الكتاب: الاستذكار
المؤلف: ابن عبد البر
الجزء: ٣
الوفاة: ٤٦٣
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ القسم العام
تحقيق: سالم محمد عطا-محمد علي معوض
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ٢٠٠٠م
المطبعة: بيروت - دار الكتب العلمية
الناشر: دار الكتب العلمية
ردمك:
ملاحظات:

بسم الله الرحمن الرحيم
((16 كتاب الجنائز))
((1 - باب غسل الميت))
482 - مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل في قميص
قد ذكرنا في التمهيد من روى هذا الحديث مسندا من رواية مالك وغيره ولم يسنده في الموطأ عن مالك إلا سعيد بن عفير رواه عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن عائشة ورواه الوحاظي وإسحاق بن عيسى في غير الموطأ عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر وهو عن عائشة أصح
ورواه محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عائشة
وذكر عبد الرزاق عن بن عيينة عن جعفر بن محمد عن أبيه قال غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه قميص وكفن في ثلاثة أثواب ثوبين صحاريين وثوب حبرة وصلي عليه بغير إمام
وروى عبد الرزاق أيضا عن بن جريج قال سمعت محمد بن علي بن حسين أبا جعفر يقول بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب قيل ما هن قال قد اختلفوا فيهن منهن قميص قلت وعمامة قال لا ثوبين سوى القميص
قال عبد الرزاق (1) وهو القميص الذي غسل فيه
قال أبو عمر روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في برد حبرة وربطتين وروي أنه
3

كفن في برد أحمر وقيل برد أسود وغير ذلك مما جاء في أحاديث ليس منها شيء يحتج به من وجه انقطاعها وضعف أسانيد أكثرها
وأصح شيء فيما كفن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث عروة عن عائشة قالت كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة (1)
وسنوضح ذلك في باب الكفن إن شاء الله
قال أبو عمر السنة المجتمع عليها تحريم النظر إلى عورة الحي والميت وحرمة المؤمن ميتا كحرمته حيا ولا يجوز لأحد أن يغسل ميتا إلا وعليه ما يستره فإن غسل في قميص فحسن وستره كله حسن وأقل ما يلزم من الستر له ستر عورته
ومن السنة [المجتمع عليها] أن لا يفضي الغاسل إلى فرج الميت إلا وعليه خرقة وسيأتي وصف غسل الميت في حديث أم عطية بعد هذا إن شاء الله (2)
وقد زعم بعض أصحابنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينزع عنه ذلك القميص الذي غسل [فيه] وأنه كفن فيه مع الثلاثة الأثواب واحتج بالحديث المأثور في ذلك أنهم نودوا ألا ينزعوا القميص (3)
وهذا يعارضه ما هو أثبت منه من جهة النقل وهو حديث عائشة قالت كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة وهذا ينفي أن يكون في أثوابه قميص
وتوجيه الحديثين عندي أي لا تنزعوا القميص حتى تغسلوه فيه
وكذلك جاء الحديث أنه غسل في قميصه صلى الله عليه وسلم فاقتصر في هذا الحديث على ذكر الغسل خاصة مع حديث عائشة (ليس فيها قميص) يعني في أكفانه
وقد سأل أبو أحمد الموفق إسماعيل بن إسحاق القاضي ما الذي صح عندكم في كفن النبي صلى الله عليه وسلم فإن عبد العزيز الهاشمي يقول إنه كفن في خمسة أثواب منها قميص وعمامة فقال إسماعيل الذي صح عندنا انه كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة
4

وقد روى يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن بن عباس قال كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب قميصه الذي مات فيه وحلة بحرانية (1)
وهذا الحديث انفرد به يزيد بن أبي زياد وليس ممن يحتج به إذا عارضه من هو أثبت منه لضعفه وحديث عائشة ثابت من جهة الإسناد
ومعلوم أن الثوب الذي يغسل فيه الميت ليس من أكفانه وثياب الكفن غير مبلولة وبالله التوفيق
483 - مالك عن أيوب بن أبي تميمة السختياني عن محمد بن سيرين عن أم عطية الأنصارية أنها قالت دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته فقال اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر (2) واجعلن في الآخرة كافورا (3) أو شيئا من كافور فإذا فرغتن فآذنني قالت فلما فرغنا آذناه فأعطانا حقوة (4) فقال أشعرنها إياه قال مالك (5) تعني بحقوة إزاره
قال أبو عمر لم يذكر مالك في حديثه هذا من كانت المتوفاة التي غسلتها أم عطية في هذا الحديث من بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم
وذكر بن عيينة وغيره عن أيوب في هذا الحديث أنها زينب ابنته
وذكر أيضا هشام بن حسان عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية وذلك مذكور في التمهيد
وكل الرواة لهذا الحديث عن مالك قالوا فيه بعد قوله أو أكثر من ذلك إن
5

رأيتن ذلك وسقط ليحيى بن يحيى إن رأيتن ذلك وهو مما عد من سقطه
وفي هذه اللفظة من الفقه رد عدد الغسلات إلى اجتهاد الغاسل على حسب ما يرى بعد الثلاث من بلوغ الوتر فيها والله أعلم
وأما ابنته (عليه الصلاة والسلام) التي شهدت أم عطية الأنصارية [غسلها فهي زينب
عبد الرزاق عن هشام بن حسان عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية الأنصارية] قالت توفيت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اغسليها ثلاثا أو خمسا وذكر الحديث
وقال بعض أهل السير هي أم كلثوم والله أعلم
قال أبو عمر وكل بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم توفين في حياته إلا فاطمة فإنها توفيت بعده بستة أشهر وقيل بثمانية أشهر
ولم يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة ابنته رقية لأنه كان ببدر
وقد ذكرنا أخبارهن في النساء من كتاب الصحابة
ولست أعلم في غسل الميت حديثا جعله العلماء أصلا في ذلك إلا حديث أم عطية الأنصارية هذا فعليه عدلوا في غسل الموتى
وقد روى أيوب وغيره عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية في هذا الحديث فقالوا فيه ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو أكثر ومن ذلك إن رأيتن ذلك ولا يحفظ ذكر السبع في حديث أم عطية إلا من حديث حفصة بنت سيرين عنها
وكان أيوب السختياني قد روى هذا الحديث عن أم عطية وعن حفصة بنت سيرين عن أم عطية فكان يروي عن كل واحد منهما حديثه على وجهه وكان حافظا وكان ممن يرويه أيضا عن حفصة عن أم عطية في هذا الحديث قولها ومشطنا رأسها ثلاثة قرون ليس ذلك في حديث محمد بن سيرين عن أم عطية إلا أنه كان يروي هذه الألفاظ خاصة عن أخته حفصة عن أم عطية ويروي عن أم عطية سائر الحديث كما رواه مالك وغيره عن أيوب عن محمد عن أم عطية وقد ذكرنا الآثار بذلك كله عن بن سيرين عن أخته حفصة بنت سيرين في التمهيد
وقد روى قتادة عن أنس أنه كان يأخذ غسل الميت عن أم عطية قالت غسلنا ابنة النبي صلى الله عليه وسلم فأمرنا أن نغسلها بالسدر ثلاثا فإن أنجت وإلا فخمسا وإلا فأكثر من ذلك قالت فرأينا أكثر من ذلك سبع
6

واختلف العلماء في البلوغ بغسل الميت إلى سبع غسلات فقال منهم قائلون أقصى ما يغسل الميت ثلاث غسلات فإن خرج منه شيء بعد الغسلة الثالثة غسل ذلك الموضع وحده ولم يعد غسله
وممن قال بهذا أبو حنيفة وأصحابه والثوري وإليه ذهب المزني وأكثر أصحاب مالك
ومنهم من قال يوضأ إذا خرج منه شيء بعد الغسلة الثالثة ولا يعاد غسله لأن حكمه حكم الجنب إذا اغتسل ثم أحدث بعد الغسل
قالوا ويغسل مخرجه من ذلك الحدث بالماء ثم يوضأ وتجزئ الأحجار في ذلك
وقال بن القاسم إن وضئ من الحدث فحسن وإنما هو الغسل
قال أبو عمر لأنها عبادة عن الحي فقد أداها وليس على الميت عبادة
فتحصيل مذهب مالك أنه إذا جاء منه حدث بعد كمال غسله أعيد وضوؤه للصلاة ولم يعد غسله
وقال الشافعي إذا خرج منه شيء بعد الغسلة الثالثة أعيد غسله
وقال أحمد بن حنبل يعاد غسله إذا خرج منه شيء إلى سبع غسلات ولا يزاد على سبع فإن خرج منه شيء بعد السابعة غسل الموضع وحده فإن خرج منه شيء بعد ما كفن دفع ولم يلتفت إلى ذلك وهو قول إسحاق
وكل قول من هذه الأقاويل قد روي عن جماعة من التابعين على ما ذكرنا عنهم بالأسانيد في كتاب التمهيد ووضعنا هناك في غسل الميت وجوها ذكرناها عن العلماء ومن أراد الوقوف على ذلك تأمله هناك
والقول عندي في غسل الميت أنه تطهير عبادة لا إزالة نجاسة وإنما غسله كالجنب
وكان إبراهيم النخعي لا يرى الكافور في الغسلة الثالثة ولا يغسل الميت عنده أكثر من ثلاث ليس في شيء منها كافور وإنما الكافور عنده في الحنوط إلا في شيء من الماء وإلى هذا ذهب أبو حنيفة وأصحابه
ولا معنى لقولهم لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للنساء اللاتي غسلن ابنته واجعلن في الآخرة كافورا وعلى هذا أكثر العلماء أن يغسل الميت الغسلة الأولى بالماء القراح والثانية بالماء والسدر والثالثة بماء فيه كافور ومنهم من يجعل
7

الأولى بالماء والسدر والثانية بالماء القراح والثالثة بالماء والكافور ومنهم من يذهب إلى أن الغسلات الثلاث كلها بالسدر ورووا في ذلك حديثا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل ثلاث غسلات كلهن بالماء والسدر
وقد روى قتادة عن محمد بن سيرين أنه كان يأخذ الغسل عن أم عطية فيغسل بالماء والسدر مرتين والثالثة بالماء والسدر والكافور
وذكره أبو داود عن هدبة بن خالد عن همام عن قتادة عن بن سيرين أنه كان يأخذ الغسل عن أم عطية
وقال أبو بكر الأثرم قلت لأحمد بن حنبل أتذهب إلى السدر في الغسلات كلها قال نعم السدر فيها كلها على حديث أم عطية اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر
قال في حديث بن عباس بماء وسدر
ثم قال ليس في حديث غسل الميت أرفع من حديث أم عطية ولا أحسن منه فيه ثلاثا أو خمسا أو سبعا وابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها ثم قال ما أحسنه
قال أبو عمر يقال إن أعلم التابعين بغسل الميت بن سيرين ثم أيوب بعده وكلاهما كان غاسلا للموتى يتولى ذلك بنفسه
ذكر عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن بن سيرين في غسل الميت قال توضع خرقة على فرجه وأخرى على وجهه فإذا أراد أن يوضئه كشف الخرقة عن وجهه فيوضئه بالماء وضوءه للصلاة ثم يغسله بالماء والسدر مرتين من رأسه إلى قدميه يبدأ بميامنه ولا يكشف الخرقة عن فرجه ولكن يلف على يده خرقة إذا أراد أن يغسل فرجه ويغسل ما تحت الخرقة التي على فرجه بالماء إذا غسله مرتين بالماء والسدر غسله المرة الثانية بماء فيه كافور
قال والمرأة والرجل في ذلك سواء فإذا فرغ الغاسل اغتسل إن شاء أو توضأ
وعبد الرزاق عن بن جريج عن عطاء قال يغسل الميت ثلاثا أو خمسا أو سبعا بماء وسدر والواحدة السابغة تجزئ
وقال الأثرم قلت لأحمد بن حنبل يغطى وجه الميت قال لا إنما يغطى من سرته إلى ركبتيه
قال أبو عمر أجمع العلماء على أن النظر إلى فرج الحي والميت يحرم ولا
8

يجوز وكذلك مباشرته باليد من غير من أحل الله مباشرته من الزوجين وملك اليمين للرجل إلا ما كان من الأطفال الذين لا إرب فيهم ولا شهوة تتعلق بهم
وقد روي معنى الإجماع الذي ذكرنا [من أخبار] الآحاد العدول
منها حديث علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له لا تنظر إلى فرج حي ولا ميت
وأما تغطية وجه الميت قبل الغسل وفي حين الغسل بخرقة فلأن الميت ربما تغير وجهه بالسواد ونحوه وذلك لداء أو لغلبة دم فينظر الجهال إليه فينكرونه ويتأولون فيه
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من غسل ميتا ثم لم يفش عليه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه (1)
وأما قوله في حديث أم عطية في هذا الباب فأعطانا حقوه وقال أشعرنها إياه فالحقو الإزار وقيل المئزر
قال منقذ بن خالد الهذلي (شعر)
(مكبلة قد خرق الردف حقوها
* وأخرى عليها حقوها لم يخرق)
والحقو في لغة هذيل مكسور الحاء وغيرهم يقولون حقو بالفتح وجمعه حقي وأحقاء وأحق
وأما قوله أشعرنها إياه فإنه أراد اجعلنه يلي جسدها في أكفانها
ومنه الحديث عن عائشة وغيرها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلي في شعرنا ولا في لحفنا (2)
ومنه قوله عليه السلام الأنصار شعار والناس دثار (3)
وقال بن وهب في قوله أشعرنها إياه يجعل الإزار شبه المئزر ويفضي به إلى جلدها
9

وقال بن جريج قلت لعطاء ما معنى أشعرنها إياه أتؤزر قال لا أراه إلا قال الففنها فيه
وكذلك كان بن سيرين يأمر بالمرأة أن تشعر [لفافة] ولا تؤزر وقال إبراهيم النخعي الحقو فوق الدرع
وقد خالفه الحسن وبن سيرين والناس فجعلوا الحقو يلي أسفلها مباشرا لها
وقال بن علية الحقو هو النطاق الذي تنطق به الميتة وهو سبنية طويلة يجمع بها فخذاها تحصينا أن يخرج منها شيء بعد أن يحشى أسفلها بكرسف ثم يلف النطاق على عجزها [إلى قرب من ركبتيها
قال وهو أحد الخمسة الأثواب التي تكفن فيها المرأة
وقال عيسى بن دينار يلف ذلك على] عجزها وفخذيها حتى يستوي ذلك منها بسائر جسدها ثم تدرج في اللفافتين كما يدرج الرجل
قال ولو لم يكن إلا ثوب واحد كان الخمار أولى من المئزر لأنها تصلي في الدرع والخمار ولا تصلي في الدرع والمئزر
وقد استدل قوم من هذا الحديث بأن غسل النساء للمرأة أولى من غسل زوجها لها
وقال الحسن البصري إذا لم يجد امرأة مسلمة ولا يهودية ولا نصرانية غسلها زوجها وابنها
وخالفهم آخرون فقالوا غسل الزوج أولى من غسل النساء لأن أبا بكر الصديق (رضي الله عنه) أوصى بأن تغسله زوجه أسماء وكذلك فاطمة أوصت بأن يغسلها بعلها علي فغسلت أسماء بنت عميس زوجها أبا بكر وغسل علي فاطمة
ومعلوم أن الزوجين يحل لكل واحد منهما من النظر من صاحبه والمباشرة ما لا يجوز لغيرهما
484 - وأما حديث مالك في هذا الباب عن عبد الله بن أبي بكر أن أسماء بنت عميس غسلت أبا بكر الصديق حين توفي ثم خرجت فسألت من حضرها من
10

المهاجرين فقالت إني صائمة وإن هذا يوم شديد البرد فهل علي من غسل فقالوا لا
قال أبو عمر هذا إجماع من العلماء مأخوذ عن إجماع السلف من الصحابة على ما في هذا الحديث من المهاجرين والأنصار من إجازات غسل المرأة زوجها من غير نكير عن أحد منهم
وكذلك روينا عن أبي موسى الأشعري أنه غسلته امرأته
ولم يختلف الفقهاء في جواز غسل المرأة لزوجها
واختلفوا في جواز غسل الرجل امرأته
فقال أكثرهم جائز أن يغسل الرجل امرأته كما جاز أن تغسله
فمن قال بذلك منهم مالك والليث وبن أبي ليلى والشافعي وأحمد وإسحاق وداود
وهو قول حماد بن أبي سليمان
واختلف فيه عن الأوزاعي روي عنه لا يغسلها وروي عنه يغسلها
وحجتهم أن عليا غسل فاطمة (رضي الله عنهما) وقياسا على غسل المرأة زوجها لأنهما زوجان
وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري وروى ذلك عن الشعبي تغسله ولا يغسلها لأنه ليس في عدة منها
وهذا لا حجة فيه لأنها في حكم فيه الزوجية ليس في عدة منها بدليل الموارثة لا في حكم المبتوتة
واعتل الثوري وأبو حنيفة بأن لزوجها أن يتزوج أختها فلذلك لا يغسلها وهذا لا ينتقض عليهم بغسلها له
وأجمعوا على أن المطلقة المبتوتة لا تغسل زوجها إن مات في عدتها
واختلفوا في الرجعة
قد روى بن نافع عن مالك أنه يغسلها وأنها تغسله إن كان الطلاق رجعيا وهو قول أبي حنيفة وأصحابه
وقال بن القاسم لا تغسله
وإن كان الطلاق رجعيا قال وهو قياس من قول مالك لأنه ليس له أن يراها عنده
11

وهو قول الشافعي
وأما قوله في حديث أسماء بنت عميس أنها سألت من حضرها من المهاجرين والأنصار هل عليها من غسل حين غسلت زوجها فقالوا لا
فإن هذا موضع اختلف فيه الفقهاء فقال منهم قائلون كل من غسل ميتا فعليه الغسل
قالوا وإنما أسقط المهاجرون والأنصار - الذين حضروا غسل أسماء لزوجها - الغسل عنها لما ذكرت لهم لأن إنما هي صائمة وأنه يوم شديد البرد
واحتج من رأى الغسل على من غسل الميت بحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من غسل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ (1)
واختلف قول مالك في ذلك فذكر العتبي عن بن القاسم قال قال مالك أرى على من غسل ميتا أن يغتسل
قال بن القاسم ولم أره يأخذ بحديث أسماء بنت عميس ويقول لم أدرك الناس إلا على الغسل
قال بن القاسم وهو أحب ما فيه إلي
وذكر بن عبد الحكم عن مالك قال يغتسل من غسل الميت أحب إلينا
وقال بن وضاح سمعت سحنون يقول يغتسل من غسل الميت إذا فرغ منه وهو العمل عندنا
وروى أهل المدينة عن مالك أنه لا غسل على من غسل ميتا وإن اغتسل فحسن
وقال الشافعي لا غسل على من غسل ميتا إلا أن يثبت حديث أبي هريرة أو غيره في ذلك
وذكر المزني أن عبد الله بن وهب أخبره عن مالك أنه كان يرى الغسل على من غسل الميت
وقال أبو حنيفة وأصحابه غسل على من غسل ميتا
واختلف الصحابة في ذلك أيضا
12

روي عن علي (رضي الله عنه) أنه كان يأمر بالغسل من غسل الميت
وروي عن بن مسعود وسعيد بن المسيب وبن عمر وجماعة من الصحابة والتابعين أنه لا غسل على من غسل الميت
وأما حديث أبي هريرة فروي من حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة ودون العلاء زهير بن محمد وليس بحجة
ورواه سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة ومن أصحاب سهيل من يرويه عن سهيل عن أبيه عن إسحاق مولى زائدة عن أبي هريرة
ورواه بن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة كلهم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال من غسل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ
[وأما حديث مصعب بن شيبة عن طلق بن حبيب عن عبد الله بن الزبير عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر بالغسل من الحجامة والجنابة وغسل الميت ويوم عرفة فمما لا يحتج به ولا يقوم عليه]
وقد روى شعبة عن يزيد الرشك عن معاذة قالت سألت عائشة أيغتسل من غسل الميت قالت لا
فدل على بطلان حديث مصعب بن شيبة لأنه لو صح عنها ما خالفته ومن جهة النظر والاعتبار لا تجب طهارة على من لم يوجبها الله عليه في كتابه ولا أوجبها رسوله من وجه يشهد به عليه ولا اتفق العلماء على إيجابها والوضوء المجتمع عليه لا يجب أن يقضى إلا من هذه الوجوه أو أحدها وبالله التوفيق
وأما قول مالك في هذا الباب أنه سمع أهل العلم يقولون إذا ماتت المرأة وليس معها نساء يغسلنها ولا من ذوي المحرم أحد يلي ذلك منها ولا زوج يلي ذلك منها يممت فمسح بوجهها وكفيها من الصعيد
قال مالك وإذا هلك الرجل وليس معه أحد إلا نساء يممنه أيضا
فليس فيما حكاه بين العلماء خلاف إلا في هل يغسل المرأة إذا ماتت ذو المحرم منها أم لا
فإن هذا موضع اختلفوا فيه فقال مالك في المدونة وفي العتبية من رواية سحنون وعيسى عن بن القاسم ومن سماع أشهب أنه أيضا جائز أن يغسل المرأة
13

ذو محرم منها من فوق الثوب إذا لم يكن نساء وكذلك الرجل تغسله ذات المحرم منه إذا لم يكن رجال وتستره
وذكر محمد بن سحنون عن أشهب أنه لا يغسل ذو المحارم بعضهم بعضا ولكن ييممون
وذكر بن عبد الحكم عن مالك معنى ما ذكره في موطئه إلا أنه كان لا يجاوز بالنساء إذا يممهن الرجال الكفين ويبلغ النساء بتيمم الرجال إلى المرفقين فإن كن ذوات محارم فلا بأس أن يغسلن الرجل ما لم يطلع على عورته ويغسل الرجل ذات المحرم منه في درعها ولا يطلع على عورتها
وقول الأوزاعي في هذا الباب كله قول مالك
وقول أبي حنيفة وأصحابه كقول أشهب
إلا أن الأوزاعي قال إذا لم يكن مع الرجل ولا المرأة إلا أجنبي دفن كل واحد منهما بغير غسل ولا تيمم
قال أبو حنيفة وأصحابه ييمم ذو المحرم المرأة بيده وييممها الأجنبي من وراء الثوب
قالوا والرجل تيممه المرأة ذات المحرم منه بغير ثوب والأجنبية تيممه من وراء الثوب وهذا إذا لم تحضر المرأة نساء ولا الرجل رجال في السفر ونحوه
قالوا والأمة تيمم كما ييمم الرجل
وقال الثوري إذا لم يكن مع المرأة إلا الرجال ولا مع الرجل إلا النساء يممت المرأة الرجل والرجل المرأة ولم يفرق بين ذي المحرم وغيره ولكن من وراء الثوب
وهو قول الشافعي
وقال الليث إذا لم يكن مع الرجل إلا النساء ولا مع المرأة إلا الرجال فإن كل واحد منهما يلف في ثيابه ويصلى عليه ولا يغسل ولا ييمم
وقال الليث أيضا إن توفي رجل مع رجال ولا ماء معهم دفن كما هو ولم ييمم
قال أبو عمر القياس أن يكون الصعيد طهورا للميت عند عدم الماء كما كان طهورا للحي والوجه والكفان لا يجوز للمرأة ستر ذلك في الصلاة فجائز أن ييمم ذلك منها بعد الموت
14

((2 - باب ما جاء في كفن الميت))
485 - مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية (1) ليس فيها قميص ولا عمامة
هذا أثبت ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في كفن الميت من جهة النقل
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في برد حبرة
وروي أنه كفن في ربطتين وبرد نجراني
ذكر عبد الرزاق عن معمر وبن جريج عن بن شهاب الزهري عن علي بن حسين قال كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب برد حبرة
قال عبد الرزاق وهو المجتمع عليه وبه نأخذ
قال وأخبرنا معمر عن قتادة عن بن المسيب قال كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ريطتين وبرد
وليس في شيء من تلك الآثار ما يعارض به حديث عائشة لثبوته وضعف أسانيد ما سواه
وقد ذكر لعائشة قولهم كفن في ثوبين وبرد حبرة فقالت قد أتى بالبرد ولكن ردوه ولم يكفنوه فيه
ذكر ذلك حفص بن غياث وغيره عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة
وذكر حماد بن سلمة في هذا الحديث عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة وكان عبد الله بن أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) قد أعطاهم حلة حبرة فأدرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ثم استخرجوه منها
فهذه كلها آثار ثابتة [عن عائشة] ترد حديث يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن
15

بن عباس قال كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب قميصه الذي مات فيه وحلة له نجرانية
وحديث الثوري عن بن [أبي] ليلى عن الحكم عن مقسم عن بن عباس قال كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوبين أبيضين وبرد أحمر
وما ذكر أبو حاتم الرازي قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا وهيب - يعني بن خالد - قال حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه أنه كان [في] وصيته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب في صحاريين وبرد فكفنوني في ثلاثة أثواب
قال أبو عمر كان علي (رضي الله عنه) غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفنه ومعه الفضل بن عباس وأبوه عباس وهم أعلم بذلك والله أعلم
وقد اتفقت عائشة معهم على أن لا قميص في كفنه وإن قولها في هذا الحديث بيض سحولية وقد روي عنها من وجوه في حديث هشام بن عروة وغيره أنها من كرسف (وهو القطن) وأما السحولية فهي البيض
قال المسيب بن علس
(في الآل يخفضها ويرفعها ريع يلوح كأنه سحل والسحل الثوب الأبيض) (1)
شبه الطريق به
وقد قيل إن سحول قرية باليمن تصنع فيها ثياب القطن وتنسب إليها
وقد روى بن عيينة وغيره في هذا الحديث عن هشام بن عروة وغيره عن أبيه عن عائشة فقال فيه ثلاثة أثواب سحولية لم يقل بيض فإذا كان السحل الأبيض استغني عن ذكر البيض
وأما الفقهاء فأكثرهم يستحبون في الكفن ما في هذا الحديث وكلهم لا يرون في الكفن شيئا واجبا ولا يتعدى وما ستر العورة أجزأ عندهم من الحي والميت
وأما ما يستحبونه من الكفن فقال مالك (رحمه الله) ليس في كفن الميت حد ويستحب الوتر
وفي رواية أخرى عنه أحب إلي أن يكون كفن الرجل في ثلاثة أثواب ولا أحب أن يكون في أقل من ثلاثة أثواب فإن كفن في ثوبين فلا بأس قد كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم الشهداء اثنين في ثوب
16

قال ولا بأس بالقميص في الكفن ويكفن معه بثوبين فوقه
وقال أبو حنيفة وأصحابه أدنى ما تكفن فيه المرأة ثلاثة أثواب والسنة فيها خمسة أثواب وأدنى ما يكفن فيه الرجل ثوبان والسنة في ثلاثة أثواب
وقال الأوزاعي والثوري يكفن الرجل في ثلاثة أثواب وتكفن المرأة في خمسة أثواب وهو آخر قول الشافعي وقول أحمد وإسحاق وأبي ثور
وروي عن الشافعي أنه قال أحب إلي أن لا يتجاوز في كفن المرأة خمسة أثواب والثوب الواحد يجزئ
واستحب بن علية القميص في الكفن وهو قول مالك وزعم أصحابه أن العمامة عندهم في كفن الميت معروفة بالمدينة وكذلك الخمار للمرأة واستحبوا أن يقمص الميت
وكان بن عمر يعمم الميت وكان جابر بن عبد الله وعطاء بن أبي رباح لا يعممان
وكفن بن عمر ابنه واقدا في خمسة أثواب قميص وثلاث لفائف وعمامة
وروى مالك عن بن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال الميت يقمص ويؤزر ويلف في الثوب الثالث فإن لم يكن إلا ثوب واحد كفن فيه
وأما الشافعي فقال أحب الكفن إلي ثلاثة أثواب بيض ليس فيها عمامة ولا قميص فإن ذلك الذي اختاره الله (عز وجل) لنبيه صلى الله عليه وسلم واختاره له أصحابه (رضي الله عنهم)
قال أبو عمر قوله صلى الله عليه وسلم خير ثيابكم البياض فألبسوها أحياءكم وكفنوا فيها موتاكم (1) أولى ما صير إليه في هذا الباب والله الموفق للصواب
وقد أجمعوا أن لا تخاط اللفائف فدل على أن القميص ليس مما يختار لأنه مخيط ولا حرج في شيء مما استحبوه وإن كانوا قد اختلفوا فيه وبالله التوفيق
17

486 - مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال بلغني أن أبا بكر الصديق قال لعائشة وهو مريض في كم كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت في ثلاثة أثواب بيض سحولية فقال أبو بكر خذوا هذا الثوب (لثوب عليه قد أصابه مشق (1) أو زعفران) فاغسلوه ثم كفنوني فيه مع ثوبين آخرين فقالت عائشة وما هذا فقال أبو بكر الحي أحوج إلى الجديد من الميت وإنما هو للمهلة (2)
وروى سفيان عن هشام عن عروة عن عائشة أن أبا بكر سألها في كم كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت في ثلاثة أثواب سحولية قال فكفنوني في ثلاثة أثواب
قال سفيان وأخبرنا عمرو بن دينار عن عبد الله بن أبي مليكة أن أبا بكر الصديق قال لعائشة اغسلوا ثوبي هذين (وكانا مشقين) فكفنوني فيهما وابتاعوا لي ثوبا ولا يغلو عليكم فقالت عائشة إنا موسرون فقال يا بنية الحي أحق بالجديد من الميت وإنما هو للمهل والصديد وأوصى أسماء وكانت صائمة أن تفطر
في هذا الحديث من الفقه ما لم يتقدم في الحديث الذي قبله سؤال العالم كل من كان عنده علم غاب عنه أو نسيه كان مثله في العلم أو دونه
وهذا الخبر يدل على ما أجمعوا عليه من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يل غسله وتكفينه إلا أهله والعباس وعلي والفضل بن عباس ولكن ذلك كان في بيت عائشة فلم تجهل ذلك ولذلك سألها أبوها أبو بكر - رضي الله عنهما - عن ذلك
وفيه الكفن في ثلاثة أثواب وذلك استحباب لا استيجاب
وفيه غسل ثياب الأكفان وتنظيفها
وفيه أنه لا بأس بالكفن البالي وأنه والجديد في الفضل سواء
وفيه التأديب للبنين وتعليمهم ما يحيطون به دينهم وأموالهم وكذلك قال لهم الحي أحوج إلى الجديد من الميت
وهو من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن النبي - عليه السلام - أنه
18

قال لا تغالوا في الكفن فإنه يسلب سريعا (1) وإلى هذا ذهب أبو بكر والله أعلم
وليس في هذا كله دفع لحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه (2) ولا ما يعارضه لأنه يحتمل حديث جابر هذا هيئة التكفين بدليل قوله إن الله عز وجل يحب من عبده إذا عمل عملا أن يتقنه ويحسنه على أن من كفن أخاه في ثوب نقي أبيض أو ثياب بيض فقد أحسن والبالي والجديد في ذلك سواء والله أعلم
وأما قوله كفنوني في ثوبين مع ثوبي هذا فإنه أراد أن يكون كفنه وترا وهي السنة
قال إبراهيم النخعي غسل الميت وتر وكفنه وتر وتجميره وتر
وقوله فإنما هو للمهلة فإنه أراد الصديد ولا وجه لكسر الميم في المهلة غير ذلك وبضم الميم شبه الصديد بعكر الزيت وهو المهل والمهلة والرواية بكسر الميم
وقال عيسى بن دينار لا ينبغي لمن [لم] يجد أن ينقص الميت من ثلاثة أثواب يدرج فيها إدراجا لا يجعل له إزار ولا سراويل ولا عمامة ولكن يدرج كما أدرج النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينبغي أن يزاد الرجل على ثلاثة أثواب كذلك ينبغي لمن يجد أن لا ينقص المرأة عن خمسة أثواب درع وخمار وثلاث لفائف يخمر رأسها بالخمار وأما الدرع فيفتح في وسطه ثم تلبسه ولا يخاط من جوانبه وأحد اللفائف يلف على حجزتها وفخذيها حتى يستوي ذلك منها بسائر جسدها ثم تدرج في اللفافتين [الباقيتين] كما يدرج الرجل
قال عيسى والكفن من رأس المال يجبر الغرماء والورثة على ثلاثة أثواب من رأس مال الميت تكون وسطا
قال أبو عمر قول عيسى في هذا الباب كله حسن وجمهور الفقهاء على أن الكفن من رأس المال ومن قال إنه من الثلث فليس بشيء لأن مصعب بن عمير لم يترك إلا نمرة قصيرة كفنه فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلتفت إلى غريم ولا وارث
19

وقد أجمع العلماء على كراهية الخز والحرير للرجال في الكفن ومنهم من كرهه للرجال والنساء في الكفن خاصة
وأجمعوا على أنه لا يكفن في ثوب يصف والمصبوغ كله غيره أفضل منه وبعد هذا فما كفن فيه الميت مما يستر عورته ويواريه أجزأه وبالله تعالى التوفيق
((3 - باب المشي أمام الجنازة))
487 - مالك عن بن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يمشون أمام الجنازة
لم يختلف أصحاب مالك في إرسال هذا الحديث عنه عن بن شهاب
ولم يختلف أصحاب بن عيينة عليه في توصيله مسندا رووه عنه عن الزهري عن سالم عن أبيه
وقد تابعه بن أخي الزهري وغيره
واختلف فيه سائر أصحاب بن شهاب على ما ذكرناه في التمهيد والحمد لله
وأردف مالك هذا الحديث بحديثه عن محمد بن المنكدر عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير أنه أخبره أنه رأى عمر بن الخطاب يقدم الناس أمام الجنازة في جنازة زينب بنت جحش
وعن هشام بن عروة أنه قال ما رأيت أبي قط في جنازة إلا أمامها قال ثم يأتي البقيع فيجلس حتى يمروا عليه
وعن بن شهاب أنه قال المشي خلف الجنازة من خطأ السنة
فأورد مالك في هذا الباب السنة وعمل الخلفاء بذلك ومن بعدهم واشتهار ذلك بالمدينة عندهم حتى جعله بن شهاب مع علمه بآثار من مضى سنة مسنونة وجعل ما خالفها خطأ
وهذا كله خلاف ما ذهب إليه أهل العراق من الكوفيين وغيرهم فأجازوا المشي خلفها وعن يمينها وعن يسارها وأمامها
واختلف العلماء في الأفضل من ذلك فقال مالك بن أنس والليث بن سعد والشافعي وأصحابهم السنة
20

المشي أمام الجنازة وهو الأفضل وبه قال أحمد بن حنبل
وقال الثوري لا بأس بالمشي بين يديها وخلفها وعن يمينها وشمالها إلا أن المشي عندهم خلفها أفضل
وحجة هؤلاء ومن قال بقولهم حديث علي من رواية عبد الرحمن بن أبزى قال كنت أمشي مع علي في جنازة وهو آخذ بيدي وهو يمشي خلفها وأبو بكر وعمر يمشيان أمامها فقلت له في ذلك فقال إن فضل الماشي خلفها على الماشي أمامها كفضل صلاة المكتوبة على صلاة النافلة وإنهما ليعلمان ذلك ولكنهما يسهلان على الناس
وقد ذكرنا إسناده في التمهيد من حديث عبد الرزاق وغيره عن الثوري
قال عبد الرزاق وبه يأخذ الثوري
وروى أبو سعيد الخدري عن علي مثله بمعناه وزاد قال لي علي يا أبا سعيد إذا شهدت جنازة فقدمها بين يديك واجعلها نصب عينيك فإنما هي موعظة وتذكرة وعبرة
ومن حديث بن مسعود أنه كان يقول سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السير بالجنازة فقال الجنازة متبوعة وليست بتابعة وليس معها من تقدمها (1)
ومن حديث المغيرة بن شعبة عن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال الراكب يسير خلف الجنازة والماشي يمشي خلفها وأمامها وعن يمينها ويسارها قريبا منها (2)
ومن حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال امشوا خلف الجنازة
فهذا ما جاء من الآثار المرفوعة في هذا الباب وهي كلها أحاديث كوفية لا
21

تقوم بأسانيدها حجة وقد ذكرناها بأسانيدها وعللها في التمهيد
وروي عن أنس بن مالك ومعاوية بن قرة وسعيد بن جبير أنهم كانوا يمشون خلف الجنازة
وروي عن نافع مولى بن عمر أنه قال قلت لابن عمر كيف المشي في الجنازة فقال أما تراني أمشي خلفها
فهذا يعارضه حديث بن شهاب المذكور في هذا الباب وحديث أهل المدينة أثبت والله أعلم
وأما الصحابة - رضي الله عنهم - فروي عن عثمان وطلحة والزبير وبن عباس وأبي هريرة والحسن بن علي وبن الزبير وأبي أسيد الساعدي وأبي قتادة الأنصاري أنهم كانوا يمشون أمام الجنازة
وروى بن وهب عن يحيى بن أيوب عن يعقوب بن إبراهيم عن محمد بن المنكدر قال ما رأيت أحدا ممن أدركت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهم يمشون أمام الجنازة حتى أن بعضهم لينادي بعضا ليرجع إليهم
ذكر بن المبارك عن موسى الجهني قال سألت عبد الرحمن بن أبي ليلى عن المشي بين يدي الجنازة فقال كنا نمشي بين يدي الجنازة مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يرون بذلك بأسا
وأما التابعون فروي عن السائب بن يزيد وعبيد بن عمير وشريح القاضي والأسود بن يزيد وسالم بن عبد الله والقاسم بن محمد وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وسليمان بن يسار وسائر الفقهاء السبعة المدنيين وبشر بن سعيد وعطاء بن يسار وبن شهاب وربيعة وأبي الزناد أنهم كانوا يمشون أمام الجنازة
وذكر هشيم عن مغيرة عن إبراهيم أنه قال لأبي وائل أكان أصحابك يمشون أمام الجنازة قال نعم
قال أبو عمر المشي أمام الجنازة أكثر عن العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين وهو مذهب الحجازيين وهو الأفضل إن شاء الله ولا بأس عندي بالمشي خلفها وحيث شاء الماشي منها لأن الله عز وجل لم يحظر ذلك ولا رسوله ولا أعلم أحدا من العلماء كره ذلك ولا ذكر أن مشي الماشي خلف الجنازة يحبط أجره فيها ويكون كمن لم يشهدها وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من شيع جنازة
22

وصلى عليها كان له قيراط من الأجر ومن قعد حتى تدفن كان له قيراطان والقيراط كأحد (1) ولم يخص الماشي خلفها من الماشي أمامها
ومن عمل العلماء بالعراق والحجاز قرنا بعد قرن مما ذكرنا عنهم ما يدل على قولنا وبالله توفيقنا
ومن استحب المشي أمامها فإنما ذلك عنده على الرجال لا على النساء
روي أشهب عن مالك أنه سأله عن قول بن شهاب المشي خلف الجنازة من خطأ السنة أذاك على الرجال والنساء فقال إنما ذلك للرجال وكره أن يتقدم النساء أمام النعش أو أمام الرجال
قال أبو عمر قد كره جماعة من العلماء شهود النساء الجنائز على كل حال وقد ذكرنا اختلاف العلماء في ذلك ووجوه أقوالهم في التمهيد والحمد لله
وأما قوله في الحديث كانوا يمشون أمام الجنازة دليل على أن الأغلب من العمل في ذلك المشي لا الركوب وكذلك ينبغي لكل مستطيع على المشي مع الجنازة أن يمشي معها ولا يركب إلا من عذر
قال بن شهاب ما ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة قط
وروي عن ثوبان أنه رأى قوما يركبون في جنازة فقال أما يستحيون أن الملائكة لتمشي وأنتم على ظهور الدواب
وعن بن عباس الراكب مع الجنازة كالجالس في بيته إلا أن تكون به علة
وعن عبد الله بن رباح قال للماشي قيراطان وللراكب قيراط
قال أبو عمر ليس الركوب بمحظور ولكن المشي لمن قدر عليه أفضل إن شاء الله والدليل على جواز الركوب - وإن كانت السنة المشي كالجمعة والعيدين - حديث
المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الراكب يسير خلف الجنازة (2) الحديث
حدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سليمان وسفيان قالوا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا وكيع عن سعيد بن عبيد عن زياد بن جبير عن أبيه عن المغيرة بن شعبة قال قال رسول الله
23

صلى الله عليه وسلم الراكب يسير خلف الجنازة والماشي يمشي منها حيث شاء
((4 - باب النهي عن أن تتبع الجنازة بنار))
488 - مالك عن هشام بن عروة عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت لأهلها أجمروا (1) ثيابي إذا مت ثم حنطوني (2) ولا تذروا على كفني حناطا ولا تتبعوني بنار
قال أبو عمر روي عن عائشة أنها أوصت لا تتبعوا جنازتي بمجمر فيه نار
وقول عائشة مع قول أختها أسماء يدل على أنه لا بأس بتجمير ثياب الميت وأنه لا يجوز أن تتبع الجنازة بمجمر فيه نار
489 - مالك عن سعيد المقبري عن أبي هريرة انه نهى أن يتبع بعد موته بنار
وكان مالك يكره ذلك
قال أبو عمر قد روي حديث أبي هريرة مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تتبع الجنازة بصوت ولا نار (3)
ولا أعلم بين العلماء خلافا في كراهة ذلك
وروينا عن أبي سعيد الخدري وعمران بن حصين وأبي هريرة أنهم وصوا بأن لا يتبعوا بنار ولا نائحة ولا يجعل على قطيفة حمراء
وأظن اتباع الجنائز بالنار كان من أفعالهم بالجاهلية نسخ بالإسلام والله أعلم وهو من فعل النصارى ولا ينبغي أن يتشبه بأفعالهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم إن اليهود والنصارى لا يصبغون أو قال لا يخضبون فخالفوهم
وقال بعض العلماء لا تجعلوا آخر زادي إلى قبري نارا
وفيما ذكرنا من إجماع العلماء فيه شفاء إن شاء الله
24

وأما قول أسماء أجمروا ثيابي فهي السنة أن تجمر ثياب الميت وكان بن عمر يجمرها وترا
وقد أجمعوا على الكافور في حنوط الميت وقد أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في غسل ابنته وأكثرهم يجيز فيه المسك وكره ذلك قوم والحجة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب الطيب المسك (1)
وكان بن عمر يتبع مغابن الميت بالمسك وقال هو أطيب طيبكم
وقال مالك لا بأس بالمسك والعنبر في الحنوط
قال بن القاسم يجعل الحنوط على جسد الميت وفيما بين الأكفان ولا يجعل من فوقه
وقال إبراهيم النخعي يضع الحنوط على أعضاء السجود وجبهته وأنفه وركبتيه وصدور قدميه
وقال أبو يوسف أجمع أصحابنا أن يوضع الحنوط في رأسه ولحيته ويوضع الكافور على مواضع السجود
وقال الشافعي يحنط رأسه ولحيته ويرد الكافور على جميع جسده وثوبه الذي يدرج فيه أحب ذلك له هو
قال المزني لا خلاف بين العلماء أنه يوضع الحنوط على مواضع السجود فإن فضل فرأسه ولحيته مع مساجده فإن فضل فمغابنه فإن اتسع الحنوط فحكم جميع جسده في القياس واحد إلا ما كان من عورته التي كان يسترها في حياته وإن عجز الكافور استعين بالذريرة ويسحق معها حتى يأتي على جميعه
((5 - باب التكبير على الجنائز))
490 - مالك عن بن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن
25

رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي للناس في اليوم الذي مات فيه وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر أربع تكبيرات
قد ذكرنا اسم النجاشي في التمهيد
وفي هذا الحديث علم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم كبير وذلك أنه علم بموته في اليوم الذي مات فيه على بعد ما بين الحجاز وأرض الحبشة ونعاه للناس في ذلك اليوم
وكان ذلك فيما قال الواقدي وغيره من أهل السير في رجب سنة تسع من الهجرة
وفيه إباحة الإشعار بالجنازة والإعلام بها ليجتمع إلى الصلاة عليها وفي ذلك رد قول من تأول نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النعي أنه الإعلام بموت الميت للاجتماع إلى جنازته
روي عن بن مسعود أنه قال لا تؤذنوا بي أحدا فإني أخشى أن يكون كنعي الجاهلية
وعن سعيد بن المسيب أنه قال إذا أنا مت فلا تقولوا للناس مات سعيد حسبي من يبلغني إلى ربي
وروي ذلك عن بن مسعود قال حسبي من يبلغني إلى حفرتي
وعن علقمة أنه قال لا تؤذنوا بي أحدا فإن ذلك من النعي والنعي من أمر الجاهلية
وروي عن طائفة من السلف مثل ذلك قد ذكرتهم والأخبار عنهم في التمهيد
وروي عن بن عون قال قلت لإبراهيم أكان النعي يكره قال نعم قال وكان النعي أن الرجل يركب الدابة فيطوف ويقول أنعي فلانا
قال بن عون وذكرنا عند بن سيرين أن شريحا قال لا تؤذنوا لجنازتي أحدا فقال إن شريحا كان يكتفي بذكره
ولا أعلم بأسا أن يؤذن الرجل صديقه حميمة
وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلى على جنازة كان له من الأجر كذا وقوله عليه السلام لا يموت أحد من المسلمين فتصلي عليه أمة من الناس يبلغون ان يكونوا مائة فيشفعون له إلا شفعوا فيه (1) وعنه عليه السلام ما من مسلم يصلي عليه ثلاثة
26

صفوف من المسلمين إلا أوجب (1) دليل على إباحة الإنذار والإشعار بالجنازة والاستكثار من ذلك للدعاء وإقامة السنة في الصلاة عليها
وقد أجمعوا أن شهود الجنائز خير وفضل وعمل بر وأجمعوا أن الدعاء إلى الخير من الخير وكان أبو هريرة يمر بالمجالس فيقول إن أخاكم قد مات فاشهدوا جنازته
فإن قيل إن بن عمر كان إذا مات له ميت تحين غفلة الناس ثم خرج بجنازته قيل قد روى عنه خلاف ذلك في جنازة رافع بن خديج لما نعي له قال كيف تريدون أن تصنعوا له قالوا نحبسه حتى نرسل إلى قباء وإلى قريات حول المدينة ليشهدوا جنازته قال نعم ما رأيتم
وفيه الخروج بالجنازة إلى المصلى وأن ذلك من سنة الصلاة عليها أن يخرج بها ليصلى عليها ويجتمع عليها
وفيه الصلاة على الغائب وأكثر أهل العلم يقولون إن ذلك خصوص للنبي صلى الله عليه وسلم وأجاز بعضهم الصلاة على الغائب إذا كان في اليوم الذي دفن فيه أو قرب ذلك
ودلائل الخصوص في هذه المسألة واضحة لا يجوز أن يستدل فيها مع النبي صلى الله عليه وسلم غيره لأنه - والله أعلم - أحضر روح النجاشي بين يديه فصلى عليه أو رفعت له جنازته كما كشف له عن بيت المقدس حين سألته قريش عن صفته
وروي أن جبريل - عليه السلام - أتاه بروح جعفر أو بجنازته وقال قم فصل عليه
وهذا كله وما كان مثله يدل على أنه خصوص له لأنه لا يشركه في ذلك غيره
وفيه الصف على الجنائز ولأن تكون صفوفا أولى من صف واحد فيه طول لحديث مالك بن هبيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من مسلم يصلي عليه ثلاثة صفوف من المسلمين إلا أوجب (2)
وقد روي عن مالك أن الجنائز إذا اجتمعت جعلت واحدة وراء واحدة
وروي عنه أنها تجعل صفا واحدا ويقوم الإمام وسط الصف بعضهم عن يمينه وبعضهم عن يساره وبعضهم أمامه
27

وروي عنه أنه استحب أن يكونوا سطرا واحدا ويكون أهل الفضل مما يلي الإمام
قال أبو عمر ذلك كله واسع عند أصحابه وقد رويت هذه الوجوه كلها عن السلف رحمهم الله
وفيه أن النجاشي ملك الحبشة مات مسلما ولولا ذلك ما صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم على جنازته
ذكر بن المبارك عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن رجل من أهل صنعاء قال أرسل النجاشي إلى جعفر بن أبي طالب وأصحابه فدخلوا عليه وهو جالس في بيت على التراب وعليه خلقان فأنكرنا ذلك من حاله فلما رأى ما في وجوهنا قال إني أنشدكم بما يسركم أنه جاءني من نحو أرضكم عين لي فأخبرني أن الله عز وجل قد نصر نبيه صلى الله عليه وسلم وأهلك عدوه وقتل فلان وفلان وأسر فلان وفلان التقوا بواد يقال له بدر كثير الأراك كأني أنظر إليه لأني كنت أرعى فيه إبلا لسيدي
قال جعفر قلت له ما بالك جالس على التراب ليس تحتك بساط وعليك هذه الأخلاق فقال إنا نجد فيما أنزل الله على عيسى صلى الله عليه وسلم أن حقا على عباد الله أن يحدثوا لله عز وجل تواضعا عند كل ما يحدث لهم من نعمة فلما أحدث الله لنا نصر نبينا - عليه السلام - أحدثت له هذا التواضع
وقد ذكرنا في التمهيد حديث حميد عن أنس قال لما جاءت وفاة النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه صلوا عليه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقمنا معه وصلى عليه فقالوا صلى على علج مات فنزلت * (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم) * [آل عمران 199]
وذكرنا في التمهيد أيضا حديث عطاء عن جابر قال لما مات النجاشي قال النبي صلى الله عليه وسلم مات اليوم عبد صالح فقوموا فصلوا على أصحمة فكنت في الصف الأول أو الثاني
وحديث عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم إن أخاكم النجاشي قد مات فصلوا عليه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفنا خلفه فكبر عليه أربعا وما نحسب الجنازة إلا بين يديه
وذكر سنيد عن حجاج عن بن جريج قال لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي طعن في ذلك المنافقون فنزلت هذه الآية * (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله) * [آل عمران
28

وعبد الرزاق عن معمر عن قتادة مثله
وفي صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي إذ لم يصل عليه أحد من قومه وأمره صلى الله عليه وسلم أصحابه بالصلاة عليه معه دليل واضح على تأكيد الصلاة على الجنائز وعلى أنه لا يجوز أن تترك الصلاة على مسلم مات ولا يجوز دفنه دون أن يصلى عليه لمن قدر على ذلك
وعلى هذا جمهور علماء المسلمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من فقهاء الأمصار إلا أنهم اختلفوا في الصلاة على الشهداء وعلى البغاة وعلى أهل الأهواء لمعان مختلفة متباينة على ما نذكره في موضعه إن شاء الله
وأجمع المسلمون على أنه لا يجوز ترك الصلاة على المسلمين المذنبين من أجل ذنوبهم وإن كانوا أصحاب كبائر
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال صلوا على كل من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وإن كان في إسناده ضعف فما ذكرنا من الإجماع يشهد له ويصححه
حدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن قال حدثنا محمد بن القاسم بن شعبان قال حدثنا عيسى بن أحمد بن يحيى قال حدثنا نصر بن مروان بن مرزوق قال حدثنا جعفر بن هارون الكوفي أبو محمد قال حدثنا محمد بن الفضل بن عطية عن سالم الأفطس عن عطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صلوا خلف من قال لا إله إلا الله وصلوا على من قال لا إله إلا الله
وقال طلحة بن عمرو قلت لعطاء وامرأة حبلى من زنا ماتت من النفاس ورجل غرق سكرانا فماتا أأصلي عليهما قال نعم قلت لم ولم يستحدثا توبة قال إن لهما حقوقهما بشهادة أن لا إله إلا الله وحسابهما على الله ألم تسمع إلى ما حكاه الله عن العبد الصالح * (قال وما علمي بما كانوا يعملون إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون) * [الشعراء 112 113]
قال أبو عمر قوله (إن لهما حقوقهما) يوضح أن الصلاة على موتى المسلمين حق لهم على الأحياء
واختلف العلماء في تسمية وجوب الصلاة على الجنائز فقال أكثرهم هي فرض على الكفاية يسقط وجوبها بمن حضرها عن من لم يحضرها وقال بعضهم هي سنة واجبة على الكفاية
وفيه أن التكبير على الجنازة أربع لا غير وهو الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من أخبار
29

الآحاد الثقات منها حديث مالك هذا في الصلاة على النجاشي رواه جماعة أصحاب بن شهاب عنه بإسناد مالك ومعناه
ومنها أنه صلى على قبر مسكينة فكبر أربعا
ومنها أنه كبر على جنازة صلى عليها أربعا
وقد ذكرنا الأسانيد بذلك كله في التمهيد
وحديث زيد بن أرقم أنه كبر خمسا يدل على أن أكثر ما كان منه أربعا
قال أبو عمر اختلف السلف من الصحابة - رضي الله عنهم - في التكبير على الجنازة من ثلاث تكبيرات إلى سبع
وقد ذكرنا ذلك بالأسانيد عنهم في التمهيد وقد
حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا عبد الرحيم بن إبراهيم دحيم قال حدثنا مروان بن معاوية الفزاري قال حدثنا عبد الله بن الحارث عن أبي بكر بن سليمان بن أبي خيثمة عن أبيه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبر على الجنائز أربعا وخمسا وستا وسبعا وثمانيا حتى جاء موت النجاشي فخرج إلى المصلى فصف الناس وراءه وكبر عليه أربعا ثم ثبت النبي - عليه السلام - على أربع حتى توفاه الله عز وجل
قال أبو عمر اتفق الفقهاء أهل الفتوى بالأمصار على أن التكبير على الجنائز أربع لا زيادة على ما جاء في الآثار المسندة من نقل الآحاد الثقات وما سوى ذلك عندهم شذوذ لا يلتفت إليه اليوم ولا يعرج عليه
فإذا كان السلف في مسألة على قولين أو أكثر ثم أجمع أهل عصر في آفاق المسلمين بعدهم على قول من أقاويلهم وجب الاحتمال عليه والوقوف عنده والرجوع إليه
وهذه مسألة من مسائل الأصول ليس هذا موضع ذكر الحجة لها
واختلف الفقهاء في الإمام يكبر على الجنازة خمسا
فروى بن القاسم وبن وهب عن مالك لا يكبر معه الخامسة ولكنه لا يسلم إلا بسلامه
وقال الحسن بن حي وعبيد الله بن الحسن نحو ذلك
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إذا كبر الإمام خمسا قطع المأمومون بعد الأربع بسلام ولم ينتظروا تسليمه
30

وقد قال بذلك بعض أصحاب مالك
وقال زفر التكبير على الجنائز أربع فإن كبر الإمام خمسا فكبر معه
وهو قول أحمد بن حنبل يكبر ما كبر إمامه على ما روى بن مسعود كبر ما كبر إمامك
وروي عن الثوري رواية مثل قول زفر
وروي عنه مثل قول أبي حنيفة
وروي عنه أنه قد رجع إلى قول زفر
[قال الشافعي لا يكبر إلا أربعا فإن كبر الإمام خمسا فالمأموم بالخيار إن شاء سلم وقطع وإن شاء انتظر تسليم إمامه
قال أبو عمر لا نعلم من فقهاء الأمصار أحدا قال يكبر الإمام خمسا إلا بن [أبي] ليلى فإنه قال يكبر الإمام خمسا على حديث زيد بن أرقم عن النبي صلى الله عليه وسلم
وهو قول زيد بن أرقم وحذيفة بن اليمان وعلي بن أبي طالب إلا أن عليا كان يكبر على أهل بدر ستا وربما كبر خمسا ويكبر على سائر الناس أربعا
وقد ذكرنا أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يختلفون في التكبير على الجنائز من سبع إلى ثلاث
وقد روي عن بعضهم تسع تكبيرات ثم انعقد الإجماع بعد ذلك على أربع]
قال أبو عمر روى بن حبيب في واضحته عن مطرف عن مالك عن بن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي للناس في اليوم الذي مات فيه وكبر أربع تكبيرات وسلم (1)
وهذا غير معروف في هذا الحديث عن مالك من رواية مطرف وغيره وإنما أخذ الحديث من أصحاب بن شهاب مالك وغيره وكبر أربع تكبيرات ولم يذكر فيه أحد السلام غير بن حبيب
إلا أنه لا خلاف علمته بين العلماء والصحابة والتابعين ومن بعدهم من الفقهاء في السلام على الجنازة وإنما اختلفوا هل هي واحدة أو اثنتان
31

فجمهور أهل العلم من السلف والخلف على تسليمة واحدة وهو أحد قولي الشافعي
وقالت طائفة منهم أبو حنيفة وأصحابه يسلم تسليمتين
وهو قول الشعبي ورواية عن النخعي واختاره المزني قياسا على الصلاة لأنه لم يختلف قول الشافعي في تسليمتين من الصلاة واختلف قوله في التسليم من الجنازة فمرة قال واحدة ومرة قال اثنتين
قال أبو عمر إنما جعل المزني ما لم يختلف فيه قول الشافعي حجة على ما اختلف فيه قوله ولم يجمعوا على التسليمتين في الصلوات المكتوبات فيصح القياس عليها لأن من سلم في الصلاة المكتوبة واحدة فقياسه أيضا أن يسلم في الصلاة على الجنازة واحدة
وقد احتج بعض القائلين بالتسليمة الواحدة أن المسلمين قد أجمعوا عليها واختلفوا في الثانية فلا تثبت سنة مع الاختلاف
وممن رويت عنه تسليمة واحدة في الجنازة عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وأبو هريرة وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك وبن أبي أوفى وواثلة بن الأسقع وجماعة من التابعين منهم سعيد بن جبير وعطاء وجابر بن زيد وبن سيرين والحسن البصري ومكحول ورواية عن إبراهيم ذكرها عبد الرزاق عن الثوري عن منصور عن إبراهيم قال الإمام يسلم واحدة خفيفة
وسنذكر الجهر بالسلام في الجنازة والإخفاء في باب جامع الصلاة على الجنائز إن شاء الله
وذلك عند مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا صلى على الجنازة يسلم حتى يسمع من يليه
قال أبو عمر السنة عندنا أن يسلم الإمام على الجنازة إذا كبر الرابعة ويسلم من سلامه وهو قول مالك وجمهور الفقهاء وقد روي عن مالك أنه قال لا بأس بتتميم الدعاء له بعد الرابعة والأول عليه الناس وبالله التوفيق
491 - مالك عن بن شهاب عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أنه أخبره
32

أن مسكينة مرضت فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرضها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود المساكين ويسأل عنهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ماتت فآذنوني بها (1) فخرج بجنازتها ليلا وكرهوا أن يوقظوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بالذي كان من شأنها فقال ألم آمركم أن تؤذنوني بها فقالوا يا رسول الله كرهنا أن نخرجك ليلا ونوقظك فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صف بالناس على قبرها وكبر أربع تكبيرات
قال أبو عمر وصل هذا الحديث سفيان بن حسين عن الزهري عن أبي أمامة بن سهل بن [حنيف] عن أبيه ولم يختلف على مالك في إرساله في الموطأ
وهذا حديث مسند متصل من وجوه قد ذكرت أكثرها في التمهيد
وفيه من الفقه عيادة المريض وعيادة الرجال النساء المتجالات وعيادة الأشراف والخلفاء المهتدين بهدي الأنبياء للفقراء وما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من التواضع في عيادة الفقراء والمساكين
وفيه الأسوة الحسنة صلى الله عليه وسلم
وفيه جواز الإذن بالجنازة لقوله ألم آمركم أن تؤذنوني بها وذلك يرد قول من كره الإذن بالجنازة فاستحب أن لا يؤذن به أحد ولا يشعر بجنازته جار ولا غيره
وقد ذكرنا في التمهيد جماعة ذهبوا إلى ذلك من السلف والحجة في السنة لا فيما خالفها
وفيه أن عصيان الإنسان لأميره سلطانا كان أو غيره إذا أراد بعصيانه بره وتعظيمه وإكرامه أن ذلك لا يعد عليه ذنبا
وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا ينتقم ممن يعصيه إلا أن ينتهك حرمة من حرمات الله سبحانه فينتقم لله بها كما قالت عائشة - رضي الله عنها - وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعلم ما غاب عنه إلا أن يطلعه الله عليه
وفيه الدفن بالليل
وفيه الصلاة على القبر لمن لم يصل على الجنازة وهذا عند كل من أجازه ورآه وإنما هو بقرب ذلك على ما جاءت به الآثار عن السلف - رحمهم الله - في مثل ذلك
33

وفيه أن التكبير على الجنائز أربع تكبيرات
وفيه أن الصلاة على القبر كالصلاة على الجنازة سواء
واختلف الفقهاء فيمن فاتته الصلاة على الجنازة فجاء وقد فرغ من الصلاة عليها أو جاء وقد دفنت
فقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما لا تعاد الصلاة على الجنازة ومن لم يدرك الصلاة مع الناس عليها لم يصل عليها ولا على القبر
وهو قول الثوري والأوزاعي والحسن بن صالح بن حي والليث بن سعد
قال بن القاسم قلت لمالك فالحديث الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى على قبر امرأة قال قد جاء هذا الحديث وليس عليه العمل
قال أبو عمر ما رواه بن القاسم عن مالك في أنه لا يصلى على القبر هو تحصيل مذهبه عند أكثر أصحابه
وذكر عبد الرزاق عن معمر قال كان الحسن إذا فاتته الصلاة على الجنازة لم يصل عليها
وكان قتادة يصلي عليها
وكان بن عمر إذا انتهى إلى جنازة قد صلي عليها دعا وانصرف
وقال الشافعي وأصحابه من فاتته الصلاة على الجنازة صلى على القبر إن شاء
وهو رأي عبد الله بن وهب صاحب مالك وبه يقول محمد بن عبد الله بن عبد الحكم وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود بن علي وسائر أصحاب الحديث
وقال أحمد بن حنبل رويت الصلاة على القبر عن النبي - عليه السلام - من ستة وجوه حسان كلها
قال أبو عمر قد ذكرتها كلها بالأسانيد الجياد في التمهيد وذكرت أيضا ثلاثة أوجه حسان مسندة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فتمت تسعة
وعن علي بن أبي طالب وقرظة بن كعب وبن مسعود وعائشة أم المؤمنين وأنس بن مالك وسلمان بن ربيعة وأبي موسى الأشعري أنهم أجازوا الصلاة على القبر وصلوا عليه
وقد ذكرنا ذلك عنهم بالأسانيد
34

ومن التابعين محمد بن سيرين وقتادة وأبو جمرة الضبعي
وذكر الزبير بن بكار قال حدثنا يحيى بن محمد قال توفي الزبير بن هشام بن عروة بالعقيق في حياة أبيه فصلي عليه بالعقيق وأرسل إليه بالمدينة ليصلى عليه في البقيع ويدفن في البقيع
قال أبو عمر أجمع العلماء الذين رأوا الصلاة علي القبر جائزة أنه لا يصلى على قبر إلا بقرب ما يدفن وأكثر ما قالوا في ذلك شهر
وقال أبو حنيفة وأصحابه لا يصلى على جنازة مرتين إلا أن يكون الذي صلى عليها غير وليها فيعيد وليها الصلاة عليها إن كانت لم تدفن وإن كانت قد دفنت أعادها على القبر
وقال عيسى بن دينار فقيه أهل بلدنا من دفن ولم يصل عليه من قتيل أو ميت فإني أرى أن يصلي على قبره
قال وقد بلغني ذلك عن عبد العزيز بن أبي سلمة
وقد روى بن وهب عن مالك قال من فاتته الصلاة على الجنازة فليصل على القبر إذا كان قريبا اليوم والليلة كما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على قبر المسكينة
وقال عبد الملك بن حبيب فيمن نسي أن يصلى عليه حتى دفن أو فيمن دفنه يهودي أو نصراني دون أن يدفن ويصلى عليه ثم خشي عليه التغيير أنه يصلى على قبره وإن لم يخف عليه التغيير نبش وغسل وصلي عليه إن كان بحدثان ذلك
وقال يحيى بن معين قلت ليحيى بن سعيد ترى الصلاة على القبر قال لا ولا أرى على من صلى عليه شيئا وليس الناس على هذا اليوم وأنا أكره شيئا يخالف الناس
قال أبو عمر من صلى على قبر أو جنازة قد صلي عليها فمباح ذلك له لأن الله لم ينه عنه ولا رسوله ولا اتفق الجميع على كراهيته بل الآثار المسندة تجيز ذلك وعن جماعة من الصحابة إجازة ذلك وفعل الخير يجب ألا يمنع عنه إلا بدليل لا معارض له وبالله التوفيق
وذكر مالك آخر هذا الباب أنه سأل بن شهاب عن الرجل يدرك بعض التكبير على الجنازة ويفوته بعضه فقال يقضي ما فاته من ذلك
قال أبو عمر اختلف الفقهاء في الذي يفوته بعض التكبير على الجنائز هل يحرم في حين دخوله أو ينتظر تكبير إمامه
35

فروى أشهب عن مالك أنه يكبر ولا ينتظر الإمام ليكبر بتكبيره
وهو أحد قولي الشافعي رواه المزني
وبه قال الليث والأوزاعي وأبو يوسف
وقال أبو حنيفة ومحمد ينتظر الإمام حتى يكبر فيكبر بتكبيره فإذا سلم الإمام قضى ما عليه
ورواه بن القاسم عن مالك والبويطي عن الشافعي
واحتج بعض من قال هذا القول بقوله - عليه السلام - ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا (1)
وروي فاقضوا
إلا أنهم يقولون إذا كبر الإمام خمسا فلا يقضي إلا أربعا
والحجة لرواية أشهب والمزني عن الشافعي أن التكبيرة الأولى بمنزلة الإحرام فينبغي أن يفعلها على كل حال ثم يقضي ما فاته بعد سلام إمامه لأن من فاتته ركعة من صلاته لم يقضها إلا بعد سلام إمامه
واختلفوا إذا رفعت الجنازة فقال مالك والثوري يقضي ما فاته تكبيرا متتابعا ولا يدعو فيما بين التكبير
وهو قول سعيد بن المسيب وبن سيرين والشعبي في رواية إبراهيم وحماد وعطاء في رواية بن جريج
ورواه البويطي عن الشافعي
وقال أبو حنيفة يقضي ما بقي عليه من التكبير إلا أنه قال يدعو للميت بين التكبير
ورواه المزني عن الشافعي
وعلى هذا جمهور العلماء بالعراق والحجاز في قضاء التكبير دون الدعاء لأن من قال تقضي تكبيرا متتابعا لا يدعو عنده بين التكبير
وقد ذكر بن شعبان عن مالك الوجهين قال قال مالك من فاته بعض التكبير
36

على الجنازة إن قضاه تسعا فحسن وإن دعا بين تكبيراته فحسن ومن استطاع الدعاء صنعه
قال بن شعبان يريد دعاء مخفيا
وذكر بن أبي شيبة قال حدثنا أبو أسامة عن هشام عن محمد بن سيرين قال يكبر ما أدرك ويقضي ما سبقه
وقال الحسن يكبر ما أدرك ولا يقضي ما سبقه
قال أبو عمر قد روي فيمن فاته بعض التكبير على الجنازة أنه لا يقضي عن بن عمر والحسن وربيعة والأوزاعي
ورواه جابر الجعفي عن عطاء والشعبي
وبه قال بن علية وقال لو كان التكبير يقضى ما رفع النعش حتى يقضي من فاته
قال ومن قال يقضي تكبيرا متتابعا ولا يقضي الدعاء فقد ترك ما يعلم من سنة الصلاة على الجنائز قال وإذا رفع الميت فلمن يدعي
قال أبو عمر ليس فيما ذكره بن علية مقنع من الحجة
((6 - باب ما يقول المصلي على الجنازة))
ليس فيه حديث مسند عنده
492 - مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه أنه سأل أبا هريرة كيف تصلي على الجنازة فقال أبو هريرة أنا لعمر الله أخبرك أتبعها (1) من أهلها فإذا وضعت كبرت وحمدت الله وصليت على نبيه ثم أقول اللهم إنه عبدك وبن عبدك وبن أمتك كان يشهد أن لا إله إلا أنت وأن محمدا عبدك ورسولك وأنت أعلم به اللهم إن كان محسنا فزد في إحسانه وإن كان مسيئا فتجاوز عن سيئاته اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده
في هذا الحديث جواب السائل على أكثر مما سأل عنه وذلك إذا أراد المسؤول تعليم ما يعلم أن به الحاجة إليه
37

وفيه قصد الجنازة إلى موضعها في حين حملها
وفيه أن الصلاة على الجنازة ليس فيها قراءة
وهذا موضع اختلف فيه العلماء سنبين ذلك بعد في هذا الباب إن شاء الله
وأما الدعاء فليس فيه شيء موقت عند أحد من العلماء
معنى قوله وزد في إحسانه والله أعلم يضاعف له الأجر فيما أحسن فيه ويتجاوز عن سيىء عمله
وفيه أن المصلي على الجنازة له أن يشرك نفسه في الدعاء بما شاء والله أعلم لقوله اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده
ومن الدعاء على الميت ما روى أبو هريرة قال كنا نقول على الجنازة اللهم [أنت] ربها وأنت خلقتها وأنت هديتها للإسلام وأنت قبضتها وأنت تعلم سرها وعلانيتها جئنا شفعاء لها فاغفر لها
وعن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أنه كان يقول اللهم هذا عبدك خرج من الدنيا ونزل بك أفقر ما كان إليك وأنت غني عنه كان يشهد أن لا إله إلا أنت وأن محمدا
عبدك ورسولك فاغفر له وتجاوز عنه فإنا لا نعلم منه إلا خيرا
وعن محمد بن سيرين وإبراهيم أنه كان من دعائهما على الميت الدعاء للمؤمنين والمؤمنات ثم يدعوان بنحو ما ذكرنا عن عمر وأبي هريرة
والدعاء للميت استغفار له ودعاء بما يحضر الداعي من القول الذي يرجو به الرحمة له والعفو عنه وليس فيه عند الجميع شيء موقت
493 - مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال سمعت سعيد بن المسيب يقول صليت وراء أبي هريرة علي صبي لم يعمل خطيئة قط فسمعته يقول اللهم أعذه من عذاب القبر
وفي هذا الحديث من الفقه الصلاة على الأطفال والسنة فيها كالصلاة على الرجال بعد أن يستهل الطفل
وعلى هذا جماعة الفقهاء وجمهور أهل العلم والاختلاف فيه شذوذ والشذوذ قول من قال لا يصلى على الأطفال وهو قول تعلق به بعض أهل البدع وللفقهاء قولان في الصلاة على الأطفال
38

قال أحدهم ما يصلى على السقط منهم وغير السقط
والثاني لا يصلى على الطفل حتى يستهل صارخا
والقول الذي تركه أهل الفتوى بالحجاز والعراق أن لا يصلى على الطفل
روي عن سمرة بن جندب وسعيد بن جبير وسويد بن غفلة
وممن قال لا يصلى عليه حتى يستهل صارخا الزهري وإبراهيم النخعي والحكم بن عيينة وحماد والشعبي ومالك والشافعي وسائر الفقهاء بالكوفة والحجاز
وممن قال يصلى على السقط وغيره أبو بكر الصديق وعبد الله بن عمر
وروي عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال في السقط يقع ميتا إذا تم خلقه ونفخ فيه الروح صلى عليه (1)
وهو قول بن أبي ليلى وبن سيرين
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث المغيرة بن شعبة أنه قال الطفل يصلى عليه
وهذا يحتمل أن يكون يصلى عليه إذا استهل
وذكر بن أبي شيبة قال حدثنا بن علية عن أيوب عن نافع عن بن عمر أنه صلى على سقط
وأما قوله لم يعمل خطيئة قط فمأخوذ من قول النبي صلى الله عليه وسلم رفع القلم عن ثلاثة (2) فذكر منهم الصبي حتى يحتلم
وقال عمر بن الخطاب الصغير تكتب له الحسنات ولا تكتب عليه السيئات
وسنبين هذا المعنى عند قوله صلى الله عليه وسلم في الصبي ألهذا حج قال نعم ولك أجر
وأما قوله في الصبي اللهم أعذه من عذاب القبر فيشهد له قول الله تعالى
39

* (فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) * [الفتح 14] ولو عذب الله عباده أجمعين كان غير ظالم لهم [كما أنه إذا هدى ووفق من شاء منهم وأضل وخذل من شاء منهم كان غير ظالم لهم] وإنما الظالم من فعل غير ما أمر به والله تعالى غير مأمور لا شريك [له]
وعذاب القبر غير فتنة القبر بدلائل واضحة من السنة الثابتة قد ذكرناها في غير هذا الموضع
وإذا دعي للصبي أن يعيذه الله من عذاب القبر فالكبير أولى بذلك
ومن الدعاء المحفوظ في الصلاة على الميت اللهم قه فتنة القبر وعذاب النار
494 - مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان لا يقرأ في الصلاة على الجنازة
واختلف العلماء في هذا المعنى
فروي عن بن عمر وأبي هريرة وفضالة بن عبيد أنهم كانوا لا يقرؤون في الصلاة على الجنازة
وروي عن بن عباس وعثمان بن حنيف وأبي أسامة بن سهل بن حنيف أنهم كانوا يقرؤون بفاتحة الكتاب على الجنازة
وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين بمكة والمدينة والبصرة كلهم كان يرى قراءة فاتحة الكتاب مرة واحدة في الصلاة على الجنازة في أول تكبيرة في الصلاة إلا ما رواه حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن أنه كان يقرأ في الصلاة على الميت في الثلاث تكبيرات بفاتحة الكتاب
وذكر بن أبي شيبة عن أزهر السمان عن بن عون قال كان الحسن يقرأ بفاتحة الكتاب في كل تكبيرة على الجنازة
واما اختلاف أئمة الفتوى بالأمصار في ذلك فقال مالك في الصلاة على الجنازة إنما هو الدعاء وإنما فاتحة الكتاب ليس بمعمول بها في بلدنا
وقال الثوري يستحب أن يقول في أول تكبيرة سبحانك اللهم وبحمدك
وهو قول الحسن بن حي قال الحسن بن حي ثم يصلي على النبي - عليه السلام - ثم يكبر الثانية ثم يدعو للميت ثم يكبر الثالثة ويدعو للميت ثم يكبر
40

الرابعة ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسلم عن يمينه ويساره
وقال أبو حنيفة وأصحابه يحمد الله ويثني عليه بعد التكبير ثم يكبر الثانية فيصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يكبر الثالثة فيشفع للميت ثم يكبر الرابعة ثم يسلم
وليس في الدعاء شيء موقت ولا يقرأ فيها
وقال الشافعي يكبر ثم يقرأ بفاتحة الكتاب ثم يكبر الثانية ثم يحمد الله ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو للمؤمنين والمؤمنات ثم يكبر الثالثة ويدعو للميت ثم يكبر الرابعة ويسلم
وقول أحمد بن حنبل كقول الشافعي وهو قول داود في قراءة فاتحة الكتاب
وذكر الطحاوي قال حدثنا إبراهيم بن أبي داود البرلسي قال حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف وكان من كبراء الأمصار وعلمائهم وأبناء الذين شهدوا بدرا وكان من الذين شهدوا بدرا مع النبي (عليه الصلاة والسلام) أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أخبره أن السنة على الجنازة في الصلاة أن يكبر الإمام ثم يقرأ فاتحة الكتاب سرا في نفسه ثم يختم الدعاء في التكبيرات الثلاث
قال بن شهاب فذكرت الذي أخبرني أبو أمامة من ذلك لمحمد بن سويد الفهري فقال وأنا سمعت الضحاك بن قيس يحدث عن حبيب بن مسلمة في الصلاة على الجنائز مثل الذي حدثك به أبو أمامة
وذكر عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن الزهري قال سمعت أبا أمامة بن سهل بن حنيف يحدث بن المسيب قال السنة في الصلاة على الجنائز أن يكبر ثم يقرأ بأم القرآن ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يخلص الدعاء للميت ولا يقرأ إلا في التكبيرة الأولى ثم يسلم في نفسه وعن يمينه
وروى الثوري وشعبة وإبراهيم بن سعد وجماعة عن سعد بن إبراهيم عن طلحة بن عبد الله بن عوف أنه أخبره قال صليت خلف بن عباس فقرأ بفاتحة الكتاب حتى أسمعنا فسألته عن ذلك فقال سنة وحق
وفي رواية بعضهم إنما جهرت لتعلموا أنها سنة
وروي من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى
وليس بثابت عن جابر
41

واحتج داود في هذا الباب بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب
وهي صلاة عند جميعهم لا تجوز إلى غير القبلة ولا بغير وضوء إلا الشعبي فإنه شذ فأجازها بغير وضوء وقال إنما هو دعاء ولم يتابع على ذلك
وممن رأى القراءة بفاتحة الكتاب في الصلاة على الجنازة الحسن بن علي وعبد الله بن مسعود ومكحول والضحاك بن مزاحم
ذكر ذلك كله أبو بكر بن أبي شيبة قال
وحدثنا عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عبيد بن السباق أنه حدثه أنه رأى سهل بن حنيف صلى على ميت فقرأ بفاتحة الكتاب في أول تكبيرة
وفيما أجاز لنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن العباس الإخميمي وكتب به إلينا قال حدثنا أبو جعفر الطحاوي قال حدثنا علي بن شيبة قال حدثنا روح بن عبادة قال حدثنا داود بن [] قال قلت لعبد الله بن عبيد بن عمير كيف كان شيخاك عبد الله بن الزبير وعبيد بن عمير يصليان على الجنائز قال كانا يقرآن بأم القرآن ويصليان على النبي صلى الله عليه وسلم ويستغفران للمؤمنين والمؤمنات ثم يقولان اللهم افسح له في قبره واعرج إليك بروحه وألحقه بنبيه واخلفه في عقبه بخير
وممن كان لا يقرأ في الصلاة على الجنازة ويقول ليس فيها قراءة وينكر القراءة فيها أبو العالية ومحمد بن سيرين وأبو بردة بن أبي موسى وعامر الشعبي وإبراهيم النخعي وبكر بن عبد الله المزني وميمون بن مهران وسالم بن عبد الله بن عمر وعطاء بن أبي رباح وطاوس اليماني
ذكر ذلك كله أبو بكر بن أبي شيبة عنهم بأسانيد جياد
((7 - باب الصلاة على الجنائز بعد الصبح إلى الإسفار وبعد العصر إلى الاصفرار))
495 - مالك عن محمد بن أبي حرملة مولى عبد الرحمن بن أبي
42

سفيان بن حويطب أن زينب بنت أبي سلمة توفيت وطارق أمير المدينة فأتي بجنازتها بعد صلاة الصبح فوضعت بالبقيع قال وكان طارق يغلس بالصبح (1)
قال بن أبي حرملة فسمعت عبد الله بن عمر يقول لأهلها إما أن تصلوا على جنازتكم الآن وإما أن تتركوها حتى ترتفع الشمس
قال أبو عمر أتيت بمعنى الحديث دون لفظه
وقد أوضحنا في التمهيد علة حديث مالك عن هشام بن عروة إذا بدا حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تبرز وأن هذه اللفظة حتى تبرز لا تصح لاضطراب الرواة فيها فمنهم من يقول حتى تشرق ومنهم من يقول حتى ترتفع وحتى تبيض
وهو الصحيح بدليل حديث مالك عن محمد بن أبي حرملة هذا من قول بن عمر وفعله
وهو حديث لم يضطرب رواته واضطربوا في حديث مالك عن هشام بن عروة عن أبيه على ما وصفت لك واختلفوا في إسناده وأصح ما فيه رواية مالك مرسلة
ويقضي على هذا كله حديث عمرو بن عنبسة وأبي أمامة والصنابحي وغيرهم أن الشمس تطلع مع قرن الشيطان فإذا ارتفعت فارقها
ولم يقل إذا برزت فارقها بل قد جاء في الأحاديث الثابتة حتى ترتفع وحتى تبيض وهذا يوضح لك أن معنى قوله في حديث هشام بن عروة عن أبيه حتى تبرز أي حتى
تبرز مرتفعة بيضاء وعلى هذا يصح استعمال الأحاديث كلها
496 - مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر قال يصلي على الجنازة بعد العصر وبعد الصبح إذا صليتا لوقتهما
وهذا باب اختلف العلماء فيه قديما وحديثا
وقد ذكرناه في كتاب الصلاة من كتابنا هذا مبسوطا والحمد لله
وأما اختلاف الفقهاء أئمة الفتوى في ذلك
فقال مالك في رواية بن القاسم عنه لا بأس بالصلاة على الجنائز بعد العصر
43

ما لم تسفر الشمس فإذا اصفرت لم يصل عليها إلا أن يكون يخاف تغيرها فإن خيف ذلك صلى عليها
قال ولا بأس بالصلاة على الجنائز بعد الصبح ما لم يسفر فإذا أسفر فلا تصلوا إلا أن تخافوا عليها
وهذا معنى الحديثين المتقدمين عن بن عمر ومذهب بن عمر معلوم قد تقدم ذكره أنه لا يمنع من الصلاة إلا عند الطلوع أو الغروب
وقد ذكر بن عبد الحكم عن مالك أن الصلاة على الجنائز جائزة في ساعات الليل والنهار عند طلوع الشمس وعند غروبها في كل وقت
وهو قول الشافعي
قال الشافعي يصلى على الجنائز في كل وقت
لأن النهي عنده إنما ورد في التطوع لا في الواجب ولا في المسنون من الصلوات
وقد بينا وجوه أقوال العلماء في هذا الباب في كتاب الصلاة من هذا الكتاب
وقال الثوري لا يصلى على الجنازة إلا في مواقيت الصلاة ويكره الصلاة عليها نصف النهار وحين تغرب الشمس وبعد الفجر حتى تطلع الشمس
قال الليث أيضا لا يصلى عليها في الساعات التي تكره الصلاة فيها
وقال الأوزاعي يصلى عليها ما دام في ميقات العصر فإذا ذهب وقت العصر لم يصل عليها حتى تغرب الشمس
وقال أبو حنيفة وأصحابه لا يصلى عليها عند الطلوع ولا عند الغروب ولا نصف النهار ويصلى عليها في غيرها من الأوقات
وحجتهم حديث عقبة بن عامر رواه الليث بن سعد وعبد الله بن وهب ووكيع وغيرهم عن موسى بن علي عن أبيه عن عقبة بن عامر قال ثلاث ساعات نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن أو نقبر فيهن موتانا عند طلوع الشمس حتى تبيض وعند انتصاف النهار حتى تزول وعند اصفرار الشمس حتى تغيب
44

((8 - باب الصلاة على الجنائز في المسجد))
497 - مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها أمرت أن يمر عليها بسعد بن أبي وقاص في المسجد حين مات لتدعو له فأنكر ذلك الناس عليها فقالت عائشة ما أسرع الناس ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد
498 - مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه قال صلي على عمر بن الخطاب في المسجد
قال أبو عمر قد روى الضحاك بن عمر وغيره حديث عائشة هذا عن أبي النضر عن أبي سلمة عن عائشة متصلا مسندا
وصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء من أصح ما يروى عن النبي من أخبار الآحاد العدول
حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن أسد قال حدثنا حمزة بن علي قال حدثنا أحمد بن شعيب النسوي قال أخبرنا إسحاق بن إبراهيم وعلي بن حجر قالا حدثنا عبد العزيز بن محمد عن عبد الواحد بن حمزة عن عباد بن عبد الله بن الزبير عن عائشة قالت ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد
واللفظ لإسحاق
قال وأخبرنا سويد بن نصر قال أخبرنا عبد الله بن المبارك عن موسى بن عقبة عن عبد الواحد بن حمزة أن عباد بن عبد الله بن الزبير أخبره أن عائشة قالت ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد (1)
وفي هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان أحدهما حديث عائشة هذا والثاني
45

حديث يروى عن أبي هريرة لا يثبت عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له (1)
وقد يحتمل قوله في حديث أبي هريرة هذا فلا شيء له أي فلا شيء عليه كما قال عز وجل * (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها) * [الإسراء 7] بمعنى عليها
وسئل أحمد بن حنبل - وهو إمام أهل الحديث والمقدم في معرفة علل النقل فيه - عن الصلاة على الجنازة في المسجد فقال لا بأس بذلك وقال بجوازه
فقيل فحديث أبي هريرة فقال لا يثبت أو قال حتى يثبت
ثم قال رواه صالح مولى التوأمة وليس بشيء فيما انفرد به
فقد صحح أحمد بن حنبل السنة في الصلاة على الجنائز في المسجد وقال بذلك
وهو قول الشافعي وجمهور أهل العلم وهي السنة المعمول بها في الخليفتين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى عمر على أبي بكر الصديق في المسجد وصلى
صهيب على عمر في المسجد بمحضر كبار الصحابة وصدر السلف من غير نكير وما أعلم من ينكر ذلك إلا بن أبي ذئب
ورويت كراهية ذلك عن بن عباس من وجوه لا تصح ولا تثبت وعن بعض أصحاب مالك ورواه عن مالك
وقد روي عنه جواز ذلك من رواية أهل المدينة وغيرهم
وقد قال في المعتكف لا يخرج إلى جنازة فإن اتصلت الصفوف به في المسجد فلا يصلي عليها مع الناس وقال عبد الملك بن حبيب إذا كان مصلى الجنائز قريبا من المسجد أو لاصقا به مثل مصلى الجنائز بالمدينة فإنه لاصق بالمسجد من ناحية الشرق فلا بأس من أن توضع الجنازة في المصلى خارجا من المسجد وتمدد الصفوف بالناس في المسجد وكذلك قال مالك
قال وقال مالك لا يعجبني أن يصلى على أحد في المسجد
46

