة فلا صلاة له إن كان ترك ذلك عامدا وإن كان ساهيا فترك تشهد الركعة الثانية سجد سجدتي السهو قبل التسليم وإن كان في الرابعة استقبل القبلة وتشهد وسلم وسجد سجدتي السهو بعد التسليم
وقال أبو مصعب الزهري من ترك التشهد بطلت صلاته وروى ذلك أبو مصعب عن أهل المدينة منهم مالك وغيره
وروي عن جماعة من السلف المتقدمين منهم علي وطائفة من التابعين من رفع
486

رأسه من آخر سجده في الركعة الرابعة فقد تمت صلاته
وقال أحمد بن حنبل إن ترك الجلوس والتشهد في الرابعة بطلت صلاته
وقال الزهري وقتادة وحماد صلاته تامة
والحجة لمالك ومن رأى أن سجود السهو ينوب عن التشهد لمن سها عنه - حديث بن بحينة (1) في القيام من اثنتين والسجود في ذلك فإذا ناب له السجود عن الجلسة الوسطى والتشهد فأحرى أن ينوب له عن التشهد إذا جلس ولم يتشهد ساهيا عنه
ومعلوم أن الفرض في الصلاة لا ينوب عنه سجود السهو دون الإتيان به
وقد أجمعوا أن من ترك الجلسة الوسطى عامدا أن صلاته فاسدة وعليه الإعادة
ومن أفسد الصلاة بترك التشهد الآخر فإنه جعله من البيان لمجملات الصلاة التي هي فروض كلها في عمل البدن إلا الجلسة الوسطى فإنها مخصوصة بالسنة لحديث بن بحينة (2) والمغيرة بن شعبة (3)
وللكلام في هذه المسألة لكل فرقة موضع غير هذا وقد أتينا منه في ((التمهيد)) بما فيه كفاية والحمد لله
وقد روي عن عمر أنه قال من لم يتشهد فلا صلاة له وقال نافع مولى بن عمر من لم يتكلم بالتحية فلا صلاة له
487

ومن حجة الشافعي أيضا ومن وافقه ما رواه سفيان بن عيينة عن الأعمش ومنصور عن أبي وائل عن بن مسعود قال كنا نقول قبل أن يفرض التشهد السلام على الله السلام على جبريل فذكر حديث التشهد
قال أبو عمر لم يقل أحد في حديث بن مسعود هذا بهذا الإسناد ولا بغيره قبل أن يفرض التشهد والله أعلم
حدثنا عبد الله حدثنا حمزة حدثنا أحمد بن شعيب قال حدثنا سعيد بن عبد الرحمن بن عبد الله المخزومي قال حدثنا سفيان فذكره
وحجة أبي حنيفة أيضا أن الذكر كله في الصلاة فيما عدا [القراءة في الأوليين - سنة واستحباب عنده وعمل البدن فيها فرض فإذا قعد مقدار التشهد فيها فقد أتى بالفرض فيها وسجد للسهو لسقوط] الفريضة فيها وسجد للسهو لسقوط التشهد
وإخفاء التشهد سنة عند جميعهم والإعلان به جهل وبدعة
176 - وأما ما حكاه عن بن شهاب ونافع فيمن دخل مع الإمام وقد سبقه بركعة أنه يتشهد معه في الركعتين والأربع وإن كان ذلك له وترا
قال مالك وهو الأمر عندنا ولا أعلم في ذلك خلافا وكل من حفظت قوله لا يوجبون عليه التشهد آخر صلاته في الركعة التي يقضيها أو فيما يقضي على حسب ما ذكرنا من أصولهم في إيجاب فرضا وإيجابه سنة
قال أبو عمر هذا موضع ذكر السلام لأنه لا باب له في الموطأ ولا أورد فيه مالك أثرا مرفوعا
وقد اختلف العلماء قديما وحديثا في كيفية السلام من الصلاة هل هو واحدة أو اثنتان واختلفت الآثار في ذلك أيضا واختلف الفقهاء أئمة الفتوى هل السلام من فروض الصلاة أو من سننها
ونحن نذكر ها هنا ما بلغنا عنهم في ذلك مختصرا موعبا بفضل الله وعونه لا شريك له
قال مالك وأصحابه والليث بن سعد يسلم المصلي من صلاته نافلة كانت أو فريضة تسليمة واحدة السلام عليكم ولا يقول ورحمة الله
488

قال بن وهب عن مالك يسلم تلقاء وجهه السلام عليكم
قال أشهب عن مالك إنه سئل عن تسليم المصلي وحده فقال يسلم واحدة عن يمينه فقيل وعن يساره فقال ما كانوا يسلمون إلا واحدة [قال وإنما حدثت التسليمتان] في زمن بني هاشم
قال مالك والمأموم يسلم تسليمة عن يمينه وأخرى عن يساره ثم يرد على الإمام
وقال بن القاسم عن مالك من صلى لنفسه سلم عن يمينه وعن يساره
قال وأما الإمام فيسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه ويتيامن بها قليلا
قال أبو عمر فتحصيل رواية بن القاسم هذه عن مالك في ذلك إن الإمام يسلم واحدة تلقاء وجهه ويتيامن بها قليلا وأن المصلي لنفسه يسلم اثنتين
و [في غير رواية بن القاسم أن] المأموم يسلم ثلاثة إن كان عن يساره أحد
واختلف قوله في موضع رد المأموم على الإمام
فمرة قال [يسلم عن يمينه وعن يساره ثم يرد على الإمام
ومرة قال يرد على الإمام بعد أن يسلم عن يمينه ثم يسلم عن يساره
وقد روى] أهل المدينة عن مالك وبعض المصريين أن الإمام والمنفرد سواء يسلم كل واحد منهما تسليمة واحدة تلقاء وجهه ويتيامن بها قليلا
ولم يختلف قول مالك أن المسبوق لا يقوم إلى القضاء حتى يفرغ الإمام من التسليمتين إذا كان ممن يسلم التسليمتين
وأما الليث بن سعد فقال أدركت الأئمة والناس يسلمون تسليمة واحدة السلام عليكم
وكان الليث يبدأ بالرد على الأمام ثم يسلم عن يمينه وعن يساره
وقال الليث في المسبوق ببعض الصلاة لا أرى بأسا أن يقوم بعد التسليمة الأولى
قال أبو عمر روي أن النبي - عليه السلام - كان يسلم تسليمة واحدة من حديث سعد بن أبي وقاص ومن حديث عائشة ومن حديث أنس إلا أنها معلولة لا يصححها أهل العلم بالحديث لأن حديث سعد أخطأ فيه الدراوردي فرواه على غير ما رواه الناس تسليمة واحدة وغيره يروي فيه تسليمتين
وهو حديث رواه الدراوردي عبد العزيز بن محمد عن مصعب بن ثابت عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن
489

أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسلم في الصلاة تسليمة واحدة (1)
وهذا وهم عندهم وغلط وإنما الحديث كما رواه بن المبارك وغيره عن مصعب بن ثابت عن إسماعيل بن محمد بن سعد عن عامر بن سعد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسلم عن يمينه ويساره (2)
وقد روي هذا الحديث عن سعد من غير طريق مصعب بن ثابت حدثنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا جعفر بن محمد الصايغ قال حدثنا سليمان بن داود الهاشمي قال حدثنا إبراهيم بن سعد قال حدثنا عبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة الزهري عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسلم عن يمينه ويساره السلام عليكم ورحمة الله (3)
وحدثنا سعيد بن نصر حدثنا قاسم حدثنا بن وضاح حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا محمد بن بشير العبدي حدثنا محمد بن عمرو عن مصعب بن ثابت عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن سعد قال كان رسول الله يسلم عن يمينه وعن يساره حتى يرى بياض خده وكل هؤلاء قد اتفقوا على خلاف لفظ الدراوردي في هذا الحديث
وذكر الحسن بن علي الحلواني قال حدثنا يحيى بن آدم قال حدثنا بن المبارك عن مصعب بن ثابت عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن عامر بن سعد عن أبيه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه وعن شماله كأني أنظر إلى صفحة خده (4)
فقال الزهري ما سمعنا هذا من حديث رسول الله
فقال له إسماعيل بن محمد أكل حديث رسول الله قد سمعته
قال لا
490

قال فنصفه
قال لا
قال فاجعل هذا في النصف الذي لم تسمع
وأما حديث عائشة عن النبي - عليه السلام - ((أنه كان يسلم تسليمة واحدة)) (1) فلم يرفعه أحد إلا زهير بن محمد وحده عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبي - عليه السلام - ورواه عنه عمرو بن أبي سلمة وغيره
وزهير بن محمد ضعيف عند الجميع كثير الخطأ لا يحتج به
وذكر يحيى بن معين هذا الحديث فقال عمرو بن أبي سلمة وزهير بن محمد ضعيفان لا حجة فيهما
وأما حديث أنس فلم يأت إلا من طريق أيوب السختياني عن أنس ولم يسمع أيوب من أنس عندهم شيئا
قال أبو عمر قد روي من مرسل الحسين أن النبي - عليه السلام - وأبا بكر وعمر كانوا يسلمون تسليمة واحدة ذكره وكيع عن الربيع عن الحسن
وروي عن عثمان وعلي وبن عمر وبن أبي أوفى وأنس وأبي وائل شقيق بن سلمة ويحيى بن وثاب وعمر بن عبد العزيز والحسن وبن سيرين وأبي العالية وأبي رجاء
وسويد بن غفلة وقيس بن أبي حازم وبن أبي ليلى وسعيد بن جبير أنهم كانوا يسلمون تسليمة واحدة
وقد اختلف عن أكثرهم فروي عنهما التسليمتان كما رويت الواحدة
والعمل المشهور بالمدينة التسليمة الواحدة وهو عمل قد توارثه أهل المدينة كابرا عن كابر ومثله يصح فيه الاحتجاج بالعمل في كل بلد لأنه لا يخفى لوقوعه في كل يوم مرارا
وكذلك العمل بالكوفة وغيرها مستفيض عندهم بالتسليمتين متوارث عندهم أيضا
وكل ما جرى هذا المجرى فهو اختلاف في المباح [كالأذان]
ولذلك لا يروى عن عالم بالحجاز ولا بالعراق ولا بالشام ولا بمصر إنكار [التسليمة الواحدة ولا إنكار] التسليمتين بل ذلك عندهم معروف وإن كان اختيار بعضهم فيه التسليمة الواحدة وبعضهم التسليمتين على حسب ما غلب على البلد من
491

عمل أهله إلا أن الأعم والأكثر بالمدينة التسليمة الواحدة والأكثر والأشهر بالعراق التسليمتان السلام عليكم ورحمة الله على اليمين السلام عليكم ورحمة الله على اليسار
وقال الثوري إذا كنت إماما فسلم عن يمينك وعن يسارك السلام عليكم ورحمة الله وإذا كنت غير إمام فإذا سلم الإمام فسلم عن يمينك وعن يسارك تنوي به الإمام والملائكة ومن معك من المسلمين
وقال الشافعي نأمر كل مصل أن يسلم عن يمينه وعن يساره إماما كان أو منفردا أو مأموما ويقول في كل واحدة منهما السلام عليكم ورحمة الله وينوي بالأولى من عن يمينه وبالثانية من عن يساره وينوي الإمام بالتسليمة التي إلى ناحيته في اليمين أو في اليسار
قال ولو لم ينو المصلي بسلامه أحدا ونوى الخروج من الصلاة أجزأه ولا شيء عليه
قال ولو اقتصر على التسليمة الواحدة لم تكن عليه إعادة
وقال أبو حنيفة وأصحابه يسلم الإمام والمأموم والمنفرد تسليمتين عن يمينه ثم عن يساره ويقول لكل واحد منهما السلام عليكم ورحمة الله
وقال أبو حنيفة وأصحابه يسلم الإمام والمأموم والمنفرد تسليمتين عن يمينه ثم عن يساره ويقول لكل واحد منهما السلام عليكم ورحمة الله
وهو قول الثوري والأوزاعي والشافعي والحسن بن الصالح بن حي وأحمد بن حنبل وأبي ثور وأبي عبيد وداود والطبري
إلا أن أصحاب الظاهر اختلفوا في وجوبها هل تجب التسليمتان جميعا أو الواحدة منهما على ظاهر قوله ((تحليلها التسليم)) (1)
وقال الكوفيون أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي السلام ليس بفرض
قالوا ويخرج من الصلاة بما شاء من الكلام وغيره
وهو قول النخعي
وقال مالك والليث والحسن بن صالح بن حي والشافعي السلام فرض وتركه يفسد الصلاة
إلا أن الحسن بن حي أوجب التسليمتين معا
492

وقال أبو جعفر الطحاوي لم يجد عند أحد من أهل العلم الذين ذهبوا إلى التسليمتين أن الثانية من فرائضها غيره
قال أبو عمر من حجة الحسن بن صالح في إيجابه التسليمتين جميعا وقوله إن من أحدث بعد الأولى وقبل الثانية فسدت صلاته - قوله عليه السلام ((تحليلها التسليم)) ثم بين كيف التسليم
من حجة من أوجب التسليمة الواحدة دون الثانية وقال يخرج بالأولى من صلاته وجعل الثانية سنة قوله عليه السلام ((تحليلها التسليم)) (1) قالوا والواحدة يقع عليها اسم تسليم
وممن احتج بهذا الشافعي وطائفة من أهل الظاهر
قال أبو عمر روي عن النبي - عليه السلام - أنه كان يسلم تسليمتين (2) من وجوه كثيرة
منها حديث بن مسعود وهو أكثرها تواترا
ومنها حديث وائل بن حجر
وحديث عمار
وحديث البراء بن عازب
وحديث بن عمر
وحديث سعد وقد تقدم ذكره
فأما حديث بن مسعود فرواه علقمة والأسود وأبو الأحوص وزر بن حبيش ذكرها كلها أبو بكر بن أبي شيبة وعبد الرزاق وغيرهما
حدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث قالا حدثنا قاسم قال حدثنا جعفر بن محمد بن شاكر بن الصايغ قال حدثنا محمد بن سابق قال حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد
الرحمن بن الأسود عن أبيه وعلقمة عن عبد الله قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في كل ركوع وسجود ورفع ووضع وأبو بكر وعمر وعثمان يسلمون عن أيمانهم وعن شمائلهم السلام عليكم ورحمة الله
وهكذا رواه زهير عن أبي إسحاق وحديث البراء رواه وكيع عن حريث عن الشعبي عن البراء
493

وحديث وائل بن حجر رواه شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن عبد الرحمن بن اليحصبي عن وائل بن حجر ورواه سلمة بن كهيل عن حجر بن عنبس عن وائل بن حجر
وحديث عمار رواه أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن صلة بن زفر عن عمار
وحديث بن عمر رواه عمرو بن يحيى المازني عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان قال قلت لابن عمر حدثني عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كانت فذكر التكبير كلما رفع رأسه وكلما وضعه وذكر السلام عليكم ورحمة الله عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله عن يساره
رواه بن جريج وسليمان بن بلال وعبد العزيز بن محمد الدراوردي كلهم عن عمرو بن يحيى المازني وهو إسناد مدني صحيح
وكذلك حديث سعد أيضا وقد تقدم
وسائر أسانيد هذه الآثار مذكورة في غير هذا الموضع
قال أبو عمر ورويت التسليمتان عن علي وبن مسعود من وجوه صحاح ذكرها أبو بكر بن أبي شيبة وغيره وعن علقمة بن أبي قيس وخيثمة بن عبد الرحمن وأبى وائل وشقيق بن سلمة وإبراهيم النخعي وأبي عبد الرحمن السلمي ومسروق بن الأجدع وعبد الرحمن بن أبي ليلى وعمرو بن ميمون وعطاء وغيرهم
وذكر أبو بكر قال حدثني يزيد بن هارون عن أشعث عن الشعبي أن عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص كانا يسلمان تسليمتين والقول في ذلك على ما تقدم ذكره من الإباحة
((14 - باب ما يفعل من رفع رأسه قبل الإمام))
177 - مالك عن محمد بن عمرو بن علقمة عن مليح بن عبد الله السعدي عن أبي هريرة أنه قال الذي يرفع رأسه ويخفضه قبل الإمام فإنما ناصيته بيد شيطان
494

هكذا هو في ((الموطأ)) عند جماعة رواته - فيما علمت - موقوفا على أبي هريرة ولم يرفعه
وروى شعبة وحماد بن زيد عن محمد بن زياد عن أبي هريرة عن النبي - عليه السلام - قال ((أما يخشى الذي يرفع رأسه ويخفضه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار)) (1)
فهذا وعيد شديد لمن فعل هذا الفعل من النبي صلى الله عليه وسلم لمن صحبه ولسائر أمته إذا كان فعله ذلك عامدا غير ساه
وقال مالك السنة فيمن سها ففعل ذلك في ركوعه وسجوده أن يرجع راكعا أو ساجدا ولا ينتظر الإمام وذلك ممن فعله خطبا لأن النبي - عليه السلام - قال ((إنما جعل الإمام ليوتم به فلا تختلفوا عليه)) (2)
وقال أبو هريرة [الذي يرفع رأسه ويخفضه قبل الإمام] فإنما ناصيته بيد شيطان (3)
قال أبو عمر ظاهر قول مالك هذا لا يوجب الإعادة على من فعله عامدا لقوله وذلك خطأ ممن فعله لأن الساهي الإثم عنه موضوع
وللعلماء فيمن تعمد ذلك قولان
495

أحدهما أن صلاته فاسدة إن فعل ذلك فيها كلها أو في أكثرها عامدا
وهو قول أهل الظاهر لأنه فعل فعلا طابق النهي ففسد مع قوله - عليه السلام - ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)) (1) يعني مردودا
ومن تعمد خلاف إمامه عالما بأنه مأمور باتباعه منهي عن مخالفته لقوله - عليه السلام - ((إذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا فإن الإمام يركع قبلكم قبلكم يرفع قبلكم)) (2) وقوله ((إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه)) (3) - فقد استخف بصلاته وخالف ما أمر به فواجب ألا تجزئ عنه صلاته تلك
وذكر سنيد قال قال بن علية عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي الورد الأنصاري قال صليت إلى جنب بن عمر فجعلت أرفع قبل الإمام وأضع قبله فلما سلم الإمام أخذ بن عمر بيدي فلواني وجذبني فقلت ما لك قال من أنت قلت فلان بن فلان قال أنت من أهل بيت صدق فما منعك أن تصلي قلت أو ما رأيتني إلى جنبك قال قد رأيتك ترفع قبل الإمام وتضع قبله وإنه لا صلاة لمن خالف الإمام
وقال الحسن بن حي لا ينبغي لأحد صلى مع الإمام أن يسبق الإمام في ركوع ولا سجود فإن فعل فأدركه الإمام راكعا أو ساجدا ثم رفع الإمام ورفع برفعه من الركوع والسجود ووافقه في ذلك أجزأه وإن ركع أو سجد قبل الإمام ثم رفع من ركوعه أو سجوده [قبل أن يركع الإمام أو يسجد] لم يعتد بذلك ولم يجزه
وقال أكثر الفقهاء من فعل ذلك فقد أساء ولم تفسد صلاته لأن الأصل في صلاة الجماعة والائتمام فيها سنة حسنة فمن خالفها بعد أن أدى فرض صلاته بطهارتها وركوعها وسجودها وفرائضها فليس عليه إعادتها وإن أسقط بعض سننها لأنه لو شاء أن ينفرد قبل إمامه تلك الصلاة أجزأت عنه وبئس ما فعل في تركه الجماعة
قالوا ومن دخل في صلاة الإمام فركع بركوعه وسجد بسجوده ولم يركع في
496

ركعة وإمامه في أخرى فقد اقتدى به وإن كان يرفع قبله ويخفض قبله لأنه يركع بركوعه ويسجد بسجوده ويرفع برفعه وهو في ذلك متبع له إلا أنه مسيء في ذلك بخلاف
سنة المأموم المجتمع عليها
((15 - باب ما يفعل من سلم من ركعتين ساهيا))
178 - 179 - ذكر فيه مالك حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين مسندا من طريقين عن أيوب عن بن سيرين عن أبي هريرة وعن داود بن الحصين عن أبي سفيان مولى بن أبي أحمد عن أبي هريرة وفيهما جميعا قوله - عليه وسلم - ((أصدق ذو اليدين))
180 - 181 - وذكر الحديث عن بن شهاب بإسنادين مرسلين وقال فيه
497

فقال ذو الشمالين مرتين وفيه فقال ((أصدق ذو اليدين)) أيضا
وليس يأتي ذكر ذي الشمالين في هذا الحديث إلا عن بن شهاب ولم يتابع عليه والله أعلم
وسائر الآثار إنما فيها ذو اليدين ليس فيها ذو الشمالين
قال بن وضاح قد قيل إن ذا اليدين استشهد يوم [بدر وإسلام أبي هريرة كان يوم] خيبر
قال أبو عمر هو كما قال بن وضاح إلا أن الذي استشهد يوم بدر ذو الشمالين لا ذو اليدين
ونحن نبين ما في ذلك من معاني العلم هنا إن شاء الله
أجمع المسلمون أن الكلام في الصلاة عمدا إذا كان المصلي يعلم أنه في صلاة ولم يكن ذلك في إصلاح صلاته تفسد صلاته إلا الأوزاعي فإنه قال من تكلم في صلاته لإحياء نفس أو مثل ذلك من الأمور الجسام - لم تفسد بذلك صلاته ومضى عليها
وذكر الوليد بن مزيد وغيره عنه قال لو نظر المصلي إلى غلام يريد أن يسقط في بئر أو مكان فصاح به لم يكن عليه بأس أن يتم صلاته
قال وكذلك لو رأى ذئبا يثب على غنمه فصاح به أتم ما بقي من صلاته
قال أبو عمر لم يتابعه أحد على قوله هذا وهو قول ضعيف ترده السنن والأصول قال الله تعالى * (وقوموا لله قانتين) * [البقرة 238]
قال زيد بن أرقم كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت * (وقوموا لله قانتين) * فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام
498

وقال بن مسعود سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ((إن الله يحدث من أمره ما شاء وإن مما أحدث إلا تكلموا في الصلاة)) (1)
وقال معاوية بن الحكم السلمي سمعت رسول الله يقول ((إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام إنما هو التسبيح والتهليل والتحميد وقراءة القرآن)) (2)
وقد ذكرنا أسانيد هذه الأحاديث في التمهيد
وأجمعوا على أن تحريم الكلام في الصلاة جملة إلا ما نذكره بعد عنهم إن شاء الله
وليس قول الأوزاعي بشيء لأن إغاثة الملهوف وما أشبهه ليس تمنع من استئناف الصلاة ولا يوجب البناء على ما مضى منها إذ ذلك الفعل مباين لها مفسد قاطع فإنه يطابق النهي
وفي موافقة الأوزاعي للجماعة فيمن تكلم عامدا في صلاته بغير ما ذكر أنها قد فسدت عليه ويلزمه استئنافها - ما يدل على فساد قوله لأن النهي عن كلام الناس فيها عام فما لم يخرج منه بالدليل الواضح فهو على أصل التحريم وبالله التوفيق
وأما اختلاف فقهاء الأمصار في الذي يتكلم وقد سلم من صلاته قبل أن يتمها وهو يظن أنه قد أتمها فإن مالكا وأصحابه اختلفوا في ذلك
فروى سحنون عن بن القاسم عن مالك قال لو أن قوما صلى بهم رجل ركعتين وسلم ساهيا فسبحوا به فلم يفقه فقال له رجل من خلفه ممن هو معه في الصلاة إنك لم تتم فأتم صلاتك فالتفت إلى القوم فقال أحق ما يقول هذا فقالوا نعم - قال يصلى بهم الإمام ما بقي من صلاتهم ويصلون معه بقية صلاتهم من تكلم منهم ومن لم يتكلم ولا شيء عليهم ويفعلون في ذلك ما فعل النبي - عليه السلام - يوم ذي اليدين
هذا قول بن القاسم في كتبه ((الأسدية)) وروايته عن مالك وهو المشهور من
499