قال مالك ولو فعل ذلك فاعل ما كان ضيقا ولا مكروها فقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء في المسجد وصلى عمر على أبي بكر في المسجد وصلى صهيب على عمر في المسجد
وكذلك قال عبد الملك ومطرف
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا حفص بن غياث عن هشام بن عروة عن أبيه قال ما صلى على أبي بكر إلا في المسجد
قال وحدثنا وكيع عن كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال صلي على أبي بكر وعمر تجاه المنبر
قال وحدثنا يونس بن محمد قال حدثنا فليح بن سليمان عن صالح بن عجلان عن عباد بن عبد الله بن الزبير عن عائشة قالت والله ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد
وذكر عبد الرزاق عن معمر والثوري عن هشام بن عروة قال رأى أبي الناس يخرجون من المسجد ليصلوا على جنازة فقال ما يصنع هؤلاء ما صلي على أبي بكر إلا في المسجد
فإن قيل إن الناس الذين أنكروا على عائشة أن يمر عليها سعد بن أبي وقاص في المسجد هم الصحابة وكبار التابعين لا محالة قيل لهم ما رأت عائشة إنكارهم بكبير ورأت الحجة في رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ هو الأسوة الحسنة والقدوة وأين المذهب والرغبة عن سنته صلى الله عليه وسلم ولم يأت عنه ما يخالفها من وجه معروف ولو لم تكن في هذا الباب سنة ما وجب أن تمنع عن ذلك لأن الأصل الإباحة حتى يرد المنع والحظر فكيف وفي إنكار ذلك جهل السنة والعمل الأول القديم بالمدينة
ألا ترى أن قول عائشة (ما أسرع الناس) تريد إلى إنكارها ما يعلمون وترك السؤال عما يجهلون
وقد روي (ما أسرع ما ينسى الناس وليس من نسي علما بحجة على من ذكره وعلمه وبالله التوفيق
وقد احتج بعض من تعميه نفسه من المنتسبين إلى العلم في كراهية الصلاة على الجنائز في المسجد لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى للناس النجاشي وخرج بهم إلى المصلى فصفهم وكبر أربع تكبيرات قال ولم يصل عليه في المسجد
وفي احتجاجه هذا ضروب من الإغفال
47

منها أنه لا يرى الصلاة على الغائب وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي خصوص له عنده
ومنها أنه ليس في صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجنازة في موضع ولا صلاة العيد في موضع دليل على أن صلاة العيد وصلاة الجنائز لا تجوز إلا في ذلك الموضع والمسلمون في كل أفق لهم مصلى في العيد يخرجون إليه ويصلون فيه ولا يقول أحد من علمائهم إن الصلاة لا تجوز إلا فيه
وكذلك صلاتهم في المقابر على جنائزهم ليس فيه دليل على أنه لا يصلى على الجنائز إلا في المقبرة وما لم ينه عنه الله ورسوله فمباح فعله فكيف بما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم
9 - باب جامع الصلاة على الجنائز
499 - مالك أنه بلغه أن عثمان بن عفان وعبد الله بن عمر وأبا هريرة كانوا يصلون على الجنائز بالمدينة الرجال والنساء فيجعلون الرجال مما يلي الإمام والنساء مما يلي القبلة
هكذا روى هذا الحديث يحيى بن يحيى وأكثر الرواة للموطأ
وروته طائفة من رواة الموطأ عن مالك عن بن شهاب أنه بلغه أن عثمان بن عفان مثله إلى آخره سواء
وذكر الدارقطني أن محمد بن مخلد رواه عن أحمد بن إسماعيل المديني عن مالك عن بن شهاب عن أنس أن عثمان بن عفان وعبد الله بن عمر وأبا هريرة كانوا يصلون فذكره إلى آخره سواء
وهو عندي وهم والله أعلم والصحيح ما في الموطأ
قال أبو عمر على ما ذكره مالك عن عثمان وبن عمر وأبي هريرة أكثر العلماء في موضع الرجال يلون النساء والنساء أمامهم
روي ذلك عن عثمان وأبي هريرة وبن عمر من وجوه وروي ذلك أيضا عن أبي قتادة الأنصاري وزيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري وواثلة بن الأسقع والحسن والحسين
وعن الشعبي وإبراهيم النخعي وسعيد بن المسيب والزهري واختلف في ذلك عن عطاء
48

كل ذلك من كتاب عبد الرزاق وأبي بكر بن أبي شيبة من طرق شتى حسان كلها
وذكر عبد الرزاق عن بن جريج عن نافع أن بن عمر صلى كذلك على جنازة فيها بن عباس وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري وأبو قتادة والأمير يومئذ سعيد بن العاص فسألهم عن ذلك أو أمر من سألهم فقالوا هي السنة
وفي المسألة قول ثان
ذكر عبد الرزاق عن معمر عن رجل عن الحسن قال الرجال يلون القبلة والنساء يلين الإمام
وذكر أبو بكر قال حدثنا عبد الله بن رجاء عن عبيد الله بن عمر عن سالم والقاسم قالوا النساء مما يلي الإمام والرجال مما يلي القبلة
قال وحدثنا بن علية عن ليث عن عطاء قال الرجال بين يدي النساء
وعن مسلمة بن مخلد أنه كان يصلي بمصر كذلك على الجنائز
وفيها قول ثالث عن عبد الله بن معقل ومحمد بن سيرين قالا يصلى على الرجال أو الرجل على حدة وعلى النساء أو على المرأة على حدة
قال أبو بكر وحدثنا بن علية عن أيوب عن بن سيرين أنه قال في جنائز الرجال والنساء إن أبا السوار لما اختلفوا عليه صلى على هؤلاء ضربة وصلى على هؤلاء ضربة
قال أبو عمر القول الأول أعلى وأولى لما فيه من الصحابة
وقد قالوا إنها السنة وعليها جماعة الفقهاء
وأما أين يقوم الإمام من الرجل إذا صلى عليه ومن المرأة فالاختيار عندي أن يقوم منهما وسطا
وقد اختلفت الآثار المرفوعة في ذلك واختلف فيه السلف ف
روى بن المبارك عن حسين المعلم عن عبد الله بن بريدة عن سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قام على امرأة فقام وسطها
49

وروى وكيع عن همام عن غالب أو أبي غالب عن أنس أنه أتى بجنازة رجل فقام عند رأس السرير وأتى بجنازة امرأة فقام أسفل من ذلك عند الصدر فقال العلاء بن زياد يا أبا حمزة هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع قال نعم فأقبل عليه العلاء فقال احفظوا (1)
وقال حميد الطويل عن يزيد بن أبي منصور قال قلت لأبي رافع أين أقوم من الجنازة قال وسطها
قال حميد وصليت مع الحسن ما لا أحصي على الرجال والنساء فما رأيته يبالي أين قام منها
وقال الشعبي يقوم الذي يصلي على الجنازة عند صدرها
وهشام بن حسان عن الحسن قال يقوم من المرأة في حيال ثدييها ومن الرجل فوق ذلك
وأشعث عن الحسن قال يقوم للمرأة عند فخذيها والرجل عند صدره
وعن بن مسعود وعطاء وإبراهيم يقوم الذي يصلي على الجنازة عند صدرها ولم يفرقوا بين الرجل والمرأة
قال أبو عمر ليس في ذلك حد لازم من جهة كتاب ولا سنة ولا إجماع وما كان هذا سبيله لم يحرج أحد في فعله كل ما جاء عن السلف وليس في قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم منها في موضع ما يمنع من غيره لأنه لم يوقف عليه
وليس عن مالك والشافعي شيء
وقال بن القاسم يقوم من الرجل عند صدره ومن المرأة عند منكبيها
وقال الثوري يقوم منهما عند الصدر وهو قول أبي حنيفة ومحمد
500 - مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا صلى على الجنازة يسلم حتى يسمع من يليه
قال أبو عمر قد تقدم في باب التكبير على الجنائز في حديث مالك عن بن
50

شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر على النجاشي أربع تكبيرات (1)
وقد ذكرنا من زاد فيه وسلم وذكرنا اختلاف العلماء في التسليم على الجنازة وأوردنا هناك ذكر القائلين بتسليمة واحدة والقائلين بتسليمتين فلا معنى لإعادة ذلك ها هنا فنذكر هنا من كان يخفي التسليم ومن كان يجهر به
ولم يذكر مالك في حديثه عن نافع عن بن عمر أنه كان يسلم تسليمة واحدة لا تسليمتين والمحفوظ عن بن عمر أنه كان يسلم واحدة
ذكر عبد الرزاق عن بن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع [عن بن عمر] أنه كان إذا قضى الصلاة على الجنائز سلم عن يمينه
وذكر بن أبي شيبة عن علي بن مسهر عن عبيد الله عن نافع عن بن عمر أنه كان إذا صلى على جنازة سلم على يمينه واحدة
ومن هذين الكتابين أن بن عمر وأبا هريرة وبن سيرين كانوا يجهرون بالسلام ويسمعون من يليهم وأن علي بن أبي طالب وبن عباس وأبا أمامة بن سهل بن حنيف وسعيد بن جبير كانوا يخفون التسليم وإبراهيم النخعي أيضا كان يسلم تسليمه خفية
قال بن القاسم عن مالك تسليم الإمام على الجنازة واحدة يسمع من يليه يسلم من وراءه واحدة في أنفسهم وإن أسمعوا من يليهم فلا بأس
وقال الثوري يسلم عن يمينه تسليمة خفيفة
وقال الأوزاعي يسمع من يليه
وقال الحسن بن حي يسلم عن يمينه وعن شماله ويخفيه ولا يجهر به
وقال الشافعي مثله ولا يجهر
وقال أبو حنيفة تسليمتان يسمع من يليه
501 - مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول لا يصلي الرجل على الجنازة إلا وهو طاهر
وهو إجماع العلماء والسلف والخلف إلا الشعبي فإنه أجاز الصلاة عليها على
51

غير وضوء فشذ عن الجميع ولم يقل بقوله أحد من أئمة الفتوى بالأمصار ولا من حملة الآثار
وقد قال بن علية وهو ممن يرغب عن كثير من قوله الصلاة على الميت استغفار له والاستغفار يجوز بغير وضوء
وهذا نحو قول الشافعي إلا أنه قال السنة في الصلاة على الموتى أن يتطهر لها ومن خشي فوتها تيمم لها وهو القياس
قال أبو عمر قول الشعبي هذا لم يلتفت أحد إليه ولا عرج عليه وقد أجمعوا أنه لا يصلي عليها إلا إلى القبلة ولو كانت دعاء كما زعم الشعبي لجازت إلى غير القبلة ولما اجمعوا على التكبير فيها واستقبال القبلة بها علم أنها صلاة ولا صلاة إلا بوضوء
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقبل الله صلاة بغير طهور
ذكر بن أبي شيبة قال حدثنا غندر قال حدثنا شعبة عن عاصم قال سألت أشياخنا يسلم في الصلاة على الجنازة قالوا نعم أو لست في صلاة
وقال مالك في آخر هذا الباب لم أر أحدا من أهل العلم يكره أن يصلى على ولد الزنى وأمه
وهذا ما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى على ولد زنا وأمه ماتت من نفاسها
وقال أبو وائل يصلى على كل من صلى إلي القبلة
وسئل أبو أمامة عن الصلاة على جنازة شارب الخمر قال نعم إذا شهد بشهادة الحق
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا حفص بن غياث عن أشعث عن أبي الزبير عن جابر قال سألته عن المرأة تموت في نفاسها من الفجور أن يصلى عليها فقال صل على من قال لا إله إلا الله
قال وحدثنا جرير عن مغيرة عن حماد عن إبراهيم قال يصلى على الذي قتل نفسه وعلى النفساء من الزنى وعلى الذي يموت غريقا من الخمر
قال وحدثنا أبو خالد الأحمر عن عثمان بن الأسود عن عطاء قال تصلي على من صلى إلى قبلتك
52

قال وحدثنا عبد الله بن إدريس عن هشام عن بن سيرين قال ما أعلم أحدا من الصحابة والتابعين ترك الصلاة على أحد من أهل القبلة آثما
وقال بن عبد الحكم عن مالك لا تترك الصلاة على أحد مات ممن يصلي إلى القبلة
وهو قول الشافعي وجماعة الفقهاء يصلى على كل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم
وكره مالك من بين سائر العلماء أن يصلي أهل العلم والفضل على أهل البدع
((10 - باب ما جاء في دفن الميت))
502 - مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي يوم الاثنين ودفن يوم الثلاثاء وصلى الناس عليه أفذاذا (1) لا يؤمهم أحد فقال ناس يدفن عند المنبر وقال آخرون يدفن بالبقيع فجاء أبو بكر الصديق فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما دفن نبي قط إلا في مكانه الذي توفي فيه فحفر له فيه فلما كان عند غسله أرادوا نزع قميصه فسمعوا صوتا يقول لا تنزعوا القميص فلم ينزع القميص وغسل وهو عليه صلى الله عليه وسلم
قال أبو عمر قد ذكرنا ما يسند من هذا الحديث في كتاب التمهيد ولم يختلف العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل في قميصه واختلفوا هل كفن في سائر القميص مع سائر أكفانه أو في قميص غيره على ما أوضحنا فيما مضى والحمد لله
وقد روى حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا أين تدفنونه فقال أبو بكر في المكان الذي مات فيه قالت وكان بالمدينة قباران أحدهما يلحد والآخر يشق أو يضرح فبعث إليهما فجاء الذي يلحد فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم
وذكر عبد الرزاق عن بن عيينة عن جعفر بن محمد عن أبيه قال قبض النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين ولم يدفن ذلك اليوم ولا تلك الليلة حتى كان من آخر يوم الثلاثاء [قال وغسل وعليه قميص وكفن في ثلاثة أثواب ثوبين صحاريين وبرد حبرة
53

وصلي عليه بغير إمام ونادى عمر في الناس خلوا الجنازة وأهلها
قال وأخبرنا معمر عن الزهري عن بن المسيب قال لم يؤمهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد كانوا يدخلون أفواجا الرجال والنساء والصبيان إلى البيت الذي هو فيه والحجرة فيدعون ثم يخرجون ويدخل آخرون حتى فرغ الناس
وفي حديث هذا الباب من الفقه والعلم أيضا ما يدل على أن معرفة السير وأيام الإسلام وتواريخ أعمال الأنبياء والعلماء والوقوف على وفاتهم من علم خاصة أهل العلم وأنه مما لا ينبغي لمن وسم نفسه بالعلم جهل ذلك وأنه مما يلزمه من العلم العناية به
وسنذكر اختلاف الآثار في مبلغ عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتاريخ وفاته ومدة مقامه بمكة من مبعثه وبالمدينة بعد هجرته إليها في كتاب الجامع من هذا الكتاب إن شاء الله لأنه هناك ذكره مالك (رحمه الله)
ولا خلاف بين العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفن في الموضع الذي مات فيه من بيته بيت عائشة (رضي الله عنها) ثم أدخلت بيوته المعروفة لأزواجه بعد موته في مسجده فصار قبره في المسجد صلى الله عليه وسلم
وأما قول مالك أنه صلى الله عليه وسلم توفي يوم الاثنين فهذا مما لا خلاف فيه
وأما قوله ودفن يوم الثلاثاء فمختلف فيه قيل يوم الثلاثاء وقيل يوم الأربعاء وسنذكر ذلك فيما بعد إن شاء الله
503 - مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال كان بالمدينة رجلان أحدهما يلحد والآخر لا يلحد فقالوا أيهما جاء أول عمل عمله فجاء الذي يلحد (1) فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم
قد ذكرنا معاني هذا الحديث مسندة في التمهيد فروى هذا الحديث جرير وهشام عن فقهاء أهل المدينة قال كان بالمدينة رجلان يحفران القبور وكان أحدهما يشق والآخر يلحد فذكره سواء أبو بكر عن جرير
وذكر عبد الرزاق عن بن عيينة عن جعفر بن محمد عن أبيه قال لحد له صلى الله عليه وسلم وجعل على لحده اللبن
54

وفيه أن اللبن في القبر مباح وأنه كان من العمل القديم وأنه لا وجه فيه لمن كرهه
وفيه أن اللحد أفضل من الشق الذي اختاره الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم مع ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جرير وغيره أنه قال اللحد لنا والشق لغيرنا (1) ومن هنا كره الشق من كرهه والله أعلم لقوله صلى الله عليه وسلم والشق لغيرنا
وروي عن نافع عن بن عمر قال ألحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر وعمر وأوصى بن عمر أن يلحد له
وذكر أبو بكر قال حدثنا بن مهدي عن سفيان عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال اجتمع [أصحاب] النبي صلى الله عليه وسلم حين مات وكان رجل يلحد والآخر يشق فقالوا اللهم خر له فطلع الذي كان يلحد فلحد له
أخبرنا عبد الله بن محمد بن يوسف ومحمد بن إبراهيم قالا حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى قال حدثنا جعفر بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب العلوي الموساوي قال حدثنا أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي سنة إحدى وسبعين ومئتين قال حدثنا داود بن عبد الله الجعفري قال حدثنا أبو ضمرة أنس بن عياض عن جعفر بن محمد عن أبيه أن الذي لحد قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو طلحة والذي ألقى القطيفة شقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم
504 - مالك أنه بلغه أن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت تقول ما صدقت بموت النبي صلى الله عليه وسلم حتى سمعت وقع الكرازين (2)
هذا الحديث لا أحفظه لأم سلمة وهو محفوظ لعائشة
ذكر عبد الرزاق (3) عن بن جريج وغيره عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه عن عمرة عن عائشة قالت ما شعرنا بدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا صوت المساحي من آخر السحر
55

وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا عبدة بن سليمان عن محمد بن إسحاق عن فاطمة بنت محمد عن عمرة عن عائشة قالت ما علمنا بدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا صوت المساحي من آخر الليل ليلة الأربعاء
قال أبو عمر قوله في هذا الحديث المساحي تفسير الكرازين
وفي هذا الحديث إباحة الدفن بالليل وعلى إجازته أكثر العلماء وجماعة الفقهاء لأن الليل ليس فيه وقت تكره فيه الصلاة
ذكر معمر عن أيوب عن عكرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم دفن ليلا
وقد كره قوم من السلف منهم الحسن وقتادة الدفن بالليل إلا لضرورة
وروي في النهي عن الدفن بالليل حديث لا تقوم بإسناده حجة
وروي ما يعارض ذلك من حديث أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفن الأعرابي الذي قال فيه إنه أواه ليلا وكان يرفع صوته بالقراءة والدعاء
وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسكينة التي دفنت ليلا هلا آذنتموني بها دليل واضح على جواز الدفن بالليل وقد تقدم ذلك في حديث بن شهاب عن أبي أمامة من هذا الكتاب
ولم يختلفوا أن أبا بكر دفن ليلا وقد روي أن عمر دفن ليلا ودفن علي فاطمة ليلا ودفن الزبير بن مسعود ليلا
وأما الاختلاف في وقت دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكثر الآثار على أنه دفن يوم الثلاثاء وهو قول أكثر أهل الأخبار والله أعلم
505 - مالك عن يحيى بن سعيد أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت رأيت ثلاثة أقمار سقطن في حجري (حجرتي) فقصصت رؤياي على أبي بكر الصديق
قالت فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفن في بيتها قال لها أبو بكر هذا أحد أقمارك وهو خيرها
قال أبو عمر روى هذا الحديث سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن عائشة رأت ثلاثة أقمار فذكر مثل حديث مالك سواء
في هذا الحديث ما كان القوم عليه في الرؤيا واعتقاد صحتها وأنه ما لم يكن من
56

أضغاث الأحلام فهو حق وصدق وحسبك أنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة كما جاء في الآثار الصحاح
وسنوضح ذلك في موضعه إن شاء الله وقد قلنا في ذلك في التمهيد ما فيه كفاية والحمد لله
ويحتمل حديث عائشة أن يكون أبو بكر لم يجبها في حين قصت عليه رؤياها ثم قال لها ما حكته بعد ويحتمل أن يجمل لها الجواب حينئذ ويؤكده بالبيان في حين موت النبي صلى الله عليه وسلم وقد فهمت عنه والله أعلم أنه أراد النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه كما كان ولم يدفن في بيتها غيرهم وقد رام ذلك قوم فلم يقدره الله لهم
وفيه دليل على أن القمر قد يكون في تأويل الرؤيا الملك الأعظم كما تكون الشمس
وكان أبو بكر معبرا محسنا وقد عبر لها رؤياها في يوم الجمل
روى هشيم وأبو بكر بن عياش عن مجالد عن الشعبي عن عائشة أنها رأت كأنها على ظرب وحولها بقر يذبح وينحر فقصت ذلك على أبي بكر فقال إن صدقت رؤياك ليقتلن حولك جماعة من الناس
الظرب جمعه ظراب وهي الجبال الصغار
مالك عن غير واحد ممن يثق به أن سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل توفيا بالعقيق وحملا إلى المدينة ودفنا بها
قال أبو عمر الخبر بذلك عن سعد وسعيد كما حكاه مالك صحيح ولكنها مسألة اختلف السلف ومن بعدهم فيه باختلاف الآثار في ذلك
فمن كره ذلك احتج بحديث جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالقتلى أن يردوا إلى مضاجعهم (1)
وبحديث جابر أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال تدفن الأجساد حيث تقبض الأرواح
وبالحديث عن عائشة أنها قالت في أخيها عبد الرحمن لو شهدته ما دفن إلا حيث مات
57

وكان دفن بالحبش مكان بينه وبين مكة اثنا عشر ميلا أو نحوها
قال أبو عمر قد أجمع المسلمون كافة بعد كافة على جواز نقل موتاهم من دورهم إلى قبورهم فمن ذلك البقيع مقبرة المدينة ولكل مدينة جبانة يتدافن فيها أهلها
فدل ما ذكرناه من الإجماع على فساد نقل من نقل تدفن الأجساد حيث تقبض الأرواح إلا أن يكون أراد البلد والحضرة وما لا يكون سفرا والله أعلم
وليس في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برد القتلى يوم أحد إلى مضاجعهم ما يرد ما وصفنا
والحديث المأثور ما دفن نبي إلا حيث قبض دليل ووجه على تخصيص الأنبياء بذلك والله أعلم
وأما حديث عائشة في أخيها بذلك والله أعلم لأنها أرادت دفنه بمكة لزيارة الناس القبور بالسلام عليهم والدعاء لهم
وقد نقل سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد من العقيق ونحوه إلى المدينة وذلك بمحضر جماعة من الصحابة وكبار التابعين من غير نكير ولعلهما قد أوصيا بذلك وما أظن إلا وقد رويت ذلك والله أعلم
وليس في هذا الباب - أعني نقل الموتى - بدعة ولا سنة فليفعل المؤمن ذلك ما شاء وبالله التوفيق
مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال ما أحب أن أدفن بالبقيع لأن أدفن بغيره أحب إلي من أن أدفن فيه إنما هو أحد رجلين إما ظالم فلا أحب أن أدفن معه وإما صالح فلا أحب أن تنبش لي عظامه
وقد بين عروة (رحمه الله) وجه كراهته الدفن بالبقيع وظاهر خبره هذا أنه لم يكره نبش عظام الظالم وليس المعنى كذلك لأن عظم المؤمن يكره من كسره ميتا ما يكره منه وهو حي
وفي خبر عروة هذا دليل على أن الناس بظلمهم يعذبون في قبورهم والله أعلم ولذلك استحبوا الجار الصالح في المحيا والممات
وعروة رحمه الله ابتنى قصره بالعقيق وخرج من المدينة لما رأى من تغير أحوال أهلها ومات هناك (رحمه الله) وخبره هذا عجيب قد ذكرناه من طرق في آخر كتاب جامع بيان العلم وفضله
58

((11 - باب الوقوف للجنائز والجلوس على المقابر))
506 - مالك عن يحيى بن سعيد عن واقد بن سعد بن معاذ عن نافع بن جبير بن مطعم عن مسعود بن الحكم عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم في الجنائز ثم جلس بعد
هكذا قال يحيى بن يحيى واقد بن سعد بن معاذ ينسبه إلى جده وغيره من رواة الموطأ وغيرهم يقولون واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ وهو الصواب
وما أظن يحيى قصد أن ينسبه إلى جده ولكنه سقط من كتابه بن عمرو والله أعلم
وقد ذكرنا نسبه وخبره في التمهيد
وذكرنا جده سعد بن معاذ في كتاب الصحابة
وذكرنا مسعود بن الحكم هناك أيضا لأنه ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وذكرنا نافع بن جبير بن مطعم مثله في التمهيد
والحمد لله وهذا الحديث ناسخ لما كان في أول الإسلام من قيام النبي صلى الله عليه وسلم للجنائز إذا مرت به وللقيام فيها إذا اتبعها حتى توضع بالأرض للصلاة عليها والقيام على قبرها حتى تدفن والله أعلم لأن قول علي (رضي الله عنه) كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم في الجنائز ثم جلس قول عام يحتمل جميع ما ذكرنا
حدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه عن عامر بن ربيعة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم الجنازة فقوموا حتى تخلفكم أو توضع (1)
قال الحميدي وهذا منسوخ
59

وقد رواه معمر وغيره عن الزهري بإسناد هذا مثله
ورواه أيوب عن نافع عن بن عمر عن عامر بن ربيعة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله
وروى يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم الجنازة فقوموا فمن تبعها فلا يقعد حتى توضع (1)
وروى في القيام إلى الجنازة عبد الله بن عمرو بن العاص وأبو هريرة وأبو موسى الأشعري وجابر بن عبد الله وزيد بن ثابت وأخوه يزيد بن ثابت وقيس بن سهل وسعد بن حنيف كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكرنا ذلك في التمهيد
وقد روى جنادة بن أبي أمية عن عبادة بن الصامت قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم في الجنازة حتى توضع في اللحد فمر حبر من اليهود فقال هكذا نفعل فجلس النبي صلى الله عليه وسلم وقال اجلسوا خالفوهم (2)
وهذا في معنى حديث علي عن النبي صلى الله عليه وسلم في نسخ القيام بالجلوس
وروى أبو معمر عبد الله بن سخبرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتشبه بأهل الكتاب فيما لم ينزل فيه وحي وكان يقوم للجنازة فلما نهي انتهى
وفي رواية أخرى عن أبي معمر عبد الله بن سخبرة أيضا عن علي (رضي الله عنه) أنهم كانوا عنده فمرت بهم جنازة فقاموا لها فقال علي ما هذا فقالوا أمر أبي موسى فقال إنما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم [مرة واحدة] ثم لم يعد
واختلف العلماء في هذا الباب
فممن روي عنه أنه قال بالأحاديث المتواترة التي رواها من ذكرنا من الصحابة وذكرنا أنها منسوخة وقالوا لا يجلس من اتبع جنازة حتى توضع عن أعناق الرجال أبو هريرة والمسور بن مخرمة وبن عمر وبن الزبير وأبو سعيد الخدري وأبو موسى الأشعري وإبراهيم النخعي وعامر الشعبي وبن سيرين
وإلى ذلك ذهب الأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه
وبه قال محمد بن الحسن
60

وقال أحمد بن حنبل وإسحاق من قام لها فلا يعبه ومن قعد فأرجو أن لا يأثم
وجاءت الرواية عن أبي مسعود البدري وأبي سعيد الخدري وسهل بن حنيف وقيس بن سعد أنهم كانوا يقومون للجنازة إذا مرت
وروي عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس أن القيام في الجنائز كان قبل الجلوس
فبان بهذا أنهما رضي الله عنهما قد علما في ذلك الناسخ والمنسوخ وليس من علم شيئا كمن جهله فالصواب في هذا الباب إلى ما قاله علي وبن عباس فقد حفظا الوجهين جميعا وعرفا الناس أن الجلوس كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد القيام
وإلى هذا ذهب سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير ومالك بن أنس والشافعي
وقال الشافعي القيام لها منسوخ
حدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن سيرين أن جنازة مرت بعبد الله بن عباس والحسن بن علي فقعد بن عباس فقام الحسن وقعد بن عباس فقال الحسن أليس قام رسول الله صلى الله عليه وسلم لجنازة يهودي فقال بن عباس بلى ثم جلس بعد
وذكر عبد الرزاق عن معمر عن هشام عن أبيه أنه كان يعيب من قام إلى الميت وينكر ذلك عليه
واختلفوا أيضا في القيام على القبر بعد أن توضع الجنازة في اللحد فكره ذلك قوم وعمل به آخرون
507 - ذكر مالك عن أبي بكر بن عثمان بن سهل بن حنيف أنه سمع أبا أمامة بن سهل بن حنيف يقول كنا نشهد الجنائز فما يجلس آخر الناس حتى يؤذنوا
وهذا عندي ممكن أن لا يدخل في المنسوخ لأن النسخ إنما جاء في القيام للجنازة عند رؤيتها وإذا شيعت حتى توضع
61

وقد قال بهذا قوم من أهل العلم
وقال منهم قائلون نسخ القيام كله في الجنازة على ما قدمنا ذكره
والقول الأول عندي أولى لأن عليا (رضي الله عنه) روى النسخ ثم قد روي عنه أنه قام على قبر بن المكفف فقيل له ألا تجلس يا أمير المؤمنين فقال قليل لأخينا القيام على قبره
وقد ذكرنا هذا الخبر من طرق بإسناده في التمهيد
وفيه دليل على أن النسخ عند علي وهو الذي رواه لم يدخل فيه القيام على القبر
ومن شهد الخبر وعلم مخرجه أولى أن يسلم له
وقال سعيد بن جبير رأيت بن عمر قام على قبر وقال يستحب إذا أنس من الرجل الخير أن يفعل به ذلك
وعن ميمون بن مهران أنه وقف على قبر فقيل له أواجب هذا فقال لا ولكن هؤلاء أهل بيت هذا لهم مني قليل
ومن حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله [عن] بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على قبر حتى دفن
ومن حديث عثمان بن عفان (رضي الله عنه) قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الرجل وقف عليه وقال استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل (1)
وكان عثمان إذا وقف على قبر بكى حتى تبل لحيته فقيل له تذكر الجنة والنار ولا تبكي وتبكي من هذا فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن القبر أول منازل الآخرة فمن نجا منه فما بعده أيسر منه وإن لم ينج منه فما بعده أشد (2)
وقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأيت منظرا إلا والقبر أفظع منه
62

وقد ذكرنا أسانيد هذه الأخبار في التمهيد والحمد لله
508 - مالك أنه بلغه أن علي بن أبي طالب كان يتوسد القبور ويضطجع عليها
قال أبو عمر الآثار مروية من طرق عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن القعود على القبور من حديث عقبة بن عامر وجابر وأبي هريرة [وغيرهم ومن الرواة لها من يوقف حديث عقبة وحديث أبي هريرة] ويجعله من حديثهما
وأما حديث جابر فذكر عبد الرزاق قال حدثنا بن جريج قال أخبرنا أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى أن يقعد الرجل على القبر ويقصص أو يبني عليه
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا حفص عن بن جريج عن أبي الزبير عن جابر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقعد عليها يعني القبور
وعن بن مسعود لأن أطأ على جمرة حتى تطفأ أحب إلي من أن أقعد على قبر
وعن أبي بكرة مثله سواء
وعن أبي هريرة قال لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق رداءه ثم قميصه ثم إزاره حتى تخلص إلى جلده أحب إلي من أن يجلس على قبر
وهذا الجلوس يحتمل أن يكون لحاجة الإنسان كما قال مالك ومن تبعه على ذلك
وروى الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب أن أبا الخير حدثه أن عقبة بن عامر قال لأن أطأ على جمرة أو على حد سيف حتى يخطف رجلي أحب إلى من أن أمشي على مسلم وما أبالي في القبور قضيت حاجتي أو في السوق والناس ينظرون
وعن الحسن وبن سيرين ومكحول كراهية المشي على القبور والقعود عليها
وقال مالك (رحمه الله) وإنما نهي عن القعود على القبور فيما نرى للمذاهب يريد حاجة الإنسان
وحجته أن علي بن أبي طالب كان يتوسد القبور ويضطجع عليها
63

وإذا جاز ذلك جاز المشي والقعود فلم يبق إلا أن ذلك لحاجة الإنسان والله أعلم وهو قول زيد بن ثابت
وعلى ذلك حديث عقبة بن عامر ما أبالي قضيت حاجتي على القبور أو في السوق والناس ينظرون لأن الموتى يجب الاستحياء منهم كما يجب من الأحياء والله أعلم
وكذلك جاءت السنة المتواترة النقل بالسلام على القبور عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن جماعة من أصحابه والتابعين
ولا أعلم أحدا إلا وهو مجيز ذلك من فقهاء المسلمين إلا شيء روي عن حماد بن أبي سليمان لا وجه له
وروى أبو أمامة بن سهل بن حنيف أن زيد بن ثابت قال له هلم يا بن أخي إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلوس على القبر لحدث بول أو غائط
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا محمد بن فضيل عن العلاء بن المسيب عن فضيل عن مجاهد قال لا تخل وسط مقبرة ولا تبل فيها
وعلى هذا معنى الآثار المروية في الكراسة في هذا الباب والله أعلم
مالك عن أبي بكر بن عثمان بن سهل بن حنيف أنه سمع أبا أمامة بن سهل بن حنيف يقول كنا نشهد الجنائز فما يجلس آخر الناس حتى يؤذنوا
قد مضى القول في معنى الحديث فيما تقدم من هذا الباب
وأبو بكر هذا لا يوقف له على اسم وقد رواه عنه كما رواه مالك بن المبارك إلا أنه قال فيه فما ينصرف الناس حتى يؤذنوا
وهذه مسألة اختلف العلماء فيها قديما
فيروى عن عمر وعلي وأبي هريرة والمسور بن مخرمة وإبراهيم النخعي أنهم كانوا لا ينصرفون حتى يؤذن لهم أو يستأذنوا
وروي عن بن مسعود وزيد بن ثابت وعروة وبن الزبير والقاسم بن محمد والحسن وقتادة وعمر بن عبد العزيز أنهم كانوا ينصرفون إذا وريت الجنازة ولا يستأذنون
هذا معنى ما روي عنهم (رحمهم الله) وهو الصواب إن شاء الله للحديث المرفوع من شيع جنازة كان له قيراط من الأجر ومن قعد حتى تدفن كان له قيراطان
64

وهو قول مالك والشافعي وأكثر العلماء
وأما رواية مالك فما يجلس الناس حتى يؤذنوا فقد ذكرنا القيام على القبر وما جاء عن العلماء في ذلك
وروينا ذلك أيضا عن علي وعلقمة وعبد الله بن الزبير وفضالة بن عبيد أنهم كانوا يقومون على القبور ويجيزون القيام عليها حتى تدفن
وروينا كراهية القيام على القبر عن أبي قلابة والشعبي وإبراهيم النخعي
والقول الأول أولى لأنه أعلى ما روي في ذلك واتباع الصحابة أوقع وأصوب من اتباع من بعدهم ولو علم الذين جاء عنهم خلافهم فعلهم ما خالفوهم إن شاء الله
((12 - باب النهي عن البكاء على الميت))
فيه لمالك حديثه عن عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عتيك على حسب ما في الموطأ
509 - عن عبد الله بن جابر بن عتيك عن عتيك بن الحارث وهو جد عبد الله بن عبد الله بن جابر أبو أمه أنه أخبره أن جابر بن عتيك أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يعود عبد الله بن ثابت فوجده قد غلب عليه (1) فصاح به فلم يجبه فاسترجع رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) وقال غلبنا عليك يا أبا الربيع فصاح النسوة وبكين فجعل جابر يسكتهن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعهن فإذا وجب (3) فلا تبكين باكية قالوا يا رسول الله وما الوجوب قال إذا مات فقالت ابنته والله إن كنت لأرجو أن تكون شهيدا فإنك كنت قد قضيت جهازك (4) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله قد أوقع أجره على قدر نيته وما تعدون الشهادة قالوا القتل في سبيل الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله
65

المطعون (1) شهيد والغرق (2) شهيد وصاحب ذات الجنب (3) شهيد والمبطون (4) شهيد والحرق شهيد والذي يموت تحت الهدم شهيد والمرأة تموت بجمع شهيد (5)
ولم يختلف الرواة للموطأ فيما علمت في إسناد هذا الحديث ولا في متنه إلا أن غير مالك يقول فيه دعهن يبكين ما دام عندهن
وفي حديث مالك من الفقه معان حسنة منها
عيادة الفضلاء من الخلفاء وغيرهم المرضى تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم
وفي فضل عيادة المرضى أحاديث كثيرة حسان وهي سنة مسنونة مندوب إليها لا خلاف عن العلماء فيها
وفيه جواز مناداة العليل ليجيب عن حاله فإن لم يقدر على الإجابة فلا بأس بالاسترجاع عليه حينئذ وإن كان يسمع بدليل هذا الحديث
والاسترجاع على المصيبة سنة
قال الله عز وجل * (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون) * [البقرة 156]
وفيه تكنية الرئيس الكبير لمن دونه ألا ترى قوله عليه السلام غلبنا عليك يا أبا الربيع ولم يستكبر عن ذلك من الخلفاء والأمراء إلا من حرم التقوى
وفيه إباحة البكاء على المريض بالصياح وغير الصياح عند حضور وفاته
ألا ترى إلى قوله فصاح النسوة وبكين فجعل جابر يسكتهن
وتسكيت جابر لهن والله أعلم لأنه كان قد سمع النهي عن البكاء على الموتى فاستعمل ذلك على عمومه حتى قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم دعهن يبكين حتى يموت فإذا مات فلا تبكين باكية
وهذا معنى قوله فإذا أوجب فلا تبكين باكية يريد لا ترفع صوتها بالبكاء باكية وذلك مفسر في الحديث
66

وهذا دليل على جواز البكاء على الموتى في تلك الحال وإن النهي عن البكاء عليهم هذا معناه والله أعلم
حدثنا سعيد قال حدثنا قاسم قال حدثنا محمد قال حدثنا أبو بكر قال حدثنا الفضل بن دكين قال حدثني إسرائيل عن عبد الله بن عيسى عن جابر بن عتيك عن عمه قال دخلت مع النبي صلى الله عليه وسلم على ميت من الأنصار وأهله يبكون عليه فقلت أتبكون عليه وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال دعهن ما دام عندهن فإذا وجب فلا يبكين
وقوله عليه السلام فإذا وجب فلا تبكين باكية يعني بالوجوب الموت فإن المعنى والله أعلم أن الصياح والنياح لا يجوز شيء منه بعد الموت وأما دمع العين وحزن القلب فالسنة ثابتة بإباحته وعليه جماعة العلماء
بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم على إبراهيم ابنه وقال إنها رحمة (1) من حديث جابر وحديث أنس
وبكى على زينب ابنته فقيل له تبكي فقال إنما هي رحمة جعلها الله في قلوب عباده (2) من حديث أسامة بن زيد
وروى أبو إسحاق السبيعي عن عامر بن سعد البجلي عن أبي مسعود الأنصاري وثابت بن زيد وقرظة بن كعب قالوا رخص لنا في البكاء على الميت من غير نوح
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النوح (3) من حديث عمر وحديث علي
67

وحديث المغيرة وحديث أم عطية وحديث أم سلمة وحديث أبي مالك الأشعري وحديث أبي هريرة وغيرهم
وأجمع العلماء على أن النياحة لا تجوز للرجال ولا للنساء
ورخص الجمهور في بكاء العين في كل وقت
وجاء في حديث بن عمر لكن حمزة لا بواكي له
وروى هشام بن عروة عن وهب بن كيسان عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سلمة بن الأزرق عن أبي هريرة قال مر على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة يبكي عليها وأنا معه وعمر بن الخطاب فانتهر اللاتي يبكين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعهن يا بن الخطاب فإن النفس مصابة والعين دامعة والعهد قريب (1)
وفيه أن المتجهز للغزو إذا حيل بينه وبينه يكتب له أجر الغازي ويقع أجره على قدر نيته
والآثار بهذا المعنى متواترة صحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم منها
من كانت له صلاة بالليل فغلبه عليها نوم كتب له أجر صلاته وكان نومه عليه صدقة (2)
ومنها حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في غزوة تبوك أو غيرها لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه قالوا يا رسول الله كيف يكونون معنا وهم بالمدينة قال حبسهم العذر (3)
وقد زدنا هذا المعنى بيانا بالآثار في كتاب الصلاة والحمد لله وفيه طرح العالم على المتعلم لقوله وما تعدون الشهادة ثم أجابهم بخلاف ما عندهم وقال لهم الشهداء سبعة سوى القتيل في سبيل الله ثم ذكرهم
وأما قوله المطعون شهيد فهو الذي يموت في الطاعون
وقد جاء تفسير الطاعون في حديث عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن فناء أمتي بالطعن والطاعون قالت أما الطعن فقد عرفناه فما الطاعون قال غدة
68

كغدة البعير تخرج في المراق والأباط من مات منه مات شهيدا (1)
وقد ذكرنا هذا الحديث بإسناده في التمهيد وذكرنا هناك ما كان في معناه من الأحاديث المرفوعة والحمد لله
وأما المبطون فقيل المحبوق وقيل صاحب انخراق البطن بالإسهال
وأما الغرق فمعروف وهو الذي يموت في الماء
وذات الجنب قيل هي الشوصة وقيل إنها في الجانب الآخر من موضع الشوصة وذلك معروف أنها تكون منها المنية في الأغلب وصاحبها شهيد على ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم
وفي بعض الآثار المجنوب شهيد يريد صاحب ذات الجنب يقال له رجل جنب (بكسر النون وفتح الجيم) إذا كانت به ذات الجنب
وأما الحرق فالذي يموت في النار محترقا من النار
والذي يموت تحت الهدم لا يحتاج إلى تفسير
وأما قوله المرأة تموت بجمع شهيد ففيه قولان لكل واحد منهما وجهان
أحدهما المرأة تموت من الولادة وولدها في بطنها قد تم خلقه
وقد ذكرنا الشواهد بذلك في التمهيد
وقيل إذا ماتت من النفاس فهي شهيدة سواء ألقت ولدها أو مات وهو في بطنها
والقول الآخر هي المرأة تموت قبل أن تحيض وتطمث وقيل بل هي المرأة تموت عذراء لم يمسها الرجال
والقول الأول أشهر في اللغة وأكثر عند العلماء
وفي جمع لغتان الضم والكسر في العذراء والنفساء معا قيل تموت بجمع وشواهد ذلك في التمهيد أيضا
وقد ذكرنا في الشهادة والشهداء آثارا كثيرة في التمهيد فيها بيان وشفاء والحمد لله
وفي هذا الباب أيضا
69

510 - مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه عن عمرة بنت عبد الرحمن أنها أخبرته أنها سمعت عائشة أم المؤمنين تقول (وذكر لها أن عبد الله بن عمر يقول إن الميت ليعذب ببكاء الحي) فقالت عائشة يغفر الله لأبي عبد الرحمن أما إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ إنما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودية يبكي عليها أهلها فقال إنكم لتبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها
اختلف العلماء في قوله صلى الله عليه وسلم إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه فقال منهم قائلون معناه أن يوصي بذلك الميت فيعذب حينئذ بفعل نفسه لا بفعل غيره
وقال آخرون معناه أن يمدح الميت في ذلك البكاء بما كان يمدح به أهل الجاهلية أو نحوه من الفتكات والغدرات والغارات والقدرة على الظلم وشبه ذلك من الأفعال التي هي عند الله ذنوب فهم يبكونه لفقدها ويمدحونه بها وهو يعذب من أجلها
وقال آخرون في هذا الحديث وفي مثله النياحة وشق الجيوب ولطم الخدود ونوع هذا من أنواع النياحة وأما بكاء العين فلا
وذهبت عائشة (رضي الله عنها) إلى أن أحدا لا يعذب بفعل غيره وهو الأمر المجتمع عليه لقول الله عز وجل * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * [الأنعام 164]
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لآبي رمثة في ابنه إنك لا تجني عليه ولا يجني عليك (1)
وقد صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمر والمغيرة بن شعبة وغيرهم أنه قال يعذب الميت بما نيح عليه (2)
وقد ذكرنا الآثار بذلك من طرق شتى في التمهيد
70

ومعناه النهي عن النياحة على الموتى وكل حديث أتى فيه ذكر البكاء فالمراد به النياحة عند جماعة العلماء إلا أن الله تعالى يقول * (أضحك وأبكى) * [النجم 43]
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب (1)
وقال لعمر إذ نهى النساء عن البكاء دعهن يا عمر فإن النفس مصابة والعين دامعة والعهد قريب (2)
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النياحة (3) ولعن النائحة والمستمعة (4)
ونهى عن شق الجيوب ولطم الخدود ودعوى الجاهلية (5)
وقال ليس منا من حلق ولا من سلق ولا من خرق (6)
وقال ثلاث من أفعال الجاهلية الطعن في الأنساب والنياحة على الموتى والاستسقاء بالأنواء
71

وكل ذلك بالأسانيد مذكور في التمهيد
قال الشافعي (رحمه الله) أرخص في البكاء على الميت بلا ندب ولا نياحة لما في النياحة من تجديد الحزن ومنع الصبر وعظيم الإثم
قال وما ذهبت إليه عائشة (رضي الله عنها) أشبه بدلائل الكتاب ثم تلا * (ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى) * [الأنعام 164] وذكر حديث أبي رمثة قال وما زيد في عذاب الكافر فباستيجابه لا بذنب غيره
وقول الشافعي في تصويب عائشة في إنكارها علي بن عمر هو تحصيل مذهب مالك وما دل عليه الموطأ لأنه ذكر فيه حديث عائشة ولم يذكر فيه خلافه فمذهب مالك والشافعي في معنى هذا الباب سواء
وقال آخرون منهم داود بن علي وأصحابه ما روي عن عمر وبن عمر والمغيرة وعمران بن حصين وغيرهم في هذا الباب أولى من حديث عائشة وقولها
قالوا ولا يجوز أن ترد رواية العدل الثقة بمثل هذا من الاعتراض
وذكروا نحو ما ذكرنا من الأحاديث في النياحة ولطم الخدود وشق الجيوب
وقالوا قال الله عز وجل * (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا) * [التحريم 60] وقال * (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها) * [طه 132] قالوا فواجب على كل مسلم أن يعلم أهله ما بهم الحاجة إليه من أمر دينهم وينهاهم عما لا يحل لهم
قالوا فإذا علم المسلم ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في النياحة على الميت من الكراهة والنهي عنها والتجديد فيها ولم ينه عن ذلك أهله ونيح عليه عند موته وعلى قبره فإنما يعذب بما نيح عليه بفعله لأنه لم يفعل ما أمر به ولا نهاهم عما نهي عنه فإذا عذب على ذلك عذب بفعل نفسه لا بفعل غيره
وقال المزني بلغهم أنهم كانوا يوصون بالبكاء عليهم أو بالنياحة وهي معصية ومن أمر بها ففعلت بعده كانت له ذنبا فيجوز أن يجازى بذنبه ذلك عذابا والله أعلم
وقد حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال حدثنا أبو عامر قال حدثنا زهير عن أسيد بن أبي أسيد عن موسى بن أبي موسى
72

الأشعري عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الميت يعذب ببكاء الحي عليه إذا قالت النائحة واعضداه واناصراه واكاسياه جيء بالميت وقيل له أنت عضدها أنت ناصرها أنت كاسيها (1) فقلت سبحان الله يقول الله تبارك وتعالى * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * [الأنعام 164] فقال ويحك أحدثك عن أبي موسى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول هذا فأينا كذب والله ما كذبت على أبي موسى ولا كذب أبو موسى على النبي صلى الله عليه وسلم
قال أبو عمر هذا كله في النياحة والصراخ والصياح والصحيح الأولى بكاء النفس ودمع العين وعلى هذا تهذيب آثار هذا الباب والله الموفق للصواب
((13 - باب الحسبة في المصيبة))
511 - مالك عن بن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم
هذا الإسناد من أجود أسانيد الآحاد
وفي هذا الحديث على حسب ما قيده مالك (رحمه الله) في ترجمته من ذكر الحسبة وهي الصبر والاحتساب والرضا والتسليم أن المسلم تكفر خطاياه ويغفر له ذنوبه بالصبر على مصيبته ولذلك خرج عن النار فلم تمسه
وقد ذكرنا في التمهيد أحاديث تعضد هذا المعنى وتشده منها
حديث أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم
73

ذكر في الحديث لم يبلغوا الحنث يعني لم يبلغوا أن تجري عليهم الأقلام بالسيئات
فإذا كان الآباء يدخلون الجنة بفضل رحمة الله لأطفالهم دل على أن أطفال المسلمين في الجنة لأنه يستحيل أن يرحموا من أجل من ليس بمرحوم ألا ترى إلى قوله بفضل رحمته إياهم
وعلى هذا جمهور علماء المسلمين إلا المجبرة فإنهم يقولون هم في المشيئة
وشهد بهذا ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال إني مكاثر بكم الأمم حتى بالسقط يظل محبنطئا (1) يقال له ادخل الجنة فيقول لا حتى يدخلها أبواي فيقال له ادخل الجنة أنت وأبواك (2)
ومثل ذلك أيضا حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال صغاركم دعاميص الجنة (3)
وأبين من هذا حديث شعبة عن معاوية بن قرة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن رجلا من الأنصار مات له بن صغير فوجد عليه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أما يسرك ألا تأتي بابا من أبواب الجنة إلا وجدته يستفتح لك فقالوا له يا رسول الله أله خاصة أم للمسلمين عامة قال بل للمسلمين عامة (4)
وروي عن علي (رضي الله عنه) في قول الله تعالى ذكره * (كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين) * [المدثر 38 39] قال أطفال المسلمين
وسنذكر الآثار التي يحتج بها فرق الإسلام أهل السنة والمجبرة وغيرهم في الأطفال في باب جامع الجنائز بعد من هذا الكتاب إن شاء الله
وأما قوله في حديث مالك إلا تحلة القسم فهو لفظ مخرج في التفسير
74

المسند لأن القسم المذكور فيه معناه عند العلماء قول الله عز وجل * (وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا) * [مريم 71]
قال الحسن وقتادة * (حتما مقضيا) * واجبا
وكذلك قال السدي ورواه عن مرة الهمداني عن بن مسعود
وقد اختلف العلماء في الورود المذكور في هذه الآية فقال منهم قائلون الورود الدخول وممن قال ذلك عبد الله بن رواحة وعبد الله بن عباس على أنه قد اختلف في ذلك عن بن عباس وقد ذكرنا الأسانيد بذلك عنهما في التمهيد
ذكر بن جريج عن عطاء عن بن عباس قال الورود الذي ذكره الله تعالى في القرآن الدخول ليردها كل بر وفاجر
ثم قال بن عباس في القرآن أربعة أوراد قوله تعالى " فأوردهم النار " [هود 98] وقوله * (حصب جهنم أنتم لها واردون) * [الأنبياء 98] وقوله * (ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا) * [مريم 86] وقوله * (وإن منكم إلا واردها) * [مريم 71]
قال بن عباس والله لقد كان من دعاء من مضى اللهم أخرجني من النار سالما وأدخلني الجنة غانما
وعن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الورود هو الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمن بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم فينج الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا (1)
يقول في ذلك الموضع يفوز بالسلامة أهل الطاعة ويشقى بالعذاب أولي الكفر والمعصية
وقال آخرون الورود الممر على الصراط
روى الكعبي عن أبي صالح عن بن عباس في قوله * (وإن منكم إلا واردها) * [مريم 71] قال الممر على الصراط
وروي ذلك عن عبد الله بن مسعود وكعب الأحبار وخالد بن معدان وأبي نضرة وهو قول السدي
وروى إسرائيل وشعبة عن السدي أنه سأل مرة الهمداني عن قول الله عز وجل
75

* (وإن منكم إلا واردها) * [مريم 71] قال فحدثني أن عبد الله بن مسعود حدثهم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من أحد إلا وهو يرد النار ثم يصدرون منها بأعمالهم فأولهم كالبرق ثم كالريح ثم كخطو الفرس ثم كالراكب في رحله ثم كشد الرجل ثم كمشيه
وقفه إسرائيل وكان شعبة ربما رفعه وكان كثيرا يرفعه
وقال آخرون هو خطاب للكفار
ذكر وكيع عن شعبة عن عبد الرحمن بن السائب عن رجل عن بن عباس أنه قال في قول الله تعالى * (وإن منكم إلا واردها) * [مريم 71] قال هو خطاب للكفار
روي ذلك عن الحسن قال هو خطاب للمشركين
قال أبو عمر يريد وإن منكم يا هؤلاء أو نحو ذلك
وقد روي عن بن عباس أنه كان يقرؤها " وإن منهم إلا واردها " ردا على الآيات التي قبلها من الكفار قول الله تعالى * (فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا وإن منكم إلا واردها) * [68 - 71]
مريم وقال بن الأنباري وغيره جائز في القصة أن يرجع من مخاطبة الغائب إلى لفظ المواجه كما قال عز وجل * (وسقاهم ربهم شرابا طهورا إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا) * [الإنسان 21 22] فأبدل الله من الكاف الهاء
قال أبو عمر يرجع من مخاطبة الغائب إلى المواجه ومن المواجه إلى الغائب كما قال عز وجل * (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم) * [يونس 22] وهو كثير في القرآن وأشعار العرب
وقال آخرون الورود إشراف على النار بالنظر إليها ثم ينجى منها الفائز ويصلاها من قدر عليه دخولها
واحتج هؤلاء أو بعضهم بقوله عز وجل * (ولما ورد ماء مدين) * [القصص 23] أي أشرف عليه ورآه
وقال الحسن هو كقولك وردت البصرة وليس الورد الدخول
واحتج من ذهب هذا المذهب بقوله عز وجل * (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون) * [الأنبياء
76

ومن قال الورود الدخول قال من نجا منها كانت عليه بردا وسلاما فقد أبعد عنها
واحتجوا أيضا بقوله (عليه السلام) إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار يقال له هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة (1)
وقالت طائفة إن المؤمن إذا زحزح عن النار لم يرها ولم يردها ويكون ما يناله في الدنيا من الحمى ورودا لها
حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا بن أبي دليم قال حدثنا بن وضاح قال حدثنا محمد بن سليمان الأنباري قال حدثنا يحيى بن يمان عن عثمان بن الأسود أنه قال حظ المؤمن من النار ثم قرأ * (وإن منكم إلا واردها) * فقال الحمى في الدنيا الورود فلا يردها في الآخرة
وقد روي عن أبي هريرة أنه قال عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه مريضا كان به وعك فقال له أبشر فإن الله تعالى يقول هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من النار في الآخرة (2)
وفي حديث أبي ريحانة الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الحمى كير من جهنم وهي نصيب المؤمن من النار (3)
وإسناد هذين الحديثين في التمهيد
((512 - وفي هذا الباب))
مالك عن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه عن أبي النضر السلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد
77

فيحتسبهم إلا كانوا له جنة من النار فقالت امرأة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أو اثنان قال أو اثنان
هذا الحديث قد اضطرب فيه رواة الموطأ تقول كما قال يحيى عن أبي النضر
وطائفة تقول عن أبي النضر السلمي - منهم القعنبي
وهو رجل مجهول لا يعرف في حملة العلم ولا يوقف له على نسب ولا يدرى أصاحب هو أو تابع وهو مجهول ظلمة من الظلمات قيل فيه محمد بن النضر وقيل عبد الله بن النضر وقال فيه أكثرهم السلمي بفتح السين واللام كأنه من بني سلمة في الأنصار وقال بعض المتأخرين فيه إنه أنس بن مالك بن النضر نسب إلى جده النضر قال وكنيه أنس بن مالك أبو النضر وهذا جهل واضح وغباوة بينة وذلك أن أنس بن مالك بن النضر ليس من بني سلمة وإنما هو من بني عدي بن النجار ولم يكن قط بأبي النضر وإنما كنيته أبو حمزة
والذي حاله هذا الحديث وله أدخله مالك في موطئه الاحتساب في المصيبة والصبر عليها وكأنه جعل قوله في هذا الحديث ثلاثة من الولد فيحتسبهم تفسيرا للحديث الذي قبله هذا شأنه في كثير من الموطأ
وقد روي معنى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه والحمد لله من حديث أبي هريرة وأبي سعيد ومعاذ بن جبل وغيرهم في كتاب بن أبي شيبة وغيره
((513 - وفي هذا الباب أيضا))
مالك أنه بلغه عن أبي الحباب سعيد بن يسار عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما يزال المؤمن يصاب في ولده وفي حامته (1) حتى يلقى الله وليست له خطيئة
قد ذكرنا من أسند هذا الحديث عن مالك ووصله فجعله عن مالك عن ربيعة عن أبي الحباب عن أبي هريرة في التمهيد وذكرنا آثارا متصلة في معناه هناك والحمد لله
وفيه من الفقه تكفير الخطايا والذنوب بما ينال المؤمن من مصائب الدنيا في بنيه
78

وقرابته وماله والله أعلم لقوله عليه السلام من يرد الله به خيرا يصب منه (1) ولما
حدثنا أحمد بن قاسم وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا سعيد بن عامر عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال البلاء بالمؤمن في نفسه وماله وولده حتى يلقى الله وليست له خطيئة (2)
وأما قوله فيه وحامته فقد روى حبيب عن مالك قال حامته بن عمه وصاحبه من جلسائه وقال غيره حامته قرابته ومن يحزنه موته
وقد ذكرنا في التمهيد خبر عمر بن الخطاب مع الأعرابي الذي رآه يطوف بالبيت وهو حامل امرأته فسأله عنها فكان من قوله إنها أكول قامة ما تبقي لنا حامة
ومعنى قوله (قامة) أي تقم كل شيء لا تشبع
ومعنى قوله (ما تبقي لنا حامة) يقول لا تبقي لنا أحدا قاربها ممن يحرم بها إلا شارته
((14 - باب جامع الحسبة في المصيبة))
514 - مالك عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليعز [الناس] في مصائبهم المصيبة بي
هكذا هذا الحديث في الموطأ عند أكثر الرواة
ورواه عبد الرزاق عن مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول يعزي المسلمين في مصائبهم فخالف في الإسناد والمتن
79

وقد روي هذا الحديث مسندا عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى لفظ الموطأ في حديث سهل بن سعد وحديث عائشة وحديث المسور بن مخرمة
وروي أيضا مرسلا من وجوه منها ما
ذكره بن المبارك عن سفيان عن علقمة بن مرثد عن عبد الرحمن بن سابط قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصابت أحدكم مصيبة فليذكر مصابه بي وليعزه ذلك من مصيبته
وقد ذكرنا طرق الآثار بذلك في التمهيد
ونعم العزاء فيه لأمته صلى الله عليه وسلم فما أصيب المسلمون بعده بمثل المصيبة به وفيه العزاء والسلوى وأي مصيبة أعظم من مصيبة من انقطع بموته وحي السماء ومن لا عوض منه رحمة للمؤمنين وقضاء على الكافرين والمنافقين ونهجا للدين
وروي عن طائفة من الصحابة أنهم قالوا ما نفضنا أيدينا من تراب قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنكرنا قلوبنا
ولأبي العتاهية شعر يقول
(وإذا ذكرت محمدا ومصابه
* فاجعل مصابك بالنبي محمد)
وله أيضا
(لكل أخي ثكل عزاء وأسوة
* إذا كان من أهل التقى في محمد)
ورحم الله أبا العتاهية فلقد أحسن حيث يقول
(ركنا إلى الدنيا الدنية بعده
* وكشفت الأطماع منا المساويا)
515 - مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أصابته مصيبة فقال كما أمر الله إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأعقبني خيرا منها إلا فعل الله ذلك به قالت أم سلمة فلما توفي أبو سلمة قلت ذلك ثم قلت ومن خير من أبي سلمة فأعقبها الله رسوله صلى الله عليه وسلم فتزوجها
قد ذكرنا الآثار المسندة في معنى مرسل مالك هذا في التمهيد
80

وفي هذا الحديث تعليم ما يقال عند المصيبة وهو قول لا ينبغي لمن أصيب بمصيبة في مال أو حميم أن يحيد عن ذلك وعليه أن يفزع إليه تأسيا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
ومعنى قوله إلا فعل الله ذلك به أي آجره في مصيبته وأعقبه منها الخير كما قال * (من جاء بالحسنة فله خير منها) * [القصص 84] أي منها خير
قال بن جريج ما يمنع الرجل ألا يستوجب على الله ثلاث خصال كل خصلة منهن خير من الدنيا وما فيها صلوات من الله وهدى ورحمة
وقال سعيد بن جبير ما أعطيت أمة ما أعطيت هذه الأمة قوله تعالى * (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة) * [البقرة 156 157] ولو أعطيها أحد أعطيها يعقوب لقوله * (يا أسفى على يوسف) * [يوسف 84]
ذكر سنيد عن إسماعيل بن علية [عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه] قال نعي إلى بن عباس أخوه قثم وهو في سفر فاسترجع وتنحى عن الطريق فأناخ فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول * (واستعينوا بالصبر والصلاة) * [البقرة 153]
قال وأخبرنا هشيم قال أخبرنا خالد بن صفوان عن زيد بن علي عن بن عباس أنه كان في سفر فنعي بعض ولده فاسترجع ثم نزل فصلى ركعتين ثم قال فعلنا ما أمرنا الله به ثم تلا * (واستعينوا بالصبر والصلاة) * [البقرة 183]
516 - وذكر مالك في هذا الباب عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد أنه قال هلكت امرأة لي فأتاني محمد بن كعب القرظي يعزيني بها فقال إنه كان في بني إسرائيل رجل فقيه عالم عابد مجتهد وكانت له امرأة وكان بها معجبا ولها محبا فماتت فوجد عليها وجدا شديدا ولقي عليها أسفا حتى خلا في بيت وغلق على نفسه واحتجب من الناس فلم يكن يدخل عليه أحد وإن امرأة سمعت به فجاءته فقالت إن لي إليه حاجة أستفتيه فيها ليس يجزيني فيها إلا مشافهته فذهب الناس ولزمت بابه وقالت ما لي منه بد فقال له قائل إن ها هنا امرأة أرادت أن تستفتيك وقالت إن أردت إلا مشافهته وقد ذهب الناس
81

وهي لا تفارق الباب فقال ائذنوا لها فدخلت عليه فقالت إني جئتك أستفتيك في أمر قال وما هو قالت إني استعرت من جارة لي حليا فكنت ألبسه وأعيره زمانا ثم إنهم أرسلوا إلي فيه أفأؤديه إليهم فقال نعم والله فقالت إنه قد مكث عندي زمانا فقال ذلك أحق لردك إياه إليهم حين أعاروكيه زمانا فقالت أي يرحمك الله أفتأسف على ما أعارك الله ثم أخذه منك وهو أحق به منك فأبصر ما كان فيه ونفعه الله بقولها
قال أبو عمر ليس في قول المرأة ولا ما ذكرته من العارية على جهة ضرب المثل ما يدخل في مذموم الكذب بل ذلك من الخير المحمود عليه صاحبه
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بالكاذب من قال خيرا أو نمى خيرا أو أصلح بين اثنين (1)
وهذا خبر حسن عجيب في التعازي ليس في كل الموطأت وليس فيه ما يحتاج إلى شرح ولا تفسير ولا اجتهاد
وفي معنى هذا الخبر من النظم قول لبيد
(وما المال والأهلون إلا ودائع
* ولا بد يوما أن ترد الودائع) (2)
وقول محمد بن دينار
(إنما أنفسنا عارية
* والعواري مصيرها أن تسترد) (3)
(نحن للآفات اعتراض فإن
* أخطأتنا فلناا الموت رصد)
وباب التعازي باب لا تحاط أقوال الناس فيه وخير القول قول صادف قبولا فنفع
ومن أحسن ما جاء في هذا المعنى ما عزى به عمرو بن عبيد سهم بن عبد
82

الحكم بن عبد الحميد علي بن هلك فقال إن أباك كان أصلك وإن ابنك كان فرعك وإن امرءا ذهب أصله وفرعه لحري أن يقل بقاؤه
وكتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز أما بعد يا أمير المؤمنين فإن طول البقاء إلى فناء ما هو فخذ من فنائك الذي لا يبقى لبقائك الذي لا يفنى والسلام
((15 - باب في المختفي وهو النباش))
[قال الأصمعي وأهل المدينة يسمون النباش المختفي]
517 - مالك عن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن عن أمه عمرة بنت عبد الرحمن أنه سمعها تقول لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المختفي والمختفية يعني نباش القبور
518 - مالك أنه بلغه أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت تقول كسر عظم المسلم ميتا ككسره وهو حي تعني في الإثم
وأما حديث أبي الرجال فقد روي مسندا من حديث مالك وغيره عن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم
وقد ذكرناه في التمهيد لمالك مسندا هكذا وليس في الموطأ إلا مرسلا عن عمرة وهو الصحيح فيه عن مالك
وإنما سمي النباش مختفيا والله أعلم لإظهاره الميت وإخراجه إياه بعد دفنه من قبره لأن أخفيت تكون بمعنى سترت وبمعنى أظهرت
وقيل خفيت أظهرت وأخفيت سترت
وقد قرئت هذه الآية " إن الساعة ءاتية أكاد أخفيها " و * (أخفيها) * [طه 15] فمن قرأ * (أخفيها) * يريد أكاد أخفيها في النفس ومن قرأ * (أخفيها) * أي أظهرها وقد ذكرت الشواهد من الشعر على ذلك في التمهيد
وفي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم النباش دليل على تحريم فعله والتغليظ فيه كما لعن شارب الخمر وبائعها وآكل الربا ومؤكله
83

واختلف الفقهاء في قطع النباش
فرأى جماعة من أهل العلم قطعة مالك وأصحابه
واحتج بن القاسم وغيره بقول الله عز وجل * (ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا) * [المرسلات 25] وقالوا القبر حرز وستر للكفن كأنه بيت للحي وقد أتى في أحاديث كثيرة أن القبر بيت
وقال الكوفيون لا قطع على النباش وعليه العقوبة لأن الميت لا يملك ولا يصح القطع إلا على من سرق من ملك ملك في حوزة
وأما قول عائشة كسر عظم المسلم الحديث فقد روي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم رواه عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن سعيد بن أبي سعيد عن عمرة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال كسر عظم الميت ككسره حيا
وقوله يعني في الإثم تفسير حسن لأنهم مجمعون على رفع القود في ذلك والدية فلم يبق إلا الإثم
((16 - باب جامع الجنائز))
519 - ذكر فيه مالك عن هشام بن عروة عن عباد بن عبد الله بن الزبير أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت وهو مستند إلى صدرها وأصغت إليه يقول اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى
هذا حديث مسند صحيح
وفيه الندب في الدعاء بالغفران والرحمة تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم
وإذا كان هو الداعي بذلك وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فأين غيره منه
والدعاء مخ العبادة لما فيه من الإخلاص والخضوع والضراعة والرجاء وذلك صريح الإيمان واليقين
84

وإنما يخشى الله من عباده العلماء والمؤمن خوفه ورجاؤه معتدلان ومعلوم أن الأنبياء والرسل أشد خوفا لله وأكثر إشفاقا ووجلا ولذلك كانوا أرفع درجات وأعلى منازل وقد أثنى الله على الذين كانوا يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة وأخبر الله (عز وجل) عن دعاء الأنبياء بالرحمة والعصمة بما فيه شفاء لذوي النهى
وأما قوله وألحقني بالرفيق الأعلى فمأخوذ عندهم من قول الله (عز وجل) * (مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا) * [النساء 69]
وقيل الرفيق الجنة
وقيل الرفيق الأعلى ما على فوق السماوات السبع وهي الجنة والله أعلم
قول عائشة بعد هذا من بلاغات مالك
520 - أنه بلغه أن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من نبي يموت حتى يخير قالت فسمعته يقول اللهم الرفيق الأعلى فعرفت أنه ذاهب
يفسر ما قبله كأنها قالت إنه خير بين البقاء في الدنيا وبين المصير إلى الله فاختار الرفيق الأعلى وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخير بين الدنيا والآخرة إلا اختار الآخرة لأن الدنيا فانية وما مضى منها وإن كان طويلا فكالحلم إذا انقضى ودار البقاء في الخير الدائم أولى باختيار ذوي النهي
وليس في مسند مالك ذكر التخيير وإنما ذكره فيما بلغه وقد ذكرناه فيما في بلاغاته في التمهيد مسندا من حديث إبراهيم بن سعد بن إبراهيم عن أبيه عن عروة عن عائشة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من نبي مرض إلا خير بين الدنيا والآخرة
قالت فلما كان في مرضه الذي قبض فيه أخذته بحة شديدة فسمعته يقول * (مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا) * [النساء 69] فعلمت أنه خير
وهذا يقتضي معنى حديث بلاغ مالك ويعضده وقد روي من وجوه أن الله (عز وجل) خيره صلى الله عليه وسلم بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة من حديث مالك وغيره عن أبي
85

النضر وخير أن يؤتى مفاتيح خزائن الأرض أو ما عند الله فاختار ما عند الله
والآثار في ذلك كثيرة صحاح ذكرنا منها في التمهيد حديث عائشة خاصة لقول مالك إنه بلغه عن عائشة
521 - وذكر الحديث مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار يقال له هذا مقعدك حتى يبعثك الله إلى يوم القيامة
هكذا قال يحيى في هذا الحديث حتى يبعثك الله يوم القيامة
وهو معنى مفهوم على معنى التفسير والبيان لحتى يبعثك الله
وقال القعنبي حتى يبعثك الله يوم القيامة
وهذا أثبت وأوضح من أن يحتاج فيه إلى قول وقال فيه بن القاسم حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة
وهذا أيضا بين يريد حتى يبعثك الله إلى ذلك المقعد وإليه تصير
وهو عندي أشبه لقوله عرض عليه مقعده لأن معنى مقعده عندي - والله أعلم مستقره وما يسير إليه من جنة أو نار
وكذلك رواه بن بكير كما روى بن القاسم وقد روي عن بن بكير حتى يبعثك الله لم يزد
واختلف في هذا الحديث أيضا على عبيد الله بن عمر قريبا من الاختلاف فيه على مالك فيما وصفنا
ويحتمل أن تكون الهاء في قوله حتى يبعثك الله إليه راجعة على الله تعالى ذكره أي إلى الله فإلى الله المصير وإليه ترجع الأمور والأول أظهر عندي والله أعلم
وفي هذا الحديث دليل على أن الجنة والنار مخلوقتان كما يقول جماعة أهل السنة وهم الجماعة الذين هم الحجة أهل الرأي والآثار
86

ويدل على ذلك قول الله (عز وجل) * (ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة) * [البقرة 35]
وقوله تعالى " لا يفتنكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة " [الأعراف 27]
وقال * (إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) * [طه 117]
وقال لإبليس * (فأخرج منها فإنك رجيم) * [الحجر 34]
وقال (عز وجل) في آل فرعون * (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا) * [غافر 46]
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتكت النار إلى ربها (1) الحديث
وقوله (عليه الصلاة والسلام) اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها المساكين واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء (2)
وقوله دخلت الجنة فأخذت منها عنقودا (3)
وقوله عليه السلام لما خلق الله الجنة حفها بالمكاره وخلق النار فحفها بالشهوات
87

والآثار في أن الجنة والنار قد خلقتا كثيرة جدا
ومما يدل على أن المراد في هذا الحديث الجنة والنار ما حدثنا محمد بن خليفة قال حدثنا محمد بن الحسين قال حدثنا الفريابي قال حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم الدمشقي قال حدثنا بن أبي فديك قال حدثنا بن أبي ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الميت تحضره الملائكة فإذا كان الرجل الصالح قالوا أخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب أخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان فذكر الحديث وفيه قال فيجلس الرجل الصالح في قبره غير فزع ويفرج له فرجة إلى النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضا فيقال له انظر إلى ما وقاك الله ثم يفرج له فرجة إلى الجنة فينظر إلى زهرتها وما فيها فيقال له هذا مقعدك وذكر تمام الحديث
وفيه بيان وتفسير حديث البراء وقد ذكرناه بإسناده في التمهيد
وفيه قال فتعاد روحه إلى جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه ويقولان له من ربك فيقول ربي الله ويقولان له ما دينك فيقول ديني الإسلام ويقولان له من نبيك فيقول نبيي محمد عليه السلام فينادي مناد من السماء صدق عبدي فافرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له بابا إلى الجنة قال فيأتيه من طيبها وروحها ويفتح له في قبره مد بصره (1) الحديث
وفيه في الكافر أنه يفتح له باب إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه (2)
وهذا الحديث يفسر أيضا حديث بن عمر المذكور في هذا الباب ويبين المراد منه والله أعلم
والأحاديث بهذا المعنى كثيرة جدا
وأما قوله إن أحدكم فإن الخطاب موجه إلى أصحابه وإلى المنافقين والله أعلم فيعرض على المؤمن مقعده من الجنة وعلى المنافق مقعده من النار
وفي هذا الحديث الإقرار بالموت والبعث بعده والإقرار بالجنة والنار
88

وكذا يستدل به من ذهب إلى أن الأرواح على أفنية القبور وهو أصح ما ذهب إليه في ذلك والله أعلم لأن الأحاديث بذلك أحسن مجيئا وأثبت نقلا من غيرها
والمعنى عندي أنها قد تكون على أفنية قبورها لا على أنها لا تريم ولا تفارق أفنية القبور بل هي كما قال مالك - رحمه الله - أنه بلغه أن الأرواح تسرح حيث شاءت
وعن مجاهد أنه قال الأرواح على القبور سبعة أيام من يوم دفن الميت لا تفارق ذلك والله أعلم
522 - مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كل بن آدم تأكله الأرض إلا عجب الذنب (1) منه خلق وفيه يركب
تابع يحيى قوم على قوله تأكله الأرض وقالت طائفة يأكله التراب والمعنى واحد
وعجب الذنب معروف وهو العظم في الأسفل بين الإليتين الهابط من الصلب يقال لطرفه العصعص ويقال عجب الذنب وعجم الذنب وهو أصله
وظاهر هذا الحديث وعمومه يوجب أن يكون بنو آدم في ذلك كلهم سواء إلا أنه قد روي في أجساد الأنبياء وأجساد الشهداء أن الأرض لا تأكلهم وحسبك ما جاء في شهداء أحد وغيرهم
وهذا دليل على أن اللفظ في ذلك لفظ عموم يراد به الخصوص والله أعلم
فكأنه قال كل من تأكله الأرض فإنه لا يؤكل منه عجب الذنب
وإذا جاز أن لا تأكل الأرض عجب الذنب جاز أن لا تأكل الشهداء
وذلك كله حكم الله وحكمته وليس في حكمه إلا ما شاء وإنما يعرف من هذا ما عرفنا به ويسلم له إذا جهل عليه لأنه ليس برأي ولكنه قول من يجب التسليم له صلى الله عليه وسلم وقد ذكرنا في التمهيد حديث جابر قال استصرخ بنا إلى قتلانا يوم أحد
89

وأجرى معاوية بن أبي سفيان العين واستخرجناهم بعد ست وأربعين سنة لينة أجسادهم تمشي أطرافهم
وأما قوله منه خلق وفيه يركب فيدل على أنه ابتدأ خلقه وتركيبه من عجب الذنب وهذا لا يدرك إلا بخبر ولا خبر عندنا فيه مفسر وإنما فيه جملة ما جاء في هذا الخبر
وأما الأحاديث في خلق آدم عليه السلام فقد ذكرنا منها في التمهيد بعض ما وصلنا
523 - مالك عن بن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك الأنصاري أنه أخبره أن أباه كعب بن مالك كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنما نسمة المؤمن طير يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه
اختلف أصحاب الزهري عنه في هذا الحديث فروته طائفة عن بن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه كما رواه مالك ورواه آخرون عن بن شهاب عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك وروته طائفة أخرى عن بن شهاب عن بن كعب بن مالك ولم يسموه عن كعب وقد ذكرناهم في التمهيد
والقول عندي في ذلك قول مالك ومن تابعه والله أعلم
وقد ظن قوم أن هذا الحديث يعارضه ظاهر حديث بن عمر المتقدم ذكره قوله إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي الحديث وقالوا إذا كان يسرح في الجنة ويأكل منها فهو في الجنة في جميع أحيانه فكيف يعرض عليه منها مقعده بالغداة والعشي خاصة
وهذا عندي ليس كما ظنوا لأن حديث كعب بن مالك هذا معناه في الشهداء خاصة وحديث بن عمر في سائر الناس
والدليل على ذلك أن سفيان بن عيينة روى هذا الحديث عن عمرو بن دينار عن بن شهاب عن بن كعب بن مالك عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أرواح الشهداء طير خضر يعلق في شجر الجنة
وقد ذكرنا إسناده عن بن عيينة في التمهيد
وذكرنا حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الشهداء يغدون
90

ويروحون إلى رياض الجنة ثم يكون مأواهم إلى قناديل معلقة بالعرش الحديث
ذكرناه من طرق هناك والحمد لله
وروى بن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد سمع بن عباس يقول إن أرواح الشهداء تجول في طير خضر تعلق من ثمر الجنة فهذا أكله
فهذا نص يخص أرواح الشهداء دون سائر الناس فالشهيد يسرح في الجنة ويأكل منها يقول الله (عز وجل) في الشهداء إنهم * (أحياء عند ربهم يرزقون) * [آل عمران 169] فخصهم بهذه الفضيلة فلا يشركهم فيها غيرهم والنسمة الأرواح تذهب وتجيء وتسبح وتأكل كأنها طير - قد قيل - خضر
وهذا هو الصحيح لا رواية من روى في أجواف طير لأنه لا يجتمع في جسد روحان روح المؤمن وروح الطير
هذا محال تدفعه العقول لمخالفته الأصول وإنما الرواية الصحيحة والله أعلم رواية من روى في أرواح الشهداء كأنها طير لا في جوف طير وهو ظاهر حديث مالك هذا في قوله إنما نسمه المؤمن طائر ولم يقل في جوف طائر
وروى الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق قال سئل عبد الله بن مسعود عن أرواح الشهداء قال أرواح الشهداء عند الله كطير خضر في قناديل تحت العرش تسرح في الجنة حيث شاءت ثم ترجع إلى قناديلها فيتطلع إليها ربها فيقول ماذا تريدون فيقولون نريد أن نرجع إلى الدنيا فنقتل مرة أخرى
وفي هذا الحديث عن بن مسعود قوله كطير حسن أيضا
وفي قول بن مسعود تسرح في الجنة ما يعضد رواية من روى تعلق بفتح اللام لأن معنى ذلك تسرح ومن روى تعلق بضم اللام فالمعنى فيه عند أهل اللغة تأكل وترعى ونحو هذا
ولمجاهد في قول الله (عز وجل) في الشهداء * (أحياء عند ربهم يرزقون) * [آل عمران 169] قال ليس هم في الجنة ولكن يأكلون من ثمارها ويجدون ريحها
قال أبو عمر ظاهر حديث مالك يرد قول مجاهد هذا لأن فيه إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة ومن ادعى أن شجر الجنة وثمرها في غيرها فقد أحال ظاهر الحديث
وقد استوعبنا القول في شرح معنى هذا الحديث ولفظه في التمهيد والحمد لله
91

وأما قوله نسمة المؤمن فالنسمة الروح عند جماعة العلماء على ظاهر الحديث وحجتهم قوله في الحديث حتى يرجعه الله إلى جسده وقد قيل إن النسمة الإنسان لقوله صلى الله عليه وسلم من أعتق نسمة مؤمنة
وقال علي (رضي الله عنه) لا والذي خلق الحبة وبرأ النسمة
قال ذو الرمة
(بأعظم منه تقى في الحساب
* إذا النسمات نقضن الغبارا) (1)
والعرب تعبر عن المعنى الواحد بألفاظ شتى وعن معان متقاربة بمعنى واحد هذا كثير في لغتها
حدثنا عبد الوارث وسعيد قالا حدثنا قاسم قال حدثنا محمد قال حدثنا أبو بكر قال حدثنا معاوية عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق قال سألنا بن مسعود عن هذه الآية * (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) * [آل عمران 169] فقال أما إنا قد سألنا عن ذلك أرواحهم طير خضر تسرح في الجنة في أيها شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش وذكر تمام الخبر
وذكر بن أبي الدنيا قال حدثنا خالد بن خداش قال سمعت مالك بن أنس يقول بلغني أن أرواح المؤمنين مرسلة تذهب حيث شاءت
524 - مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قال الله تبارك وتعالى إذا أحب عبدي لقائي أحببت لقاءه وإذا كره لقائي كرهت لقاءه
قال أبو عبيد في معنى هذا الحديث ليس وجهه عندي أن يكون الإنسان يكره الموت وشدته فإن هذا لا يكاد يخلو منه أحد نبي ولا غيره ولكن المكروه من ذلك إيثار الدنيا والركون إليها وكراهية أن يصير إلى الله تعالى والدار الآخرة ويريد المقام في الدنيا
ومما يبين ذلك أن الله تعالى قد عاب قوما بحب الحياة الدنيا فقال * (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها) * [يونس
92

وقال في اليهود * (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة) * [البقرة 96]
وقال * (ولا يتمنونه أبدا) * [الجمعة 7]
فهذا يدل على أن كراهة لقاء الله ليس كراهة للموت وإنما كراهة النقلة من الدنيا إلى الآخرة
قال أبو عمر الذي أقول في معنى هذا الحديث ما شهدت به الآثار المرفوعة وهي الملجأ والحجة لمن لجأ إليها وذلك والله أعلم عند معاينة الإنسان ما يعانيه عند حضور أجله فإذا رأى ما يكره لم يحب الخروج من الدنيا ولا لقاء ما عاين مما يصير إليه وأحب لو بقي في الدنيا ليتوب ويعمل صالحا وإن رأى ما يحب أحب لقاء الله والإسراع إلى رحمته لحسن ما يعاين من ذلك
حدثنا سعيد وعبد الوارث قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يزيد بن هارون قال حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه قالوا يا رسول الله ما منا أحد إلا وهو يكره الموت ويقطع به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان ذلك كشف له (1)
حدثنا خلف بن قاسم حدثنا حمزة بن محمد قال حدثنا أحمد بن شعيب قال حدثنا هناد بن السري عن أبي زبيد عن مطرف عن عامر الشعبي عن شريح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه (2)
قال شريح فأتيت عائشة فقلت يا أم المؤمنين سمعت أبا هريرة يذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا إن كان كذلك فقد هلكنا فقالت وما ذاك قلت من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه وليس منا أحد إلا وهو يكره الموت قالت قد قاله رسول الله ولكن ليس الذي يذهب إليه ولكن أرى إذا شخص البصر وحشرج الصدر واقشعر الجلد فعند ذلك من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه
93

فهذه الآثار قد بان فيها أن ذلك عند حضور الموت ومعاينة ما هنالك وذلك حين لا تقبل توبة التائب إن لم يتب قبل ذلك
وروى شيبان عن قتادة في قوله (عز وجل) * (ولتعلمن نبأه بعد حين) * [ص 88] قال بعد الموت
قال وقال الحسن يا بن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين
وروى الزنجي مسلم بن خالد عن بن جريج * (ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر) * [القيامة 18] قال عند الموت يعلم ما له من خير وشر
525 - مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله إذا مات فحرقوه ثم أذروا نصفه في البر ونصفه في البحر فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين فلما مات الرجل فعلوا ما أمرهم به فأمر الله البر فجمع ما فيه ثم قال لم فعلت هذا قال من خشيتك يا رب وأنت أعلم قال فغفر له
قد ذكرنا اختلاف الرواية عن مالك في رفع هذا الحديث وتوقيفه في التمهيد والصواب رفعه لأن مثله لا يكون رأيا وقد ذكرنا في التمهيد طرقا كثيرة لحديث أبي هريرة هذا
وذكرنا من رواه معه من الصحابة رضي الله عنهم
وفي رواية أبي رافع عن أبي هريرة في هذا الحديث أنه قال قال رجل لم يعمل خيرا قط إلا التوحيد وهذه اللفظة ترفع الإشكال في إيمان هذا الرجل والأصول كلها تعضدها والنظر يوجبها لأنه محال أن يغفر الله للذين يموتون وهم كفار لأن الله عز وجل قد أخبر أنه لا يغفر أن يشرك به وقال * (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) * [الأنفال 38] فمن لم ينته عن شركه ومات على كفر لم يك مغفورا له قال الله عز وجل * (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار) * [النساء 18]
وأما قوله لم يعمل حسنة قط وقد روي لم يعمل خيرا قط أنه لم يعذبه إلا
94