مذهب مالك عند أكثر أصحابه وبه قال إسماعيل بن إسحاق واحتج له في كتاب رده على محمد بن الحسن
وكذلك روى عيسى عن بن القاسم قال عيسى سألت بن القاسم عن إمام فعل اليوم كفعل النبي يوم ذي اليدين وتكلم أصحابه على نحو ما تكلم أصحاب النبي - عليه السلام - يوم ذي اليدين فقال بن القاسم يفعل كما فعل النبي - عليه السلام - يوم ذي اليدين ولا يخالفه في شيء من ذلك لأنها سنة سنها عليه السلام
زاد العتبي في هذه عن عيسى عن بن القاسم قال وليرجع الإمام فيما شك فيه إليهم ويتم معهم وتجزيهم
قال عيسى قال بن القاسم لو أن إماما قام من أربع أو جلس في ثالثة فسبح به فلم يفقه فكلمه رجل ممن خلفه كان محسنا وأجزته صلاته
قال عيسى وقال بن كنانة لا يجوز لأحد اليوم ما جاز لمن كان يومئذ مع النبي - عليه السلام - لأن ذا اليدين ظن أن الصلاة قد قصرت فاستفهم عن ذلك وقد علم الناس اليوم أن قصرها لا ينزل فعلى من تكلم الإعادة
قال عيسى فقرأته علي بن القاسم فقال ما أرى في هذا حجة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ذلك لم يكن فقالوا له بلى فقد كلموه عمدا بعد علمهم أنها لم تقصر
قال عيسى وقال لي بن وهب إنما ذلك كان في أول الإسلام ولا أرى لأحد أن يفعله اليوم
قال أبو عمر أما كلام القوم للنبي - عليه السلام - بعد أن سمعوه يقول ((لم تقصر الصلاة ولم أنس)) فمختلف فيه ولا حجة لمن نزع به لأن حماد بن زيد - هو أثبت الناس في أيوب - روي حديث ذي اليدين عن أيوب عن بن سيرين عن أبي هريرة قال فيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أحق ما يقول ذو اليدين)) فأومؤوا أي نعم فبان بهذا أنهم لم يتكلموا بعد أن سمعوا النبي - عليه السلام - يقول ((لم تقصر الصلاة ولم أنس)) ولكنهم أومؤوا أي نعم فعبر المحدث عن الإيمان بالقول
والعرب قد تفعل ذلك فيما لا يصح منه القول فالإيماء بذلك أحرى ممن يصح قوله إذا منع من الكلام وتحريم الكلام في الصلاة مجتمع عليه فلا يباح برواية مختلف فيها
وقال يحيى بن يحيى عن بن نافع لا أحب لأحد أن يفعل مثل ذلك اليوم فإن فعل لم آمره أن يستأنف
500

وروى أبو قرة موسى بن طارق عن مالك مثل قول بن نافع خلاف رواية بن القاسم
قال أبو قرة سمعت مالكا يستحب إذا تكلم الرجل في الصلاة أن يعود لها ولا يبني
قال وقال لنا مالك إنما تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكلم أصحابه معه يومئذ لأنهم ظنوا أن الصلاة قد قصرت ولا يجوز ذلك لأحد اليوم
وروى أشهب عن مالك أنه قيل له أبلغك أن ربيعة بن عبد الرحمن صلى خلف إمام فأطال التشهد فخاف ربيعة أن يسلم - وكان على الإمام سجود السهو قبل السلام - فكلمه ربيعة فقال إنهما قبل السلام فقال ما بلغني ولو بلغني ما تكلمت به أنتكلم في الصلاة
وقد ذكرنا في التمهيد وجوه الروايات عن مالك وأصحابه في هذا الباب
وروى بن وضاح عن الحارث بن مسكين قال أصحاب مالك كلهم على خلاف ما رواه بن القاسم عن مالك في مسألة ذي اليدين ولم يقل بقوله إلا بن القاسم وحده وغيره يأبونه ويقولون إنما كان ذلك في أول الإسلام وأما الآن فقد عرف الناس الصلاة فمن تكلم فيها أعادها
وأما الشافعي فقال في حديث ذي اليدين لا يشك مسلم أن النبي - عليه السلام - لم ينصرف إلا وهو يرى أنه قد أكمل الصلاة وظن ذو اليدين أن الصلاة قد قصرت بحادث من الله ولم يقبل رسول الله من ذي اليدين إذ سأل غيره ولما سأل غيره احتمل أن يكون سأل من لم يسمع كلام ذي اليدين فيكون في معنى ذي اليدين واحتمل أن يكون سأل من سمع كلامه ولم يسمع النبي - عليه السلام - رده عليه كان في معنى ذي اليدين من أنه لم يدر أقصرت الصلاة أم نسي فأجابه ومعناه معنى ذي اليدين مع أن الفرض عليهم جوابه
ألا ترى أن النبي - عليه السلام - لما أخبروه فقبل قولهم - لم يتكلم ولم يتكلموا حتى بنوا على صلاتهم قال فلما قبض رسول الله - عليه السلام - تناهت الفرائض فلا يزاد فيها ولا ينقص منها أبدا
قال فهذا فرق ما بيننا وبينه إذا كان أحدنا إماما اليوم
قال أبو عمر أما قول الشافعي مع أن الفرض عليهم جوابه فموجود في حديث أبي سعيد بن المعلى قال كنت أصلي فناداني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه حتى قضيت صلاتي فأتيته فقال ((ما منعك أن تجيبني)) قلت كنت أصلي قال ألم يقل الله * (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم) *
501

وهو حديث يرويه شعبة عن حبيب بن عبد الرحمن عن حفص عن عاصم عن أبي سعيد بن المعلى وهو محفوظ من حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة لأبي بن كعب
وقد تقدم فيما مضى من هذا الكتاب وفيه أن مجاوبة النبي - عليه السلام - واجبة على العموم في الصلاة وغيرها
وفي ذلك دليل على أن ذا اليدين وأصحابه مخصوصون بذلك ما كان - عليه السلام - حيا فيهم وقد يحتمل أن تكون إجابته في الصلاة إشارة كما كان - عليه السلام - يضع في الصلاة وهو في مسجد قباء بالأنصار إذ دخلوا فسلموا عليه وهو يصلي فكان يشير
قال أبو عمر الخلاف بين مالك والشافعي في هذه المسألة إنما هو أن مالكا يقول في رواية بن القاسم عنه لا يفسد الصلاة تعمد الكلام فيها إذا كان ذلك في صلاحها وشانها
وهو قول ربيعة وبن القاسم وإليه ذهب إسماعيل بن إسحاق
وقال الشافعي وأصحابه وسائر أصحاب مالك إن المصلي إذا تعمد الكلام وهو في الصلاة عالما أنه لم يتمها فقد أفسد صلاته فإن تكلم ساهيا أو تكلم وهو يظن أنه قد أكمل صلاته وأنه ليس في صلاة عند نفسه فهذا يبني ولا يفسد عليه كلامه ذلك صلاته
وقال أحمد بن حنبل فيما حكى عنه أبو بكر الأثرم ما تكلم به الإنسان في صلاته لإصلاحها لا يفسد عليه صلاته وإن تكلم لغير ذلك فسدت عليه صلاته
وقال في موضع آخر سمعت أحمد بن حنبل يقول في قصة ذي اليدين إنما تكلم ذو اليدين وهو يرى أن الصلاة قد قصرت وتكلم النبي - عليه السلام - وهو دافع لقول ذي اليدين وكلم القوم فأجابوه لأنه كان عليهم أن يجيبوه
قال أبو عمر وهذا نحو ما قاله الشافعي في ذلك
وذكر الخرقي أن مذهب أحمد بن حنبل الذي تحصل عليه - قوله فيمن تكلم عامدا أو ساهيا في صلاته بطلت صلاته إلا الإمام خاصة فإنه إذا تكلم ليصلح صلاته لم تبطل صلاته
وقد ذكرنا مذهب الأوزاعي فيما مضى وقال الأوزاعي أيضا لو أن رجلا قال لإمام جهر بالقراءة في العصر إنها العصر لم يكن عليه شيء
502

قال أبو عمر لو كان هذا ما احتاج أحد إلى التسبيح في الصلاة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من نابه شيء في صلاته فليسبح)) (1)
وقال عليه السلام ((إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح وتلاوة القرآن)) (2)
وكلام الأوزاعي في هذا الباب عند الفقهاء وهم وخطأ ليس بصواب
وقد أجمع العلماء على أن السلام في الصلاة قبل تمامها عمدا يفسدها فالكلام بذلك أحرى والله أعلم
وأما الكوفيون أبو حنيفة وأصحابه والثوري فذهبوا إلى أن الكلام في الصلاة على كل حال سهوا كان أو عمدا لصلاح كان أو لغير ذلك يفسد الصلاة واختلف أصحاب أبي حنيفة في السلام فيها ساهيا قبل تمامها
فبعضهم أفسد صلاة المسلم فيها ساهيا وجعله كالمتكلم عامدا
وبعضهم لم يفسدها بالسلام ساهيا
وكلهم يفسدها بالكلام عامدا وهو قول إبراهيم النخعي وعطاء والحسن وحماد بن أبي سليمان وقتادة
وزعم أصحاب أبي حنيفة أن حديث ذي اليدين منسوخ بحديث زيد بن أرقم وبن مسعود الذي ذكرنا
قالوا وفي حديث زيد بن أرقم وبن مسعود بيان أن الكلام كان مباحا في الصلاة ثم نسخ
503

قالوا فحديث أبي هريرة منسوخ في قصة ذي اليدين بما جاء في حديث بن مسعود وزيد بن أرقم
قالوا وإن كان أبو هريرة متأخر الإسلام فإنه أرسل حديث ذي اليدين عن النبي - عليه السلام - كما كان يفعله هو وغيره من الصحابة بما سمعه بعضهم من بعض
لأنه جائز للصاحب إذا حدثه صاحب من الصحابة بما سمعه من رسول الله - أن يحدث به عن رسول الله إذا لم يقل سمعت
واحتجوا بأن بن عباس ومن كان مثله قد حدثوا عن رسول الله بما أخبروا عن أصحابه عنه وهو عند الجميع مسند صحيح
ألا ترى إلى حديث أبي هريرة عن النبي - عليه السلام - فيمن أدركه الفجر وهو جنب ((إنه لا صوم له)) فلما وقف عليه سئل هل سمعته من رسول الله قال لا علم لي إنما أخبرنيه مخبر
وقال أنس ما كل ما نحدثكم به عن رسول الله سمعناه منه ولكن منه ما سمعنا ومنه ما أخبرنا أصحابنا
وكل حديث الصحابة مقبول عند جماعة العلماء على كل حال
قالوا فغير نكير أن يحدث أبو هريرة بقصة ذي اليدين وإن لم يشهدها قالوا ومما يدل على أن حديث أبي هريرة في ذلك منسوخ أن ذا اليدين قتل يوم بدر
واحتجوا بما رواه بن وهب عن العمري عن نافع عن بن عمر أن إسلام أبي هريرة كان بعد موت ذي اليدين
قالوا وهذا الزهري مع علمه بالأثر والسير وهو الذي لا نظير له بالأثر في ذلك يقول إن قصة ذي اليدين كانت قبل بدر حكاه معمر وغيره عن الزهري
قال الزهري ثم استحكمت الأمور بعد
قال أبو عمر أما ما ادعاه العراقيون من أن حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين منسوخ بحديث بن مسعود وزيد بن أرقم فغير مسلم لهم ما ادعوا من نسخه ولكنه خص من تحريم الكلام معنى ما تضمنه لأن حديث أبي هريرة يوم ذي اليدين كان في المدينة وقد شهده أبو هريرة وإسلامه كان عام خيبر هذا مما لا خلاف بين العلماء فيه
فإن قيل كيف يصح الاحتجاج بحديث بن مسعود في تحريم الكلام في الصلاة بمكة وزيد بن أرقم رجل من الأنصار يقول كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل منا
504

صاحبه في الحاجة حتى نزلت * (وقوموا لله قانتين) * [البقرة 238] فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام ومعلوم أن سورة البقرة مدينة
فالجواب أن بن مسعود ممن هاجر من مكة إلى أرض الحبشة في جماعة من هاجر إليها من الصحابة وأنه من الجماعة المنصرفين من الحبشة إلى مكة حين بلغهم أن قريشا دخلوا في الإسلام وكان الخبر كاذبا فأقبلوا إلى مكة في حين كون بني هاشم وبني المطلب في الشعب ووجدوا قريشا أشد ما كانوا على النبي وأصحابه ثم أمره رسول الله فيمن امر من أصحابه بالهجرة إلى المدينة (فهاجر إلى المدينة) ثم شهد بدرا مع من شهدها منهم إلا أن حديثه من رواية عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عنه أن رسول الله لم يرد عليه السلام يومئذ بمكة وهو يصلي فقال له ((إن الله أحدث ألا تكلموا في الصلاة)) قد وهم في ألفاظه عاصم وكان سيئ الحفظ عندهم كثير الخطأ لا يحتج بحديثه فيما خولف فيه
وحديثه حدثناه سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود قال كنا نسلم على النبي - عليه السلام - في الصلاة قبل أن نأتي أرض الحبشة فيرد علينا فلما رجعنا سلمت عليه وهو يصلي فلم يرد علي فآخذني ما قرب وما بعد فجلست حتى قضى النبي - عليه السلام - صلاته فقال يا رسول الله سلمت عليك وأنت تصلي فلم ترد على فقال ((إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإن مما أحدث ألا تكلموا في الصلاة)) (1)
قال سفيان هذا أجود ما وجدنا عند عاصم في هذا الوجه
قال أبو عمر قد روى هذا الحديث شعبة عن عاصم على خلاف معنى حديث بن عيينة ولم يقل فيه إن ذلك كان منه في حين انصرافه من أرض الحبشة بل ظاهره ومساقه يحتمل أن يكون كان ذلك منه بالمدينة فيكون في معنى حديث بن أرقم
حدثنا سعيد حدثنا قاسم حدثنا إسماعيل بن إسحاق حدثنا عمرو بن مرزوق قال أخبرنا شعبة عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله قال أتيت النبي - عليه السلام - وهو يصلي فسلمت فلم يرد علي فلما قضى صلاته قال ((إن الله يحدث ما شاء وإن مما أحدث ألا تكلموا في الصلاة
505

فلم يذكر شعبة أن كلامه ذلك كان منه بمكة وقد رواه الأعمش عن أبي وائل عن بن مسعود فذكر انصرافه من أرض الحبشة إلى مكة ولم يذكر [أن] سلامه على رسول الله في الصلاة كان بمكة
وقد روي عن الأعمش بخلاف ذلك في الإسناد والمعنى
حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن حدثنا محمد بن بكر بن داسة قال حدثنا أبو داود حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير قال حدثنا فضيل عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال كنا نسلم على النبي - عليه السلام - وهو في الصلاة فيرد علينا فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا وقال لنا ((إن في الصلاة لشغلا)) (1)
وهذا الحديث إنما فيه كراهية السلام على المصلي وقد روى هذا الحديث كلثوم بن المصطلق الخزاعي عن بن مسعود ولم يقل فيه إن ذلك كان منه في حين انصرافه من أرض الحبشة
أخبرنا عبد الله بن محمد بن أسد قال أخبرنا حمزة بن محمد بن علي قال حدثنا أحمد بن شعيب النسائي قال أخبرنا محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي قال أخبرنا بن أبي عيينة والقاسم بن زيد الجرمي عن سفيان عن الزبير بن عدي عن كلثوم عن عبد الله بن مسعود
وهذا الحديث للقاسم قال كنت آتي النبي - عليه السلام - وهو يصلي فأسلم عليه فيرد علي فأتيته وهو يصلي فسلمت عليه فلم يرد علي فلما سلم أشار إلى القوم فقال ((إن الله أحدث في الصلاة ألا تكلموا فيها إلا بذكر الله وأن تقوموا لله قانتين))
وهذا حديث مستقيم صحيح في معنى حديث زيد بن أرقم ليس فيه ما يخالفه
حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا محمد بن بكر حدثنا أبو داود حدثنا محمد بن عيسى حدثنا هشيم حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن الحارث بن شبيل عن أبي عمرو الشيباني عن زيد بن أرقم قال كان أحدنا يكلم الرجل إلى جنبه في الصلاة فنزلت * (وقوموا لله قانتين) * [البقرة 238] ثم أمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام
506

قال أبو عمر زيد بن أرقم أنصاري وسورة البقرة مدنية
حدثنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا إسماعيل بن مسعود قال حدثنا يحيى بن سعيد قال أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد قال حدثنا الحارث بن شبيل عن أبي عمرو الشيباني عن زيد بن أرقم قال كان الرجل يكلم صاحبه في الصلاة بالحاجة على عهد النبي - عليه السلام - حتى نزلت * (وقوموا لله قانتين) * [البقرة 238] فأمرنا بالسكوت
وأما قولهم إن أبا هريرة لم يشهد ذلك لأنه كان قبل بدر وإسلام أبي هريرة كان عام خيبر فالجواب أن أبا هريرة أسلم عام خيبر كما ذكرنا ولكنه قد شهد هذه القصة وحضرها لأنها لم تكن قبل بدر وحديث أبي هريرة يوم ذي اليدين محفوظ من رواية الحفاظ الثقات وليس تقصير من قصر عن ذكر ذلك في حديثه في قصة ذي اليدين بحجة على من حفظه وذكره
182 - (معاد) - وهذا مالك قد ذكر في موطئه عن داود بن الحصين عن أبي سفيان مولى بن أبي أحمد قال سمعت أبا هريرة يقول صلى لنا رسول الله - عليه السلام - العصر فسلم في ركعتين وذكر الحديث
هكذا حدث به في الموطأ عنه بن القاسم وبن وهب وبن بكير والقعنبي والشافعي وقتيبة بن سعيد
ولم يقل يحيى وطائفة معه في حديث داود بن حصين صلى لنا رسول الله وإنما قال صلى رسول الله
وأما في حديث مالك عن أيوب عن بن سيرين عن أبي هريرة فليس ذلك عند أحد من رواة الموطأ وإنما فيه أن رسول الله انصرف من اثنتين فقال له ذو اليدين
قال أبو عمر قول أبي هريرة في حديث ذي اليدين صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى بنا وبينا نحن مع رسول الله محفوط من نقل الحفاظ
فمن ذلك حديث شيبان عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال بينما أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الظهر فسلم من اثنتين فقال له رجل من بني سليم وذكر الحديث
507

وحديث ضمضم بن جوس الهفاني عن أبي هريرة قال صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي وذكر الحديث
وحديث بن عون عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال صلى بنا رسول الله [إحدى صلاتي العشي
وكذلك رواه هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم]
وكذلك رواه العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة
وكذلك رواه بن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة
وكذلك رواه حماد بن زيد عن أيوب عن بن سيرين عن أبي هريرة
ورواه - كما رواه أبو هريرة عبد الله بن عمر وعمران بن حصين ومعاوية بن خديج وبن مسعدة صاحب الحبوس وكلهم لم يصحب النبي - عليه السلام - إلا بالمدينة حاشا بن عمر منهم
وقد ذكرنا طرق هذه الأحاديث وأسانيدها في ((التمهيد)) وهي صحاح كلها والحمد لله
وليس في أخبار الآحاد أكثر طرقا من حديث ذي اليدين هذا إلا قليلا وأحسن الناس سياقة [له] حماد بن زيد عن أيوب عن محمد عن أبي هريرة
حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا محمد بن بكير حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن عبد الله حدثنا حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي الظهر أو العصر فصلى بنا ركعتين [ثم سلم] ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد فوضع يديه عليها إحداهما على الأخرى وخرج سرعان الناس وقالوا قصرت الصلاة قصرت الصلاة وفي الناس أبو بكر وعمر فهابا أن يكلماه فقام رجل - وكان رسول الله يسميه ذا اليدين - فقال يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة فقال ((لم أنس ولم تقصر)) قال بل نسيت يا رسول الله فأقبل رسول الله على القوم فقال ((أصدق ذو اليدين)) فأومؤوا أن نعم فرجع رسول الله إلى مقامه فصلى الركعتين الباقيتين ثم سلم ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع وكبر ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع وكبر قال فقيل لمحمد سلم في السهو قال لم أحفظه ولكن نبئت أن عمران بن حصين [قال] ثم سلم
508

قال أبو داود وكل من روى هذا الحديث لم يقل فيه فأومؤوا إلا حماد بن زيد
قال أبو عمر من ها هنا قال أحمد بن حنبل - والله أعلم إن الإمام وحده إن تكلم في شأن صلاته لم يضر ذلك صلاته وإن تكلم غيره أفسد صلاته
وأما قولهم إن ذا اليدين قتل يوم بدر فغير صحيح وإنما المقتول يوم بدر ذو الشمالين ولسنا ندافعهم ولا ننكر قولهم إن ذا الشمالين قتل ببدر إن ذكروا ذا الشمالين لأن بن إسحاق وغيره من أهل السير ذكروه فيمن قتل ببدر من المسلمين
وقال حماد بن سلمة عن علي عن سعيد بن المسيب قال قتل يوم بدر من قريش خمسة رجال من المهاجرين عبيدة بن الحارث وعمير بن أبي وقاص وذو الشمالين وبن بيضاء ومهجع مولى عمر بن الخطاب
قال أبو عمر إنما قال بن المسيب أنهم من قريش لأن الحليف والمولى يعد من القوم فمهجع مولى عمر وذو الشمالين حليف بني زهرة
قال بن إسحاق ذو الشمالين هو عمير بن عبد عمرو بن نضلة بن عمرو بن غبشان بن سليم بن مالك بن أفصى بن خزاعة حليف لنبي زهرة
قال أبو عمر ذو اليدين غير ذي الشمالين المقتول ببدر بدليل ما في حديث أبي هريرة ومن ذكرنا معه من حضورهم تلك الصلاة ممن كان إسلام بعد بدر وكان المتكلم يومئذ رجلا من بني سليم
ذكر ذلك يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة
وقال عمران بن حسين رجل طويل اليدين يقال له الخرباق
وممكن أن يكون رجلان أو ثلاثة وأكثر يقال لكل واحد منهم ذو اليدين وذو الشمالين ولكن المقتول ببدر غير المتكلم في حديث أبي هريرة حين سلم رسول الله من اثنتين
قال أبو بكر الأثرم سمعت مسدد بن مسرهد يقول الذي قتل ببدر إنما هو ذو الشمالين بن عبد عمرو حليف بني زهرة وذو اليدين رجل من العرب كان يكون بالبادية فيجيء فيصلي مع النبي - عليه السلام
قال أبو عمر قول مسدد هذا قول أئمة أهل الحديث والسير وهذا على ما ذكرنا عنهم @ 510 @
وأما قول الزهري في هذا الحديث إنه ذو الشمالين فلم يتابع عليه وحمله الزهري على أنه المقتول يوم بدر فوهم فيه وغلط والغلط لا يسلم منه أحد
وقد اضطرب الزهري في إسناد حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين اضطرابا كثيرا قد ذكرناه في ((التمهيد))
وكان يقول لم يسجد رسول الله السجدتين يومئذ فجهل ذلك
وقد صح عن أبي هريرة من وجوه أن رسول الله سجد يوم ذي اليدين بعد السلام سجدتين لم يختلف عن أبي هريرة في ذلك وإنما اختلف عنه في السلام من السجدتين
وقد خفي ذلك على الزهري مع جلالته
ولا أعلم أحدا من المصنفين عول علي بن شهاب في حديث ذي اليدين وإنما أخرجوه من غير روايته لاضطرابه وقد تبين غلطه أنه المقتول ببدر
ذكر عبد الرزاق عن بن جريج عن بن مليكة أنه سمع عبيد بن عمير - وذكر خبر ذي اليدين - قال فأدركه ذو اليدين أخو بني سليم وقد قيل إن ذا اليدين عمر إلى خلافة معاوية وإنما توفي بذي خشب
حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا أحمد بن زهير حدثنا علي بن بحر حدثنا معدي بن سليمان الشغنثي البصري قال حدثني شعيب بن مطير ومطير حاضر يصدقه قال يا أبتاه أخبرتني أن ذا اليدين لقيك بذي خشب فأخبرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم إحدى صلاتي العشي فصلى ركعتين ثم سلم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وخرج سرعان الناس فلحقه ذو اليدين فقال يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت فقال ((ما قصرت الصلاة ولا نسيت)) ثم أقبل رسول الله على أبي بكر وعمر فقال ((أحق ما يقول ذو اليدين)) قالا صدق يا رسول الله فرجع رسول الله وثاب الناس فصلى ركعتين ثم سلم ثم سجد سجدتي السهو
وقد ذكرنا هذا الخبر من طرق شتى في التمهيد
ومطير هذا مطير بن سليم من أهل وادي القرى روى عن ذي اليدين وذي الزوائد وأبي الشموس البلوي وغيره وروى عنه ابناه شعيب وسليم وهو معروف عند أهل العلم لم يذكره أحد بجرحه
ومعدي بن سليمان صاحب الطعام بصري يكنى أبا سليمان يقال إنه كان من الأبدال الفضلة روى عنه العباس بن يزيد وبندار محمد بن بشار وعلي بن بحر بن بري وبشر بن علي ومحمد بن المثنى
509