ما عدا التوحيد من الحسنات والخير بدليل حديث أبي رافع المذكور
وهذا شائع في لسان العرب أن يؤتى بلفظ الكل والمراد البعض وقد يقول العرب لم يفعل كذا قط يريد الأكثر من فعله
ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام لا يضع عصاه عن عاتقه (1) يريد أن الضرب للنساء كان منه كثيرا لا أن عصاه كانت ليلا ونهارا على عاتقه
وقد فسرنا هذا المعنى في غير موضع من كتابنا هذا
والدليل على أن الرجل كان مؤمنا قوله حين قال له لم فعلت هذا قال من خشيتك يا رب والخشية لا تكون إلا لمؤمن يصدق بل ما تكاد تكون إلا من مؤمن عالم قال الله تعالى * (إنما يخشى الله من عباده العلماء) * [فاطر 28]
قالوا كل من خاف الله فقد آمن به وعرفه ويستحيل أن يخاف من لا يؤمن به
وقد ذكرنا من الآثار في التمهيد ما يوضح ما قلنا وبالله توفيقنا
وأما قوله لئن قدر الله علي فقد اختلف العلماء في ذلك
فقال بعضهم هذا رجل جهل بعض صفات الله تعالى وهي القدرة قالوا ومن جهل صفة من صفات الله (عز وجل) وآمن به وعلم سائر صفاته أو أكثر صفاته لم يكن بجهله بعضها كافرا وإنما الكافر من عاند الحق لا من جهله
والشواهد على هذا من القرآن كثيرة قد ذكرناها في باب عبد الله بن دينار من التمهيد
ومنها قول الله (عز وجل) * (يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون) * [آل عمران 70]
وقال * (يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون) * [آل عمران
95

وقال * (ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) * [آل عمران 75]
وقال * (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) * [البقرة 2]
وقال * (وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم) * [الصف 5]
وقال * (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) * [النمل 14]
فهذا هو الكفر المجتمع عليه في الاسم الشرعي والاسم اللغوي
والدليل على أن من جهل صفة من صفات الله تعالى لا يكون بها كافرا إذا كان مصدقا بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر وغيره سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القدر ومعناه قدم العلم أنه مكتوب عنده ما سبق في علمه وفي ذلك يجري خلفه [لا فيما يستأنف بل ما قد جف به القلم وكل صغير وكبير مسطر في اللوح المحفوظ] فأعلمهم أنه ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم ومعلوم أنهم في حين سؤالهم وقبله كانوا مؤمنين
وقد ذكرنا الآثار بهذا المعنى عنهم في التمهيد
ولا يسع مسلما أن يقول فيه غير ذلك ولو كان لا يسعه جهل صفة من صفات الله تعالى وهي قدم العلم لعلمهم بذلك مع الشهادة بالتوحيد ويجعله عمودا سادسا للإسلام
وقال آخرون أراد بقوله لئن قدر الله علي أي لئن كان قدر الله عليه والتخفيف في هذه اللفظة والتشديد سواء في اللغة فقدر [هنا] عند هؤلاء من القدر الذي هو الحكم وليس من باب القدرة والاستطاعة في شيء وهو مثل قوله (عز وجل) * (وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه) * [الأنبياء 87]
وللعلماء في تأويل هذه اللفظة في هذه الآية قولان أحدهما أنها من التقدير والقضاء والآخر أنها من التقتير والتضييق وقد ذكرنا من شواهد [الشعر] العربي على الوجهين جميعا في التمهيد ما فيه كفاية
والمعنى في قول هؤلاء والله أعلم لئن ضيق الله علي وبالغ في محاسبتي ولم يغفر لي وجازاني على ذنوبي ليكونن ما ذكر
والوجه الآخر كأنه قال لئن كان قد سبق في قدر الله وقضائه أن يعذب كل ذي جرم على جرمه ليعذبنني على ذنوبي عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين غيري
96

وهذا منه خوف ويقين وإيمان وتوبيخ لنفسه وخشية لربه وتوبة على ما سلف من ذنوبه
هذا كله لا يكون إلا لمؤمن مصدق مؤمن بالبعث والجزاء
وفي القدر لغتان مشهورتان قدر الله (بالتشديد) وقدر الله (بالتخفيف)
ذكره بن قتيبة عن الكسائي وذكره ثعلب وغيره
وقد ذكرناه والشواهد عليه في التمهيد والحمد لله
526 - مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه كما تناتج الإبل (1) من بهيمة جمعاء (2) هل تحس فيها من جدعاء (3) قالوا يا رسول الله أرأيت الذي يموت وهو صغير قال الله أعلم بما كانوا عاملين
وروي هذا الحديث عن النبي (عليه السلام) من وجوه صحاح ثابتة من حديث أبي هريرة وغيره
ممن رواه عن أبي هريرة عبد الرحمن الأعرج وسعيد بن المسيب وأبو سلمة وحميد ابنا عبد الرحمن بن عوف وأبو صالح السمان وسعيد بن أبي سعيد ومحمد بن سيرين
ولم يروه مالك عن بن شهاب فيما علمت وليس فيه غير روايته عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة واختلف أصحاب بن شهاب عنه فيه على ما قد ذكرناه عنهم في التمهيد
وزعم الذهلي أن الطرق فيه عن بن شهاب صحاح كلها
وأما قوله في حديث مالك وغيره في هذا الحديث كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه الحديث فإن أهل العلم اختلفوا في معنى قوله كل مولود
97

فقالت طائفة من الذاهبين إلى أن الفطرة الإيمان والإسلام ليس في قوله كل مولود ما يقتضي العموم لأن المعنى في ذلك أن كل من ولد على الفطرة وكان له أبوان على غير الإسلام فإن أبويه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه
قالوا وليس المعنى أن جميع المولودين من بني آدم أجمعين مولودون على الفطرة بل المعنى أن المولود على الفطرة بين الأبوين الكافرين محكوم له بحكمهما في كفرهما حتى يعبر عنه لسانه ويبلغ مبلغ من يكسب على نفسه
وكذلك من لم يولد على الفطرة وكان أبواه مؤمنين حكم له بحكمهما ما دام لم يحتلم فإذا بلغ ذلك كان حكم نفسه
واحتج قائلوا هذه المقالة بحديث أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن بن عباس عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الغلام الذي قتله الخضر طبعه الله يوم طبعه كافرا (1)
وبحديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ألا إن بني آدم خلقوا طبقات فمنهم من يولد مؤمنا ويحيى مؤمنا ويموت مؤمنا ومنهم من يولد كافرا ويحيى كافرا ويموت كافرا ومنهم من يولد مؤمنا ويحيى مؤمنا ويموت كافرا ومنهم من يولد كافرا ويحيى كافرا ويموت مؤمنا (2)
وقد ذكرنا خبر أبي بن كعب وخبر أبي سعيد الخدري من طرق في التمهيد
قالوا ففي حديث أبي وحديث أبي سعيد ما يدل على أن المعنى في قوله كل مولود يولد على الفطرة أبواه نصرانيان أو يهوديان فأبواه يهودانه أو ينصرانه أي يحكم له بحكمهما في الميراث وفي دفنه مع أبويه ونحو ذلك ما دام صغيرا ثم يصير عند بلوغه إلى ما يحكم به عليه
قالوا وألفاظ الحفاظ على نحو حديث مالك هذا
ودفعوا رواية من روى كل بني آدم يولد على الفطرة
قالوا ولو صح هذا اللفظ ما كان فيه حجة لما ذكرنا لأن الخصوص جائز دخوله على هذا اللفظ في لسان العرب
98

ألا ترى قوله تعالى " تدمر كل شيء بأمر ربها " [الأحقاف 25] ولم تدمر السماوات والأرض
وقوله " فتحنا عليهم أبواب كل شيء " [الأنعام 44] ولم يفتح عليهم أبواب جهنم ومثله كثير
وذكروا من ألفاظ الحديث في ذلك رواية الأوزاعي عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه
وقد ذكرنا اختلاف ألفاظ بن شهاب فيه في التمهيد
ومما احتجوا به أيضا ما رواه أبو رجاء العطاردي عن سمرة بن جندب في الحديث الطويل حديث الرويا وفيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإبراهيم وأما الولدان حوله فكل مولود يولد على الفطرة (1)
وقال آخرون كل مولود من بني آدم فهو يولد على الفطرة أبدا وأبواه يحكم له بحكمهما وإن كان قد ولد على الفطرة حتى يكون ممن يعبر عنه لسانه
قالوا والدليل على أن المعنى ما وصفنا رواية من روى كل بني آدم يولد على الفطرة وما من مولود إلا ويولد على الفطرة وحق الكلام أن يحمل على عمومه
حدثنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ قال أخبرنا مطلب بن شعيب قال حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثنا الليث قال حدثني جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز أنه قال قال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل بني آدم يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه الحديث على نحو ما ذكره مالك
وكذلك رواه خالد الواسطي عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال كل بني آدم يولد على الفطرة
ورواه الليث بالإسناد المتقدم قال حدثني يونس عن بن شهاب قال أخبرني أبو سلمة أن أبا هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء
99

ثم قال أبو هريرة اقرؤوا * (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) * [الروم 30]
وذكروا حديث سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث الرؤيا فيه والشيخ الذي في أصل الشجرة إبراهيم (عليه السلام) والولدان حوله أولاد الناس
فقالوا هذه الأحاديث تدل ألفاظها على أن المعنى في حديث مالك وما كان مثله ليس كما تأوله المخالف على ما ذكرنا عنه بل الجميع من أولاد الناس مولودون على الفطرة
قال أبو عمر الفطرة المذكورة في هذا الحديث اختلف العلماء فيها واضطربوا في معناها وذهبوا في ذلك مذاهب متباينة وادعت كل فرقة منهم في ذلك ظاهر آية أو ظاهر سنة وسنبين ذلك كله ونوضحه ونذكر ما فيه من الآثار والأقوال عن السلف والخلف إن شاء الله
وقد سأل أبو عبيد القاسم بن سلام محمد بن الحسن الفقيه صاحب أبي حنيفة عن معنى هذا الحديث فما أجابه فيه بأكثر من أن قال كان هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يؤمر الناس بالجهاد
قال أبو عبيد وقال بن المبارك يفسره آخر الحديث الله أعلم بما كانوا عاملين
هذا ما ذكره أبو عبيد في تفصيل قوله صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على الفطرة الحديث عن محمد بن الحسن وبن المبارك ولم يزد في ذلك عنهما ولا عن غيرهما
وأما ما ذكره عن بن المبارك فقد روي عن مالك نحو ذلك وليس فيه مقنع من التأويل ولا شرح مذهب في أمر الأطفال ولكنها جملة تؤدي إلى الوقوف عن القطع فيهم بكفر أو إيمان أو جنة أو نار ما لم يبلغوا
وأما ما ذكره عن محمد بن الحسن فأظنه حاد عن الجواب إما لإشكاله عليه أو لجهله به أو لكراهة الخوض في ذلك
وأما قوله إن ذلك القول كان من النبي (عليه السلام) قبل أن يؤمر الناس بالجهاد فليس كما قال ليس في حديث الأسود بن سريع ما يبين أن ذلك كان بعد الأمر بالجهاد وقد ذكرناه بإسناده في التمهيد من طريق الحسن والأحنف جميعا عن الأسود بن سريع
100

وروى عوف الأعرابي عن أبي رجاء العطاردي عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال كل مولود يولد على الفطرة فناداه الناس يا رسول الله وأولاد المشركين قال وأولاد المشركين
قال أبو عمر أما اختلاف العلماء في الفطرة المذكورة في هذا الحديث فقال جماعة من أهل العلم والنظر أريد بالفطرة المذكورة في هذا الحديث الخلقة التي خلق عليها المولود في المعرفة بربه فكأنه قال كل مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة يريد خلقة مخالفة لخلقة البهائم التي لا تصل بخلقتها إلى معرفة ذلك
واحتجوا على أن الفطرة الخلقة والفاطر الخالق بقوله (عز وجل) * (فاطر السماوات والأرض) * [فاطر 1] يعني خالقهن
وقوله * (وما لي لا أعبد الذي فطرني) * [يس 22] يعني خلقني وما كان مثله من أي القرآن
وأنكروا أن يكون المولود فطر على كفر أو إيمان أو معرفة أو إنكار
وقالوا إنما يولد المولود على السلامة في الأغلب خلقة وبنية وطبعا ليس معها إيمان ولا كفر ولا إنكار ولا معرفة ثم يعتقدون الإيمان أوالكفر بعد إذا ميزوا
واحتجوا بقوله في الحديث كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء - يعني سالمة - هل تحسون فيها من جدعاء يعني مقطوعة الأذن فمثل قلوب بني آدم بالبهائم لأنها تولد كاملة الخلق ليس فيها نقصان ولا آفة ثم تقطع آذانها بعد وتشق وتثقب أنوفها ويقال هذه بحائر وهذه سوائب وكذلك قلوب الأطفال في حين ولادتهم سالمة ليس لهم كفر ولا إيمان ولا معرفة ولا إنكار فلما بلغوا استهوتهم الشياطين وكفر أكثرهم وعصم الله أقلهم
قالوا ولو كان الأطفال قد فطروا على شيء من الكفر أو الإيمان في أولية أمرهم ما انتقلوا عنه أبدا كما لا ينتقلون عن خلقتهم وقد نجدهم يؤمنون ثم يكفرون ويكفرون ثم يؤمنون
قالوا ويستحيل في المعقول أن يكون الطفل في حين ولادته يعقل كفرا أو إيمانا لأن الله عز وجل أخرجهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا
قال أبو عمر هذا القول أصح ما قيل في معنى الفطرة التي يولد الناس عليها والله أعلم
101

وذلك أن الفطرة السلامة والاستقامة بدليل حديث عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم حاكيا عن ربه (عز وجل) إني خلقت عبادي حنفاء (1) يعني على استقامة وسلامة
والحنيف في كلام العرب المستقيم السالم
وإنما قيل للأعرج أحنف على جهة التفاؤل كما قيل للقفر مفازة
فكأنه والله أعلم أراد الذين خلصوا من الآفات كلها من المعاصي والطاعات بلا طاعة منهم ولا معصية إذ لم يعملوا بشيء من ذلك
ألا ترى إلى قول موسى - عليه السلام - في الغلام الذي قتله الخضر * (أقتلت نفسا زكية بغير نفس) * [الكهف 74] لما كان عنده أن من لم يبلغ لم يكسب الذنوب
وقد زدنا هذا المعنى بيانا وحجة في التمهيد
وقال آخرون الفطرة ها هنا الإسلام قالوا وهو المعروف عند عامة السلف من أهل العلم بالتأويل
قالوا في قول الله عز وجل * (فطرة الله التي فطر الناس عليها) * [الروم 30] يعني الإسلام
واحتجوا بحديث أبي هريرة اقرؤوا إن شئتم * (فطرة الله التي فطر الناس عليها) * [الروم 30]
وذكروا عن عكرمة ومجاهد والحسن وإبراهيم والضحاك وقتادة قالوا * (فطرة الله التي فطر الناس عليها) * [الروم 30] دين الله الإسلام
* (لا تبديل لخلق الله) * [الروم 30] قالوا لدين الله
واحتجوا أيضا بحديث محمد بن إسحاق عن ثور بن يزيد عن يحيى بن جابر عن عبد الله بن عائذ الأزدي عن عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس يوما ألا أحدثكم بما حدثني الله في الكتاب إن الله خلق آدم وبنيه حنفاء مسلمين (2) الحديث بطوله
وكذلك رواه بكر بن مجاهد عن ثور بن يزيد بإسناده وقال فيه حنفاء المسلمين وقد ذكرناه بإسناده في التمهيد
102

ورواه قتادة عن مطرف بن الشخير عن عياض بن حمار ولم يسمعه قتادة من مطرف لأن همام بن يحيى روى عن قتادة قال لم أسمعه من مطرف ولكنه حدثني ثلاثة عقبة بن عبد الغافر ويزيد بن عبد الله بن الشخير والعلاء بن يزيد كلهم يقول حدثنا مطرف بن عبد الله بن الشخير عن عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث قال فيه إني خلقت عبادي حنفاء كلهم لم يقل مسلمين
وكذلك رواه عوف الأعرابي عن الحسن عن مطرف عن عياض بن حمار ولم يقل فيه مسلمين وإنما قال حنفاء فقط
وقد روى هذا الحديث محمد بن إسحاق عن من لا يتهم عنده عن قتادة عن مطرف عن عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال فيه إني خلقت عبادي كلهم حنفاء وساق الحديث ولم يقل فيه مسلمين
فدل هذا على حفظ محمد بن إسحاق وإتقانه وضبطه أنه ذكر مسلمين في روايته عن ثور بن يزيد لهذا الحديث وأسقطه من رواية قتادة
وكذلك رواه شعبة وهشام ومعمر عن قتادة عن مطرف عن عياض عن النبي (عليه السلام) يقولون فيه مسلمين
وقد اختلف العلماء في تأويل قوله تعالى * (حنفاء) * فروي عن الضحاك والسدي في قوله * (حنفاء) * قالا حجاجا
روي عن الحسن قال الحنيفية حج البيت
وعن مجاهد قال حنفاء متبعين هذا كله
يدل على أن الحنيفية الإسلام ويشهد أن ذلك قوله * (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما) * [آل عمران 67]
وقال * (هو سماكم المسلمين من قبل) * [الحج 78]
قالوا أول من تسمى مسلم وسمى من اتبعه المسلمين (إبراهيم) عليه السلام
في الحديث خلقت عبادي حنفاء أي سالمين من آفات الجحد والإنكار والكفر
قالوا فلا وجه لإنكار من أنكر رواية من روى حنفاء مسلمين
قال أبو عمر يعني والله أعلم موحدين لا على دين إبراهيم في شريعته بل على دين إبراهيم في نفي الشرك ودفع عبادة الأوثان وكل ما يعبد من دون الله ثم بعث الله
103

نبيهم صلى الله عليه وسلم بالإسلام دين إبراهيم وشرع له منهاجا ارتضاه ليس له منه شيء ينفي دين إبراهيم والمسلمون كلهم حنفاء على الاتساع
قال الشاعر وهو الراعي
(أخليفة الرحمن إنا معشر
* حنفاء نسجد بكرة وأصيلا)
(عرب نرى لله في أموالنا
* حق الزكاة منزلا تنزيلا)
فهذا قد وصف الحنيفية بالإسلام بإسناد
وقد قيل الحنيف من كان على دين إبراهيم ثم سمي من كان يختتن ويحج البيت في الجاهلية حنيفا
والحنيف اليوم المسلم ويقال إنما سمي إبراهيم حنيفا لأنه كان حنف عما كان يعبد أبوه وأمه من الآلهة إلى عبادة الله أي عدل عن ذلك ومال
وأصل الحنف ميل من إبهامي القدمين كل واحدة على صاحبتها
واحتجوا بقوله (عليه السلام) إنها خمس من الفطرة وعشر من الفطرة يعني من سنن الإسلام
وممن ذهب إلى أن الفطرة في معنى هذا الحديث الإسلام أبو هريرة وبن شهاب
قال الأوزاعي سألت الزهري عن رجل عليه رقبة مؤمنة أيجزئ عنه الصبي إن يعتقه وهو يرضع قال نعم لأنه ولد على الفطرة يعني الإسلام
وعلى هذا الفعل يكون في الحديث قوله من بهيمة جمعاء هل تحسون من جدعاء يقول خلق الطفل سليما من الكفر مؤمنا مسلما على الميثاق الذي أخذه الله على ذرية آدم (عليه السلام) حين أخرجهم من صلبه وأشهدهم على أنفسهم * (ألست بربكم قالوا بلى) * [الأعراف 172]
قال أبو عمر يستحيل أن تكون الفطرة المذكورة في الحديث الإسلام لأن الإسلام والإيمان قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح لا يجهل ذلك أحد والفطرة لها معان ووجوه من كلام العرب وإنما أجزأ الطفل المرضع عند من أجاز عتقه في الرقاب الواجبة لأن حكمه حكم أبويه وخالفهم آخرون فقالوا لا يجزئ في الرقاب الواجبة إلا من صام وصلى
وقال آخرون معنى قوله (عليه الصلاة والسلام) كل مولود يولد على الفطرة يعني على البداية التي ابتدأهم عليها أي على ما فطر الله عليه خلقه من أنه ابتدأهم
104

بالحياة للموت وللشقاء والسعادة إلى ما يصيرون إليه عند البلوغ من ميولهم عن آبائهم واعتقادهم ما لا بد من مصيرهم إليه
قالوا والفطرة في كلام العرب البدأة والفاطر المبدئ والمبتدئ فكأنه قال صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على ما ابتدأه الله عليه من الشقاء والسعادة مما يصير إليه
وذكروا عن بن عباس قال لم أكن أدري ما * (فاطر السماوات والأرض) * [فاطر 1] حتى أتانا أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما أنا فطرتها أي ابتدأتها
واحتجوا بقول الله (عز وجل) * (كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة) * [الأعراف 29 30]
وذكروا ما يروى عن علي بن أبي طالب في بعض دعائه اللهم جبار القلوب على فطرتها شقيها وسعيدها
قال أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي وهذا المذهب شبيه بما حكاه أبو عبيد في قوله عن عبد الله بن المبارك في قوله كل مولود يولد على الفطرة أنه قال يفسره آخر الحديث حين سئل عن أولاد المشركين فقال الله أعلم بما كانوا عاملين
قال المروزي قد كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا القول ثم تركه
قال أبو عمر ما رسمه مالك في الموطأ وذكره في أبواب القدر منه يدل على أن مذهبه نحو ذلك والله أعلم
وقد ذكرنا في التمهيد عن سعيد بن جبير عن محمد بن كعب القرظي ومجاهد وغيرهم في قول الله (عز وجل) * (كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة) * [الأعراف 29 30] قالوا شقيا وسعيدا
وقال بعضهم يبعث المسلم مسلما والكافر كافرا
وقال الربيع بن أنس عن أبي العالية " كما بدأكم تعودون [الأعراف 29] قالوا عادوا إلى علمه فيهم " فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة " [الأعراف 30]
وقال محمد بن كعب من ابتدأ الله خلقه للضلالة سيره إلى الضلالة وإن عمل بأعمال الهدى ومن ابتدأ الله (عز وجل " خلقه على الهدى سيره إلى الهدى وإن عمل بأعمال أهل الضلالة ابتدأ خلق إبليس على الضلالة وعمل بعمل السعداء مع الملائكة ثم رده الله إلى ما ابتدأ عليه خلقه من الضلالة
105

قال وكان من الكافرين وابتدأ خلق السحرة على الهدى وعملوا بعمل أهل الضلالة ثم هداهم الله إلى الهدى والسعادة وتوفاهم عليها
وقال محمد بن كعب في قول الله تعالى * (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) * [الأعراف 172] يقول فأقرت له بالإيمان والمعرفة الأرواح قبل أن تخلق أجسادها
واحتجوا أيضا بحديث عمر بن الخطاب من رواية مالك وغيره أنه سئل عن هذه الآية * (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) * [الأعراف 172] الحديث على ما في الموطأ
قال أبو عمر ليس في قوله * (كما بدأكم تعودون) * [الأعراف 29] ولا في أن الله (عز وجل) يختم للعبد بما قضاه له وقدر عليه حين أخرج ذرية آدم من ظهره دليل على أن الطفل يولد حين يولد مؤمنا أو كافرا بما شهدت به العقول إنه في ذلك الوقت ليس ممن يعقل إيمانا ولا كفرا
والحديث الذي جاء أن الناس خلقوا طبقات فمنهم من يولد مؤمنا ومنهم من يولد كافرا على حسب ما تقدم ذكره في هذا الباب ليس من الأحاديث التي لا مطعن فيها لأنه انفرد به علي بن زيد بن جدعان وقد كان شعبة يقول فيه كان رفاعا
على أنه يحتمل قوله يولد مؤمنا أي يولد ليكون مؤمنا ويولد ليكون كافرا على سابق علم الله فيه والعرب تسمي الشيء باسم ما يؤول إليه
وليس في قوله في الحديث خلقت هؤلاء للجنة وخلقت هؤلاء للنار أكثر من مراعاة ما يختم به لهم لأنهم في حين طفولتهم ممن يستحق جنة أو نارا أو يفعل كفرا أو إيمانا
وقال آخرون معنى قوله (عليه الصلاة والسلام) كل مولود يولد على الفطرة أن الله قد فطرهم على الإنكار والمعرفة والكفر والإيمان فأخذ من ذرية آدم ميثاقا حين حلفهم فقال (ألست بربكم) قالوا جميعا بلى
فأما أهل السعادة فقالوا بلى على معرفة به طوعا من قلوبهم وأما أهل الشقاء فقالوا بلى كرها لا طوعا
قال وتصديق ذلك قوله تعالى * (وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها) * [آل عمران
106

وكذلك قوله تعالى * (كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة) * [الأعراف 29 30]
قال المروزي سمعت إسحاق بن إبراهيم بن راهويه يذهب إلى هذا المعنى واحتج بقول أبي هريرة اقرؤوا إن شئتم * (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله) * [الروم 30]
قال إسحاق يقول لا تبديل لخلقته التي جبل عليها ولد آدم كلهم يعني من الكفر والإيمان والمعرفة والإنكار
واحتج إسحاق أيضا بقوله (عز وجل) * (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) * [الأعراف 172]
قال إسحاق أجمع أهل العلم أنها الأرواح قبل الأجساد فاستنطقهم وأشهدهم على أنفسهم * (ألست بربكم قالوا بلى) * فقال انظروا أن لا تقولوا * (إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم) * [الأعراف 172 173]
واحتج إسحاق أيضا بحديث أبي بن كعب مرفوعا في الغلام الذي قتله الخضر أنه كان طبع كافرا وبأن بن عباس كان يقرأ (وأما الغلام فكان كافرا)
وقد ذكرنا ما للعلماء في تأويل قول الله (عز وجل) * (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) * في التمهيد
وسئل حماد بن سلمة عن قوله (عليه السلام) كل مولود يولد على الفطرة فقال هذا عندنا حيث أخذ العهد عليهم من أصلاب آبائهم
وهو نحو ما تقدم من قول إسحاق
وقد كان أحمد حينا يقول به وحينا يحيد عنه
وقد تقصينا عن العلماء أهل الأثر الآثار الشاهدة لأقوالهم في التمهيد
وأما أهل البدع فمنكرون لما قاله العلماء في تأويل قول الله (عز وجل) * (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) * [الأعراف 172]
قالوا ما أخذ الله من آدم وذريته شيئا قط قبل خلقه إياهم وما خلقهم قط إلا في بطون أمهاتهم وما استخرج قط من ذرية آدم دونه مخاطب ولو كان ذلك لأحياهم ثلاث مرات
قالوا وكيف يخاطب الله من لا يعقل وكيف يجيب من لا عقل له وكيف يحتج عليهم بميثاق لا يذكرونه وهو (تعالى ذكره) لا يؤاخذهم بما نسوا
107

قالوا ولا نجد أحدا يذكر له أنه عرض له أو كان منه
قالوا وإنما أراد الله (عز وجل) بقوله * (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم) * [الأعراف 172] إخراجه إياهم في الدنيا وخلقه لهم وإقامته عليهم الحجة بأن فطرهم ونبأهم فطرة إذا بلغوا وعقلوا علموا أن الله ربهم وخالقهم
وقال بعضهم أخرج الذرية قرنا بعد قرن وعصرا بعد عصر وأشهدهم على أنفسهم بما جعل في عقولهم مما تنازعهم فيه أنفسهم إلى الإقرار بالربوبية حتى صاروا بمنزلة من قيل لهم * (ألست بربكم قالوا بلى) * [الأعراف 172]
وقال بعضهم قال لهم ألست بربكم على ألسنه أنبيائه
وكلهم يقولون إن الحديث المأثور عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليس بتأويل للآية
ثم اختلف القائلون بهذا كله في المعرفة هل تقع ضرورة أو اكتسابا وليس هذا موضع ذكر ذلك ولله الحمد
وكل ما ذكرنا قد ذكره أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي فيما وصفنا في معنى الحديث المذكور وبالله التوفيق
وأما اختلاف العلماء في الأطفال فقالت طائفة أولاد الناس كلهم المؤمنين منهم والكافرين إذا ماتوا أطفالا صغارا ما لم يبلغوا في مشيئة الله (عز وجل) يصيرهم إلى ما شاء من رحمة أو عذاب وذلك كله عدل منه وهو أعلم بما كانوا عاملين
وهو قول جماعة من أهل الأثر منهم حماد بن زيد وهو الذي يدل عليه موطأ مالك وهذا القول نسبه أهل الكلام إلى أهل الأخبار
وحجة من ذهب إلى هذا حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأطفال فقال الله أعلم بما كانوا عاملين (1)
وحديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله (عز وجل) وكل بالرحم ملكا يقول يا رب نطفة يا رب علقة يا رب مضغة فإذا أراد أن يقضي خلقه قال أذكر
108

أم أنثى أشقي أم سعيد وما الرزق وما الأجل فيكتب في بطن أمه (1)
وحديث بن مسعود قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق أن بن آدم يمكث في بطن أمه أربعين يوما ثم يصير علقة أربعين يوما ثم يصير مضغة أربعين يوما ثم يبعث الله إليه ملكا فيقول يا رب أذكر أم أنثى أشقي أم سعيد وما الأجل وما الأثر فيوحي الله ويكتب الملك حتى أن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع أو قيد ذراع فيغلب عليه الكتاب الذي سبق فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو قيد ذراع فيغلب عليه الكتاب الذي سبق فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة (2)
وقد روى هذا المعنى جماعة من الصحابة وقد ذكرنا الآثار عنهم في التمهيد
وقد روي عن بن عباس بالأسانيد الصحاح عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أولاد المشركين فقال الله أعلم بما كانوا عاملين
ورواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله وطرقه عن أبي هريرة صحاح ثابتة وهي أثبت من جهة النقل من كل ما روي في هذه الأبواب وقد ذكرناها في التمهيد
ومن جهة من ذهب إلى هذا المذهب أيضا حديث عائشة قالت أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبي من صبيان الأنصار ليصلي عليه فقلت طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل سوءا ولم يدركه ذنب فقال النبي صلى الله عليه وسلم أو غير ذلك يا عائشة إن الله تعالى خلق الجنة وخلق لها أهلها وخلقهم في أصلاب آبائهم وخلق النار وخلق لها أهلها وخلقهم في أصلاب آبائهم (3)
وهو حديث رواه طلحة بن يحيى وفضيل بن عمرو عن عائشة بنت طلحة عن عائشة وليس ممن يعتمد عليه عند بعض أهل الحديث
109

ومن حجتهم أيضا حديث بن عباس عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرا (1)
وهذا خبر لم يروه عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن بن عباس عن أبي مرفوعا إلا رقبة بن مسقلة وعبد الجبار بن عباس الهمداني ولم يرفعه شعبة والثوري
وهو مذهب بن عباس في كتابه إلى نجدة الحروري حيث قال له وأما الغلمان فإن كنت تعلم منهم ما علمه الخضر من الغلام فاقتلهم
على أنه قد روي عن عكرمة وقتادة أن الذي قتله الخضر رجل وكان قاطع طريق
وهذا خلاف ما يعرفه أهل اللغة في لفظ الغلام لأن الغلام عندهم هو الصبي الصغير يقع عليه عند بعضهم اسم الغلام من حين يفهم إلى سبع سنين وعند بعضهم يسمى غلاما وهو رضيع إلى سبع سنين ثم يصير يافعا ويفاعا إلى عشر سنين ثم يصير حزورا إلى خمس عشرة سنة
واختلف في تسمية منازل سنة بعد ذلك إلى أن يصير هما فانيا كبيرا مما لا حاجة بنا إلى ذكره
وقد ذكرنا آثار هذا الباب بأسانيدها وما كان من معنى طرقها في التمهيد
وقال آخرون (وهم الأكثر) أطفال المسلمين في الجنة وأطفال الكفار في المشيئة
ومن حجتهم حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما من المسلمين من يموت له ثلاث من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخلهم الله وإياه الجنة بفضل رحمته تجاوبهم يوم القيامة فيقال لهم ادخلوا الجنة فيقولون لا حتى يدخل آباؤنا فيقال لهم ادخلوا أنتم وآباؤكم بفضل رحمتي (2)
ومعلوم أن من أدركته الرحمة من أجل غيره وشفع فيه غيره أنه قد كان مرحوما قبله وكان أرفع حالا وأسلم ممن شفع فيه
وحديث شعبة عن معاوية بن قرة عن أبيه أن رجلا جاء بابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم
110

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أتحبه فقال أحبك الله يا رسول الله كما أحبه فتوفي الصبي ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فقال أين فلان قالوا يا رسول الله توفي ابنه ثم دخل الرجل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أما ترضى أن لا تأتي بابا من أبواب الجنة إلا جاءه يسعى يفتحه لك فقالوا يا رسول الله أله وحده أم لنا كلنا قال بل لكم كلكم (1)
رواه يحيى القطان وبن مهدي ومحمد بن جعفر وعلي بن الجعد وغيرهم عن شعبة عن معاوية بن قرة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم
وحديث البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في ابنه إبراهيم أن له مرضعا في الجنة
وحديث أبي هريرة أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول صغاركم دعاميص الجنة (2)
وحديث أبي هريرة أيضا أولاد المسلمين في جبل تكفلهم سارة وإبراهيم فإذا كان يوم القيامة دفعوهم إلى آبائهم
واحتجوا أيضا بما روي عن علي بن أبي طالب في قول الله (عز وجل) * (كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين) * [المدثر 38 39] قال هم أطفال المسلمين
وقد ذكرنا هذه الآثار بأسانيدها في التمهيد
وقال آخرون حكم الأطفال كلهم كحكم آبائهم في الدنيا والآخرة منهم مؤمنون بإيمان آبائهم وكافرون بكفر آبائهم فأطفال المسلمين في الجنة وأطفال الكفار في النار
وحجتهم حديث بن عباس عن الصعب بن جثامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في أطفال الكفار هم من آبائهم
وهذا عندي لا حجة فيه لأنه إنما ورد في أحكام الدنيا أنهم إن أصيبوا في التبييت والغارة فلا قود فيهم ولا دية وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان في دار الحرب
واحتجوا أيضا بحديث الشعبي عن علقمة بن قيس عن سلمة بن يزيد الجعفي قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إن أمنا ماتت في الجاهلية وكانت تقري الضيف وتصل الرحم وتفعل وتفعل فهل ينفعها من عملها شيء قال لا قلنا إن أمنا وأدت أختا لنا في الجاهلية لم تبلغ الحنث فهل ذلك نافع أختنا فقال
111

رسول الله صلى الله عليه وسلم الوائدة والموؤودة في النار إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فيغفر لها (1)
وروى بقية بن الوليد عن محمد بن زياد الألهاني قال سمعت عبد الله بن أبي قيس يقول سمعت عائشة تقول سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذراري المؤمنين فقال هم مع آبائهم قلت فلا عمل قال الله أعلم بما كانوا عاملين وسألته عن ذراري المشركين فقال هم مع آبائهم قلت فلا عمل قال الله أعلم بما كانوا عاملين (2)
وقد روي هذا الحديث عن عائشة أيضا من وجهين غير هذا هما أضعف من هذا
وفي حديث أبي عقيل يحيى بن المتوكل عن بهية عن عائشة زيادة في أولاد المشركين أنه قال والذي نفسي بيده لئن شئت لأسمعتك تضاغيهم في النار
وأبو عقيل ضعيف متروك
وقد ذكرنا أسانيد هذه الآثار وما كان مثلها في التمهيد ولو صح في هذا الباب شيء احتمل أن يكون خصوصا لقوم من المشركين ويدل على ذلك أيضا قوله لئن شئت أسمعتك تضاغيهم (3) في النار
وهذا لا يكون إلا فيمن مات وصار في النار على أن التخصيص ليس له حظ من النظر والأولى بأهل النظر أن يعرضوا لهذه الآثار بما هو أقوى مجيئا منها عن النبي صلى الله عليه وسلم بالشهادة للأطفال كلهم بالجنة
وقد احتج من ذهب إلى أن أطفال الكفار في النار وأطفال المسلمين في الجنة بقوله تعالى " والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء " [الطور 21] وقوله (عز وجل) لنوح (عليه السلام) * (وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن) * [هود 36] فلما قيل لنوح ذلك وعلم أنهم لا يؤمنون وأنهم على كفرهم يموتون دعا عليهم بهلاكهم جميعا فقال * (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) * [نوح 26 27]
وهذا عندي لا حجة فيه لأنه في قوم بأعيانهم يلدون الفجار والكفار ولا
112

يصح الفجور والكفر إلا ممن تجري عليه الأقلام ويلحقه التكليف
وقال آخرون أولاد المسلمين وأولاد الكفار إذا ماتوا صغارا في الجنة
وقال بعضهم هم خدم أهل الجنة يعني أولاد المشركين خاصة
وحجتهم ما حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني قال حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا عوف عن خنساء امرأة من بني صريم عن عمها قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الأنبياء في الجنة والشهداء في الجنة والمولود في الجنة والوليد في الجنة
ومن حديث عائشة قالت سألت خديجة النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال هم مع آبائهم ثم سألته بعد ذلك فقال الله أعلم بما كانوا عاملين ثم سألته بعد ذلك فنزلت * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * [الأنعام 164] فقال هم على الفطرة وهم في الجنة
وفي حديث أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سألت ربي عن اللاهين من ذرية البشر أن لا يعذبهم فأعطانيهم
قال أبو عمر إنما قيل للأطفال اللاهين لأن أعمالهم كاللهو واللعب من غير عمد ولا قصد من قولهم لهيت عن الشيء إذا لم أعتقده كقوله تعالى * (لاهية قلوبهم) * [الأنبياء 3]
ومن حديث سلمان قال أطفال المشركين خدم أهل الجنة
وقد روي ذلك مرفوعا من حديث أنس
وروى أبو رجاء العطاردي عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم الحديث الطويل حديث الرويا وفيه قوله (عليه السلام) وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم (عليه السلام) وأما الولدان حوله فكل مولود يولد على الفطرة قال فقيل يا رسول الله وأولاد المشركين فقال وأولاد المشركين
وفي رواية أخرى عن أبي رجاء عن سمرة في هذا الحديث والشيخ في أصل الشجرة إبراهيم والصبيان حوله أولاد الناس فهذا يقتضي ظاهره وعمومه جميع الناس
وآثار هذا الباب معارضة لحديث الوائدة والموؤودة في النار وما كان مثله
113

وإذا تعارضت الآثار وجب سقوط الحكم بها ورجعنا إلى أن الأصل أنه لا يعذب أحد إلا بذنب لقوله تعالى * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) * [الإسراء 15] وقوله * (ألم يأتكم رسل منكم) * [الزمر 71]
وآيات القرآن كثيرة في هذا المعنى على أني أقول إن الله ليس بظلام للعبيد ولو عذبهم لم يكن ظالما لهم ولكن جل من تسمى بالغفور الرحيم الرؤوف الحكيم أن تكون صفاته إلا حقيقة لا إله إلا هو لا يسأل عما يفعل وهم يسألون
وقال آخرون يمتحنون في الآخرة
واحتجوا بحديث أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهالك في الفترة والمعتوه والمولود قال يقول الهالك في الفترة لم يأت كتاب ولا رسول ثم تلا قوله تعالى * (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك) * [طه 134] ويقول المعتوه يا رب لم تجعل لي عقلا أعقل به خيرا ولا شرا قال ويقول المولود رب لم أدرك العقل والعمل قال فترفع لهم نار فيقال لهم ردوها وادخلوها قال فيردها أو يدخلها من كان في علم الله سعيدا لو أدرك العمل ويمسك عنها من كان في علم الله شقيا لو أدرك العمل قال فيقول الله (عز وجل) إياي عصيتم فكيف برسلي لو أتتكم
وقد روي عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل معنى هذا الحديث
وقد روي أيضا من حديث معاذ بن جبل مثله ومعناه
وهي كلها أسانيد ليست بالقوية ولا يقوم بها حجة وقد ذكرناها بأسانيدها في التمهيد
وأهل العلم ينكرون أحاديث هذا الباب لأن الآخرة دار جزاء وليست دار عمل ولا ابتلاء وكيف يكلفون دخول النار وليس ذلك في وسع المخلوقين والله لا يكلف نفسا إلا وسعها ولا يخلو أمر من مات في الفترة من أن يموت كافرا أو غير كافر إذا لم يكفر بكتاب الله ولا رسول فإن كان قد مات كافرا جاحدا فإن الله قد حرم الجنة على الكافرين فكيف يمتحنون وإن كان معذورا بأن لم يأته نذير ولا أرسل إليه رسول فكيف يؤمر أن يقتحم النار وهي أشد العذاب والطفل ومن لا يعقل أحرى بأن لا يمتحن بذلك
وإنما ادخل العلماء في هذا الباب النظر لأنه لم يصح عندهم فيه الأثر وبالله التوفيق لا شريك له
114

وقد ذكره بن عباس ومحمد بن الحنفية وجماعة من أهل الكلام في الأطفال والقدر
ذكر إسحاق بن راهويه قال حدثنا يحيى بن آدم قال أخبرنا جرير بن حازم عن أبي رجاء العطاردي قال سمعت بن عباس يقول لا يزال أمر هذه الأمة مواتيا أو متقاربا حتى يتكلموا أو ينظروا في الأطفال والقدر
قال يحيى بن آدم فذكرته لابن المبارك فقال أيسكت الإنسان على الجهل قلت فيأمر بالكلام فسكت
وذكر المروذي قال حدثنا عمرو بن زرارة قال أخبرنا إسماعيل بن علية عن بن عون قال كنت عند القاسم بن محمد إذ جاءه رجل فقال له ماذا كان بين قتادة وبين حفص بن عدي في أولاد المشركين قال وتكلم ربيعة الرأي في ذلك فقال القاسم إذا الله نهى عن شيء فانتهوا وقفوا عنده قال فكأنما كانت نارا فأطفئت
وقد سمع بن عباس رجلين يتكلمان في القدر فقال كلاكما زائغ
قال أبو عمر قد ذكرنا والحمد لله ما بلغنا عن العلماء في معنى الفطرة التي يولد المولود عليها واختصرنا القول لأنا بسطناه في التمهيد
وكل ما ذكرناه من ذلك فإنما هو أحكامهم في الآخرة وبقيت أحكامهم في الدنيا
[فمن ذلك ما أجمع عليه العلماء وما اختلفوا فيه ونحن نذكر ذلك ها هنا بعون الله وفضله لا شريك له أجمع العلماء فيما علمت قديما وحديثا على أن أحكام الأطفال في الدنيا كأحكام آبائهم ما لم يبلغوا فإذا بلغوا فحكمهم حكم أنفسهم هذا في أطفال المسلمين وأطفال أهل الذمة كآبائهم في المواريث والنكاح والصلاة على أطفال المسلمين منهم وأما أطفال الحربيين فإن حكمهم مخالف لحكم آبائهم] لأن آباءهم يقتلون وهم يسبون ولا يقتلون إلا أن يقاتلوا إلا أنهم اختلفوا في الطفل الحربي يسبى ومعه أبواه أو أحدهما أو يسبى وحده
فذهب مالك - في رواية المصريين عنه وهو المشهور عندنا من مذهبه أن الطفل من أولاد الحربيين وسائر الكفار لا يصلى عليه إن مات سواء كان معه أبواه أو لم يكونا حتى يعقل الإسلام ويلقنه فيلقنه ويسلم
وهو عنده أنه على دين أبويه حتى يبلغ ويعبر عنه لسانه فإن اختلف دينه على دين أبويه فهو عنده على دين أبيه دون أمه
115

ومن الحجة لمذهبه إجماع العلماء على أنه ما دام مع أبويه ولم يلحقه سباء فحكمه حكم أبويه حتى يبلغ
فكذلك إذا سبي وحده لا يصير السبي حكمه حتى يبلغ فيعبر عنه لسانه
وهو قول الشعبي وعبد الله بن عون
ذكر أبو إسحاق الفزاري عن سلمة بن تمام قال قلت للشعبي إني بخراسان أبتاع السبي فيموت بعضهم أفأصلي عليه قال إذا صلى فصل عليه
قال الفزاري وسألت هشاما وبن عون عن السبي يموتون وهم صغار في ملك المسلمين فقال هشام يصلى عليهم وقال بن عون لا يصلى عليهم حتى يصلوا
وذكر عبد الملك بن عبد العزيز الماجشون عن أبيه ومالك المخزومي وبن دينار وغيرهم أنهم كانوا يذهبون إلى أن الصبيان من السبي إذا كان معهم آباؤهم فهم على دين أبيهم إن أسلم أبوهم صاروا مسلمين بإسلامه وإن يمت على الكفر فهم على دينه ولا يعتد فيهم بدين الأم على حال لأنهم لا ينتسبون إليها وإنما ينتسبون إلى أبيهم وبه يعرفون
قال عبد الملك هذا ما لم يفرق بينهم السباء فيقعون في قسم مسلم وملكه بالبيع والقسم فإذا فرق بينهم وبين آبائهم بالبيع أو القسمة فأحكامهم حينئذ أحكام المسلمين في الصلاة عليهم والدفن في مقابر المسلمين والموارثة وغيرها
قال أبو عمر قول عبد الملك وروايته هذه عن أصحابه مالك وغيره من أهل المدينة كمذهب الأوزاعي وأهل الشام
قال الأوزاعي في الصبيان يموتون من السبي بعد أن اشتروا قال يصلى عليهم وإن كانوا لم يباعوا لم يصل عليهم
يريد إذا كانوا في ملك مسلم فملكه لهم أولى بهم من حكم آبائهم
قال بن الطباع على هذا فتيا أهل الثغر وهو قول سليمان بن موسى ورواية الحارث عن الأوزاعي
وذكر أبو المغيرة عن صفوان بن عمرو قال سمعت أصحابنا ومشيختنا يقولون ما ملك المسلمون من صبيان العدو فماتوا يصلى عليهم وإن لم يصلوا لأنهم مسلمون ساعة يملكهم المسلمون
وقال تمام بن نجيح كنت مع سليمان بن موسى بأرض الروم وهو على السبي فكانوا يموتون صغارا فلا يصلي عليهم فقلت أليس كان يقال ما أحرز
116

المسلمون يصلى عليهم قال ذاك إذا اشتراه مسلم فصار في ملكه
قال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما وهو قول حماد بن أبي سليمان حكم الطفل حكم أبويه إذا كانا معه أو كان معه أحدهما وسواء الأب والأم في ذلك فإن لم يكونا معه ولا أحدهما فصار في ملك مسلم فحكمه حكم المسلمين ودينه دين سيده المسلم
واختلف عن الثوري فروي عنه مثل قول أبي حنيفة وروى عنه بن المبارك أنه قال يصلى على الصبي وإن كان معه أبواه كافرين لأن الملك أغلب عليه وأملك به وهذا كقول الأوزاعي
وقال الفزاري عن سفيان إذا دخلوا فئة المسلمين صلي عليهم وإذا صاروا في ملك المسلمين صلى عليهم
وقال أبو ثور إذا سبي الطفل مع أبويه أو أحدهما أو وحده ثم مات قبل أن يختار الإسلام لم يصل عليه
وذكر أبو عبيد قول الأوزاعي لأن دين سيده أحق به من دين والديه والإسلام يعلو ولا يعلى عليه قال ولما لم يكن على دين أبويه إذا كانا ميتين أو غائبين وكذلك إذا كانا [حيين]
قال أبو عبيد ويختلفون عن مالك فيه
وقال أحمد بن حنبل إذا سبي معه أبواه أو أحدهما ثم مات لم يصل عليه وهو على دينهما
قال وإن لم يكن معه أبواه صلى عليه المسلمون هم يلونه وحكمه حكمهم
قال] وإن كان معه أبواه جاز أن يفدى به مسلم وإن لم يكونا معه لم يجز
وكان بن حنبل يتعجب من قول أهل الثغور في ذلك لأنهم لم يلتفتوا إلى أبويه في حال من الأحوال وجعلوا حكمه حكم سيده المسلم
قال ثم جعل يحتج عليهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم فأبواه يهودانه أو ينصرانه
527 - مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول
117

الله صلى الله عليه وسلم قال لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه
قال أبو عمر قد ظن بعض الناس أن هذا الحديث معارض لنهيه صلى الله عليه وسلم عن تمني الموت لقوله (عليه السلام) لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به (1)
ولقول خباب بن الأرت لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به
قال وفي الحديث إباحة تمني الموت وليس كما ظن وإنما هذا خبر أن ذلك سيكون لشدة ما ينزل بالناس من فساد الحال في الدين وضعفه وخوف ذهابه لا لضر ينزل بالمؤمن يحط خطاياه
وقوله لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه إخبار عن تغير الزمان وما يحدث فيه من المحن والبلاء والفتن
وقد ذكرنا في التمهيد حديث زاذان أبي عمر عن عليم الكندي قال كنت مع عبس الغفاري على سطح له فرأى قوما يتحملون من الطاعون فقال يا طاعون خذني إليك ثلاثا يعيدها فقال له عليم لم تقول هذا ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتمنين أحدكم الموت فإنه عند انقطاع عمله ولا يرد فيستعتب فقال عبس إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بادروا بالموت ستا إمرة السفهاء وكثرة الشرط وبيع الحكم واستخفافا بالدم وقطيعة الرحم ونشوا يتخذون القرآن مزامير يقدمون الرجل يغنيهم بالقرآن وإن كان أقلهم فقها (2)
وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم إذا أردت بالناس فتنة أو أردت في الناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون (3) ما يوضح لك معنى هذا الباب
ومثل هذا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه اللهم قد ضعفت قوتي وكبرت سني وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط
وروى شعبة عن سلمة بن كهيل قال سمعت أبا الزعراء يحدث عن عبد الله
118

قال ليأتين عليكم زمان يأتي الرجل القبر فيقول يا ليتني كنت مكان هذا ليس به حب الله ولكن يشده ما يرى من البلاء
ومر عمر بن عبد العزيز بمجلس فقال لأهله ادعوا الله لي بالموت قال فدعوا له فما مكث إلا أياما حتى مات
528 - مالك عن محمد بن عمرو بن حلحلة الديلي عن معبد بن كعب بن مالك عن أبي قتادة بن ربعي أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر عليه بجنازة فقال مستريح ومستراح منه قالوا يا رسول الله ما المستريح وما المستراح منه قال العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب
ليس في هذا الحديث معنى يشكل ولا ما يحتاج إلى تفسير ولا ما يحتمله من خلاف التأويل وقد ذكرنا في التمهيد سماع كل من في إسناده بعضهم من بعض
ورواه محمد بن إسحاق عن معبد بن كعب بن مالك عن أبي قتادة الأنصاري قال بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتاه آت فقال يا رسول الله مات فلان فقال عبد الله دعي فأجاب مستريح ومستراح منه فقال يا رسول الله مستريح ماذا قال عبد الله المؤمن استراح من الدنيا ونصبها وهمومها وأحزانها وأفضى إلى رحمة الله قلنا ومستراح منه ماذا قال عبد الله الرجل الشر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب
حدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا أبي قال حدثنا يزيد بن هارون قال حدثنا محمد بن إسحاق فذكره
529 - مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مات عثمان بن مظعون ومر بجنازته ذهبت ولم تلبس منها بشيء
هكذا هو في الموطأ مرسلا مقطوعا لم يختلفوا في ذلك عن مالك
روى بن وهب عن عمرو بن الحارث أن أبا النضر حدثه عن زياد عن بن
119

عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على عثمان بن مظعون حين مات فأكب عليه ثم رفع رأسه ثم جثا الثانية ثم رفع رأسه ثم جثا الثالثة ثم رفع رأسه وله شهيق فعرفوا أنه يبكي فبكى القوم فقال أستغفر الله اذهب أبا السائب فقد خرجت منها ولم تلبس منها بشيء
وقد رويناه متصلا مسندا من وجه صحيح حسن ذكرته في التمهيد من حديث يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت لما مات عثمان بن مظعون كشف النبي صلى الله عليه وسلم الثوب عن وجهه وقبل بين عينيه وبكى بكاء طويلا فلما رفع على السرير قال طوبى لك يا عثمان لم تلبسك الدنيا ولم تلبسها
وقوله صلى الله عليه وسلم ذهبت ولم تلبس منها بشيء ثناء منه صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون وتفضيل له وكان واحد الفضلاء والعباد الزاهدين في الدنيا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان هو وعلي يذهبان يترهبا ويتركا النساء ويقبلا على العبادة ويحرما طيب الطعام على أنفسهما فنزلت * (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) * [المائدة 87]
ذكره معمر وغيره عن قتادة قال نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون وغيرهما أرادوا أن يتخلوا من الدنيا ويتركوا النساء ويترهبوا
وذكر بن جريج عن عكرمة أن علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون وبن مسعود والمقداد بن عمرو وسالما مولى أبي حذيفة تبتلوا وجلسوا في البيوت واعتزلوا النساء ولبسوا المسوح وحرموا طيبات ما أحل لهم يعني النساء والطعام واللباس وفي الحديث من الفقه إباحة الثناء على المرء بما فيه من الأعمال الزاكية
وفيه مدح الزهد في الدنيا والتقلل منها وفي ذلك ذم الرغبة فيها والاستكثار منها
530 - مالك عن علقمة عن أمه أنها قالت سمعت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فلبس ثيابه ثم خرج قالت فأمرت جاريتي تتبعه فتبعته حتى جاء البقيع فوقف في أدناه ما شاء الله أن يقف ثم انصرف فسبقته
120

بريرة فأخبرتني فلم أذكر له شيئا حتى أصبح ثم ذكرت ذلك له فقال إني بعثت إلى أهل البقيع لأصلي عليهم
قال أبو عمر يحتمل أن تكون الصلاة ها هنا الدعاء فإن كان ذلك ففيه دليل على أن زيارة القبور والدعاء لأهلها عندها أفضل وأرجى لقبول الدعاء فكأنه أمر أن يستغفر لهم ويدعو بالرحمة كما قيل له * (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) * [محمد 19]
ويحتمل أن تكون الصلاة ها هنا الصلاة على الموتى فإن كان ذلك خصوص لهم فإجماع المسلمين على أنه لا يصلي أحد على قبر مرتين ولا يصلي أحد على قبر من لم يصل عليه إلا أن يكون بحدثان ذلك وأكثر ما قالوا في ذلك ستة أشهر
وقد بينا هذا المعنى عند ذكر صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبر المسكينة من هذا الكتاب
ويحتمل أن يكون هذا ليعلمهم بالصلاة منه عليهم لأنه ربما دفن من لم يصل عليه كالمسكينة ومثلها ليكون مساويا بينهم في صلاته عليهم ولا يؤثر بعضهم بذلك ليتم عدله فيهم لأن صلاته على من صلى عليه رحمة وبركة ورفعة
ومن هذا المعنى قسم صلاة الخوف بالطائفتين ولم يقدم أحدا من أصحابه يصلي بالطائفة الأخرى ليشملهم عدله ولا يؤثر بعضهم لنفسه
وقد قيل إن خروجه للبقيع للصلاة على أهله كان كالمودع للأحياء والأموات
وقوله إني بعثت إلى أهل البقيع لأصلي عليهم فهو عندي كلام خرج مخرج العموم ومعناه الخصوص كأنه قال بعثت إلى البقيع لأصلي على من لم أصل عليه من أصحابي ليعمهم بذلك
وفيه لبريرة فضيلة
وفيه الاستخدام بالعتق
والاستخدام بالليل وذلك عندي فيما خف أو فيه طاعة الله عز وجل وحسن أن يجازيه على ذلك ويكافئه لاستخدامه به
وفيه ما كانوا عليه من مراعاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلا ونهارا
وقد روى أبو مويهبة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه القصة حديثا حسنا يدل على أن ذلك كان منه (عليه السلام) حين خيره الله بين الدنيا والآخرة ونعيت إليه نفسه فاختار ما عند الله
حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا
121

إبراهيم بن زهير قال حدثنا أحمد بن محمد بن أيوب قال حدثنا إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق قال حدثني عبد الله بن عمر بن علي العبدي عن عبيد بن جبير مولى الحكم بن أبي العاص عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال أخبرني أبو مويهبة مولى النبي صلى الله عليه وسلم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا مويهبة إني أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فاستغفر لهم ثم انصرف فأقبل علي وقال يا أبا مويهبة إن الله قد خيرني في مفاتيح خزائن الأرض والخلد فيها ثم الجنة أو لقاء ربي فاخترت لقاء ربي فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم من تلك الليلة فبدأه وجعه الذي مات منه (1)
531 - مالك عن نافع أن أبا هريرة قال أسرعوا بجنائزكم فإنما هو خير تقدمونه إليه أو شر تضعونه عن رقابكم
هكذا روى هذا الحديث جمهور رواة الموطأ موقوفا على أبي هريرة ورواه الوليد بن مسلم عن مالك عن نافع عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتابع ذلك عن مالك
ولكنه مرفوع من غير رواية مالك عن أبي هريرة من طرق ثابتة
وهو محفوظ أيضا من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعا
وقد ذكرنا الأسانيد بذلك - عن نافع عن أبي هريرة وعن سعيد عن أبي هريرة - من طرق في التمهيد
وأما الذي جاء به هذا الحديث فمعناه عندي ترك التراخي وكراهية المطيطاء والتبختر والتباطؤ والزهو في المشي مع الجنازة وغيرها
وعلى هذا جماعة العلماء والعجلة أحب إليهم من الإبطاء
ويكره الإسراع الذي يشق على ضعفه من يتبعها
وقد قال إبراهيم النخعي خضوا فيها ولا تدبوا دبيب اليهود والنصارى
122

وروي عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة وجماعة من السلف أنهم أمروا أن يسرع بهم
وهذا عندي على ما استحبه الفقهاء ولكل شيء قدر وهو أمر خفيف إن شاء الله
وقد تأول قوم في قوله في هذا الحديث أسرعوا بجنائزكم أنه أراد تعجيل الدفن بعد استيقان الموت
ومن حجة من ذهب إلى هذا التأويل في حديث أبي هريرة هذا حديث الحصين بن وحوح أن طلحة بن البراء مرض فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقال إني لا أرى
طلحة إلا قد حدث فيه الموت فآذنوني به وعجلوا فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله (1)
وحديث علي بن أبي طالب ان النبي صلى الله عليه وسلم قال له يا علي ثلاثة لا تؤخرها الصلاة إذا أتت والجنازة إذا حضرت والأيم إذا وجدت لها كفؤا (2)
قال أبو عمر إلا أن قوله (عليه السلام) إنما هو خير تقدمونه إليه أو شر تضعونه عن رقابكم يدل على المشي وهيئته لا الدفن
هذا ظاهر الحديث وكل ما احتمل المعنى فليس ببعيد في التأويل
وروى شعبة عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي بكرة أنه أسرع في المشي في جنازة عثمان بن أبي العاص وأمرهم بذلك وقال قد رأيت وإنا مع النبي صلى الله عليه وسلم (عليه السلام) نرمل رملا (3)
وعن بن مسعود أنه قال سألنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن المشي مع الجنازة فقال دون الخبب إن يكن خيرا يعجل به وإن يكن غير ذلك فبعدا لأهل النار
123

((17 كتاب الزكاة))
((1 - باب ما تجب فيه الزكاة))
532 - مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أنه قال سمعت أبا سعيد الخدري يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيما دون خمس ذود (1) صدقة وليس فيما دون خمس أواق (2) صدقة وليس فيما دون خمسة أوسق (3) صدقة
533 - مالك عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة الأنصاري ثم المازني عن أبيه أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة وليس فيما دون خمس أواقي من الورق (4) صدقة وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة
124

534 - مالك أنه بلغه أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامله على دمشق في الصدقة إنما الصدقة في الحرث (1) والعين (2) والماشية (3)
قال مالك ولا تكون الصدقة إلا في ثلاثة أشياء في الحرث والعين والماشية
قال أبو عمر حديث أبي سعيد الخدري في هذا الباب من رواية عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد ومن رواية محمد بن يحيى بن حبان وغيره عن يحيى بن عمارة والد عمرو بن يحيى عن أبي سعيد صحيح ولا مطعن لأحد فيه
وأما رواية بن أبي عبد الرحمن بن أبي صعصعة فمعلولة لا تصح عنه عن أبيه عن أبي سعيد وإنما هي ليحيى بن عمارة عن أبي سعيد وقد بينا ذلك في التمهيد
وقال بعض أهل العلم إن هذه السنة الثابتة من رواية أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم لا توجد إلا من رواية أبي سعيد الخدري دون سائر الصحابة
والذي ذكره من ذلك هو الأغلب المعروف إلا أني قد وجدتها من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة ومن رواية محمد بن مسلم الطائفي عن عمرو بن دينار عن جابر كلاهما عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكرتهما بإسناديهما في التمهيد
وحديث جابر المذكور أكثر بيانا وأكثر فائدة في النص
قال عمرو بن دينار كان جابر بن عبد الله يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا صدقة في شيء من الزرع والنخل والكرم حتى يكون خمسة أوسق ولا في الرقة حتى تبلغ مائتي درهم (4)
وهذا أعم فائدة ولا خلاف فيه وإن كان إسناده فيه لين فإن إجماع العلماء على القول به تصحيح له
وأما قوله ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة الذود واحد الإبل
125

تقول ليس فيما دون خمس من الإبل أو خمس جمال أو خمس نوق صدقة والذود واحد ومنه قيل الذود إلى الذود إبل
وقد قيل إن الذود قطعة من الإبل ما بين الثلاث إلى العشر
والأول عند أكثر أهل اللغة وأشهر
قال الحطيئة
(ونحن ثلاثة وثلاث ذود
* لقد عال الزمان على عيالي) (1)
أي مال عليهم
والأكثر أن الذود عند أهل اللغة من الثلاثة إلى العشرة
قال أبو حاتم وتركوا القياس في الجمع فقالوا ثلاث ذود لثلاث من الإبل وأربع ذود وعشر ذود كما قالوا ثلاث مائة وأربع مائة على غير قياس
والقياس ثلاث مئين ومئات ولا يكادون يقولون ذلك
قال بن قتيبة ذهب قوم إلى أن الذود واحد وذهب آخرون إلى أن الذود جميع واختار بن قتيبة قول من قال إنه جميع واحتج له بأنه لا يقال خمس ذود كما لا يقال خمس ثوب
قال أبو عمر ليس قوله بشيء لأنه لا يقال خمس ثوب وقد كان بعض الشيوخ لا يروونه إلا في خمس ذود على التنوين لا على الإضافة وعلى هذا يصح ما قاله أهل اللغة
قال أبو عمر الصدقة المذكورة في حديث أبي سعيد الخدري وغيره في هذا الباب هي الزكاة المعروفة وهي الصدقة المفروضة سماها الله صدقة وسماها زكاة
وقال عز وجل * (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) * [التوبة 103]
وقال * (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) * [التوبة 60] يعني الزكاة
126

وقال * (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) * [البقرة 43]
وقال * (الذين لا يؤتون الزكاة) * [فصلت 7]
فهي الصدقة وهي الزكاة وهذا ما لا تنازع فيه والحمد لله
وفي هذا الحديث دليل على أن ما كان دون الخمس من الإبل فلا زكاة فيه وهذا إجماع من علماء المسلمين
وأفادنا قوله ليس فيما دون خمس ذود صدقة فائدتين إحداهما إيجاب الزكاة في الخمس فما فوقها ونفي الزكاة عما في دونها ولا خلاف في ذلك فإذا بلغت خمسا ففيها شاة
واسم الشاة يقع على واحدة من الغنم والغنم الضان والمعز
وهذا أيضا إجماع من العلماء أنه ليس في خمس من الإبل إلا شاة واحدة وهي فريضتها فإذا بلغت الإبل عشرة ففيها شاتان
وسيأتي القول في زكاة الإبل مبسوطا في باب صدقة الماشية من هذا الكتاب إن شاء الله
وأما قوله (عليه السلام) ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة فإنه إجماع من العلماء أيضا
وفيه معنيان يقتضيان فائدتين كما ذكرنا فيما قبل في الإبل إحداهما نفي الزكاة عما دون خمس أواق والثانية إيجابها في هذا المقدار وفيما زاد عليه بحسابها
هذا ما يوجبه ظاهر الحديث لعدم النص عن العفو منها فيما بعد الخمس الأواقي حتى تبلغ مقدارا فلما عدم النص في ذلك وجب القول بإيجابها في القليل والكثير بدلالة العفو عما دون الخمس الأواقي لأنه إيجاب لها في الخمس فما فوقها وعلى هذا أكثر العلماء وسنذكر القائلين به والخلاف فيه في هذا الباب بعد إن شاء الله
والأوقية عندهم أربعون درهما كيلا لا خلاف في ذلك
والأصل في الأوقية ما ذكره أبو عبيد قال الأوقية اسم لوزن سلعة أربعون درهما (1) كيلا
127

والنش (1) نصف الأوقية والنواة (2) وزنها خمسة دراهم كيلا
وما قاله أبو عبيد ذلك هو قول جمهور العلماء
قال أبو عبيد كانت الدراهم غير معلومة إلى أيام عبد الملك بن مروان فجمعها وجعل كل عشرة من الدراهم وزن سبعة مثاقيل
قال وكانت الدراهم يومئذ درهم من ثمانية دوانق زيف ودرهم من أربعة دوانق جيد قال فاجتمع رأي علماء ذلك الوقت لعبد الملك على أن جمعوا الأربعة الدوانق إلى الثمانية فصارت اثني عشر دانقا فجعلوا الدرهم ستة دوانق وسموه كيلا فاتفق لهم في ذلك أن كل مائتي درهم زكاة وأن أربعين درهما أوقية وأن في الخمس الأواقي التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيما دونها صدقة مائتي درهم لا زيادة وهي نصاب الصدقة
قال أبو عمر الأوقية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجز أن تكون مجهولة المبلغ من الدراهم في الوزن ثم يوجب الزكاة عليها وليس يعلم مبلغ وزنها
ووزن الدينار درهمان أمر مجتمع عليه في البلدان وكذلك درهم الوزن اليوم أمر مجتمع عليه معروف بالآفاق إلا أن الوزن عندنا بالأندلس مخالف لوزنهم فالدرهم الكيل عندهم هو عندنا بالأندلس درهم وأربعة أعشار درهم لأن دراهمنا مبنية على دخل أربعين ومائة منها في مائة كيل من دراهمهم
هكذا أجمع الأمراء والناس عندنا بالأندلس وما أظن عبد الملك وعلماء عصره نقصوا شيئا من الأصل وإنما أنكروا وكرهوا الجاري عندهم من ضرب الروم فردوها إلى ضرب الإسلام فعلى ما ذكرنا في الدرهم المعهود عندنا أنه درهم وخمسان تكون المائتا درهم كيلا مائتي درهم وثمانين درهما بدرهمنا وقد قيل إن الدرهم المعهود بالمشرق وهو المعهود بالكيل المذكور هو بوزننا اليوم بالأندلس درهم ونصف وأظن ذلك بمصر وما والاها
وأما أوزان أهل العراق فعلى ما ذكرت لك لم تختلف علينا كتب علمائهم أن درهمهم درهم وأربعة أعشار درهم بوزننا
وهذا موجود في كتب الكوفين والبغداديين إلى عصرنا هذا ويسمونها في وثائقهم وزن سبعة
128

وقد حكى الأثرم عن أحمد بن حنبل أنه اختلاف الدينار والدرهم في اليمن وناحية عدن فقال قد اصطلح الناس على دراهمنا وإن كان بينهم في ذلك اختلاف لطيف
قال وأما الدنانير فليس فيها اختلاف
قال أبو عمر فجملة النصاب ومبلغه اليوم بوزننا على الدخل المذكور خمسة وثلاثون دينارا دراهم حساب الدينار ثمانية دراهم بدراهمنا التي هي دخل أربعين درهما ومائة في مائة كيلا على حساب الدرهم الكيل درهم وأربعة أعشار كما ذكرنا عن السلف بالعراق والحجاز والخلف منهم وأما على حساب الدرهم الدرهم ونصف فإنها تكون سبعة وثلاثين دينارا دراهم وأربعة دراهم والقول الأول هو المعروف عند العلماء فإذا ملك الحر المسلم وزن المائتي الدرهم المذكورة من فضة مضروبة أو غير مضروبة وهي الخمس الأواقي المنصوص عليها في الحديث حولا كاملا فقد وجبت عليه صدقتها وذلك ربع عشرها خمسة دراهم للمساكين والفقراء ومن ذكر في آية الصدقة إلا المؤلفة قلوبهم فإن الله قد أغنى الإسلام وأهله اليوم عن أن يتألف عليه كافر وسنبين هذا المعنى في باب قسم الصدقات من هذا الكتاب مجودا إن شاء الله
وأما قوله في هذا الحديث من الورق فإن أهل اللغة قالوا الورق والرقة هي الدراهم المضروبة ولا يقال عندهم لما عداها من النقود والمسبوك والمصنوع ورقا ولا رقة
وإنما يقال له فضة والفضة اسم جامع لذلك كله
وأما الفقهاء فالفضة والورق عندهم سواء واختلفوا فيما زاد على المائتي درهم الخمس الأواق المذكورة من الفضة فقال أكثرهم ما زاد على المائتي درهم الورق فبحساب ذلك في كل شيء منه ربع عشرة قل أو كثر
هذا قول مالك والليث والشافعي وأكثر أصحاب أبي حنيفة منهم أبو يوسف ومحمد وهو قول بن أبي ليلى والثوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي ثور وأبي عبيد وبن علية وروي ذلك عن علي وبن عمر
روى سفيان الثوري وغيره عن أبي إسحاق السبيعي عن عاصم بن ضمرة عن علي في كل عشرين دينارا نصف دينار وفي كل أربعين دينارا دينار وفي كل مائتي درهم خمسة دراهم وما زاد فبالحساب
وروى بن عيينة وغيره عن أيوب عن بن سيرين عن جابر الحذاء عن بن
129

عمر قال في كل مائتي درهم خمسة دراهم فما زاد فبالحساب
وعن إبراهيم النخعي وعمر بن عبد العزيز مثله
وقالت طائفة من أهل العلم أكثرهم أهل العراق لا شيء فيما زاد على المائتي درهم حتى تبلغ الزيادة أربعين درهما فإذا بلغتها كان فيها درهم وذلك ربع عشرها مضافا إلى الخمسة دراهم تتمم ستة دراهم وما زاد على العشرين دينار من الذهب فلا شيء فيه حتى تبلغ أربعة دنانير
هذا قول يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رواه الليث بن سعد وغيره عن يحيى بن أيوب عن حميد عن أنس عن عمر بن الخطاب
وبه قال سعيد بن المسيب والحسن وطاوس وعطاء والشعبي وبن شهاب الزهري ومكحول وعمرو بن دينار والأوزاعي وأبو حنيفة وزفر وطائفة من أصحابنا
واحتج أبو حنيفة ومن قال بقوله لهذا المذهب بما رواه الحسن بن عمارة عن أبي إسحاق السبيعي عن عاصم بن ضمرة والحارث الأعور عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال قد عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة ربع العشر من كل مائتي درهم خمسة دراهم ومن كل عشرين دينارا نصف دينار وليس في مائتي درهم شيء حتى يحول عليها الحول فإذا حال عليها الحول ففيها خمسة دراهم فما زاد ففي كل أربعين درهم وفي كل أربعة دنانير تزيد على العشرين دينارا درهم حتى يبلغ الذهب أربعين دينارا فيكون فيها دينار وفي أربعة وعشرين دينارا نصف دينار ودرهم (1)
هكذا روى هذا الحديث من أوله إلى آخره الحسن بن عمارة عن أبي إسحاق السبيعي عن عاصم بن ضمرة والحارث الخارقي عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم
ورواه الحفاظ من أصحاب أبي إسحاق عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي من قوله لم يذكروا فيه النبي صلى الله عليه وسلم
وكذلك رواه الثوري وغيره لم يتجاوزوا به عليا رضي الله عنه ولا ساقوه المساق الذي ساقه الحسن بن عمارة ولا يحفظ هذا التلخيص الذي ذكره الحسن بن عمارة إلا من أقاويل التابعين عطاء بن أبي رباح وغيره
130

وقد روي عن علي أيضا خلاف هذا الحديث أنه قال فما زاد على المائتي درهم فبالحساب
كما روي فيه عن بن عمر ومن ذكرنا معه
وقد احتج بعض الكوفيين لمذهبه هذا من جهة النظر بأن قال ما زاد على المائتي درهم إلى أن تبلغ أربعين درهما مختلف فيه لا يثبت باختلاف
قال وهم مجمعون على الأربعين الزائدة على المائتي درهم فكأنه قال فما زاد على المائتي درهم فبالحساب كما قال فيما زادت ففي كل مائتين شاة
قال ولما أجمعوا على الأوقاص في الماشية واختلفوا في العين وجب رد ما اختلفوا فيه إلى ما أجمعوا عليه من أوقاص المواشي
قال وهذا معنى قوله فبالحساب إذ زادت تزيد إذا زادت أربعين فبالحساب في كل أربعين درهما درهم وكذلك الذهب إذا زادت أربعة دنانير
قال أبو عمر هذا غير لازم لأن ما اختلفوا فيه من هذا الباب أصول والأصول لا يقاس بعضها ببعض ولا يرد بعضها إلى بعض وأصل الكوفيين في ذلك غير صحيح لأن الحسن بن عمارة لا يلتفت أهل العلم بالحديث إلى حديثه لضعفه
وقد روي عن طاوس في هذا الباب قول ثالث رواه بن جريج عن هشام بن حجير عن طاوس قال إذا زادت الدراهم على مائتي درهم فلا شيء فيها حتى تبلغ أربع مائة درهم
قال أبو عمر كأنه ذهب إلى الخبر في المائتي درهم خمسة دراهم كما جاء في الخبر في كل خمس من الإبل شاة وفي عشر شاتان
ولا أعلم أحدا قاله كما رواه بن جريج عن هشام بن حجير عن طاوس
وذكر عبد الرزاق عن بن جريج عن هشام بن حجير عن طاوس خلاف ذلك على ما رواه بن طاوس عن أبيه والذي روى بن طاوس عن أبيه أنه إذا زادت الدراهم على مائتين فلا شيء فيها حتى تبلغ أربعين فإذا زادت الدنانير على عشرين دينار فلا شيء فيها حتى تبلغ أربعة دنانير على ما روي عن عمر وسعيد بن المسيب ومن ذكرنا معهما وهذا هو الصحيح عن طاوس
ذكر عبد الرزاق عن الثوري عن يونس عن الحسن قال ما زاد على المائتين فلا يؤخذ منه شيء حتى يبلغ أربعين درهما كيلا
131

قال وقاله بن جريج عن عطاء وعمرو بن دينار وعن هشام بن حجير عن طاوس مثله
وأما قوله صلى الله عليه وسلم وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ففيه معنيان أحدهما نفي وجوب الزكاة عما كان دون هذا المقدار والثاني وجوب الزكاة في هذا المقدار فما فوقه
والوسق ستون صاعا بإجماع من العلماء بصاع النبي صلى الله عليه وسلم والصاع أربعة أمداد بمده صلى الله عليه وسلم ومده زنة رطل وثلث وزيادة شيء لطيف بالرطل البغدادي وهو رطل الناس في آفاق الإسلام اليوم وعلى هذا جمهور العلماء
وإلى هذا رجع أبو يوسف حين ناظره مالك في المد وأتاه بمد أبناء المهاجرين والأنصار بما ذكره وراثه عن النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وكان هو وأصحابه قبل ذلك يقولون في زنة مد النبي صلى الله عليه وسلم رطلان ويقولون في الصاع والصحيح ما قاله أهل الحجاز أن الصاع خمسة أرطال وثلث والمد رطل وثلث
وقد بينا الآثار بما ذهب إليه أهل الحجاز في رواية المد والصاع في التمهيد
وقد اختلف في معنى زنة المد الذي مبلغه رطل وثلث فقيل هو بالماء وقيل هو بالبر المتوسط فمبلغ الخمسة الأوسق ألف مد ومائتي مد بالمد المدني مد النبي صلى الله عليه وسلم الذي ورثه أهل الحجاز وهي بالكيل القرطبي عندنا خمسة وعشرون قفيزا على حساب كل قفيز ثمانية وأربعون مدا وإن كان القفيز اثنين وأربعين مدا كما زعم جماعة من الشيوخ عندنا فهي ثمانية وعشرون قفيزا ونصف قفيز أو أربعة أسباع قفيز ووزن جميعها ثلاثة وخمسون ربعا وثلث ربع كل ربع منها من ثلاثين رطلا
والأحوط عندي والأولى أن يكون النصاب خمسة وعشرين قفيزا بكيل قرطبة هو هذا المقدار الذي لا تجب الزكاة فيما دونه وتجب فيه وفيما دونه كيلا بحساب ذلك من كل شيء عشرة
وأما قوله من التمر فهو عندي جواب السائل سأله عن نصاب زكاة التمر فأجابه وسمع المحدث التمر فذكره على حسب ما سمعه
وليس ذكر التمر بمانع من جري الزكاة في غير التمر بدليل الآثار والاعتبار والإجماع وحديث عمرو بن يحيى وهو أصحها ليس فيه ذكر التمر ولا غيره وعموم لفظه يقتضي أن كل ما يوسق إذا بلغ خمسة أوسق ففيه الزكاة تمرا كان أو حبا
وقد روى إسماعيل بن أمية عن محمد بن يحيى بن حبان عن يحيى بن
132

عمارة عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليس في حب ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق الحديث
وسنذكر الحبوب التي تجب فيها الزكاة والثمار في بابه إن شاء الله
وأما قول عمر بن عبد العزيز ومالك بن أنس أن الصدقة لا تكون إلا في الحرث والعين والماشية فهو إجماع من العلماء أن الزكاة في العين والحرث والماشية لا يختلفون في جملة ذلك ويختلفون في تفصيله على ما نذكره عنهم في أبوابه من هذا الكتاب إن شاء الله
والحرث يقتضي كل ما يزرعه الآدميون ويقتضي الثمار والكروم
وللعلماء فيما تجب فيه الزكاة من الثمار والحبوب اختلاف كثير سنبين وجوهه في مواضعه إن شاء الله وكذلك عروض التجارة
((2 - باب الزكاة في العين من الذهب والورق))
535 - مالك عن محمد بن عقبة مولى الزبير أنه سأل القاسم بن محمد عن مكاتب له قاطعة بمال عظيم هل عليه فيه زكاة فقال القاسم إن أبا بكر الصديق لم يكن يأخذ من مال زكاة حتى يحول عليه الحول
قال القاسم بن محمد وكان أبو بكر إذا أعطى الناس أعطياتهم يسأل الرجل هل عندك من مال وجبت عليك فيه الزكاة فإذا قال نعم أخذ من عطائه زكاة ذلك المال وإن قال لا أسلم إليه عطاءه ولم يأخذ منه شيئا
536 - مالك عن عمر بن حسين عن عائشة بنت قدامة عن أبيها أنه قال كنت إذا جئت عثمان بن عفان أقبض عطائي سألني هل عندك من مال وجبت عليك فيه الزكاة قال فإن قلت نعم أخذ من عطائي زكاة ذلك المال وإن قلت لا دفع إلي عطائي
537 - مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول لا تجب في مال زكاة حتى يحول عليه الحول
133

قال أبو عمر قد روي حديث بن عمر مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم رواه حارثة بن أبي الرجال عن أبيه عن عمرة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم
538 - مالك عن بن شهاب أنه قال أول من أخذ من الأعطية الزكاة معاوية بن أبي سفيان
قال أبو عمر أما أمر المكاتب فمعنى مقاطعته أخذ مال معجل منه دون ما كوتب عليه ليعجل به عتقه وهي فائدة لا زكاة على مستفيدها حتى يحول الحول عليها
وسيأتي القول في وجوه معاني الفائدة في الزكاة فيما بعد إن شاء الله
وأما ما ذكره عن أبي بكر وعثمان وبن عمر فقد روي عن علي وبن مسعود مثله
وعليه جماعة الفقهاء قديما وحديثا لا يختلفون فيه انه لا تجب في مال من العين ولا في ماشية زكاة حتى يحول عليه الحول إلا ما روي عن بن عباس وعن معاوية أيضا
فأما حديث بن عباس فرواه بن حبان عن عكرمة عن بن عباس في الرجل يستفيد المال قال يزكيه يوم يستفيده
ذكره عبد الرزاق وغيره عن هشام بن حسان
ورواه حماد بن سلمة عن قتادة عن جابر بن زيد عن عبد الله بن عباس مثله
ولم يعرف بن شهاب مذهب بن عباس في ذلك والله أعلم فلذلك قال أول من أخذ من الأعطية الزكاة معاوية يريد أخذ منها نفسها في حين العطاء لا أنه أخذ منها عن غيرها مما حال عليه الحول عند ربه المستحق للعطية
وأما وجه أخذ أبي بكر وعثمان - رضي الله عنهما - من الأعطية زكاة فيما يقر صاحب العطاء أنه عنده من المال الذي تلزم فيه الزكاة بمرور الحول وكمال النصاب ففيه تصرف الناس في أموالهم التي تجري فيها الزكاة وفيه أن زكاة العين كان يقبضها الخلفاءكما كانوا يقبضون زكاة الحبوب والماشية ويعاملون الناس في أخذ ما وجب
134

عليهم من الزكاة معاملة من له دين قد وجب على من له عند مال يقتطعه منه
ولا أعلم أحدا من الفقهاء قال بقول معاوية وبن عباس في اطراح مرور الحول إلا مسألة جاءت عن الأوزاعي إذا باع العبد أو الدار فإنه يزكي الثمن حين يقع في يده إلا أن يكون له شهر معلوم فيؤخره حتى يزكيه مع ماله
قال أبو عمر هذا قول ضعيف متناقض لأنه إن كان يلزمه في ثمن الدار والعبد الزكاة ساعة حصل بيده فكيف يجوز تأخيره ذلك إلى شهره المعلوم وإن كان لا تجب الزكاة في ثمن الدار والعبد إلا بعد استتمام حول كامل من يوم قبضه فكيف يزكي ما لا يجب عليه فيه زكاة في ذلك الوقت
وسنبين ما للعلماء من المذاهب في الفوائد من العين ومن الماشية أيضا وفي تعجيل الزكاة قبل وقتها كل في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله قال مالك السنة التي لا اختلاف فيها عندنا أن الزكاة تجب في عشرين دينارا عينا كما تجب في مائتي درهم
قال مالك ليس في عشرين دينارا ناقصة بينة النقصان زكاة فإن زادت حتى تبلغ بزيادتها عشرين دينارا وازنة ففيها الزكاة وليس فيما دون عشرين دينارا عينا الزكاة
قال أبو عمر لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في زكاة الذهب شيء من جهة نقل الآحاد العدول الثقات الأثبات
وقد روى الحسن بن عمارة عن أبي إسحاق السبيعي عن عاصم بن ضمرة والحارث الأعور عن علي (رضي الله عنه) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال هاتوا زكاة الذهب من كل عشرين دينارا نصف دينار
كذلك رواه أبو حنيفة فيما زعموا ولم يصح عنه ولو صح لم يكن فيه عند أهل العلم بالحديث أيضا حجة والحسن بن عمارة متروك الحديث أجمعوا على ترك حديثه لسوء حفظه وكثرة خطئه
رواه عن الحسن بن عمارة عبد الرزاق
ورواه جرير بن حازم والحارث بن نبهان هكذا عن الحسن بن عمارة
والحديث إنما هو لأبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي
قوله في عشرين دينارا من الذهب نصف دينار كذلك رواه الحفاظ عن عاصم
135