ولو صح للمخالفين ما ادعوه من نسخ حديث أبي هريرة بتحريم الكلام في الصلاة لم يكن لهم في ذلك حجة لأن النهي عن الكلام في الصلاة إنما توجه إلى العامد القاصد لا إلى الناسي لأن النسيان متجاوز عنه والناسي والساهي ليسا ممن دخل تحت النهي لاستحالة ذلك في النظر
فإن قيل إنكم تجيزون الكلام في الصلاة عمدا إذا كان في شأن صلاحها قيل لقائل ذلك أجزناه من باب آخر قياسا على ما نهي عنه من التسبيح في غير موضعه من الصلاة وإباحته للتنبيه على ما أغفله المصلي من صلاة ليستدركه استدلالا بقصة ذي اليدين
قال أبو عمر نزع أبو الفرج وغيره من أصحابنا بما وصفنا وليس ذلك عندي بشيء لأن التسبيح لا يقاس بالكلام لأن الصلاة محرم فيها الكلام ومباح فيها التسبيح
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من نابه شيء في صلاته فليسبح)) (1) يريد ولا يتكلم
وقال ((صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح وتلاوة القرآن)) (2)
وقد نهى عن القراءة في الركوع ولو قرأ في الركوع أحد لم تفسد صلاته
وأما أصحاب أبي حنيفة الذين لم يجيزوا الكلام في شأن إصلاح الصلاة فيلزمهم ألا يجيزوا المشي للراعف والخروج من المسجد للوضوء وغسل الدم في الصلاة لضرورة الرعاف فإن أجازوا ذلك فليجيزوا الكلام في شأن إصلاح الصلاة والله أعلم
وممن قال من السلف بمعنى حديث ذي اليدين ورأى البناء جائزا لمن تكلم في صلاته وهو يظن أنه ليس في صلاة عبد الله بن عباس وبن الزبير وعروة وعطاء والحسن وقتادة والشعبي
وروي أيضا عن الزبير بن العوام وأبي الدرداء وروي مثل قول الكوفين في هذا الباب عن إبراهيم النخعي وحماد بن أبي سليمان وقتادة على اختلاف عنه
511

وفي هذا الحديث أيضا إثبات حجة مالك وأصحابه في قولهم إذا نسي الحاكم حكمه فشهد عليه عنده شاهدان إنه ينفذه ويمضيه وإن لم يذكره لأن النبي - عليه السلام - رجع إلى قول ذي اليدين ومن شهد معه إلى شيء لم يذكره
وقال الشافعي وأبو حنيفة لا ينفذه حتى يذكر حكمه به على وجهه لأنه لا يقبل الشهود إلا على غيره لا على نفسه لأنهم لو شهدوا عنده بخلاف علمه لم يحكم بشهادتهم ولا حجة في حديث ذي اليدين لأنه لم يحكم بشهادتهم ممكن محتمل أن يكون النبي - عليه السلام - لما قال له أصحابه إن ما ذكر ذو اليدين حق تيقن ذلك فرجع من شكه إلى يقين وهذا مجتمع عليه في أصل الدين لأنه محال ألا يصدقهم ثم يعمل بخبرهم وبالله التوفيق
وفيه إثبات سجود السهو على من سها في صلاته وفيه أن السجود يكون بعد السلام إذا كان زاد الإنسان في صلاته شيئا سهوا وبه استدل أصحابنا على أن السجود بعد السلام فيما كان زيادة أبدا
وفيه أن سجدتي السهو يكبر في كل خفض ورفع منهما ويسلم على حديث عمران بن حصين
واختلف المتأخرون من أصحابنا في رجوع المسلم ساهيا في صلاته إلى تمام ما بقي عليه منها هل يحتاج في ذلك إلى إحرام أم لا فقال بعضهم لا بد أن يحدث إحراما يجدده لرجوعه إلى تمام صلاته وإن لم يفعل لم يجزه
وقال آخرون ليس ذلك عليه وإنما عليه أن ينوي الرجوع إلى تمام صلاته فإن كبر في رجوعه فحسن لأن التكبير إشعار حركات المصلي وإن لم يكبر فلا شيء عليه لأن أصل التكبير في غير الإحرام إنمغا كان للإمام ثم صار سنة بمواظبة رسول الله حتى لقي الله مع قوله ((فإذا كبر فكبروا)) يعني يكبرون بتكبيره وتكبير الصلوات محصور عدده فلا وجه للزيادة فيه ألا ترى أن الذي يحسبه الإمام لا يكبر إذا قام إلى قضاء ما عليه لأن تلك التكبيرة لو كبرها كانت زائدة على تكبير الصلاة والله أعلم
وإنما قلنا إنه إذا نوى الرجوع إلى صلاته ليتمها فلا شيء عليه وإن لم يكبر لإحرام ولا غيره لأن سلامه ساهيا لا يخرجه من صلاته عندنا وعند جمهور العلماء ولا يفسدها عليه وإذا كان في صلاته بنى عليها فلا معنى للإحرام لأنه غير مستأنف لصلاة بل هو متمم لها بان فيها وإنما يؤمر بتكبيرة الإحرام من ابتدأ صلاته وافتتحها وبالله التوفيق
512

وأما قول مالك كل سهو كان نقصانا في الصلاة فإن سجوده قبل السلام وكل سهو كان زيادة في الصلاة فإن سجوده بعد السلام - فهذا مذهبه لا خلاف عنه فيه
وقوله إنه إذا اجتمع سهوان زيادة ونقصان فالسجود لهما قبل السلام لا خلاف عنه في ذلك أيضا
هذا هو الاختيار عنده لحديث ذي اليدين في الزيادة وحديث بن بحينة في النقصان ولو سجد عنده أحد بخلاف ذلك فجعل السجود كله بعد السلام أو كله قبل السلام لم يكن عليه شيء لأنه عنده من باب قضاء القاضي بالاجتهاد للآثار المرفوعة
والسلف من هذه الأمة في ذلك سنذكر اختلافهم في الباب بعد هذا إن شاء الله عز وجل
((16 - باب إتمام المصلي ما ذكر إذا شك في صلاته))
183 - مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثا أم أربعا فليصلي ركعة وليسجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم فإن كانت الركعة التي صلى خامسة شفعها بهاتين السجدتين وإن كانت رابعة فالسجدتان ترغيم (1) للشيطان))
لم يختلف عن مالك في إرسال هذا الحديث إلا ما روي عن الوليد بن مسلم عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي - عليه السلام
وقد ذكرنا في [التمهيد من وصلة عن] زيد بن أسلم من الثقات ومن أرسله عنه وتابع مالكا على ذلك
قال الأثرم سألت أحمد بن حنبل عن حديث أبي سعيد في السهو أتذهب إليه قال نعم أذهب إليه قلت إنهم يختلفون في إسناده قال إنما قصر به مالك وقد أسنده عدة منهم بن عجلان وعبد العزيز بن أبي سلمة
وفي هذا الحديث من الفقه أصل عظيم جسيم يطرد في أكثر الأحكام وهو أن
513

اليقين لا يزيله الشك وأن الشيء مبني على أصله المعروف حتى يزيله يقين لا شك معه وذلك أن الأصل في الظهر أربع ركعات فإذا أحرم بها لزمه إتمامها فإن شك في ذلك فيقينه أنه على أصل فرضه في أربع ركعات لا يخرجه منه إلا يقين مثله
وقد غلط قوم من عوام المنتسبين إلى الفقه في هذا الباب فظنوا أن الشك أوجب على المصلي إتمام صلاته والإتيان بالركعة واحتجوا بذلك لإعمال الشك في بعض نوازلهم
وهذا غلط بين بل اليقين بأنها أربع ركعات فرضا أوجب عليه إتمامها
ويوضح ذلك أيضا حديث أبي سعيد الخدري أن النبي - عليه السلام - قال ((إذا أتى أحدكم الشيطان في صلاته فقال إنك أحدثت فلا ينصرف حتى يسمع بأذنيه صوته أو يجد بأنفه ريحه))
وكذلك حديث عبد الله بن زيد بن عاصم قال شكا إلى رسول الله - عليه السلام - الرجل يخيل إليه الشيء في الصلاة فقال ((لا تنصرف حتى تسمع صوتا أو تجد ريحا)) (1)
ألا ترى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينقله عن أصل طهارته التي كان قد تيقنها بشك عرض له حتى يستيقن الحدث
والأصل في هذا وفي البناء على اليقين سواء إلا أن مالكا قال من شك في الحدث بعد يقينه بالوضوء فعليه الوضوء ولم يتابعه على هذا القول أحد غيره إلا من قال بقوله من أصحابه
وقد خالف بن نافع مالكا في هذه المسألة فقال لا وضوء عليه
وقال أبو الفرج إن ذلك استحباب من مالك واحتياط منه
وقال بن خواز منداد اختلفت الرواية عن مالك فيمن توضأ ثم شك هل احدث أم لا فقال عليه الوضوء وقال لا وضوء عليه
قال وهو قول سائر الفقهاء
514

قال أبو عمر مذهب الثوري وأبي حنيفة والأوزاعي والشافعي البناء على الأصل حدثا كان أو طهارة
وهو قول أحمد وإسحاق وأبي ثور وداود والطبري
وقد قال مالك إن عرض له ذلك كثيرا فهو على وضوء
وقال فيمن وجد في ثوبه احتلاما وقد بات فيه ليالي وأياما إنه لا يعيد صلاته ولا يغتسل إلا من أحدث نوم نامه
وأجمع العلماء أن من أيقن بالحدث وشك في الوضوء أن شكه لا يفيد فائدة وأن الوضوء واجب عليه
ولا خلاف - علمته - بين أهل المدينة وسائر فقهاء الأمصار أنه لا يرث أحد أحدا بالشك في حياته وموته
وفي هذا الحديث أيضا دليل على أن الزيادة في الصلاة لا تفسدها ما كانت سهوا أو في إصلاح الصلاة لأن الشاك في صلاته إذا أمرناه بالبناء على يقينه وهو يشك هل صلى واحدة أو اثنتين
وممكن أن يكون صلى اثنتين فغير مأمون عليه أن يزيد في صلاته ركعة
وقد أحكمت السنة أن ذلك لا يضره بل هو مأمور به
وإذا كان ما ذكرنا كما ذكرنا بطل قول من قال إن من زاد في صلاته مثل نصفها ساهيا إن صلاته فاسدة
وهو قول لبعض أصحابنا ضعيف لا وجه له يصح والصحيح في مذهب مالك غير ذلك
وقد أجمع العلماء على أن من شك في صلاة الصبح هل صلى واحدة أو اثنتين حكمه في ذلك حكم من شك في مثل ذلك من صلاة الظهر أو العصر على أصله من قال بالتحري ومن قال بالبناء على اليقين
على أن التحري عندنا يعود إلى البناء على اليقين على ما نبينه إن شاء الله
وقد صلى رسول الله الظهر خمسا ساهيا فسجد لسهوه (1)
وحكم الركعة والركعتين في ذلك سواء في القياس والمعقول والأصول
515

وقد زدنا هذا المعنى بيانا في التمهيد والحمد لله
وفي هذا الحديث أيضا أن الساهي في صلاته إذا فعل ما يجب عليه فعله يسجد لسهوه
وفيه أن سجود السهو في الزيادة قبل السلام وهذا موضع اختلف فيه العلماء
فقال مالك وأصحابه ما قدمنا عنهم ذكره قالوا كل سهو كان نقصانا من الصلاة فالسجود له قبل السلام لحديث بن بحينة عن النبي عليه السلام
184 - أنه قام من اثنتين دون أن يجلس فسجد لسهوه قبل السلام وقد نقص الجلسة الوسطى والتشهد
قال مالك وإن كان السهو زيادة فالسجود له بعد السلام على حديث ذي اليدين لأنه - عليه السلام - سها فسلم من ركعتين يومئذ وتكلم ثم انصرف وبنى فزاد سلاما وعملا وكلاما وهو ساه لا يظن أنه في صلاة [ثم سجد بعد السلام]
وهذا كله قول أبي ثور
ويقول مالك هذا ومن تابعه يصح استعمال الخبرين جميعا في الزيادة والنقص
واستعمال الأخبار على وجوبها أولى من ادعاء النسخ فيها ومن جهة الفرق بين الزيادة والنقص بين في ذلك لأن السجود في النقصان إصلاح وجبر ومحال أن يكون الإصلاح والجبر بعد الخروج من الصلاة
وأما السجود في الزيادة فإنما هو ترغيم للشيطان وذلك [ينبغي أن يكون] بعد الفراغ
وجملة مذهب مالك وأصحابه أن من وضع السجود الذي قالوا إنه بعد - قبل فلا شيء عليه إلا أنهم أشد استثقالا لوضع السجود الذي بعد السلام قبل السلام وذلك لما رئي وعلم من اختلاف أهل المدينة في ذلك
وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري السجود كله في السهو زيادة كان أو نقصانا بعد السلام
وهو قول أبي سلمة بن عبد الرحمن وعمر بن عبد العزيز
وحجة الكوفيين في ذلك حديث بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى خمسا
516