عن علي لا من قول النبي صلى الله عليه وسلم منهم سفيان الثوري وغيره من أصحاب أبي إسحاق
ذكره وكيع قال حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي قوله لم يتجاوزوا به عليا رضي الله عنه
وأجمع العلماء على أن الذهب إذا بلغ أربعين مثقالا فالزكاة فيه واجبة بمرور الحول ربع عشره وذلك دينار واحد
وأجمعوا أنه ليس فما دون عشرين دينارا زكاة ما لم تبلغ قيمتها مائتي درهم
واختلفوا في العشرين دينارا إذا لم تبلغ قيمتها مائتي درهم وفيما تساوي من الذهب وإن يكن وزنه عشرين دينارا فالذي عليه جمهور العلماء أن الذهب تجب فيه الزكاة إذا بلغ وزنه عشرين دينارا وجبت فيه زكاة نصف دينار مضروبا كان أو غير مضروب إلا الحلي المتخذ للنساء فله حكم عند العلماء يأتي في بابه إن شاء الله وما عدا الحلي من الذهب فالزكاة واجبة فيه عند جمهور العلماء إذا كان وزنه عشرين دينارا يجب فيه ربع عشرة بمرور الحول وسواء ساوى مائتي درهم كيلا أم لم يساو وما زاد على العشرين مثقالا فبحسابه ذلك بالقليل والكثير وما نقص من عشرين دينارا فلا زكاة فيه سواء كانت مائتي درهم أو أكثر والمراعاة فيه وزنه في نفسه من غير قيمته
فهذا مذهب مالك والشافعي وأصحابهما والليث بن سعد والثوري في أكثر الروايات عنه وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأبي عبيد واختلف في ذلك عن الأوزاعي
وهو قول علي بن أبي طالب وجماعة من التابعين بالحجاز والعراق منهم عروة بن الزبير وعمر بن عبد العزيز ومحمد بن سيرين
وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد إلا أن أبا حنيفة في جماعة من أهل العراق في العين ذكروا أوقاصا كالماشية فقالوا لا شيء فيما زاد على العشرين مثقالا حتى تبلغ أربعة مثاقيل ولا فيما زاد على المائتي درهم حتى تبلغ أربعين درهما فيكون فيها ستة دراهم ويكون في الأربعة مثاقيل اثنا عشر قيراطا
وهو قول إبراهيم النخعي على اختلاف عنه في ذلك لأنه قد روي عنه وما زاد على المائتي درهم فبالحساب
ورواه عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال لا شيء فيما زاد على المائتي درهم حتى تبلغ أربعين درهما ولا شيء فيما زاد على العشرين مثقالا حتى تبلغ أربعة مثاقيل على اختلاف في ذلك عن الأوزاعي
136

وقال آخرون ليس في الذهب زكاة حتى يبلغ صرفها مائتي درهم فإذا بلغ صرفها مائتي درهم ففيها ربع العشر ولو كان وزنها أقل من عشرين دينارا وكانت عشرين دينارا إدارية ولم يبلغ صرفها مائتي درهم لم تجب فيها زكاة حتى تبلغ أربعين دينارا فإذا بلغت أربعين دينارا ففيها دينار ولا يراعى فيها العرف ولا القيمة إذا بلغت أربعين دينارا
هذا قول الزهري وقد رواه يونس عنه في الحديث المذكور عن سالم وعبد الله ابني عبد الله بن عمر في نسخة كتاب الزكاة إلا أن أهل العلم يقولون إن ذلك من قول بن
شهاب ورأيه قالوا وكثيرا كان يدخل رأيه في الحديث
قال أبو عمر الصحيح عن بن شهاب أنه من رأيه كذلك ذكره عنه معمر وغيره
وهو قول عطاء وطاوس وبه قال أيوب السختياني وسليمان بن حرب
وقد روي عن بن شهاب خلاف ذلك
ذكر سنيد وغيره عن محمد بن كثير وعن الأوزاعي عن الزهري قال إذا كان يدخل عشرون دينارا ففيها نصف دينار وإذا كانت أربعة وعشرون دينارا ففيها زيادة درهم في كل أربعة دنانير درهم وما دون الأربعة فلا زكاة فيه
وقالت طائفة ليس في الذهب شيء حتى يبلغ أربعين دينارا سواء ساوى ما دون الأربعين منها مائتي درهم أم لم تساو فإذا بلغت أربعين دينارا ساوى ما دون الأربعين منها ففيها ربع عشرها دينار واحد ثم ما زاد فبحساب ذلك
هذا قول الحسن البصري ورواية عن الثوري وبه قال أكثر أصحاب داود بن علي
قال أبو عمر الأربعون دينارا من الذهب لا خلاف بين علماء المسلمين في إيجاب الزكاة فيها وذلك سنة وإجماع لا يراعي أحد من العلماء فيه قيمة وإنما يراعون وزنها في نفسها وإنما الاختلاف فيما دونها
وأما قول مالك في المائتي درهم فإن كانت تجوز بجواز الوازنة رأيت فيها الزكاة وإن نقصت إذا كان النقصان يسيرا فقد خالفه الشافعي في ذلك فقال إذا نقصت شيئا معلوما وإن قل لم يجب فيها زكاة
وبمعنى قول الشافعي قال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي وأبو ثور وأحمد وجمهور الفقهاء لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيما دون خمس أواق صدقة
137

قال أبو عمر يحتمل أن يكون قول مالك في النقصان اليسير نحو ما تختلف فيه الموازين فإن كان كذلك فلا وجه لمن عاب قوله في ذلك
والقول عند مالك في عشرين دينارا ناقصة تجوز بجواز الوازنة كقوله في المائتي درهم سواء
وقول سائر العلماء في ذلك كقولهم في المائتي درهم على ما ذكرنا وبالله التوفيق
وأما قول مالك في رجل كانت عنده ستون ومائة درهم وازنة وصرف الدراهم ببلده ثمانية دراهم بدينار أنها لا تجب فيها الزكاة وإنما تجب الزكاة في عشرين دينارا عينا أو مائتي درهم فإنه يذهب إلى ضم الدنانير والدراهم في الزكاة ولا يرى ضمها بالقيمة وإنما يرى ضمها بالأجزاء فيكون النصاب من هذه ومن هذه على الأجزاء ويوجب الزكاة فيهما ويعتبر ضمهما بالأجزاء إن ينزل الدينار بعشرة دراهم على ما كانت عليه قديما في المدينة فمن كانت عنده عشرة دنانير ومائة درهم وجبت عليه الزكاة كما تجب لو كانت عنده مائة درهم أو عشرون دينارا وكذلك تجب في مائة وخمسين درهما وخمسة دنانير ومائة وتسعين درهما ودينار واحد وفي التسعة عشر دينارا وعشرة دراهم
فعلى هذا من الأجزاء ضم الدنانير والدراهم عند مالك في الزكاة
وهو قول الحسن البصري وإبراهيم النخعي وقتادة ورواية عن الثوري وبه قال أبو حنيفة وأصحابه إلا أن أبا حنيفة قال تضم بالقيمة في وقت الزكاة
قال أبو يوسف ومحمد كقول مالك تضم بالأجزاء على ما فسرنا
وقال آخرون منهم الشعبي يضم الأقل منها إلى الأكثر بالقيمة ولا يضم الأكثر إلى الأقل
وهو قول الأوزاعي في رواية محمد بن كثير عنه ورواه الأشجعي عن الثوري
وروي سنيد قال أخبرنا محمد بن كثير في رجل له تسعة دنانير ومائة وثمانون درهما قال يحسب كل ذلك ويزكيه على أفضل الحالين في الزكاة
قال أبو عمر يعني بالقيمة على ما هو أفضل للمساكين من رد قيمة الدراهم إلى الدنانير أو قيمة الدنانير إلى الدراهم ويعمل بالأفضل من ذلك للمساكين
وقد روي عن الثوري أنهما تضمان بالقيمة لقول أبي حنيفة ولا يراعى الأقل من ذلك من الأكثر إلا أنه يراعى الأحوط للمساكين في الضم فيضم عليه
138

وقال آخرون تضم الدنانير إلى الدراهم بقيمتها كانت أقل من الدراهم أو أكثر ولا يضم الدراهم إلى الدنانير قلت أو كثرت لأن الدراهم أصل والدنانير فرع لأنه لم يثبت في الدنانير حديث ولا فيها إجماع حتى تبلغ أربعين دينارا على حسب ما ذكرنا في ذلك عن العلماء
وقال آخرون إذا كان عنده نصاب من ورق زكى قليل الذهب وكثيره وكذلك إذا كان عنده نصاب من ذهب زكى ما عنده من الورق
وقال آخرون منهم بن أبي ليلى وشريك القاضي والحسن بن صالح بن حي والشافعي وأبو ثور وداود لا يضم ذهبا إلى فضة ولا فضة إلى ذهب ويعتبر في كل واحد منهما كمال النصاب
وإلى هذا رجع أحمد بن حنبل بعد أن كان يخبر عنه وقال هذا هو النظر الصحيح
قال أبو عمر حجة من ذهب هذا المذهب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة
وقول الجمهور الذين هم الحجة على من خالفهم لشذوذ عنهم ليس فيما دون عشرين دينارا زكاة
فهذه ستة أقوال في صفة الورق والذهب في الزكاة إذا نقص كل واحد منهما عن النصاب
قال مالك في رجل كانت له خمسة دنانير من فائدة أو غيرها فتجر فيها فلم يأت الحول حتى بلغت ما تجب فيه الزكاة أنه يزكيها وإن لم تتم إلا قبل أن يحول عليها الحول بيوم واحد أو بعد ما يحول عليها الحول بيوم واحد ثم لا زكاة فيها حتى يحول عليها الحول من يوم زكيت
وقال مالك في رجل كانت له عشرة دنانير فتجر فيها فحال عليها الحول وقد بلغت عشرين دينارا أنه يزكيها مكانها ولا ينتظر بها أن يحول عليها الحول من يوم بلغت ما تجب فيه الزكاة
قال أبو عمر قوله في الخمسة الدنانير والعشرة الدنانير سواء في إيجاب الزكاة في ربح المال يحول على أصله الحول وإن لم يكن الأصل نصابا قياسا على نسل الماشية التي تعد على صاحبها ويكمل النصاب بها ولا يراعى بها حلول الحول عليها وربح المال عنده كأصله خلافا لسائر الفوائد
139

وإنما حمله والله أعلم على قياس ربح المال على نسل الماشية وقوة ذلك الأصل عنده وإن كان مختلفا فيه لأنه روي عن عمر أنه كان يأمر السعاة يعدون السخال مع الأمهات على ما يأتي في بابه من زكاة المواشي وباقي الاختلاف في ذلك الأصل هناك إن شاء الله
وقول مالك (رحمه الله) في ربح المال الذي ليس بنصاب لم يتابعه عليه غير أصحابه وقاسه على ما لا يشبهه في أصله ولا فرعه وهو أيضا قياس أصل على أصل والأصول لا يرد بعضها إلى بعض وإنما يرد إلى الأصل فرعه وبالله التوفيق
[قال أبو عبيد القاسم بن سلام لا نعلم أحدا قال هذا القول - قول مالك - ولا فرق أحد بين ربح المال وغيره من الفوائد غيره
قال وأما سفيان وأهل العراق وأكثر أهل الحجاز عن مالك ومن قال بقوله فليس عندهم فرق بين ربح المال وسائر الفوائد من هبة أو ميراث أو تجارة وغير ذلك بعد أن لا تكون تلك الزيادة في مثلها الزكاة
قال وكذلك هو عندنا نرى أن ما في المال والنتاج كغيرها من الفوائد لأن ذلك كله هبة من هبات الله وسببه الذي نعتبره عبادة]
قال أبو عمر اختلاف العلماء في النتاج لا يشبه اختلافهم في ربح المال وسترى ذلك في باب زكاة المواشي إن شاء الله
والذي قاله أبو عبيد في ربح المال عن مالك أنه لم يتابعه عليه إلا أصحابه فليس كما قال وقد قال بقول مالك في ذلك الأوزاعي وأبو ثور وطائفة من السلف
قال الوليد بن يزيد سمعت الأوزاعي يقول أما الفائدة التي يعطاها الرجل وليس عنده أصلها
وقال أبو ثور إذا كانت الفائدة ربحا زكاها مع الأصل وإلا لم يزكه
وكذلك قال أحمد بن حنبل في ذلك قال أحمد بن حنبل لا زكاة في المال المستفاد حتى يحول عليه الحول قال والمستفاد من العطاء والهبة ونحو ذلك وأما ربح المال فليس بمستعار
قال أبو عمر هؤلاء كلهم لا يوجبون في الربح زكاة حتى يكون أصله نصابا وإنما أنكر أبو بكر والله أعلم في قول مالك - قوله فيما دون النصاب يتجر به فيصير نصابا قبل الحول بأيام
وما أظنه أنكر ما يكون من الربح في النصاب كما قال مالك خمسة دنانير أو
140

عشرة دنانير فيتجر فيها فتتم عنده الحول نصابا فيزكيها فلا يقول غير مالك وأصحابه - والله أعلم - إلا ما ذهب إليه الأوزاعي في مراعاة نصف النصاب دون ما هو أقل منه على ما نذكره بعد عنه إن شاء الله
ذكر أبو عبيد عن معاذ عن بن عون قال أتيت المسجد وقد قرئ كتاب عمر بن عبد العزيز فقال لي صاحب لي لو شهدت كتاب عمر بن عبد العزيز في أرباح التجار أن لا تعرض حتى يحول عليها الحول
حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن قطن بن فلان قال مررت بواسط زمن عمر بن عبد العزيز فقالوا قرئ علينا كتاب أمير المؤمنين أن لا نأخذ من أرباح التجار شيئا حتى يحول عليه الحول
وروى هشيم قال أخبرنا حميد الطويل قال كتب عمر بن عبد العزيز ألا تأخذوا من أرباح التجار شيئا حتى يحول عليها الحول
وذكر الساجي قال حدثنا معاذ عن بن عون قال كتب عمر بن عبد العزيز في أرباح التجار أن لا يعرض لهم فيها حتى يحول عليها الحول
قال أبو عمر هذا قول الشافعي في ربح المال وسائر الفوائد كلها يستأنف الحول فيها على ما وردت به السنة
وقال جمهور الصحابة إنه لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول
قال مالك الأمر المجتمع عليه عندنا في إجارة العبيد وخراجهم وكراء المساكين وكتابة المكاتب أنه لا تجب في شيء من ذلك الزكاة قل ذلك أو كثر حتى يحول عليه الحول من يوم يقبضه صاحبه
قال أبو عمر أما إجارة العبيد وكراء المساكين وكتابة المكاتب فقد وافقه الشافعي على ذلك وهو قول أبي حنيفة وسائر الفقهاء إلى معاني تأتي في باب زكاة الدين من اشتراط الفقد في حين العقد على الريع أو غيره والمكتري ملي ثم يتأخر قبضه من قبل ربه
وأما تفصيل جملة أقوال العلماء في الفوائد غير ما تقدم من الربح وما ذكر معه ف قال مالك تضم الفوائد من الدنانير والدراهم في الحول إلى النصاب منها ومن ملك عنده من أحدهما نصابا ثم أفاد نصابا أو دون نصاب قبل الحول فإنه يزكي كلا على حوله وهذا عنده بخلاف الفوائد في الماشية وهو قول الليث بن سعد
وروى بن وهب وعبد الله بن صالح عن الليث قال إنما يزكى ما
141

أضيف إلى المال من الماشية وأما الدراهم والدنانير فإنه يستأنفها حولا من يوم استفادها
قال أبو عمر هذا كله إنما هو لمن بيده نصاب حتى يستعيد ما استفاد وأما من كان عنده من الدراهم والدنانير أقل من النصاب فإنه لا خلاف أنه يضم إليه ما يستفيد حتى يكمل النصاب فإذا كمل له نصاب استقبل به يوم تم النصاب بيده حولا كرجل استفاد خمسين درهما ثم استفاد مائة درهم ثم استفاد تمام المائتين أو أكثر فإنه يستأنف من يوم كمل له النصاب به حولا
هذا ما لا خلاف فيه وإنما الخلاف فيمن بيده نصاب من فضة أو ذهب ثم استفاد بعد شهر أو شهور فضة أو ذهبا
فمذهب مالك ما وصفنا أنه يزكي كل مال على حوله حتى ينقص إلى ما لا زكاة فيه فإذا استفاد إلى ذلك لم يتم به له النصاب استأنف من يومئذ الحول هذا كله في غير التاجر
وقد مضى القول في ربح المال ويأتي في باب زكاة العروض القول في زكاة التجارات إن شاء الله
وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري فيما يستفيده التاجر وغيره
قال الفائدة في الحول تضم إلى النصاب من جنسه فتزكى بحول الأصل والربح عندهم وغير الربح سواء
قالوا لا يزكى إلا أن يكون عنده في أول الحول نصاب وفي آخره نصاب فإن كان ذلك وجبت عليه الزكاة ولا يسقطها عنه نقص يدخل المال من طرفي الحول
قالوا ولو هلك بعض النصاب في داخل الحول ثم استفاد وحال عليه الحول وعنده نصاب فعليه الزكاة
قالوا ولو هلك المال كله ثم استفاد نصابا استقبل به حولا
وهو قول إبراهيم والحسن والحكم بن عتيبة
قال حجاج بن أرطأة رأيت أهل الكوفة متفقين على ذلك
وقال الأوزاعي في الرجل يكون عنده الدنانير التي لا تجب فيها الزكاة فيفيد إليها حتى يتم النصاب فقال إن كان الذي عنده نصف ما يجب فيه الزكاة فليترك حتى يفيد وإن كان دون النصف فلا شيء عليه حتى يحول الحول وهو عنده
قال أبو عمر تفسير قوله أنه إن تجر في عشرة دنانير فما فوقها فأتى الحول
142

وقد كمل النصاب فعليه الزكاة وإن تجر في خمسة دنانير أو فيما دون العشرة فكملت نصابا عند تمام الحول لم تجب عليه زكاة
وهذا قول لا يعضده أثر ولا نظر
وقال الحسن بن صالح بن حي إذا كان له مائتي درهم يملكها فلما كان قبل الحول أفاد مالا من ربح أو غير ربح فحال عليه الحول وهما عنده زكاهما جميعا فإذا ذهب الحول وقد ذهب من المال الأول شيء فليس فيه ولا في الآخر شيء ويستقبل حولا من اليوم الذي أفاد المال الثاني لأنه إنما زكى الثاني بالأول فإذا لم يبق من الأول ما تجب فيه الزكاة لم يكن في الآخر زكاة إلا بحوله
قال الشافعي لا يجب على من ملك مالا صدقة إلا أن يملك الحول كله ما تجب فيه الزكاة فإن دخل المال في بعض الحول أدنى نقص ولو ساعة يستقبل بعد أن يتم له النصاب حولا كاملا
وقال مالك في الذهب والورق يكون بين الشركاء إن من بلغت حصته منهم عشرين دينارا عينا أو مائتي درهم فعليه فيها الزكاة ومن نقصت حصته عما تجب فيه الزكاة فلا زكاة عليه وإن بلغت حصصهم جميعا ما تجب فيه الزكاة وكان بعضهم في ذلك أفضل نصيبا من بعض أخذ من كل إنسان منهم بقدر حصته إذا كان في حصة كل إنسان منهم ما تجب فيه الزكاة وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة
قال مالك وهذا أحب ما سمعت إلي في ذلك
قال أبو عمر قوله وهذا أحب ما سمعت إلي يدل على أنه قد سمع الخلاف في ذلك
والخلاف فيه أن من أهل العلم من يقول إن الشركاء في الذهب والورق وفي الزرع وفي الماشية إذا لم يعلم أحدهم ماله بعينه أنهم يزكون زكاة الواحد وتلزم جميعهم في مائتي درهم وفي خمسة أوسق وفي خمس ذود وفي أربعين شاة الزكاة
وإلى هذا ذهب الشافعي في الكتاب المصري المعروف بالجديد قياسا على الخلطاء في الماشية
وأما قوله في الكتاب العراقي فكقول مالك وقال الخلطاء لا تكون في غير الماشية
وسيأتي القول في زكاة الخلطاء في باب زكاة الماشية إن شاء الله
143

وقول الكوفيين أبو حنيفة وأصحابه في ذلك كقول مالك قال يعتبر ملك كل واحد من الشريكين على حدة
وهو قول أبي ثور
وما احتج به مالك من قوله (عليه السلام) ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة حجة صحيحة لأنه خطاب للمفرد والشريك
وقول مالك وإذا كانت لرجل ذهب أو ورق متفرقة بأيدي أناس شتى فإنه ينبغي له أن يحصيها جميعا ثم يخرج ما وجب عليه من زكاتها كلها
قال أبو عمر هذا إجماع من العلماء إذا كان قادرا على ذلك ولم تكن ديونا ولا قراضا ينتظر أن تقضى
((3 - باب ما جاء في المعادن))
539 - مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن غير واحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع لبلال بن الحارث المزني معادن القبلية (1) وهي من ناحية الفرع فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلى اليوم إلا الزكاة
قال أبو عمر هذا الخبر منقطع في الموطأ وقد روي متصلا مسندا على ما ذكرناه في التمهيد من رواية الدراوردي عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن الحارث بن بلال بن الحارث المزني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن رواية غير الدراوردي أيضا
وجملة قول مالك في موطئه أن المعادن مخالفة الركاز لأنها لا ينال ما فيها إلا بالعمل بخلاف الركاز ولا خمس فيها وإنما فيها الزكاة وهي عنده بمنزلة الزرع يجب فيه الزكاة إذا حصل النصاب ولا يستأنف به الحول ولا زكاة عنده فيما يخرج من المعدن إن كان ذهبا حتى يبلغ عشرين دينارا أو مائتي درهم فما زاد فعلى حساب ما ذكرنا عنه في زكاة الذهب والورق
144

وفرق مالك بين معادن أهل الصلح ومعادن أرض العنوة فقال المعادن في أرض الصلح لأهلها يصنعون فيها ما شاؤوا ويصالحون فيها على ما شاؤوا من خمس أو غيره وما فتح عنوة فهو للسلطان يصنع فيه ما شاء وعلى العامل فيه الطالب لفائدته زكاة ما يحصل بيده منه إذا كان نصابا على سنة الزكاة في الذهب والورق
ومن حجة مالك أيضا في تفريقه بين ما يؤخذ من المعدن وما يؤخذ من الركاز قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة والمعدن جبار وفي الركاز الخمس (1) فرق بين المعدن والركاز ب وفاصلة فدل ذلك على أن الخمس في الركاز لا في المعدن
وقال أشهب عن مالك الذهب الثابت في الأرض يؤخذ بغير عمل هو ركاز وفيه الخمس
وقال الأوزاعي في ذهب المعدن وفضته الخمس ولا شيء فيم يخرج منه غيرهما
وقال أبو حنيفة وأصحابه في الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص الخارج من المعدن الخمس كالركاز
قالوا وما كان في المعدن من ذهب وفضة بعد إخراج الخمس اعتبر كل واحد فيما حصل بيده منه ما يجب فيه الزكاة فزكاة لتمام الحول
وهو عندهم فائدة تضم في الحول إلى النصاب من جنسها وهو قول الثوري
قالوا وكل ما ارتكز بالأرض من ذهب أو فضة وغيرها من الجواهر فهو ركاز وفيه الخمس في قليله وكثيره على ظاهر قوله وفي الركاز الخمس
قالوا وقوله المعدن جبار إنما هو عطف على قوله والبئر جبار وليس فيه ما ينبغي أن يكون المعدن ركازا لأنه أخبر بما هو جبار ثم أخبر بما يجب فيه الخمس
145

واختلف قول أبي حنيفة في الزئبق يخرج من المعادن فمرة قال فيه الخمس ومرة قال ليس فيه شيء كالقير والنفط
واختلف قول الشافعي فيما يخرج من المعادن فقال مرة بقول مالك
وهو قوله العراقي
وقال بمصر ما يخرج من المعادن فهو فائدة يستأنف فيها الحول
وهو قول الليث بن سعد وبن أبي ذئب
ومرة قال الشافعي أستخير الله في المعادن وخير على القول فيها
واختار المزني أن يكون ما يخرج من المعدن فائدة يستأنف بها حول
وأما الإقطاع فهو جائز للإمام فيما لا ملك عليه لأحد من موات الأرض يقطعه من رآه من أهل الغنى والنفع للمسلمين بنفسه أو عمله وهو كالفيء يضعه حيث رآه فيما هو للمسلمين أعم نفعا وينبغي أن يكون ذلك على قدر ما يقوم به المرء وعماله
وقد روي عن أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) أنه قال لبلال بن الحارث أقطعك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا تطيقه فانظر ما تطيق منه فأمسكه وأذن لي في إقطاع الباقي من يحتاج إليه فأذن له فأقطع ما أخذ منه غيره
وليس هذا من فعل أبي بكر ردا لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو رأى أن له رده ما استأذن بلال بن الحارث ولكنه رأى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقف في حين الإقطاع على قدر ما أقطع ولو علم من ذلك ما علمه أبو بكر ما أقطعه ذلك كله ومع ذلك فإنه استأذن بلالا ولو لم يأذن له ما أخبره وإنما أخذه بطيب نفسه
ولا خلاف بين العلماء أن الإمام لا يجوز له إقطاع ما قد ملك بإحياء أو غيره مما يصح به الملك ومسارح القوم التي لا غني لهم عنها لإبلهم ومواشيهم لا يجوز للإمام أن يقطعها أحدا لأنها تجري الملك المعين
ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أقطع الدهناء رجلا قالت له قيلة يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه مقيد إبل بني تميم وهذه نساء بني تميم من وراء ذلك فارتجعه رسول الله صلى الله عليه وسلم (1)
وكذلك لا يجوز للإمام إقطاع ما فيه الرغبة والتنافس والغبطة يختص به واحدا وهو يفصل عنه وللناس فيه منافع لحديثه (عليه السلام) أنه أقطع رجلا ماء ليس بالكثير
فقيل له
146

يا رسول الله إنما أقطعته الماء العد - يعني الكثير - فارتجعه رسول الله صلى الله عليه وسلم (1))
1 (4 - باب زكاة الركاز))
540 - مالك عن بن شهاب عن سعيد بن المسيب وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الركاز الخمس
قال أبو عمر هكذا ذكره مالك في كتاب الزكاة مختصرا وذكره في كتاب العقول بتمامه عن بن شهاب عن أبي سلمة وعن سعيد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العجماء جبار والبئر جبار والمعدن جبار وفي الركاز الخمس (3)
قال مالك وتفسير الجبار أنه لا دية فيه
وذكر بن وهب في موطئه قال أخبرنا يونس بن يزيد عن بن شهاب قال الجبار الهدر والعجماء البهيمة
قال مالك الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا والذي سمعت أهل العلم يقولون إن الركاز إنما هو دفن يوجد من دفن الجاهلية ما لم يطلب بمال ولم يتكلف فيه نفقة ولا كبير عمل ولا مؤونة فأما ما طلب بمال وتكلف فيه كبير عمل فأصيب مرة وأخطئ مرة فليس بركاز
يريد مالك بقوله هذا أنه ما لم يكن ركازا فحكمه حكم المعادن
وأما قوله عليه السلام في الركاز الخمس فإن العلماء اختلفوا في الركاز وفي حكمه
وقد ذكرنا عن مالك في تفسير ذلك في الموطأ ما نبين به فيه المعنى
وقال مالك الركاز في أرض العرب للواجد وفيه الخمس
قال وما وجد من ذلك في أرض الصلح فإنه لأهل تلك البلاد ولا شيء للواجد فيه
147

قال وما وجد في أرض العنوة فهو للجماعة الذين اقتحموها وليس لمن أصابه دونهم ويؤخذ خمسه
قال بن القاسم كان مالك يقول في العروض والجواهر والحديد والرصاص ونحوه يوجد ركازا أن فيه الخمس ثم رجع فقال لا أرى فيه شيئا ثم آخر ما روينا عنه أن قال فيه الخمس
قال إسماعيل بن إسحاق كل ما وجده المسلمون في خرب الجاهلية من أرض العرب التي افتتحها المسلمون من أموال الجاهلية ظاهرة أو مدفونة في الأرض فهو الركاز ويجري مجرى الغنائم ثم يكون لمن وجده أربعة أخماسه ويكون سبيل خمسه سبيل خمس الغنيمة يجتهد فيه الإمام على ما يراه من صرفه في الوجوه التي ذكر الله من مصالح المسلمين
قال وإنما حكم الركاز كحكم الغنيمة لأنه مال كافر فوجده مسلم فأنزل بمنزلة من قاتلة وأخذ ماله فكان له أربعة أخماسه
وقال الثوري في الركاز يوجد في الدار أنه للواجد دون صاحب الدار وفيه الخمس
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف الركاز في الذهب والفضة وغيرهما فيما كان من دفن الجاهلية أو البدرة أو القطيعة تكون تحت الأرض فتوجد بلا مؤنة فهو ركاز وفيه الخمس
وقول الطبري كقولهم سواء
قال أبو حنيفة ومحمد في الركاز يوجد في الدار أنه لصاحب الدار دون الواجد وفيه الخمس
وقال أبو يوسف هو للواجد وفيه الخمس وإن وجده في فلاة فهو للواجد من قبلهم جميعا وفيه الخمس
ولا فرق عندهم بين أرض الصلح وأرض العنوة وسواء عندهم أرض العرب وغيرها وجائز عندهم لواجده أن يحبس الخمس لنفسه إذا كان محتاجا وله أن يعطيه المساكين دون أن يدفعه للسلطان
قال أبو عمر وجه هذا عندي من قولهم أنه كان من أحد المساكين وأنه لا يمكن السلطان إن صرفه عليهم أن يعمهم به
وقال الليث بن سعد الركاز مما افتتح عنوة أو صلحا للواجد وفيه الخمس والركاز ما كان من دفن الجاهلية
148

وقال الشافعي الركاز دفن الجاهلية العروض وغيرها وفيه الخمس وسواء وجده في أرض العنوة أو الصلح بعد أن لا يكون في ملك أحد فإن وجد في ملك غيره فهو له إن ادعاه وفيه الخمس وإن لم يدعه فهو للواجد وفيه الخمس
قال أبو عمر معنى قوله إن ادعاه أن يقول هو لي لأنه في أرضي أملكه كما أملك أرضي التي وجد فيها
وفي إجماعهم على أن فيه الخمس دليل على أنه لم يملكه ملكا تاما ولذلك شاع فيه الاختلاف المذكور وبالله التوفيق
وقد يحتمل أن يكون معنى قوله إن ادعاه أنا وجدته في فيفاء فاستخرجته ودفنته في داري أو في أرضي فيكون له وفيه الخمس
قال الشافعي وإن أصاب شيئا من ذلك في أرض الحرب أو منازلهم فهو غنيمة له وللجيش وإنما يكون للواجد مالا يملكه العدو ومما لا يوجد إلا في الفيافي
وقال الأوزاعي الركاز أموال أهل الكتاب المدفونة في الأرض والذهب بعينه يصيبه الرجل في المعدن
قال أبو عمر أصل الركاز في اللغة ما ارتكز بالأرض من الذهب والفضة وسائر الجواهر وهو عند الفقهاء أيضا كذلك لأنهم يقولون في البدرة التي توجد في المعدن
مرتكزة بالأرض لا تنال بعمل أو سعي أو نصب فيها الخمس لأنه ركاز ودفن الجاهلية لأموالهم عند جماعة أهل العلم ركاز أيضا لا يختلفون فيه إذا كان دفنه قبل الإسلام وكان من الأمور العادية وأما ما كان من ضرب الإسلام فحكمه عندهم حكم اللقطة لأنه ملك لمسلم لا خلاف بينهم في ذلك فقف على هذا الأصل وبالله التوفيق
((5 - باب ما لا زكاة فيه من الحلي والتبر والعنبر))
541 - ذكر فيه مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت تلي بنات أخيها يتامى في حجرها لهن الحلي فلا تخرج من حليهن الزكاة
149

542 - عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يحلي بناته وجواريه الذهب ثم لا يخرج من حليهن الزكاة
قال أبو عمر ظاهر حديث عائشة وبن عمر هذان سقوط الزكاة عن الحلي بذلك وترجم مالك هذا الباب
وتأول من أوجب الزكاة في الحلي أن عائشة وبن عمر لم يخرجا الزكاة من حلي اليتامى لأنه لا زكاة في أموال اليتامى ولا الصغار
وتأولوا في الجواري أن بن عمر كان يذهب إلى أن العبد ملك ولا زكاة على المالك حتى يكون حرا فاستدلوا على مذهب بن عمر في ذلك لأنه كان يأذن لعبيده بالتحلي بالذهب
وما تأولوه على عائشة وبن عمر بعيد خارج عن ظاهر حديثهما لأن في حديث بن عمر أنه كان لا يخرج الزكاة مما كان يحلي به بناته من الذهب والفضة فليس في هذا يتيم ولا عبد
وروى بن عيينة عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر أنه كان ينكح البنت له على ألف دينار يحليها منه بأربع مائة دينار فلا يزكيه وسنبين ذلك في باب زكاة أموال اليتامى إن شاء الله
قال أبو عمر لم يختلف قول مالك وأصحابه في أن الحلي المتخذ للنساء لا زكاة فيه وأنه العمل المعمول به في المدينة خارج عن قوله عليه الصلاة والسلام ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة كأنه قال الصدقة واجبة من الورق فيما بلغ خمس أواق ما لم يكن حليا متخذا لزينة النساء بدليل ما انتشر في المدينة عند علمائها من أنه لا زكاة في الحلي
ولما عطف على هذا صلى الله عليه وسلم ذكر الإبل وذكر الأوسق وهي أموال يطلب فيها النماء كما يطلب بالذهب والورق في التصرف بهما النماء وصار تارك التصرف بها بيعا للمتصرف ولما أنها لا توضع للتصرف بها علم بهذا المعنى أن الحلي لا زكاة فيه إذا كان متخذا للنساء لأنه لا يطلب به شيئا من النماء
وقد اختلف المدنيون في الحلي المتخذ للرجال والمتخذ للكراء فالزكاة عند أكثرهم فيه واجبة وإنما تسقط عما وصفنا من حق النساء خاصة
150

واختلف الفقهاء أهل الفتوى في الأمصار في زكاة الحلي
فذهب فقهاء الحجاز مالك والليث والشافعي إلى أنه لا زكاة فيه
على أن الشافعي قد روي عنه في بعض أوقاته قال أستخير الله في الحلي وترك الجواب فيه
وخرج أصحابه مسألة زكاة الحلي على قولين
أحدهما أن فيه الزكاة على ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة فدل على أن في الخمس الأواقي وما زاد صدقة ولم يخص حليا من غير حلي وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الذهب في أربعين دينارا دينار ولم يخص حليا من غير حلي
والآخر أن الأصل المجتمع عليه في الزكاة إنما هي في الأموال النامية والمطلوب فيها الثمن بالتصرف
ولم يختلف قول مالك وأصحابه في أنه لا زكاة في الحلي للنساء يلبسنه
وهو قول بن عمر وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك وسعيد بن المسيب على اختلاف عنه والقاسم بن محمد وعامر الشعبي ويحيى بن سعيد وربيعة وأكثر أهل المدينة
وبه قال أحمد وأبو عبيد
قال أبو عبيد الحلي الذي يكون زينة ومتاعا فهو كالأثاث وليس كالرقة التي وردت في السنة يؤخذ ربع العشر منها
والرقة عند العرب الورق المنقوشة ذات السكة السائرة بين الناس
وقال أبو حنيفة والثوري في رواية الأوزاعي والحسن بن حي الزكاة واجبة في الذهب والورق كهي في غيرة الحلي
وقال محمد بن كثير عن الأوزاعي عن الزهري في الحلي الزكاة
وقال الليث ما كان منه يلبس ويعار فلا زكاة فيه وما صنع ليقربه من الصدقة ففيه الصدقة
ومن أوجب الزكاة في الحلي عبد الله بن عباس وبن مسعود وعبد الله بن عمر وعطاء وسعيد بن جبير وعبد الله بن شداد وميمون بن مهران ومحمد بن سيرين ومجاهد وجابر بن زيد والزهري وإبراهيم النخعي
وجملة قول الثوري في زكاة الحلي قال ليس في شيء من الحلي زكاة من
151

الجواهر واليواقيت إلا الذهب والفضة إذا بلغت الفضة مائتي درهم والذهب عشرين دينارا فإن كان الجوهر الياقوت للتجارة ففيه الزكاة
قال سفيان وما كان عنده في سيف أو منطقة أو قدح مفضض أو آنية فضة أو خاتم فيضم ذلك كله بعد أن يحسبه ويعرف وزنه فما كان منه ذهبا ضمه إلى الذهب وما كان منه فضة ضمه إلى الفضة ثم زكاة
قال الأوزاعي يزكى الحلي ذهبه وفضته ويترك جوهرة ولؤلؤه
قال أبو عمر جملة قول الشافعي في زكاة الحلي قال ببغداد (وهي رواية الحسن بن محمد الزعفراني عنه) لا زكاة في حلي إذا استمتع به أهلك في عمل مباح
قال فإن انكسر الحلي فكان أهله على إصلاحه والاستمتاع به زكى لأنه قد خرج من حد التجمل
قال وكل حلي على سيف أو مصحف أو منطقة أو ما أشبه هذا فلا زكاة فيه
قال وأما آنية الذهب والفضة مضمنه فتزكى ولا ينبغي أن تتخذ لأنها منهي عنها
قال وكل حلية سوى الذهب والفضة من لؤلؤ أو ياقوت أو زبرجد أو غيرها فلا زكاة فيه إنما الزكاة في العين وهو الذهب والفضة
وقال بمصر قد قيل في الحلي صدقة وهذا مما أستخير الله فيه فمن قال فيه زكاة زكى كل ذهب وفضة فيه فإن كان منظوما بعينه يعتبر وزنه ميزه ووزنه وأخرج الزكاة منه بقدر وزنه واحتاط حتى يعلم أنه قد أدى جميع ما فيه
ومن قال لا زكاة في الحلي فلا زكاة عنده في خاتم ولا حلية سيف ولا مصحف ولا منطقة ولا قلادة ولا دملج
قال فإن اتخذ الرجل شيئا من حلي النساء لنفسه فعليه فيه الزكاة قال ولو اتخذ رجل أو امرأة إناء فضة أو ذهب زكياه في القولين جميعا ولا زكاة في شيء من الحلي إلا في الذهب والفضة
وقال أبو ثور مثل قول الشافعي البغدادي
وقال أبو حنيفة وأصحابه كل ما كان من دنانير أو دراهم أو فضة تبرا أو حليا مكسورا أو مصنوعا أو حلية سيف أو إناء أو منطقة ففي ذلك الزكاة
قال أبو عمر من حجة من أوجب الزكاة في الحلي مع ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم وفي
152

الرقة ربع العشر وقوله صلى الله عليه وسلم ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة
وإنما ذلك على عمومه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعها ابنة لها وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب فقال لها أتعطين زكاة هذا قالت لا قال أيسرك أن يسورك الله بها يوم القيامة سوارين من نار فخلعتهما وألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت هما لله ورسوله (1)
فهذا وعيد شديد في ترك زكاة الحلي
واحتج أيضا بحديث عبد الله بن شداد عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو هذا
ولكن حديث عائشة في الموطأ بإسقاط الزكاة عن الحلي أثبت إسنادا وأعدل شهادة ويستحيل في العقول أن تكون عائشة تسمع مثله من هذا الوعيد في ترك زكاة الحلي وتخالفه
ولو صح ذلك عنها علم أنها قد علمت النسخ من ذلك
وقول مالك أن من كان عنده تبر أو حلي من ذهب أو فضة لا ينتفع به للبس فإن عليه فيه الزكاة في كل عام
قال أبو عمر هذا الاختلاف فيه بين العلماء أن الزكاة فيه إذا كان لا يراد به زينة النساء
قال مالك وأما التبر المكسور الذي يريد أهله إصلاحه ولبسه فإنما هو بمنزلة المتاع ليس فيه زكاة
قال أبو عمر يريد مالك أنه معد للإصلاح للبس النساء فكأنه حلي صحيح متخذ للنساء وإذا كان كذلك فلا زكاة فيه لأحد ممن يسقط الزكاة عن الحلي
والشافعي يرى فيه الزكاة إذا كان مكسورا لأنه بمنزلة التبر عنده فلا تسقط الزكاة عنده في الذهب والفضة إلا أن يكون حليا يصلح للزينة ويمكن النساء استعماله
وأجمعوا أن لا زكاة في الحلي إذا كان جوهرا أو ياقوتا لا ذهب فيه ولا فضة إلا أن يكون للتجارة فإن كان للتجارة وكان مختلطا بالذهب أو الفضة عرف وزن الذهب والفضة وزكي وقوم الجوهر المدبر عند رأس كل حول - عند مالك وأكثر أصحابه - مع سائر عروض تجارته وإن كان غير مدبر زكاها حين يبيعها
153

وأما غير مالك والشافعي والكوفيين وجمهور العلماء فإنهم يلزمون التاجر بتقويم العروض في كل عام إذا اشتراها بنية التجارة مدبرا كان أو غير مدبر لأن كل تاجر يطلب الربح فيما يشتريه وإذا جاءه الربح باع إن شاء فهو مدبر
قال أبو عمر من أسقط الزكاة عن الحلي المستعمل وعن الإبل والبقر العوامل فقد اضطرد قياسه ومن أوجب الزكاة في الحلي والبقر العوامل فقد اضطرد قياسه أيضا وأما من أوجب الزكاة في الحلي ولم يوجبها في البقر العوامل أو أوجبها في البقر العوامل وأسقطها من الحلي فقد أخطأ طريق القياس
قال مالك ليس في اللؤلؤ ولا في المسك ولا العنبر زكاة
قال أبو عمر أما اللؤلؤ والمسك والعنبر فلا خلاف أنه لا زكاة في أعيانها كسائر العروض وسيأتي ذكر مذاهب سائر العلماء في التجارة بالعروض في باب زكاة العروض إن شاء الله
قال أبو عمر واختلفوا في العنبر واللؤلؤ هل فيهما الخمس حين يخرجان من البحر أو لا
فجمهور الفقهاء على أن لا شيء فيهما
وهو قول أهل المدينة وأهل الكوفة والليث والشافعي وأحمد وأبي ثور وداود
وقال أبو يوسف في اللؤلؤ والعنبر وكل حلية تخرج من البحر
وهو قول عمر بن عبد العزيز لم يختلف عنه في ذلك وكان يكتب إلى عماله
واختلف فيه عن بن عباس فروي عنه أنه لا شيء فيه لأنه شيء دسره البحر (1)
روى معمر والثوري عن بن طاوس عن أبيه عن بن عباس أنه سأله إبراهيم بن سعد عن العنبر فقال إن كان في العنبر شيء ففيه الخمس
وروى بن عيينة وبن جريج عن عمرو بن دينار عن أذينة عن بن عباس أنه كان لا يرى في العنبر خمسا ويقول هو شيء دسره البحر وليس في حديثه بن عيينة عن عمرو بن دينار سمع رجلا يقال له أذينة يقول سمعت بن عباس يقول ليس العنبر بركاز وإنما هو شيء دسره البحر
وبن عيينة أيضا عن بن طاوس عن أبيه أن بن الزبير استعمل إبراهيم بن
154

سعد بن أبي وقاص على بعض تهامة فأتى بن عباس يسأله عن العنبر هل فيه زكاة فقال بن عباس إن كان فيه شيء ففيه الخمس
قال أبو عمر قال الله عز وجل * (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم) * [التوبة 103] وأمرهم تعالى ذكره بإيتاء الزكاة فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعض الأموال دون بعض
وعلمنا بذلك أن الله تبارك وتعالى لم يرد جميع الأموال وأنما أراد البعض
وإذا كنا على يقين من أن المراد هو البعض من الأموال فلا سبيل إلى إيجاب زكاة إلا فيما أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقف عليه أصحابه
((6 - باب زكاة أموال اليتامى والتجارة لهم فيها))
543 - ذكر فيه مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب قال اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة
544 - وعن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أنه قال كانت عائشة تليني وأخا لي يتيمين في حجرها فكانت تخرج من أموالنا الزكاة
545 - وأنه بلغه أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت تعطي أموال اليتامى الذين في حجرها من يتجر لهم فيها
قال أبو عمر روي عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر والحسن بن علي وجابر أن الزكاة واجبة في مال اليتيم كما رواه مالك عن عمر وعائشة
وقال بقولهم من التابعين عطاء وجابر بن زيد ومجاهد وبن سيرين
وبه قال مالك والشافعي وأصحابهما والحسن بن حي والليث بن سعد
وإليه ذهب أبو ثور وأحمد بن حنبل وجماعة
وذكر أحمد قال حدثنا وكيع قال حدثنا القاسم بن فضل الحراني عن معاوية بن قرة عن الحكم بن أبي العاص الثقفي قال قال عمر لو عندي مال يتيم قد كادت الصدقة أن تأتي عليه
155

وذكر عن القطان عن حسين المعلم عن مكحول عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب عن عمر ابتغوا بأموال اليتامى لا تأكلها الزكاة
قال أحمد أخبرنا يزيد بن هارون عن سفيان عن عبد الله بن دينار عن بن عمر أنه كان يزكي مال اليتيم
قال وحدثنا بن مهدي عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن بن لأبي رافع قال باع لنا علي أرضا ثمانين ألفا ثم أعطاناها فإذا هي تنقص فقال إني كنت أزكيها
وذكر عبد الرزاق عن بن جريج عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في الذي يلي مال اليتيم قال يعطي زكاته
قال أبو عمر فهذا من طريق الاتباع وأما من طريق النظر والقياس على ما أجمع علماء المسلمين عليه من زكاة ما تخرجه أرض اليتيم من الزرع والثمار وهو مما لا يختلف فيه حجازي ولا عراقي من العلماء
وقد أجمعوا أيضا أن في مال من لم يبلغ ولم تجب عليه صلاة أرش (1) ما يجنيه من الجنايات وقيمة ما يتلفه من المتلفات
وأجمعوا على أن الحائض والذي يجن أحيانا لا يراعى لهم مقدار أيام الحيض والجنون من الحول
وهذا كله دليل على أن الزكاة حق المال ليست كالصلاة التي هي حق البدن فإنها تجب على من تجب عليه الصلاة وعلى من لا تجب عليه
وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه لا زكاة في مال يتيم ولا صغير إلا فيما تخرج أرضه من حب أو تمر
وهو قول جمهور أهل العراق وإليه ذهب الأوزاعي
إلا أن الأوزاعي والثوري قالا إذا بلغ اليتيم فادفع إليه ماله وأعلمه بما وجب عليه لله فإن شاء زكى وأن شاء ترك
قال أبو عمر هذا ضعيف من القول
وقال بن أبي ليلى في أموال اليتامى الزكاة وأن أداها عنهم الوصي غرم
وهذا أيضا في الموصي المأمون أضعف مما مضى
156

وقال بن شبرمة لا زكاة في مال اليتيم الذهب والفضة وأما الماشية وما أخرجت أرضه ففي ذلك الزكاة
وهذا أيضا تحكم إلا أن الشبهة فيه ما كان السعاة يأخذونه عاما
ومدار المسألة على قولين قول أهل الحجاز بإيجاب الزكاة في أموال اليتامى وقول أبي حنيفة ومن تابعه أن لا زكاة في أموالهم إلا ما تخرجه الأرض
زعم الطحاوي أن الفرق بين ما تخرجه أرض الصغير وبين سائر ماله أن الزكاة حق طارئ على ملك ثابت للمالك قبل وجوب الحق فهو طهرة والزكاة لا تلزم إلا من تلحقه الطهارة والركاز وثمرة النخل والزرع لحدوثها يجب حق الزكاة فيها فلا يملكها مالكها إلا وهو حق واجب للمساكين فصار كالشركة فاستوى فيه حق الصغير والكبير
قال أبو عمر محال أن تجب الصدقة إلا على ملك فكيف لا يملك ما يخرج من الأرض حتى وجبت فيه الزكاة ومعلوم أن الزكاة إنما وجبت فيما أخرجته الأرض على ملك أصل ما زرع وما أخرجته ولا فرق بين ذلك وبين سائر ما تجب فيه الزكاة من ماله إلا حيث فرقت السنة من مرور الحول فهذا هو الصحيح وما خالف هذا فلا وجه له ولا معنى يصح والله أعلم
وقد أجمعوا أنه مالك له إذا حل بيعه فإنما قبل حصاده والله عز وجل يقول " وآتوا حقه يوم حصاده " [الأنعام 141]
وكذلك لا معنى لتشبيهه بالركاز لأن الركاز لا تجري مجرى الصدقة إنما تجري مجرى الفيء وبنفس الغنيمة يجب الخمس فيها لمن سمى الله عز وجل
وأحسن ما يحتج به لهم والله أعلم أن من وجبت عليه الصدقة مأمور بأدائها والطفل غير جائز أن يتوجه إليه خطاب بأمر أو نهي لأنه غير مكلف
لكن الإجماع فيما تخرجه أرضه يدل على أن حكم الزكاة في ماله ليس كحكم ما يلزمه في بدنه من الفرائض والله أعلم
وممن قال بأن لا زكاة في مال اليتيم ولا الصغير أبو وائل وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي والحسن البصري وسعيد بن جبير
((7 - باب زكاة الميراث))
546 - مالك أنه قال إن الرجل إذا هلك ولم يؤد زكاة ماله إني أرى أن
157

يؤخذ ذلك من ثلث ماله ولا يجاوز بها الثلث وتبدى على الوصايا وأراها بمنزلة الدين عليه فلذلك رأيت أن تبدى على الوصايا
قال وذلك إذا أوصى بها الميت قال فإن لم يوص بذلك الميت ففعل ذلك أهله فذلك حسن وإن لم يفعل ذلك أهله لم يلزمهم ذلك
قال أبو عمر إنما يؤخذ من ثلث ماله إذا أوصى بها لأنه لو جعلها كالدين من جميع المال لم يشأ رجل أن يحرم وارثه ماله كله ويمنعه منه لعداوته له إلا منعه بأن يقر على نفسه من الزكاة الواجبة عليه في سائر عمره بما يستغرق ماله جميعا فمنع من ذلك وجعل ما أوصى به لا يتعدى ثلثه على سنة الوصايا ورأى أن يبتدأ بها على سائر الوصايا تأكيدا لها وخوفا أن لا يحل الثلث جميع وصاياه وقد قال إن المدبر في الصحة تبدى عليها
وقال بعض أصحابنا وصداق المريض يبدي أيضا وسيأتي هذا المعنى في الوصايا إن شاء الله
وأما قوله وأراها بمنزلة الدين فكلام ليس على ظاهره لأن الدين عنده وعند العلماء من رأس مال الميت ولا ميراث ولا وصية إلا بعد أداء الدين
وهذا أمر مجتمع عليه وإنما أراد أن الزكاة تبدى على الوصايا بمنزلة تبديه الدين عليها وعلى غيرها من الوصايا ولو كان عنده أمرا لأشكل فلذلك لم يحصل فيه لفظه والله أعلم
وما استحسنه للورثة إن لم يوص الميت بزكاة ماله فمستحسن عند غيره ممن لا يرى الزكاة من رأس المال
وذكر بن وهب عن يونس عن ربيعة فيمن مات وعليه زكاة ماله أنها لا تؤخذ من ماله وعليه ما تحمل
وروي عن مالك فيمن مات ولم يفرط في إخراج زكاة ماله ثم صح أنه لم يخرجها أنها بمنزلة الدين تأخذ من رأس ماله
وقال الشافعي الزكاة يبدأ بها قبل ديون الناس ثم يقسم ما له بين غرمائه لأن من وجبت في ماله زكاة فليس له أن يحدث في ماله شيء حتى تخرج الزكاة وله التصرف في ماله وإن كان عليه دين ما لم يوقف الحاكم ماله للغرماء
قال أبو ثور الزكاة بمنزلة الدين وهو قول أحمد بن حنبل وجماعة من التابعين
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل سألت أبي عن رجل أوصى بالثلث فنظر
158

الوصي فإذا الرجل لم يعط الزكاة قال يخرج الزكاة ثم يخرج الثلث
وأما أبو حنيفة وأصحابه فقالوا فيمن أوصى بزكاة ماله وبحج وكفارات أيمان أنه يبدأ بالزكاة إن قصر الثلث عن وصاياه ثم بالحج للفرض ثم بالكفارة
قالوا ولو أوصى بشيء من القرب زكاة أو حج أو غير ذلك وأوصى لقوم بأعيانهم بدئ بالذين أوصى لهم بأعيانهم
وقال مالك السنة عندنا أنه لا تجب على وارث في مال ورثه الزكاة حتى يحول عليه الحول
قال أبو عمر هو إجماع من جماعة فقهاء المسلمين فالحديث فيه مأثور عن علي وبن عمر أنه لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول وقد رفع بعضهم حديث بن عمر
ولا خلاف في هذا بين جماعة العلماء إلا ما جاء عن بن عباس وأبي معاوية بما قد ذكرناه في صدر هذا الكتاب ولم يخرج أحد من الفقهاء عليه ولا التفت إليه
قال مالك إنه لا يجب على وارث زكاة في مال ورثه في دين ولا عرض ولا دار ولا عبد ولا وليدة حتى يحول على ثمن ما باع من ذلك أو اقتضى الحول من يوم باعه
وقبضه
قال أبو حنيفة لا يزكي الوارث الدين حتى يقبضه كقول مالك
وقال الشافعي الوارث كالمورث في الدين يعتبر فيها الحول من يوم ورثه وأمكنه أخذه ممن هو عليه فإن تركه وهو قادر على أخذه زكاة كما مضى إذا قبضه
((8 - باب الزكاة في الدين))
547 - مالك عن بن شهاب عن السائب بن يزيد أن عثمان بن عفان كان يقول هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤد دينه حتى تحصل أموالكم فتؤدون منه الزكاة
548 - وروى مالك عن يزيد بن خصيفة أنه سأل سليمان بن يسار عن رجل له مال وعليه دين مثله أعليه زكاة فقال لا
159

قال أبو عمر قول عثمان بن عفان رضي الله عنه يدل على أن الدين يمنع من زكاة العين وأنه لا تجب الزكاة على من غلبه دين
وبه قال سليمان بن يسار وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري وميمون بن مهران والثوري والليث بن سعد وأحمد وإسحاق وأبو ثور
وهو قول مالك إلا أن مالكا يقول إن كان عند من عليه الدين من العروض ما يفي بدينه لزمته الزكاة فيما بين يديه من الدين
وللشافعي في هذه المسألة قولان معروفان أحدهما أن لا يلتفت إلى الدين في الزكاة وأنه يوجب عليه الزكاة وإن أحاط الدين بماله لأن الدين في ذمته والزكاة في عين ما بيده والقول الآخر أن الدين إذا ثبت لم يزك أموال التجارة إذا أحاط الدين بها إلا أنه لا يجعل الدين في شيء من العروض
قال الشافعي لا يجعل دينه في العروض وإنما جعله في عين إن كان له وكان قادما عليه لأن العروض لما لم تجب في عينها الزكاة لم توجب زكاة ومرة وجبت عليه الزكاة
وهو قول ربيعة وحماد بن أبي سليمان
وقال أبو حنيفة الدين يمنع الزكاة ويجعل في الدنانير وعروض التجارة فإن فضل كان في السائمة ولا يجعل في عبد الخدمة ولا دار السكنى إلا إذا فضل عن ذلك
وهو قول الثوري أنه لا يمنع الزكاة وتجعل في الدراهم دون خادم لغير التجارة
وقال مالك الدين لا يمنع زكاة السائمة ولا عشر الأرض ويمنع زكاة الدراهم والدنانير وصدقة الفطر في العيد
هذه رواية بن القاسم عنه
وقال بن وهب عن مالك كما ذكر في الموطأ ولم يذكر صدقة الفطر
وقال الأوزاعي الدين يمنع الزكاة ولا يمنع عشر الأرض
وقال بن أبي ليلى والحسن بن حي الدين لا يمنع الزكاة
وقال زفر يمنع الزكاة إلا أنه يجعله فيما بيده من جنسه فإن كان الدين طعاما وفي يده طعام للتجارة أو غيرها وله دراهم جعل الدين بالطعام دون الدراهم
وقال الشافعي إذا كان له مائتي درهم وعليه مثلها فاستعدى عليه صاحب الدين السلطان قبل الحول فلم يقض عليه بالدين حتى حال الحول أخرج زكاتها ثم قضى
160

غرماءه بقيتها ولو قضى عليه بالدين وجعل لغرمائه ماله حيث وجدوه قبل الحول ثم حال عليه الحول قبل أن يقضيه الغرماء لم يكن عليه زكاة
549 - مالك عن أيوب بن أبي تميمة السختياني أن عمر بن عبد العزيز كتب في مال قبضة بعض الولاة ظلما يأمر برده إلى أهله ويؤخذ زكاته لما مضى من السنين ثم عقب بعد ذلك بكتاب أن لا يؤخذ منه إلا زكاة واحدة فإنه كان ضمارا (1)
قال أبو عمر الضمار الغائب عن صاحبه الذي لا يقدر على أخذه أو لا يعرف موضعه ولا يرجوه
وقد روى سفيان بن عيينة هذا الخبر وفسر فيه الضمار
وذكره بن أبي عمر وغيره عن بن عيينة عن عمرو بن ميمون قال كتب عمر بن عبد العزيز إلى ميمون بن مهران أن انظر أموال بني عائشة التي كان أخذها الوليد بن عبد الملك فردها عليهم وخذ زكاتها لما مضى من السنين
قال ثم أردفه بكتاب آخر لا تأخذ منها إلا زكاة واحدة فإنه كان مالا ضمارا
والضمار الذي لا يدري صاحبه أيخرج أم لا
قال أبو عمر هذا التفسير جاء في الحديث وهو عندهم أصح وأولى
واختلف العلماء في زكاة المال الطارئ وهو الضمار ف قال مالك وآخر قول عمر بن عبد العزيز أنه ليس عليه فيه إلا زكاة واحدة إذا وجده أو قدر عليه أو قبضه
وقال الليث لا زكاة عليه فيه ويستأنف به حولا
وقال الكوفيون إذا غصب المال غاصب وجحده سنين ولا بينة له أو ضاع منه في مفازة أو طريق أو دفنه في صحراء فلم يقف على موضعه ثم وجده بعد سنين فلا زكاة عليه فيه لما مضى ويستأنف به حولا
وقال الثوري وزفر عليه فيه الزكاة لما مضى
وللشافعي فيه قولان أحدهما أنه يجب عليه فيه الزكاة لما مضى والآخر أنه لا تجب عليه فيه الزكاة ويستأنف به حولا
161

قال أبو عمر أما مالك (رحمه الله) فإنه أوجب فيه زكاة واحدة قياسا على مذهبه في الدين وفي العرض للتجارة إذا لم يكن صاحبه مدبرا
وقد قال كقول مالك في ذلك عطاء والحسن وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي كل هؤلاء يقولون ليس عليه فيه إلا زكاة واحدة
وأما من قال لا زكاة عليه فيه لما مضى فإنه عنده لما لم يطلق يده عليه ولا تصرف فيه جعلوه كالمال المستعار الطارئ
وأما من أوجب فيه الزكاة لما مضى من السنين فلأنه على ملكه ويثاب عنه ويؤجر فيه إن ذهب
قال أبو عمر أما القياس فإن كل ما استقر في ذمة غير المالك فهذا لا زكاة على مالكه فيه وكذلك الغريم الجاحد للدين وكل ذي ذمة فإنه لا يلزم صاحب المال أن يزكي على ما في ذمة غيره غاصبا كان له أو غير غاصب
وأما ما كان مدفونا في موضع يصيبه صاحبه أو غير مدفون وليس في ذمة أحد أو كان لقطة فالواجب عندي على ربه أن يزكيه إذا وجده لما مضى من السنين فإنه على ملكه وليس في ذمة غيره إلا أن يكون الملتقط قد استهلكه وصار في ذمته
وهذا قول سحنون ومحمد بن مسلمة والمغيرة ورواية عن بن القاسم
قال أبو عمر قد بين مالك (رحمه الله) مذهبه في الدين في هذا الباب من موطئه وأشار إلى الحجة لمذهبه بعض الإشارة والدين عنده والعروض لغير المدبر باب واحد ولم ير في ذلك إلا زكاة واحدة لما ما مضى من الأعوام تأسيا بعمر بن عبد العزيز في المال الضمار لأنه قضى أنه لا زكاة فيه إلا لعام واحد والدين الغائب عنده كالضمار لأن الأصل في الضمار ما غاب عن صاحبه والعروض عنده لمن لا يدبر وعند بعض أصحابه لمن يدبر إذا كان عليه حكمه حكم الدين المذكور
وليس لهذا المذهب في النظر كبير حظ إلا ما يعارضه من النظر ما هو أقوى منه
والذي عليه غيره من الدين أنه إذا كان قادرا على أخذه فهو كالوديعة يزكيه لكل عام لأن تركه له وهو قادر على أخذه كتركه له في بيته وما لم يكن قادرا على أخذه فقد مضى في هذا الباب ما للعلماء في ذلك والاحتياط في هذا أولى والله الموفق للصواب وهو حسبي ونعم الوكيل
162

((9 - باب زكاة العروض))
550 - مالك عن يحيى بن سعيد عن زريق بن حيان وكان زريق على جواز مصر في زمان الوليد وسليمان وعمر بن عبد العزيز فذكر أن عمر بن عبد العزيز كتب إليه أن انظر من مر بك من المسلمين فخذ مما ظهر من أموالهم مما يديرون من التجارات من كل أربعين دينارا دينارا فما نقص فبحساب ذلك حتى يبلغ عشرين دينارا فإن نقصت ثلث دينار فدعها ولا تأخذ منها شيئا
ومن مر بك من أهل الذمة يمما يديرون من التجارات من كل عشرين دينارا دينارا فما نقص فبحساب ذلك حتى يبلغ عشرة دنانير فإن نقصت ثلث دينار فدعها ولا تأخذ منها شيئا واكتب لهم بما تأخذ منهم كتابا إلى مثله من الحول
قال أبو عمر معلوم عند جماعة العلماء أن عمر بن عبد العزيز كان لا ينفذ كتابا ولا يأمر بأمر ولا يقضي بقضية إلا عن رأي العلماء الجلة ومشاورتهم والصدر عما يجمعون عليه ويذهبون إليه ويرونه من السنن المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه المهتدين بهديه المقتدين بسنته وما كان ليحدث في دين الله ما لم يأذن الله له به مع دينه وفضله
وفي حديثه هذا الأخذ من التجارات في العروض المدارات بأيدي الناس والتجار الزكاة كل عام ولم يعتبر من نض (1) له شيء من العين في حوله ممن لم ينض ولو كان ذلك من شرط زكاة التجارات لكتب به وأوضحه ولم يهمله ومعلوم أن الإدارة في التجارة لا تكون إلا بوضع الدراهم والدنانير في العروض وابتغاء الربح وهذا من أبين شيء في زكاة العروض ولذلك صدر به مالك هذا الباب
وقد روي عن عمر بن الخطاب ما يدل على أن عمر بن عبد العزيز طريقه سلك في ذلك ومذهبه أمثل
ذكر عبد الرزاق عن هشام بن حسان عن أنس بن سيرين قال بعثني أنس بن مالك على الأبلة فقلت له تبعثني على شر عملك فأخرج إلي كتابا من عمر بن الخطاب خذ من المسلمين من كل أربعين درهما درهما ومن أهل الذمة من كل عشرين درهما درهما درهما ومن لا ذمة له من كل عشرة دراهم درهما
163

وقال وأخبرني الثوري ومعمر عن أيوب عن أنس بن سيرين عن أنس بن مالك عن عمر بن الخطاب مثله
قال أبو عمر ليس في كتاب عمر بن الخطاب أن يكتب للذمي بأخذ ما يأخذ منه كتابا إلى الحول
وذلك يدل على ما ذهب إليه مالك أنه يؤخذ من الذمي كلما تجر من بلده إلى غير بلده وسنذكر ما للعلماء في ذلك إن شاء الله
وروي عن بن المديني قال حدثنا المعتمر بن سليمان قال سمعت أبي يحدث عن أنس بن سيرين عن أنس بن مالك قال كتب عمر بن الخطاب إلى عامل الأبلة وكان كتب إليه إنه يمر بنا التاجر المسلم والمعاهد والتاجر يقدم من أرض الحرب فكتب إليه عمر
خذ من المسلمين من كل أربعين درهما درهما ثم اكتب له براءة إلى آخر السنة وخذ من التاجر المعاهد من كل عشرين درهما درهما وانظر تجار الحرب فخذ منهم ما يأخذون من تجاركم
ألا تراه شرط البراءة رأس الحول على المسلم وحده لأنه لا زكاة على المسلم في تجارة ولا ماشية عين ولا حتى يحول الحول
وفي حديث عمر بن عبد العزيز أيضا من الفقه أن للأئمة أخذ زكاة الدراهم والدنانير كما لهم أخذ زكاة الماشية وعشر الأرض
وأما اشتراطه في النقصان ثلث دينار فذلك رأي واستحسان غير لازم وهو يعارض قول مالك ناقص بين النقصان على ما قد مضى في هذا الكتاب والله الموفق للصواب
والأخذ عندي بظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيما دون خمس أواق صدقة أو فيما صح أنه دون ذلك قليلا كان أو كثيرا
فإذا صح في الورق انه دون خمس أواق والأوقية أربعون درهما فإن قل منها شيء فلا زكاة فيه وكذلك الذهب ليس في أقل من عشرين دينارا زكاة
وأما قول عمر بن عبد العزيز ومن مر بك من أهل الذمة إلى آخر كلامه ذلك فإنه راعى في الذمي نصابا جعله مثل نصاب المسلم وأخذ منه أيضا عند رأس الحول مثل ما يؤخذ من المسلم مرة واحدة في الحول لا غير
وقد خالفه في ذلك أكثر أهل العلم وكان مالك يقول في الذمي إذا خرج بمتاع
164

إلى المدينة من بلده فباع بأقل من مائتي درهم فإنه يؤخذ منه العشر مما قل أو كثر ولا يؤخذ منه شيء حتى يبيع فإن رد متاعه ولم يبع لم يؤخذ منه شيء ولا يعتبر فيه النصاب
قال مالك وإن اشترى في البلد الذي دخله بمال يأمن معه أخذ منه العشر مكانه من السلعة التي اشترى فإن باع بعد واشترى لم يؤخذ منه شيء فإن قام سنين في ذلك البلد يبيع ويشتري لم يكن عليه شيء
قال مالك في النصراني إذا تجر في بلده ولم يخرج منه لم يؤخذ منه شيء
قال ويؤخذ من عبيد أهل الذمة كما يؤخذ من ساداتهم
وقال الثوري إذا مر الذمي بشيء للتجارة أخذ منه نصف العشر إن كان يبلغ مائتي درهم وإن كان أقل من ذلك فليس عليه شيء
هذه رواية الأشجعي عنه
وروى عنه أبو أسامة أنه يؤخذ منه من كل مائة درهم خمسة دراهم إلى الخمسين فإن نقصت من الخمسين لم يؤخذ منه شيء
وقال الأوزاعي في النصراني إذا اتجر بماله في غير بلده أخذ منه حق ماله عشرا كان أو نصف عشر وإن أقام بتجارته لا يخرج ببيع ويشتري لم يؤخذ منه شيء وإنما عليه جزيته
وقال أبو حنيفة وأصحابه ليس على أهل المدينة في أموالهم شيء إلا ما اختلفوا فيه من تجاراتهم فإنه يؤخذ منهم نصف العشر فيما يؤخذ فيه من المسلم ربع العشر وذلك إذا كان مع التاجر منهم مائتي درهم فصاعدا
قالوا وإذا أخذ منه لم يؤخذ منه غيره لذلك الحول ويؤخذ من الحربي العشر إلا أن يكون أهل الحرب يأخذون منا أقل فيؤخذ منهم مثل ما أخذوا منا وإن لم يأخذوا منا لم نأخذ منهم شيئا
قالوا ويؤخذ من المسلم ربع العشر زكاة ماله الواجبة عليه
وقول الحسن بن صالح كقول أبي حنيفة في اعتبار النصاب والحول والمقدار في الذمي والحربي والمسلم
وقال الشافعي يؤخذ من الذمي نصف العشر ومن الحربي العشر ومن المسلم ربع العشر اتباعا لعمر بن الخطاب (رضي الله عنه)
قال الشافعي ولا يترك أهل الحرب يدخلون إلينا إلا بأمان ويشترط عليهم أن
165

يؤخذ منهم العشر أو أقل أو أكثر لم يكن عليهم شرط لم يؤخذ منهم شيء سواء كانوا يعشرون المسلمين أم لا
قال أبو عمر أما قول الشافعي إن لم يشترط عليه في حين دخوله وعقد الأمان له لم يؤخذ منه شيء فوجه ذلك أن الأمان يحقن الدم والمال فإذا لم يشترط على المستأمن أن لا يؤمن في دخوله إلينا إلا بأن يؤخذ منه لم يكن عليه شيء
ويكره الشافعي أن يؤمن أحد من أهل الحرب إلا بعد الشرط عليه بأن لا يخالف سنة محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك
وأما مالك (رحمه الله) فإن مذهبه يدل على أن سنة عمر قد كانت فشت عندهم وعرفوها كما فشت دعوة الإسلام فأغنى ذلك عن الاشتراط
وما أعلم لأهل العلم بالحجاز والعراق علة في الأخذ من تجار الحرب إلا فعل عمر (رضي الله عنه) وكذلك كبار أهل العلم والله أعلم
وإنما خالف مالك عمر بن عبد العزيز في هذا الباب لما رواه عن الزهري عن السائب بن يزيد قال كنت عاملا مع عبد الله بن عيينة على سوق المدينة في زمن عمر بن الخطاب فكان يأخذ من النبط العشر
رأى مالك قول عمر بن الخطاب أعلى من قول عمر بن عبد العزيز فمال إليه فأخذ العشر من الذمي
وستأتي معاني هذا الباب في باب عشور أهل الذمة إن شاء الله
وأما قول عمر بن عبد العزيز واكتب لهم كتابا بما تأخذ منهم إلى مثله من الحول فهذا هو الحق عند جماعة أهل العلم لأن المسلم لا يلزمه الزكاة إلا مرة واحدة في الحول ولم يختلفوا أن السنة في الإمامة أن يكون الإمام واحدا في أقطار الإسلام ويكون أمراؤه في كل أفق يتخيرهم ويتفقد أمورهم وإذا كان على الجواز عاملا للإمام يأخذ من التاجر المسلم زكاة ماله فعليه أن يكتب لهم بذلك كتابا يستظهر به في ذلك العام عند غيره من العمال الطالبين للزكاة من المسلمين ويقطع بذلك مذهب من رأى تحليفهم أنهم قد أدوا ولم يحل على ما بأيديهم الحول ويجمع تلك العلة بالكتاب لهم
وقد أجمع العلماء على أنه مصدق فيما يدعيه من نقصان الحول إذا قال لهم لم أستفد هذا المال إلا منذ أشهر ولم يحل علي فيه حول وكذلك إذا قال قد أديت لم يحلف إلا أن
يتهم
166

ومن ذهب إلى أن الذمي لا يؤخذ منه في الحول إلا مرة واحدة وجب على مذهبه الكتاب لهم بذلك أيضا ومن قال يؤخذ من الذمي كلما اتجر فلا حاجة به إلى كتاب
واختلف الفقهاء إذا قال المسلم قد أديت زكاة مالي إلى المساكين
فقال مالك إن كان الإمام يضعها موضعها فلا يحل لأحد أن يقسمها حتى يدفعها إليه وإن كان لا يضعها موضعها قسمها هو
وقال الشافعي ببغداد ليس لأحد أن يؤديها إلى أهلها دون السلطان فإن فعل فللسلطان أخذها منه وقياس قوله المصري أنه إذا قال أديتها كان مصدقا ولم يجز أن تؤخذ منه ويصدق في ذلك كما يصدق في الحول أنه لم يحل عليه
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد يقبل السلطان قوله وقد أجزت عنه
قال مالك الأمر عندنا فيما يدار من العروض للتجارات إلى آخر كلامه في ذلك من موطئه
قال أبو عمر مذهب مالك وأصحابه أن التجارة تنقسم عندهم قسمين أحدهما رجل يبتاع السلع في حين رخصها ويرتاد نفاقها فيأتي عليه في ذلك العام والأعوام ولم يبع تلك السلعة وقد نوى التجارة بها أنه لا زكاة عليه فيما اشترى من العروض حتى يبيعها فإذا باعها بعد أعوام لم يكن عليه أن يزكي إلا لعام واحد كالدين الذي يقتضيه صاحبه وقد غاب عنه ومكث أعواما عند الذي كان عليه أنه لا يزكيه إلا لعام واحد
وروي مثل قول مالك في ذلك عن الشعبي وعمرو بن دينار وعبد الكريم بن أبي المخارق والذين قالوا في الدين أنه لا يزكيه إذا قبضه إلا لعام واحد منهم عطاء الخرساني
وهو مذهب عمر بن عبد العزيز في المال الضمار وهو المحبوس عن صاحبه
والآخر هو الذين يسمونه المدير وهم أصحاب الحوانيت بالأسواق الذين يبتاعون السلع ويبيعون في كل يوم ما أمكنهم بيعه بما أمكن من قليل الناض وكثيره ويشترون من جهة ويبيعون من جهة أخرى فهؤلاء إذا حال الحول عليهم من يوم ابتدؤوا تجارتهم قدموا ما بأيديهم من العروض في رأس الحول فيضمون إلى ذلك ما بأيديهم من العين ويزكون الجميع بعينه ثم يستأنفون حولا من يوم زكوه
قال مالك وما كان من مال عند رجل يديره للتجارة ولا ينض لصاحبه منه
167

شيء تجب عليه فيه الزكاة فإنه يجعل له شهرا من السنة يقوم فيه ما كان عنده من عرض للتجارة ويحصى فيه ما كان عنده من نقد أو عين فإذا بلغ ذلك كله ما تجب فيه الزكاة فإنه يزكيه
وقد اختلف أصحاب مالك في المدير المذكور لا ينض له في حوله شيء من الذهب ولا من الورق فقال بن القاسم إن نض له في عامه ولو درهم واحد فما فوقه قوم عروضه كلها وأخرج الزكاة وإن لم ينض له شيء وإنما باع عامه كله العروض بالعروض لم يلزمه تقويم ولم تجب عليه لذلك زكاة
ورواه عن مالك وهو معنى ما ذكره بن عبد الحكم عنه ورواه بن وهب عن مالك بمعنى ما رواه بن القاسم
وذكر مالك عن مطرف وبن الماجشون عن مالك أنه قال على المدير أن يقوم عروضه في رأس الحول ويخرج زكاة ذلك نض له في عامه شيء أم لم ينض
قال أبو عمر هذا هو القياس ولا أعلم أصلا يعضد قول من قال لا يعدل التاجر عروضه حتى ينض له شيء من الورق أو الذهب أو حتى ينض له نصاب كما قال نافع لأن العروض المشتراة بالورق والذهب للتجارة لو لم تقم مقامها لوضعها فيها للتجارة ما وجبت فيها زكاة أبدا لأن الزكاة لا تجب فيها لعينها إذا كانت لغير التجارة بإجماع علماء الأمة وإنما وجب تقويمها عندهم للمتاجر بها لأنها كالعين الموضوعة فيها التجارة وإذا كانت كذلك فلا معنى لمراعاة ما نض من العين قليلا كان أو كثيرا ولو كانت جنسا آخر ما وجبت فيها زكاة من اجل غيرها وإنما صارت كالعين لأن النماء لا يطلب بالعين إلا هكذا
وهو قول جماعة الفقهاء بالعراق والحجاز
قال الشافعي من اشترى عرضا للتجارة حال عليه الحول من يوم ابتاعه للتجارة فعليه أن يقومه بالأغلب من نقد بلده دنانير كانت أو دراهم ثم يخرج زكاته من الذي قومه به إذا بلغت قيمته ما يجب فيه الزكاة وهذه سبيل كل عرض أريد به التجارة
وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وقول الثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأبي عبيد والطبري والمدير عندهم وغير المدير سواء وكلهم تاجر مدير يطلب الربح بما يضعه من العين في العروض
وأما داود بن علي فإنه شذ عن جماعة الفقهاء فلم ير الزكاة فيها على حال اشتريت للتجارة أو لم تشتر للتجارة
168

واحتج بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة (1)
قال ولم يقل إلا أن ينوي فيها التجارة وزعم أن الاختلاف في زكاة العروض موجود بين العلماء فلذلك نزع بما نزع من دليل عموم السنة
وذكر عن عائشة وبن عباس وعطاء وعمرو بن دينار أنهم قالوا لا زكاة في العروض
قال أبو عمر هذا - لعمري - موجود عن هؤلاء وعن غيرهم محفوظ أنه لا زكاة في العروض ولا زكاة إلا في العين والحرث والماشية وليس هذا عن واحد منهم على زكاة التجارات وإنما هذا عندهم على زكاة العروض المقتناة لغير التجارة وما أعلم أحدا روي عنه أنه لا زكاة في العروض للتجارة حتى تباع إلا بن عباس على اختلاف عنه
وذكر داود عن مالك أنه قال لا أرى الزكاة في العروض على التاجر الذي يبيع العرض بالعرض ولا ينض له شيء ولا على من بارت عليه سلعته اشتراها للتجارة حتى يبيع تلك السلعة وينض ثمنها بيده
قال أبو عمر لو كان في قول مالك هذا له حجة في إسقاط الزكاة فيما بأيديهم من العروض للتجارة لكان في قول مالك أنه يقوم العروض ويزكيها إدا نض له أقل شيء حجة عليه وقول مالك أنه يزكي العرض إذا باعه غير المدير ساعة يبيعه دليل على أنه يرى فيه الزكاة إذا لم يستأنف بالثمن حولا ولكنه لا يقول بقول مالك في ذلك ولا يقول غيره من أئمة الفقهاء وسائر السلف الذين ذكرنا أقوالهم في إيجاب الزكاة في العروض المشتراة للتجارة ويحتج بما لا حجة فيه عنده ولا عند غيره مغالطة
وقد حكينا عن مالك أنه قال في ذلك بقول الجمهور الذين هم الحجة على من خالفهم وبالله التوفيق
واحتج أيضا داود وبعض أصحابه في هذه المسألة ببراءة الذمة وأنه لا ينبغي أن يجب فيها شيء لمسكين ولا غيره إلا بنص كتاب أو سنة أو إجماع وزعم أنها مسألة خلاف
169

قال أبو عمر احتجاج أهل الظاهر في هذه المسألة ببراءة الذمة عجب عجيب لأن ذلك نقض لأصولهم ورد لقولهم وكسر للمعنى الذي بنوا عليه مذهبهم في القول بظاهر الكتاب والسنة لأن الله عز وجل قال في كتابه * (خذ من أموالهم صدقة) * [التوبة 103] ولم يخص مالا من مال وظاهر هذا القول يوجب على أصوله أن تؤخر الزكاة من كل مال إلا ما أجمعت الأمة أنه لا زكاة فيه من الأموال ولا إجماع في إسقاط الزكاة عن عروض التجارة بل القول في إيجاب الزكاة فيها إجماع من الجمهور الذين لا يجوز الغلط عليهم ولا الخروج عن جماعتهم لأنه مستحيل أن يجوز الغلط في التأويل على جميعهم
وأما السنة التي زعم أنها خصت ظاهر الكتاب وأخرجته عن عمومه فلا دليل له فيما ادعى من ذلك لأن أهل العلم قد أجمعوا أنه لا سنة في ذلك إلا حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة (1) وحديث علي (رضي الله عنه) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال قد عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق (2) فالواجب على أصل أهل الظاهر - أن تكون الزكاة تؤخذ من كل مال ما عدا الرقيق والخيل لأنهم لا يقيسون على الخيل والرقيق ما كان في معناهما من العروض ولا إجماع في إسقاط الصدقة عن العروض المبتاعة للتجارة بل القول في إيجاب الزكاة فيه نوع من الإجماع وفي هذا كله وما كان مثله أوضح الدلائل على تناقضهم فيما قالوه ونقضهم لما أصلوه وبالله التوفيق
قال أبو عمر من الحجة في إيجاب الصدقة في عروض التجارة مع ما تقدم من عمل العمرين (رضي الله عنهما) حديث سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم
ذكره أبو داود وغيره بالإسناد الحسن عن سمرة وقد ذكرناه في التمهيد عن سمرة أنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الزكاة مما نعده للبيع (3)
وروى الشافعي وغيره عن بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن عبد الله بن أبي سلمة عن أبي عمرو بن حماس أن أباه حماسا قال مررت على عمر بن الخطاب وعلى عاتقي أدمة أحملها فقال لي ألا تؤدي زكاتها يا حماس فقلت يا أمير
170

المؤمنين ما لي غير هذه وآهبة من القرظ فقال ذلك مال فضع فوضعتها بين يديه فحسبها فوجدها قد وجبت فيها الزكاة فأخذ منها الزكاة
وذكر عبد الرزاق عن الثوري عن يحيى بن سعيد عن أبي سلمة عن حماس عن أبيه قال مر علي عمر فقال أد زكاة مالك فقلت مالي مال أزكيه إلا في الجعاب والأدم فقال قومه وأد زكاته
فهذا الحديث عن عمر من رواية أهل الحجاز وقد تقدم في هذا الباب من رواية أهل العراق حديث أنس بن سيرين عن أنس بن مالك عن عمر بن الخطاب بمثل ذلك فلا مقال لأحد في إسناد حديث أنس هذا
وروى أبو الزناد وغيره عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أنه كان يقول كل مال أو رقيق أو دواب أدير للتجارة فيه الزكاة
وقال أبو جعفر الطحاوي قد ثبت عن عمر وبن عمر زكاة عروض التجارة ولا مخالف لهما من الصحابة (رضوان الله عليهم)
قال أبو عمر هذا يشهد لما وصفنا أن قول بن عباس لا زكاة في العروض إنما هو في عروض القنية كقول سائر العلماء
وأما ما ذكره عن عطاء وعمرو بن دينار فقد أخطأ عليهما وليس ذلك بمعروف عنهما والمعروف عنهما خلاف ما يوافق مذهب مالك في ذلك
ذكر عبد الرزاق عن معمر عن بن طاوس وعن معمر عن جابر عن الشعبي وعن بن جريج عن عطاء أنهم قالوا في العرض للتجارة لا زكاة فيه حتى يبيعه فإذا باعه زكاه وأدى زكاة واحدة
قال بن جريج وقال عطاء لا زكاة في عرض لا يدار قال والذهب والفضة يزكيان وإن لم يدارا
قال أبو عمر لا أعلم أحدا قال بقول الشعبي وعطاء في غير المدير إلا مالكا (رحمه الله) وأما طاوس فقد اختلف عنه في ذلك فروي عنه ما ذكرنا وروي عنه إيجاب الزكاة في عروض التجارة كل عام بالتقويم كسائر العلماء
وممن قد روينا ذلك عنه من السلف إذ قد ذكرنا من قاله من أئمة الفتيا بالأمصار سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير وسائر الفقهاء السبعة والحسن البصري وإبراهيم النخعي وطاوس اليماني وجابر بن زيد وميمون بن مهران
171

هؤلاء أئمة التابعين في أمصار المسلمين وسبيلهم سلك جمهور الفقهاء من أهل الرأي والحديث بالعراق والحجاز والشام
أخبرنا خلف بن سعيد قال حدثنا أحمد بن خالد قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرني بن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع عن بن عمر أنه كان
يقول في كل مال يدار في عبيد أو دواب أو طعام الزكاة كل عام
قال أبو عمر ما كان بن عمر ليقول مثل هذا من رأيه لأن مثل هذا لا يدرك بالرأي والله أعلم ولولا أن ذلك عنده سنة مسنونة ما قاله وبالله التوفيق
((10 - باب ما جاء في الكنز))
55 - مالك عن عبد الله بن دينار أنه قال سمعت عبد الله بن عمر وهو يسأل عن الكنز ما هو فقال هو المال الذي لا تؤدى منه الزكاة
قال أبو عمر سؤال السائل لعبد الله بن عمر عن الكنز ما هو إنما كان سؤالا عن معنى قول الله تعالى * (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون) * [التوبة 34 35]
وكان أبو ذر يقول بشر أصحاب الكنوز بكي في الجباه وكي في الجنوب وكي في الظهور
وروى الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن بن مسعود قال والذي لا إله غيره لا يعذب رجل يكنز فيمس دينار دينار ولا درهم درهم ولكنه يوسع جلده حتى يصل إليه كل دينار ودرهم على حدته
واختلف العلماء في الكنز المذكور في هذه الآية ومعناه فجمهورهم على ما قاله بن عمر وعليه جماعة فقهاء الأمصار
واما الكنوز في كلام العرب فهو المال المجتمع المخزون فوق الأرض كان أو تحتها
172

هذا معنى ما ذكره صاحب العين وغيره ولكن الاسم الشرعي قاض على الاسم اللغوي
ولا أعلم مخالفا فيما فسر به بن عمر الكنز المذكور إلا شيء يروى عن علي بن أبي طالب وأبي ذر الغفاري والضحاك وذهب إليه قوم من أهل الزهد والسياحة والفضل ذهبوا إلى أن في الأموال حقوقا سوى الزكاة وتأولوا في ذلك قول الله عز وجل * (والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم) * [المعارج 24]
ورووا بمعنى ما ذهبوا إليه آثارا مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم معناها عند جمهور العلماء في الزكاة
واحتجوا بقول الله عز وجل " وآت ذا القربى حقه والمسكين وبن السبيل " [الإسراء 26]
فأما أبو ذر فروي عنه في ذلك آثار كثيرة في بعضها شدة كلها تدل على أنه كان يذهب إلى أن كل مال مجموع يفضل عن القوت وسداد العيش فهو كنز وأن آية الوعيد نزلت في ذلك
وروي عنه ما يدل على أن ذلك في منع الزكاة وكان يقول الأكثرون هم الأخسرون يوم القيامة ويل لأصحاب المئين (1) وقد روي هذا عنه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم
وهي أحاديث مشهورة تركت ذكرها لذلك ولأن جمهور العلماء على خلاف تأويل أبي ذر لها
وكان الضحاك بن مزاحم يقول من ملك عشرة آلاف درهم فهو من الأكثرين الأخسرين إلا من قال بالمال هكذا وهكذا بصلة الرحم ورفد الجار والضعيف ونحو ذلك من جهة الصدقة والصلة
وكان مسروق يقول في قول الله عز وجل * (سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة) * [آل عمران 180] قال الرجل يرزقه الله المال فيمنع قرابته الحق الذي فيه فيجعل حية يطوقها فيقول مالي ولك فتقول الحية أنا مالك
وهذا ظاهرة غير الزكاة وقد يحتمل أن تكون الزكاة
وقد روي عن بن مسعود مثله إلا أنه قال من كان له مال لا يؤدي زكاته طوقه
173

يوم القيامة شجاعا أقرع ينقر رأسه ثم قرأ * (سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة) * [آل عمران 180]
وأما عن التركة فروى الثوري وغيره عن أبي حصين عن أبي الضحى مسلم بن صبيح عن جعدة بن هبيرة عن علي قال أربعة آلاف نفقة فما كان فوق أربعة آلاف فهو كنز
قال أبو عمر وسائر العلماء من السلف والخلف على ما قاله بن عمر في الكنز
روى بكير ويعقوب بن عبد الله بن الأشج عن بشر بن ربيعة أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أمر رجلا له مال عظيم أن يدفنه فقال له الرجل يا أمير المؤمنين أليس بكنز إذا دفنته فقال عمر ليس بكنز إذا أديت زكاته
وروى معمر عن أيوب عن نافع عن بن عمر قال إذا أديت صدقة مالك فليس بكنز وإن كان مدفونا ولم يؤدها فهو كنز وإن كان ظاهرا
وروى الثوري وغيره عن عبد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر قال ما أدي زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أراضين وما كان ظاهرا لا تؤدى زكاته فهو كنز
وروى بن جريج قال أخبرني بن الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول إذا أخرجت صدقة كنزك فقد أذهبت شره وليس بشر
وعن بن مسعود نحوه
وروى وكيع عن شريك عن أبي إسحاق عن عكرمة عن بن عباس قال كل ما أديت زكاته فليس بكنز
قال أبو عمر يشهد بصحة ما قال هؤلاء ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم
أخبرنا عبد الله بن محمد قال أخبرنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن عيسى قال حدثنا عتاب عن ثابت بن عجلان عن عطاء عن أم سلمة قالت كنت ألبس أوضاحا من ذهب فقلت يا رسول الله أكنز هو قال ما بلغ أن تؤدى زكانة فليس بكنز (1)
وقد روى محمد بن مهاجر عن ثابت بن عجلان عن عطاء عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله
174

ورواه ليث بن أبي سليمان عن عطاء فلم يذكر فيه الكنز
وهذا الحديث وإن كان في إسناده مقال فإنه يشهد بصحته ما قدمنا ذكره
ورواه عبد الله بن وهب قال حدثنا عمر بن الحارث عن دراج أبي السمح عن عبد الرحمن بن حجيرة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك (1)
وحديث الأعرابي الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن فرض الصلاة وفرض الزكاة فلما أخبره بها قال هل علي غيرها قال لا إلا أن تطوع (2)
رواه مالك عن عمه أبي سهيل بن مالك عن أبيه عن طلحة بن عبيد الله
ورواه بن عباس وأنس بن مالك من طرق صحاح قد ذكرتها في التمهيد بأتم ألفاظ وأكمل معاني
وفي حديث بن عباس فقال له الأعرابي والذي بعثك بالحق لا أدع منهن شيئا ولا أجاوزهن ثم ولى فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن صدق الأعرابي دخل الجنة (3)
والصحابي المذكور في هذا الحديث هو ضمام بن ثعلبة السعدي وقد ذكرناه في الصحابة بما ينبغي من ذكره
وفي هذا كله دليل على أن المال ليس فيه حق واجب سوى الزكاة وأنه إذا أديت زكاته فليس بكنز
175

حدثنا سعيد قال حدثنا قاسم قال حدثنا محمد قال حدثنا أبو بكر قال حدثنا عفان قال حدثنا أبان العطار وهمام عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من فارق منه الروح الجسد وهو بريء من ثلاث دخل الجنة الكنز والغلول والذنب (1)
قال أبو عمر الأحاديث المروية في الذين يكنزون الذهب والفضة منسوخة بقوله عز وجل * (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) * [التوبة 103]
قال ذلك جماعة من العلماء بتأويل القرآن منهم أبو عمر حفص بن عمر الضرير وغيره
وروى بن وهب قال أخبرني بن أنعم عن عمارة بن مسلم الكناني أنه سمع عمر بن عبد العزيز وعراك بن مالك يقولان من أعطى زكاة ماله فليس بكنز
قالا نسخت آية الصدقة ما قبلها
وروى الثوري عن بن أنعم عن عمارة بن راشد قال قرأ عمر بن عبد العزيز * (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) * [التوبة 34] فقال عمر ما أراها إلا منسوخة نسختها * (خذ من أموالهم صدقة) * [التوبة 103]
552 - مالك عن عبد الله بن دينار عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة أنه كان يقول من كان عنده مال لم يؤد زكاته مثل له (2) يوم القيامة شجاعا (3) أقرع (4) له زبيبتان (5) يطلبه حتى يمكنه يقول أنا كنزك
قال أبو عمر هكذا هذا الحديث موقوفا عند جماعة في الموطأ من قول أبي هريرة وقد رواه عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن أبيه عن أبي هريرة عن
176

النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا ذكره البخاري وغيره هكذا وقد رويناه في التمهيد من طرق شتى وقد روي هذا الحديث عن عبد الله بن دينار عن بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم
حدثنا خلف بن قاسم قال حدثنا بكير بن الحسن ومحمد بن أحمد بن المسور قالا حدثنا يوسف بن يزيد قال حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة عن عبد الله بن دينار عن بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الذي لا يؤدي زكاة ماله يمثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان فيلزمه - أو قال يطوق به - يقول أنا كنزك
ذكره النسائي هكذا من حديث عبد العزيز بن أبي سلمة عن عبد الله بن دينار عن بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم والمحفوظ فيه حديث أبي هريرة مرفوعا وموقوفا وحديث عبد العزيز الماجشون عندي فيه خطأ في الإسناد لأنه لو كان عند عبد الله بن دينار عن بن عمر ما رواه عن أبي صالح عن أبي هريرة أبدا فرواية مالك وعبد الرحمن بن عبد الله بن دينار فيه هي الصحيحة وإن كان مالك وقفه فلا وجه لوقفه لأن مثله لا يكون رأيا وهو مرفوع صحيح على ما خرجه البخاري والله أعلم
حدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا بكر بن حماد قال حدثنا بشير بن حجر قال حدثنا حماد بن سلمة عن سهيل عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من صاحب كنز لا يؤدي حقه إلا جعله الله صفائح من نار فيحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جبهته وجنبه وظهره حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار وما من صاحب غنم لا يؤدي حقها إلا جاءت يوم القيامة أوفر ما كانت فيبطح لها بقاع قرقر فتطأه بأظلافها وتنطحه بقرونها ليس فيها عقصاء ولا جلحاء كلما مرت عليه أخراها ردت عليه أولاها حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار وما من صاحب إبل لا يؤدي حقها إلا جاءت يوم القيامة أوفر ما كانت فيبطح لها بقاع قرقر فتطأه بأخفافها كلما مرت عليه أخراها ردت عليه أولاها حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار (1) وذكر تمام الحديث
حدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أبو إسماعيل
177

محمد بن إسماعيل وأبو يحيى بن أبي مسرة فقيه مكة قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان قال حدثنا جامع بن أبي راشد وعبد الملك بن أعين عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من أحد لا يؤدي زكاة ماله إلا مثل له شجاعا أقرع يطوقه يوم القيامة ثم قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب الله * (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة) * [آل عمران 180]
حدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا يعلى بن عبيد عن عبد الملك بن أبي سليمان عن أبي الزبير عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي حقها إلا أقعد لها يوم القيامة بقاع قرقر تطؤه ذات الأظلاف بأظلافها وتنطحه ذات القرن بقرنها وليس فيها يومئذ جماء ولا مكسورة القرن قالوا يا رسول الله وما حقها قال إطراق فحلها وإعارضه دلوها ومنيحتها وحلبها على الماء والحمل عليها في سبيل الله (1)
وروى شعبة عن قتادة عن أبي عمر الغداني عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه فقيل لأبي هريرة وما حق الإبل قال تعطي الكريمة وتمنح الغزيرة وتفقر الظهر وتطرق الفحل وتسقي اللبن (2)
قال أبو عمر قد مضى القول في معنى مثل هذا الحديث أنه على الندب والإرشاد إلى الفضل أو تكون قبل نزول فرض الزكاة ونسخ بفرض الزكاة لما ذكرنا من الدلائل وإذا كان قبل نزول فرض الزكاة ونسخ بها كما نسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان عاد كله فضلا وفضيلة بعد أن كان فريضة والله أعلم
وهذا المعنى هو الذي خفي على من ذهب إلى ما ذهب إليه من أوجب في المال حقوقا سوى الزكاة من إيجاب إطعام الجائع وفك العاني والمواساة في حين المسغبة والعسرة وصلة الرحم والعطف على الجار ونحو هذا مما قد تقدم ذكره
ولم ير لأحد حبس فوق ما يكفيه كأبي ذر ومن تابعه ممن جعل ما فضل على القوت كنزا على أن أبا ذر أكثر ما تواتر عنه في الأخبار الإنكار على من أخذ المال
178

من السلاطين لنفسه ومنع منه أهله فهذا ما لا خلاف عنه في إنكاره وأما إيجاب غير الزكاة فمختلف عنه فيه
وروي عن بن مسعود أنه قال من كسب كسبا طيبا خبثه منع الزكاة ومن كسب كسبا خبيثا لم تطيبه الزكاة
وأما قوله في حديث مالك وغيره شجاعا أقرع فالشجاع الحية وقيل الثعبان وقيل الشجاع من الحيات الذي يواثب الفارس والراجل فيقوم على ذنبه وربما بلغ وجه الفارس يكون في الصحارى
قال الشماخ أو البعيث
(فأطرق إطراق الشجاع وقد جرى
* على حد نابيه الزعاف المسمم) (1)
وقال المتلمس
(فاطرق إطراق الشجاع ولو يرى
* مساغا لنابيه الشجاع لصمما) (2)
والزبيبتان نقطتان مسلحتان في شدقيه كالرغوتين يقال إنهما تبدوان حين يفح ويغضب وقيل نقطتان سوداوان على عينيه وهي علامة الحية الذكر المؤذي وقيل الزبيبتان نابان له وقيل نكتتان على شفتيه والأول أوثق وأكثر
والأقرع (من صفات الحيات) هو الذي برأسه بياض وقيل كلما كثر سمه ابيض رأسه
((11 - باب صدقة الماشية))
553 - مالك أنه قرأ كتاب عمر بن الخطاب في الصدقة قال فوجدت فيه بسم الله الرحمن الرحيم
((كتاب الصدقة))
في أربع وعشرين من الإبل فدونها الغنم في كل خمس شاة
179

وفيما فوق ذلك إلى خمس وثلاثين ابنة مخاض (1)
فإن لم تكن ابنة مخاض فابن لبون ذكر (2)
وفيما فوق ذلك إلى خمس وأربعين بنت لبون
وفيما فوق ذلك إلى ستين حقة (3) طروقة الفحل (4)
وفيما فوق ذلك (5) إلى خمس وسبعين جذعة (6)
وفيما فوق ذلك إلى تسعين ابنتا لبون
وفيما فوق ذلك إلى عشرين ومائة حقتان طروقتا الفحل
فما زاد على ذلك من الإبل ففي كل أربعين بنت لبون
وفي كل خمسين حقة
وفي سائمة الغنم (7) إذا بلغت أربعين إلى عشرين ومائة شاة
وفيما فوق ذلك إلى مائتين شاتان
وفيما فوق ذلك إلى ثلاثمائة ثلاث شياه
فما زاد على ذلك ففي كل مائة شاة
ولا يخرج في الصدقة تيس (8) ولا هرمة (9) ولا ذات عوار (10) إلا ما شاء المصدق
ولا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة
وما كان من خليطين (11) فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية
180

وفي الرقة (1) إذا بلغت خمس أواق ربع العشر
قال أبو عمر كتاب عمر هذا عند العلماء معروف مشهور في المدينة محفوظ وكل ما فيه من المعاني متفق عليها لا خلاف بين العلماء في شيء منها إلا أن في الغنم شيئا من الخلاف نذكره إن شاء الله وكذلك نذكر الخلاف على الإبل فيما زاد على عشرين ومائة إلا أن تبلغ ثلاثين ومائة إن شاء الله
وقد روى سفيان بن حسين عن بن شهاب عن سالم عن بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب كتاب الصدقات فلم يخرجه إلى عماله حتى قبض وعمل به أبو بكر حتى قبض ثم عمر حتى قبض فكان في أربع وعشرين من الإبل فما دونها الغنم في كل خمس ذود شاة وذكر معنى ما ذكره مالك من كتاب عمر سواء وقد ذكرناه بإسناده في التمهيد
وروى بن المبارك وغيره عن يونس عن بن شهاب قال أخرج إلي سالم وعبيد الله ابنا عبد الله بن عمر نسخة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدقة قال بن شهاب أقرأنيها سالم فوعيتها على وجهها وهي التي انتسخ عمر بن عبد العزيز من عبيد بن عبد الله بن عمر حين أمر على المدينة وأمر عماله بالعمل بها ولم يزل العلماء يعملون بها (2)
قال وهذا كتاب تفسيرها
لا يؤخذ في شيء من الإبل صدقة حتى تبلغ خمس ذود فإذا بلغت خمسا ففيها شاة حتى تبلغ عشرا فإذا بلغت عشرة ففيها شاتان حتى تبلغ خمس عشرة فإذا بلغت خمس عشرة ففيها ثلاث شياه حتى تبلغ عشرين فإذا بلغت عشرين ففيها أربع شياه حتى تبلغ خمسا وعشرين فإذا بلغت خمسا وعشرين كان فيها فريضة والفريضة ابنة مخاض فإن لم توجد ابنة مخاض فابن لبون ذكر حتى تبلغ خمسا وثلاثين فإذا كانت ستا وثلاثين ففيها ابنة لبون حتى تبلغ خمسا وأربعين فإذا بلغت ستا وأربعين ففيها حقة حتى تبلغ ستين فإذا بلغت إحدى وستين ففيها جذعة حتى تبلغ خمسا وسبعين فإذا كانت ستا وسبعين ففيها ابنتا لبون حتى تبلغ تسعين فإذا كانت إحدى وتسعين ففيها حقتان حين تبلغ عشرين ومائة فإذا كانت إحدى وعشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون حتى تبلغ تسعا وعشرين ومائة فإذا كانت ثلاثين ومائة ففيها ابنتا
181

لبون وحقة حتى تبلغ تسعا وثلاثين فإذا كانت أربعين ومائة ففيها حقتان وابنة لبون حتى تبلغ تسعا وأربعين ومائة فإذا كانت خمسين ومائة ففيها ثلاث حقاق حتى تبلغ تسعا وخمسين ومائة فإذا كانت ستين ومائة ففيها أربع بنات لبون حتى تبلغ تسعا وستين ومائة فإذا كانت سبعين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون وحقة حتى تبلغ تسعا وسبعين ومائة فإذا كانت ثمانين ومائة ففيها حقتان وابنتا لبون حتى تبلغ تسعا وثمانين ومائة فإذا كانت تسعين ومائة ففيها ثلاث حقاق وابنة لبون حتى تبلغ تسعا وتسعين ومائة فإذا كانت مائتين ففيها أربع حقاق أو خمس بنات لبون أي السن وجدت أخذت
قال أبو عمر ليس بين أهل العلم بالحجاز اختلاف في شيء مما ذكره مالك في زكاة الإبل إلا في قول بن شهاب في روايته لكتاب عمر فإذا كانت إحدى وعشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون فهذا موضع اختلاف بين العلماء وسائره إجماع
وأما اختلافهم في ذلك فإن مالكا قال إذا زادت الإبل على عشرين ومائة واحدة فالمصدق بالخيار إن شاء أخذ ثلاث بنات لبون وإن شاء أخذ حقتين
قال بن القاسم وقال بن شهاب إذا زادت واحدة على عشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون إلى أن تبلغ ثلاثين ومائة تكون فيها حقة وابنتا لبون
قال بن القاسم اتفق مالك وبن شهاب في هذا واختلفا فيما بين إحدى وعشرين ومائة إلى تسع وعشرين ومائة
قال بن القاسم ورأى علي قول بن شهاب
وذكر بن حبيب أن عبد العزيز بن أبي سلمة وعبد العزيز بن أبي حازم وبن دينار كانوا يقولون بقول مالك أن الساعي مخير إذا زادت الإبل على عشرين ومائة ففيها حقتان (أو ثلاث بنات لبون
وذكر أن المغيرة المخزومي كان يقول إذا زادت الإبل على عشرين ومائة ففيها حقتان لا غير إلى) ثلاثين ومائة
قال وليس الساعي في ذلك مخيرا
قال وأخذ عبد الملك بن الماجشون بقول المغيرة هذا
قال أبو عمر وهو قول محمد بن إسحاق وبه قال أبو عبيد أنه ليس في الزيادة شيء على حقتين حتى يبلغ ثلاثين ومائة
قال أبو عمر إذا بلغت ثلاثين ومائة ففيها حقة وابنتا لبون بإجماع من علمائنا
182

الحجازيين والكوفيين وإنما الاختلاف بين العلماء فيما وصفت لك لأن الأصل في فرائض الإبل المجتمع عليها في كل خمسين حقة وفي كل أربعين بنت لبون فلما احتملت الزيادة على عشرين ومائة الوجهين جميعا وقع الاختلاف كما رأيت لاحتمال الأصل له
وقال الشافعي والأوزاعي إذا زادت الإبل على عشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون كقول بن شهاب
وهذا أولى عند العلماء وهو قول أئمة أهل الحجاز وبه قال إسحاق وأبو ثور
وأما قول الكوفيين فإن أبا حنيفة وأصحابه والثوري قالوا إذا زادت الإبل على عشرين ومائة استقبلت الفريضة
ومعنى استقبال الفريضة عندهم أن يكون في كل خمس ذود شاة وهذا قول إبراهيم النخعي
قال سفيان إذا زادت على عشرين ومائة ترد الفرائض إلى أولها فإن كثرت الإبل ففي كل خمسين حقة وفي كل ستين جذعة
وفي قول أبي حنيفة وأصحابه مثل هذا
وتفسير ذلك أن ما زاد على العشرين ومائة فليس فيها إلا الحقتان حتى تصير خمسا وعشرين فيكون في العشرين ومائة حقتان وفي الخمس شاة وذلك فرض الثلاثين ومائة فإذا بلغتها ففيها حقتان وشاتان الحقتان للعشرين ومائة وشاتان ثم ذلك فرضها إلى خمس وثلاثين ومائة فيكون فيها حقتان وثلاث شياه إلى أربعين ومائة فإذا بلغتها ففيها حقتان وأربع شياه إلى خمس وأربعين ومائة فإذا بلغتها ففيها حقتان وابنة مخاض إلى خمسين ومائة فإذا بلغتها ففيها ثلاث حقاق فإذا زادت على الخمسين ومائة استقبل بها الفريضة كما استقبل بها إذا زادت على العشرين ومائة إلى مائتين فيكون فيها أربعة حقاق فإذا زادت على مائتين استقبل بها أيضا ثم كذلك أبدا
وروى الثوري والكوفيون قولهم عن إبراهيم عن علي وبن مسعود ولهم في ذلك من جهة القياس ما لم أر لذكره وجها
وأما قوله في حديث عمر وفي سائمة الغنم إذا بلغت أربعين إلى عشرين ومائة شاة وفيما فوق ذلك إلى مائتين شاتان فهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء إلا شيء روي عن معاذ بن جبل من رواية الشعبي عنه وهي منقطعة لم يقل بها أحد من فقهاء
183

الأمصار والذي عليه فقهاء الأمصار أن في مائتي شاة وشاة ثلاث شياه وكذلك في ثلاث مائة وما زاد عليها حتى تبلغ أربع مائة ففيها أربع شياه
وممن قال بهذا مالك بن أنس والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم
وهو قول الثوري والأوزاعي وسائر أهل الأثر
وقال الحسن بن صالح بن حي إذا كانت الغنم ثلاث مائة شاة وشاة ففيها خمس شياه
وروى الحسن بن صالح قوله هذا عن منصور عن إبراهيم
قال أبو عمر أما الآثار المرفوعة في كتاب الصدقات فعلى ما قاله جماعة فقهاء الأمصار لا على ما قاله النخعي والحسن بن صالح
والسائمة من الغنم وسائر الماشية هي الراعية ولا خلاف في وجوب الزكاة فيها
واختلف العلماء في الإبل العوامل والبقر العوامل والكباش المعلوفة
فرأى مالك والليث أن فيها الزكاة لأنها سائمة في طبعها وخلفها وسواء رعت أو أمسكت عن الرعي
وقال سائر فقهاء الأمصار وأهل الحديث لا زكاة في الإبل ولا في البقر العوامل ولا في شيء من الماشية التي ليست بمهلة وإنما هي سائمة راعية
ويروى هذا القول عن علي وجابر وطائفة من الصحابة لا مخالف لهم منهم وعلى قول هؤلاء من له أربعة من الإبل سائمة وواحد عامل وتسع وعشرون من البقر راعية وواحدة عاملة أو تسع وعشرون شاة راعية وكبش معلوف في داره لم يجب عليه زكاة
وأما قوله ولا يخرج في الصدقة تيس ولا هرمة ولا ذات عوار إلا ما شاء المصدق يعني مجتهدا فعليه جماعة فقهاء الأمصار لأن المأخوذ في الصدقات العدل كما قال عمر عدل بين هذا المال وخياره لا الزائد ولا الناقص ففي التيس زيادة وفي الهرمة وذات العوار نقصان
وأما قوله إلا أن يشاء المصدق فمعناه أن تكون الهرمة وذات العوار خيرا للمساكين من التي أخرج صاحب الغنم إليه فيأخذ ذلك باجتهاده
وقد روي في الحديث المرفوع لا تؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيس إلا أن يشاء المصدق كما جاء في كتاب عمر
184

وروي ذلك أيضا عن علي وبن مسعود
واختلف العلماء في العمياء وذات العيب هل تعد على صاحبها
فقال مالك والشافعي تعد العجفاء والعمياء والعرجاء ولا تؤخذ
وروى أسد بن الفرات عن أسد بن عمر عن أبي حنيفة أنه لا يعتد بالعمياء كما لا تؤخذ ولم تأت هذه الرواية عن أبي حنيفة من غير هذا الوجه
وسيأتي اختلافهم في العد على رب الماشية في السخل وما كان مثله في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله
والتيس عند العرب كلما يبدو عن الغنم من ذكور الضأن أو من المعز لأن الغنم الضأن والمعز
والهرمة الشاة الشارف
وذات العوار (بفتح العين) العيب و (بضمها) ذهاب العين وقد قيل في ذلك بالضد
وأجمعوا أن العوراء لا تؤخذ في الصدقة إذا كان بينا وكذلك كل عيب ينقص من ثمنها نقصانا بينا إذا كانت الغنم صحاحا كلها أو أكثرها فإن كان كلها عوراء أو شوارف أو جرباء أو عجفاء أو فيها من العيوب ما لا يجوز معه في الضحايا فقد قيل ليس على ربها إلا أن يعطي صدقتها منها وليس عليه أن يأتي المصدق بسائمة من العيوب صحيحة إذا لم يكن في غنمه وقيل عليه أن يأتي المصدق بجذعة أو ثنية تجوز ضحية وعلى هذين القولين اختلاف أصحاب مالك وغيرهم من فقهاء الأمصار وسيأتي القول إن شاء الله مستوعبا في هذا المعنى عند ذكر قول عمر (رضي الله عنه) لا تأخذ الربى ولا الماخض ولا الأكولة ولا فحل الغنم وتأخذ الجذعة والثنية
وأما قوله ولا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع فقد فسر مالك مذهبه في موطئه فقال مالك في باب صدقة الخلطاء
وتفسير قوله لا يجمع بين مفترق أن يكون النفر الثلاثة الذين يكون لكل واحد منهم أربعون شاة قد وجبت على كل واحد منهم في غنمه الصدقة فإذا أظلهم المصدق جمعوها لئلا يكون عليهم فيها إلا شاة واحدة فنهي عن ذلك وتفسير قوله ولا يفرق بين مجتمع أن الخليطين يكون لكل واحد منهما مائة شاة وشاة فيكون عليهما فيها ثلاث شياه فإذا أظلهما المصدق فرقا غنمهما فلم يكن على كل
185

واحد منهما إلا شاة واحدة فنهي عن ذلك فقيل لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة قال مالك فهذا الذي سمعت في ذلك
قال مالك وقال عمر بن الخطاب لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة أنه إنما يعني بذلك أصحاب المواشي
لم يذكر يحيى هذه الكلمة ها هنا في الموطأ وهي عنده في باب صدقة الخلطاء من الموطأ وذكرها غيره من رواة الموطأ وهذا مذهب مالك عند جماعة أصحابه
وقال الأوزاعي معنى قوله عليه السلام لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع هو افتراق الخلطاء عند قدوم المصدق يريدون به بخس الصدقة فهذا لا يصلح وقد يراد به الساعي يجمع بين مفترق ليأخذ منه الأكثر مما عليهم اعتداء فأما التفريق بين الخلطاء فالنفر الثلاثة أو أقل أو أكثر من ذلك يكون لكل رجل منهم أربعون شاة فإنما فيها شاة فلا ينبغي للمصدق أن يفرق حتى يأخذ منهم ثلاث شياه ولا يجمع بين مفترق ولا ينبغي للقوم يكون للواحد منهم أربعون شاة على حسبه فإذا جاء المصدق جمعوها ليبخسوه
وقال سفيان الثوري التفريق بين المجتمع أن يكون لكل رجل شاة فيفرقها عشرين عشرين لئلا يؤخذ من هذه شيء ولا من هذه شيء
وقوله لا يجمع بين مفترق أن يكون لرجل أربعون شاة وللآخر خمسون يجمعانها لئلا يؤخذ منها شاة
قال أبو عمر ذهب الثوري أيضا إلى أن المخاطب أرباب المواشي
وقال الشافعي لا يفرق بين ثلاثة نفر خلطاء في عشرين ومائة شاة حسبه إذا جمعت بينهم أن يكون فيها شاة لأنها إذا فرقت ففيها ثلاث شياه ولا يجمع بين مفترق رجل له مائة شاة وشاة وآخر له مائة شاة وشاة فإذا تركا على افتراقهما كان فيهما شاتان وإذا جمعتا كان فيها ثلاث شياه ورجلان لهما أربعون شاة فإذا فرقت فلا شيء فيها وإذا جمعت ففيها شاة والخشية خشية الساعي أن تقل الصدقة وخشية رب المال أن تكثر الصدقة وليس واحد منهما أولى باسم الخشية من الآخر فأمر أن يقر كل على حاله إن كان مجتمعا صدق مجتمعا وإن كان مفترقا صدق مفترقا
وقال أبو حنيفة وأصحابه معنى قوله عليه السلام لا يفرق بين مجتمع أن يكون للرجل مائة وعشرون شاة ففيها شاة واحدة فإن فرقها المصدق أربعين أربعين ففيها ثلاث شياه
186

ومعنى قوله لا يجمع بين مفترق أن يكون للرجلين أربعين شاة فإن جمعها صارت فيها شاة ولو فرقها عشرين عشرين لم يكن فيها شيء
قالوا ولو كانا شريكين متعارضين لم يجمع بين أغنامهما
وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف إذا قيل في الحديث خشية الصدقة هو أن يكون للرجل ثمانون شاة فإذا جاء المصدق قال هو بيني وبين إخوتي لكل واحد منهما عشرون أو يكون له أربعون شاة فيأخذ من إخوته أربعون أربعون فيقول هذه كلها لي فليس فيها إلا شاة واحدة فهذه خشية الصدقة لأن الذي يؤخذ منه يخشى الصدقة
وأما إذا لم يقل فيه خشية الصدقة فقد يكون على هذا الوجه وقد يكون على وجه أن يكون يجيء المصدق إلى إخوة ثلاثة ولو أخذ منهم عشرون ومائة شاة فيقول هذه بينكم لكل واحد أربعون أو يكون لهم أربعون فيقول المصدق هذه لواحد منكم
قال أبو عمر إنما حمل الكوفيون أبا يوسف وأصحابه على هذا التأويل في معنى الحديث لأنهم لا يقولون إن الخلطة تغير الصدقة وإنما يصدق الخلطاء عندهم صدقة الجماعة وعند غيرهم من العلماء يصدقون صدقة المالك الواحد وسيأتي بيان ذلك في باب صدقة الخلطاء إن شاء الله
وما تأولوه في الحديث لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع يرتفع معه فائدة الحديث وللحجة عليهم موضع غير هذا يأتي في باب الخلطاء
وقال أبو ثور قوله (عليه السلام) لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع على رب المال والساعي وذلك أن الساعي إذا جاؤوا لرجل عشرون ومائة شاة ففرقها على أربعين أربعين أخذ منه ثلاث شياه ولا يحل للساعي ذلك ولا يحل للساعي أن يجيء إلى قوم لكل واحد منهم عشرون شاة أو ثلاثون فيجمع بينهم ثم يزكيها وكذلك أصحاب المواشي إذا كان لرجل أربعون شاة فكان فيها الزكاة فإذا جاء المصدق فرقها على نفسين أو ثلاثة لئلا يؤخذ منه شيء أو يكون لثلاثة أربعون أربعون شاة فإذا جاء المصدق جمعوها وصيروها لواحد فتأخذ منها شاة فهذا لا يحل لرب الماشية ولا للمصدق
وأما قوله في حديث عمر وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية فسنذكر وجه التراجع بين الخليطين إذا أخذت الشاة من غنم أحدهما في باب صدقة الخلطاء
187

وأما قوله وفي الرقة إذا بلغت خمس أواق ربع العشر فقد تقدم القول في زكاة المال في زكاة الذهب والفضة ومبلغ النصاب فيها والرقة عند جماعة العلماء هي الفضة وقد
تقدم قولنا في المضروب منها والنفر والمسبوك ومضى القول في الحلي في باب زكاة الحلي والحمد لله
((12 - باب ما جاء في صدقة البقر))
554 - مالك عن حميد بن قيس المكي عن طاوس اليماني أن معاذ بن جبل الأنصاري أخذ من ثلاثين بقرة تبيعا (1) ومن أربعين بقرة مسنة (2) وأتي بما دون ذلك فأبى أن يأخذ منه شيئا وقال لم أسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيئا حتى ألقاه فأسأله فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يقدم معاذ بن جبل
قال أبو عمر ظاهر هذا الحديث الوقوف على معاذ بن جبل من قوله إلا أن في قوله أنه لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم فيما دون الثلاثين والأربعين من البقر شيئا دليلا واضحا على أنه قد سمع منه عليه السلام في الثلاثين وفي الأربعين ما عمل به في ذلك مع أن مثله لا يكون رأيا إنما هو توقيف ممن أمر بأخذ الزكاة من الذين يطهرهم ويزكيهم بها صلى الله عليه وسلم
ولا خلاف بين العلماء أن السنة في زكاة البقر ما في حديث معاذ هذا وأنه النصاب المجتمع عليه فيها
وحديث طاوس هذا عندهم عن معاذ غير متصل والحديث عن معاذ ثابت متصل من رواية معمر والثوري عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق عن معاذ بمعنى حديث مالك
وروى معمر والثوري أيضا عن إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي وفي البقر في كل ثلاثين بقرة تبيع حولين وفي كل أربعين مسنة
وكذلك في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم
188

وكذلك في كتاب الصدقات لأبي بكر وعمر وعلي (رضي الله عنهم)
وعلى ذلك مضى جماعة الخلفاء ولم يختلف في ذلك العلماء ألا شيء روي عن سعيد بن المسيب وأبي قلابة والزهري وعمر بن عبد الرحمن بن أبي خلدة المزني وقتادة ولا يلتفت إليه لخلاف الفقهاء من أهل الرأي والآثار بالحجاز والعراق والشام له وذلك لما قدمنا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وجمهور العلماء وهو يرد قولهم لأنهم يرون في كل خمس من البقر شاة إلى ثلاثين واعتلوا بحديث لا أصل له وهو حديث حبيب بن أبي حبيب عن عمرو بن حزم ذكره بإسناده أنه في كتاب عمرو بن حزم
واختلف العلماء في هذا الباب فيما زاد على الأربعين
فذهب مالك والشافعي والثوري وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود والطبري وجماعة أهل الفقه من أهل الرأي والحديث إلى أن لا شيء فيما زاد على الأربعين من البقر حتى تبلغ ستين ففيها تبيعان إلى سبعين فإذا بلغت سبعين ففيها تبيع ومسنة إلى ثمانين فيكون فيها مسنتان إلى تسعين فيكون فيها ثلاث تبائع إلى مائة فيكون فيها تبيعان ومسنة ثم هكذا أبدا في ثلاثين تبيعا وفي كل أربعين مسنة
وبهذا أيضا كله قال بن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد بن الحسن
وقال أبو حنيفة ما زاد على الأربعين من البقر فبحساب ذلك
وتفسير ذلك في مذهبه في خمس وأربعين مسنة ومن وفي خمسين مسنة وربع وعلى هذا كل ما زاد قل أو كثر
هذه الرواية المشهورة عن أبي حنيفة
وقد روى أسد بن عمرو عن أبي حنيفة مثل أبي يوسف ومحمد والشافعي وسائر الفقهاء
وكان إبراهيم النخعي يقول من ثلاثين بقرة تبيعا وفي أربعين مسنة وفي خمسين مسنة وربع وفي ستين تبيعان
وكان الحكم وحماد يقولان إذا بلغت خمسين فبحساب ما زاد
قال أبو عمر لا قول في هذا الباب إلا ما قاله مالك ومن تابعه وهم الجمهور الذين بهم تجب الحجة على من خالفهم وشذ عنهم إلى ما فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مما تقدم في هذا الباب ذكره
وذكر عبد الرزاق عن بن جريج قال أخبرني عمرو بن دينار أن طاوسا أخبره
189

أن معاذا قال لست آخذ من أوقاص البقر شيئا حتى آتي رسول صلى الله عليه وسلم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمرني فيها بشيء
قال بن جريج وقال عمرو بن شعيب إن معاذ بن جبل لم يزل بالجند منذ بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ثم قدم على عمر فرده على ما كان عليه
قال أبو عمر الجند من اليمن هو بلد طاوس
وتوفي طاوس سنة ست ومائة
وتوفي معاذ في طاعون عمواس وكان سنة سبع عشرة أو ثماني عشرة
قال مالك أحسن ما سمعت فيمن كانت له غنم على راعيين مفترقين أو على رعاء مفترقين في بلدان شتى أن ذلك يجمع كله على صاحبه فيؤدي منه صدقته ومثل ذلك الرجل يكون له الذهب أو الورق متفرقة في أيدي ناس شتى إنه ينبغي له أن يجمعها فيخرج منها ما وجب عليه في ذلك من زكاتها
قال أبو عمر قول مالك (رحمه الله) أحسن ما سمعت يدل على أنه قد سمع الخلاف في هذه المسألة والأصل عند العلماء مراعاة ملك الرجل للنصاب من الورق أو الذهب أو الماشية أو ما تخرجه الأرضد فإذا حصل في ملك الرجل نصاب كامل وأتى عليه حول فيما يراعى فيه الحول أو نصاب فيما تخرجه الأرض في ذلك الوقت لم يراع في ذلك افتراق المال إلا من جهة السعاة على ما نذكره عن الفقهاء بعد
قال الشافعي إذا كان للرجل ببلد أربعون شاة وببلد غيره عشرون شاة دفع إلى كل واحد من المصدقين قيمة ما يجب عليه من شياه فقسمها بينهما ولا أحب أن يدفع في أحد البلدين شاة ويترك الأخرى لأني أحب أن تقسم صدقة المال حيث المال
وهذا خلاف قول مالك لأنه يرى أن يجمع على رب المال صدقته في موضع واحد
وهو على ما قدمت لك أن الخليفة لا يحل إلا أن يكون واحدا في المسلمين كلهم وعماله في الأقطار يسألون من مر بهم هل عندك من مال وجب فيه الزكاة وكذلك من قدم عليه السعاة
قال الشافعي من أدى في أحد البلدين شاة كرهت له ذلك ولم أر عليه في
190

البلد الأخرى إعادة نصف شاة وعلى صاحب البلد الآخر أن يصدقه في قوله ولا يأخذ منه فإن اتهمه أحلفه بالله قال وسواء كانت إحدى غنمه بالمشرق والأخرى بالمغرب في طاعة خليفة واحد أو طاعة والييين مفترقين إنما تجب عليه الصدقة بنفسه في ملكه لا بواليه
[قال ولو كانت بين رجلين أربعون شاة ولأحدهما في بلد آخر أربعون شاة فأخذ المصدق من الشريكين شاة فثلاثة أرباعها على صاحب الأربعين الغائبة وربعها على الذي له عشرون ولا غنم له غيرها لأني أضم كل مال الرجل إلى ماله حيث كان ثم آخذ صدقته
وروي عن أبي يوسف أنه قال إذا كان العامل واحدا ضم بعض ذلك إلى بعض فإذا كان العاملان مختلفين أخذ كل واحد منهما ما في عمله
وكذلك قال محمد بن الحسن
قال مالك في الرجل يكون له الضأن والمعز أنها تجمع عليه في الصدقة لأنها غنم كلها وتؤخذ الصدقة من أكثرها عددا ضأنا كانت أو معزا كذلك الإبل العراب والبخت والبقر والجواميس - هذا معنى ما قاله مالك - فإن استوت فليأخذ من أيتهما شاء فإن كان في كل واحد منهما نصاب أخذ من كل واحد منهما صدقته
قال أبو عمر لا خلاف بين العلماء في أن الضأن والمعز يجمعان وكذلك الإبل كلها على اختلاف أصنافها إذا كانت سائمة والبقر والجواميس كذلك
واختلفوا إذا كان بعض الجنس أرفع من بعض فقول مالك ما ذكرنا
وقال الثوري إذا انتهى المصدق إلى الغنم صدع الغنم صدعين فأخذ صاحب الغنم خير الصدعين ثم يأخذ المصدق من الصدع الآخر
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إذا اختلفت الغنم أخذ المصدق من أي الأصناف شاء
وقال الشافعي إذا كانت غنم الرجل بعضها أرفع من بعض أخذ المصدق من وسطها فإن كانت واحدة أخذ خير ما يجب له فإن لم يكن في الوسط السن التي وجبت قال لصاحب الغنم إن تطوعت بأعلى منها أخذتها منك وإن لم تطوع فعليك أن تأتي بشاة وسط
قال وإن كانت الغنم ضأنا ومعزا واستوت في العدد أخذ من أيها شاء
والقياس أن يأخذ من كل حصته
191

قال مالك من أفاد ماشية من إبل أو بقر أو غنم فلا صدقة عليه فيها حتى يحول عليه الحول من يوم أفادها إلا أن يكون له قبلها نصاب إلى آخر كلامه في المسألة
قال أبو عمر مذهبه في فائدة الماشية أنها لا تضم إلى نصاب وإن لم يكن نصاب أكمل بما استفاد النصاب واستأنف به حولا فإن كان له نصاب ماشية أربعين من الغنم فاستفاد إليها غنما زكى الفائدة بحول الأربعين ولو استفادها قبل مجيء الساعي بيوم أو قبل حلول الحول بيوم وكذلك كان له نصاب إبل أو نصاب بقر ثم استفاد إبلا ضمها إلى النصاب وكذلك البقر يزكي كل ذلك بحول النصاب
وقول أبي حنيفة وأصحابه في ذلك نحو قول مالك
وقال الشافعي لا يضم شيئا من الفوائد إلى غيره ويزكي كل مال لحوله إلا ما كان من نتاج الماشية فإنه يزكى مع أمهاته إذا كانت الأمهات نصابا ولو كانت ولادته قبل الحول بطرفة عين ولا يعتد بالسخال حتى تكون الأمهات أربعين ولو نتجت الأربعون قبل الحول أربعين بهيمة ثم ماتت وحال الحول على البنات أخذ منها زكاتها كما كان يؤخذ من الأمهات بحول الأمهات ولا يكلف أن يأتي بثنية ولا جذعة وإنما يكلف واحدة من الأربعين بهيمة
وقول أبي ثور في ذلك كله كقول الشافعي
قال مالك في الفريضة تجب على الرجل فلا توجد عنده أنها إن كانت ابنة مخاض فلم توجد أخذ مكانها بن لبون ذكر وإن كانت بنت لبون أو حقة أو جذعة ولم يكن عنده كان على رب الإبل أن يبتاعها له حتى يأتيه بها لا أحب أن يعطيه قيمتها
وقال مالك إذا لم يجد السن التي تجب في المال لم يأخذ ما فوقها ولا ما دونها ولا يزداد دراهم ولا يردها ويبتاع له رب المال سنا يكون فيها وفاء حقه إلا أن يختار رب المال أن يعطيه شيئا فوق السن التي وجبت عليه
ذكرها بن وهب في موطئه عن مالك
وقال بن القاسم عن مالك إذا لم يجد فيها ابنة مخاض أو بن لبون ذكرا فرب المال يشتري للسائل بنت مخاض على ما أحب أو كره إلا أن يشاء رب الإبل أن يدفع منها ما هو خير من ابنة مخاض وليس للمصدق أن يرد ذلك وإن أراد رب المال أن يدفع بن لبون ذكرا إذا لم يوجد في المال بنت مخاض قال فذلك للساعي إن أراد أخذه وإلا ألزمه بنت مخاض وليس له أن يمتنع من ذلك
192

وقال الثوري في أسنان الإبل التي فريضتها ابنة لبون إذا لم يجد المصدق السن التي وجبت له أخذ السن التي دونها وأخذ من رب المال شاتين أو عشرين درهما ولولا الأثر الذي جاء كان ما بين القيمتين أحب إلي
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إذا وجبت في الإبل صدقة فلم يوجد ذلك الواجب فيها ووجد بين أفضل منها أو دونها فإنه يأخذ قيمة التي وجبت عليه وإن شاء أخذ أفضل ورد عليه بالفضل قيمته دراهم وإن شاء أخذ دونها وأخذ بالفضل دراهم
وقال الشافعي مثل ذلك قال وعلى المصدق إذا لم يجد السن التي وجبت ووجد السن التي هي أعلى منها أو أسفل منها فكذلك على رب المال أن يعطي الخير لهم ثم يعطيه أهل السهمان
قال وإذا وجد العليا ولم يجد السفلى أو السفلى ولم يجد العليا فلا خيار له ويأخذ من التي وجد ليس له غير ذلك
وقال أبو ثور مثل قول الشافعي إلا أنه قال ما لم يسن النبي صلى الله عليه وسلم فيها فهو قياس على ما سن فيه من رد الشاتين أو العشرين درهما أخذه من حديث أنس عن أبي بكر في الصدقة وهو أيضا مذكور في حديث عمرو بن حزم وغيره ولم يقل مالك بذلك لأنه ليس عنده في الزكاة إلا كتاب عمر وليس ذلك فيه فقال بما روى وذلك شأن العلماء وحديث عمرو بن حزم انفرد برفعه واتصاله سليمان بن داود عن الزهري وليس بحجة فيما انفرد به
وقال مالك في الإبل النواضح والبقر السواني وبقر الحرث إني أرى أن يؤخذ من ذلك كله إذا وجبت فيه الصدقة
قال أبو عمر وهذا قول الليث بن سعد ولا أعلم أحدا قال به من الفقهاء غيرهما
وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي والأوزاعي وأبو ثور وداود وأحمد وإسحاق وأبو عبيد لا زكاة في البقر العوامل وإنما الزكاة في السائمة
وروى قولهم عن طائفة من الصحابة منهم علي وجابر ومعاذ بن جبل وكتب عمر بن عبد العزيز أنه ليس في البقر العوامل صدقة
193

وحجته قوله صلى الله عليه وسلم وفي كل إبل سائمة في كل أربعين بنت لبون (1) من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده
وفي حديث أنس أن أبا بكر كتب له فرائض الصدقة وفيها سائمة الغنم إذا كانت أربعين شاة
وحجة مالك الحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله ليس فيما دون خمس ذود صدقة وأنه أخذ من ثلاثين بقرة تبيعا ومن أربعين مسنة ومن أربعين شاة شاة ولم يخص سائمة من غيرها
وقال أصحابه إنما السائمة صفة لها كالاسم والماشية كلها سائمة ومن حال بينها وبين الرعي لم يمنعها ذلك أن تمى سائمة وبالله التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل
((13 - باب صدقة الخلطاء))
555 - ذكر مالك مذهبه في موطئه في هذا الباب ومعناه أن الخليطين لا يزكيان زكاة الواحد حتى يكون لكل واحد منهما نصاب فإذا كان ذلك واختلطا بغنمهما في الدلو والحوض والمراح والراعي والفحل فهما خليطان يزكيهما الساعي زكاة الواحد ثم يترادان على كثرة الغنم وقلتها
فإن كان لأحدهما دون النصاب لم يؤخذ منه شيء ولم يرجع عليه صاحبه شيء
وإذا ورد الساعي على الخليطين بما ذكرنا من أوصافهما زكاهما ولم يراع مرور الحول عليهما كاملا وهما خليطان وإنما يراعى مرور الحول على كل واحد منهما ولو اختلطا قبل تمام الحول بشهر أو نحوه إذا وجدهما خليطين زكاهما زكاة المنفرد
واختلف أصحابه في مراعاة الدلو والحوض والمراح والفحل والراعي فقال بعضهم لا يكونان خليطين إلا ثلاثة أوصاف من ذلك
وقال بعضهم إذا كان الراعي واحدا فعليه مراد الخلطة
وقال مالك في الخليطين في الإبل والبقر إنهما بمنزلة الخليطين في مراعاة النصاب لكل واحد منهما
194

واحتج مالك بأن الخليطين لا يزكيان زكاة الواحد إلا إذا كان لكل واحد منهما نصاب بقوله (عليه السلام) ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة وقول عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وفي سائمة الغنم إذا بلغت أربعين شاة شاة
قال مالك وهذا أحب ما سمعت في هذا إلي
قال أبو عمر قوله وهذا أحب ما سمعت إلي يدل على علمه بالخلاف فيها وأن الخلاف كان بالمدينة قديما
وقول أبي ثور في الخلطاء كقول مالك سواء واحتج بنحو حجته في ذلك
ومن حجة من قال بقول مالك أيضا في الخلطاء إجماع الجميع على أن المنفرد لا تلزمه زكاة في أقل من أربعين من الغنم
واختلفوا في الخليط بغيره لغنمه ولا يجوز أن ينقض أصل مجتمع عليه برأي مختلف فيه
وقال أصحاب الشافعي ليس في ذلك رأي وإنما هو توقيف عمن يجب التسليم له واحتجوا بقوله (عليه الصلاة والسلام) لا يجتمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع وما
كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية (1) وقوله (عليه الصلاة والسلام) في خمس من الإبل شاة وفي أربعين من الغنم شاة (2) لم يفرق بين الغنم المجتمعة في الخلطة لمالكين أبو لمالك واحد
قال الشافعي ولما لم يختلف السلف القائلون في أربعين شاة شاة أن الخلطاء في مائة وعشرين شاة ليس عليهم فيها إلا شاة واحدة دل ذلك على أن عدة الماشية المختلطة لا ملك المالك والله أعلم
وقال الشافعي الذي لا شك فيه أن الخليطين الشريكين لم يقتسما الماشية وتراجعهما بالسوية أن يكونا خليطين في الإبل فيها الغنم فتؤخذ الإبل في يد أحدهما فيؤخذ منها صدقتها ويرجع على شريكه بالسوية لما جاء في الحديث وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية
قال وقد يكون الخليطان الرجلين يتخالطان بماشيتهما وإن عرف كل واحد منهما ماشيته ولا يكونان خليطين حتى يريحا ويحلبا ويسرحا ويسقيا معا فحلهما واحد فإذا كان هكذا صدقا صدقة الرجل الواحد لكل حول
195

قال ولا يكونان حولين حتى يحول عليهما الحول من يوم اختلطا ويكونا مسلمين وإن افترقا في مراح ومسرح أو سقي أو فحول قبل الحول فليسا بخليطين ويصدقان صدقة الاثنين وكذلك إذا كانا شريكين
ولا يراعي الشافعي النصاب لكل واحد منهما ولو اختلط عنده أربعة رجال أو أكثر أو أقل في أربعين شاة كان عليهم فيها شاة بمرور الحول
وروي ذلك عن عطاء
قال الشافعي ولما لم أعلم مخالفا إذا كان ثلاثة خلطاء لهم مائة وعشرون شاة أن عليهم فيها شاة واحدة وأنهم يصدقون صدقة الواحد ينتقصون المساكين شاتين من مال الخلطاء الثلاثة الذين لم يفرق مالهم كان فيه ثلاث شياه لم يجز إلا أن يقال لو كانت أربعون بين ثلاثة رجال كان عليهم شاة لأنهم خلطاء صدقوا صدقة الواحد
قال وبهذا أقول في الماشية كلها والزرع
قال أبو عمر يريد لما لم يكن على الخلطاء في أربعين شاة وغيره الخلطة فريضة المنفرد وجب أن يعتبر النصاب بينهم نصاب الواحد كما يزكون زكاة الواحد
قال ولو أن حائطا كان موقوفا حبسا على مائة إنسان ولم يخرج إلا عشرة أوسق أخذت منه صدقة كصدقة الواحد
ويقول الشافعي في الخلطة بقول الليث وأحمد وإسحاق
قال أحمد إذا اختلط جماعة في خمسة من الإبل أو ثلاثين من البقر أو أربعين من الغنم وكان مرعاهم ومسرحهم ومبيتهم ومحلبهم وفحلهم واحدا أخذ منهم الصدقة وتراجعوا فيما بينهم بالحصص
واختلفوا في غير الماشية أخذ من كل واحد على انفراده إذا كانت حصته تجب فيها الزكاة
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد الخليطان في المواشي كغير الخليطين لا تجب على واحد منهما فيما يملك منها إلا مثل الذي يجب عليه لو لم يكن خليطا
قالوا وكذلك الذهب والفضة والزرع
قالوا وإذا أخذ المصدق الصدقة من ماشيتهما تراجعا فيما أخذ منهما حتى تعود ماشيتهما لو لم ينقص من مال كل واحد منهما إلا مقدار ما كان عليه من الزكاة في حصته
وتفسير ذلك أن يكون لهما عشرون ومائة شاة لأحدهما ثلثها فلا يجب على
196

المصدق انتظار قيمتها ولكن يأخذ من عرضها شاتين فيكون بذلك أخذ من مال صاحب الثلث شاة وثلثا وإنما كانت عليه شاة وفيها للآخر ثلثا شاة وقد كانت عليه شاة فيرجع صاحب الثلثين على صاحب الثلث ثلث الشاة التي أخذها المصدق من حصته زيادة على الواجب الذي كان عليه فيها فتعود حصة صاحب الثلث إلى تسع وتسعين وحصة صاحب الثلث إلى تسع وثلاثين
ولو خالط صاحب عشرين صاحب ستين فالشاة على صاحب الستين لا على صاحب العشرين
قال أبو عمر إنما حمل الكوفيون على دفع القول بصدقة الخلطاء أنهم لم يبلغهم ذلك والله أعلم اعتمدوا على ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة وليس فيما دون خمس ذود صدقة وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة وقوله (عليه السلام) في الغنم ليس فيما دون أربعين منها شيء ورأوا أن الخلطة المذكورة تغير هذا الأصل فلم يلتفتوا إليه والله أعلم
((14 - باب ما جاء فيما يعتد به من السخل (1) في الصدقة))
556 مالك عن ثور بن زيد الديلي عن بن لعبد الله بن سفيان الثقفي عن جده سفيان بن عبد الله أن عمر بن الخطاب بعثه مصدقا فكان يعد على الناس بالسخل فقالوا أتعد علينا بالسخل ولا تأخذ منه شيئا فلما قدم على عمر بن الخطاب ذكر له ذلك فقال عمر نعم تعد عليهم بالسخلة يحملها الراعي ولا تأخذها ولا تأخذ الأكولة (2) ولا الربى (3) ولا الماخض ولا فحل الغنم وتأخذ الجذعة والثنية وذلك عدل بين غذاء (4) الغنم وخياره
قال أبو عمر ذكر مالك في الموطأ تفسير الربى والماخض والأكولة وفحل الغنم بما يغني عن ذكره ها هنا
197

وقوله في نصاب الغنم أنه يكمل من أولادها كربح المال سواء ولو كانت عنده ثلاثون شاة حولا ثم ولدت قبل مجيء الساعي بليلة فكملت النصاب أخذ منها - عنده - الزكاة وذلك عنده مخالف لما أفيد منها بشراء أو هبة أو ميراث
ومعنى قول مالك هذا أن النصاب عنده يكون بالولادة ولا يكون بالفائدة من غير الولادة لمن كانت عنده ثلاثون من الغنم أو ما دون النصاب ثم اشترى أو ورث أو وهب له ما يكمل به النصاب استأنف بالنصاب حولا وليس كذلك عنده حكم البنات مع الأمهات فإن كان عنده نصاب ماشية قد حال عليه الحول ثم استفاد قبل مجيء الساعي شيئا بغير ولادة زكى ذلك مع النصاب
وليس كذلك فائدة العين الصامت عنده وقد تقدم ذلك في بابه
وقال الشافعي لا يضمن شيئا من الفوائد إلى غيره ويزكي كل لحوله إلى ما كان من نتاج الماشية مع النصاب
وهو قول أبي ثور
وقول أبي حنيفة وأصحابه في ذلك كقول مالك
وقال الشافعي لا يعد بالسخل إلا أن يكون من غنمه قبل الحول ويكون أصل الغنم أربعين فصاعدا فإذا لم تكن الغنم نصابا فلا يعد بالسخل
وقال أبو حنيفة وأصحابه إذا كان له في أول الحول أربعون صغارا أو كبارا وفي آخره كذلك وجبت فيها الصدقة وإن نقصت في الحول
وقال الحسن بن حي يتم الحول بالسخال مع الأمهات ويعتبر الحول من يوم تم النصاب فإن جاء الحول وجبت فيها الزكاة وإذا تمت سخالها أربعين أو زادت عليها بالسخال حتى بلغت ستين أو نحوها فذهب من الأمهات واحدة قبل تمام الحول استقبل بها حولا كما يفعل بالدراهم إذا كانت ناقصة فأفدت إليها تمام النصاب
وأما قوله لا يأخذ الربى إلى آخر قوله ذلك فقال مالك إذا كانت كلها ربى أو فحولا أو ماخضا أو بازلا كان لرب المال أن يأتي الساعي بما فيه وفاء حقه جذعة أو ثنية وإن شاء صاحبها أن يعطي منها واحدة كان ذلك له
وبه قال أبو حنيفة
قال مالك ليس في الإبل في الصدقة مثل الغنم فإن الغنم لا يؤخذ منها إلا جذعة أو ثنية [ويؤخذ من الإبل في الصدقة الصغار
198

قال بن الماجشون يأخذ الربى إذا كانت كلها ربى كما يأخذ العجفاء من العجاف]
قال الشافعي لا يؤخذ في صدقة الإبل ولا في صدقة الغنم من الغنم إلا جذعة من الضأن أو ثنية من المعز ولا يؤخذ أعلى من ذلك إلا أن يتطوع رب المال
قال أبو عمر هذا نفس استعمال حديث عمر في الجذعة والثنية وهو كقول مالك سواء
واختلفوا إذا كانت الإبل فصلانا والبقر عجولا والغنم سخالا
فقال مالك عليه في الغنم شاة ثنية أو جذعة وعليه في الإبل والبقر ما في الكبار منها
وهو قول زفر
قال بن عبد الحكم من كانت عنده خمس وعشرون سقيا فعليه بنت مخاض وإن كانت أربعون حلوبة فعليه فيها جذعة
وقال الشافعي السن التي تؤخذ في الصدقة من الغنم والبقر والإبل الجذعة من الضأن والثنية مما سواها إلا أن تكون صغارا كلها وقد حال عليها حول أمها فإنه يؤخذ منها الصغير
قال وحكم البنات حكم الأمهات إذا حال عليها حول الأمهات
وقال أبو حنيفة ومحمد لا شيء في الفصلان إذا كان كلها فصلانا ولا في العجول ولا في صغار الغنم لا منها ولا من غيرها
وهو قول جماعة من تابعي أهل الكوفة
ومن حجتهم ما رواه هشيم عن هلال بن حسان أنه أخبره عن ميسرة بن صالح قال حدثنا سويد بن غفلة قال أتانا مصدق النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته فجلست إليه فسمعته يقول إن عهدي أن لا آخذ من راضع لبن ولا أجمع بين مفترق ولا أفرق بين مجتمع
قال وأتاه رجل بناقة كوماء فأبى أن يأخذها
وقال أبو يوسف والثوري والأوزاعي يؤخذ منها إذا كانت خرفانا أو عجولا أو فصلانا ولا يكلف صاحبها أكثر منها
وروي عن أبي يوسف أنه قال في خمس فصلان واحدة منها أو شاة
واختلفوا في المعيبة كلها عجافا كانت أو مريضة فالمشهور من مذهب مالك أنه
199

يلزم صاحبها أن يأتي بما يجوز ضحية جذعة أو ثنية غير معيبة
وروى بن القاسم أن عثمان بن الحكم سأل مالكا عن الساعي يجدها عجافا كلها فقال يأخذ منها
قال سحنون وهو قول المخزومي وبه قال مطرف وبن الماجشون
قال أبو عمر وهو قول الشافعي وأبي يوسف
قال الشافعي لأني إذا كلفته صحيحة كانت أكثر من شاة معيبة فأوجبت عليه أكثر مما وجب عليه
قال ولم توضع الصدقة إلا رفقا بالمساكين من حيث لا يضر بأرباب المال
وأما قول أبي حنيفة فقوله في المعيبة نحو ذلك
وأما الصغار فلا أرى فيها شيئا على ما تقدم والله أعلم
((15 - باب العمل في صدقة عامين إذا اجتمعا))
557 - قال مالك الأمر عندنا في الرجل تجب عليه الصدقة وإبله مائة بعير فلا يأتيه الساعي حتى تجب عليه صدقة أخرى فيأتيه المصدق (1) وقد هلكت إبله إلا خمس ذود
قال مالك يأخذ المصدق من الخمس ذود الصدقتين اللتين وجبتا على رب المال شاتين في كل عام شاة لأن الصدقة إنما تجب على رب المال يوم يصدق ماله فإن هلكت ماشيتة أو نمت فإنما يصدق المصدق زكاة ما يجد يوم يصدق وإن تظاهرت على رب المال صدقات غير واحدة فليس عليه أن يصدق إلا ما وجد المصدق عنده فإن هلكت ماشيته أو وجبت عليه فيها صدقات فلم يؤخذ منه شيء حتى هلكت ماشيته كلها أو صارت إلى ما لا تجب فيه الصدقة فإنه لا صدقة عليه ولا ضمان فيما هلك أو مضى من السنين
ومن غير الموطأ وسئل مالك عن رجل كانت له أربعون شاة فلم يأته المصدق ثلاثة أعوام ثم أتاه في العام الرابع وهي أربعون كم يأخذ منها لعامه ذلك وللسنين الماضية فقال مالك يؤخذ منها شاة واحدة
200

قال ولو كانت ثلاثا وأربعين أخذ منها ثلاث شياه أيضا وإن كانت إحدى وأربعين أخذ منها شاتين
وقال الشافعي كقول مالك قال أحب إلي في الأربعين أن يؤدي عنها في كل سنة شاة إذا كانت لم تنقص في كل سنة عن أربعين لأنه قد حالت عليها أحوال وهي كلها أربعون
هذا قوله في الكتاب المصري
وقال في البغدادي في الرجل الذي تكون عنده عشر من الإبل فيتركها سنين أنه يؤخذ منها في السنين كلها لأن صدقتها من غيرها
وقال في الأربعين والثلاث والأربعين إذا تركها صاحبها فلم يزكها سنين كقول مالك وأصحابه في ذلك وما استحبه الشافعي في أن يؤخذ من الأربعين أربع شياه كأنه قد أخذ من الساعي شاة في العام الأول ثم أتى في الثاني فوجدها أربعين ثم في الثالث والرابع مثل ذلك وهو معنى قول مالك في الهارب بماشيته من الساعي
وقال أبو يوسف وأبو حنيفة ومحمد من كانت عنده عشر من الإبل فلم يزكها سنين فإنه عليه في السنة الأولى شاتين وفي الثانية شاة
قال أبو عمر جعلوا الشاة المأخوذة من الخمس ذود كأنها منها فنقصت لذلك عن نصابها
وقالوا في الغنم إذا كان لواحد عشرون ومائة شاة وأتى عليها سنتان لم يزكها فإن عليها زكاة سنتين في كل سنة شاة ولو كانت إحدى وعشرين ومائة ولم يزكها سنة فإن عليه للسنة الأولى شاتين وللسنة الثانية شاة
وقال أبو ثور إذا كانت لرجل عشر من الإبل فحال عليها حولان فإن فيها أربعا من الغنم وذلك أن زكاتها من غيرها وليس زكاتها منها تنتقص
((16 - باب النهي عن التضييق على الناس في الصدقة))
558 - ذكر فيه مالك حديث عائشة (رضي الله عنهما) أنها قالت مر على عمر بن الخطاب بغنم من الصدقة فرأى فيها شاة حافلا (1) ذات ضرع عظيم فقال
201

عمر ما هذه الشاة فقالوا شاة من الصدقة فقال عمر ما أعطى هذه أهلها وهم طائعون لا تفتنوا الناس لا تأخذوا حزرات المسلمين (1) نكبوا عن الطعام
قال أبو عمر قوله حافلا يعني التي قد امتلأ ضرعها لبنا ومنه قيل مجلس حافل ومحتفل
وإنما أخذت - والله أعلم - من غنم كلها لبون كما لو كانت كلها ربى أخذ منها أو لو كانت كلها مواخض أخذ منها ولكن عمر (رضي الله عنه) كان شديد الإشفاق على المسلمين كالطير الحذر وهكذا يلزم الخلفاء فيمن أمروه واستعملوه الحذر منهم واطلاع أعمالهم
وكان (رضي الله عنه) إذا قيل له ألا تستعمل أهل بدر قال أدنسهم بالولاية
على أنه قد استعمل منهم قوما منهم سعد ومحمد بن مسلمة
وروي عن حذيفة أنه قال لعمر إنك لتستعمل الرجل الفاجر فقال أستعمله لأستعين بقوته ثم أكون بعد قفاه يريد أستقصي عليه وأعرف ما يعمل به
والدليل على أن الشاة الحافل لم تؤخذ إلا على وجهها أنه لم يأمر بردها ووعظ وحذر تنبيها ليوقف على مذهبه وينشر ذلك عنه فتطمئن نفوس الرعية ويخاف عاملهم
وأما الحزرات فما غلب على الظن أنه خير المال وخياره وقال صاحب العين الحزرات خيار المال وقيل الحزرات كرائم الأموال وكذلك قال (عليه الصلاة والسلام) لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن إياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم
202

وأما قوله نكبوا عن الطعام فمأخوذ - والله أعلم - من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما تحدث لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم فكأنه قال نكبوا عن ذوات الدر وخذوا الجذعة والثنية
حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن حنبل قال حدثنا وكيع قال حدثنا زكريا بن إسحاق المكي عن يحيى بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد عن بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنك تأتي قوما أهل كتاب فذكر الحديث وفي آخره فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم
واتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب (1)
ومن حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال المعتدي في الصدقة كمانعها (2)
قال أبو عمر وقد وعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم أرباب المواشي كما وعظ السعاة
روي من حديث جرير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا ينصرف المصدق عنكم إلا وهو راض (3)
وقد ذكرنا أسانيد هذه الآثار في التمهيد وفي سماع أبي قرة قلت لمالك في قوله نكبوا عن الطعام فقال لي يريد اللبن
وقال مالك لا يأخذ المصدق لبونا إلا أن تكون الغنم كلها ذات لبن فيأخذ حينئذ لبونا من وسطها ولا يأخذ حزرات الناس
559 - وذكر مالك أيضا في هذا الباب عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان أنه قال أخبرني رجلان من أشجع أن محمد بن مسلمة الأنصاري كان يأتيهم مصدقا فيقول لرب المال أخرج إلي صدقة مالك فلا يقود إليه شاة فيها وفاء من حقه إلا قبلها
وكان عمر بن الخطاب يبعثه ساعيا
203

وهذا الحديث لا مدخل فيه للقول وليس فيه معنى مشكل يحتاج إلى تفسير وحسب كل من أعطى حقه أن يقبله
والوفاء العدل في الوزن وغيره فإن أراد بالوفاء ها هنا الزيادة فلا أعلم خلافا بين العلماء أنه ينبغي للعامل على الصدقة إذا أعطاه رب المال فأوفى عليه أن يأخذ ذلك للمساكين ولا يرد ما أعطى لهم رب المال وليس ذلك له
وقول مالك السنة عندنا والذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا أنه لا يضيق على المسلمين في زكاتهم وأن يقبل منهم ما دفعوا من أموالهم
قال أبو عمر السنة عند الجميع إذا دفع أرباب الأموال ما يلزمهم فلا تضييق حينئذ على أحد منهم إنما التضييق أن يطلب منهم غير ما فرض عليهم
فيما مضى من أقوال العلماء فيمن غنمه كلها جرباء أو ذوات عيوب أو صغار ما يبين لك معنى التضييق من غيره والله أعلم
((17 - باب أخذ الصدقة ومن يجوز له أخذها))
560 - مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة لغاز في سبيل الله أو لعامل عليها أو لغارم أو لرجل اشتراها بماله أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدي المسكين للغني
تابع مالك على إرسال هذا الحديث سفيان بن عيينة وإسماعيل بن أمية
ورواه معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم
ورواه الثوري عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار قال حدثني الليث عن النبي صلى الله عليه وسلم
وقد ذكرنا الأسانيد بذلك عنهم في التمهيد
وفي هذا الحديث من الفقه ما يدخل في تفسير قول الله (عز وجل) * (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) * [التوبة 60] لأنه تفسير لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا
204

تجوز الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي (1) لأن قوله هذا لا يحمل مدلوله على عمومه بدليل الخمسة الأغنياء المذكورين في حديث هذا الباب
وأجمع العلماء على أن الصدقة المفروضة وهي الزكاة الواجبة على الأموال لا تحل لغني غير الخمسة المذكورين في هذا الحديث الموصوفين فيه
[وكان بن القاسم يقول لا يجوز لغني أن يأخذ من الصدقة ما يستعين به على الجهاد وينفقه في سبيل الله وإنما يجوز ذلك للفقير
قال وكذلك الغارم لا يجوز له أن يأخذ من الصدقة ما بقي له ماله ويؤدي منها دينه وهو عنها غني
قال وإن احتاج الغازي في غزوته وهو غني له مال غاب عنه لم يأخذ من الصدقة شيئا واستقرض فإذا بلغ بلده أدى ذلك من ماله
هذا كله ذكره بن حبيب عن بن القاسم وزعم أن بن قانع وغيره خالفوه في ذلك
وروى أبو زيد وغيره عن بن القاسم أنه قال في الزكاة يعطى منها الغازي وإن كان معه في غزاته ما يكفيه من ماله وهو غني في بلده
وروى بن وهب عن مالك أنه يعطى منها الغزاة ومن لزم مواضع الرباط فقراء كانوا أو أغنياء]
وذكر عيسى بن دينار في تفسير هذا الحديث قال تحل الصدقة للغازي في سبيل الله لو احتاج في غزوته وغاب عنه غناه ووبره ولا تحل لمن كان معه ماله من الغزاة
قال عيسى وتحل لعامل عليها وهو الذي يجمع من عند أرباب المواشي والأموال فهذا يعطى منها على قدر سعيه لا على قدر ما جمع من الصدقات والعشور ولا ينظر إلى الثمن وليس الثمن بفريضة
قال وتحل لغارم غرما قد فدحه وذهب بماله إذا لم يكن غرمه في فساد ولا دينه في فساد مثل أن يستدين في نكاح أو حج أو غير ذلك من وجوه المباح والصلاح
205

وأما الشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل وسائر أهل العلم فيما علمت فإنهم قالوا جائر للغازي في سبيل الله إذا ذهب نفقته وماله غائب عنه أن يأخذ من الصدقة ما يبلغه
قالوا والمحتمل بحمالة في بر وإصلاح والمتداين في غير فساد كلاهما يجوز له أداء دينه من الصدقة وإن كان الحميل غنيا فإنه يجوز له أخذ الصدقة إذا وجب عليه أداء ما تحمل به وكان ذلك يجحف به
قال أبو عمر من حجة الشافعي ومن ذهب مذهبه فيما وصفنا عنه ظاهر حديث مالك في هذا الباب وحديث قبيصة بن المخارق وقد ذكرناه بإسناد في التمهيد وفيه لا تحل الصدقة إلا لأحد ثلاثة رجل تحمل بحمالة فحلت له المسألة حتى يصيب - يعني ما تحمل به - ثم يمسك (1)
فقوله ثم يمسك دليل على أنه غني لأن الفقير ليس عليه أن يمسك عن السؤال مع فقره [ودليل آخر وهو عطفه ذكر الذي ذهب ماله وذكر الفقير ذي الفاقة على ذكر صاحب الحمالة فدل على أنه لم يذهب ماله ولم تصبه فاقة حتى يشهد له بها]
وقد أجمع العلماء على أن الصدقة تحل لمن عمل عليها وإن كان غنيا وكذلك المشتري لها بماله والذي تهدى إليه وإن كانوا أغنياء وكذلك سائر من ذكر في الحديث والله أعلم لأن ظاهر الحديث يشبه أن الخمسة تحل لهم الصدقة من بين سائر الأغنياء
قال مالك الأمر عندنا في قسم الصدقات أن ذلك لا يكون إلا على وجه الاجتهاد من الوالي فأي الأصناف كانت فيه الحاجة والعدد أوثر ذلك الصنف بقدر ما يرى الوالي وعسى أن ينتقل ذلك إلى الصنف الآخر بعد عام أو عامين أو أعوام فيؤثر أهل الحاجة والعدد حيثما كان ذلك وعلى هذا أدركت من أرضى من أهل العلم
قال مالك وليس للعامل على الصدقات فريضة مسماة إلا على قدر ما يرى الإمام
قال أبو عمر اختلف العلماء من لدن التابعين في كيفية قسم الصدقات وهل هي
206

مقسومة على من سماه الله في الآية وهل الآية إعلام منه تعالى لمن تحل له الصدقة
وكان مالك والثوري وأبو حنيفة يقولون إنه يجوز أن توضع الصدقة في صنف واحد من الأصناف المذكورين في الآية يضعها الإمام فيمن شاء من تلك الأصناف على حسب اجتهاده
وروي عن حذيفة وبن عباس أنهما قالا إذا وضعتها في صنف واحد أجزأك ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة
وقد أجمع العلماء أن العامل عليها لا يستحق ثمنها وإنما له بقدر عمالته فدل ذلك على أنها ليست مقسومة على الأصناف بالسوية
[قال عبيد الله بن الحسن أحب أن لا يخلى منها الأصناف كلها]
وقال الشافعي هي سهمان ثمانية لا يصرف منها سهم ولا شيء عن أهله ما وجد من أهله أحد يستحقه
ومن حجة الشافعي أن الله (عز وجل) جعل الصدقات في أصناف ثمانية فغير جائز أن يعطى ما جعله الله (عز وجل) لثمانية لصنف واحد كما لا يجوز أن يعطى ما جعله الله لثمانية لواحد
وقد أجمعوا على أن رجلا لو أوصى لثمانية أصناف لم يجز أن يجعل ذلك في صنف واحد فكان ما أمر الله بقسمه على ثمانية أحرى وأولى أن يجعل في واحد وروي في ذلك حديث عن زياد بن الحارث الصدائي أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما رضي الله بقسمة أحد في الصدقات حتى قسمها على الأصناف الثمانية (1)
قال أبو عمر انفرد بهذا الحديث عبد الرحمن بن زياد الإفريقي وقد ضعفه بعضهم وأما أهل المغرب مصر وإفريقية فيثنون عليه بالدين والعقل والفضل وقد روى عنه جماعة من الأئمة منهم الثوري وغيره
[وجملة قول الشافعي أن كل ما أخذ من المسلمين من زكاة مال أو ماشية أو حب أو زكاة أو معدن يقسم على ثمانية أسهم أو على سبعة وكذلك يكون لمن قسم زكاته على أهلها كما قسمها الله تعالى لا يختلف القسم فيه ولا يصرف سهم واحد منهم إلى غيره والواحد مردود إلى العامل
207

قال أبو ثور أما زكاة الأموال التي يقسمها الناس عن أموالهم فإني أحب أن تقسم على ما أمكن ممن سمى الله تعالى إلا العاملين فليس لهم من ذلك شيء إذا قسمها ربها وإن أعطى الرجل زكاة ماله بعض الأصناف رجوت أن تسعها فأما ما صار إلى الإمام فلا يقسمه إلا فيمن شاء الله عز وجل
قال أبو عمر قال الله (عز وجل) * (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) * [التوبة 60] فاختلف العلماء وأهل اللغة في المسكين والفقير فقال منهم قائلون الفقير أحسن حالا من المسكين قالوا والفقير الذي له بعض ما يقيمه والمسكين الذي لا شيء له
واحتجوا بقول الراعي
(أما الفقير الذي كانت حلوبته
* وفق العيال فلم يترك له سبد) (1)
قالوا ألا ترى أنه قد أخبر أن لهذا الفقير حلوبة
وممن ذهب إلى هذا بن السكيت وبن قتيبة وهو قول يونس بن حبيب
وذهب قوم من أهل الفقه والحديث إلى أن المسكين أحسن حالا من الفقير
واحتج قائل هذه المقالة بقوله تعالى * (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر) * [الكهف 79] فأخبر أن للمساكين سفينة في البحر وربما ساوت جملة من المال
واحتجوا بقوله تعالى " للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسئلون الناس إلحافا " [البقرة 273]
قالوا فهذه الحال التي وصف الله بها الفقراء دون الحال التي أخبر بها عن المساكين
قالوا ولا حجة في بيت الراعي لأنه أخبر أن الفقير كانت له حلوبة في حال ما قالوا
والفقير معناه في كلام العرب المفقور كأنه الذي نزعت فقرة من ظهره لشدة فقره فلا حال أشد من هذه
208

واستشهدوا بقول الشاعر
(لما رأى لبد النسور تطايرت
* رفع القوادم كالفقير الأعزل) (1)
أي لم يطق الطيران فصار بمنزلة من انقطع صلبه ولصق بالأرض
قالوا وهذا هو شديد المسكنة واستدلوا بقوله تعالى * (أو مسكينا ذا متربة) * [البلد 16] يعني مسكينا قد لصق بالتراب من شدة الفقر وهذا يدل على أنه إن لم يكن مسكينا فليس ذا متربة مثل الطواف وشبهه ممن له البلغة والساعي في الاكتساب بالسؤال
وممن ذهب إلى أن المسكين أحسن حالا من الفقير الأصمعي وأبو جعفر أحمد بن عبيد وأبو بكر بن الأنباري
وهو قول الكوفيين من الفقهاء أبي حنيفة وأصحابه ذكر ذلك عنهم الطحاوي وهو أحد قولي الشافعي وللشافعي قول آخر أن الفقير والمسكين سواء ولا فرق بينهما في المعنى وإن افترقا في الاسم
وإلى هذا ذهب بن القاسم وسائر أصحاب مالك في تأويل قول الله عز وجل * (إنما الصدقات للفقراء) * [التوبة 60]
وأما أكثر أصحاب الشافعي فعلى ما ذهب إليه الكوفيون في هذا الباب
وذكر بن وهب قال أخبرنا أشهل بن حاتم عن بن عون عن محمد بن سيرين قال قال عمر ليس الفقير الذي لا مال له ولكن الفقير الأخلق الكسب
قال أبو عمر قد بينا في التمهيد مثل قوله عليه قوله عليه السلام ليس المسكين بالطواف عليكم (2) أن المعنى فيه ليس المسكين حق المسكين وأن من المساكين من ليس بطواف وأوضحنا هناك هذا المعنى بما فيه كفاية
209

واختلفوا فيمن تحل له الصدقة من الفقراء وما حد الغنى الذي تحرم به الصدقة على من بلغه
فقال مالك ليس لهذا عندنا حد معلوم
وسنذكر مذهبه فيمن يحرم السؤال عليه فيمن لا تحل له الصدقة عند ذكر حديث الأسدي إن شاء الله رواه مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد
وأما الثوري فذهب إلى أن الصدقة لا تحل لمن يملك خمسين درهما على حديث بن مسعود
وهو قول الحسن بن حي
وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى من ملك مائتي درهم أنه تحرم عليه الصدقة المفروضة
وحجتهم الحديث أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم (1)
وقال الشافعي للرجل أن يأخذ من الصدقة حتى يستحق أقل اسم الغنى وذلك حين يخرج من الفقر والمسكنة وعنده أن صاحب الدار والخادم الذي لا غنى به عنهما ولا فضل فيهما يخرجه إلى حد الغنى أنه ممن يحل له الصدقة
وهذا نحو قول مالك في ذلك
وبه قال أبو ثور والكوفيون
وقال عبيد الله بن الحسن من لا يكون عنده ما يقيمه ويكفيه سنة فإنه يعطى من الصدقة
واختلفوا في مقدار ما يعطى المسكين الواحد من الزكاة
فقال مالك الأمر فيه مردود إلى الاجتهاد من غير توقيت وقد روي عنه أنه يعطى من له أربعون درهما أوعد لها ذهبا
وقال الليث يعطى مقدار ما يبتاع به خادما إذا كان ذا عيال وكانت الزكاة كثيرة
وأما الشافعي فلم يحد حدا واعتبر ما يرفع الحاجة وسواء كان ما يعطاه تجب فيه الزكاة أم لا لأن الزكاة لا يجب على مالك النصاب إلا بمرور الحول
وكان أبو حنيفة يكره أن يعطى إنسان واحد من الزكاة مائتي درهم
210

قال وإن أعطيته أجزأك ولا بأس أن تعطيه أقل من مائتي درهم
وقال الثوري لا يعطى من الزكاة أحد أكثر من خمسين درهما
وهذا قول الحسن بن حي
وقول بن شبرمة كقول أبي حنيفة
وكل من حد في أقل الغنى حدا ولم يحد فإنما هو ما لا غنى عنه من دار تحمله لا تفضل عنه أو خادم هو شديد الحاجة إليه
وكلهم يجيز لمن كان له ما يكنه من البيوت ويخدمه من العبيد لا يستغنى عنه ولا فضل له من مال يتحرف به ويعرضه للاكتساب أن يأخذ من الصدقة ما يحتاج إليه ولا يكون غنيا به
فقف على هذا الأصل فإنه قد اجتمع عليه فقهاء الحجاز والعراق وقد ذكرناه عن طائفة في التمهيد
وأما قوله عز وجل * (والعاملين عليها) * [التوبة 60] فلا خلاف بين فقهاء الأمصار أن العامل على الصدقة لا يستحق جزءا معلوما منها ثمنا أو سبعا أو سدسا وإنما تعطى بقدر عمالته
وأما أقاويلهم في ذلك فقد تقدم قول مالك في موطئة ليس للعامل على الصدقة فريضة مسماة إلا على قدر ما يرى الإمام
وقال الشافعي العاملون عليها المتولون قبضها من أهلها فأما الخليفة ووالي الإقليم الذي يولي أخذها عاملا دونه فليس له فيها حق وكذلك من أعان واليا على قبضها ممن به الغنى عن معونته فليس لهم في سهم العاملين وسواء كان العاملون عليها أغنياء أم فقراء من أهلها كانوا أو غرباء
قال ولا سهم فيها للعاملين معلوم ويعطون لعمالتهم عليها بقدر أجور مثلهم فيما تكلفوا من المشقة وقاموا به من الكفاية
وقال أبو حنيفة وأصحابه يعطى العاملون على ما رأى الإمام
وقال أبو ثور يعطى العاملون بقدر عمالتهم كان دون الثمن أو أكثر ليس في ذلك شيء موقت
وأما قوله عز وجل * (والمؤلفة قلوبهم) * [التوبة 60] فقال مالك لا مؤلفة اليوم
وقال الثوري أما المؤلفة قلوبهم فكانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقال أبو حنيفة وأصحابه المؤلفة قلوبهم قد سقط سهمهم وليس لأهل الذمة في بيت المال حق
211

وقال الشافعي المؤلفة قلوبهم من دخل في الإسلام من ولاء ولا يعطى من الصدقة مشرك ليتألف على الإسلام ولا يعطى إن كان مسلما إلا إذا نزل بالمسلمين نازلة لا تكون الطاعة للوالي قائمة فيها ولا يكون من يتولى الصدقة قويا على استخراجها إلا بالمؤلفة أو تكون بلاد الصدقة ممتنعة بالبعد وكثرة الأهل فيمتنعون عن الأذى ويكونوا قوما لا يوثق بثباتهم فيعطون منها الشيء على الاجتهاد من الإمام لا يبلغ اجتهاده في حال أن يزيدهم على سهم المؤلفة قلوبهم ولينقصهم منه إن قدر حتى يقوى بهم على أخذ الصدقات من أهلها
وقال أبو ثور مثله
وأما قوله عز وجل * (وفي الرقاب) * [التوبة 60] فقال مالك والأوزاعي لا يعطى المكاتب من الزكاة شيئا لأنه عبد ما بقي عليه درهم والعبد لا يعطى منها موسرا كان أو معسرا ولا من الكفارات من أجل أن ملك العبد عنده غير مستقر ولسيده انتزاعه هذا في الكفارات وأما في المكاتب فإنه ربما عجز فصار عبدا
قال مالك ولا يعتق من الزكاة إلا رقبة مؤمنة ومن اشترى من زكاته رقبة مؤمنة فأعتقها كان ولاؤها لجماعة المسلمين
وهو قول عبيد الله بن الحسن
وقال أبو ثور لا بأس أن يشتري الرجل الرقبة من زكاته فيعتقها على عموم الآية
وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وبن شبرمة لا يجزئ العتق من الزكاة
ومعنى قول الله تعالى عندهم * (وفي الرقاب) * هم المكاتبون فإن أعطى المكاتب في أخذ كتابته ما يتم به عتقه كان حسنا وإن أعطاه في غير تلك الحال ثم عجز أجزته
وقد روي عن مالك أنه يعان المكاتب
وهو قول الطبري والأول هو تحصيل مذهب مالك
وقال الشافعي الرقاب المكاتبون من جيران الصدقة فإن اتسع لهم السهم أعطو حتى يعتقوا وإن دفع ذلك الوالي إلى من يعتقهم فحسن وإن دفعه إليهم أجزأه
وأما قوله عز وجل * (والغارمين) * [التوبة 60] فقد مضى قول بن القاسم في ذلك في صدر هذا الباب
قال الشافعي الغارمون صنفان صنف أدانوا في مصلحة ومعروف وصنف دانوا في حمالات وصلاح ذات بين فيعطون منها ما تقضى به ديونهم إن لم تكن لهم عروض تباع في الديون
212