ساهيا وسجد لسهوه بعد السلام وحديث المغيرة بن شعبة أنه قام من اثنتين وسجد بعد السلام
وقد ذكرنا هذه الآثار كلها في التمهيد
وعارضوا حديث بن بحينة بحديث المغيرة بن شعبة وزعموا أنه أولى لأن فيه زيادة التسليم والسجود بعده وهذا ليس بشيء لأن حديث بن بحينة ثابت بنقل الأئمة وحديث المغيرة ضعيف الإسناد ليس مثله بحجة
ومن حجتهم أيضا من جهة النظر إجماعهم على أن حكم من سها في صلاته ألا يسجد في موضع سهو ولا في حاله تلك وأن حكمة أن يؤخر ذلك إلى آخر صلاته لتجمع السجدتان كل سهو في صلاته ومعلوم أن السلام قد يمكن فيه السهو أيضا فواجب أن تؤخر السجدتان عن السلام أيضا كما تؤخر أيضا عن التشهد
وقال الأوزاعي الشافعي والليث بن سعد سجود السهو كله في الزيادة والنقصان قبل السلام
وهو قول بن شهاب وربيعة ويحيى بن سعيد الأنصاري وبن أبي ذئب
وقال بن شهاب كان آخر الأمرين من رسول الله السجود قبل السلام
والحجة لهم حديث مالك هذا عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار وهو عن أبي سعيد الخدري عن النبي عليه السلام صحيح
وفيه البناء على اليقين وإلغاء الشك والعلم محيط بأن ذلك إن لم يكن زيادة لم يكن نقصانا
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من نابه ذلك في صلاته أن يسجد سجدتين قبل التسليم والزيادة مع ذلك ممكنة غير مدفوعة
وأما النقصان فلحديث بن بحينة إذ قام من اثنتين وسجد قبل السلام وهو من أثبت ما يروى في باب سجود السهو عن النبي عليه السلام
قالوا فعلمنا بهذا أن ليس المعنى في ذلك زيادة ولا نقصانا وأن المعنى في ذلك إصلاح الصلاة وإصلاحها لا يكون إلا قبل الفراغ منها وإنما جاز تأخير السجدتين عن جميع الصلاة ما خلا السلام لأن السلاح يخرج به من أن تكون السجدتان مصلحتين
ألا ترى أن مدرك بعض الصلاة مع الإمام لا يشتغل بالقضاء ويتبع الإمام فيما بقي عليه حاشا السلام لما ذكرنا ولكل واحد منهم حجة من جهة النظر يطول ذكرها والمعتمد عليه ما ذكرنا
517

وكل هؤلاء يقول إن المصلي لو سجد بعد السلام لم يضره وكذلك لو سجد بعد السلام فيا قالوا فيه السجود قبل السلام لم يضره ولم يكن عليه شيء
وأما بن حنبل فذكر الأثرم قال سألت بن حنبل عن سجود السهو قبل السلام أم بعده فقال في مواضع قبل السلام وفي مواضع بعد السلام على حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين
ومن سلم من ثلاث سجد أيضا بعد السلام على حديث عمران بن حصين
وفي [التحري يسجد بعد السلام على حديث بن مسعود حديث منصور
وفي القيام من اثنتين يسجد قبل السلام على حديث بن بحينة
وفي الشك يبني على اليقين ويسجد قبل السلام على حديث أبي سعيد الخدري وحديث عبد الرحمن بن عوف]
قال أبو عمر قد ذكرنا حديث عبد الرحمن بن عوف أيضا في التمهيد
وقال الأثرم قلت لابن حنبل فما كان سوى هذه المواضع قال يسجد فيها كلها قبل السلام لأنه يتم ما نقص من صلاته
قال ولولا ما روي عن النبي - عليه السلام - لرأيت السجود كله قبل السلام لأنه من شأن الصلاة فيقضيه قبل السلام
ولكن أقول كل ما روي عنه - عليه السلام - أنه سجد فيه بعد السلام فإنه يسجد فيه بعد السلام وسائر السهو يسجد فيه قبل السلام
وقال داود لا يسجد أحد للسهو [إلا في الخمسة المواضع] التي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم
واختلف الفقهاء أيضا فيمن شك في صلاته فلم يدر أواحدة صلى أم اثنتين أو لم يدر اثنتين صلى أم ثلاثا أو لم يدر أثلاثا صلى أم أربعا
فقال مالك والشافعي يبني على اليقين ولا يجزيه التحري وروي ذلك عن الثوري
وهو قول داود والطبري
وحجتهم في ذلك حديث (([أبي سعيد المذكور في هذا الباب وحديث)) عبد الرحمن بن عوف وحديث بن عمر وما كان مثلها في البناء على اليقين
وقال أبو حنيفة إذا كان ذلك أول ما شك استقبل صلاته ولم يتحر وإن لقي ذلك غير مرة تحرى
518

وقال الحسن بن حي والثوري في رواية أخرى يتحرى سواء كان أول مرة أو لم يكن
وقال الأوزاعي يتحرى قال وإن نام في صلاته فلم يدر كم صلى استأنف
وقال الليث بن سعد إن كان هذا شيئا يلزمه ولا يزال يشك أجزأته سجدتا السهو عن التحري وعن البناء على اليقين فإن لم يكن شيئا يلزمه استأنف ركعة بسجدتيها
وقال أحمد بن حنبل الشك على وجهين اليقين والتحري فمن رجع إلى اليقين ألغى الشك وسجد قبل السلام على حديث أبي سعيد الخدري وإذا رجع إلى التحري وهو أكثر الوهم سجد سجدتي السهو بعد السلام على حديث بن مسعود الذي يرويه منصور
وبه قال أبو خيثمة زهير بن حرب
وقال جماعة من أهل العلم منهم داود التحري هو الرجوع إلى اليقين
قال أبو عمر من جعل التحري والرجوع إلى اليقين سواء صح له استعمال الخبرين بمعنى واحد وأي تحر يكون لمن انصرف وهو شاك لم يبن على يقينه
ومعلوم أن من تحرى وعمل على أغلب ظنه وأكثره عنده أن شعبة من الشك تصحبه إذا لم يبن على يقينه
وقد ذكرنا علة حديث بن مسعود من رواية منصور وغيره في التحري في كتاب التمهيد
185 - وأما حديث مالك عن عمر بن زيد عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر كان يقول إذا شك أحدكم في صلاته فليتوخ الذي يظن أنه نسي من صلاته فليصله ثم ليسجد سجدتي السهو وهو جالس
وهذا عندي هو البناء على اليقين لأنه قد أمره أن يصلي ما ظن أنه نسيه من صلاته
وقد وروى هذا الحديث سليمان بن بلال عن عمرو بن محمد عن سالم عن أبيه عن النبي - عليه السلام - مرفوعا - وليس في شيء من الأحاديث المرفوعة
519

والموقوفة عن الصحابة فرق بين من اعتراه ذلك أول مرة أو مرة بعد مرة
186 - وكذلك حديث مالك عن نافع عن بن عمر أنه كان إذا سئل عن النسيان في الصلاة قال ليتوخ أحدكم الذي يظن أنه نسي من صلاته فليصله
هو على ما قلنا والله أعلم
وقد تأول الكوفيون ومن قال بالتحري - وهو العمل على أكثر الظن في حديثي بن عمر هذين قوله يتوخى - أنه أراد العمل على أكثر الظن
وتأويلنا أحوط وأشبه بالأصول لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((من لم يدر أثلاثا صلى أم أربعا فليجعلها ثلاثا))
وهذا المعنى هو ما ذكره مالك عن عفيف بن عمر السهمي عن عطاء بن يسار أنه قال
187 - سألت عبد الله بن عمرو بن العاص وكعب الأحبار عن الذي يشك في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثا أم أربعا فكلاهما قال ليصل ركعة أخرى ثم ليسجد سجدتين وهو جالس
وهذا معنى حديث أبي سعيد الخدري عن النبي - عليه السلام - فصار سنة معمولا بها
وهذا الباب كله فيه البناء على اليقين والسجود قبل السلام عن النبي - عليه السلام - وعن بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وكعب الأحبار وهو قول من ذكرنا قوله من الفقهاء وما توفيقنا إلا بالله تعالى
((17 - باب من قام بعد الإتمام أو في الركعتين))
188 - مالك عن بن شهاب عن الأعرج عن عبد الله بن بحينة أنه
520

قال صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ثم قام فلم يجلس فقام الناس معه فلما قضى صلاته ونظرنا تسليمه كبر ثم سجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم ثم سلم
وذكر عن يحيى بن سعيد عن الأعرج عن بن بحينة مثله بمعناه وقد ذكرنا بن بحينة في كتاب الصحابة بما فيه كفاية
وفي هذا الحديث بيان أن أحدا لا يسلم من الوهم والنسيان لأنه إذا اعترى ذلك الأنبياء فغيرهم بذلك أحرى
وقد يكون ذلك منه - عليه السلام - ليسن لأمته كما جاء عنه ((إني لأنسى أو أنسي لأسن)) (1)
وفي هذا الحديث من الفقه أن المصلي إذا لم يجلس في اثنتين وقام واعتدل قائما لم يكن له أن يرجع
وإنما قلنا واعتدل قائما لأن الناهض لا يسمى قائما حتى يعتدل فالقائم هو المعتدل
وفي حديث مالك في هذا الباب ثم قام ولم يجلس
وإنما قلنا إنه لا ينبغي له إذا اعتدل قائما ان يرجع إلى الجلوس لأنه معلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا اعتدل قائما لا يخلو أمره من أن يذكر بنفسه أو يذكره من خلفه بالتسبيح ولا سيما قوما قد قيل لهم ((من نابه شيء في صلاته فليسبح)) (2) وهم أولو النهي وأولى من عمل بما حفظ ووعى
وأي الحالين كان فلم ينصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجلوس بعد قيامه ذلك فمن ها هنا قلنا لا ينبغي لمن اعتدل قائما أن ينصرف إلى الجلوس
وقد روى المغيرة بن شعبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قام من اثنتين واعتدل فسبحوا به فلم ينصرف وتمادى في صلاته ثم سجد لسهوه وفعل ذلك المغيرة وسبحوا به فلم يرجع وقال لهم كذلك صنع رسول الله
وعن سعد بن أبي وقاص مثل حديث المغيرة سواء
وقد ذكرناها بأسانيدها في التمهيد
521

فإن رجع إلى الجلوس بعد قيامه لم تفسد صلاته عند جمهور العلماء لأنه رجع إلى أصل ما كان عليه وسهوه في قيامه متجاوز عنه
وقد بان بالسنة أن الزائد في صلاته ساهيا غير مفسد لها والذي يقصد إلى عمل يظن أنه قد أسقطه من صلاته أحرى بذلك
وقد قال بعض المتأخرين تفسد صلاته وهو قول ضعيف لا وجه له
واختلف العلماء في هذه المسألة
فقال مالك من قام من اثنتين تمادى ولم يجلس وسجد قبل السلام على حديث بن بحينة هذا
فإن عاد إلى الجلوس بعد قيامه فصلاته تامة وتجزيه سجدتا السهو
قال بن القاسم وأشهب يسجدهما بعد السلام لأنه زاد في صلاته القيام والانصراف
وقال علي بن زياد يسجدهما قبل السلام
وقد روى عن أشهب لأنه قد وجب ذلك عليه في قيامه ورجوعه إلى الجلوس زيادة فكأنه زاد ونقص
قال أبو عمر قول بن القاسم وأشهب أولى بالصواب على أصل مالك إلا أن السجود في الزيادة قبل السلام قد مضى ما جاء فيه في الباب قبل هذا
وقال الشافعي إذا ذكر ولم يستتم قائما لم يرجع
وهو قول علقمة والأسود وقتادة والضحاك والأوزاعي
وفي قول الشافعي إذا رجع إلى الجلوس سجد سجدتي السهو والسجود عنده قبل السلام
وفي قول علقمة والأسود لا يسجد إن رجع إلى الجلوس كأنهما يقولان لم ينقص شيئا فيجبره
والنبي - عليه السلام - قد أكمل صلاته يوم ذي اليدين وسجد وصلى خمسا وسجد فدل أن السجود للسهو لا للنقصان
وقال حسان بن عطية إذا تجافت ركبتاه عن الأرض مضى
وقال الحسن البصري ينصرف ويقعد وإن قرأ ما لم يركع
قال أبو عمر قد روى سفيان الثوري عن جابر الجعفي عن المغيرة بن شبيل عن
522

قيس بن أبي حازم عن المغيرة بن شعبة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إذا قام الإمام في الركعتين فإن ذكر قبل أن يستوي قائما فليجلس فإن استوى قائما فلا يجلس وسجد سجدتي السهو)) (1)
ذكره أبو داود وقال ليس في كتابي عن جابر الجعفي إلا هذا الحديث
قال أبو عمر في حديث بن بحينة هذا وحديث المغيرة بن شعبة عن النبي - عليه السلام - دليل على صحة ما ذهب إليه أصحابنا ومن قال بقولهم في أن الجلسة الوسطى سنة لا فريضة لأنها لو كانت من فرائض الصلاة لرجع الساهي عنها إليها حتى يأتي بها
كما لو ترك سجدة أو ركعة ولروعي فيها ما يراعى في السجود والركوع من الموالاة والرتبة
وقد سبح برسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرجع إليها وسجد لسهوه
وفي حديث بن بحينة أنه علم بها فلم يقضها وسجد لسهوه عنها ولو كانت فرضا لم يسقطها النسيان والسهو لأن الفرائض في الصلاة يستوي في تركها السهو والعمد إلا في المأثم
وقد ذهب آخرون إلى الجلسة الوسطى فرض وأنها مخصوصة من بين سائر فروض الصلاة بأن ينوب عنها السجود كالعرايا من المزابنة وكسقوط بعد الإحرام لمن وجد الإمام راكعا وبأنها لا يقاس عليها شيء من أعمال البدن في الصلاة فدل على خصوصها
واحتجوا بأنها لو كانت سنة ما كان العامد لتركها تبطل صلاته كما لا تبطل بترك سنن الصلاة إذا أتى بفرائضها وبما أجمعوا عليه في سائر أعمال البدن أنها فرض في الصلاة من أولها إلى آخرها من قيام وقعود وركوع وسجود
والقول الأول أصح من جهة الأثر والنظر إن شاء الله
وقد أوضحنا معنى القولين وما اخترنا من ذلك مع سائر معاني هذا الباب في التمهيد والحمد لله وشذت فرقة فأوجبتها فرضا وأوجبت الرجوع إليها ما لم يعمل المصلي بعدها
523

ما يمنعه من الرجوع إليها وذلك عند ركعته التي قام إليها برفعه رأسه منها
وقولهم هذا ليس بشيء لأن الفرض من عمل البدن في الصلاة ينصرف إليه ويرتب مع ما بعده ولا يسلم من الصلاة إلا أن يؤتى به مع الذكر
وهذا أيضا مردود بالسنة في حديث بن بحينة وغيره فلا وجه للاشتغال به
واختلفوا في الجلسة الأخيرة هل هي فرض أيضا أم لا فذهب جمهور أهل العلم وجماعة فقهاء الأمصار إلى أنها فرض واجب تفسد صلاة من لم يأت بها ساهيا كان أو عامدا إلا فرقة صغيرة منهم بن علية فإنه ذهب إلى أن الجلسة الآخرة ليست بفرض واجب قياسا على الجلسة الوسطى
واحتج بحديث بن بحينة وغيره في القيام من اثنتين
وبحديث عبد الله بن عمرو عن النبي عليه السلام أنه قال ((إذا رفع الإمام رأسه من آخر سجدة في صلاته ثم أحدث فقد تمت صلاته))
وهذا لفظ لا يصح في حديث عبد الله بن عمرو عن النبي - عليه السلام - ولا هذا الحديث يصح أصلا لأنه انفرد به الإفريقي عبد الرحمن بن زياد لم يروه غيره وليس بحجة فيما يرويه وينفرد به عند الجميع لضعفه في نقله
وهذا اللفظ في رفع الرأس من آخر الصلاة إنما هو مروي عن علي وقال به طائفة
والمحفوظ في حديث عبد الله بن عمرو من رواية الإفريقي أن النبي - عليه السلام - قال ((إذا جلس أحدكم في آخر صلاته فأحدث قبل أن يسلم فقد تمت صلاته))
وهذا اللفظ إنما يسقط السلام لا الجلوس
وقد عارض هذا الحديث ما هو أقوى منه نقلا وهو قوله عليه السلام ((تحليلها التسليم)) والحجة في السنة لا فيما قال
والجمهور حجة على من شذ منهم لأنه لا يجوز على جميعهم جهل ما علمه الشاذ المنفرد
على أن بن علية يوجب فساد صلاة من لم يأت بأعمال الصلاة سننها وفرائضها وكل ما عمله النبي - عليه السلام - في الصلاة عنده ولم يختلف عنه فيه فهو واجب عنده تفسد الصلاة بتركه
524

وله إغراق في القياس وشذوذ عن العلماء كثير وليس عندهم ممن يعتمد عليه والله أعلم
وأما اختلاف العلماء في سجود السهو فقال بن شهاب ويحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة بن أبي عبد الرحمن والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي السجود كله قبل السلام
وروي هذا القول عن بن عباس وأبي هريرة والسائب بن السائب وعبد الله بن الزبير ومعاوية
وبه قال مكحول
والحجة لقائلي هذا القول ما تقدم في هذا الباب والباب الذي قبله من سجود رسول الله حين قام من اثنتين وحين أمر بالبناء على اليقين من حديث أبي سعيد وبن عباس وعبد الرحمن بن عوف قبل السلام في الوجهين جميعا والبناء على اليقين ليس فيه نقصان
حدثني خلف بن القاسم قال حدثنا أبو الميمون حدثنا أبو زرعة الدمشقي حدثنا أبو مسهر عن محمد بن مهاجر عن أخيه عمرو بن مهاجر أن الزهري قال لعمر بن عبد العزيز السجدتان قبل السلام فقال له [أبى ذلك علينا] أبو سلمة بن عبد الرحمن يا زهري
وحدثنا خلف حدثنا أبو الميمون حدثنا أبو زرعة حدثنا سعيد بن أبي مريم قال أخبرني يحيى بن أيوب قال أخبرني محمد بن عجلان أن بن شهاب أخبره أن عمر بن عبد العزيز صلى للناس المغرب فسها فنهض من ركعتين فقال الناس سبحان الله فلم يجلس فلما فرغ من صلاته سجد سجدتين بعد السلام ثم انصرف فسأل بن شهاب فقال أصبت إن شاء الله والسنة على غير الذي صنعت فقال له عمر كيف قال تجعلهما قبل السلام قال عمر إني قلت إنه دخل على ولم يدخل عليهم فقال بن شهاب ما دخل عليك دخل عليهم
قال سفيان الثوري والحسن بن حي وأبو حنيفة وأصحابه السجود كله بعد السلام
وروي ذلك عن علي وبن مسعود وسعد بن أبي وقاص وعمار بن ياسر وعمران بن حصين والمغيرة بن شعبة والضحاك بن قيس
واختلف في ذلك عن بن عباس وبن الزبير ومعاوية وبه قال الحسن البصري وأبو سلمة بن عبد الرحمن وعمر بن عبد العزيز وإبراهيم النخعي وبن أبي ليلى
525

وحجتهم في القيام من اثنتين حديث المغيرة بن شعبة أن رسول الله قام من اثنتين وسجد بعد السلام
وحديث بن مسعود أن رسول الله سجد بعد السلام إذ صلى خمسا ونحو ذلك مما قد ذكرنا في الباب قبل هذا
وقال مالك وأصحابه كل سهو كان نقصانا في الصلاة فالسجود له قبل السلام على حديث بن بحينة في هذا الباب وكل سهو كان زيادة فالسجود له بعد السلام على حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين
وقد ذكرنا قول بن حنبل في الباب قبل هذا وقول داود أيضا وحديث بن بحينة عند بن حنبل أصح من حديث المغيرة وبه يقول في القيام من اثنتين
وحديث المغيرة يدور علي بن أبي ليلى وليس بالحافظ ولا ممن يحتج به فيما خولف فيه
وقد أوضحنا معاني هذا الباب في التمهيد والحمد لله
واختلف الفقهاء أيضا في التشهد في سجدتي السهو والسلام منهما
فقالت طائفة لا تشهد فيهما ولا تسليم وروي ذلك عن أنس والحسن البصري ورواية عن عطاء
وهو قول الأوزاعي والشافعي لأن السجود كله عندهما قبل السلام فلا وجه عندهما لإعادة التشهد
وقد روي عن عطاء إن شاء تشهد وسلم وإن شاء لم يفعل
وأما الشافعي فيرى التشهد فيهما واجبا حكاه البويطي عنه وهو ممن يقول هما قبل السلام
وقال آخرون يتشهد فيهما ولا يسلم قاله يزيد بن قسيط ورواية عن الحكم بن عتيبة وحماد بن أبي سليمان وإبراهيم النخعي
وقال آخرون فيهما تشهد وتسليم روي ذلك عن بن مسعود وإبراهيم النخعي والحكم وحماد
وبه قال مالك وأكثر أصحابه والثوري وأبو حنيفة وأصحابه والليث بن سعد
وقال أحمد بن حنبل إن سجد قبل السلام لم يتشهد وإن سجد بعد السلام تشهد
وبهذا قالت طائفة من أصحاب مالك ورووه أيضا عن مالك
526

وقال بن سيرين يسلم منهما ولا يتشهد فيهما
قال أبو عمر من رأى السلام فيهما فعلى أصله من تسليمة واحدة أو تسليمتين
وقد صح عن النبي - عليه السلام - أنه سلم من سجدتي السهو في حديث عمران بن حصين إذ سلم من ثلاث ثم سجد بعد السلام
وهو حديث صحيح ثابت
ومن رأى السجود قبل السلام فلا يحتاج إلى هذا لأن السلام من الصلاة هو السلام على ما في حديث بن بحينة في هذا الباب
وأما التشهد في سجدتي السهو فلا أحفظه من وجه صحيح عن النبي - عليه السلام -
وأما التكبير في الخفض والرفع فمحفوظ ثابت في حديث بن بحينة من رواية بن شهاب وغيره
وقد ذكرنا طرقة عن بن شهاب في ((التمهيد)) وفيما وصفنا من رواية الثقات من أصحاب بن شهاب عنه عن الأعرج عن بن بحينة وفي حديث أبي هريرة يوم ذي اليدين مثل ذلك وقد مضى في بابه والحمد لله
وأما اختلاف العلماء في حكم الجلوس الآخر في الصلاة وما الفرض في ذلك فعلى خمسة أقوال
أحدها أن الجلسة الآخرة فرض والتشهد فرض والسلام فرض
وممن قال بذلك الشافعي وأصحابه وأحمد في رواية وداود
وكذلك حكى أبو مصعب في مختصره عن مالك وأهل المدينة
وحجتهم أن بيانه عليه السلام في الصلاة فرض لأن الأصل فرضها مجمل مفتقر إلى البيان فكل ما عمله - عليه السلام - فيها فرض إلا ما قام الدليل على أنه سنة لا فرض
واحتجوا بالإجماع على وجوب عدد الركعات فيها والسجود وغير ذلك مما هو واجب ببيان النبي - عليه السلام - له بفعله
واحتجوا أيضا بقوله - عليه السلام - ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) (1) وبأشياء يطول ذكرها
527

والقول الثاني أن الجلوس فيها فرض والسلام فرض واجب وليس التشهد بواجب
وممن قال ذلك مالك وأصحابه وأحمد بن حنبل في رواية
وحجتهم أن عمل اليدين كله فرض للإجماع على فرض القيام والركوع والسجود فكذلك كل عمل البدن إلا ما خرج بدليل وهو الجلسة الوسطى
ومن حجتهم أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخرج قط من صلاة إلا بالتسليم وقال ((تحريمها التكبير وتحليلها التسليم)) (1) وقام من اثنتين ولم يتشهد فسقط التشهد لذلك
ولأنه ذكر ولا شيء من الذكر واجب غير [تكبيرة الإحرام] وقراءة أم القرآن والتسليم
والقول الثالث أن الجلوس مقدار التشهد فرض وليس التشهد ولا التسليم بواجب فرضا
وممن قال بذلك أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من الكوفيين واحتجوا بنحو ما تقدم في بيان عمل الصلاة وعمل البدن بحديث عبد الرحمن بن زياد الإفريقي أن عبد الرحمن بن رافع وبكر بن سوادة حدثاه عن عبد الله بن عمرو بن العاصي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إذا جلس الرجل في آخر صلاته فأحدث قبل أن يسلم فقد تمت صلاته)) (2) وهكذا رواه بن المبارك عن الإفريقي وهو أثبت من رواه عنه
والقول الرابع أن الجلوس والتشهد واجبان وليس السلام بواجب
قاله جماعة منهم إسحاق بن راهويه
واحتج إسحاق بحديث بن مسعود حين علمه رسول الله التشهد وقال له إذا فرغت من هذا فقد تسمت صلاتك وقضيت ما عليك))
والقول الخامس أن ليس الجلوس فيها ولا التشهد ولا السلام بواجب وإنما ذلك كله سنة مسنونة وهذا قول بعض البصريين وإليه ذهب بن علية وصرح بقياس الجلسة الآخرة على الأولى فخالف الجمهور وشذ إلا أنه يرى الإعادة على من ترك شيئا من ذلك كله
528