وأما قوله تعالى * (وفي سبيل الله) * [التوبة 60]
فقال مالك وأبو حنيفة في سبيل الله مواضع الجهاد والرباط
وقال أبو يوسف هم الغزاة
وقال محمد بن الحسن من أوصى بثلثه في سبيل الله فللوصي أن يجعله في الحاج المنقطع به في سبيل الله
وهو قول بن عمر عنده الحجاج والعمار
وقال الشافعي في سهم سبيل الله يعطى منه من أراد الغزو من جيران أهل الصدقة فقيرا كان أو غنيا ولا يعطى منه غيرهم إلا أن يحتاج إلى الدفع عنهم فيعطاه من دفع عنهم المشركين لأنه يدفع عن جماعة أهل الإسلام
وأما قوله تعالى " وبن السبيل " [التوبة 60] فقال مالك بن السبيل المسافر في طاعة ففقد زاده فلا يجد ما يبلغه
وروي عنه أن بن السبيل الغازي وهو المشهور في مذهبه
وقال الشافعي بن السبيل من جيران الصدقة الذين يريدون السفر في غير معصية فيعجزون عن بلوغ سفرهم إلا بمعونة عليه
والمعنى فيه عند العلماء يتفاوت على ما قدمنا وأجمعوا على أنه لا يؤدى من الزكاة دين ميت ولا يكفن منها ولا يبنى منها مسجد ولا يشترى منها مصحف ولا يعطى لذمي ولا مسلم غني
ولهم فيمن أعطى الغني والكافر وهو غير عالم قولان أحدهما أنه يجزئ والآخر أنه لا يجزئ
((18 - باب ما جاء في أخذ الصدقات والتشديد فيها))
561 - ذكر مالك أنه بلغه أن أبا بكر الصديق قال لو منعوني عقالا (1) لجاهدتهم عليه
قال أبو عمر هذا فيه حديث يتصل عن النبي صلى الله عليه وسلم
213

أخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بشر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا الليث عن عقيل عن بن شهاب الزهري قال أخبرني عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة قال لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلف أبو بكر بعده وكفر من كفر من العرب قال عمر بن الخطاب لأبي بكر كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله فقال أبو بكر والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه فقال عمر بن الخطاب فوالله ما هو إلا أن رأيت الله عز وجل قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق
قال أبو عمر رواه بن وهب عن يونس عن الزهري فقال عقالا كما قال عقيل
قال أبو عمر قوله وكفر من كفر من العرب لم يخرج على كلام عمر لأن كلام عمر إنما خرج على من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله ومنع الزكاة وتأولوا قوله تعالى * (خذ من أموالهم صدقة) * [التوبة 103] فقالوا المأمور بهذا رسول الله لا غيره
وكانت الردة على ثلاثة أنواع قوم كفروا وعادوا إلى ما كانوا عليه من عبادة الأوثان وقوم آمنوا بمسيلمة وهم أهل اليمامة وطائفة منعت الزكاة وقالت ما رجعنا عن ديننا ولكن شححنا على أموالنا وتأولوا ما ذكرناه
بدأ أبو بكر رضي الله عنه قتال الجميع ووافقه عليه جميع الصحابة بعد أن كانوا خالفوه في ذلك لأن الذين منعوا الزكاة قد ردوا على الله قوله تعالى * (فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) * [البقرة 43] وردوا على جميع الصحابة الذين شهدوا التنزيل وعرفوا التأويل في قوله عز وجل * (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم) * [التوبة 103] ومنعوا حقا واجبا لله على الأئمة القيام بأخذه منهم واتفق أبو بكر وعمر وسائر الصحابة على قتالهم حتى يؤدوا حق الله في الزكاة كما يلزمهم ذلك في الصلاة
إلا أن أبا بكر رضي الله عنه لما قاتلهم أجرى فيهم حكم من ارتد من العرب تأويلا واجتهادا
فلما ولي عمر بن الخطاب رأى أن النساء والصبيان لا مدخل لهم في القتال الذي استوجبه مانع الزكاة حق الله وفي الأغلب أنهم لا رأي لهم في منع الزكاة
214

فرأى أنه لا يجوز أن يحكم فيهم بحكم المانعين للزكاة والمقاتلين دونها الجاحدين لها وعزر أبا بكر باجتهاده ولم يسعه في دينه أو بان له ما بان من ذلك أن يسترقهم بعدائهم وأطلق سبيلهم وذلك أيضا بمحضر الصحابة من غير نكير وهذا يدل على أن كل مجتهد معذور
وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فدا كل امرأة وصبي كان بأيدي من سباه منهم وخير المرأة إن أرادت أن تبقى على نكاحه ينكحها الذي سباها بعد الحكم بعتقها
وأما العقال فقال أبو عبيدة معمر بن المثنى هو صدقة عام
وقال غيره هو عقال الناقة التي تعقل به وخرج كلامه على التقليل والمبالغة
وقال بن الكلبي كان معاوية قد بعث عمرو بن عتبة بن أخيه مصدقا فجاز عليهم فقال شاعرهم
(سعى عقالا فلم يترك لنا سبدا
* فكيف لو قد سعى عمرو عقالين) (1)
وهذا حجة أن العقال صدقة سنة
ومن رواه عناقا فإنما أراد التقليل أيضا لأن العناق لا يؤخذ في الصدقة عند طائفة من أهل العلم ولو كانت الغنم عناقا كلها
وذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل في المسند قال حدثني أبي قال حدثنا زكريا بن عدي قال أخبرني عبيد الله بن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن القاسم عن علي بن حسين قال حدثتنا أم سلمة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي فجاء رجل فقال يا رسول الله كم صدقة كذا وكذا قال كذا وكذا قال فإن فلانا تعدى علي قال فنظروا فوجدوه قد تعدى بصاع فقال النبي صلى الله عليه وسلم فكيف بكم إذا سعى من يتعدى عليكم أشد من هذا التعدي (2)
قال أبو عمر كان يبكي ما يحل بأمته من بعده صلى الله عليه وسلم
وذكر أبو يحيى زكريا بن يحيى بن عبد الرحمن الساجي في كتاب أحكام القرآن له قال حدثنا عبد الواحد بن غياث قال حدثنا أشعث بن براز قال
215

جاء رجل إلى الحسن فقال إني رجل من أهل البادية وإنه يبعث علينا عمال يصدقوننا ويظلموننا ويعتدون علينا ويقومون الشاة بعشرة وقيمتها ثلاثة ويقومون الفريضة مائة وثمنها ثلاثون فقال الحسن إن الصدقة لا تؤخذ إلا عفوا ولا تزاد إلا عفوا من أداها سعد بها ومن بخل بها شقي إن القوم والله لو أخذوها منكم ووضعوها في حقها وفي أهلها ما بالوا كثيرا أديتم أو قليلا ولكنهم حكموا لأنفسهم وأخذوا لها قاتلهم الله أنا يؤفكون يا سبحان الله ما لقيت هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم من منافق قهرهم واستأثر عليهم
562 - مالك عن زيد بن أسلم أنه قال شرب عمر بن الخطاب لبنا فأعجبه فسأل الذي سقاه من أين هذا فأخبره أنه ورد على ماء قد سماه فإذا نعم من نعم الصدقة وهم يسقون فحلبوا لي من ألبانها فجعلته في سقائي فهو هذا فأدخل عمر بن الخطاب يده فاستقاءه
قال أبو عمر محملة عند أهل العلم أن الذي سقاه اللبن لما لم يكن من ماله وعلم أنه كان من مال الصدقة وكان عمر غنيا لا تحل الصدقة له وكان الذي سقاه إياه لم يملك اللبن ولم يكن من الذي يحل له الصدقة فاستقاءه ولم يبق في جوفه شيئا لا يحل له وهو قادر على دفعه ولم يقدر على أكثر من ذلك لأنه لم يكن كذلك اللبن ملك لمعين يعوضه منه أو يستحله
وهو شأن أهل الورع والفضل والدين على أنه لم يشربه إلا غير عامد ولا عالم
وقد قال الله عز وجل * (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم) * [الأحزاب 5]
ولكنه لما علم أن الأموال تضمن بالخطأ ولم يجد مالكا يستحله منه أو يعوضه ولا كان ساقيه له ممن يصح له ملك الصدقة فيعد ذلك اللبن هدية منه له - كما عد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أهدت إليه بريرة من اللحم الذي تصدق به عليها فحل ذلك له لصحة ملك بريرة لما تصدق به عليها - لم يجد بدا من استقاءته (رضي الله عنه)
ومع هذا كله فلعله قد أعطى مثل ما حصل في جوفه من اللبن أو قيمته للمساكين فهذا أشبه وأولى به إن شاء الله
قال مالك الأمر عندنا أن كل من منع فريضة من فرائض الله عز وجل فلم
216

يستطع المسلمون أخذها كان حقا عليهم جهاده حتى يأخذوها منه
قال أبو عمر لا خلاف بين العلماء أن للإمام المطالبة بالزكاة وأن من أقر بوجوبها عليه أو قامت عليه بها بينة كان للإمام أخذها منه
وعلى هذا يجب على من امتنع من أدائها ونصب الحرب دونها أن يقاتل مع الإمام فإن أتى القتال على نفسه فدمه هدر ويؤخذ منه ماله وقد أجمعوا في الرجل يقضي عليه القاضي بحق لآخر فيمتنع من أدائه فواجب على القاضي أن يأخذه من ماله فإن نصب دونه الحرب قاتله حتى يأخذه منه وإن أتى القتال على نفسه فحق الله الذي أوجبه للمساكين أولى بذلك من حق الآدمي
وقول مالك (رحمه الله) عنده فيمن منع فريضة من فرائض الله (عز وجل) أن يجاهد إن لم يقدر على أخذها منه إلا بذلك هو معنى قول أبي بكر (رضي الله عنه) والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ولذلك رأى جماعة من أهل العلم قتل الممتنع من أداء الصلاة وقد أوضحنا ذلك في كتاب الصلاة
وقول أبي بكر فإن الزكاة حق المال تفسير لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بحقها وحسابهم على الله يقول إن الزكاة من حقها وبالله التوفيق
563 - مالك أنه بلغه أن عاملا لعمر بن عبد العزيز كتب إليه يذكر أن رجلا منع زكاة ماله فكتب إليه عمر أن دعه ولا تأخذ منه زكاة مع المسلمين قال فبلغ ذلك الرجل فاشتد عليه وأدى بعد ذلك زكاة ماله فكتب إليه عمر أن خذها منه
قال أبو عمر إن صح هذا عن عمر بن عبد العزيز فيحتمل - والله أعلم - أنه لم يعلم من الرجل إلا أنه أبى من دفعها إلى عامله دون منعها من أهلها وأنه لم يكن عنده ممن يمنع الزكاة أو تفرس فيه فراسة المؤمن أنه لا يخالف جماعة المسلمين ببلده الدافعين لها إلى الإمام فكان كما ظن
ولو صح عنده منعه للزكاة ما جاز له أن يتركها حتى يأخذها منه فهو حق للمساكين يلزمه القيام به لهم
وهذا الباب فيمن منع الزكاة مقرى بها
وأما من منعها جاحدا لها فهي ردة بإجماع ويأتي القول في المرتد في بابه إن
217

شاء الله وقد مضى في كتاب الصلاة ما فيه شفاء في هذا المعنى
وليس من منع الزكاة كمن أبى من عمل الصلاة إذا
حدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن قال حدثنا محمد بن القاسم بن شعبان قال حدثنا علي بن سعيد قال حدثنا أبو رجاء سعيد بن حفص البخاري قال حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال حدثنا حماد بن زيد قال حدثنا عمر بن مالك النكري عن أبي الجوزاء عن بن عباس - قال حماد ولا أظنه إلا رفعه - قال عد الإسلام - أو قال عد الدين - وقواعده التي بني الإسلام عليها من ترك منهن واحدة فهو حلال الدم شهادة أن لا إله إلا الله والصلاة وصوم رمضان
ثم قال بن عباس تجده كثير المال ولا يزكي فلا يكون بذلك كافرا ولا يحل دمه وتجده كثير المال ولا يحج فلا تراه بذلك كافرا ولا يحل دمه
((19 - باب زكاة ما يخرص من ثمار النخيل والأعناب))
564 - ذكر فيه مالك (رحمه الله) عن الثقة عنده عن سليمان بن يسار وعن بسر بن سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما سقت السماء (1) والعيون (2)
والبعل (3) العشر وفيما سقي بالنضح (4) نصف العشر
قال أبو عمر هذا الحديث وإن كان في الموطأ منقطعا وبلاغا فإنه يتصل من وجوه صحاح ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث بن عمر وجابر ومعاذ وأنس وقد ذكرتها عنهم في التمهيد
قال يحيى بن آدم (البعل) ما كان من الكروم والنخل قد ذهبت عروقه في الأرض إلى الماء ولا يحتاج إلى السقي الخمس سنين والست يحتمل ترك السقي
قال و (العثري) ما يزرع على السحاب ويقال له أيضا العثير لأنه لا يسقى إلا بالمطر خاصة وفيه جاء الحديث ما سقي عثريا أو غيلا
218

قال والغيل سيل دون السيل الكثير
قال بن السكيت الماء الجاري على الكرم والغرب الدلو ومنه الحديث فيما سقي بالغرب والنضح
وقال النضر بن شميل (البعل) ماء المطر ثم ذكر نحو قول يحيى بن آدم
وقال أبو عبيد وغيره (البعل) ما شرب بعروقه من الأرض من غير سقي سماء ولا غيرها
وفيه يقول النابغة
(من الواردات الماء بالقاع تستقي
* بأعجازها قبل استقاء الحناجر) (1)
فإذا سقته السماء فهو عذي
قال عبد الله بن رواحة
(هنالك لا أبالي طلع بعل
* ولا نخل أسافلها رواء) (2)
وما سقته العيون والأنهار فهو سيح وغيل والعذي هو العثري وهذا ينصرف على ثلاثة أوجه بعل وغيل وسقي
وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما سقت السماء والعيون والبعل العشر
فما سقته السماء عيون وعثري وما سقت الأنهار والعيون غيل وسيح وسقي والبعل ما شرب بعروقه من ثراء الأرض والنضح ما سقي بالسواقي والدلو والدالية ما كان نضحا فمؤنته أشد ولذلك كان فيه نصف العشر
وأجمع العلماء على القول بظاهره في المقدار المأخوذ من الشيء المزكى وذلك العشر في البعل كله من الحبوب وكذلك الثمار التي تجب فيها الزكاة عندهم كل على أصله وكذلك ما سقت العيون والأنهار لأن المؤنة قليلة وكذلك أيضا وردت السنة
219

وأما ما سقي بالسواقي والدوالي فنصف العشر فيما تجب فيها الزكاة عندهم كل أيضا على أصله وسنبين أصولهم فيما فيه الزكاة عندهم في هذا الباب إن شاء الله
واختلفوا في معنى آخر من هذا الحديث فقالت طائفة هذا الحديث يوجب العشر في كل ما زرعه الآدميون من الحبوب والبقول وكل ما أنبتته أشجارهم من الثمار كلها قليل ذلك وكثيره يؤخذ منه العشر أو نصف العشر على ما في هذا الحديث عند جذاذه وحصاده وقطافه كما قال الله تعالى " وآتوا حقه يوم حصاده " [الأنعام 141] وذلك العشر أو نصف العشر
وممن ذهب إلى هذا حماد بن سليمان ذكر ذلك عنه شعبة وأبو حنيفة
وإليه ذهب أبو حنيفة وزفر في قليل ما تخرجه الأرض أو كثيره إلا الحطب والقصب والحشيش
وقال أبو يوسف ومحمد لا شيء فيما تخرجه الأرض إلا ما كان له ثمرة باقية ثم تجب فيما يبلغ خمسة أوسق ولا تجب فيما دونها
وذكر عبد الرزاق عن معمر عن سماك بن الفضل قال كتب عمر بن عبد العزيز أن يؤخذ مما تنبت الأرض من قليل أو كثير العشر
واعتبر مالك والثوري وبن أبي ليلى والليث والشافعي وأحمد وإسحاق خمسة أوسق
وقال مالك الحبوب التي فيها الزكاة الحنطة والشعير والسلت والذرة والدخن والأرز والحمص والعدس والجلبان واللوبيا والجلجلان وما أشبه ذلك من الحبوب التي تصير طعاما تؤخذ منها الصدقة بعد أن تحصد وتصير حبا
قال وفي الزيتون الزكاة
وقال الأوزاعي مضت السنة في الزكاة في التمر والعنب والشعير والسلت والزيتون فيما سقت السماء والأنهار أو كان بعلا العشر وفيما سقي بالرشاء والناضح نصف العشر
وقال الثوري وبن أبي ليلى ليس في شيء من الزروع والثمار زكاة إلا التمر والزبيب والحنطة والشعير
وهو قول الحسن بن حي
وقال الشافعي إنما تجب الزكاة فيما ييبس ويدخر ويقتات مأكولا ولا شيء في الزيتون لأنه إدام
220

وقال أبو ثور مثله
وقال أبو داود أما ما يوسق ويجري فيه الكيل فيعتبر فيه خمسة أوسق ولا زكاة فيما دونها وأما ما لا يوسق ففي قليله وكثيره العشر أو نصف العشر
565 - مالك عن زياد بن سعد عن بن شهاب أنه قال لا يؤخذ في صدقة النخل الجعرور (1) ولا مصران الفارة (2) ولا عذق (3) بن حبيق (4) قال وهو يعد على صاحب المال ولا يؤخذ منه في الصدقة
قال مالك ومثل ذلك مثل الغنم تعد بسخالها ولا يؤخذ السخل في الصدقة
وهذا الحديث ذكره بن وهب في موطئه فقال حدثني عبد الجليل بن حميد عن بن شهاب قال أخبرني أبو أمامة بن سهل بن حنيف في هذه الآية * (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) * [البقرة 267] قال الجعرور ولون الحبيق
قال وكان ناس يتيممون شر غلاتهم فيخرجونها في الصدقة فنهوا عن لونين الجعرور ولون الحبيق
قال ونزلت * (ولا تيمموا) * [البقرة 267]
قال أبو عمر قد أسنده عن بن شهاب سليمان بن كثير وسفيان بن حسين فروياه عن بن شهاب عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
حدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا إسحاق قال حدثنا أبو الوليد الطيالسي قال حدثنا سليمان بن كثير عن الزهري عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لونين الجعرور ولون الحبيق (5) وذكر تمام الخبر في معنى قول بن شهاب في الجعرور ولون الحبيق
وقال سليمان بن كثير في حديثه وفيه نزلت * (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) * [البقرة
221

وقال الحسن كان الرجل يتصدق برذالة ماله فنزلت هذه الآية
وروي هذا المعنى عن جماعة من أهل العلم بتأويل القرآن وأجل من روي عنه ذلك البراء بن عازب
قال أبو عمر هذا باب مجتمع عليه أنه لا يؤخذ هذان النوعان في الصدقة للتمر عن غيرهما فإن لم يكن معهما غيرهما أخذ منهما وكذلك الدني كله لا يؤخذ منه إذا كان معه غيره لأنه حينئذ يتيمم الخبيث إذا أخرج عن غيره فإن كان الثمر نوعين رديئا وجيدا أخذ من كل بحسابه ولم يؤخذ من الرديء عن الجيد ولا من الجيد عن الرديء
وهذا كله معنى قول مالك والشافعي والكوفي وإن كان التمر أصنافا أخذ من الوسط
قال مالك الأمر المجتمع عليه عندنا أنه لا يخرص (1) من الثمار إلا النخيل والأعناب فإن ذلك يخرص حين يبدو صلاحه ويحل بيعه وذلك أن ثمر النخيل والأعناب يؤكل رطبا وعنبا فيخرص على أهله للتوسعة على الناس ولئلا يكون على أحد في ذلك ضيق فيخرص ذلك عليهم ثم يخلى بينهم وبينه يأكلونه كيف شاؤوا ثم يؤدون منه الزكاة على ما خرص عليهم
وقال الشافعي في ذلك كقول مالك سواء في الكتاب المصري وقال بالقران يخرص الكرم والنخل فالحب والزيتون قياسا على النخل والعنب واتباعا لأنا وجدنا عليه الناس
قلنا ولم يختلف مالك والشافعي وغيرهما في أن الحبوب كلها لا يخرص شيء منها وإنما اختلفا في الزيتون فمالك يرى الزكاة فيه من غير خرص (على ما يأتي في الباب بعد هذا إن شاء الله)
وقال الثوري وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد الخرص باطل ليس بشيء وعلى رب المال أن يؤدي عشره زاد أو نقص
قال أبو عمر جمهور العلماء على أن الخرص للزكاة في النخل والعنب معمول به سنة معمولة ولم يختلفوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرسل عبد الله بن رواحة وغيره إلى خيبر وغيرها يخرص الثمار والقول بأن ذلك منسوخ بالمداينة شذوذ
222

وكذلك شذ داود فقال لا يخرص إلا النخل خاصة ودفع حديث سعيد بن المسيب عن عتاب بن أسيد وقال إنه منقطع لن يسمع منه ولا يأتي خرص العنب إلا في حديث عتاب المذكور
وقال الليث لا يخرص إلا التمر والعنب وأهله أمناء على ما رفعوا إلا أن يهتموا فينصب للسلطان أمينا
وقال محمد بن الحسن فيما روى عنه أصحاب الإملاء يخرص الرطب تمرا أو العنب زبيبا فإذا بلغ خمسة أوسق أخذ منهم العشر أو نصف العشر وإن لم يبلغ خمسة أوسق في الخرص لم يؤخذ منه شيء
فأما قول مالك أما الحبوب لا تخرص فهو ما لا خلاف فيه بين العلماء وإنما اختلفوا فيما وصفنا
وأما قوله في الجائحة أن الناس أمناء فيما يدعون منها فهذا لا خلاف فيها إلا أن يتبين كذب من يدعي ذلك فإن لم يبن كذبه وأوهم أحلف
وأما ما يأكله الرجل من ثمره وزرعه قبل الحصاد والجذاذ والقطاف فقد اختلف العلماء هل يحسب ذلك عليه أم لا فقال مالك والثوري وأبو حنيفة وزفر يحسب عليه
وقال أبو يوسف ومحمد إذا أكل صاحب الأرض وأطعم جاره وصديقه أخذ منه عشر ما بقي من الخمسة الأوسق التي فيها الزكاة ولا يؤخذ مما أكل وأطعم ولو أكل الخمسة الأوسق لم يجب عليه عشر فإن بقي منها قليل أو كثير فعليه نصف ما بقي أو نصف العشر
وقال الليث في زكاة الحبوب يبدأ بها قبل النفقة وما أكل كذلك هو وأهله فلا يحسب عليه بمنزلة الرطب الذي ترك لأهل الحائط يأكلونه ولا يخرص عليهم
وقال الشافعي يترك الخارص لرب الحائط ما يأكله هو وأهله رطبا لا يخرصه عليهم وما أكله وهو رطب لم يحسب عليه
قال أبو عمر احتج الشافعي ومن وافقه بقول الله تعالى " كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده " [الأنعام 141] واستدلوا على أنه لا يحسب المأكول قبل الحصاد بهذه الآية
223

واحتجوا بقوله عليه السلام إذا خرصتم فدعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع (1)
قال أبو عمر روى شعبة عن حبيب بن عبد الرحمن قال سمعت عبد الرحمن بن مسعود بن نيار يقول جاء سهل بن أبي حثمة إلى مسجدنا فحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع (2)
ومن حديث بن لهيعة وغيره عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال خففوا في الخرص فإن في المال العرية (3) والواطئة (3) والأكلة (5) والوصية والعامل والنوائب
وروى الثوري عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار قال كان عمر بن الخطاب يأمر الخراص أن إخرصوا وارفعوا عنهم قدر ما يأكلون
ولم يعرف مالك قدر هذه الآثار
ومن الحجة له ما روى سهل بن أبي حثمة أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا حثمة خارصا فجاء رجل فقال يا رسول الله إن أبا حثمة قد زاد علي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن بن عمك يزعم أنك زدت عليه فقال يا رسول الله لقد تركت له قدر عرية أهله وما تطعمه المساكين وما تسقط الريح فقال قد زادك بن عمك وأنصفك
فاحتج الطحاوي لأبي حنيفة ومالك فإن قال في هذا الحديث إنما ترك الذي ترك للعرايا والعرايا صدقة فمن هنا لم تجب فيها صدقة وهذا تعنيد من القول وظاهر الحديث بخلافه على أن مالكا يرى الصدقة في العرية إذا أعراها صاحبها قبل أن يطيب أول تمرها على المعري فإن عراها بعد فهي على المعرا إذا بلغت خمسة أوسق
وأما ما احتج به الشافعي من قوله عز وجل " كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده " [الأنعام 141] واستدل بأن المأكول أخضر لا يراعى في الزكاة
224

بهذه الآية فقد يحتمل عند مخالفة أن يكون معنى الآية آتوا حق جميع المأكول والباقي والظاهر مع الشافعي والآثار
وأما الخبر في الخرص لإحصاء الزكاة والتوسعة على الناس في أكل ما يحتاجون إليه من رطبهم وعنبهم فذكر
عبد الرزاق (1) عن بن جريج عن بن شهاب عن عروة عن عائشة أنها قالت (وذكرت شأن خيبر) فكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة إلى اليهود فيخرص النخل حين يطيب أول التمر قبل أن يؤكل منه ثم يخير اليهود بأن يأخذوها بذاك الخرص أو يدفعونها إليهم بذلك وإنما كان أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالخرص لكي تحصى الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتفترق
قال أبو عمر يقال إن قوله في هذا الحديث وإنما كان أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالخرص لكي تحصى إلى آخره من قول بن شهاب وقيل من قول عروة وقيل من قول عائشة
ولا خلاف في ذلك بين العلماء القائلين بالخرص لإحصاء الزكاة وكذلك لا خلاف بينهم أن الخرص على هذا الحديث في أول ما يطيب التمر ويزهى بحمرة أو صفرة وكذلك العنب إذا جرى فيه الماء وطاب أكله
((20 - باب زكاة الحبوب والزيتون))
أما الحبوب فقد تقدم في الباب قبل هذا مذاهب العلماء فيها وسنزيد ذلك بيانا عنهم في هذا الباب إن شاء الله
وأما الزيتون فذكر
566 - مالك أنه سأل بن شهاب عن الزيتون فقال فيه العشر
قال مالك وإنما يؤخذ من الزيتون العشر بعد أن يعصر ويبلغ زيتونه خمسة أوسق فما لم يبلغ خمسة أوسق فلا زكاة فيه والزيتون بمنزلة النخيل ما كان منه سقته السماء والعيون أو كان بعلا ففيه العشر وما كان يسقى بالنضح ففيه نصف العشر ولا يخرص شيء من الزيتون في شجره
قال أبو عمر هذا قوله في موطئه أن الزيتون لا يخرص ولا يخرص من الثمار
225

غير النخل والعنب ولا يخرص شيء من الحبوب ولم يختلف عنده شيء من ذلك إلا رواية شاذة في خرص الزيتون
وهو قول الشافعي ببغداد قال يخرص النخل والعنب بالخير ويخرص الزيتون قياسا على النخل والعنب
وقال في الكتاب المصري لا زكاة في الزيتون لأنه إدام ليس بقوت
وهو قول أبي ثور وأبي يوسف ومحمد
وأما أبو حنيفة فيرى أن الزيتون والرمان وغير ذلك من الثمار على ظاهر [قوله] عز وجل * (وهو الذي أنشأ جنات معروشات) * إلى آخر الآية [الأنعام 141]
قال أبو عمر القول في خرص العنب ما حدثناه عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أبو العباس الكديمي
وأخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قالا جميعا حدثنا عبد العزيز بن السري الحافظ قال حدثنا بشر بن منصور عن عبد العزيز بن إسحاق عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن عتاب بن أسيد قال أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أخرص العنب وآخذ زكاته زبيبا كما تؤخذ زكاة النخل تمرا
وقال الأوزاعي مضت الزكاة في التمر أن الزكاة في العنب والزيتون فيما سقت السماء والأنهار فذكر معنى قول مالك سواء
وقال الثوري لا زكاة في غير النخل والعنب من الثمار ولا في غير الحنطة والشعير من الحبوب
وذكر عنه بن المنذر الزكاة في الزيتون فوهم عليه
وكذلك أخطأ في ذلك أيضا على أبي ثور
وفي الموطأ وسئل مالك متى يخرج من الزيتون العشر أو نصفه أقبل النفقة أم بعدها فقال لا ينظر إلى النفقة ولكن يسأل عنه أهله كما يسأل أهل الطعام عن الطعام ويصدقون بما قالوا فمن رفع من زيتونه خمسة أوسق فصاعدا أخذ من زيته العشر بعد أن يعصر ومن لم يرفع من زيتونه خمسة أوسق لم تجب عليه في زيته الزكاة
وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم تؤخذ زكاة الزيتون من حبه إذا بلغ خمسة أوسق
226

وهو قول الشافعي ببغداد
قيل لمحمد إن مالكا يقول إنما تؤخذ زكاته من زيته فقال ما اجتمع الباب على حبه فكيف على زيته
قال أبو عمر من أوجب الزكاة على الزيتون فإنما قاله قياسا على النخل والعنب المجتمع على الزكاة فيهما
والقائلون في الزيتون بالزكاة بن شهاب الزهري ومالك والأوزاعي والليث بن سعد وهو أحد قولي الشافعي
وقياس الزيتون على النخل والعنب غير صحيح عندي والله أعلم لأن التمر والزبيب قوت والزيتون إدام
وقال مالك في الموطأ والسنة عندنا في الحبوب التي يدخرها الناس ويأكلونها أنه يؤخذ مما سقته السماء من ذلك وما سقته العيون وما كان بعلا العشر وما سقي بالنضح نصف العشر إذا بلغ ذلك خمسة أوسق بالصاع الأول صاع النبي صلى الله عليه وسلم وما زاد على خمسة أوسق ففيه الزكاة بحساب ذلك
قال مالك والحبوب التي فيها الزكاة الحنطة والشعير والسلت (1) والذرة والدخن والأرز والعدس والجلبان (2) واللوبيا والجلجلان (3) وما أشبه ذلك من الحبوب التي تصير طعاما فالزكاة تؤخذ منها بعد أن تحصد وتصير حبا
قال والناس مصدقون في ذلك ويقبل منهم في ذلك ما دفعوا
قال أبو عمر لا خلاف بين العلماء فيما علمت أن الزكاة واجبة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب
وقالت طائفة لا زكاة في غيرها
روي ذلك عن الحسن وبن سيرين والشعبي وقال به من الكوفيين بن أبي ليلى وسفيان الثوري والحسن بن صالح وبن المبارك ويحيى بن آدم وإليه ذهب أبو عبيد
وحجة من ذهب هذا المذهب ما رواه وكيع عن طلحة بن يحيى عن أبي بردة
227

عن أبي موسى أنه كان لا يأخذ الزكاة إلا من الحنطة والشعير والتمر والزبيب
ومثل هذا يبعد أن يكون رأيا منه وقد روي ذلك عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا
وأما الشافعي فقوله في زكاة الحبوب كقول مالك إلا أنها عنده أصناف يعتبر النصاب في كل واحد منها ولا يضم شيئا منها إلى غيره قطنية كانت أو غيرها
وهو قول أبي ثور
وستأتي مسألة ضم الحبوب في الزكاة من القطنية وغيرها في موضعها إن شاء الله
واختلف عن أحمد بن حنبل فروي عنه نحو قول أبي عبيد وروي عنه مثل قول الشافعي
وهو قول إسحاق
والحجة لمن ذهب مذهبهما القياس على ما اجتمعوا عليه في الحنطة والشعير لأنه ييبس ويؤخذ قوتا
قال الشافعي كل ما يزرع الآدميون وييبس ويدخر ثم يقتات مأكولا خبزا وسويقا وطبيخا ففيه الصدقة
قال والقول في كل صنف جمع منه رديئا وجيدا انه يعتد بالجيد مع الرديء كما يعتد بذلك في التمر ويؤخذ من كل صنف بقدره
والعلس عنده ضرب من الحنطة
قال فإن أخرجت من أكمامها اعتبر فيها خمسة أوسق وإلا فإذا بلغت عشرة أوسق أخذت صدقتها لأنها حينئذ خمسة أوسق
وقال فخير أهلها في ذلك فأبى ذلك اختاروا وأحملوا عليه
ثم قال يسأل عن العلس أهل الحنطة والعلس
وقال لا يؤخذ زكاة شيء منه ولا من غيره في سبيله
قال ويضم العلس إلى الحنطة إلى أن يخرج من أكمامه
وقال إسحاق كل حب يقتات وييبس ويدخر ففيه الصدقة
وقال الليث كل ما يقتات ففيه الصدقة
وعن الأوزاعي قال الصدقة من الثمار في التمر والعنب والزيتون ومن الحبوب في الحنطة والشعير والسلت
228

وروي عنه مثل قول مالك
واختلف العلماء في ضم الحبوب بعضها إلى بعض في الزكاة فمذهب مالك أنه تجمع الحنطة والشعير والسلت
بعضها إلى بعض يكمل النصاب في بعضها من بعض وكذلك القطنية كلها صنف واحد يضم بعضها إلى بعض في الزكاة
وقال الشافعي لا تضم حبة عرفت باسم وهي في دون صاحبتها وهي خلافها ثابتة في الخلقة والطعم إلى غيرها ويضم كل صنف بعضه إلى بعض ردي إلى صنفه كالتمر إلى غيره والزبيب أسوده وأحمره والحنطة أنواعها من السمراء وغيرها
وقال الثوري وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور مثل قول الشافعي
وقال الليث تضم الحبوب كلها القطنية وغيرها بعضها إلى بعض في الزكاة
وكان أحمد بن حنبل ينهى عن ضم الذهب إلى الورق وضم الحبوب بعضها إلى بعض ثم كان في آخر عمره يقول فيها بقول الشافعي
قال مالك ومن باع زرعه وقد صلح ويبس في أكمامه فعليه زكاته وليس على الذي اشتراه زكاة ولا يصلح بيع الزرع حتى ييبس في أكمامه ويستغني عن الماء
قال مالك ومن باع أصل حائطه أو أرضه وفي ذلك زرع أو ثمر لم يبد صلاحه فزكاة ذلك على المبتاع وإن كان قد طاب وحل بيعه فزكاة ذلك على البائع إلا أن يشترطها على المبتاع
وقال مالك في غير الموطأ ليحيى فيمن هلك وخلف زرعا فورثه ورثته إن كان الزرع قد يبس فالزكاة عليه إن كان فيه خمسة أوسق وإن كان الزرع يوم مات أخضر فإن الزكاة عليهم إن كان في حصة كل إنسان منهم خمسة أوسق وإلا فلا زكاة عليهم
وحجة مالك في ذلك كله أن المراعاة في الزكاة إنما تجب بطيب أولها فقد باع ماله وحصة المساكين عنده معه فيحيل على أنه ضمن ذلك لهم ويلزمه هذا وجه النظر فيه
وقال الأوزاعي في الرجل يبيع إبله أو غنمه بعد وجوب الزكاة فيها قال يقبض المصدق صدقتها ممن وجدها عنده وسع المبتاع البائع بالزكاة
وقال الشافعي إذا باع قبل أن تطيب الثمرة فالبيع جائر والزكاة على المشتري
229

وإن باع بعد ما طابت الثمرة فالزكاة على البائع والبيع مفسوخ إلا أن يبيع تسعة أعشار الثمرة إن كانت تسقى بعين أو كانت بعلا وتسعة أعشارها ونصف عشرها إن كانت تسقى بغرب
وهو قول أبي ثور
وقال أبو حنيفة وأصحابه المشتري بالخيار في إنفاذ البيع ورده والعشر مأخوذ من الثمرة من يد المشتري ويرجع المشترى على البائع بقدر ذلك هذا إذا باعه بعد طيبه
قال أبو حنيفة من باع زرعه فضلا ففضله المشتري فالعشر على البائع وإن تركه المشتري حتى صار حبا فهو على المشتري
وذكر بن سماعة عن محمد بن الحسن قال إذا كان الذي باع ذلك لو تركه بلغ خمسة أوسق فعليه العشر إذا باعه وإن لم يبلغها فلا عشر فيه
قال الشافعي إذا قطع التمر قبل أن يحل بيعه لم يكن فيه عشر
وأما قوله لا يصلح بيع الزرع حتى ييبس في أكمامه ويستغني عن الماء فأكثر العلماء على إجازة بيع الزرع في سنبله إذا كان قائما قد يبس واستغنى عن الماء
وحجتهم في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحب حتى يشتد وعن بيع العنب حتى يسود
حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا الحسن بن علي الحلواني قال حدثنا أبو الوليد قال حدثنا حماد بن سلمة عن حميد عن أنس
أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العنب حتى يسود وعن بيع الحب حتى يشتد (1)
وقال الشافعي لا يجوز بيعه حتى يدرس ويصفى
وكذلك عند الشافعي إذا كان قائما
ولأصحابه في رفع هذا الحديث كلام سيأتي في البيوع إن شاء الله
وقد روى الربيع عن الشافعي أنه رجع إلى الحديث بالقول المذكور وأجاز البيع في الحب إذا يبس قائما والأشهر المعروف من مذهبه أنه لا يجوز بيع الحب حتى يصفى من تبنه ويمكن النظر إليه
230

وحجته أن حديث انس مضموم إليه النهي عن بيع الغرر والمجهول وما لا يتأمل وينظر إليه فدليل النهي عن الملامسة والمنابذة وكل ما لا ينظر إليه ولا يتأمل ولا يستبان فهو من بيوع الأعيان دون السلم الموصوف
ومن حجته في رد ظاهر حديث أنس هذا حتى يضم إليه وصفنا قول الله تعالى في المطلقة المبتوتة * (حتى تنكح زوجا غيره) * [البقرة 230] وقوله صلى الله عليه وسلم لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض ومعلوم أن المبتوتة لا تحل بنكاح الزوج حتى ينضم إلى ذلك طلاقة والخروج من عدتها وكذلك الحامل والحائض لا توطأ واحدة منهن حتى ينضم إلى الحيض والنفاس الطهر فكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحب حتى يشتد - يعني ويصير حبا مصفى ينظروا إليه وبالله التوفيق
قال مالك في قول الله تبارك وتعالى " وآتوا حقه يوم حصاده " [الأنعام 141] أن ذلك الزكاة والله أعلم وقد سمعت من يقول ذلك
قال أبو عمر اختلف العلماء في تأويل هذه الآية فقالت طائفة هو الزكاة
وممن روي ذلك عنه بن عباس ومحمد بن الحنفية وزيد بن أسلم والحسن البصري وسعيد بن المسيب وطاوس وجابر بن زيد وقتادة والضحاك
وقال آخرون هو أن يعطى المساكين عند الحصاد والجذاذ مع غير ما تيسر من غير الزكاة
روي ذلك عن بن عمر وأبي جعفر محمد بن علي بن حنين وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير والربيع بن أنس
وقال النخعي والسدي الآية منسوخة بفرض العشر ونصف العشر
((21 - باب ما لا زكاة فيه من الثمار))
567 - ذكر في هذا الباب معنى ضم الحبوب بعضها إلى بعض من القطنية وغيرها وفسر ذلك واحتج له بما أغنى عن ذكره ها هنا
فمن ذلك أنه قد فرق عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) بين القطنية والحنطة فيما
231

أخذ من النبط ورأى أن القطنية صنف واحد فأخذ منها العشر وأخذ من الحنطة والزبيب نصف العشر
قال أبو عمر هذا ما فيه حجة على من جعل القطاني أصنافا مختلفة ولم يضمها وحجتهم أيضا على من جمع بين القطنية والحنطة وهو الليث ومن قال بقوله
وأما من فرق بينهما فلا حجة عليه بهذا
وقد تقدم ذكر القائلين بذلك كله في الباب قبل هذا على أنه لا حجة في ذلك على المخالف لأن عمر لو أخذ من الجميع العشر أو من الجميع نصف العشر لم يكن ذلك حجة على من ضم الأجناس والأنواع من الحبوب وغيرها ولا على من لم يضمها وإنما الحجة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة
وقد أجمعوا أنه لا يجمع تمر إلى زبيب فصار أصلا يقاس عليه ما سواه وبالله التوفيق
وقد تقدم القول في ضم الحبوب بعضها إلى بعض وما للعلماء في ذلك من التنازع في الباب قبل هذا
وأما قوله في الشريكين في النخل والزرع واعتباره في ملك كل واحد منهما نصابا وأنه لا تجب الزكاة على من لم تبلغ حصته منهما خمسة أوسق وأن من بلغت حصته خمسة أوسق فعليه الزكاة دون صاحبه الذي لم تبلغ حصته خمسة أوسق فهو قول أكثر أهل المدينة وبه قال الكوفيون وأبو ثور وأحمد على اختلاف عنه
وقال الشافعي الشريكان في الذهب والورق والزرع والماشية يزكيان زكاة الواحد فإذا كان لهما خمسة أوسق وجبت عليهما الزكاة في النخل والعنب والحبوب والماشية وله في الذهب والفضة قولان أحدهما هذا وهو الأشهر عنه والآخر اعتداد النصاب لكل واحد منهما
واحتج بأن السلف كانوا يأخذون الزكاة من الحوائط الموقوفة على الجماعة وليس في حصة واحد منهما ما تجب فيه الزكاة فالشركاء عنده أولى بهذا المعنى من الخلطاء في الماشية وقد ورد في السنة من الخلطاء في الماشية ما قد تقدم ذكره في باب الماشية
والحجة لمالك (رحمه الله) ومن وافقه قوله (عليه السلام) ليس فيما دون
232

خمس أواق من الورق صدقة وليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة ولا فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة
وهو أصح ما قيل في هذا الباب والله الموفق للصواب
وأما قول مالك في هذا الباب السنة عندنا أن كل ما أخرجت زكاته من الحبوب كلها والتمر والزبيب أنه لا زكاة في شيء منه بمرور الحول عليه ولا في ثمنه إذا بيع حتى يحول عليه الحول كسائر العروض إلا أن يكون ذلك للتجارة
هذا معنى قوله دون لفظه أمر مجتمع عليه لا خلاف بين العلماء فيه
وقد تقدم القول في حكم العروض للتجارة وحكم الإدارة فيما تقدم من هذا الكتاب
((22 - باب ما لا زكاة فيه من الفواكه والقضب (2) والبقول))
قال مالك السنة التي لا اختلاف فيها عندنا والذي سمعت من أهل العلم انه ليس في شيء من الفواكه كلها صدقة الرمان والفرسك والتين وما أشبه ذلك وما لم يشبهه إذا كان من الفواكه
قال ولا في القضب ولا في البقول كلها صدقة ولا في أثمانها إذا بيعت صدقة حتى يحول على أثمانها الحول من يوم بيعها ويقبض صاحبها ثمنها
قال أبو عمر لا أعلم خلافا بين أهل المدينة أنه ليس في البقول صدقة على ما قال مالك (رحمه الله)
وأما أهل الكوفة فإنهم يوجبون فيها الزكاة على ما قد مضى ذكره عنهم
واحتج بعض أتباعهم لهم بحديث صالح بن موسى عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أنبتت الأرض من الخضر الزكاة
وهذا حديث لم يروه من ثقات أصحاب منصور واحد هكذا وإنما هو من قول إبراهيم
وقد روي عن نافع صاحب مالك قال حدثني إسحاق بن يحيى بن طلحة عن عمه موسى بن طلحة عن معاذ بن جبل
233

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما سقت السماء والبعل والسيل العشر وفيما سقي بالنضح نصف العشر
يكون ذلك في التمر والحنطة والحبوب فأما القثاء والبطيخ والرمان والقضب والخضر فعفو عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهذا حديث أيضا لا يحتج بمثله وإنما أصل هذا الحديث ما رواه الثوري عن عثمان بن عبد الله بن موهب عن موسى بن طلحة أن معاذا لم يأخذ من الخضر صدقة
وموسى بن طلحة لم يلق معاذا ولا أدركه ولكنه من الثقات الذين يجوز الاحتجاج بما يرسلونه عند مالك وأصحابه وعند الكوفيين أيضا
قال أبو عمر ليس الزيتون عندهم من هذا الباب وأدخل التين في هذا الباب وأظنه والله أعلم بأنه ييبس ويدخر ويقتات ولو علم ذلك ما أدخله في هذا الباب لأنه أشبه بالتمر والزبيب منه بالرمان والفرسك (وهو الخوخ)
ولا خلاف عن أصحابه أنه لا زكاة في اللوز ولا الجوز وما كان مثلهما وإن كان ذلك يدخر كما أن لا زكاة عندهم في الانماص ولا في التفاح ولا الكمثري ولا ما كان مثل ذلك كله مما لا ييبس ولا يدخر
واختلفوا في التين فالأشهر عند أهل المغرب ممن يذهب مذهب مالك أنه لا زكاة عندهم في التين إلا عبد الله بن حبيب فإنه كان يرى فيه الزكاة على مذهب مالك قياسا على التمر والزبيب
وإلى هذا ذهب جماعة من البغداديين المالكيين إسماعيل بن إسحاق ومن اتبعه
وقد بلغني عن الأبهري وجماعة من أصحابه أنهم كانوا يفتون به ويرونه مذهب مالك على أصوله عندهم
والتين مكيل يراعى فيه الأوسق الخمسة وما كان مثلها وزنا ويحكم في التين عندهم بحكم التمر والزبيب المجتمع عليهما
وأما البقول والخضر والتوابل فلا زكاة في شيء منها عند مالك ولا عند أحد من أصحابه
وقال الأوزاعي الفواكه كلها لا تؤخذ الزكاة منها ولكن تؤخذ من أثمانها إذا بيعت بذهب أو فضة
234

وقال الشافعي لا زكاة في شيء مما تثمره الأشجار إلا النخل والعنب لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الصدقة منهما وكانا بالحجاز قوتا يدخر
قال وقد يدخر الجوز واللوز ولا زكاة فيهما لأنهما لم يكونا بالحجاز قوتا كما علمت وإنما كانا فاكهة
ولا زكاة في الفواكه ولا في البقول كلها ولا في الكرسف ولا القثاء والبطيخ لأنها فاكهة ولا في الرمان والفرسك ولا في شيء من الثمار غير التمر والعنب
قال والزيتون إدام مأكول بنفسه فلا زكاة فيه
قال أبو عمر هذا قوله بمصر وعليه أكثر أصحابه في الزيتون وله قول آخر قد ذكرناه عنه كان يقوله ببغداد قبل نزوله مصر
وقول أبي يوسف ومحمد وأبي ثور في هذا الباب كله مثل قول الشافعي المصري ويراعون فيما يرون فيه الزكاة خمسة أوسق في الحنطة والشعير والسلت والتمر والزبيب والأرز والسمسم وسائر الحبوب
وأما الخضر كلها والفواكه التي ليست لها ثمرة باقية كالبطيخ فإنه لا عشر فيها ولا نصف عشر وذلك بعد أن يرفع في أرض عشر دون أرض خراج
وكان محمد بن الحسن يرى الزكاة في القطر وفي الزعفران والورس والعصفر والكتان ويعتبر في العصفر والكتان البذر فإذا بلغ قدرهما من القرطم والكتان خمسة أوسق كان العصفر والكتان تبعا للبذر ما وجد العشر أو نصف العشر
وأما القطن فليس عنده في خمسة أحمال منه شيء والحمل ثلاثمائة من العراقي والورس والزعفران ليس فيما دون خمسة أمنان منهما شيء فإذا بلغ أحدهما خمسة أمنان كانت فيه الصدقة عشرا ونصف عشر
وقال أبو حنيفة الزكاة واجبة في الفواكه كلها الرمان والزيتون والفرسك وكل ثمرة وكذلك كل ما تخرج الأرض وتنبت من البقول والخضر كلها والثمار إلا القصب والحطب والحشيش
وحجته قول الله عز وجل " وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده " [الأنعام 141]
قال وحقه الزكاة
ومن حجته أيضا قوله صلى الله عليه وسلم فيما سقت السماء والبعل العشر الحديث
235

ولا يراعي أبو حنيفة إلا خمسة الأوسق من غير الحبوب والتمر والزبيب بل يرى في كل شيء عشرة حتى في عشر قبضان من البقل قبضة
وهو قول إبراهيم النخعي وحماد بن أبي سليمان
واختلفوا في العنب الذي لا يزبب والرطب الذي لا يتمر
وقال مالك في عنب مصر لا يتزبب ونخيل مصر لا يتمر وزيتون مصر لا يعصر ينظر إلى ما يرى أنه يبلغ خمسة أوسق وأكثر فيزكى ثمن ما باع من ذلك بذهب أو ورق وبلغ مائتي درهم أو عشرين دينارا أو لم يبلغ إذا بلغ خمسة أوسق
قال مالك وكذلك العنب الذي لا يخرص على أهله وإنما يبيعونه عنه كل يوم في السوق حتى يجتمع من ثمن ما باع من ذلك الشيء الكثير فإنه يخرج من ذلك العشر أو نضف العشر إذا كان فيه خمسة أوسق
وقال الشافعي إذا كان النخل يأكله أهله رطبا أو يطعمونه فإن كان خمسة أوسق وأكلوه أو أطعموه ضمنوا عشره أو نصف عشره من وسطه تمرا
قال فإن كان النخل لا يكون رطبه تمرا أحببت أن يعلم ذلك الوالي ليأمر من يبيع عشره رطبا فإن لم يفعل خرصه ثم صدق ربه بما بلغ رطبه وأخذ عشر الرطب ثمنا
((23 - باب صدقة الخيل والرقيق والعسل))
أجمع العلماء على أن لا زكاة على أحد في رقيقه إلا أن يكون اشتراهم للتجارة فإن اشتراهم للقنية فلا زكاة في شيء منهم
وقد مضى القول في زكاة العروض في موضعه من هذا الكتاب والحمد لله
568 - روى مالك عن عبد الله بن دينار عن سليمان بن يسار عن عراك بن مالك عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة
236

هكذا هذا الحديث لسليمان بن يسار عن عراك بن مالك لا خلاف في ذلك
وفي رواية عبيد الله بن يحيى عن أبيه عن مالك وهم وخطأ وهو خطأ غير مشكل لم يلتفت إليه في الرضاع ولا غيره لظهور الوهم فيه وذكر أنه قال فيه وعن عراك بن مالك فأدخل فيه الواو وقد فعل ذلك في حديث الرضاع فلم يلتفت أحد من أهل الفهم إلى ذلك
والحديث صحيح من نقل الأئمة الحفاظ عن عبد الله بن دينار عن سليمان بن يسار عن عراك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
وهكذا رواه الحفاظ الثوري وغيره كما رواه مالك
وقد زاد فيه بعض رواته إلا صدقة الفطر وستأتي زكاة الفطر عن العبيد في باب من تجب عليه زكاة الفطر إن شاء الله
569 - وأما حديث مالك عن بن شهاب عن سليمان بن يسار أن أهل الشام قالوا لأبي عبيدة بن الجراح خذ من خيلنا ورقيقنا صدقة فأبى ثم كلموه أيضا فكتب إلى عمر فكتب إليه عمر إن أحبوا فخذها منهم وارددها عليهم وارزق رقيقهم
ففي إباء إياه أبي عبيدة وعمر في الأخذ من أهل الشام ما ذكروا عن رقيقهم وخيلهم دلالة واضحة أنه لا زكاة في الرقيق ولا في الخيل ولو كانت الزكاة واجبة في ذلك ما امتنعا من أخذ ما أوجب الله عليهم أخذه لأهله ووضعه فيهم فلما ألحوا على أبي عبيدة في ذلك وألح أبو عبيدة على عمر استشار الناس في أمرها فرأى أن أخذها منهم عمل صالح له ولهم على ما شرط أن يردها عليهم يعني على فقرائهم
ومعنى قوله وارزق رقيقهم يعني الفقير منهم والله أعلم وقيل في معنى وارزق رقيقهم عبيدهم وإماءهم أي ارزقهم من بيت المال
واحتج قائلوا هذا القول بأن أبا بكر الصديق كان يقرض للسيد وعبده من الفيء وكان عمر يقرض للسيد وللعبد وسلك سبيلهما في ذلك الخليفة بعدهما
وهذا الحديث يعارض ما روي عن عمر في زكاة الخيل ولا أعلم أحدا من فقهاء الأمصار أوجب الزكاة في الخيل إلا أبا حنيفة فإنه أوجبها في الخيل السائمة
237

فقال إذا كانت ذكورا وإناثا ففيها الصدقة في كل فرس وإن شاء قومها وأعطى من كل مائتي درهم خمسة دراهم
وحجته ما يروى عن عمر في ذلك
ذكر عبد الرحمن عن بن جريج قال أخبرني عمرو بن دينار أن جبير بن يعلى أخبره أنه سمع بن يعلى بن أمية يقول ابتاع عبد الرحمن بن أمية أخو يعلى بن أمية من رجل من أهل اليمن فرسا أنثى بمائة قلوص فندم البائع فلحق بعمر فقال غصبني يعلى وأخوه فرسا لي فكتب عمر إلى يعلى أن الحق بي فأتاه فأخبره الخبر فقال عمر إن الخيل لتبلغ هذا عندكم فقال ما علمت فرسا قبل هذا بلغ هذا فقال عمر نأخذ من أربعين شاة شاة ولا نأخذ من الخيل شيئا خذ من كل فرس دينارا فضرب على الخيل دينارا دينارا
وحديث مالك المتقدم ذكره يرد هذا ويعارضه بسقط الحجة بهما
والحجة الثانية عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة (1)
ومن حجة أبي حنيفة أيضا ما رواه عبد الرزاق عن بن جريج قال أخبرني بن أبي حسين أن بن شهاب أخبره أن عثمان كان يصدق الخيل وأن السائب بن يزيد أخبره أنه كان يأتي عمر بن الخطاب بصدقة الخيل
قال بن شهاب لم أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سن صدقة الخيل
قال أبو عمر قد روى جويرية عن مالك فيه حديثا صحيحا ذكره الدارقطني عن أبي بكر الشافعي عن معاذ بن المثنى عن عبد الله بن محمد بن أسمى عن جويرية عن مالك عن الزهري أن السائب بن يزيد أخبره قال لقد رأيت أبي يقيم الخيل ثم يرفع صدقتها إلى عمر
وذكر إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا بن أخي جويرية قال حدثنا جويرية عن مالك عن الزهري أن السائب بن يزيد أخبره قال رأيت أبي يقيم الخيل ثم يرفع صدقتها إلى عمر
238

قال أبو عمر هذا يمكن أن يكون خاصا بالخيل لللتجارة والحجة قائمة لما قدمنا من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة
وحديث علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال قد عفوت عنكم عن صدقة الخيل والرقيق (1)
وقال علي وبن عمر لا صدقة في الخيل
وإذا كان الخلاف بين الصحابة في مسألة وكانت السنة في أحد القولين كانت الحجة فيه
على أن عمر قد اختلف عنه فيه ولم يختلف عن علي وبن عمر في ذلك
وهو قول سعيد بن المسيب
570 - ذكر مالك عن عبد الله بن دينار أنه قال سألت سعيد بن المسيب عن صدقة البراذين (2) فقال وهل في الخيل من صدقة
والدليل على ضعف قول أبي حنيفة فيها أنه يرى الزكاة في السائمة منها ثم يقوموها وليست هذه سنة زكاة الماشية السائمة
وقد جاء بعده صاحباه في ذلك أبو يوسف ومحمد فقالا لا زكاة في الخيل سائمة وغيرها
وهو قول مالك والثوري والأوزاعي والليث والشافعي وسائر العلماء
ومن حجة أبي حنيفة ومن رأى الصدقة في الخيل ما رواه بن عيينة عن الزهري عن السائب بن يزيد أن عمر أمر أن يؤخذ عن الفرس شاتان أو عشرون درهما
رواه الشافعي وغيره عنه
وأما العسل فالاختلاف في وجوب الزكاة فيه بالمدينة معلوم
239

ذكر إسماعيل بن إسحاق قال حدثني عبد الله بن محمد بن أسماء بن أخي جويرية بن أسماء قال حدثنا جويرية عن مالك عن الزهري أن صدقة العسل العشر وأن صدقة الزيت مثل ذلك
وممن قال بإيجاب الزكاة في العسل الأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه وهو قول ربيعة وبن شهاب ويحيى بن سعيد
إلا أن الكوفيين لا يرون فيه الزكاة إلا أن يكون في أرض العشر دون أرض الخراج
وروى بن وهب عن يونس عن بن شهاب أنه قال بلغني أن في العسل العشر
قال وهب وأخبرني عمر بن الحارث عن يحيى بن سعيد وربيعة بمثل ذلك
قال يحيى أنه سمع من أدرك يقول مضت السنة بأن في العسل العشر
وهو قول بن وهب
وأما مالك والثوري والحسن بن حي والشافعي فلا زكاة عندهم في شيء من العسل
وضعف أحمد بن حنبل الحديث المرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ منه العشر
قال أبو عمر هو حديث يرويه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه من عشر قرب قربة
ويروي أبو سيارة المتعي عن النبي صلى الله عليه وسلم معناه
فأما حديث عمرو بن شعيب فهو حديث حسن رواه بن وهب قال أخبرني أسامة بن زيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن فقراء من بني سيارة بطن من فهم كانوا يؤدون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحلهم من كل عشرة قرب قربة وجاء هلال - أحد بني متعان - إلى رسول الله بعشر نحل له وسأله أن يحمي واديا له فحماه له فلما ولي عمر بن الخطاب استعمل على ذلك سفيان بن عبد الله الثقفي فأبوا أن يؤدوا إليه شيئا وقالوا إنما كنا نؤديه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب سفيان إلى عمر بذلك فكتب عمر إنما النحل ذباب غيث يسوقه الله عز وجل إلى من شاء فإن أدوا إليك ما كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحم لهم بواديهم وإلا
240

فخل بين الناس وبينه قال فأدوا إليه ما كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمى لهم بواديهم (1)
وذكره أبو داود من رواية عمر بن الحارث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بمعناه
وأما حديث أبي سيارة المتعي فإنه يرويه سليمان بن موسى عن أبي سيارة المتعي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أن يؤخذ من العسل العشر
كان حديثا منقطعا لم يسمع سليمان بن موسى من أبي سيارة ولا يعرف أبو سيارة هذا ولا تقوم بمثله حجة
((24 - باب جزية أهل الكتاب والمجوس))
572 - ذكر فيه مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس البحرين
وأن عمر أخذها من مجوس فارس
وأن عثمان أخذها من البربر
هكذا هذا الحديث في الموطأ عند جماعة رواته وكذلك معمر عن بن شهاب ورواه عبد الرحمن بن مهدي عن مالك عن بن شهاب عن السائب بن يزيد ورواه بن وهب عن يونس عنه بن شهاب عن سعيد بن المسيب وقد ذكرناها بأسانيدها في التمهيد
573 - وذكر مالك عن جعفر بن محمد بن علي عن أبيه أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس فقال ما أدري كيف أصنع في أمرهم فقال عبد الرحمن بن عوف أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول سنوا بهم سنة أهل الكتاب
وهذا الحديث قد رواه أبو علي الحنفي عن مالك عن جعفر بن محمد عن
241

أبيه عن جده وهو أيضا منقطع والصحيح عن مالك ما في الموطأ
وفي حديث جعفر من الفقه أن الخبر العالم قد يجهل ما يجد عند من هو دونه في العلم
وفيه انقياد العالم إلى العلم حيث كان
وفيه إيجاب العمل بخبر الواحد
وأما قوله سنوا فيهم سنة أهل الكتاب فهو من الكلام الخارج مخرج العموم والمراد منه الخصوص لأنه إنما أراد سنوا بهم سنة أهل الكتاب في الجزية لا في نكاح نسائهم ولا في أكل ذبائحهم
وهذا لا خلاف فيه بين العلماء إلا شيء يروى عن سعيد بن المسيب أنه لم ير بذبح المجوس لشاة المسلم إذا أمره المسلم بذبحا بأسا والناس على خلافه
والمعنى عند طائفة من الفقهاء في ذلك أن أخذ الجزية صغار لهم وذلة لكفرهم وقد ساووا أهل الكتاب في الكفر بل هم أشد كفرا فوجب أن يجروا مجراهم في الذل والصغار لأن الجزية لم تؤخذ من الكتابيين رفقا بهم وإنما منهم تقوية للمسلمين وذلا للكافرين
وليس نكاح نسائهم ولا أكل ذبائحهم من هذا الباب لأن ذلك مكرمة بالكتابيين لموضع كتابهم واتباعهم الرسل - عليهم السلام - فلم يجز أن يحلق بهم من لا كتاب له في هذه المكرمة
هذه جملة اعتل بها أصحاب مالك وغيرهم ولا خلاف بين علماء المسلمين أن الجزية تؤخذ من المجوس لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس أهل البحرين ومن مجوس هجر وفعله بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي (رضي الله عنهم)
واختلف الفقهاء في مشركي العرب ومن لا كتاب له هل تؤخذ منهم الجزية أم لا
فقال مالك تقبل الجزية من جميع الكفار عربا كانوا أو عجما لقوله الله عز وجل * (من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) * [التوبة 29]
قال وتقبل من المجوس بالسنة
وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه وأبي ثور وأحمد وداود وإليه ذهب عبد الله بن وهب
242

وقال الأوزاعي ومالك وسعد بن عبد العزيز إن الفرازنة ومن لا دين له من أجناس الرتك والهند وعبدة النيران والأوثان وكل جاحد ومكذب بدين الله عز وجل يقاتلون حتى يسلموا أو يعطوا الجزية فإن بذلوا الجزية قبلت منهم وكانوا كالمجوس في تحريم مناكحهم وذبائحهم وسائر أمورهم
قال أبو عبيد كل عجمي تقبل منه الجزية إن بذلها ولا تقبل من العرب إلا من كتابهم
وحجة من رأى الجزية القياس على المجوس لأنهم في معناهم في أن لا كتاب لهم وقد تقدمت حجة الشافعي ومن قال بقوله
وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم سنوا بهم سنة أهل الكتاب دليل على أنهم ليسوا أهل كتاب
وعلى ذلك جمهور العلماء
ومما احتجوا به قول الله تعالى * (إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا) * [الأنعام 156] يعني اليهود والنصارى وقوله عز وجل " يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل " [المائدة 68]
قالوا فلا أهل كتاب إلا أهل التوراة والإنجيل
وقد روي عن الشافعي أنهم كانوا أهل كتاب فبدلوه
وأظنه ذهب في ذلك إلى ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه من وجه فيه ضعف يدور على أبي سعد البقال واسمه سعيد بن المرزبان وليس بقوي عندهم وقد سئل عنه أبو زرعة الرازي عنه فقال صدوق مدلس وقال مرة لين الحديث فيه ضعف قيل هو صدوق قال نعم كان لا يكذب
وقد ذكرنا ذلك الحديث في التمهيد
ومن ذهب إلى أن المجوس أهل كتاب قال في قوله صلى الله عليه وسلم سنوا بهم سنة أهل الكتاب يحتمل أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد سنوا بهم سنة أهل الكتاب الذين يعلم كتابهم على ظهور واستفاضة وأما المجوس فعلم كتابهم على خصوص وقد أنزل الله تعالى كتبا وصحفا على جماعة من أنبيائه منها زبور داود وصحف إبراهيم
وأي الأمرين كان فلا خلاف بين العلماء أن المجوس تؤخذ منهم الجزية
والآثار في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم متصلة ومرسلة
من المتصلة حديث شهاب ذكره موسى بن عقبة عنه حدثني عروة عن
243

المسور بن مخرمة أنه أخبره أن عمرو بن عوف وهو حليف لبني عامر بن لؤي وكان قد شهد بدرا أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها وكان قد صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي وذكر الحديث
والدليل على أن أهل البحرين مجوس ما رواه قيس بن مسلم عن الحسن بن محمد أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى مجوس البحرين يدعوهم إلى الإسلام فمن أسلم منهم قبل منه ومن أبى وجبت عليه الجزية ولا تؤكل لهم ذبيحة ولا تنكح لهم امرأة
وقد ذكرنا الآثار بهذا المعنى في التمهيد مسندة ومرسلة
واختلف العلماء في مقدار الجزية فروي
574 - مالك عن نافع عن أسلم مولى عمر بن الخطاب أن عمر بن الخطاب ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير وعلى أهل الورق أربعين درهما مع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام
وذهب إلى ذلك
وقال عطاء بن أبي رباح التوقيت في ذلك إنما هو على ما صولحوا عليه
وكذلك قاله يحيى بن آدم وأبو عبيد والطبري إلا أن الطبري قال أقله دينار وأكثره لا حد له إلا الإجحاف والاحتمال
قالوا الجزية على قدر الاحتمال بغير توقيت يجتهد في ذلك الإمام ولا يكلفهم ما لا يطيقون هذا معنى قولهم
وأظن من ذهب إلى هذا القول يحتج بحديث عمرو بن عوف الذي قدمنا ذكره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح أهل البحرين على الجزية
وبما رواه محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة فأخذوه وأتي به فحقن له دمه وصالحه على الجزية
وبحديث السدي عن بن عباس في مصالحة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل نجران
ولما رواه معمر عن بن شهاب ان النبي صلى الله عليه وسلم صالح عبدة الأوثان على الجزية إلا ما كان من العرب
244

ولا نعلم أحدا روى هذا الحديث بهذا اللفظ عن بن شهاب إلا معمرا وقد جعلوه وهما منه
وقال الشافعي المقدار في الجزية دينار دينار على الغني والفقير من الأحرار والبالغين
وحجته في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن فأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافر
وهي ثياب باليمن
وهو المبين عن الله عز وجل مراده في قوله تعالى * (حتى يعطوا الجزية) * [التوبة 29]
فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدار ما يؤخذ من كل واحد منهم بحديث معاذ هذا
ومن أحسن أسانيده ما حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا محمد بن بكر حدثنا أبو داود حدثنا النفيلي حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي وائل عن معاذ الحديث
قال الشافعي وإن صولحوا على أكثر من دينار جاز إذا طابت بذلك أنفسهم
قال وإن صولحوا على ضيافة ثلاثة أيام جاز إذا كانت الضيافة معلومة في الخبز والشعير والتبن والإدام وذكر ما على الوسط من ذلك وما على الموسر وذكر موضع النزول والكن من البرد والحر
قال أبو عمر هذا تفسير لقول عمر ومع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام
ومعنى قوله أرزاق المسلمين يريد رفد أبناء السبيل وعدتهم
ثم أخبرهم أن الضيافة ثلاثة أيام لا زيادة والله أعلم
وقال مالك لا يزاد على ما فرض عمر عليهم ولا ينقص
إلا أن مذهبه ومذهب غيره من العلماء فيمن لا يقدر على الجزية لشدة فقره وضع عنه أو خفف ولا يكلف ما لا يطيق
وقال أبو حنيفة وأصحابه والحسن بن حي وأحمد بن حنبل الجزية اثنا عشر وأربعة وعشرون وستة وأربعون
يعنون أن على الفقير اثنا عشر وعلى الوسط أربعة وعشرون وعلى الغني ستة وأربعون
245

روى السدي وشعبة وإسرائيل عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب أن عمر بن الخطاب بعث عثمان بن حنيف فوضع الجزية على أهل السواد ثمانية وأربعين وأربعة وعشرين واثنا عشر يعني درهما
وقال الثوري جاء عن عمر بن الخطاب في ذلك ضرائب مختلفة فللوالي أن يأخذ بأيها شاء إذا كانوا ذمة وأما أهل الذمة فما صولحوا عليه لا غير
ذكره الأشجعي والفريابي وعبد الرزاق عن الثوري وزاد عبد الرزاق وذلك إلى الوالي يزيد عليهم بقدر يدهم ويضع بقدر حاجتهم وليس لذلك وقت
575 - مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال لعمر بن الخطاب إن في الظهر ناقة عمياء فقال عمر ادفعها إلى أهل بيت ينتفعون بها قال فقلت وهي عمياء فقال عمر
يقطرونها بالإبل قال فقلت كيف تأكل من الأرض قال فقال عمر أمن نعم الجزية هي أم من نعم الصدقة فقلت بل من نعم الجزية فقال عمر أردتم والله أكلها فقلت إن عليها وسم الجزية فأمر بها عمر فنحرت وكان عنده صحاف تسع فلا تكون فاكهة ولا طريفة إلا جعل منها في تلك الصحاف فبعث به إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ويكون الذي يبعث به إلى حفصة ابنته من آخر ذلك فإن كان فيه نقصان كان في حظ حفصة قال فجعل في تلك الصحاف من لحم تلك الجزور فبعث به إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بما بقي من لحم تلك الجزور فصنع فدعا عليه المهاجرين والأنصار
قال مالك لا أرى أن تؤخذ النعم من أهل الجزية إلا في جزيتهم
أما قوله إن في الظهر ناقة عمياء فإنه يعني أن في الإبل التي من مال الله وهي التي جاءت من الصدقة ناقة عمياء كلمة (عميت) معلومة أنها عمياء إذا أخذها من له أخذها فظن عمر أنها من نعم الصدقة وأمر أن يعطاها أهل بيت فقراء ينتفعون بلبنها وتحميلها إن شاؤوا لأن الصدقة وجد فيها أسنان الإبل في فرائضها فلا يوجد في الجزية إلا كما يوجد العروض بالغنيمة فلما علم عمر رضي الله عنه أنها من نعم الجزية حمله الإشفاق والحذر على أن قال ما قال وعلم أسلم فحوى كلامه ومعناه فلم ينل ذلك فقال له إن عليها وسم الجزية كأنه زاده تعريفا واستظهارا عن جوابه في تبيين أنهم أرادوا أكلها
246

ويحتمل أن يكون فيه حرجا على عادة العرب في روح كلامها لا والله وبلى والله وهو المتبع عند أكثر أهل العلم
وفي قوله كيف تأكل من الأرض يعني وهي عمياء لا ترعى دليل على أنها مما لا بد من نحرها وأنه لا ينتفع في غير ذلك بها
وأمر بها عمر فنحرت وقسمها قسمته العادلة على الأغنياء وأهل السابقة على المعروف من مذهبه في تفضيلهم في قسمته الفيء عليهم
وعلى ذلك كان عثمان رضي الله عنه
وكان تفضيله لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم تفضيلا نبيلا لموضعهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم من سائر المسلمين لأنهن أمهاتهم
وأما علي فذهب في قسمة الفيء إلى التسوية إلى أهل السابقة وغيرهم على ما كان عليه أبو بكر في ذلك
روى معن بن عيسى قال حدثني أسامة بن زيد عن زيد بن أسلم عن عروة عن عائشة قالت قسم أبو بكر رضي الله عنه للرجل عشرة ولزوجه عشرة ولعبده عشرة ولخادم زوجته عشرة ثم قسم السنة المقبلة لكل واحد منهم عشرين عشرين
وروي عن بن أبي ذئب عن خالد بن الحارث بن عبد الرحمن بن مرة مولى عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال قسم لي أبو بكر مثل ما قسم لسيدي
والأحاديث عن أبي بكر في تسويته في قسمة الفيء بين العبد والحر والشريف والمضروب والرفيع والوضيع كثيرة لا تختلف عنه في ذلك
وكذلك سيرة علي رضي الله عنه والآثار عنه أيضا بذلك كثيرة لا تختلف
ذكر أبو زيد عمر بن شبة قال حدثنا حيان بن بشر قال حدثنا يحيى قال حدثنا قيس عن أبي إسحاق قال كان عمر يفضل في العطاء وكان علي لا يفضل
قال عمر بن شبة وحدثني محمد بن جبير قال حدثنا إبراهيم بن المختار قال حدثنا عنبة بن الأزهر عن يحيى بن عقيل الخزاعي عن أبي يحيى قال قال علي رضي الله عنه إني لم أعن بتدوين عمر الدواوين ولا تفضيله ولكني أفعل كما كان خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل كان يقسم ما جاءه بين المسلمين ثم يأمر ببيت المال فينضح ويصلي فيه
247

قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا خالد بن أبي عمرو قال حدثنا أنس بن سيرين أن عليا رضي الله عنه كان يقسم الأموال حتى يفرغ بيت المال فيرش له فيجلس فيه
قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا سليمان بن مسلم العجلي قال سمعت أبي يذكر أنه شهد عليا أعطى أربعة أعطيات في سنة واحدة ثم نضح بيت المال فصلى فيه ركعتين
وأما عمر وعثمان رضي الله عنهما فكانا يفضلان
وكان عمر أول من دون الدواوين ففضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على الناس أجمعين ففرض لهن اثني عشر ألف درهم وفرض لأهل بدر المهاجرين خمسة آلاف درهم وللأنصار البدريين أربعة آلاف
وقد روي عنه من وجوه أيضا أنه فضل العباس وعليا والحق الحسن والحسين في أربعة آلاف
وقيل إنه الحق أسامة بن زيد ومحمد بن عبد الله بن جحش وعمر بن أبي سلمة بهما
وجعل عبد الله بن عمر في ثلاثة آلاف فكلمه في ذلك وقال شهدت ما لم يشهد أسامة وما شهد مشهدا إلا شهدته فلم فضلته علي فقال كان أبوه أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك وكان أسامة أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك
وقد روي أنه لم يفرد لأسامة ومحمد بن عبد الله بن جحش وعمر بن أبي سلمة إلا ألفين
والآثار عنه في قسمته وسيرته في الفيء وتفضيله كثيرة لم تختلف في التفضيل ولكنها اختلفت في مبلغ العطاء ولم تختلف الآثار عنه فيما علمت أنه فرض لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم اثنى عشر ألفا ولكنه لم يلحق بهن أحدا
وروي عنه أنه جعل العباس في عشرة آلاف
وذكر عمر قال حدثنا محمد بن حاتم قال حدثنا علي بن ثابت قال حدثني موسى بن ثابت بن عيينة عن إسماعيل بن عمر قال لما فرض عمر بن الخطاب الديوان جاءه طلحة
بن عبيد الله بنفر من بني تميم ليفرض لهم وجاءه رجل من الأنصار بغلام مصفر سقيم فقال عمر للأنصار من هذا الغلام قالوا هذا بن أخيك هذا بن أنس بن النضر قال عمر مرحبا وأهلا وضمه إليه وفرض له ألفا
248

فقال له طلحة يا أمير المؤمنين انظر في أصحابي هؤلاء قال نعم يفرض له في ستمائة ستمائة فقال طلحة والله ما رأيتك كاليوم أي شيء هذا فقال عمر أنت يا طلحة تظنن أني أنزل هؤلاء منزلة هذا هذا بن من جاءنا يوم أحد أنا وأبو بكر وقد أشيع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل فقال يا أبا بكر ويا عمر ما لي أراكما واجفان إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل فإن الله حي لا يموت ثم ولى بسيفه فضرب عشرين ضربة عدها في وجهه ثم قتل شهيدا وهؤلاء قتل آباؤهم على تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف أجعل بن من قاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كابن من قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ الله أن نجعله بمنزلة سواء
قال أبو عمر كان يفضل أهل السوابق ومن له من رسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة ومنزلة في العطاء
وكان أبو بكر يقول أجر أولئك على الله
وأما ما جاء في تفضيله أزواج النبي صلى الله عليه وسلم الناقة العمياء وأنه لم يطبخ للمهاجرين والأنصار منها إلا ما فضل عنهن فهذه كانت سيرته في قسمته المال على أهله
والجزية ركن من أركان الفيء والفيء حلال للأغنياء بإجماع من العلماء
576 - وأما حديث مالك في هذا الباب أنه بلغه عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى عماله أن يضعوا الجزية عمن أسلم من أهل الجزية حين يسلمون
فأجمع العلماء على أن الذمي إذا أسلم فلا جزية عليه فيما يستقبل واختلفوا فيه إذا أسلم في بعض الحول أو مات قبل أن يتم حوله
فقال مالك إذا أسلم الذمي أو مات سقط عنه كل ما لزمه من الجزية لما مضى وسواء اجتمع عليه محول أو أحوال
وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وعبيد الله بن الحسن
وقال الشافعي وبن شبرمة إذا أسلم في بعض السنة أخذ منه بحساب
وقال الشافعي إن أفلس غريم من الغرماء
وقول أحمد بن حنبل في هذه المسألة كقول مالك وهو الصواب إن شاء الله
249

على عموم قوله صلى الله عليه وسلم ليس على المسلم جزية (1) وعلى ظاهر قول عمر ضعوا الجزية عمن أسلم لأنه لا يوضع عنه إلا ما مضى
وأما قوله في هذا الباب مضت السنة أن لا جزية على نساء أهل الكتاب ولا على صبيانهم وأن الجزية لا تؤخذ إلا من الرجال الذين قد بلغوا الحلم فهذا إجماع من علماء المسلمين لا خلاف بينهم فيه أن الجزية إنما تضرب على البالغين من الرجال دون النساء والصبيان
وكذلك قول مالك وليس على أهل الذمة ولا المجوس في نخلهم ولا كرومهم ولا زروعهم ولا مواشيهم صدقة لأن الصدقة إنما وضعت على المسلمين تطهيرا لهم وردءا على فقرائهم ووضعت الجزية على أهل الكتاب صغارا لهم
فهذا أيضا إجماع من العلماء إلا أن منهم من رأى تضعيف الصدقة على بني تغلب دون جزية
وهو فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما روى عنه أهل الكوفة
وممن ذهب إلى تضعيف الصدقة على بني تغلب دون جزية الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل قالوا يؤخذ منهم كل ما يؤخذ من المسلم مثلاها حتى في الركاز ويؤخذ منهم فيه الخمسان ومما يؤخذ من المسلم فيه العشر أخذ فيه عشران وما أخذ من المسلمين ربع العشر أخذ منهم نصف العشر ويجري ذلك على أموالهم وعلى نسائهم بخلاف الجزية
وقال زفر لا شيء على نساء بني تغلب في أموالهم
وليس عن مالك في بني تغلب شيء منصوص وبني تغلب عند جماعة أصحابه وغيرهم من النصارى سواء في أخذ الجزية منهم
وقد جاء عن عمر بن الخطاب أنه إنما فعل ذلك لهم لئلا ينظروا أجناسهم قد فعلوا ذلك فلا عهد لهم
كذلك قال داود بن كردوس
وهو راوية عمر في بني تغلب
وذكر عبد الرزاق عن بن جريج قال أخبرني خلاد أن عمرو بن شعيب
250

أخبره أن عمر بن الخطاب كان لا يدع يهوديا ولا نصرانيا ينصر ولده ولا يهوده في بلاد العرب
وعن بن التيمي عن أبي عوانة عن الكلبي عن الأصبغ بن نباتة عن علي قال شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صالح نصراني بني تغلب على أن لا ينصروا الأبناء فإن فعلوا فلا عهد لهم
قال وقال علي لو قد عرفت لقاتلتهم
قال عبد الرزاق وأخبرنا معمر عن أيوب عن بن سيرين عن عبيدة السلماني أن عليا كان يكره ذبائح نصارى بني تغلب وهو لأنهم لم يتمسكوا من النصرانية إلا بشرب
الخمر
قال أبو عمر فدعا الله عز وجل أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم فلا وجه لإخراج بني تغلب
وأما قول مالك في هذا الباب في تجار أهل الذمة من خرج منهم من بلادهم إلى غير بلادهم من مصر إلى الشام إلى العراق فإنهم يؤخذ منهم العشر في ذلك مما بأيديهم في تجاراتهم
وقد مضى القول في هذه المسألة في باب زكاة العروض لما ذكره مالك هناك عن عمر بن عبد العزيز (رحمهما الله))
1 (25 - باب عشور أهل الذمة))
577 - ذكر فيه مالك عن بن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه أن عمر بن الخطاب كان يأخذ من النبط من الحنطة والزيت نصف العشر يريد بذلك أن يكثر الحمل إلى المدينة ويأخذ من القطنية العشر
578 - وعن بن شهاب عن السائب بن يزيد أنه قال كنت غلاما عاملا مع عبد الله بن عتبة بن مسعود على سوق المدينة في زمان عمر بن الخطاب فكنا نأخذ من النبط العشر
579 - وأنه سأل بن شهاب على أي وجه كان يأخذ عمر بن الخطاب من
251

النبط العشر فقال بن شهاب كان ذلك يؤخذ منهم في الجاهلية فألزمهم ذلك عمر
قال أبو عمر روى جويرية عن مالك عن الزهري عن السائب بن يزيد أن عمر بن الخطاب أخذ من النبط العشور بالجابية ولا أعلم أحدا ذكر في حديث مالك هذا بالجابية غير جويرية وحديث السائب بن يزيد عام فخصه بالنبط
وحديث سالم عن أبيه في الحنطة والزيت أنه كان يأخذ منهما خاصة نصف العشر وقد بين العلة وهي ليكثروا حمل ذلك إلى المدينة لأنهما لا يشهدان غيرها في شدة الحاجة إليه في القوت والإدام
وأما أقاويل الفقهاء وتنازعهم في هذا الباب فقال مالك في الباب قبل هذا في موطئه وليس على أهل الذمة ولا على المجوس في نخيلهم ولا كرومهم ولا زروعهم ولا مواشيهم صدقة لأن الصدقة إنما وضعت على المسلمين تطهيرا لهم وردا على فقرائهم ووضعت الجزية على أهل الكتاب صغارا لهم فهم ما كانوا ببلدهم الذين صالحوا عليه ليس عليهم شيء سوى الجزية في شيء من أموالهم إلا أن يتجروا في بلاد المسلمين ويختلفوا فيها فيؤخذ منهم العشر فيما يديرون من التجارات
وذلك أنهم إنما وضعت عليهم الجزية وصالحوا عليها على أن يقروا ببلادهم ويقاتل عنهم عدوهم فمن خرج منهم من بلاده إلى غيرها يتجر إليها فعليه العشر من تجر منهم من أهل مصر إلى الشام ومن أهل الشام إلى العراق ومن أهل العراق إلى المدينة أو اليمن أو ما أشبه هذا من البلاد فعليه العشر
ولا صدقة على أهل الكتاب ولا المجوس في شيء من أموالهم ولا من مواشيهم ولا ثمارهم ولا زروعهم مضت بذلك السنة
ويقرون على دينهم ويكونون على ما كانوا عليه وإن اختلفوا في العام الواحد مرارا في بلاد المسلمين فعليهم كلما اختلفوا العشر لأن ذلك ليس مما صالحوا عليه ولا مما شرط لهم وهذا الذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا
قال أبو عمر لم يسم ها هنا حنطة ولا دينا بمكة ولا بالمدينة وقد ذكره عنه بن عبد الحكم وغيره اتباعا لعمر رضي الله عنه في ذلك
ويؤخذ منهم عند مالك في قليل التجارة وكثيرها ولا يكتب لهم فيما يؤخذ منهم كتاب ويؤخذ منهم كلما تجروا واختلفوا
252

وقال بن وهب في موطئه سألت مالكا عن العبيد النصارى العشر إذا قدموا التجارة فقال نعم قلت متى يعشرون أقبل أن يبيعوا أو بعد قال بعد أن يبيعوا فقلت أرأيت إن كسد عليهم ما قدموا به فلم يبيعوه قال لا يؤخذ منهم شيء حتى يبيعوا قلت فإن أرادوا الرجوع بمتاعهم إذا لم يوافقهم السوق قال ذلك لهم
وقال الثوري إذا مر أهل الذمة بشيء للتجارة أخذ منهم نصف العشر إذا كان معه ما يبلغ مائتي درهم وإن كان أقل من مائتي درهم فلا شيء عليه والذمي والمسلم في ذلك سواء إلا أنه لا يؤخذ من المسلم إلا ربع العشر وإذا أعسر المسلم والذمي لم يؤخذ منه شيء إلى تمام الحول ويوضع ما يؤخذ من المسلم موضع الزكاة وما أخذ من الذمي موضع الخراج
وهذا كله قول أبي حنيفة وأصحابه إلا أن أبا حنيفة لا يرى على الذمي إذا حمل فاكهة رطبة وما لا يتبقى بأيدي الناس شيئا
وقال أبو يوسف ومحمد ذلك وغيره سواء وقال يؤخذ من الحربي العشر في كل ما يؤخذ فيه من الذمي نصف العشر
وهذا كله في الذمي والحربي قول أبي ثور
قال الشافعي لا أحب أن يدع الوالي أحدا من أهل الذمة في صلح إلا مكشوفا مشهودا عليه
وأحب أن يسأل أهل الذمة عما صالحوا عليه مما يؤخذ منهم إذا اختلفوا في بلاد المسلمين فإن أنكرت منهم طائفة أن تكون صالحت على شيء يؤخذ منها سوى الجزية لم يلزمها ما أنكرت وعرض عليها إحدى خصلتين أن لا تأتي الحجاز بحال أو تأتي الحجاز على أنها متى أتت الحجاز أخذ منها ما صالحها عليه عمر وزيادة إن رضيت به
وإنما قلنا لا تأتي الحجاز لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجلاها من الحجاز
وقلنا تأتيه على ما أخذ عمر أن ليس في إجلائها من الحجاز أمر يبين أن يحرم أن تأتي الحجاز منتابة وإن رضيت بإتيان الحجاز على شيء مثل ما أخذ عمر أو أكثر منه
أذن لها أن تأتيه منتابة لا تقيم ببلد منه أكثر من ثلاث فإن لم ترض منعها منه وإن دخلته بلا أذن لم يؤخذ من مالها لشيء وأخرجها منه وعاقبها إن علمت منعه إياها ولم يعاقبها إن لم تعلم منعه إياها وتقدم إليها فإن عادت عاقبها ويقدم إلى ولاته أن لا يجيزوا بلاد الحجاز إلا بالرضا والإقرار بأن يؤخذ منهم ما أخذ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وإن زادوه عليها شيئا لم يحرم عليه فكان أحب إلي
253