واحتج برواية من روى في حديث الإفريقي بإسناده المذكور ((إذا رفع رأسه وأحدث ولم يذكر جلوسا))
وهو حديث لا حجة فيه لضعفه واختلافهم أيضا في لفظه وبالله التوفيق لا شريك له
وأما قول مالك فيمن سها في صلاته فقام بعد إتمامه الأربع فقرأ ثم ركع فلما رفع رأسه من ركوعه ذكر انه قد كان أتم إنه يرجع فيجلس ولا يسجد ولو سجد إحدى السجدتين لم أر أن يسجد الأخرى ثم إذا قضى صلاته فليسجد سجدتين وهو جالس بعد التسليم - فالأصل في هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر خمسا فقال رجل أزيد في الصلاة قال ((وما ذاك)) قالوا صليت خمسا قال فثنى رجله وسجد سجدتين (1)
وهذا حديث صحيح رواه شعبة عن الحكم عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله
وقد أجمعوا أن من زاد في صلاته عامدا شيئا وإن قل من غير الذكر المباح فسدت صلاته
وفيما أجمعوا عليه من ذلك ما يصحح لك ما قاله هناك مالك وهذا أصل وإجماع لا مدخل للقول فيه والسجود عنده في الزيادة بعد السلام على ما قدمنا من أصله
وقد بينا ذلك كله والحمد لله
((18 - باب النظر في الصلاة إلى ما يشغلك عنها))
189 - مالك عن علقمة بن أبي علقمة عن أمه عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت أهدى أبو جهم بن حذيفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم خميصة (2) شامية لها علم
529

فشهد فيها الصلاة فلما انصرف قال ((ردي هذه الخميصة إلى أبي جهم فإني نظرت إلى علمها في الصلاة فكاد يفتنني)) (1)
هذا الحديث رواه رواة الموطأ كلهم عن مالك عن علقمة بن أبي علقمة عن أمه عن عائشة وسقط ليحيى وحده عن أمه
وقد بينا ذلك في التمهيد
واسم أبي جهم عبيد بن حذيفة بن غانم العدوي القرشي من بني عدي بن كعب
190 - وذكر عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس خميصة لها علم ثم أعطاها أبا جهم وأخذ من أبي جهم أنبجانية (2) له فقال يا رسول الله ولم فقال ((إني نظرت إلى علمها في الصلاة))
وقد روى هذا الحديث بن شهاب عن عروة عن عائشة أن النبي - عليه السلام - صلى في خميصة لها علم فقال ((شغلني أعلام هذه اذهبوا بها إلى أبي جهم وأتوني بأنبجانية))
هكذا هو في حديث الزهري بالتذكير وفي حديث مالك أنبجانية له وإنما هو كساء أنبجاني
والكساء لا يؤنث إلا أن يكون أراد خميصة أو شملة أو نحو هذا
والخميصة كساء صوف رقيق بعلم أكثر شيء
وقد يكون بغير علم [والخمائص من لبس الأشراف في أرض العرب وقد يكون العلم] فيها أحمر وأصفر وأخضر
وأما الأنبجاني فكساء صوف غليظ لا علم فيه
وقال بن قتيبة إنما هو كساء منبجاني قال ولا يقال أنبجاني لأنه منسوب إلى منبج
قال وفتحت باؤه في النسب لأنه خرج مخرج منظراني ومخبراني
وقال ثعلب أنبجانية بكسر الباء وكسرها كل ما كثف والتف
قالوا شاة أنبجانية أي كثيرة الصوف ملتفته
530

وغير بن قتيبة يقول جائز أن يقال أنبجاني كما جاء في الحديث لأن رواته عرب فصحاء ومن الأنساب ما يجري على غير قياس وإنما هو مسموع وهذا لو صح أنه
منسوب إلى منبج
وفي هذا الحديث من الفقه قبول الهدايا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويأكلها ولا يأكل الصدقة (1)
والهدية من أفعال المسلمين الكرماء والصالحين والفضلاء ويستحبها العلماء ما لم يسلك بها سبيل الرشوة لدفع حق أو تحقيق باطل أو أخذ على حق يجب القيام به
وقد أوضحنا ما يجب من الهدايا لإمام المسلمين وعماله وسائر الناس من قبل المسلمين ومن قبل أهل الذمة والحربيين في موضعه من هذا الكتاب
وأما قوله ((نظرت إلى علمها في الصلاة فكاد يفتنني)) فإن قوله كاد يفتنني دليل على أن الفتنة لم تقع
وكاد في اللغة توجب القرب وتدفع والوقوع ولهذا قال بعض العلماء لا يخطف البرق بصر أحد لقوله تعالى * (يكاد البرق يخطف أبصارهم) * [البقرة 20]
والفتنة التي خشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنزل به بسبب تلك الخميصة ونظره إلى علمها - هو الشغل عن إقامة الصلاة بما يجب فيها من خشوع وعمل وفكره فيما هو فيه لأنه بين يدي الرب العظيم لا إله إلا هو
حدثنا عبد الوارث حدثنا قاسم حدثنا محمد بن عبد السلام حدثنا بن أبي عمر حدثنا سفيان عن منصور بن عبد الرحمن عن خاله مسافع بن عبد الله بن شيبة عن صفية بنت شيبة عن امرأة من بني سليم أنها قالت لعثمان بن طلحة لم دعاك رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خروجه من البيت فقال قال ((إني رأيت قرني الكبش في البيت فنسيت أن آمرك أن تخمرهما (2) فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل مصليا
وسفيان عن منصور وغيره عن إبراهيم أنه كان يكره أن يكون في البيت شيء يشغل مصليا
وسفيان عن منصور وغيره عن إبراهيم أنه كان يكره أن يكون في القبلة شيء معلق مصحف أو سيف أو نحوه
531

وسفيان عن الأحوص بن حكيم عن راشد بن سعد قال تقدم أبو الدرداء أن يصلي بالناس بحمص فرأى في القبلة عرقة (1) فقال غطوا عنا هذه العرقة
وقال نعيم بن حماد عن سفيان بن عيينة إنما رد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخميصة إلى أبي جهم لأنه كرهها إذ كانت سبب غفلة وشغل عن ذكر الله كما قال ((أخرجوا عن هذا الوادي الذي أصابتكم فيه الغفلة فإنه واد به شيطان (2)
قال ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث إلى غيره ما يكرهه لنفسه
ألا ترى إلى قوله لعائشة ((لا تتصدقي مما لا تأكلين))
قال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوى خلق الله على دفع الوسوسة ولكن كرهها للغفلة عن الذكر
هذا كله قول بن عيينة
ومما قدمته فيما ظهر إلي أولى بتأويل الحديث إن شاء الله ولأنه معلوم أنه - عليه السلام - لما رد الخميصة إلى مهديها بعد أن أعلمهم وأعلمه بما نابه فيها - كان ذلك دليلا على أنه يستحب لباسها في الصلاة لأنه لا محالة أحرى بأن يخشى على نفسه من الشغل بها في صلاته فوق ما خشيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك
ولهذا - والله أعلم - كان إخبارهم له بما عرض له في صلاته بالنظر إليها
وقد يمكن أن يكون إعلامه بما نابه في الخميصة عند ردها إلى أبي جهم لتطيب نفسه وقد ذهب عنه ما لا يكاد ينفك منه من ردت هديته عليه
وفيه دليل على أن الواهب والمهدي إذا ردت عليه عطيته من غير أن يكون هو الذي يرجع فيها فإن له أن يقبلها
وأما قوله ((وأتوني بأنبجانية له)) أو بأنبجانية)) على الرواية في ذلك - ففيه دليل على [أن] من ردت عليه هديته يشق ذلك عليه فلذلك أنسه رسول الله بأن أخذ منه كساء آخر لا علم فيه ليعلم أنه لم يرد عليه هديته استخفافا به ولا قلى له ولا كراهية لكسبه والله أعلم
وفيه أن كل ما يشغل المرء في صلاته إذا لم يمنعه من إقامة فرائضها وأركانها لا يفسدها ولا يوجب عليه إعادتها
وقد ذكرنا في التمهيد حديث أنس قال كان لعائشة قرام قد سترت به جانب بيتها فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أميطي (3) عنا قرامك (4) فإنه لا تزال
532

تعرض لي تصاويره في صلاتي (1)
وروى علي بن المدني قال حدثني يعقوب بن إبراهيم بن سعد قال حدثني أبي عن بن إسحاق قال حدثني عبد الله بن كعب مولى عثمان بن عفان عن خارجة بن زيد بن ثابت قال سمعت معاذا القارئ يسأل أبي زيد بن ثابت عن الرجل يصلي والرجل في قبلته مستقبله بوجهه فقال إني ما أبالي أعمود من عمد المسجد استقبلني في صلاتي أو استقبلني رجل إن الرجل لا يقطع صلاة الرجل
قال أبو عمر إنما كرهه من كرهه خشية أن يشغله النظر إليه عن شيء من صلاته وربما كان منه ما يشغل المصلي الذي يستقبله
191 - وأما حديثه في هذا الباب عن عبد الله بن أبي بكر [بن محمد بن عمرو بن حزم] أن أبا طلحة الأنصاري كان يصلي في حائطه (2) فطار دبسي (3) فطفق يتردد يلتمس مخرجا فأعجبه ذلك فجعل يتبعه بصره ساعة ثم رجع إلى صلاته فإذا هو لا يدري كم صلى فقال لقد أصابتني في مالي هذا فتنة
وذكر تمام الخبر فإن من لم يدر كم صلى لشغل شغل نفسه أو لما شاء الله من نحو ذلك - فإن السنة قد أحكمت فيه أن يبني على يقينه على ما تقدم في حديث أبي سعيد وغيره
وفي هذا الحديث دليل على ما كان عليه أبو طلحة من خوف الله والبدار (4) إلى طاعته
ولن يتقرب إلى الله بعد الفرائض بمثل الصدقات فإنها تطفئ غضب الله وتصرف من مصارع السوء إن شاء الله
وأما قوله لقد أصابني في مالي هذا فتنة فإن الفتنة هنا ما بلغ به من شغل نفسه حتى لم يدر كم صلى
وكل من أصابته مصيبة في دينه فقد فتن على قدر تلك المصيبة وللفتنة في اللغة والشريعة وجوه قد ذكرتها في التمهيد
وفيه دليل أن ما جعل الله مطلقا ولم يعين السبيل من سبل الله ما هي أن
533

الإمام والحاكم يضعها حيث رآه من سبل البر ووجوه الخير وينفذ بلفظ الصدقة لله
ولذلك قال أهل العلم إن الصدقة لا رجوع فيها لأنها لله
وليس لفظ الهبة ولا العطية ولا المنحة كذلك
وقالوا في الدبسي إنه طائر يشبه اليمامة وقد قيل إنه اليمامة نفسها
وقوله طفق يتردد كقوله جعل يتردد وفيه لغتان طفق يطفق وطفق يطفق
192 - وأما حديثه الآخر عن عبد الله بن أبي بكر أن رجلا من الأنصار كان يصلي في حائط له بالقف واد من أودية المدينة الحديث
فإن الكلام فيه والكلام في الذي قبله سواء إلا أن عثمان بن عفان فهم عن الأنصاري مراده فباع المال بخمسين ألف درهم وتصدق بها عنه ولم يجعل الحائط وقفا
وقد اختلف في الأفضل من الصدقات بالرقاب ومن الصدقات الموقوفات وكلاهما خير وعمل صالح وليس الآبار كالعيون والله أعلم إلا أن الدائم جار على صاحبه ما لم تعتره آفة فآفات الدهر كثيرة
وفي أحاديث هذا الباب ما يوجب القول في موضع نظر المصلي إلى أين يكون
فأما مالك فقال يكون نظر المصلي أمام قبلته وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي والحسن بن حي يستحب أن يكون نظر المصلي إلى موضع سجوده
وقال شريك القاضي ينظر في القيام إلى موضع السجود وفي الركوع إلى موضع قدميه وفي السجود إلى أنفه وفي قعوده إلى حجره
قال أبو عمر هذا التحديد ليس على النظر في الأصول ما يوجبه وحسب المصلي أن يقبل على صلاته ولا يلتفت يمينا ولا شمالا فإنه مكروه له
ومن فكر فيما هو فيه من صلاته وأقبل على ما يعنيه منها شغله ذلك عن النظر إلى غيرها وبالله التوفيق
534