وإن عرضوا عليه أقل منه لم أحب أن يقبله وإن قبله لخلة بالمسلمين رجوت أن يسعه ذلك لأنه إذا لم يحرم أن يأتوا الحجاز مجتازين لم يحل إتيانهم الحجاز كثير يؤخذ منهم ويحرمه قليل وإذا قالوا نأتيها بغير شيء لم يكن ذلك للوالي ولا لهم ويجتهد أن يجعل هذا عليهم في كل بلد انتابوه فإن منعوا منه في البلدان فلا يبين لي أن له أن يمنعهم بلدا غير الحجاز ولا يأخذ من أموالهم وإن اتجروا في بلد غير الحجاز شيئا ولا يحل أن يؤذن لهم في مكة بحال وإن أتوها على الحجاز أخذ منهم ذلك وإن جاءوها على غير شرط لم يكن له أن يأخذ منهم شيئا وعاقبهم إن علموا نهيه عن إتيان مكة ولم يعاقبهم إن لم يعلموا
(قال الشافعي) رحمه الله تعالى وينبغي أن يبتدئ صلحهم على البيان من جميع ما وصفت ثم يلزمهم ما صالحوا عليه فإن أغفلهم منعهم الحجاز كله فإن دخلوه بغير صلح لم يأخذ منهم شيئا ولا يبين لي أن يمنعهم غير الحجاز من البلدان
قال ولا أحسب عمر بن الخطاب ولا عمر بن عبد العزيز أخذ ذلك منهم إلا عن رضا منهم بما أخذ منهم فأخذه منهم كما تؤخذ الجزية فأما أن يكون ألزموه بغير رضا منهم فلا أحسبه وكذلك أهل الحرب يمنعون الإتيان إلى بلاد المسلمين بتجارة بكل حال إلا بصلح فما صالحوا عليه جاز لمن أخذه وإن دخلوا بأمان وغير صلح مقرين به لم يؤخذ منهم شيء من أموالهم وردوا إلى مأمنهم إلا أن يقولوا إنما دخلنا على أن يؤخذ منا فيؤخذ منهم وإن دخلوا بغير أمان غنموا وإذا لم يكن لهم دعوى أمان ولا رسالة كانوا فيئا وقتل رجالهم إلا أن يسلموا أو يؤدوا الجزية قبل أن نظفر بهم إن كانوا ممن يجوز أن تؤخذ منهم الجزية وإن دخل رجل من أهل الذمة بلدا أو دخلها حربي بأمان فأدى عن ماله شيئا ثم دخل بعد لم يؤخذ ذلك منه إلا بأن يصالح عليه قبل الدخول أو يرضى به بعد الدخول
فأما الرسل ومن ارتاد الإسلام فلا يمنعون الحجاز لأن الله عز وجل يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم * (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله) * [التوبة 6]
وإن أراد أحد من الرسل الإمام وهو بالحرم فعلى الإمام أن يخرج إليه ولا يدخله إلا أن يكون يغني الإمام فيه الرسالة والجواب فيكتفي بهما فلا يترك يدخل الحرم بحال
((26 - باب اشتراء الصدقة والعود فيها))
580 - مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال سمعت عمر بن
254

الخطاب وهو يقول حملت على فرس (1) عتيق (2) في سبيل الله وكان الرجل الذي هو عنده قد أضاعه فأردت أن اشتريه منه وظننت أنه بائعه برخص فسألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لا تشتره وإن أعطاكه بدرهم واحد فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه
581 - وذكر مثله عن نافع عن بن عمر عن عمر
قال أبو عمر الفرس العتيق هو الفاره - عندنا -
وقال صاحب العين عتقت الفرس تعتق إذا سبقت وفرس عتيق رائع
وفي هذا الحديث من الفقه إجازة تحبيس الخيل في سبيل الله (3)
وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال وأما خالد فإنه قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله
وفيه أنه من حمل على فرس في سبيل الله وغزا به فله أن يفعل فيه بعد ذلك ما يفعل في سائر ماله ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينكر على بائعه بيعه وأنكر على عمر شراءه ولذلك قال بن عمر إذا بلغت به واد القرى فشأنك به
255

وقال سعيد بن المسيب إذا بلغ به رأس مغزاته فهو له
ويحتمل أن يكون هذا الفرس ضاع حتى عجز عن اللحاق بالخيل وضعف عن ذلك فأجيز له بيعه لذلك
ومن أهل العلم من يقول يضع ثمنه ذلك في فرس عتيق إن وجده وإلا أعان به في مثل ذلك
ومنهم من يقول إنه كسائر ماله إذا غزا عليه
وإما اختلاف الفقهاء في هذا المعنى فقال مالك من أعطى فرسا في سبيل الله فقيل له هو لك في سبيل الله فله أن يبيعه وإن قيل هو في سبيل الله ركبه ورده
وقال الشافعي وأبو حنيفة الفرس المحمول عليها في سبيل الله هي لمن يحمل عليها تمليكا
قالوا وإن قيل له إذا بلغت به رأس مغزاك فهو لك كان تمليكا على مخاطرة ولم يجز
وقال الليث من أعطى فرسا في سبيل الله لم يبعه حتى يبلغ مغزاه ثم يصنع به ما شاء إلا أن يكون حبسا فلا يباع
وقال عبيد الله بن الحسن إذا قال هو لك في سبيل الله فرجع به رده حتى يجعله في سبيل الله
وفي هذا الحديث أيضا أن كل من يجوز تصرفه في ماله وبيعه وشرائه فجائز له بيع ما شاء من ماله بما شاء من قليل الثمن وكثيره كان مما يتغابن الناس به أو لم يكن إذا كان ذلك ماله ولم يكن وكيلا ولا وصيا لقوله (عليه السلام) في هذا الحديث ولو أعطاكه بدرهم
وكان أبو محمد عبد الله بن إبراهيم يحكي عن أبي بكر الأبهري أنه كان يقول بفسخ البيع فيما كان فيه التغابن أقل من ثلث المال وهذا لا يقر به المالكيون عندنا
واختلف الفقهاء في كراهية شراء الرجل صدقته الفرض والتطوع إذا أخرجها عن يدهه لوجهها ثم أراد شراءها من الذي صارت إليه
فقال مالك في الموطأ في رجل تصدق بصدقة فوجدها مع غير الذي تصدق بها عليه تباع أيشتريها فقال تركها أحب إلي
256

وقد روي عنه أنه قال لا يشتريها
وذكر بن عبد الحكم عن مالك من حمل على فرس فباعه الذي حمل عليه فوجده الحامل في يد المشتري فلا يشتره أبدا وكذلك الدراهم والثوب
وقال عنه في موضع آخر من كتابه من حمل على فرس فباعه ثم وجده الحامل في يد الذي اشتراه فترك شرائه أفضل
قال أبو عمر كره مالك والليث والحسن بن حي والشافعي شراء الصدقة لمن تصدق بها
فإن اشترى أحد صدقته لم يفسخوا العقد ولم يردوا البيع ورأوا له التنزه عنها
وكذلك قولهم في شراء الإنسان ما يخرجه في كفارة اليمين مثل الصدقة سواء وإنما كرهوا شراءها لهذا الحديث ولم يفسخوا البيع لأنها راجعة إليه بغير ذلك المعنى
وقد بدا ذلك في قصة هدية بريرة بما تصدق به عليها من اللحم (1)
وقال أهل الظاهر يفسخ البيع في مثل هذا لأنه طابق النهي ففسر بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم لا تشتره ولا تعد في صدقتك
ولم يختلفوا أنه من تصدق بصدقة ثم رزقها أنها حلال له
رواه بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال قد وجب أجرك ورجعت إليك بالميراث (2)
ويحتمل حديث هذا الباب أن يكون على وجه التنزه للرواية أن بيع الصدقة قبل إخراجها أو تكون موقوفا على التطوع في التنزه عن شرائها
وقال أبو جعفر الطحاوي المصير إلى حديث عمر في الفرس أولى من قول من أباح شراء صدقته
قال أبو عمر استدل من أجاز للمتصدق به بعد قبض المتصدق عليه له على أن نعيه عن شرائه على التنزه لا على التحريم بقوله صلى الله عليه وسلم في الخمسة الذين تحل لهم
257

الصدقة أو رجل اشتراها بماله فلم يخص المعطي من غير المعطي وغير ذلك على العموم
وقال في هذا الحديث أيضا أو مسكين تصدق عليه فأهداها المسكين للغني وهذا في معنى قصة بريرة وسنوضحه في موضعه إن شاء الله
وأما ما يوجبه تهذيب الآثار في ذلك عندي فللقول بأنه لا يجوز شراء ما تصدق به لأن الخصوص قاض على العموم لأنه مستبق منه ألا ترى أنه قد جاء في حديث واحد يعني إلا لمن اشتراها بماله بما لم يكن هذا المتصدق لم يكن كلاما متدافعا ولا معارضا مجمل الحديثين عندي على هذا استعمال لهما دون رد أحدهما بالآخر وبالله التوفيق
((27 - باب من تجب عليه زكاة الفطر))
582 - ذكر فيه مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يخرج زكاة الفطر عن غلمانه بوادي القرى (1) وبخيبر
583 - وذكر أن الرجل يلزمه زكاة الفطر عن كل من يضمن نفقته وعن مكاتبه (2) وعن مدبره (3) ورقيقه غائبهم وشاهدهم للتجارة كانوا أو لغير تجارة إذا كان مسلما
قال أبو عمر اختلف الفقهاء فيمن تلزم السيد زكاة الفطر عنه من عبيد الكفار وغيرهم والغائب منهم والحاضر
فقال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأبو ثور ليس على أحد أن يؤدي عن عبده الكافر صدقة الفطر وإنما هي على من صام وصلى
وهو قول سعيد بن المسيب والحسن
وحجتهما قوله (عليه السلام) في حديث بن عمر من المسلمين فدل أن حديث الكفار بخلاف ذلك
258

وقال الثوري وسائر الكوفيين عليه أن يؤدي زكاة الفطر عن عبده الكافر
وهو قول عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز والنخعي
وروي ذلك عن أبي هريرة وبن عمر
ولا يصح - والله أعلم - عندي عن بن عمر لأن الذي يروي مالك عن نافع عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فرض زكاة الفطر على الحر والعبد على الذكر والأنثى من المسلمين (1) فكيف يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا ويوجب زكاة الفطر عن الكافر هذا يبعد
إلا أن قول مالك في هذا الحديث من المسلمين قد خالفه فيه غيره من حفاظ حديث نافع وسنذكر ذلك عند ذكر مالك لهذا الحديث في أول باب مكيلة زكاة الفطر إن شاء الله
واحتج الطحاوي للكوفيين في إجازة زكاة الفطر على العبد الكافر بأن قوله (عليه السلام) من المسلمين يعني من تلزمه إخراج الزكاة عن نفسه وعن غيره ولا يكون إلا مسلما فأما العبد فلا يدخل في هذا الحديث لأنه لا يملك شيئا ولا يقضي عليه شيء وإنما أريد بالحديث ملك العبد فأما العبد فلا حرمة في نفسه لزكاة الفطر
ألا ترى إلى إجماع العلماء في العبد يعتق قبل أن يؤدي عنه سيده زكاة الفطر أنه لا تلزمه إذا ملك بعد ذلك مالا إخراجها عن نفسه كما يلزمه إخراج كفارة ما حنث فيه من الأيمان فهو عند رأيه لا يكفرها بصيام ولو لزمته صدقة الفطر لأداها عن نفسه بعد عتقه
قال أبو عمر قوله (عليه السلام) من المسلمين يقضي لمالك والشافعي وهذا القضاء أيضا لأنها طهرة للمسلم وتزكية وهو سبيل الواجبات من الصدقات والكافر لا يتزكى فلا وجه لأدائها عنه
أخبرنا أحمد بن محمد حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا مطرف بن عبد الرحمن حدثنا يحيى بن بكير عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس صاعا من تمر أو صاعا من شعير على كل حر من المسلمين
وأخبرنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا بكر بن حماد
259

حدثنا مسدد حدثنا حماد بن زيد عن النعمان بن راشد عن الزهري عن ثعلبة بن أبي زهير عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدقة الفطر صاع من بر عن كل اثنين أو صاع من شعير عن كل واحد صغير أو كبير حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين أما غنيكم فيزكيه الله وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطاه (1)
حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا محمد بن بكر حدثنا أبو داود حدثنا محمود بن خالد الدمشقي وعبد الله بن عبد الرحمن عن عكرمة عن بن عباس قال فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة الصيام من اللغو والرفث وطعمة للمساكين وذكر تمام الخبر
فهذه الآثار كلها تشهد بصحة من قال إن زكاة الفطر لا تكون إلا عن مسلم والله أعلم
وقال أبو ثور يؤدي العبد عن نفسه إن كان له مال
وهو قول عطاء وداود
وقال مالك يؤدي الرجل زكاة الفطر عن مكاتبه
وهو قول عطاء وبه قال أبو ثور
وحجتهم ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن جماعة من أصحابه المكاتب عبد ما بقي عليه شيء (2)
وقال الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو حنيفة وأصحابه الزكاة عليه في مكاتبه لأنه لا ينفق عليه ومما انفرد بكسبه دون المولى ولا سبيل لمولاه إلى أخذ شيء من ماله غير أنجم كتابه وجائز له أخذ الصدقة وإن كان مولاه غنيا
وكان عبد الله بن عمر يخرج زكاة الفطر عن عبيده ولا يخرجها عن مكاتبيه ولا مخالف له من الصحابة
وقال الشافعي ولا يؤدي المكاتب عن نفسه
واختلفوا في عبيد التجارة
فذهب مالك والشافعي والأوزاعي إلى أن في عبيد التجارة زكاة الفطر
وبه قال أحمد وإسحاق
260

وحجتهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل حر وعبد وهو على عمومه في كل العبيد إذا ما استثنى في الحديث من المسلمين
وقال أبو حنيفة والثوري وعبيد الله بن الحسن العنبري ليس في عبيد التجارة صدقة الفطر
وهو قول عطاء بن أبي رباح وإبراهيم النخعي
ولم يختلفوا في المدبر أن على السيد زكاة الفطر عنه إلا أبا ثور وداود فهما على أصلهما في أن زكاة الفطر على العبد دون سيده عندهما
واختلفوا في العبد الغائب عن سيده هل عليه فيه زكاة الفطر آبقا كان أو مغصوبا
فقال مالك إذا كانت غيبة الآبق قريبة علمت حياته أو لم تعلم يخرج عنه سيده زكاة الفطر إذا كانت رجعته يرجى وترجى حياته ولم يعلم موته
قال فإن كانت غيبته وإباقه قد طال ويئس منه فلا أرى أن يزكي عنه
وقال الشافعي تؤدى زكاة الفطر عن المغصوب والآبق وإن لم ترج رجعتهم إذا علمت حياتهم فإن لم تعلم حياتهم فلا
وهو قول أبي ثور وزفر
وقال أبو حنيفة في العبد الآبق والمغصوب ليس على مولاه فيه زكاة الفطر
وهو قول الثوري وعطاء
وروى أنس بن عمر عن أبي حنيفة أن عليه في الآبق صدقة الفطر
وقال الأوزاعي إذا علمت حياة العبد أديت عنه زكاة الفطر وإن كان في دار الإسلام
وقال الزهري إن علم مكان الآبق أدي عنه زكاة الفطر
وبه قال أحمد بن حنبل
واختلفوا في العبد المرهون فمذهب مالك والشافعي أن يؤدي عنه زكاة الفطر
وهو قول أبي ثور
وقال أبو حنيفة إن كان عند الراهن وفاء بالدين الذي رهن فيه عبده وفضل مائتي درهم زكى عنه زكاة الفطر وإن لم يكن عنده فلا شيء عليه
واختلفوا في العبد يكون بين الشريكين فقال مالك والشافعي يؤدي كل واحد منهما عنه من زكاة الفطر بقدر ما يملك
261

وهو قول محمد بن الحسن
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر والثوري والحسن بن حي ليس على واحد منهما فيه صدقة الفطر
وهو قول الحسن وعكرمة
واختلفوا أيضا في العبد المعتق بعضه فقال مالك يؤدي السيد عن نصفه المملوك وليس على العبد أن يؤدي عن نصفه الحر
وقال عبد الملك بن الماجشون على السيد أن يؤدي عنه صاعا كاملا
وقال الشافعي يؤدي السيد عن النصف المملوك ويؤدي العبد عن نصفه الحر
وبه قال محمد بن سلمة قال يؤدي عن نفسه بقدر حريته قال فإن لم يكن للعبد مال رأيت لسيده أن يزكي عنه
وقال أبو حنيفة ليس على السيد أن يؤدي عما ملك من العبد إلا أن يملكه كله ولا على العبد أن يؤدي عن نفسه لما فيه من الحرية
وقال أبو ثور ومحمد بن الحسن على العبد أن يؤدي عن نفسه زكاة الفطر وهو بمنزلة العبد إذا عتق نصفه وكأنه قد عتق كله
واختلفوا في العبد يباع بالخيار فقال مالك يؤدي عنه البائع
وقال الشافعي إن كان الخيار للبائع وأنفذ البيع فإنه يؤدي عنه البائع وإن كان الخيار للمشتري أولهما فعلى المشتري
وقال أبو حنيفة إذا كان أحدهما بالخيار فصدقة الفطر عن العبد على من يصير إليه
وقال زفر الزكاة على من له الخيار فسخ أو أجاز
واختلفوا في العبد الموصي برقبته لرجل ولآخر بخدمته فقال عبد الملك بن الماجشون الزكاة عنه على من جعلت له الخدمة إذا كان زمانا طويلا
وقال الشافعي وأبو حنيفة وأبو ثور زكاة الفطر عنه على مالك رقبته
واختلفوا في عبيد العبيد
فقال مالك ليس عليه في عبيد عبيده صدقة الفطر وهو الأمر عندنا
وقال أبو حنيفة والشافعي صدقة الفطر عنهم على السيد الأعلى
وقال الليث بن سعد يخرج عن عبيد عبيده زكاة الفطر ولا يؤدي عن مال عبده الزكاة
262

وأما قول مالك أن الرجل يلزمه زكاة الفطر عن كل من يضمن نفقته فقد وافقه على ذلك الشافعي وقولهما جميعا أن زكاة الفطر تلزم الرجل في كل من تجب عليه نفقته من غير أن يكون له تركها وذلك من تلزمه نفقته بسبب كالأبناء الفقراء والآباء الفقراء
إلا أن مالكا لا يرى النفقة على الابن البالغ وإن كان فقيرا
والشافعي يرى النفقة على الأبناء الصغار والكبار والزمنى والنفقة على الآباء الفقراء والأمهات وكذلك من تلزمه عندهما نفقته بنكاح كالزوجات وملك اليمين كالإماء والعبيد
وذكر بن عبد الحكم عن مالك أنه قال ليس عليه في رقيق امرأته زكاة الفطر إلا من كان بخدمه وذلك واحد لا زيادة
وقال بن وهب عن الليث عن يحيى بن سعيد يؤدي الرجل عن أهله ورقيقه ولا يؤدي عن الأجير ولكن الأجير المسلم يؤدي عن نفسه
وهو قول ربيعة
وقال الليث إذا كانت إجازة الأجر معلومة فليس عليه أن يؤدي عنه وإن كانت يده مع يده وينفق عليه ويكسوه أدى عنه
قال الليث وليس عليه أن يؤدي عن رقيق امرأته
وأما اختلافهم في الزوجة فقال مالك والشافعي والليث وأحمد وإسحاق وأبو ثور على زوجها أن يخرج عنها زكاة الفطر وهي واجبة عليه عنها وعن كل من يمون ممن تلزمه نفقته
وهو قول بن علية أنها واجبة على الرجل في كل من يمون ممن تلزمه نفقته
وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه ليس على الزوج أن يؤدي عن زوجته ولا عن خادمها زكاة الفطر وعليها أن تؤدي ذلك عن نفسها وخادمها
قالوا وليس على أحد أن يؤدي إلا عن ولده الصغير وعبده
قال أبو عمر قد أجمعوا أن عليه أن يؤدي عن ابنه الصغير إذا لزمته نفقته فصار أصلا يجب القياس ورد ما اختلفوا فيه إليه فوجب في ذلك أن تجب عليه في كل من تلزمه نفقته وبالله التوفيق
وقد ناقض الكوفيون في الصغير لأن معنى قول بن عمر عندهم فرض رسول
263

الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر على الذكر والأنثى الصغير والكبير الحر والعبد يعنون كلا عن نفسه وهذه مناقضة في الصغير
وقال مالك تجب زكاة الفطر على أهل البادية كما تجب على القرى وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين
قال أبو عمر قول مالك عليه جمهور الفقهاء وممن قال بذلك الثوري والشافعي والأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابهم
وقال الليث بن سعد على أهل العمود الفطر أصحاب الخصوص والمال وإنما هي على أهل القرى
قال أبو عمر قول الليث ضعيف لأن أهل البادية في الصيام والصلاة كأهل الحاضر وكذلك هم في صدقة الفطر
((28 - باب مكيلة زكاة الفطر))
584 - ذكر فيه مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس صاعا من تمر أو صاعا من شعير على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين
585 - وعن زيد بن أسلم عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو صاعا من أقط أو صاعا من زبيب وذلك بصاع النبي صلى الله عليه وسلم
264

فأما قوله في حديث بن عمر فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم فمعناه عند أكثر أهل العلم أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أوجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأمر الله أوجبه وما كان لينطق عن الهوى فأجمعوا على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر ثم اختلفوا في نسخها
فقالت فرقة هي منسوخة بالزكاة ورووا عن قيس بن سعد بن عبادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بها قبل نزول الزكاة فلما نزلت آية الزكاة لم يأمرنا بها ولم ينهنا ونحن نفعله
وقال جمهور من أهل العلم من التابعين ومن بعدهم هي فرض واجب على حسب ما فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينسخها شيء
وممن قال بهذا مالك بن أنس وسفيان الثوري والأوزاعي والشافعي وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه
قال إسحاق هو لا الإجماع
وقال أشهب سألت مالكا عن زكاة الفطر أواجبة هي قال نعم
وفي سماع زياد بن عبد الرحمن قال سئل مالك عن تفسير قول الله تعالى " وآتوا الزكاة " [البقرة 43] هي الزكاة التي قرنت بالصلاة فسمعته يقول هي زكاة الأموال كلها من الذهب والورق والثمار والحبوب والمواشي وزكاة الفطر
وتلا * (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم) * [التوبة 103]
وذكر أبو التمام قال قال مالك زكاة الفطر واجبة
قال وبه قال أهل العلم كلهم إلا بعض أهل العراق فإنه قال هي سنة مؤكدة
قال أبو عمر اختلف المتأخرون من أصحاب مالك في وجوبها فقال بعضهم هي سنة مؤكدة
وقال بعضهم هي فرض واجب
وممن ذهب إلى هذا أصبغ بن الفرج
وأما أبو محمد بن أبي زيد فإنه قال هي سنة فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يضع شيئا
واختلف أصحاب داود في ذلك على قولين أيضا أحدهما أنها فرض واجب والآخر أنها سنة (مؤكدة)
وسائر العلماء على أنها واجبة
265

والقول بوجوبها من جهة اتباع المؤمنين لأنهم الأكثر والجمهور الذين هم حجة على من شذ عنهم
وقول من قال إنها سنة قول ضعيف وتأويله في قول بن عمر فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعنى أنه قدر ذلك صاعا وأنه مثل قولهم فرض القاضي نفقة اليتيم ربعين أي قدرها خلاف الظاهر ادعاء على النبي ما يخرجه في المعهود فيه لأنه لم يختلفوا في قول الله عز وجل * (فريضة من الله) * [النساء 11] أي إيجاب من الله وكذلك لهم فرض الله طاعة رسوله وفرض الصلاة والزكاة هذا كل ذلك أوجب وألزم
وكذلك قالوا في الواجب هو فريضة وما لم يلزم لزومه قالوا سنة وقد أوضحنا هذا المعنى بزيادات في الاعتراضات في التمهيد
وأما قوله فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان على الناس فقد اختلف العلماء في الحين والوقت الذي يلزم لمن أدركه زكاة الفطر
فقال في رواية بن القاسم وبن وهب وغيرهما عنه تجب بطلوع الفجر من يوم الفطر
ومعناه أنها لا تجب عن من ولد أو ملك بعد ذلك الوقت وذكروا عنه مسائل إن لم تكن على الاستحباب فهي تناقض على هذا وهي في المولود ضحى يوم الفطر أو العبد يشترى بعد طلوع الشمس في يوم الفطر أنه يزكى عنه أبوه وسيده
وروى أشهب عن مالك أن الزكاة تجب بغروب الشمس من آخر يوم من رمضان وهي ليلة الفطر
وقال مالك إذا مات العبد ليلة الفطر قبل طلوع الفجر فعلى المولى صدقة الفطر عنه لأنه قد كان أدركه وقت وجوبها حيا ومعلوم أن ليلة الفطر ليست من رمضان فمن ولد فيها من الأحرار والعبيد وملك فيها من العبيد فإنه لم يلد ولم يملك في رمضان وإنما وقع ذلك في شوال وزكاة الفطر إنما هي لرمضان لا لشوال
وبهذا قال الشافعي وأصحابه إلا أن أصحابه في المسألة على قولين على أن قوله ببغداد كان أنها تجب بطلوع الفجر على كل مسلم أدركه ذلك الوقت حيا
وأما أبو حنيفة وأصحابه فقولهم في ذلك كما رواه بن القاسم عن مالك بطلوع الفجر تجب زكاة الفطر
وهو قول أبي ثور
266

ومن قال بهذا لم يعتبر ليلة الفطر لأن الفطر ليس بموضع صيام يراعى ويعتبر
وهو قول من لم ينعم النظر لأن يوم الفطر ليس بموضع صيام فأحرى ألا يراعى
واختلفوا في وجوبها على الفقراء
فروى بن وهب عن مالك أنه قال في رجل له عبد لا يملك غيره عليه فيه زكاة الفطر
قال مالك والذي ليس له إلا معيشة خمسة عشر يوما أو نحوها والشهر ونحوه عليه زكاة الفطر
قال مالك وإنما هي زكاة الأبدان
وروى أشهب عن مالك أن زكاة الفطر لا تجب على من ليس عنده من أين يؤديها
وروي عن مالك أيضا أن عليه زكاة صدقة الفطر وإن كان محتاجا
وروي عنه أنه من جاز له أخذ صدقة الفطر لم تلزمه
وذكر أبو التمام عن مالك أنه قال زكاة الفطر واجبة على الفقير الذي يفصل عن قوته صاع كوجوبها على الغني
قال وبه قال الشافعي
قال أبو عمر قال الشافعي من ملك قوته وقوت من يمونه ذلك اليوم ومن يؤدي عنه وعنهم زكاة الفطر فعليه أن يؤديها عن نفسه وعنهم فإن لم يكن عنده إلا ما يؤدي عن نفسه وعن البعض أدى عن ذلك البعض
وقول بن علية في هذه المسألة كقول الشافعي
وقال عبيد الله بن الحسن إذا أصاب فضلا عن غذائه وعشائه فعليه أن يأخذ ويعطي صدقة الفطر
586 - وأما قوله في حديث بن عمر صاعا من تمر أو صاعا من شعير وروايته في هذا الباب عن نافع أن عبد الله بن عمر كان لا يخرج في زكاة الفطر إلا التمر إلا مرة واحدة فإنه أخرج شعيرا
267

ورواه حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن بن عمر فقال فيه قال عبد الله فعدل الناس بعد نصف صاع من بر بصاع من تمر
قال وكان عبد الله يعطي التمر فيعوز أهل المدينة التمر عاما فأعطى الشعير
وروى بن عيينة عن أيوب بإسناده مثله وقال فيه قال بن عمر فلما كان معاوية عدل الناس نصف صاع من بر بصاع من شعير
قال نافع فكان عبد الله يخرج زكاة الفطر عن الصغير من أهله والكبير والحر والعبد
ورواه بن أبي رواد عبد العزيز عن نافع عن بن عمر وقال فيه فلما كان عمر وكثرت الحنطة جعل نصف صاع منها مثل صاع من تلك الأشياء وذكر في حديثه هذا صاعا من تمر أو شعير أو سلت أو زبيب ولم يقل ذلك عن نافع أحد غيره وليس ممن يحتج به في حديث نافع إذا خالفه حفاظ أصحاب نافع وهم عبيد الله بن عمر ومالك وأيوب وفي التمهيد من هذا المعنى أكثر من هذا
وأما قوله في حديث أبي سعيد الخدري كنا نخرج في زكاة الفطر صاعا من طعام وذكر الشعير والتمر والزبيب والأقط صاعا صاعا
فقد ذكرنا في التمهيد من رفع هذا الحديث فقال فيه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يختلف من ذكر الطعام في هذا الحديث أنه أراد به الحنطة ومنهم من لم يذكره
ومن رواته أيضا من ذكر فيه نصف صاع من بر
وذكر فيه بن عيينة عن زيد بن أسلم الدقيق ولم يتابع عليه وقد ذكر فيه السلت والدقيق أو أحدهما
وذكر فيه مالك والثوري من طعام وحسبك بهما حفظا وأمانة وإتقانا وقد أوضحنا ذلك كله ومن رواه ومن أسقطه في التمهيد
واختلف أهل العلم في مقدار ما يؤدي المرء عن نفسه في صدقة الفطر من الحبوب بعد إجماعهم أنه لا يجزئ من التمر والشعير أقل من صاع بصاع النبي صلى الله عليه وسلم وهو أربعة أمداد بمدة صلى الله عليه وسلم
فأما اختلافهم في مقدار ذلك من البر وهي الحنطة فقال مالك والشافعي وأصحابهما لا يجزئ من البر ولا من غيره أقل من صاع بصاع النبي صلى الله عليه وسلم عن إنسان واحد صغيرا كان أو كبيرا
268

وهو قول البصريين وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه
وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه يجزئ من البر نصف صاع
وروي ذلك عن جماعة من الصحابة وجماعة من التابعين
وحجة مالك والشافعي في إيجاب الصاع من البر وأنه كغيره مما ذكر عنه حديث بن عمر فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان على الناس صاعا من تمر أو صاعا من شعير
قالوا وذلك كان قوت القوم يومئذ فخرج عليه الخبر فكل من اقتات شيئا من الحبوب المذكورات في حديث أبي سعيد الخدري وغيره لزمه إخراج صاع منه
ويشهد لذلك حديث مالك والثوري ومن تابعهما في حديث أبي سعيد الخدري المذكور في هذا الباب كنا نخرج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدقة الفطر صاعا من طعام ثم ذكر الشعير وغيره
فبان بذكره الطعام هنا أنه أراد البر والله أعلم ولم يفصل بينه وبين الشعير في الحنطة وفي المكيلة بل جعله كله صاعا صاعا
وأما حجة من قال أنه يجزئه من البر نصف صاع فقول بن عمر في حديثه وقد ذكر التمر والشعير قال فعدل الناس بصاع من شعير أو تمر نصف صاع من بر
والناس في ذلك الزمان كبار الصحابة
وحجتهم أيضا حديث الزهري عن بن أبي صعير عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في زكاة الفطر صاع من بر بين اثنين أو صاع من شعير أو تمر عن رجل واحد (1)
وهذا نص في موضع الخلاف إلا أنه لم يروه كبار أصحاب بن شهاب ولا من يحتج بروايته منهم إذا انفرد ولكنه لم تخالفه في روايته تلك غيره
وروى الثقات عن سعيد بن المسيب أنه قال كانت صدقة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نصف صاع من حنطة أو صاعا من شعير أو تمر
وروي عن أبي بكر وعمر وعثمان وبن مسعود وبن عباس على اختلاف عنه وأبي هريرة وجابر ومعاوية وبن الزبير نصف صاع من بر وفي الأسانيد عن بعضهم ضعف (واختلاف
269

وروي عن سعيد بن المسيب وعطاء وطاوس ومجاهد وعمر بن عبد العزيز وعروة بن الزبير وسعيد بن جبير وأبي سلمة ومصعب بن سعد نصف صاع من بر
قال أبو حنيفة يؤدي نصف صاع من بر أو دقيق أو سويق أو زبيب أو صاعا من تمر أو شعير
قال أبو يوسف ومحمد الزبيب بمنزلة التمر والشعير وما سوى ذلك يخرج بالقيمة قيمة نصف صاع من بر أو قيمة صاع من شعير أو تمر
وروينا عن أبي حنيفة أنه قال لو أعطيت في زكاة الفطر عدل ذلك أجزأك يعني بالقيمة
وقال الأوزاعي يؤدي كل إنسان مدين من قمح بمد أهل بلده
وقال الليث بن سعد يخرج مدين من قمح بمد هشام أو أربعة أمداد من التمر أو الشعير أو الأقط
وقال أبو ثور يخرج صاعا من تمر أو شعير أو زبيب وسكت عن البر
وقال أشهب سمعت مالكا يقول لا يؤدي الشعير إلا من هو أكله يؤده كما يأكله قيل له إن من الناس من يقول مدين من بر قال إنما القول ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم (صاع) قال فذكرت له الأحاديث التي تروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في المدين من الحنطة فأنكرها
وأما قوله في حديث بن عمر على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين فقد تقدم القول فيمن تجب عليه زكاة الفطر من المالك والمملوك والصغير والكبير
وأما قوله من المسلمين فإنه لم يقله من ثقات أصحاب نافع غيره ورواه أيوب السختياني وعبيد الله بن عمر وموسى بن عقبة وغيرهم عن نافع عن بن عمر لم يقولوا فيه من المسلمين
وقد ذكرنا فيه في التمهيد من قال عن عبيد الله من المسلمين ومن تابع مالكا على ذلك وذكرنا في الباب قبل هذا أيضا حكم قوله من المسلمين وما للعلماء في ذلك من المذاهب وبالله التوفيق
وأما قوله في آخر هذا الباب والكفارات كلها وزكاة الفطر وزكاة العشور كل ذلك بالمد الأصغر مد النبي صلى الله عليه وسلم إلا الظهار فإن الكفارة فيه بمد هشام وهو المد الأعظم فلم يختلف العلماء بالمدينة وغيرها أن الكفارات كلها بمد النبي صلى الله عليه وسلم إلا
270

الظهار فإن مالكا خالف في الإطعام به فأوجبه بمد هشام بن إسماعيل المخزومي عامل كان بالمدينة لبني مروان
وسيأتي القول في ذلك في باب كفارة الظهار إن شاء الله
ومد هشام بالمدينة معروف كما أن الصاع الحجاجي معروف بالعراق
((29 - باب وقت إرسال زكاة الفطر))
587 - ذكر فيه مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يبعث بزكاة الفطر إلى الذي تجمع عنده قبل الفطر بيومين أو ثلاثة وذكر أنه رأى أهل العلم يستحبون أن يخرجوا زكاة الفطر إذا طلع الفجر من يوم الفطر قبل أن يغدوا إلى المصلى
قال مالك وذلك واسع إن شاء الله أن تؤدى قبل الغدو من يوم الفطر وبعده
قال أبو عمر في هذا من فعل بن عمر دليل على جواز تعجيل ما تجب لوقت من الزكوات
وقد تقدم الوقت الذي تجب فيه صدقة الفطر وما للعلماء في ذلك وإن كان تقديمها باليوم واليومين جائز عندهم
ومالك وغيره يجيزون ما كان بن عمر يفعله من ذلك إلا أن مالكا يستحب ما استحبه أهل العلم في وقته من إخراج زكاة الفطر صبيحة يوم الفطر في الفجر أو ما قاربه
وفي قول مالك ما يدل على أن أداء زكاة الفطر بعد وجوبها أو في حين وجوبها أفضل وأحب إليه وإلى أهل العلم ببلده في وقته
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك خبر حسن من أخبار الآحاد العدول
حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أبو محمد النفيلي قال حدثنا زهير قال حدثنا موسى بن عقبة عن
271

نافع عن بن عمر قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى المصلى (1)
قال وكان بن عمر يؤديها قبل ذلك باليوم واليومين
وليس قول مالك في تعجيل زكاة الأموال كذلك وليس في الموطأ موضع هذا ذكر المسألة من هذا
واختلف أهل العلم في جواز تعجيل الزكاة فقال مالك فيما روى عنه بن وهب وأشهب وخالد بن خداش من أدى زكاة ماله قبل محلها بتمام الحول فإنه لا يجزئ عنه وهو كالذي يصلي قبل الوقت
وروي ذلك عن الحسن البصري وبه قال بعض أصحاب داود
وروى بن القاسم عنه لا يجوز تعجيلها قبل الحول إلا بيسير
وكذلك ذكر عنه بن عبد الحكم بالشهر ونحوه
وأجاز تعجيل الزكاة قبل الحول سفيان الثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وأبو ثور وإسحاق وأبو عبيد
وروي ذلك عن سعيد بن جبير وإبراهيم وبن شهاب والحكم وبن أبي ليلى
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد يجوز تعجيل الزكاة لما في يده ولما يستفيد في الحول وبعده
وقال زفر التعجيل عما في يده جائز ولا يجوز عما يستفيده
وقال بن شبرمة يجوز تعجيلها لسنين
وقال الشافعي يجوز للمصدق إذا رأى العوز في أهل الصدقة أن يستلف لهم من صدقة أهل الأموال إذا كانوا ميسورين وليس على رب المال أن يخرج صدقته قبل الحول إلا أن يتطوع
قال ولو أن رجلا أخرج زكاة ماله فقال إن ما تجب فيه الزكاة كانت هذه عنه لم يجزئ عنه لأنه أداها إلى سبب بلا سبب لم تجز فيه الزكاة وعمل شيئا لا يجب عليه إن حال فيه حول
272

قال أبو عمر حجة من لم يجز تعجيل الزكاة قياسها على الصلاة وحجة من أجاز تعجيلها القياس على الديون الواجبة لآجال محدودة أنه جائز تعجيلها أو تقديمها قبل محلها
وحديث علي (رضي الله عنه) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استلف صدقة العباس قبل محلها وقد روي لعامين
وفرقوا بين الصلاة والزكاة بأن الناس يستوون في وقت الصلاة ولا يستوون في وقت وجوب الزكاة
وقياس مالك ومن قال بقوله على الصلاة أصح في سبيل القياس والله أعلم
((30 - باب من لا تجب عليه زكاة الفطر))
588 - قال مالك ليس على الرجل في عبيد عبيده ولا في أجيره ولا في رقيق امرأته زكاة إلا من كان منهم يخدمه ولا بد له منه فتجب عليه وليس عليه زكاة في أحد من رقيقه الكافر ما لم يسلم لتجارة كانوا أو لغير تجارة
قال أبو عمر قد تقدم القول في مسائل هذا الباب كلها وما للعلماء من المذاهب فيما تقدم من أبواب زكاة الفطر فلا معنى لإعادة ذلك هنا
إلا أن جملة ذلك أنه لا خلاف عن مالك وأصحابه أنه ليس على السيد زكاة الفطر في عبيد عبيده كما أنه ليس عليه أن يزكي عما بيد عبده من المال
وأما أبو ثور وداود فعلى أصلهما أن عبيد العبيد يخرجون عن أنفسهم زكاة الفطر لأنهم مالكون عبيدهم
وأما الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والليث والثوري وجمهور أهل العلم فإن زكاة الفطر على السيد عندهم في عبيده وفي عبيد عبيده لأنهم كلهم عبيده
وأما قول مالك ولا في أجيره فلأنه لا يلزمه نفقته في الشرع والقربة وأصله أنه لا تلزم صدقة الفطر إلا عمن تلزم نفقته في الشريعة إلا من صدقة الفطر إلا عمن تلزم نفقته في الشريعة إلا من طريق التطوع ولا المعارضة
273

وهو قول الشافعي
وأما سفيان والكوفيون فإن زكاة الفطر لا تجب عندهم إلا عن الابن الصغير والعبد فقط
وأما قوله ولا في رقيق امرأته فقوله وقول الشافعي في ذلك سواء إلا أن أصلهما أنها تلزمه فيمن تلزمه النفقة عليه
وذلك عند الشافعي خادم واحد وعند مالك من يخدمه ولا بد منه إلا أن الأظهر من مذهبه أنه تلزمه في خادم واحد قد اختلف أصحابه في ذلك على ما ذكرناه عنهم في كتاب اختلاف أصحاب مالك وأقوالهم
وقال الليث يؤدي عن امرأته وليس عليه أن يؤدي عن أحد من رقيقها
وأما سفيان والكوفيون فلا يرون زكاة الفطر عليه عن امرأته فكيف عن رقيقها بل عليها أن تخرج زكاة الفطر عن نفسها وعن عبدها لأن السنة عندهم أن يخرجها الذكر والأنثى عن أنفسهم وعبيدهم
وقد تقدم الأصل عنهم ولغيرهم في ذلك وفيما لم يسلم من العبد والحمد لله
تم شرح كتاب الزكاة والحمد لله كثيرا
274

((18 كتاب الصيام))
((1 - باب ما جاء في رؤية الهلال للصوم والفطر في رمضان))
589 - ذكر فيه مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فقال لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم (1) فاقدروا له (2)
590 - وعن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله
591 - وعن ثور بن زيد الديلي عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فقال لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدد (العدة) ثلاثين
275

وهذا الحديث محفوظ لعكرمة عن بن عباس وقد أوضحنا في التمهيد حال عكرمة ولم ترك مالك ذكره من هذا الموضع من كتابه إن كان كما ظن من زعم أن مالكا طرح اسمه من كتابه للذي بلغه فيه عن سعيد بن المسيب
وما أدري صحة ذلك لأنه ذكره في كتاب الحج من الموطأ وفي ذلك ما يوهن قول من قال إنه قد طرح ذكر اسمه من كتابه والله أعلم
والذي أوجب قول القائل ما ذكرناه والله أعلم ما رويناه عن مالك أنه قيل له أبلغك أن عبد الله بن عمر قال لنافع يا نافع لا تكذب علي كما كذب عكرمة علي بن عباس
قال أبو عمر جعل مالك - رحمه الله - حديث بن عباس بعد حديث بن عمر لأنه عنده مفسر له ومبين لمعنى قوله فاقدروا له في حديث بن عمر
وكان بن عمر يذهب في معنى قوله فاقدروا مذهبا خلافا لما ذهب إليه مالك في ذلك والذي ذهب إليه مالك هو الذي عليه جمهور العلماء وهو الصحيح وسنبين ذلك كله في هذا الباب بعون الله وفضله
وما رواه بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين قد رواه أبو هريرة وأبو بكرة وحذيفة وطلق الحنفي وغيرهم
ولم يرو أحد فيما علمت فاقدروا له إلا بن عمر وحده
على أن عبد الرزاق قد روى عن معمر عن أيوب عن نافع عن بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهلال رمضان إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين يوما
ولم يقل مالك ولا عبيد الله بن عمر عن نافع في هذا الحديث ثلاثين يوما
ورواه بن أبي رواد عن نافع عن بن عمر بلفظ حديث بن عباس فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين
والذي عليه جمهور أهل العلم أنه لا يصام رمضان إلا بيقين من خروج شعبان واليقين في ذلك رؤية الهلال أو إكمال شعبان ثلاثين يوما وكذلك لا يقضى بخروج رمضان إلا بيقين مثله
قال الله تعالى * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) * [البقرة 185] يريد والله أعلم من علم منكم بدخول الشهر علم يقين فليصمه والعلم اليقين الرؤية الصحيحة الفاشية الظاهرة أو إكمال العدد
276

وكذلك في الشريعة أيضا شهادة عدلين أنهما رأيا الهلال ليلة ثلاثين فيصح بذلك أن الشهر الماضي من تسع وعشرين
وهذا عند بعضهم إذا لم تكن في السماء علة فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم فاقدروا له عند أكثر أهل العلم
ولا خلاف أن الشهر العربي قد يكون ثلاثين يوما ويكون تسعة وعشرين
وأما بن عمر فله مذهب ذهب إليه في تأويل ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم فاقدروا له وذلك أنه كان يقول إذا لم ير هلال رمضان ليلة ثلاثين من شعبان وكان صحوا فلا صيام لرمضان وإن لم يكن صحوا وكان في السماء غيم أصبح الناس صائمين وأجزأهم من رمضان - إن ثبت بعد - أن الشهر كان من تسع وعشرين
وإلى هذا ذهب طاوس اليماني وأحمد بن حنبل
وروي مثل ذلك عن عائشة وأسماء ابنتي أبي بكر - رضوان الله عليهم -
وما أعلم أحدا ذهب مذهب بن عمر في ذلك غيرهم
حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن زيد
وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن الجهيم قال حدثنا عبد الوهاب بن عطاء قال حدثنا سعيد بن أبي عروبة قالا حدثنا أيوب عن نافع عن بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم واللفظ لحديث قاسم والمعنى سواء إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له
قال نافع فكان عبد الله بن عمر يبعث مساء ليلة ثلاثين يوما من شعبان من ينظر له الهلال فإن كان صحوا ورأوه صام وإن لم يروه لم يصم وإن حال دونه سحاب أو قتر أصبح صائما
وذكر عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع عن بن عمر أنه إذا كان سحاب أصبح صائما وإن لم يكن سحاب أصبح مفطرا
وعن معمر عن بن طاوس عن معمر مثله
وقال أحمد بن حنبل صيام يوم الشك واجب وهو يجزئ من رمضان إن ثبت أنه من رمضان
277

وقال أهل اللغة قوله عليه السلام فاقدروا له كقوله قدروا له يقال منه قدرت وقدرت وأقدرته
وقال بن قتيبة في قوله اقدروا له أي قدروا الشهر بالمنازل يعني منازل القمر
قال أبو عمر قد كان بعض كبار التابعين فيما ذكر محمد بن سيرين ذهب في هذا الباب إلى اعتباره بالنجوم ومنازل القمر وطريق الحساب
قال بن سيرين كان أفضل له لو لم يفعل
قال أبو عمر قيل إنه مطرف بن عبد الله بن الشخير والله أعلم وكان مطرف من جلة تابعي البصرة العلماء الفضلاء الحلماء
وقد حكى بن سريج عن الشافعي أنه قال من كان مذهبه الاستدلال بالنجوم ومنازل القمر ثم تبين له من جهة النجوم أن الهلال الليلة وغم عليه جاز له أن يعتقد الصوم ويبيته ويجزئه
قال أبو عمر الذي عندنا في كتبه أنه لا يصح اعتقاد رمضان إلا برؤية فاشية أو شهادة عادلة أو إكمال شعبان ثلاثين يوما لقوله صلى الله عليه وسلم صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين
وعلى هذا مذهب جمهور فقهاء الأمصار بالحجاز والعراق والشام والمغرب منهم مالك والشافعي والأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه وعامة أهل الحديث إلا أحمد بن حنبل ومن قال منهم بقوله
وسيأتي القول في صيام يوم الشك في بابه من هذا الكتاب إن شاء الله
592 - مالك أنه بلغه أن الهلال رؤى في زمان عثمان بن عفان بعشي (1) فلم يفطر عثمان حتى أمسى وغابت الشمس
قال أبو عمر هذه المسألة اختلف فيها السلف والخلف ولم يختلف فيها عن عثمان ولاعن علي ولا عن عمر وبن مسعود وأنس
واختلفت الرواية فيها عن عمر فروى الأعمش عن أبي وائل شقيق بن سلمة
278

قال أتانا كتاب عمر ونحن بخانقين إن الأهلة بعضها أكثر من بعض فإذا رأيتم الهلال نهارا فلا تفطروا حتى يشهد رجلان أنهما رأياه بالأمس
وهذا مذهب عثمان وعلي وبن عمر وبه قال مالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم إلا عبد الملك بن حبيب عندنا فإنه قال فيها بالرواية الثانية عن عمر
وهي رواية رواها القطان وبن مهدي ووكيع وغيرهم عن الثوري عن مغيرة عن سماك عن إبراهيم قال بلغ عمر بن الخطاب أن قوما رأوا الهلال بعد زوال الشمس فأفطروا فكتب إليهم يلزمهم وقال إذا رأيتم الهلال نهارا قبل زوال الشمس فأفطروا وإذا رأيتموه بعد الزوال فلا تفطروا
وبهذا قال سفيان الثوري وأبو يوسف
وقال أبو حنيفة ومحمد في ذلك برواية سفيان عن عمر
وبه قال الأوزاعي والليث بن سعد وأحمد وإسحاق وأبو ثور
ورواية الأعمش عن شقيق أبي وائل أصح عن عمر لأنها متصلة وإبراهيم النخعي لم يدرك عمر
حدثنا أحمد بن قاسم بن عيسى قال حدثنا عبيد الله بن محمد قال حدثنا البغوي قال حدثنا سعد بن الجعدي قال حدثنا زهير بن معاوية عن الأعمش عن شقيق بن سلمة قال كتب إلينا عمر ونحن بخانقين إن الأهلة بعضها أكثر من بعض فإذا رأيتم الهلال نهارا فلا تفطروا حتى يشهد رجلان مسلمان أنهما رأياه بالأمس (1)
وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن عبد السلام قال حدثنا محمد بن أبي عمر قال حدثنا سفيان عن الأعمش عن أبي وائل قال أتانا كتاب عمر بن الخطاب ونحن بخانقين إن الأهلة تختلف فإذا رأيتم الهلال نهارا فلا تفطروا حتى يشهد رجلان من المسلمين أنهما رأياه بالأمس
قال أبو عمر وفي حديث الأعمش هذا نهارا لم يخص فيه قبل الزوال ولا بعده ومن ذهب مذهب الثوري وأبي يوسف قال إنه حديث مجمل وحديث إبراهيم حديث مفسر فهو أولى أن يقال به
279

قالوا إذا رؤي الهلال قبل الزوال فهو لليلة الماضية وإذا رؤي الهلال بعد الزوال فهو للقابلة
وإلى هذا ذهب عبد الملك بن حبيب وبه كان يفتي بقرطبة
وأما قول مالك من رأى هلال رمضان وحده فإنه يصوم لا ينبغي له أن يفطر وهو يعلم أن ذلك اليوم من رمضان ومن رأى هلال شوال وحده فإنه لا يفطر لأن الناس يتهمون على أن يفطر منهم من ليس بمأمون (1) فلا أعلم خلافا في هلال رمضان أنه من رآه يلزمه الصوم إلا عطاء بن أبي رباح فإنه قال لا يصوم وحده ولا يفطر وحده وإن رآه
واتفق مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم فيمن رأى هلال رمضان وحده أنه يصوم
وهو قول الثوري والحسن بن حي وأحمد بن حنبل لا يسعه عندهم غير ذلك
وهو قول أبي ثور
واختلفوا في هلال شوال يراه الرجل وحده فقال مالك وأبو حنيفة لا يفطر
وهو قول أحمد بن حنبل
وروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه كره لمن رأى هلال شوال وحده أن يفطر
وقال الشافعي يفطر الذي رأى هلال شوال وحده إذا لم يشك فيه فإن شك أو خاف أن يتهم لم يأكل
وهو قول أبي ثور
قال ولا يسعه أن يصوم فإن خاف التهمة اعتقد الفطر وأمسك عن الأكل والشرب
وقال مالك من رأى هلال رمضان وحده فأفطر عامدا كان عليه القضاء والكفارة
وقال أبو حنيفة عليه القضاء ولا كفارة عليه للشبهة
وهذا قول أكثر الفقهاء
280

قال أبو عمر لم يذكر مالك في موطئه حكم إشهاده على هلال رمضان وذكره غير واحد من أصحابه عنه ولم يختلف قوله وقول أصحابه أنه لا يجوز على شهادة رمضان أقل من رجلين عدلين وهلال شوال وسائر الأحكام
وقال الشافعي فيما ذكر عنه المزني إن شهد على هلال رمضان شاهد واحد عدل رأيت أن أقبله للأثر الذي جاء فيه
قال والقياس ألا يقبل فيه إلا شهادة عدلين
قال وأما هلال الفطر فلا يقبل فيه إلا عدلان
والذي ذكر المزني عن الشافعي في قبول شهادة الواحد في هلال رمضان هو قول الكوفيين وبن المبارك وأحمد
وقال إسحاق لا يقبل في هلال رمضان وشوال إلا عدلان
وقال أبو بطين عن الشافعي ولا يصام رمضان ولا يفطر منه بأقل من عدلين حرين لسائر الحقوق
وقال أبو حنيفة وأصحابه إذا كان في السماء علة قبلت شهادة رجل عدل في هلال رمضان
قالوا وإن لم تكن في السماء علة قبلت شهادة رجل عدل في هلال رمضان
قالوا وإن لم تكن في السماء علة لم تقبل إلا شهادة عدلين
وهذا قول داود وطائفة من أصحاب الظاهر
وقال الثوري والأوزاعي والليث والحسن بن حي وعبيد الله بن الحسن كقول مالك يقبل في الشهادة على هلال شوال عدلان في الصحو والغيم ولا يقبل أقل من عدلين
وهو قول الشافعي
قال أبو عمر حديث بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أجاز شهادة الأعرابي وحده في هلال رمضان مختلف فيه فمنهم من أسنده وأكثرهم أرسله عن عكرمة
كذلك رواه الثوري وجماعة عن سماك بن حرب عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا وهو قول أكثر الفقهاء
ورواه زائدة بن قدامة والوليد بن ثور وحماد بن سماك عن حماد عن عكرمة عن بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم مسندا
281

ورواه بن وهب عن يحيى بن عبد الله بن سالم عن أبي بكر بن نافع عن أبيه عن بن عمر قال تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام وأمر الناس بالصيام (1)
واختلف العلماء في حكم هلال رمضان أو شوال يراه أهل بلد دون غيرهم
فكان مالك فيما رواه عنه بن القاسم والمصريون إذا ثبت عند الناس أن أهل بلد رأوه فعليهم القضاء لذلك اليوم الذي أفطروه وصيامه غيرهم برؤية صحيحة
وهو قول الليث والشافعي والكوفيين وأحمد
وروى المدنيون عن مالك وهو قول المغيرة وبن دينار وبن الماجشون أن الرؤية لا تلزم غير أهل البلد الذي وقعت فيه إلا أن يكون الإمام يحمل الناس على ذلك
أما الاختلاف الأعمال والسلاطين فلا إلا في البلد الذي رأى فيه الهلال وفي عمله هذا بمعنى قولهم
وروي عن بن عباس أنه قال لكل قوم رؤيتهم
وبه قال عكرمة والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وإليه ذهب بن المبارك وإسحاق بن راهويه وطائفة
قال أبو عمر حجة من قال بهذا القول ما أخبرنا به أبو محمد عبد الله بن محمد قال حدثنا أبو بكر محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا إسماعيل بن جعفر قال حدثني محمد بن أبي حرملة قال أخبرني كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام قال فقدمت الشام فقضيت حاجتها فاستهل رمضان وأنا بالشام فرأينا الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني بن عباس ثم ذكر الهلال فقال متى رأيتم الهلال قلت رأيته ليلة الجمعة قال أنت رأيته قلت نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية قال لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصومه حتى نكمل الثلاثين أو نراه فقلت أفلا تكتفي برؤية معاوية وصيامه قال لا هكذا أمرنا رسول الله (2) صلى الله عليه وسلم
282

وأخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن أسد قال حدثنا حمزة بن محمد بن علي قال حدثنا أحمد بن شعيب النسوي قال أخبرنا علي بن حجر قال أخبرنا إسماعيل بن جعفر قال حدثنا محمد بن أبي حرملة قال أخبرني كريب أن أم الفضل بعثته إلى معاوية بالشام قال فقدمت الشام فقضيت حاجتها فاستهل علي هلال رمضان وذكر رمضان (1) الحديث سواء كما تقدم لأبي بكر
قال أبو عمر قد أجمعوا أنه لا تراعى الرؤية فيما أخر من البلدان كالأندلس من خراسان وكذلك كل بلد له رؤيته إلا ما كان كالمصر الكبير وما تقاربت أقطاره من بلاد المسلمين والله أعلم
وأما قول مالك في الناس يصومون يوم الفطر لرؤيته من رمضان فيأتيهم الثبت أن هلال شوال قد رؤي البارحة أو هلال رمضان قد رؤي قبل أن يصوموا بيوم وأن يومهم ذلك يوم الفطر أحد وثلاثون يوما فإنهم يفطرون ذلك اليوم أي ساعة جاءهم الخبر غير أنهم لا يصلون صلاة العيد إن كان ذلك جاءهم بعد زوال الشمس
وقد مضى ما للعلماء في معنى ما ذكر إلا في صلاة العيد فإن الفقهاء اختلفوا في ذلك
فمذهب مالك الذي لا خلاف فيه عنه وعن أصحابه أنه لا تصلي صلاة العيد في غير يوم العيد ولا في يوم العيد بعد زوال الشمس
واختلف قول الشافعي في هذه المسألة فمرة قال بقول مالك لا تصلى صلاة العيد بعد الزوال
واختاره المزني وقال إذا لم يجز أن تصلى في يوم العيد بعد الزوال فاليوم الثاني أبعد من وقتها وأحرى أن لا تصلى فيه
وعن الشافعي رواية أخرى أنها تصلى في اليوم الثاني ضحى
وقال البويطي عنه لا تصلى بعد إلا إن ثبت في ذلك حديث
قال أبو عمر لو قضيت صلاة العيد بعد خروج وقتها لأشبهت الفرائض وقد أجمعوا في سائر السنن أنها لا تقضى فهذه مثلها
وأما أبو حنيفة وأصحابه فقد ذكر الطحاوي قال كان بن أبي عمر يحكي أن أبا حنيفة كان يقول إذا لم تدرك صلاة العيد حتى تزول الشمس لم تصل بعد
283

وقال أبو يوسف في الإملاء إذا فاتتهم الصلاة يوم العيد بزوال الشمس صلاها بها إمامهم من الغد ما بينهم وبين الزوال فإن لم يفعل لم يصل بعد هذا في الفطر وأما في الأضحى فيصليها بهم في اليوم الثالث
وقال بن سماعة مثل ذلك عن محمد بن الحسن ولم يذكر خلافا
وقال الثوري في الفطر يخرجون من الغد
وقال أحمد يخرجون في الغد
وقال الحسن بن حي لا يخرجون في الفطر ويخرجون في الأضحى
قال أبو عمر لأن الأضحى أيام عيد وهي صلاة عيد وليس للفطر صلاة عيد إلا واحد فإذا لم تصل فيه لم تقض في غيره لأنها ليست بفريضة فتقضى
وقال الليث بن سعد يخرجون في الفطر والأضحى من الغد
وقال الأوزاعي إذا شهد على رؤية هلال شوال بعد الزوال أنهم رأوه بالأمس أفطر الناس ولو كان ذلك قبل مغيب الشمس بيسير وخرجوا إلى مصلاهم من الغد
والحجة لمن قال إنها تصلى من الغد حديث هشيم وغيره عن أبي بشر عن أبي عمير بن أنس عن عمومة أمه من الأنصار أنهم حدثوه قالوا أغمي علينا هلال شوال فأصبحنا صيام فجاء ركب من آخر النهار فشهدوا عند النبي صلى الله عليه وسلم أنهم رأوه بالأمس فأمر النبي - عليه السلام - الناس أن يفطروا من يومهم ويخرجوا لصلاتهم من الغد (1)
أخبرنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا عمر بن علي قال حدثنا يحيى قال حدثني شعبة قال حدثني أبو بشر عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له أن قوما رأوا الهلال وأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن يفطروا بعد ما ارتفع النهار وأن يخرجوا إلى العيد من الغد
((2 - باب من أجمع الصيام (2) قبل الفجر))
593 - ذكر فيه مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول لا يصوم إلا من أجمع الصيام قبل الفجر
284

وعن بن شهاب عن عائشة وحفصة مثل ذلك
قال أبو عمر روى بن القاسم وغيره عن مالك قال لا يصوم إلا من بيت من الليل
قال ومن أصبح لا يريد الصيام ولم يصب شيئا من الطعام حتى تعالى النهار ثم بدا له أن يصوم لم يجز له صيام ذلك اليوم
وقال مالك من بيت الصيام أول ليلة من رمضان أجزأه ذلك عن سائر الشهر
وقال مالك من كان شأنه صيام يوم من الأيام لا يدعه فإنه لا يحتاج إلى التبييت لما قد أجمع عليه من ذلك
قال ومن قال لله علي أن أصوم شهرا متتابعا فصام أول يوم بنية ذلك أجزأه ذلك عن باقي أيام الشهر
ومذهب الليث في هذا كله كمذهب مالك
وقال الشافعي لا يجزئ كل صوم واجب من رمضان أو نذر أو غيره إلا بنية قبل الفجر ويجزئ التطوع أن ينويه قبل الزوال
وقال الثوري في صوم رمضان يحتاج أن ينويه من الليل كل أيامه
وقال الثوري في صوم التطوع إذا نواه في آخر النهار أجزأه
قال وقال إبراهيم له أجر ما استقبل
وهو قول الحسن بن حي
وقال أبو حنيفة وأصحابه إلا زفر لا يجوز صيام رمضان إلا بنية كل يوم محدودة ويجوز أن ينويه قبل الزوال وإن لم ينوه من الليل
وهو قول الأوزاعي
وقال الوليد بن مزيد قلت للأوزاعي رجل صام يوما من آخر شعبان تطوعا ثم تبين له بعد ذلك أنه من رمضان أيجزئ ذلك عنه من شهر رمضان قال نعم وقد وفق لصيامه
وقال زفر يجزئ صوم رمضان بغير نية
قال ولو نوى فيه الإفطار إلا أنه أمسك عما يمسك عنه الصائم أجزأه الصوم إلا أن يكون مسافرا أو مريضا يعذر في الإفطار فلا يجوز إلا أن ينويه من الليل
وحجته أنه كما لا يجزئ أن يصوم أحد من شعبان أو غيره صوما يستقبل به
285

رمضان كذلك لا يكون صيام رمضان عن غيره لأنه وقت لا يصح فيه غيره
ولم يختلف عن مالك وبن القاسم أن المسافر يبيت كل ليلة في شهر رمضان وأنه لا يجزئه الصيام في السفر إلا أن بيته من الليل
قال أبو عمر روى الليث بن سعد عن يحيى بن أيوب وروى بن وهب عن بن لهيعة ويحيى بن أيوب عن عبد الله بن أبي بكر عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن حفصة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له (1)
قال أبو عمر لم يخص في هذا فرضا ولا سنة من نفل وهذا حديث فرد في إسناده ولكنه أحسن ما روي مرفوعا في هذا الباب
والاختلاف في هذا الباب عن التابعين اختلاف كثير ولم يختلف عن بن عمر ولا عن حفصة أنهما قالا لا صيام إلا لمن نواه قبل الفجر
وروي عن بن عباس وعلي وبن مسعود وحذيفة وأنس أنهم أجازوا في التطوع أن ينويه بالنهار قبل الزوال
وروي عن عائشة فيه حديث مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأتي أهله ويقول هل عندكم من طعام فإن قالوا لا قال وأنا إذا صائم (2)
رواه طلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله فاختلف عليه فيه فرواه عنه طائفة عن مجاهد عن عائشة وطائفة روته عنه عن عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين
286

ومنهم من لا يقول فيه إذا ويقول فأنا صائم وتأولوا فيه
قال البخاري قالت أم الدرداء كان أبو الدرداء يقول هل عندكم طعام فإن قلت لا قال فإني صائم
وقال وفعله أبو طلحة وأبو هريرة وبن عباس وحذيفة
((3 - باب ما جاء في تعجيل الفطر))
594 - ذكر فيه مالك عن أبي حازم عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر
595 - وعن عبد الرحمن بن حرملة عن سعيد بن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله
وقد ذكرناه مسندا في التمهيد
وفي هذا فضل تعجيل الفطر وكراهة تأخيره
ثم أردف ذلك بما أوضح به التعجيل
596 - فروي عن بن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن أن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان كانا يصليان المغرب حين ينظران إلى الليل الأسود قبل أن يفطرا ثم يفطرا بعد الصلاة وذلك في رمضان
ورواية معمر لهذا الحديث عن بن شهاب بخلاف هذا اللفظ
ذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أن عمر وعثمان كانا يصليان المغرب في رمضان قبل أن يفطرا
وقد روي عن بن عباس وطائفة أنهم كانوا يفطرون قبل الصلاة
وروى الثوري عن طارق بن عبد الرحمن عن بن المسيب قال كتب عمر إلى
287

أمراء الأجناد ألا تكونوا مسرفين بفطركم ولا منتظرين بصلاتكم اشتباك النجوم (1)
وروى محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال الدين ظاهرا ما عجل الناس الفطر لأن اليهود يؤخرون (2)
قال أبو عمر أجمع العلماء على أنه إذا حلت صلاة المغرب فقد حل الفطر للصائم فرضا وتطوعا وأجمعوا أن صلاة المغرب من صلاة الليل والله - عز وجل - يقول و * (أتموا الصيام إلى الليل) * [البقرة 187]
حدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير ومحمد بن إسماعيل قالا حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان قال حدثنا هشام بن عروة قال أخبرني أبي قال سمعت عاصم بن عمر بن الخطاب يحدث عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقبل الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم (3))
1 (4 - باب ما جاء في صيام الذي يصبح جنبا في رمضان))
597 - ذكر فيه مالك عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر الأنصاري عن أبي يونس مولى عائشة عن عائشة أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف على الباب وأنا أسمع يا رسول الله إني أصبح جنبا وأنا أريد الصيام فقال صلى الله عليه وسلم وأنا أصبح جنبا وأنا أريد الصيام فأغتسل وأصوم فقال له الرجل يا رسول الله إنك لست مثلنا قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي
سقط ليحيى في هذا الحديث عن عائشة كذلك رواه عنه عبيد الله ابنه وذكر بن وضاح فيه عائشة كما رواه سائر الرواة عن مالك
288

598 - وذكر مالك أيضا عن عبد ربه بن سعيد عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن عائشة وأم سلمة زوجي النبي صلى الله عليه وسلم أنهما قالتا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنبا من جماع غير احتلام في رمضان ثم يصوم
قال أبو عمر الآثار متفقة عن عائشة وأم سلمة وغيرهما بمعنى ما ذكره مالك عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم
وما أعلم خلافا في ذلك إلا ما يروى عن أبي هريرة وهو قوله من أصبح جنبا أفطر ذلك اليوم
وقد وقف على ذلك ما حال فيه على غيره وسنذكره بعد إن شاء الله
أخبرنا أحمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال أخبرنا محمد بن منصور قال حدثنا سفيان عن عمرو عن يحيى بن جدعة قال سمعت عبد الله بن عمرو القارئ قال سمعت أبا هريرة يقول لا ورب هذا البيت ما أنا قلته من أدركه الصبح وهو جنب فلا يصوم محمد ورب الكعبة قاله
وروى الليث عن عقيل عن الزهري قال أخبرني عبد الله بن عبد الله بن عمر أنه احتلم ليلا فاستيقظ قبل أن يطلع الفجر ثم نام قبل أن يغتسل فلم يستيقظ حتى أصبح
قال فلقيت أبا هريرة حين أصبحت فاستفتيته في ذلك فقال أفطر فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا بالفطر إذا أصبح الرجل جنبا
قال عبد الله بن عبد الله بن عمر فجئت عبد الله بن عمر فذكرت الذي أفتاني به أبو هريرة فقال إني أقسم بالله لأن أفطرت لأوجعن متنيك فإن بدا لك أن تصوم يوما آخر فافعل
اختلف عن بن شهاب في اسم بن عبد الله بن عمر هذا فقيل عبد الله بن عبد الله بن عمر وقيل عبيد الله بن عبد الله بن عمر وكان ما يروي كلاهما ثقة ثبت
289

قال أبو عمر روي عن أبي هريرة أنه رجع عن هذه الفتوى إلى ما عليه الناس من حديث عائشة ومن وافقها
روى عبد الله بن المبارك عن بن أبي ذئب عن سليمان بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أخيه محمد بن عبد الرحمن أنه سمع أبا هريرة يقول من احتلم أو واقع أهله ثم أدركه الفجر ولم يغتسل فلا يصم
قال ثم سمعته نزع عن ذلك
وروى منصور عن مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي بكرة أن أبا هريرة كف ذلك لحديث عائشة فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم
وروى محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أنه نزع أيضا
وأما اختلاف العلماء في هذا الباب فالذي عليه فقه جماعة الأمصار بالعراق والحجاز القول بحديث عائشة وأم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصبح جنبا ويصوم ذلك اليوم
وهو قول علي وبن مسعود وزيد بن ثابت وأبي الدرداء وأبي ذر وعبد الله بن عمر وبن عباس ومن الفقهاء أئمة الفتوى بالأمصار مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري والأوزاعي والليث وأصحابهم وأحمد وأبو ثور وإسحاق وبن علية وأبو عبيد وداود والطبري وجماعة أهل الحديث
وروي عن إبراهيم النخعي وعروة بن الزبير وطاوس أن الجنب في رمضان إذا علم بجنابته فلم يغتسل حتى يصبح فهو مفطر وإن لم يعلم حين يصبح فهو صائم
وروي عن الحسن البصري وسالم بن عبد الله أنهما قالا يتم صومه ذلك اليوم ويقضيه إذا أصبح فيه جنبا
وقال إبراهيم النخعي في رواية إن ذلك يجزئه في التطوع ويقضي في الفرض
وكان الحسن بن حي يستحب لمن أصبح جنبا في رمضان أن يقضي ذلك اليوم وكان يقول يصوم الرجل تطوعا وإذا أصبح جنبا فلا قضاء عليه وكان يدعي على الحائض إذا أدركها الصبح ولم تغتسل أن تقضي ذلك اليوم
وذهب عبد الملك بن الماجشون في الحائض إلى نحو هذا المذهب انها إذا طهرت قبل الفجر ثم أخرت غسلها حتى تطلع الشمس فيومها يوم فطر لأنها في
290

بعضه غير طاهرة وليست كالتي تصبح جنبا فتصوم لأن الاحتلام لا ينقض الوضوء والحيض ينقضه
قال أبو عمر قول بن الماجشون في التي تؤخر غسلها بعد طهرها قبل الفجر حتى يطلع الفجر ثم تغتسل بعد الفجر أن يومها يوم فطر لأنها كانت في بعضه حائض غفلة شديدة وكيف تكون في بعضه حائضا وقد كمل طهرها قبل الفجر ولذلك أمرت بالغسل ولو لم تكن ما أمرت بالغسل بل هي طاهر فرطت في غسلها فحكمها وحكم الجنب سواء
وعلى هذا جمهور العلماء بالحجاز والعراق وهو قول مالك وأصحابه حاشا عبد الملك وقول الشافعي وأبي حنيفة وإسحاق وأحمد وأبي ثور وغيرهم
وإنما دخلت الشبهة فيه علي بن الماجشون لأن مالكا جعل لها إذا لم تفرط في الحيض من غسلها حكم الحائض وأسقط عنها الصلاة إذا لم تدرك بعد غسلها من غير تفريط مقدار ركعة من وقتها
وقد ذكرنا من خالفه من العلماء في ذلك
وأما الصيام فالطهر فيه عند العلماء رؤيتها للنقاء ولا يراعون غسلها بالماء فمن طلع بها الفجر طاهرا لزمها صوم ذلك اليوم لأن الصوم ليس من شرطه الاغتسال
قال أبو عمر قد ثبت عن النبي في الصائم يصبح جنبا ما فيه غناء واكتفاء عن قول كل أحد ودل كتاب الله تعالى على مثل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك
قال الله تعالى * (فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) * [البقرة 187]
فإذا أبيح الجماع والأكل والشرب حتى يتبين الفجر فمعلوم أن الغسل لا يكون إلا بعد الفجر
وقد نزع بهذا جماعة من العلماء منهم ربيعة والشافعي وغيرهما
ومن الحجة أيضا في ذلك أن العلماء أجمعوا أن الاحتلام بالنهار لا يفسد الصيام
وفي حديث سمي عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن عائشة وأم سلمة
291

والحديث الطويل الذي فيه مراجعة مروان لأبي هريرة (1) وهو مذكور في التمهيد على وجهه بما فيه من المعاني من الفقه ما يدل أن الشيء إذا تنوزع فيه رد إلى من يظن به أن يوجد عنده علم منه وذلك أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بهذا المعنى
وفيه أن من كان عنده علم في شيء وسمع خلافه كان عليه إنكاره من ثقة سمع ذلك أو من غير ثقة حتى يتبين له صحة خلاف ما عنده
وفيه أن الحجة القاطعة عند الاختلاف فيما لا نص فيه من كتاب الله سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفيه اعتراف العالم بالحق وإنصافه إذا سمع الحجة وهكذا أهل العلم والدين
وقد ذكرنا في التمهيد وجوها غير هذه من توجيه الحديث
قال أبو عمر قد ثبت أن أبا هريرة لم يسمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلف عليه فيمن أخبره بذلك
ففي رواية الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أنه قال حدثني الفضل بن عباس
رواه معمر وغيره عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن
وكذلك رواه جعفر بن ربيعة عن عراك بن عبد الرحمن بن مالك عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة
وروى المقبري عن أبي هريرة قال حدثنيه بن عباس
ورواه عمر بن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده عن عائشة وقال فأخبرت أبا هريرة فقال هن أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منا
حدثني بذلك أسامة بن زيد
ذكره النسائي عن جعفر بن مسافر عن بن أبي فديك عن بن أبي ذئب عن عمر بن أبي بكر بن عبد الرحمن وقد ذكرته بإسناده في التمهيد
599 - عن مالك عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن
292

هشام أنه سمع أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام يقول كنت أنا وأبي عند مروان بن الحكم وهو أمير المدينة فذكر له أن أبا هريرة يقول من أصبح جنبا أفطر ذلك اليوم فقال مروان أقسمت عليك يا عبد الرحمن لتذهبن إلى أمي المؤمنين عائشة وأم سلمة فلتسألنهما عن ذلك فذهب عبد الرحمن وذهبت معه حتى دخلنا على عائشة فسلم عليها ثم قال يا أم المؤمنين إنا كنا عند مروان بن الحكم فذكر له أن أبا هريرة يقول من أصبح جنبا أفطر ذلك اليوم قالت عائشة ليس كما قال أبو هريرة يا عبد الرحمن
أترغب عما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع فقال عبد الرحمن لا والله قالت عائشة فأشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يصبح جنبا من جماع
غير احتلام ثم يصوم ذلك اليوم
قال ثم خرجنا حتى دخلنا على أم سلمة فسألها عن ذلك فقالت مثل ما قالت عائشة قال فخرجنا حتى جئنا مروان بن الحكم فذكر له عبد الرحمن ما قالتا فقال مروان أقسمت عليك يا أبا محمد لتركبن دابتي فإنها بالباب فلتذهبن إلى أبي هريرة فإنه بأرضه بالعقيق فلتخبرنه ذلك فركب عبد الرحمن وركبت معه حتى أتينا أبا هريرة
فتحدث معه عبد الرحمن ساعة ثم ذكر له ذلك فقال له أبو هريرة لا علم لي بذاك إنما أخبرنيه مخبر
600 - مالك عن سمي مولى أبي بكر عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن عائشة وأم سلمة زوجي النبي صلى الله عليه وسلم أنهما قالتا إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يصوم
((5 - باب ما جاء في الرخصة في القبلة للصائم))
601 - مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رجلا قبل امرأته
293

وهو صائم في رمضان فوجد من ذلك وجدا شديدا فأرسل امرأته تسأل له عن ذلك فدخلت على أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك لها فأخبرتها أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم فرجعت فأخبرت زوجها بذلك فزاده ذلك شرا وقال لسنا مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم الله يحل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء ثم رجعت امرأته إلى أم سلمة فوجدت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لهذه المرأة فأخبرته أم سلمة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك فقالت قد أخبرتها فذهبت إلى زوجها فأخبرته فزاده ذلك شرا وقال لسنا مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم الله يحل لرسوله صلى الله عليه وسلم ما شاء فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال والله إني لأتقاكم لله وأعلمكم بحدوده
قال أبو عمر هذا الحديث مرسل عند جميع رواة الموطأ عن مالك
والمعنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم صحيح من حديث عائشة وحديث أم سلمة وحفصة
602 - وحديث عائشة عند مالك مسند من حديث هشام عن أبيه عن عائشة ومرسل أيضا على ما ذكرنا
وفيه من الفقه أن القبلة للصائم جائزة في رمضان وغيره شابا كان أو شيخا على عموم الحديث وظاهره لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل للمرأة هل زوجك شيخ أو شاب ولو ورد الشرع بالفرق بينهما لما سكت عنه - عليه السلام - لأنه المنبئ عن الله - عز وجل - مراده من عباده وأظن أن الذي فرق بين الشيخ في القبلة للصائم والشاب ذهب إلى قول عائشة وأيكم أملك لإربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) في
294

حديثها عنه أنه كان يقبلها وهو صائم صلى الله عليه وسلم يعني أملك لنفسه وشهوته
والدليل أن الشيخ والشاب عندها في ذلك سواء وأن قولها إنما خرج على الإشفاق والاحتياط في ذلك ما ذكره
603 - مالك عن يحيى بن سعيد أن عاتكة ابنة زيد بن عمرو بن نفيل امرأة عمر بن الخطاب كانت تقبل رأس عمر بن الخطاب وهو صائم فلا ينهاها
604 - مالك عن أبي النضر عن عائشة بنت طلحة أنها كانت عند عائشة أم المؤمنين فدخل عليها زوجها عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر وهو صائم فقالت عائشة ما يمنعك أن تدنو من أهلك وتقبلها وتلاعبها فقال أقبلها وأنا صائم فقالت نعم
605 - مالك عن زيد بن أسلم أن أبا هريرة وسعد بن أبي وقاص كانا يرخصان في القبلة للصائم
وقد أجمع العلماء على أن من كره القبلة لم يكرهها لنفسها وإنما كرهها خشية ما تحمل إليه من الإنزال وأقل ذلك المذي
لم يختلفوا في أن من قبل وسلم من قليل ذلك وكثيره فلا شيء عليه
وممن قال بإباحة القبلة للصائم عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص وأبو هريرة وبن عباس وعائشة
وبه قال عطاء والشعبي والحسن وهو قول أحمد وإسحاق وداود
وقال أبو حنيفة وأصحابه لا بأس بالقبلة للصائم إذا كان يأمن على نفسه
قالوا وإن قبل وأمنى فعليه القضاء ولا كفارة عليه
وهو قول الثوري والحسن بن حي والشافعي وكلهم يقول من قبل فأمنى فليس عليه غير القضاء
وقال بن علية لا تفسد القبلة الصوم إلا أن ينزل الماء الدافق
295

قال أبو عمر لا أعلم أحدا رخص في القبلة للصائم إلا وهو يشترط السلامة مما يتولد منها وان من يعلم أنه يتولد عليه منها ما يفسد صومه وجب عليه اجتنابها ولو قبل فأمذى لم يكن عليه شيء عند الشافعي وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي وبن علية
وأما أحمد والشافعي فلا يريان الكفارة إلا على من جامع فأولج أو أنزل ناسيا عند أحمد وعند الشافعي عامدا وسيأتي هذا المعنى في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله
وقال مالك لا أحب للصائم أن يقبل فإن قبل في رمضان فأنزل فعليه القضاء والكفارة وإن قبل فأمذى فعليه القضاء ولا كفارة عليه
والمتأخرون من أصحاب مالك البغداديون يقولون إن القضاء ها هنا استحباب
وقد أوضحنا في التمهيد ما في هذا الحديث من إيجاب العمل بخبر الواحد وهو قوله صلى الله عليه وسلم ألا أخبرتيها وذكرنا الآثار المتصلة في هذا الباب من طرق في
التمهيد وهي كلها تبيح القبلة للصائم
((6 - باب ما جاء في التشديد في القبلة للصائم))
606 - ذكر فيه مالك أنه بلغه أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت إذا ذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم تقول وأيكم أملك لنفسه من رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال أبو عمر قد ذكرنا هذا الحديث من طرق عن عائشة كلها صحيحة في التمهيد منها ما
حدثناه عبد الوارث قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بكر بن حماد قال حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى بن عبيد الله بن عمر قال سمعت القاسم بن محمد يحدث عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلني في رمضان وهو صائم ثم تقول عائشة وأيكم كان أملك لإربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم
ورواه سفيان بن عيينة والثوري عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عائشة
296

ورواه الأعمش عن إبراهيم عن الأسود وعلقمة عن عائشة
ورواه بن شهاب عن عروة وأبي سلمة عن عائشة كلهم بمعنى واحد
وقد مر في الباب قبل هذا معناه
وذكر مالك في هذا الباب عن
هشام بن عروة قال عروة بن الزبير لم أر القبلة للصائم تدعو إلى خير
607 - وعن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن عبد الله بن عباس سئل عن القبلة للصائم فأرخص فيها للشيخ وكرهها للشاب
608 - وذكر عن نافع أن عبد الله بن عمر كان ينهى عن القبلة والمباشرة للصائم
قال أبو عمر وممن كره القبلة للصائم بن مسعود وبن عباس
روى فضيل بن مرزوق عن عطية عن بن عباس في القبلة للصائم قال إن عروق الخصيتين معلقة بالأنف فإذا وجد الريح تحرك ودعى إلى ما هو أكثر والشيخ أملك لإربه
وذكر عبد الرزاق عن معمر عن عاصم بن سليمان الأحول قال جاء رجل شيخ إلى بن عباس يسأله عن القبلة وهو صائم فرخص له وجاءه شاب فنهاه
قال عبد الرزاق وأخبرنا بن عيينة عن عبد الله بن أبي يزيد قال سمعت بن عباس يقول لا بأس بها إذا لم يكن معها غيرها
قال أبو عمر لم يأخذ مالك بقول بن عباس في ذلك لأنه كرهها للشيخ والشاب وذهب فيها مذهب بن عمر وهو شأنه في الاحتياط - رضي الله عنه -
والأصل أن القبلة لم يكرهها من كرهها إلا لما يخشى أن تولده على الصائم من التطرق إلى الجماع على كل صائم وبالله التوفيق
أخبرنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا أبو إسماعيل الترمذي قال حدثنا مسلم بن إبراهيم قال حدثنا همام عن قتادة عن رزين بن كريم
297

عن بن عمر أنه سئل ما للصائم لا يرفث ولا يقبل ولا يلمس
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل قلت لأبي روى يونس بن عبيد عن رزيق بن كريم السلمي عن بن عمر أنه سئل ما للصائم من امرأته قال لا يقبل ولا يلمس ولا يرفث عف صومك فقال نعم رزيق بن كريم هذا رواه عنه يونس بن كريم وسعيد الجريري
((7 - باب ما جاء في الصيام في السفر))
609 - ذكر في هذا الباب عن بن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر فأفطر الناس وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
610 - وذكر عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس في سفره عام الفتح بالفطر وقال تقووا لعدوكم وصام رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال أبو بكر قال الذي حدثني لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج يصب الماء على رأسه من العطش أو من الحر ثم قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم يا رسول الله إن طائفة من الناس قد صاموا حين صمت قال فلما كان رسول الله بالكديد دعا بقدح فشرب فأفطر الناس
611 - وذكر عن حميد الطويل عن أنس بن مالك أنه قال سافرنا مع
298

رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم
612 - وذكر عن هشام بن عروة عن أبيه أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله إني رجل أصوم أفأصوم في السفر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شئت فصم وإن شئت فأفطر
613 - وذكر عن نافع أن عبد الله بن عمر كان لا يصوم في السفر
614 - وذكر عن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يسافر في رمضان ونسافر معه فيصوم عروة ونفطر نحن فلا يأمرنا بالصيام
قال أبو عمر قوله وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون إنه من كلام بن شهاب
وفيه دليل أن في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسخا ومنسوخا
واحتج من ذهب إلى أن الفطر أفضل في السفر لأن آخر فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الفطر في السفر
ورواه معمر عن الزهري وقال فيه قال الزهري فكان الفطر آخر الأمرين
وفي هذا الحديث إباحة السفر في رمضان
وفي ذلك رد لقول من قال من دخل عليه رمضان لم يجز له أن يسافر فيه إلا أن يصوم لأنه قد لزمه صومه في الحضر ولو دخل عليه رمضان في سفره كان له أن يفطر في سفره ذلك
وقد أوضحنا معنى هذا القول ومن قال به فيما بعد من هذا الكتاب
وفي هذا الحديث أيضا رد لقول من زعم أن الصيام في السفر لا يجزئ لأن الفطر عزيمة من الله تعالى
299

روي معنى ذلك عن عمر وبن عمر وأبي هريرة وعبد الرحمن بن عوف وبن عباس على اختلاف عنه وعن الحسن البصري مثله
وبه قال قوم من أهل الظاهر
وأحاديث هذا الباب تدفع هذا القول وتقضي بجواز الصوم للمسافر إن شاء وأنه مخير إن شاء صام وإن شاء أفطر لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام في السفر وأفطر
وعلى التخيير في الصوم أو الفطر للمسافر جمهور العلماء وجماعة فقهاء الأمصار
وفيه أيضا رد لقول علي - رضوان الله عليه - أنه من استهل عليه رمضان مقيما ثم سافر أنه ليس له أن يفطر لقول الله تعالى * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) * [البقرة 185]
والمعنى عندهم من أدركه رمضان مسافرا أفطر وعليه عدة من أيام أخر ومن أدركه حاضرا فليصمه
روى حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن سيرين عن عبيدة عن علي بن أبي طالب - رضوان الله عليه - قال من أدركه رمضان وهو مقيم ثم سافر لزمه الصوم لأن الله تعالى يقول * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) * [البقرة 185]
وبه قال عبيدة وسويد بن غفلة وأبو مجلز
كذا قال أبو مجلز لا يسافر أحد في رمضان فإن سافر ولا بد فليصم
وقوله مردود لسفر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان وإفطاره فيه
واختلف العلماء في فطر رسول الله صلى الله عليه وسلم المذكور في هذا الحديث
فقال قوم معناه أنه أصبح مفطرا فقدم الفطر في ليلة فتمادى عليه في سفره
وهذا جائز للمسافر بإجماع الأمة إن اختار الفطر إن بيته في سفره
وقال آخرون معناه أنه أفطر في نهاره بعد أن مضى صدر منه وأن الصائم جائز له أن يفعل ذلك في سفره
واحتجوا بما حدثنا أحمد بن قاسم وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا روح بن عبادة قال حدثنا حماد عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سافر في رمضان فاشتد الصوم على رجل من أصحابه فجعلت ناقته تهيم به تحت الشجر فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأمره فدعا لبنا فلما رآه الناس على يده أفطروا
300

وبحديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس وهم مشاة وركبان فقيل له إن الناس قد شق عليهم الصوم وإنما ينظرون إلى ما فعلت فدعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شرب فأفطر بعض الناس وصام بعض فقيل للنبي - عليه السلام - إن بعضهم قد صام فقال أولئك العصاة (1)
واختلف العلماء في الذي يختار الصوم في السفر فيبيت الصيام ويبيت صائما ثم يفطر نهارا من غير عذر فكان مالك يوجب عليه القضاء والكفارة لأنه كان مخيرا في الصوم والفطر فلما اختار الصوم وبيته لزمه ولم يكن له الفطر فإن أفطر عامدا من غير عذر فعليه القضاء والكفارة
وقد روي عنه أنه لا كفارة عليه وهو قول أكثر أصحابه إلا عبد الملك فإنه قال إن أفطر بجماع كفر لأنه لا يقوى بذلك على سفره ولا عذر له لأن المسافر إنما أبيح له الفطر ليقوى بذلك على سفره
وقال سائر الفقهاء بالعراق والحجاز إنه لا كفارة عليه منهم الشافعي والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وسائر فقهاء الكوفة
وروى البويطي عن الشافعي قال يفطر إن صح حديث كراع الغميم لم أر بأسا أن يفطر المسافر بعد دخوله في الصوم
وروى عنه المزني أنه لا يفطر فإن أفطر فلا كفارة عليه
قال أبو عمر الحجة في سقوط الكفارة واضحة من جهة الأثر المذكور عن جابر ومن جهة النظر أيضا لأنه متأول غير هاتك لحرمة صومه عند نفسه وهو مسافر قد دخل
في عموم إباحة الفطر
وأما حديث سمي فهو مسند صحيح ولا فرق فيه بين أن يسمي التابع الصاحب الذي حدثه أو لا يسميه في جواز العمل بحديثه لأن الصحابة كلهم عدول مرضيون وهذا أمر مجتمع عليه عند أهل العلم بالحديث
وقد روى معنى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بن عباس وأبو سعيد الخدري وجابر
301

وفيه أيضا من الفقه أن المسافر جائز له الصوم في السفر بخلاف ما روي فيه عمن قدمنا ذكره
وأما حديث حميد عن أنس فإن بن وضاح زعم أن مالكا لم يتابع على قوله فيه كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنما الحديث عن حميد عن أنس أنه قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسافرون فيصوم بعضهم ويفطر بعضهم فلا يعيب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم ليس فيه ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أنه كان شاهدهم في حالهم تلك
وهذا غلط منه وقلة معرفة بالأثر وقد تابع مالكا على ذلك جماعة من الحفاظ منهم أبو إسحاق الفزاري وأنس بن عياض ومحمد بن عبد الله الأنصاري وعبد الوهاب الثقفي كلهم رووه عن حميد عن أنس بلفظ حديث مالك سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء
وقد ذكرنا أسانيد ذلك كله في التمهيد
وروى بن عباس وأبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل لفظ حديث أنس
وما أعلم أحدا روى حديث أنس على ما حكاه بن وضاح إلا يحيى بن سعيد القطان عن حميد عن أنس قال كنا نسافر مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان منا الصائم ومنا المفطر فلا يعيب هذا على هذا ولا هذا على هذا
ومن هنا قال بن وضاح ما قاله مما ذكرنا عنه والله أعلم لأنه قد روى من حديث القطان ثلاثة أجزاء قد كتبناها عن شيوخنا وفيها هذا الحديث كما ذكر وليس بشيء والذي رواه الحفاظ أولى
وفي الحديث من الفقه رد قول من زعم أن الصائم في السفر لا يجزئه الصوم
وقد ذكرنا القائلين فيما تقدم من هذا الباب
ولا حجة لأحد من السنة الثابتة
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صام في السفر ولم يعب على من أفطر ولا على من صام فثبتت حجته ووجب التسليم له
وإنما اختلف الفقهاء في الأفضل من الفطر في السفر أو الصوم فيه لمن قدر عليه
فروينا عن عثمان بن أبي العاص وأنس بن مالك صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهما قالا الصوم في السفر أفضل لمن قدر عليه
302

وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وهو نحو قول مالك والثوري قالا الصوم في السفر أحب إلينا لمن قدر عليه فاستدللنا أنهم لم يستحسنوه إلا أنه أفضل عندهم
وقال الشافعي وهو مخير ولم يفضل
وهو قول بن علية
وقد روي عن الشافعي أن الصوم أحب إليه
وروي عن بن عمر وبن عباس أن الرخصة أفضل
وبه قال سعيد بن المسيب والشعبي وعمر بن عبد العزيز ومجاهد وقتادة والأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه كلهم يقول الفطر أفضل لقوله - عز وجل - * (يريد الله بكم اليسر) * [البقرة 185]
قرأت على عبد الوارث عن قاسم قال حدثنا أحمد بن يزيد قراءة عليه قال حدثنا موسى بن معاوية قال حدثنا وكيع عن علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس من البر الصوم في السفر عليكم برخصة الله فاقبلوها (1)
وقد روي عن بن عباس في المسافر إن شاء صام وإن شاء أفطر (2)
وهو الثابت عن النبي - عليه السلام - من حديث أنس وحمزة بن عمرو وبن عباس وأبي سعيد
قال أبو عمر كان حذيفة وسعيد بن جبير والشعبي وأبو جعفر محمد بن علي لا يصومون في السفر وكان عمرو بن ميمون والأسود بن يزيد وأبو وائل يصومون في السفر وكان بن عمر يكره الصيام في السفر
303

فإن قال قائل ممن يميل إلى قول أهل الظاهر في هذه المسألة قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ليس من البر الصيام في السفر وما لم يكن من البر فهو من الإثم يذكر ذلك أن صوم رمضان لا يجزئ في السفر
فالجواب أن هذا الحديث خرج لفظه على بعض معين وهو رجل رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صائم قد ظلل عليه وهو يجود بنفسه فقال ذلك القول أي ليس البر أن يبلغ الإنسان بنفسه هذا المبلغ والله قد رخص له في الفطر
حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن الجهم ومحمد بن أبي العوام قالا حدثنا روح بن عبادة قال حدثنا شعبة عن محمد بن عبد الرحمن عن محمد بن عمرو بن حسن عن جابر بن عبد الله قال كان نبي الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى زحاما ورجلا قد ظلل عليه فقال ما هذا فقالوا صائم فقال ليس من البر أن تصوموا في السفر
قال أبو عمر يعني إذا بلغ الصوم من أحدكم هذا المبلغ - والله أعلم -
قال أبو عمر الدليل على صحة هذا التأويل صوم رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر ولو كان الصوم في السفر إثما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبعد الناس منه
ويحتمل قوله - عليه السلام - ليس من البر الصيام في السفر هو أبر البر لأنه قد يكون الإفطار أبر منه إذا كان في حج أو جهاد ليقوى عليه
وقد يكون الفطر في السفر المباح برا لأن الله تعالى أباحه
وقوله ليس من البر وليس البر سواء إلا أن العرب تقول ما جاءني من أحد تريد ما جاءني أحد
ونظير هذا من كلامه صلى الله عليه وسلم ليس المسكين بالطواف الذي ترده التمرة والتمرتان قيل فمن المسكين قال الذي سئل ولا عليه (1)
وقالت عائشة إن المسكين ليقف على بابي (2) الحديث
304

ومعلوم أن الطواف مسكين وأنه من أهل الصدقة لقوله عز وجل * (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) * [التوبة 60]
وأجمعوا أن الطواف منهم فعلم أن قوله - عليه السلام - ليس المسكين بالطواف معناه ليس السائل بأشد الناس مسكنة لأن المتعفف الذي لا يسأل الناس أشد مسكنة منه
وكذلك قوله - عليه السلام - ليس من البر الصيام في السفر لأن الفطر فيه بر أيضا لمن شاء أن يأخذ برخصة الله تعالى وقد قال صلى الله عليه وسلم إذا وقف المسكين على باب أحدكم فليبره ولو بتمرة
فأما من احتج بقوله تعالى * (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) * [البقرة 185] وزعم أن ذلك عزمة فلا دليل على ذلك لأن ظاهر الكلام وسياقه يدل على الرخصة والتخيير
والدليل على ذلك قوله تعالى * (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) * [البقرة 185]
ودليل آخر أن المريض الحامل على نفسه إذا صام فإن ذلك يجزئ عنه فدل ذلك أنه رخصة له والمسافر في المعنى مثله والله الموفق للصواب
وأما حديث حمزة بن عمرو فإن يحيى رواه عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن حمزة بن عمرو وسائر أصحاب مالك رواه عن هشام عن أبيه عن عائشة
كذلك رواه جماعة عن هشام منهم حماد بن سلمة وبن عيينة ومحمد بن عجلان ويحيى القطان وبن نمير وأبو أسامة ووكيع وأبو معاوية والليث بن سعد وأبو حمزة وأبو إسحاق الفزاري كلهم ذكروا فيه عائشة
ورواه أبو معشر المدني وجرير بن عبد الحميد والمفضل بن فضالة عن هشام عن أبيه أن حمزة بن عمرو كما رواه يحيى عن مالك
ورواه بن وهب عن عمرو بن الحارث عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير عن أبي مراوح عن حمزة بن عمر
وأبو الأسود ثبت في عروة وقد خالف هشاما فجعل الحديث عن عروة عن أبي مراوح عن حمزة بن عمرو وعن عروة عن عائشة
ورواية أبي الأسود تدل أن رواية يحيى ليست بخطأ
305

وقد روى سليمان بن يسار هذا الحديث عن حمزة بن عمرو الأسلمي وسنه قريب من سن عروة والحديث صحيح لعروة وقد يجوز أن يكون عروة سمعه من عائشة ومن أبي مراوح جميعا عن حمزة فحدث به عن كل واحد منهما وأرسله أحيانا والله أعلم
وفي هذا الحديث التخيير للصائم في سفره في الفطر والصيام
وهو مذهب جماعة فقهاء الأمصار
روى عبد الرزاق عن معمر عن أيوب قال دعا عمر بن عبد العزيز سالم بن عبد الله وعروة بن الزبير فسألهما عن الصيام في السفر فقال عروة نصوم وقال سالم لا نصوم فقال عروة إنما أحدث عن عائشة وقال سالم إنما أحدث عن عبد الله بن عمر فلما امتريا قال عمر بن عبد العزيز اللهم اغفر أصومه في اليسر وأفطره في العسر
وأما حديثه عن نافع عن بن عمر أنه كان لا يصوم في السفر فيحتمل أن يكون على الاختيار فيكون أحد القائلين بأن الفطر في السفر أفضل وقد مضت الحجة لهذا القول وعليه
وكان عروة أحد المختارين للصوم في السفر وقد ذكرنا ذلك كله والحمد لله
((8 - باب ما يفعل من قدم من سفر أو أراده في رمضان))
615 - مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب كان إذا كان في سفر في رمضان فعلم أنه داخل المدينة من أول يومه دخل وهو صائم
قال مالك من كان في سفر فعلم أنه داخل على أهله من أول يومه وطلع له الفجر قبل أن يدخل دخل وهو صائم
قال أبو عمر أما ما ذكره مالك عن عمر فهو المستحب عند جماعة العلماء إلا أن بعضهم أشد تشديدا فيه من بعض وما أعلم أحدا دخل مسافرا على أهله مفطرا كفارة
وأما قول مالك في الذي يريد ان يخرج في رمضان مسافرا فطلع له الفجر وهو بأرضه قبل أن يخرج فإنه يصوم ذلك اليوم فإن العلماء اختلفوا في الذي يصبح في
306

الحضر صائما في رمضان ثم يسافر في صبيحة يومه وذلك هل له أن يفطر في ذلك اليوم في سفره أم لا
فذهب مالك وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي إلى أنه لا يفطر ذلك اليوم
وهو قول الزهري ويحيى بن سعيد والأوزاعي وأبي ثور
وكلهم قالوا إن أفطر بعد خروجه ذلك اليوم فليس عليه إلا القضاء
وروي عن المخزومي وبن كنانة انه يقضي ويكفر وليس قولهما هذا بشيء ولا له حظ من النظر ولا سلف من جهة الأثر
وروي عن بن عمر في هذه المسألة أنه يفطر في يومه ذلك إن شاء إذا خرج مسافرا
وهو قول الشعبي وأحمد وإسحاق
قال أحمد يفطر إذا برز عن البيوت
وقال إسحاق يفطر حين يضع رجله في الرحل
وهو قول داود
وروي عن الحسن في رواية أنه لا يفطر ذلك اليوم إلا أن يشتد عليه العطش فإن خاف على نفسه أفطر
وقال إبراهيم النخعي لا يفطر ذلك اليوم
ولم يختلف عن مالك في الذي يريد السفر أنه لا يجوز له أن يفطر في الحضر حتى يخرج
واختلف أصحابه فيه إن أفطر قبل أن يخرج
فذكر بن سحنون عن بن الماجشون أنه إن سافر فلا شيء عليه من الكفارة وإن لم يسافر فعليه الكفارة
واحتج بما روي عن الحسن البصري قال يفطر في بيته إن شاء يوم يريد أن يخرج
وقال أشهب لا شيء عليه من الكفارة سافر أو لم يسافر
وقال سحنون عليه الكفارة سافر أو لم يسافر وهو بمنزلة المرأة تقول غدا تأتيني حيضتي فتفطر لذلك ثم رجع إلى قول عبد الملك وقال ليس مثل المرأة لأن الرجل يحدث السفر إذا شاء والمرأة لا تحدث الحيضة
307

وقال بن حبيب إن كان قد تأهب لسفره وأخذ في سبب الحركة فلا شيء عليه
وحكي ذلك عن أصبغ وبن الماجشون
فإن عاقه عن السفر عائق كان عليه الكفارة
قال أبو عمر هذا ضعف من الذي قاله لأنه إن كانت حركته لسفر وتأهبه يبيح له الفطر وحكمه في ذلك حكم المسافر وقد وقع أكله مباحا وعذره قائم بالعائق المانع فلا وجه للكفارة هنا ولا معنى
وروى عيسى عن بن القاسم أنه لا كفارة عليه لأنه متأول في فطره
قال أبو عمر هذا أصح أقاويلهم في هذه المسألة لأنه غير منتهك لحرمة الصوم وإنما هو متأول ولو كان الأكل مع نية السفر يوجب عليه الكفارة لأنه كان قبل خروجه ما أسقطها عنه خروجه وتأمل ذلك تجده كذلك إن شاء الله
وقد روى إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدثنا عيسى بن ميناء قالون قال حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير عن زيد بن أسلم عن بن المنكدر عن محمد بن كعب قال أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد سفرا فأكل فقلت له سنة فلا أحسبه إلا قال نعم
قال وحدثنا علي بن المديني قال حدثنا أبي عن زيد بن أسلم بإسناده مثله وقال قلت له سنة قال نعم ثم ركب
قال وحدثنا به علي بن المديني وإبراهيم بن قرة عن الدراوردي عن زيد بن أسلم بإسناده وقال فيه قلت له سنة قال لا ثم ركب
واتفقوا في الذي يريد السفر في رمضان أنه لا يجوز له أن يبيت الفطر لأن المسافر لا يكون مسافرا بالنية وإنما يكون مسافرا بالنهوض في سفره أو الأخذ في أهبته وليست النية في السفر كالنية في الإقامة لأن المسافر إذا نوى الإقامة كان مقيما في الحين لأن الإقامة لا تفتقر إلى عمل والمقيم إذا نوى السفر لم يكن مسافرا حتى يأخذ في سفره ويبرز عن الحضر فيجوز له حينئذ تقصير الصلاة وأحكام المسافر إلا من جعل تأهبه للسفر وعمله فيه كالسفر والبروز عن الحضر لزمه أن لا يجب عليه في أكله قبل خروجه
وقد أجمعوا أنه لو مشى في سفره حتى تغيب بيوت القرية والمصر فنزل فأكل ثم عاقه عائق عن النهوض في ذلك السفر لم تلزمه كفارة
308

وأما قول مالك في الذي يقدم من سفره وهو مفطر وامرأته مفطرة حين طهرت من حيضها في رمضان أن لزوجها أن يصيبها إن شاء
قال أبو عمر لم يفرق مالك في هذه المسألة بين قدوم المسافر مفطرا في أول النهار أو في آخره وهو يبين لك أن قوله في آخر الباب من علمه في سفره أنه داخل إلى أهله وطلع له الفجر أنه يدخل صائما على الاستحسان
وهو قول الثوري والشافعي وأحمد بن حنبل وأبي عبيد والطبري
واحتج الثوري بحديث عن جابر بن زيد أنه قدم من سفره في رمضان فوجد امرأته قد طهرت فأصابها
قال وقال بن مسعود من أكل أول النهار فليأكل آخره
وقال الثوري هو عندي مثل فعل جابر بن زيد
وقال أبو حنيفة وأصحابه والحسن بن حي والأوزاعي في الحائض تطهر والمسافر يقدم أنهما يمسكان عن الأكل في بقية يومهما ويقضيان
وقال بن شبرمة في المسافر إذا قدم وقد أكل أنه يصوم يومه ويقضي
قال وأما المرأة فإنها تأكل إذا طهرت نهارا ولا تصوم
قال أبو عمر احتج الكوفيون على مالك والشافعي باتفاقهم في الذي ينوي الإفطار في أول يوم من رمضان وهو عنده آخر يوم من شعبان ثم يصح عنده في ذلك اليوم أنه رمضان ولم يأكل أنه يتم صومه ويقضيه
قال أبو عمر ليس هذا بلازم والفرق بينهما أن المسافر له الفطر والحاضر الجاهل بدخول الشهر ليس جهله برافع عنه الواجب عليه إذا علمه لزوال جهله بذلك ولم يكن ما فعله كما كان للمسافر فعل ما فعله من فطره والله الموفق للصواب
((9 - باب كفارة من أفطر في رمضان))
616 - مالك عن بن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن
309

أبي هريرة أن رجلا أفطر في رمضان فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا فقال لا أجد فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرق تمر (1) فقال خذ هذا فتصدق به فقال يا رسول الله ما أحد أحوج مني فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال كله
617 - وعن عطاء بن عبد الله الخرساني عن سعيد بن المسيب أنه قال جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يضرب نحره وينتف شعره ويقول هلك الأبعد (2) فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذاك فقال أصبت أهلي وأنا صائم في رمضان فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تستطيع أن تعتق رقبة فقال لا فقال هل تستطيع أن تهدي بدنة قال لا قال فاجلس فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرق تمر فقال خذ هذا فتصدق به فقال ما أحد أحوج مني فقال كله وصم يوما مكان ما أصبت
قال مالك قال عطاء فسألت سعيد بن المسيب كم في ذلك العرق من التمر فقال ما بين خمسة عشر صاعا إلى عشرين
قال أبو عمر لم يختلف رواة الموطأ عن مالك في حديث بن شهاب في هذا الباب أنه رواه بلفظ التخيير في العتق والصوم والإطعام ولم يذكر الفطر بأي شيء كان بجماع أو بأكل
وتابعه على روايته هذه بن جريج وأبو إدريس عن بن شهاب
وكذلك رواه أبو بكر بن أبي أويس عن سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد عن بن شهاب بإسناده مثله
ورواه أشهب عن مالك والليث جميعا عن بن شهاب بإسناده مثله وهو خطأ من أشهب على الليث والمعروف فيه عن الليث كرواية بن عيينة ومعمر وإبراهيم بن سعد ومن تابعهم
والذي رواه بن عيينة ومعمر وأكثر رواة بن شهاب في هذا الحديث عن بن
310

شهاب عن حميد عن نافع عن أبي هريرة أن رجلا وقع على امرأته في رمضان فذكروا المعنى الذي به أفطر عامدا وذكروا الكفارة على ترتيب كفارة الطهارة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تستطيع أن تعتق رقبة قال لا قال فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين قال لا ثم ذكروا الإطعام إلى آخر الحديث
ورواه كما رواه بن عيينة وشعيب بن أبي حمزة والأوزاعي وعبد الرحمن بن خالد بن مسافر والليث بن سعد وإبراهيم بن سعد والحجاج بن أرطاة ومنصور بن المعتمر وعراك بن مالك كلهم عن بن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة في رجل وقع على امرأته في رمضان على هذا الترتيب
وقد رواه قوم عن مالك كرواية هؤلاء على الترتيب وذكر الجماع منهم الوليد بن مسلم وحماد بن مسعدة وإبراهيم بن سعد
وقد ذكرنا الأحاديث عنهم وعن أصحاب بن شهاب بذلك في التمهيد
والصحيح عن مالك ما في الموطأ
وذهب مالك في الموطأ إلى أن المفطر في رمضان بأكل أو شرب أو جماع أن عليه الكفارة المذكورة في هذا الحديث على ظاهره لأنه ليس في روايته فطر مخصوص بشيء دون شيء فكل ما وقع عليه اسم فطر متعمدا فالكفارة لازمة لفاعله على ظاهر الحديث
وروي عن الشعبي في المفطر عامدا في رمضان أن عليه عتق رقبة أو إطعام ستين مسكينا أو صيام شهرين متتابعين مع قضاء اليوم
وروي مثل ذلك عن الزهري ذكره سعيد قال حدثنا معتمر بن سليمان عن برد بن سفيان عن بن شهاب الزهري في الرجل يقع على امرأته في رمضان قال فيه من الكفارة ما في الطهارة بعتق رقبة أو يطعم ستين مسكينا أو يصوم شهرين متتابعين
وفي قول الشعبي والزهري ما يقضي لرواية مالك بالتخيير في هذا الحديث وهو حجة مالك إلا أن مالكا يختار الإطعام لأنه يشبه البدل من الصيام
ألا ترى أن الحامل والمرضع والشيخ الكبير والمفرط في رمضان حتى يدخل عليه رمضان آخر لا يؤمر واحد منهم بعتق ولا صيام مع القضاء وإنما يؤمر بالإطعام فالإطعام له مدخل من الصيام ونظائر من الأصول
فهذا ما اختاره مالك وأصحابه
311

وقال بن وهب عن مالك الإطعام أحب إلي في ذلك من العتق وغيره
وقال بن القاسم عنه إنه لا يعرف إلا الإطعام ولا يأخذ بالعتق لا بالصيام
وقد ذكر عن عائشة قصة الواقع على أهله في رمضان في هذا الخبر ولم يذكر فيه الإطعام (1)
وذهب الشافعي والثوري وسائر الكوفيين إلى أن كفارة المفطر في رمضان للجماع عامدا ككفارة المظاهر مرتبة
وذهبت جماعتهم أيضا إلى أن من كفر بالصيام أن الشهرين متتابعان إلا بن أبي ليلى فقال ليس الشهران متتابعين من ذلك
وقد ذكرنا في التمهيد من ذكر التتابع في الشهرين بأسانيد حسان
واختلفوا أيضا في قضاء ذلك اليوم مع الكفارة فقال مالك الذي نأخذ به في الذي يصيب أهله في رمضان إطعام ستين مسكينا وصيام ذلك اليوم
قال وليس العتق والنحر من كفارة رمضان في شيء
وقال الأوزاعي إن كفر بالعتق أو بالطعام صام يوما مكان ذلك اليوم الذي أفطر فإن صام شهرين متتابعين دخل فيهما قضاء يومه ذلك
وقال الثوري يقضي اليوم ويكفر مثل كفارة الظهار
وقال الشافعي يحتمل إن كفر أن تكون الكفارة بدلا من الصيام ويحتمل أن يكون الصيام بدلا من الكفارة ولكل وجه وأحب إلي أن يكفر ويصوم مع الكفارة (هذه رواية الربيع)
وقال المزني عنه فيمن وطئ امرأته فأولج عامدا كان عليه القضاء والكفارة
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وأبو ثور وأحمد بن حنبل وإسحاق ويقضي يوما مكانه ويكفر مثل كفارة الظهار
312

وقال الأثرم قلت لأبي عبد الله الذي يجامع في رمضان ثم يكفر أليس عليه أن يصوم يوما مكانه قال ولا بد أن يصوم يوما مكانه
ومن حجة من لم ير مع الكفارة قضاء أنه ليس في خبر أبي هريرة ولا خبر عائشة ولا في نقل الحفاظ لهما ذكر القضاء وإنما فيهما الكفارة فقط ولو كان القضاء واجبا لذكره مع الكفارة
ومن حجة من رأى القضاء مع الكفارة حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن أعرابيا جاء ينتف شعره فقال يا رسول الله وقعت على امرأتي في رمضان فذكر مثل حديث أبي هريرة وزاد وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقضي يوما مكانه
وقد رواه هشام بن سعد عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رجلا أفطر في رمضان فخالف الحفاظ فيه في موضعين أحدهما أنه جعله عن أبي سلمة وإنما هو عن حميد والآخر أنه زاد فيه ذكر الصوم قال فيه كله أنت وأهل بيتك وصم يوما مكانه
وهشام بن سعد لا يحتج به في حديث بن شهاب ومن جهة النظر والقياس أن الكفارة عقوبة للذنب الذي ركبه والقضاء بدل من اليوم الذي أفسده فكما لا يسقط عن المفسد حجة بالوطئ البدل إذا أهدى فكذا قضاء اليوم والله أعلم
واختلف العلماء فيمن أفطر يوما في رمضان بأكل أو شرب متعمدا
فقال مالك وأصحابه والثوري وأبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي وإسحاق بن راهويه وأبو ثور عليه من الكفارة ما على المجامع كل واحد منهم على أصله الذي قدمنا ذكره عنهم من الترتيب والتخيير
وإلى هذا ذهب محمد بن جرير
وروي مثل ذلك أيضا عن عطاء في رواية وعن الحسن والزهري
وقال الشافعي وأحمد عليه القضاء ولا كفارة عليه
وهو قول سعيد بن جبير وبن سيرين وجابر بن سعد والشعبي وقتادة
وروى مغيرة عن إبراهيم مثله
ذكر سنيد عن عباد بن العوام عن سعيد بن أبي عروبة عن يعلى بن حكيم عن سعيد بن جبير قال إذا أفطر يوما من رمضان متعمدا قضى يوما مكانه كما قال
313

وحدثنا عباد بن هشام بن حسان عن سعيد عن بن سيرين قال يعوذ منه من الذنوب يستغفر الله منه ويتوب ويصوم يوما مكانه
قال عباد إنما الكفارة على من واقع
وقال الشافعي عليه مع القضاء العقوبة وانتهاكه حرمة الشهر
وسائر من ذكرنا قوله من التابعين قال يقضي يوما مكانه ويستغفر الله ويتوب إليه
قال بعضهم ويصنع معروفا
ولم يذكر عنهم عقوبة
وقال أحمد والشعبي لا أقول بالكفارة إلا في الفتيان (ذكره الأثرم عنه)
وقد روي عن عطاء أن من أفطر يوما من رمضان من غير علة كان عليه تحرير رقبة فإن لم يجد فبقرة أو بدنة أو عشرون صاعا من طعام يطعم المساكين
وروى قتادة عن الحسن قال إذا لم يجد المجامع عامدا في رمضان رقبة أهدى بدنة إلى مكة
قال ولو أفطر بغير جماع لم يكن عليه إلا قضاء يوم
وقد روي عن الحسن أنه سوى بين الآكل والمجامع في الرقبة والبدنة
وعن بن عباس قال عليه عتق رقبة أو صوم شهر أو إطعام ثلاثين مسكينا
وعن بن المسيب أنه قال عليه صوم شهر
وعنه أيضا وهو قول ربيعة أن عليه أن يصوم اثني عشر يوما
وكان ربيعة يحتج لقوله هذا بأن شهر رمضان فضل على اثنى عشر شهرا فمن أفطر فيه يوما كان عليه اثنى عشر يوما
وكان الشافعي يعجب من هذا وينتقص فيه ربيعة
ولربيعة شذوذ منها في المحرم يقتل جرادة أن عليه صاعا من قمح لأنه أذى الصيد ومنها فيمن طلق امرأة من نسائه الأربع وجهلها بعينها أنه لا يلزمه فيهن شيء ولا يمنع من وطئهن
وبه قال داود
وروى معمر عن قتادة عن بن المسيب أنه سأله عن رجل أكل في رمضان
314

عامدا قال عليه صيام شهر فقلت يومين قال صيام شهر قال فعددت أياما فقال صيام شهر
هكذا قال معمر عن قتادة وهي رواية مفسرة وأظنه ذهب إلى التتابع في الشهر ألا يخلطه بفطر كأنه يقول من أفسده بفطر يوم أو أكثر قضاه كله نسقا لأن الله تعالى فرض شهر رمضان وهو متتابع فإذا تخلله فطر لزمه في القضاء التتابع كمن قدر صوم شهر رمضان متتابعا والله أعلم
وقال بن سيرين يقضي يوما ويستغفر الله
قال أبو عمر أقاويل التابعين بالعراق والحجاز لا وجه لها عند أهل الفقه لمخالفتها السنة وإنما في المسألة قولان
أحدهما قول مالك ومن تابعه والحجة لهم حديث بن شهاب هذا ومن جهة النظر أن الآكل والشارب في القياس كالمجامع سواء لأن الصوم من الشريعة الامتناع من الأكل والشرب والجماع فإذا أثبتت الشريعة من وجه واحد منها شيء سبيل نظيره في الحكم سبيله والنكتة الجامعة بينهما انتهاك حرمة الشهر بما يفسد الصوم عمدا ولفظ حديث مالك يجمع كل فطر
والقول الثاني قول الشافعي ومن تابعه والحجة لهم أن الحديث ورد في المجامع وليس الأكل مثله فدليل إجماعهم أن المستقيء عامدا عليه القضاء وليس عليه كفارة وهو مفطر عمدا وكذلك مزدرد الحصاة عمدا عليه القضاء وهو مفطر متعمدا ولأن الذمة بريئة فلا يثبت فيها شيء إلا بيقين
وروى أبو المطوس عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أفطر يوما من رمضان قويا متعمدا لم يجزه صيام الدهر وإن صامه (1)
وروي عن علي وبن مسعود مثله
وهذا يحتمل أن يكون لو صح على التغليظ
وهو حديث ضعيف لا يحتج به
وقد جاءت الكفارة بأسانيد صحاح
315

واختلف الفقهاء فيما يجزئ من الإطعام عمن يجب أن يكفر فيه عن فساد يوم من شهر رمضان
فقال مالك والشافعي وأصحابهما والأوزاعي يطعم ستين مسكينا بمد النبي صلى الله عليه وسلم مدا لكل مسكين
وذكر ان العرق كان فيه خمسة عشر صاعا وذلك في حديث مالك عن عطاء الخرساني عن سعيد بن المسيب وهو مذكور أيضا في حديث مجاهد وعطاء عن أبي هريرة وقد ذكرناه في التمهيد إلا أن في حديث أبي هريرة عشرين صاعا
وقد روي ذلك من وجوه مرسلة ومسندة ومعلوم أن ذلك غير ما ذهب إليه من قال بنصف صاع لكل مسكين
وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه لا يجزئه أقل من مدين بمد النبي صلى الله عليه وسلم وذلك نصف صاع لكل مسكين قياسا على فدية الأذى
وقول مالك أولى لأنه نص لا قياس
واختلف العلماء أيضا في الواطئ أهله في رمضان إذا وجب عليه التكفير بالإطعام دون غيره ولم يجد ما يطعم وكان في حكم الرجل الذي ورد فيه الحديث
فأما مالك فلم أجد عنه في ذلك شيئا منصوصا
وكان عيسى بن دينار يقول إنها على المعسر واجبة فإذا أيسر أداها
وقد يخرج قول بن شهاب على هذا لأنه جعل إباحة النبي صلى الله عليه وسلم لذلك الرجل أكل الكفارة لعسرته رخصة له وخصوصا
قال بن شهاب ولو أن رجلا فعل ذلك لم يكن له بد من التكفير
وقيل للأوزاعي فيمن لم يجد كفارة المفطر ولم يقدر على الصيام أيسأل في الكفارة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم رد كفارة المفطر عليه وعلى أهله فليستغفر الله ولا يعد ولم ير عليه شيئا إذا كان معسرا
وقال الشافعي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كله وأطعمه أهلك يحتمل معاني منها أنه لما كان في الوقت الذي أصاب فيه أهله ليس ممن يقدر على واحدة من الكفارات تطوع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن قال له في شيء أتي به كفر به فلما ذكر الحاجة ولم يكن الرجل قبضه قال له كله وأطعمه أهلك وجعل التمليك له حينئذ مع القبض
316

ويحتمل أن يكون لما ملكه وهو محتاج وكان إنما تكون الكفارة عليه إذا كان عنده فضل ولو لم يكن عنده فضل كان له أكله هو وأهله لحاجته
ويحتمل في هذا أن تكون الكفارة دينا عليه متى أطاقها أداها وإن كان ذلك ليس في الخبر وكان هذا أحب إلينا وأقرب من الاحتياط
قال ويحتمل إذا كان لا يقدر على شيء من الكفارات وكان لغيره أن يكفر عنه كان لغيره أن يتصدق عليه وعلى أهله بتلك الكفارة إذا كانوا محتاجين ويجزئ عنه
ويحتمل أن يكون إذا لم يقدر على شيء في حاله تلك أن تكون الكفارة ساقطة عنه إذا كان معسرا كما سقطت الصلاة عن المغمى عليه إذا كان مغلوبا
وقال الأثرم قلت لابن حنبل حديث الزهري عن حميد عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أطعمه عيالك أتقول به قال نعم إذا كان محتاجا ولكن لا يكون في شيء من الكفارات إلا في الجماع في رمضان وحده لا في كفارة اليمين ولا في كفارة الظهار
قيل له أليس في حديث سلمة بن صخر حين ظاهر من امرأته ووقع عليها نحو هذا قال ولمن تقول هذا إنما حديث سلمة بن صخر تصدق بكذا واستعن بسائره على أهلك فإنما أمر له بما بقي
قلت فإن كان المجامع محتاجا فأطعمه عياله قال يجزئ عنه قلت ولا يكفر إذا وجد قال لا إلا أنه خاص في الجماع وحده
وزعم الطبري أن قياس الثوري وأبي حنيفة وأصحابه وأبي ثور أن الكفارة دين عليه لا يسقطها عنه عسره وعليه أن يأتي بها إذا قدر عليها كسائر الكفارات
قال أبو عمر إن احتج محتج في إسقاط الكفارة عن المعسر بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له كله أنت وعيالك ولم يقل له تؤديها إذا أيسرت ولو كانت واجبة عليه لم تسقط عنه حتى يبين ذلك له قيل له ولا قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها ساقطة عنك لعسرتك بعد أن أخبره بوجوبها عليه وكل ما وجب أداؤه في اليسار لزم الذمة إلى الميسرة والله أعلم
واختلفوا في الكفارة على المرأة إذا وطئها زوجها وهي طائعة في رمضان
فقال مالك إذا طاوعته فعلى كل واحد منهما كفارة وإذا أكرهها فعليه كفارتان عنه وعنها وكذلك إذا وطئ أمته كفر كفارتين
317

وقال الأوزاعي سواء طاوعته امرأته أو أكرهها فليس عليه إلا كفارة واحدة إن كفر بالعتق أو الإطعام فإن كفر بالصيام فعلى كل واحد منهما صيام شهرين متتابعين
وقال الشافعي الصيام والعتق والإطعام سواء ليس عليهما إلا كفارة واحدة وسواء طاوعته أو أكرهها لأن النبي (عليه السلام) إنما أجاب السائل بكفارة واحدة ولم يسأله طاوعته امرأته أو أكرهها ولو كان الحكم مختلفا لما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم تبيين ذلك
وهو قول داود وأهل الظاهر
وأجمعوا أن كفارة المظاهر واحدة
وإن وطئ قال أبو حنيفة وأصحابه إن طاوعته فعلى كل واحد منهما كفارة وإن أكرهها فعليه كفارة واحدة ولا شيء عليها
ومن حجة من رأى الكفارة لازمة عليها إن طاوعته القياس على قضاء ذلك اليوم فوجب عليها قضاء ذلك اليوم وجبت عليها الكفارة
وأجمعوا على أن من وطئ في رمضان فكفر عنه ثم وطئ في يوم آخر أن عليه كفارة أخرى
وأجمعوا على أن ليس على من وطئ مرارا في يوم واحد إلا كفارة واحدة
واختلفوا فيمن وطئ في يوم من رمضان فلم يكفر حتى وطئ في يوم آخر
فقال مالك والشافعي وأبو ثور وأحمد عليه لكل يوم كفارة كفر أو لم يكفر
وقال أبو حنيفة وأصحابه إن كفر ثم وطئ فعليه كفارة أخرى وإن وطئ قبل أن يكفر فكفارة واحدة قياسا على حد الزاني والسارق
وقال الثوري أحب إلي أن يكفر عن كل يوم وأرجو أن تجزئه كفارة واحدة ما لم يكفر
واختلفوا فيمن جامع ناسيا في صومه
فقال الشافعي والثوري في رواية الأشجعي وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن حي وأبو ثور وإسحاق بن راهويه ليس عليه شيء لا قضاء ولا كفارة بمنزلة من أكل ناسيا عندهم
وهو قول الحسن وعطاء ومجاهد وإبراهيم
وقال مالك والليث والأوزاعي والثوري في رواية عليه القضاء ولا كفارة
318

وروي مثل ذلك عن عطاء
وقد روي عن عطاء أن عليه الكفارة مع القضاء وقال مثل هذا لا ينسى
وقال قوم من أهل الظاهر سواء وطئ ناسيا أو عامدا عليه القضاء والكفارة
وهو قول عبد الملك بن الماجشون وإليه ذهب أحمد بن حنبل لأن الحديث الموجب للكفارة لم يفرق فيه بين الناسي والعامد
قال أحمد بن حنبل وظاهر قول الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم وقعت على امرأتي النسيان والجهالة فلم يسأله أنسيت أم تعمدت وأفتاه على ظاهر الفعل
واختلفوا أيضا فيمن أكل أو شرب ناسيا
فقال الثوري وبن أبي ذئب والأوزاعي والشافعي وأبو ثور وإسحاق وأحمد وأبو حنيفة وأصحابه وداود لا شيء عليه ويتم صومه
وهو قول جمهور التابعين
قال ربيعة ومالك عليه القضاء
وقال الأثرم سمعت أحمد بن حنبل يسأل عمن أكل ناسيا في رمضان فقال ليس عليه شيء على حديث أبي هريرة الله أطعمه وسقاه ثم قال أبو عبد الله مالك - زعموا أنه يقول عليه القضاء وضحك
وروي عن علي بن أبي طالب وبن عمر وعلقمة وإبراهيم وبن سيرين وجابر بن زيد من أكل ناسيا لا قضاء عليه
وأما حديثه عن عطاء الخرساني عن سعيد بن المسيب فلم يختلف على مالك في إرساله
وكذلك رواه بن جريج عن عطاء كما قال مالك سواء
ولا يحفظ عن سعيد بن المسيب ذكر البدنة إلا من رواية عطاء الخرساني وهو ثقة
وروي عن أيوب عن القاسم بن عاصم أنه قال لسعيد بن المسيب إن عطاء الخرساني يحدث عنك في الرجل الذي وقع على أهله في رمضان أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بعتق رقبة قال لا أجد فقال انحر جزورا فقال لا أجد قال فتصدق بعشرين صاعا من تمر
فقال سعيد كذب الخرساني إنما بلغني أن النبي (عليه السلام) قال له تصدق فتصدق
319

قال أبو عمر قد ذكرنا هذا الحديث في التمهيد اضطراب فيه على القاسم بن عاصم ولا يجرح بمثله عطاء الخرساني بفضله وشهرته في العلم والخبر أكثر من شهرة القاسم بن عاصم وإن كان البخاري ذكر عطاء الخرساني بهذا الخبر في كتاب الضعفاء له ولم يتابعه أحد على ذلك
وعطاء مشهور الفضل وقد روى عنه الأئمة وله فضائل جمة
وأما ذكر البدنة في هذا الخبر فلا أعلمه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم مسندا إلا من رواية ليث عن مجاهد وعطاء جميعا عن أبي هريرة عن النبي (عليه السلام) ذكره البخاري في التاريخ عن بن شريك عن أبيه عن ليث عن عطاء ومجاهد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أعتق رقبة ثم قال انحر بدنة
قال البخاري ولا يتابع عليه
قال أبو عمر أحسن طرق هذا الحديث عندي والله أعلم ما حدثناه عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن يزيد المعلم قال حدثني موسى بن معاوية قال حدثنا جرير عن ليث عن مجاهد عن أبي هريرة قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني وقعت على امرأتي في رمضان قال بئس ما صنعت أعتق رقبة قال لا أجد قال انحر بدنة قال لا أجدها قال اذهب فتصدق بعشرين صاعا قال لا أجد قال فجئني أتصدق عنك قال ما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه مني قال اذهب فكله أنت وأهلك
قال أبو عمر قد وجدنا ذكر البدنة في هذا الحديث من غير رواية عطاء الخرساني فلا وجه لإنكار من أنكر ذلك عليه والله أعلم
إلا أن العمل عند أهل العلم بالحجاز والعراق الذين تدور عليهم الفتوى على ما في حديث بن شهاب عن حميد عن أبي هريرة المذكور عنه في هذا الباب ليس فيه نحر البدنة
وما أعلم أحدا أفتى في هذه المسألة بنحر بدنة إلا عطاء والحسن البصري على ما تقدم
قال أبو عمر روى قتادة عن سعيد بن المسيب أن الرجل الذي وقع على امرأته في رمضان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم سلمان بن صخر البياضي
وهذا وهم من قتادة وممن رواه عن قتادة وليس في أصحاب النبي (عليه
320

السلام) من يسمى سلمان إلا سلمان الفارسي وسلمان بن عامر الضبي والحديث الصحيح إنما فيه سلمة بن صخر ولو صح سلمان لأمكن أن يكون أخا سلمة بن صخر
البياضي وقد ذكرنا الخبر بإسناده في التمهيد
وقد قيل إن سلمة بن صخر كان يقال له سلمان فالله أعلم
قال مالك سمعت أهل العلم يقولون ليس على من أفطر يوما في قضاء رمضان بإصابة أهله نهارا أو غير ذلك الكفارة التي تذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن أصاب أهله نهارا في رمضان وإنما عليه قضاء ذلك اليوم
قال مالك وهذا أحب ما سمعت فيه إلي
قال أبو عمر على ما ذكره مالك جمهور العلماء أن المجامع في قضاء رمضان لا كفارة عليه حاشا قتادة وحده وعليه الكفارة
وكذلك جمهور العلماء يقولون إن المفطر في قضاء رمضان لا يقضيه وإنما عليه ذلك اليوم الذي كان عليه من رمضان لا غير إلا بن وهب ورواية عن بن القاسم فإنهما جعلا عليه يومان قياسا على الحج
وقوله بعرق تمر فأكثرهم يرويه بسكون الراء والصواب عند أهل اللغة فتح الراء
وزعم بن حبيب أنه رواه مطرف عن مالك بتحريك الراء
قال والعرق (بفتح الراء) المكتل العظيم الذي يسع قدر خمسة عشر صاعا وهي ستون مدا
كذلك سمعت مطرفا وبن الماجشون يقولان
وقال الأخفش أحمد بن عمران المكتل العظيم وإنما سمي عرقا لأنه يعمل عرقة عرقه ثم يضم والعرقة الطريقة العريضة ولذلك سميت درة المكتب عرقة يقال عرقة وعرق كما يقال علقة وعلق
قال أبو كبير الهذلي
(نغدو فنترك في المزاحف من ثوى
* ونقر في العرقات من لم يقتل
321

((10 - باب ما جاء في حجامة الصائم))
618 - وذكر فيه عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان يحتجم وهو صائم
قال ثم ترك ذلك بعد فكان إذا صام لم يحتجم حتى يفطر
619 - وذكر عن بن شهاب أن سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر كانا يحتجمان وهما صائمان
620 - وعن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يحتجم وهو صائم ثم لا يفطر
قال وما رأيته احتجم قط إلا وهو صائم
قال أبو عمر أما بن عمر فإنما ترك الحجامة صائما لما بلغه فيها - والله أعلم - ومن الورع بالموضع المعلوم
وأما عروة بن الزبير فإنه كان يوصل الصوم فمن هنا قال ابنه ما احتجم إلا وهو صائم
وأما سعد فإن حديثه في الموطأ منقطع ورواه عفان عن عبد الواحد بن زياد عن عثمان بن حكيم عن عامر بن سعد قال كان أبي يحتجم وهو صائم
قال أبو عمر هذا الخبر عن سعد يضعف حديث سعد المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أفطر الحاجم والمحجوم (1)
وقد أنكروه على من رواه عن سعد لما جاء عنه من طريق بن شهاب وغيره أنه كان يحتجم وهو صائم وحديثه في أفطر الحاجم والمحجوم انفرد به داود بن الزبرقان وهو متروك الحديث عن محمد بن جحادة عن مصعب بن سعد عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم
322

وقد روي عن النبي (عليه السلام) أنه قال أفطر الحاجم والمحجوم من طرق يصحح بعضها أهل العلم بالحديث منها
حديث رافع بن خديج
وحديث ثوبان
وحديث شداد بن أوس
وهذه أحسن ما روي في هذا المعنى
قال أبو داود قلت لأحمد بن حنبل أي حديث أصح في أفطر الحاجم والمحجوم قال حديث ثوبان
قال أبو عمر لم يخرج أبو داود غيره وخرج حديث بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم صائما (1)
وأما حديث أسامة بن زيد وحديث معقل بن سنان وحديث أبي هريرة فمعلولة لا يثبت شيء منها من جهة النقل
وقد جاء عن عائشة وبن عباس في ذلك ما لا يصح عندهما بل الصحيح عنها وعن بن عباس خلاف ذلك
أخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أبو معمر قال حدثنا عبد الوارث عن أيوب عن عكرمة عن بن عباس أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم احتجم وهو صائم (2)
ورواه وهب عن أيوب بإسناده مثله وزاد وهو محرم (3)
ورواه هشام بن حسان عن عكرمة عن بن عباس
ورواه مقسم عن بن عباس قال احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما محرما
323

فحديث بن عباس صحيح لا مدفع فيه ولا يختلف في صحته وثبوته
وقد صحح أحمد بن حنبل حديث ثوبان
وحديث شداد بن أوس وحديث رافع بن خديج في أفطر الحاجم والمحجوم
قال علي بن المديني حديث رافع بن خديج صحيح
قال أبو عمر رواه جماعة منهم معمر عن يحيى بن أبي كثير عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ عن السائب بن يزيد عن رافع بن خديج قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفطر الحاجم والمحجوم
والقول عندي في هذه الأحاديث أن حديث بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم صائما محرما ناسخ لقوله صلى الله عليه وسلم أفطر الحاجم والمحجوم لأن في حديث شداد بن أوس وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر عام الفتح على رجل يحتجم لثماني عشر ليلة خلت من رمضان فقال أفطر الحاجم والمحجوم فابن عباس شهد معه حجة الوداع وشهد حجامته يومئذ محرم صائم فإذا كانت حجامته (عليه السلام) عام حجة الوداع فهي ناسخة لا محالة لأنه لم يدرك بعد ذلك رمضان لأنه توفي في ربيع الأول صلى الله عليه وسلم وإنما وجه النظر والقياس في ذلك بأن الأحاديث متعارضة متدافعة في إفساد صوم من احتجم فأقل أحوالها أن يسقط الاحتجاج بها والأصل أن الصائم لا يقضى بأنه مفطر إذا سلم من الأكل والشرب والجماع إلا بسنة لا معارض له
ووجه آخر من القياس وهو ما قال بن عباس الفطر مما دخل لا مما خرج
وقد أجمعوا على ألا يقال للخارجة من جميع البدن - نجاسة كانت أو غيرها - أنها لا تفطر الصائم لخروجها من بدنه فكذلك الدم في الحجامة وغيرها
فإن احتج محتج بحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من ذرعه القيء فلا شيء عليه ومن استقاء فعليه القضاء (1)
وبحديث أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر (2)
قيل له هذه حجة لنا لأنه لما لم يكن على من ذرعه القيء شيء دل على أن ما
324

خرج من نجس وغيره من الإنسان لا يفطره وكان المستقيء بخلاف ذلك لأنه لا يرى منه رجوع بعض القيء في حلقه لتردد ذلك وتصعده ورجوعه
وأما الحديث عنه (عليه السلام) أنه قاء فأفطر فليس بالقوي ومعنى قاء استقاء والمعنى فيه ما ذكرنا وقد روي عن النبي عليه السلام بمثل هذه الأسانيد من حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثلاث لا يفطرن الصائم القيء والحجامة والاحتلام
ومن حديث حميد الطويل عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري قال رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبلة وفي الحجامة للصائم
ومن حديث أبي سعيد أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه احتجم وهو صائم
وحسبك بحديث بن عباس في ذلك فإنه لا مدفع فيه عند جماعة أهل العلم بالحديث
وهذا بيان تهذيب هذه المسألة من طريق الأثر ومن طريق القياس والنظر
وهذه المقايسة إنما تصح في المحجوم لا الحاجم ويرجع ذلك إلى أنها من العبادات التي لا يوقف على عللها وأنها مسألة أثرية لا نظرية ولهذا ما قدمنا الآثار في الواردة بها وقد اضطربت وصح النسخ فيها لأن حجامته صلى الله عليه وسلم صحت عنه وهو صائم محرم عام حجة الوداع وقوله أفطر الحاجم والمحجوم كان منه عام الفتح في صحيح الأثر بذلك
وأما الحاجم فقد أجمعت الأمة أن رجلا لو سقى رجلا ماء وأطعمه خبزا طائعا أو مكرها لم يكن بفعله ذلك لغيره مفطرا
فدل ذلك على أن الحديث ليس على ظاهره في حكم الفطر وإنما هو في ذهاب الأجر لما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك كما روي من لغى يوم الجمعة فلا جمعة له (1) يريد ذهاب أجر جمعته باللغو
وقد قيل إنهما كانا يغتابان غيرهما أو قاذفين فبطل أجرهما لا حكم صومهما والله أعلم
وما ذكرناه هو أصح من هذا وأولى بذوي العلم إن شاء الله
325

وأما اختلاف العلماء فيها فمعلوم من الصحابة ومن بعدهم
روينا عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كرهوا الحجامة للصائم وقال منهم جماعة لا بأس بها للصائم
ويحتمل أن يكون كرهها من كرهها منهم لما يخشى على فاعلها من الضعف عن تمام صومه من أجلها
حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا القعنبي قال حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس قال ما كنا ندع الحجامة للصائم إلا
مخافة الجهد
وأما اختلاف فقهاء الأمصار في ذلك فقال مالك في الموطأ لا تكره الحجامة للصائم إلا خشية أن يضعف ولو أن رجلا احتجم وسلم من أن يفطر لم أر عليه قضاء
وهو قول الثوري
وقال أبو حنيفة وأصحابه إن احتجم الصائم لم يضره شيء
وقال أبو ثور أحب إلي أن لا يحتجم أحد صائما فإن فعل لم يفطر وهو باق على صومه
وهذا معنى قول الشافعي لأنه قال في بعض كتبه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أفطر الحاجم والمحجوم وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه احتجم وهو صائم محرم وقال لا أعلم واحدا من الحديثين ثابتا ولو توقى رجل الحجامة صائما كان أحب إلي إن احتجم صائما لم أر ذلك يفطره
وأما أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه فقالا لا يجوز لأحد أن يحتجم صائما فإن فعل فعليه القضاء
وبه قال داود والأوزاعي وعطاء
إلا أن عطاء قال إن احتجم ساهيا لصومه أو جاهلا فعليه القضاء وإن احتجم متعمدا فعليه القضاء والكفارة
قال أبو عمر شذ عطاء عن جماعة العلماء في إيجابه الكفارة في ذلك وقوله أيضا خلاف السنة فيمن استقاء عامدا فعليه القضاء والكفارة
وقال بن المبارك من احتجم قضى ذلك اليوم
وقال عبد الرحمن بن مهدي من احتجم وهو صائم فعليه القضاء
326

قال أبو عمر لا قضاء عليه لما قدمنا وهو الصحيح وبالله التوفيق
((11 - باب صيام يوم عاشوراء))
621 - مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت كان يوم عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صامه وأمر بصيامه فلما فرض رمضان كان هو الفريضة وترك يوم عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه
622 - وذكر عن بن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع معاوية بن أبي سفيان يوم عاشوراء عام حج وهو على المنبر يقول يا أهل المدينة أين علماؤكم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لهذا اليوم هذا يوم عاشوراء ولم يكتب عليكم صيامه وأنا صائم فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر
قال أبو عمر لا يختلف العلماء أن يوم عاشوراء ليس بفرض صيامه
وفي هذا الحديث دليل على فضل صوم يوم عاشوراء لأنه لم يخصه رسول الله صلى الله عليه وسلم بندبه أمته إلى صيامه وإرشادهم إلى ذلك وإخباره إياهم بأنه صائم له ليقتدوا به إلا لفضل فيه وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة
وقوله فمن شاء فليصمه ومن شاء فليفطر فإنها إباحة وردت بعد وجوب وذلك أن طائفة من العلماء قالوا إن صوم يوم عاشوراء كان فرضا ثم نسخ بشهر رمضان فلهذا ما أخبرهم بهذا الكتاب
واحتجوا بحديث الزهري عن عروة عن عائشة قالت كان صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل في رمضان الحديث
327

هكذا رواه بن عيينة وجماعة عن بن شهاب عن عروة عن عائشة
وروى سعيد بن جبير عن بن عباس قال قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فوجد يهود تصوم يوم عاشوراء فقال لهم ما هذا قالوا يوم نجى الله فيه موسى وأغرق فرعون فنحن نصومه فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيامه (1)
ولما فرض رمضان صام رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه الفضيلة والتبرك وأمر بصيامه على ذلك وأخبر بفضل صومه وفعل ذلك بعده أصحابه
623 - ذكر مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب أرسل إلى الحارث بن هشام إن غدا يوم عاشوراء فصم وأمر أهلك أن يصوموا
وذكر عبد الرزاق عن بن جريج عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أنه أخبره أن عمر بن الخطاب أرسل إلى عبد الرحمن بن الحارث ليلة عاشوراء أن تسحر لتصبح صائما فأصبح عبد الرحمن صائما
هكذا قال أرسل إلى عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وهذا حديث متصل وهو عندي أصح من بلاغ مالك والله أعلم
وروي عن علي مثل ذلك
حدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا بن وضاح قال حدثنا يوسف بن عدي قال حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي أنه كان يأمر بالصيام يوم عاشوراء
وحدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم قال حدثنا بن وضاح قال حدثنا حامد بن يحيى قال حدثنا سفيان بن عيينة عن عبيد الله بن يزيد قال سمعت بن عباس يقول ما علمت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحرى صوم يوم فضله على الأيام إلا يوم عاشوراء
328

ومن حديث أبي قتادة عن النبي (عليه السلام) قال صيام يوم عاشوراء يكفر سنة (1)
والدليل على تأكيد صومه على جهة الفضل لا على الفرض أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل من أصحابه أذن في قومك يوم عاشوراء أن يصوموا ومن أكل منهم فليصم بقية يومه
أخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن المنهال قال حدثنا زيد بن زريع قال حدثنا سعيد عن قتادة عن عبد الرحمن بن سلمة عن محمد أن أسلم أتى النبي صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء فقال صمتم يومكم هذا قالوا لا قال فأتموا بقية يومكم واقضوه (2)
وهذا عندي يحتمل أن يكون ذلك قبل أن يفرض رمضان إذ كان عاشوراء يصام على الوجوب ويحتمل أن يكون ذلك لفضله تأكيدا في التقرب بصومه والله أعلم
وهو حديث مختلف فيه على قتادة فسعيد يقول عبد الرحمن بن سلمة أو سلمة عن عمه وشعبة يقول عن قتادة عن عبد الرحمن بن المنهال الخزاعي عن عمه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسلم يوم عاشوراء صوموا اليوم قالوا إنا قد أكلنا قال صوموا بقية يومكم
واختلف العلماء في يوم عاشوراء
فقالت طائفة هو اليوم العاشر من المحرم
وممن روي ذلك عنه سعيد بن المسيب والحسن البصري
وقال آخرون هو اليوم التاسع منه
واحتجوا بحديث الحكم بن الأعرج قال أتيت بن عباس في المسجد الحرام فسألته عن صيام يوم عاشوراء فقال اغد فإذا أصبحت اليوم التاسع فأصبح صائما قلت كذلك كان محمد يصوم قلت نعم صلى الله عليه وسلم
329

وقد روي عن بن عباس القولان جميعا
وقال قوم من أهل العلم من أحب صيام يوم عاشوراء صام التاسع والعاشر
وأظن ذلك احتياطا منهم
وممن روي عنه ذلك بن عباس أيضا وأبو رافع صاحب أبي هريرة وبن سيرين وقاله الشافعي وأحمد وإسحاق
وروى القطان عن بن أبي ذئب عن شعبة مولى بن عباس قال كان بن عباس يصوم يوم عاشوراء في السفر ويوالي بين اليومين مخافة أن يفوته وكان بن سيرين يصوم العاشر فيبلغه أن بن عباس كان يصوم التاسع والعاشر فكان بن سيرين يصوم التاسع والعاشر
وروى بن جريج عن عطاء أنه سمع بن عباس يقول خالفوا اليهود صوموا التاسع والعاشر
وقال معقل بن يسار وبن عباس عاشوراء اليوم التاسع ولكنه اسمه العاشوراء
وروى بن وهب عن يحيى بن أيوب أن إسماعيل بن أمية حدثه أنه سمع أبا غطفان يقول سمعت بن عباس يقول حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا كان العام القابل صمنا التاسع فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم (1)
وقال صاحب العين عاشوراء اليوم العاشر من المحرم
قال ويقال اليوم التاسع
وروي عن بن شهاب أنه كان يصوم يوم عاشوراء في السفر وكان يأمر بفطر رمضان في السفر فقيل له في ذلك فقال رمضان له عدة من أيام أخر وعاشوراء يفوت
وروي عن بن عمر وطاوس أنهما كانا لا يصومان عاشوراء في السفر
حدثنا أحمد بن قاسم ومحمد بن إبراهيم ومحمد بن حكم قالوا حدثنا
330

محمد بن معاوية قال حدثنا الفضل بن الحباب قال حدثنا هشام بن عبد الملك الطيالسي قال حدثنا شعبة عن أبي الزبير عن جابر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من وسع على نفسه وأهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته
قال جابر جربناه فوجدناه كذلك
وقال أبو الزبير وقال شعبة مثله
حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أبو وضاح قال حدثنا أبو محمد العابد عن بهلول بن راشد عن الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال قال عمر بن الخطاب من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر السنة
قال يحيى بن سعيد جربنا ذلك فوجدناه حقا
وروى بن عيينة وإبراهيم عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر قال من وسع على أهله في عاشوراء وسع الله عليه سائر السنة
قال سفيان جربنا ذلك فوجدناه كذلك
وسيأتي القول في معنى قول معاوية يا أهل المدينة أين علماؤكم في باب إصلاح الشعر في الجامع إن شاء الله تعالى
((12 - باب صيام يوم الفطر والأضحى والدهر))
624 - ذكر فيه مالك عن محمد بن يحيى بن حبان عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين يوم الفطر ويوم الأضحى
625 - وذكر أنه سمع أهل العلم يقولون لا بأس بصيام الدهر إذا أفطر الأيام التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامها وهي أيام مني (1) ويوم الأضحى ويوم الفطر فيما بلغنا
قال وذلك أحب ما سمعت إلي في ذلك
331

قال أبو عمر صيام هذين اليومين لا خلاف بين العلماء في أنه لا يجوز على حال من الأحوال لا لمتطوع ولا لناذر ولا لقاض فرضا أن يصومهما ولا لمتمتع لا يجد هديا ولا يأخذ من الناس
وهما يومان حرام صيامهما فمن نذر صيام واحد منهما فقد نذر معصية وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من نذر أن يعصي الله فلا يعصه (1)
ولو نذر ناذر صيام يوم بعينه أو صياما بعينه مثل سنة بعينها فوافق هذا اليوم فطرا أو أضحى فأجمعوا أنه لا يصومها واختلفوا في قضائها
ففي أحد قولي الشافعي وزفر بن الهذيل وجماعة ليس عليه قضاؤها
وهو قول بن كنانة صاحب مالك
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد يقضيهما
وهو قول الحسن بن حي والأوزاعي وآخر قولي الشافعي
وروي عن الأوزاعي أنه يقضيهما إلا أن ينوي أن لا يقضيهما ولا يصومهما
واختلف قول مالك في ذلك على ثلاثة أوجه
أحدها أنه لا يقضيهما
والآخر أنه يقضيهما إلا أن يكون نوى أن لا يقضيهما
والثالث أنه لا يقضيهما إلا أن يكون نوى أن يصومهما
وروى الرواية الأولى بن وهب عنه والروايتان الأخريان رواهما بن وهب وبن القاسم عنه
قال بن القاسم قوله لا قضاء عليه إلا أن ينوي أن يقضيهما أحب إلي
فأما آخر أيام التشريق الذي ليس فيه ذبح عنده فإنه يصومه ولا يدعه
وقال الليث بن سعد فيمن جعل على نفسه صيام سنة أنه يجعل على نفسه صيام ثلاثة عشر شهرا لمكان رمضان ويومين لمكان الفطر والأضحى ويصوم أيام التشريق
332

وقال المرأة في ذلك مثل الرجل وتقضي أيام الحيض
وروي عنه فيمن نذر صيام الاثنين والخميس فوافق ذلك الفطر والأضحى أنه يفطر ولا قضاء عليه
وهذا خلاف الأول إلا أني أحسب أنه جعل الاثنين والخميس كمن نذر صوم سنة بعينها والجواب الأول في سنة بغير عينها
قال أبو عمر القياس أن لا قضاء في ذلك لأن من نذر صيام يوم بعينه أبدا لا يخلو أن يدخل يوم الفطر والأضحى في نذره أو لا يدخل فإن دخل في نذره فلا يلزمه لأن من قصد إلى نذر صومه لم يلزمه ونذره ذلك باطل ومن لم يدخل في نذره فهو أبعد من أن يجب عليه قضاؤه
وعلى ما ذكرنا يسقط الاعتكاف عمن نذره يوم الفطر ويوم النحر عند من يقول لا اعتكاف إلا بصوم
وأما صيام الدهر لمن أفطر الأيام التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم لصيامها فمباح عند أكثر العلماء إلا أن الصيام عمل من أعمال البر وفضله معلوم وفي نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام أيام ذكرها على إباحة ما سواها والله أعلم
وقد كره بعض أهل العلم صيام الدهر لحديث أبي قتادة وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن صيام الدهر فقال من فعل ذلك فلا صام ولا أفطر (1)
ويروى لا صام ولا أفطر
أحب الصيام إلى الله صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما
333

وهذا عندي على الاختيار - والله أعلم - لا على شيء يلزم
((13 - باب النهي عن الوصال في الصيام))
(1)
626 - ذكر فيه مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال فقالوا يا رسول الله فإنك تواصل فقال إني لست كهيئتكم إني أطعم وأسقى
627 - وعن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إياكم والوصال إياكم والوصال قالوا فإنك تواصل يا رسول الله قال إني لست كهيئتكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني
قال أبو عمر قد روى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو ما رواه بن عمر وأبو هريرة أبو سعيد الخدري وأنس بن مالك وعائشة (رضي الله عنهم)
واختلف أهل العلم في تأويل هذا الحديث فقال منهم قائلون إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رفقا لأمته ورحمة بهم فمن قدر على الوصال فلا حرج لأنه لله عز وجل يدع طعامه وشرابه
وكان عبد الله بن الزبير وغيره جماعة يواصلون الأيام
أخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثنا أحمد بن محمد بن إسماعيل قال حدثنا أحمد بن إسماعيل الأنصاري قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا محمد بن سلمة عن مالك بن أنس أن عامر بن عبد الله بن الزبير كان يواصل في شهر رمضان ثلاثا فقيل له ثلاثة أيام قال لا ومن يقوى يواصل ثلاثة أيام يومه وليله
334

ومن حجة من ذهب هذا المذهب حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة قالوا يا رسول الله إنك تواصل قال إني لست كأحد منكم يطعمني ربي ويسقيني
وكان أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه لا يكرهان أن يواصل الرجل من سحر إلى سحر لا غير
ومن حجة من ذهب إلى هذا أيضا حديث عبد الله بن خباب عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر
قالوا فإنك تواصل قال إني لست كهيئتكم إن لي مطعما يطعمني وساقيا يسقيني
وحديث بن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال فقال رجل من المسلمين إنك يا رسول الله تواصل فقال لستم مثلي إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال صلى الله عليه وسلم لو تأخر لزدتكم كالمنكل بهم
هكذا رواه صالح بن كيسان وشعيب بن أبي حمزة ويحيى بن سعيد عن بن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة
وزاد بعضهم فيه كالمنكل بهم حين أبوا أن ينتهوا
ورواه عبد الرحمن بن سمرة عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
وقد ذكرنا أسانيد هذه الآثار كلها في التمهيد
وكره مالك والثوري وأبو حنيفة والشافعي وجماعة من أهل الفقه والأثر الوصال على كل حال لمن قوي عليه ولغيره ولم يجيزوه لأحد
ومن حجتهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال
وأنه (عليه السلام) قال إذا نهيتكم عن شيء فانتهوا وإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم
335

وحقيقة النهي الزجر والمنع
وقالوا لما قال لهم إني لست كهيئتكم أعلمهم أن الوصال له خاصة لا لغيره كما خص بسائر ما خص صلى الله عليه وسلم
وقد احتج من ذهب هذا المذهب بحديث عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) رواه هشام بن عروة عن أبيه عن عاصم بن عمر عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقبل الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم (1)
قالوا ففي هذا ما يدل على أن الوصال للنبي (عليه السلام) مخصوص وأن المواصل لا ينتفع بوصاله لأن الليل ليس بموضع للصيام بدليل هذا الحديث وشبهه
وروى عبد الله بن أبي أوفى عن النبي (عليه السلام) مثله
ولا معنى لطلب الفضل في الوصال إلى السحر على مذهب من أراد ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر (2)
وقالت عائشة كان النبي (عليه السلام) أعجل الناس فطرا
((14 - باب صيام الذي يقتل خطأ أو يتظاهر (3)))
628 - قال مالك أحسن ما سمعت فيمن وجب عليه صيام شهرين متتابعين في قتل خطأ أو تظاهر فعرض له مرض يغلبه ويقطع عليه صيامه أنه إن صح من مرضه وقوي على الصيام فليس له أن يؤخر ذلك وهو يبني على ما قد مضى من صيامه
336

وكذلك المرأة التي يجب عليها الصيام في قتل النفس خطأ إذا حاضت بين ظهري صيامها أنها إذا طهرت لا تؤخر الصيام وهي تبني على ما قد صامت
وليس لأحد وجب عليه صيام شهرين متتابعين في كتاب الله أن يفطر إلا من علة مرض أو حيضة وليس له أن يسافر فيفطر
قال مالك وهذا أحسن ما سمعت في ذلك
وروى بن القاسم عن مالك في غير الموطأ قال من أفطر يوما في السفر بعذر ولم يصله استأنف وإن وصله بنى وإن سافر لا يفطر وإن فطر استأنف وإن مرض في سفره مرضا لم يجب عليه السفر من حر أو برد واستيقن أنه من غير السفر بنى إذا صح
قال أبو عمر قوله أحسن ما سمعت يدل على علمه بالخلاف في هذه المسألة والذي أراد - والله أعلم - الرجل يمرض بين ظهري شهري التتابع في الظهار أو القتل أو الكفارة من رمضان
وأما الحائض فلا أعلم فيها خلافا أنها إذا طهرت فلم تؤخر ووصلت بأي صيامها بما سلف منه إلا أنها لا شيء عليها غير ذلك وتستأنف البناء وليس عليها أن تسقط إلا أن تكون طاهرا قبل الفجر فتترك صيام ذلك اليوم عالمة بطهرها فإن فعلت استأنفت عند جماعة العلماء
وأما اختلافهم في المريض الذي قد صام من شهري التتابع بعضها قضى قولين
أحدهما ما قال مالك في سن البناء
ومن قال بذلك سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والحسن والشعبي وعطاء ومجاهد وقتادة وطاوس
وذكر بن أبي شيبة عن عبد الأعلى عن سعيد عن قتادة عن سعيد بن المسيب والحسن أنهما قالا يعتد بما صام إذا كان له عذر
وسائرهم قال المريض يبني إذا برأ ووصل ذلك ولم يفرط كما وصفنا في الحائض
والقول الثاني يستأنف الصيام
وممن قال ذلك سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي والحكم بن عتيبة وعطاء الخرساني
قال معمر سألت عطاء الخرساني فقال كنا نرى أنه مثل شهري رمضان حتى
337

كتبنا فيه إلى أحد الناس من أهل الكوفة فكتبوا إلينا أنه يستقبل
وذكر عبد الرزاق عن الثوري مثله
وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والحسن بن حي وأحد قولي الشافعي وله قول آخر وهو يبني
وقول بن شبرمة يقضي ذلك اليوم وحده إن كان عذر غالب كصوم رمضان
قال أبو عمر حجة من قال يبني لأنه معذور في قطع التتابع بمرضه ولم يتعذر وقد تجاوز الله عن غير المعتمر
وحجة من قال يستأنف لأن التتابع فرض لا يسقط بعذر وإنما يسقط فيه المأثم قياسا على الصلاة لأنها ركعات متتابعات فإذا قطعها عذر استأنف ولم يبن
((10 - باب ما يفعل المريض في صيامه))
629 - قال مالك الأمر الذي سمعت من أهل العلم أن المريض إذا أصابه المرض الذي يشق عليه الصيام معه ويتعبه ويبلغ ذلك منه فإن له أن يفطر وكذلك المريض الذي اشتد عليه القيام في الصلاة وبلغ منه وما الله أعلم بعذر ذلك من العبد ومن ذلك ما لا تبلغ صفته فإذا بلغ ذلك صلى وهو جالس ودين الله يسر
وقد أرخص الله للمسافر في الفطر في السفر وهو أقوى على الصيام من المريض قال الله تعالى في كتابه * (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) * [البقرة 184] فأرخص الله للمسافر في الفطر في السفر وهو أقوى على الصوم من المريض
فهذا أحب ما سمعت إلي وهو الأمر المجتمع عليه
قال أبو عمر قد جود مالك في هذا الباب وأتى عليه بعين الصواب والأمر في هذا المعنى أنه شيء يؤتمن عليه المسلم فإذا بلغ به المرض إلى حال لا يقدر معها على الصيام أو كان بحال يستيقن أنه قال إذا قام فأداه المريض حتى بلغ به إلى الحال المخوفة عليه كان له أيضا أن يتأول في مرضه ذلك
وحسب المسلم أن لا يفطر حتى يدخل تحت قول الله عز وجل بيقين " فمن
338

كان منكم مريضا أو على سفر) [البقرة 184] فإذا صح مرضه صح له الفطر وبالله التوفيق
وقد قيل إن المريض إنما يفطر للمرض الذي قد نزل به ولا يطيق الصيام ولا يفطر لما يخشى من زيادة المرض لأنه ظن لا يقين معه وقد وجب عليه الصيام بيقين وسقط عنه المرض بيقين فإذا لم يستيقنه لم يجز له الفطر والله أعلم
((16 - باب النذر في الصيام والصيام عن الميت))
630 - ذكر فيه مالك أنه بلغه عن سعيد بن المسيب أنه سئل عن رجل نذر صيام شهر هل له أن يتطوع فقال سعيد ليبدأ بالنذر قبل أن يتطوع
قال مالك وبلغني عن سليمان بن يسار مثل ذلك
قال أبو عمر هذا عند أهل العلم على الاختيار وعلى استحسان البدار إلى ما وجب عليه قبل التطوع
قال الله تعالى " يا أيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود " [المائدة 1] وقال تعالى * (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة) * [الحديد 21]
وقال * (فاستبقوا الخيرات) * [البقرة 148]
فهذا الذي ينبغي من جهة الاختيار فإن تطوع قبل نذره ثم أتى بنذره في وقته إن كان مؤقتا وأتى به قبل موته إن لم يكن مؤقتا فقد أجزأه ولا شيء عليه
وقد مضى في كتاب الصلاة ما للعلماء فيمن دخل المسجد وقد صلى أهله هل يتطوع قبل الفرض أم لا وهو من هذا المعنى
وقال مالك من مات وعليه نذر من رقبة يعتقها أو صيام أو صدقة أو بدنة فأوصى أن ينفذ عنه فإن ذلك من ثلثه يبدي على ما سواه من الوصايا التي يتطوع بها
قال وإنما كان ذلك أنا لو جعلناه في راس ماله لإقراره بأنه كان لازما له لم يؤمن على من شاء أن يمنع ورثته الميراث إلا منعه ما يقر به على نفسه من زكاة وكفارات فرض فيها فلذلك منع من أن يكون في رأس ماله وجعل في ثلثه وبدي على سائر ما يتطوع به
339

قال أبو عمر هذا معنى قوله دون لفظه
وقد ذكرنا في الزكاة هذه المعاني واختلاف العلماء فيما اختلفوا فيه من ذلك
ويأتي في كتاب الوصايا ما للعلماء فيما يبدي منها وما يكون منها في الثلث وفي رأس المال إن شاء الله
631 - وذكر مالك في هذا الباب أنه بلغه أن عبد الله بن عمر كان يقول لا يصوم أحد عن أحد ولا يصلي أحد عن أحد
قال أبو عمر أما الصلاة فإجماع من العلماء أنه لا يصلي أحد عن أحد فرضا عليه من الصلاة ولا سنة ولا تطوعا لا عن حي ولا عن ميت وكذلك الصيام عن الحي لا يجزئ صوم أحد في حياته عن أحد وهذا كله إجماع لا خلاف فيه
وأما من مات وعليه صيام فهذا موضع اختلف فيه العلماء قديما وحديثا
فقال مالك ما تقدم ذكره لا يصوم أحد عن أحد
قال وهو أمر مجتمع عليه لا خلاف فيه عندنا
وروي مثل قول مالك عن بن عباس وبن عمر
إلا أنه اختلف فيه عن بن عباس من رواته عنه بمذهب بن عمر ومالك
في ذلك ما حدثناه محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا محمد بن عبد الأعلى قال حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا حجاج الأحول قال حدثنا أيوب بن موسى عن عطاء بن أبي رباح عن بن عباس قال لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مدا من حنطة
وقال الشافعي يطعم عنه ولا يصام عنه
وهو قول الثوري في رواية
وقال أبو حنيفة وأصحابه إن من أمكنه القضاء فقد أبعد فإنه يطعم عنه
قال والنذر من قضاء رمضان في ذلك سواء
وهو قول بن علية
وقال الأوزاعي يجعل وليه مكان الصوم صدقة فإن لم يجد صام عنه
340

وروي ذلك عن الثوري
وقال الحسن بن حي لا يصوم أحد عن أحد فإن اعتكف اعتكف عنه وصام عنه بعد موته
وقال الثوري يصوم عنه وليه
وقال أحمد بن حنبل وأبو عبيد القاسم بن سلام يطعم عنه مدا من حنطة عن كل يوم مدا وفي النذر يصوم عنه
وقال أبو ثور يقضي عنه الصوم في ذلك كله
وجملة أقوالهم في ذلك أن أبا حنيفة والثوري والأوزاعي والشافعي والحسن بن حي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبا عبيد قالوا واجب أن يطعم عنه من رأس ماله أوجب عليه إلا أبا حنيفة فإنه قال يسقط عنه ذلك بالموت
وقال مالك الإطعام غير واجب على الورثة إلا أن يوصي بذلك إليهم
وتحصيل مذهبه أن ذلك واجب على الميت غير واجب على الورثة فإن أوصى بذلك كان في ثلثه
ومعنى قولي واجب عليه أي واجب عليه صومه
فإن حضرته الوفاة كان واجبا عليه أن يوصي بالإطعام عنه كسائر الكفارات في الإيمان وغيرها فإن فعل كان في ثلث وإن لم يفعل فلا شيء على الورثة
قال أبو عمر ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من مات وعليه صيام صام عنه وليه (1)
أخبرنا عبد الله بن محمد بن بكر قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن صالح قال حدثنا بن وهب قال أخبرنا عمر بن الحارث عن عبيد الله بن أبي جعفر عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة عن عائشة
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من مات وعليه صيام صام عنه وليه (2)
قال أبو داود وهذا في النذر
341

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا زائدة
قال قاسم وحدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا معاوية بن عمرو قال حدثنا زائدة
قال قاسم قال حدثنا عبد الله بن أبي شيبة قال حدثنا أبو معاوية كلاهما عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن بن عباس قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها قال نعم فدين الله أحق أن يقضى (1)
وفي حديث أبي معاوية أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر فذكره
وأخبرنا عبد الله بن محمد بن أسد قال حدثنا حمزة بن محمد قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا نبيشة بن سعيد قال حدثنا عبيد عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن بن عباس قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها فقال أرأيت لو كان عليها دين أكنت تقضيه قال نعم قال فدين الله أحق أن يقضى (2)
رواه الحكم بن عتيبة وسلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير عن بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه
وروي عن سعيد بن جبير عن بن عباس أنه أفتى في قضاء رمضان فقال يطعم وفي النذر يصام عنه
وهو قول أحمد روى عنه محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان فيهما جميعا الإطعام
وزعم من احتج للكوفيين ومالك أن بن عباس لم يخالف بفتواه
وقد روي عن عائشة أيضا من قوله أنه يطعم عنه في قضاء رمضان ولا يصام
342

رواه عبد العزيز بن رفيع عن امرأة منهم يقال لها عمرة عن عائشة وهذا والله أعلم
قال أحمد إن معنى حديث بن عباس المرفوع أنها في النذر دون قضاء رمضان
وأما أبو ثور فقال يصام عنه في الوجهين جميعا
وهو قول داود على ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم من مات وعليه صيام صام عنه وليه (1) وهذا عندهم واجب عليه
وقال الحسن إن صام عنه ثلاثون رجلا يوما واحدا جاز يريد أن ذلك كرجل واحد صام ثلاثين يوما
قال أبو عمر لولا الأثر المذكور لكان الأصل القياس على الأصل المجتمع عليه في الصلاة وهو عمل بدن لا يصوم أحد عن أحد كما لا يصلي أحد عن أحد
((17 - باب ما جاء في قضاء رمضان والكفارات))
632 - ذكر فيه مالك عن زيد بن أسلم عن أخيه خالد بن أسلم أن عمر بن الخطاب أفطر ذات يوم في رمضان في ذي غيم ورأى أنه قد أمسى وغابت الشمس فجاءه رجل فقال يا أمير المؤمنين طلعت الشمس فقال عمر الخطب يسير وقد اجتهدنا
قال مالك يريد بقوله الخطب يسير القضاء فيما نرى والله أعلم وخفة مؤونته ويسارته يقول نصوم يوما مكانه
قال أبو عمر ما تأوله مالك - رحمه الله - عمل عمر - رضوان الله عليه - فقد روي عن عمر من أهل الحجاز وأهل العراق أيضا
ذكر عبد الرزاق عن بن جريج قال حدثني زيد بن أسلم عن أبيه قال أفطر الناس في شهر رمضان في يوم مغيم ثم نظر ناظر فإذا الشمس فقال عمر الخطب يسير وقد اجتهدنا نقضي يوما مكانه
قال بن جريج فهذا الحديث عن زيد بن أسلم عن أبيه ولم يقل عن أخيه
343

وروى الثوري عن جبلة بن سحيم عن علي بن حنظلة عن أبيه أنه شهد عمر فذكر هذه القصة وقال يا هؤلاء من كان أفطر فإن قضاء يوم يسير ومن لم يكن أفطر فليتم صومه
وروى معمر عن الأعمش عن زيد بن وهب قال أفطر الناس في زمان عمر فرأيت عساسا أخرجت من بيت حفصة فشربوا في رمضان ثم طلعت الشمس من سحاب فكأن ذلك شق على الناس وقالوا أنقضي هذا اليوم فقال عمر ولم تقضي والله ما تجانفنا الإثم
قال أبو عمر فهذا خلاف عن عمر في هذه المسألة والرواية الأولى أولى بالصائم إن شاء الله
وممن قال لا يقضي هشام بن عروة وداود بن علي
والجمهور على القضاء
وأما مالك فيقضي عنده قياسا على الناسي عنده
قال مالك فيمن أكل قبل غروب الشمس وهو يظنها قد غابت أو أكل بعد الفجر وهو يظنه لم يطلع قال فإن كان نظر غامضا فيه فلا شيء عليه وإن كان واجبا فعليه القضاء
وقال الكوفيون والشافعي والثوري وبن سعد إذا تسحر بعد طلوع الفجر أو أكل قبل غروب الشمس فعليه القضاء
قال أبو عمر الدليل على صحة من قال يقضي اليوم إجماعه على أنه لو غم هلال رمضان فأفطروا ثم قامت الحجة برؤية الهلال أن عليهم القضاء بعد إتمام صيامهم يومهم
وأما اختلافهم في من أكل وهو شاك في الفجر فقال مالك أكره أن يأكل إذا شك فإن أكل فعليه القضاء أرى أن يقضي يوما مكانه فإن كان عليه فقد قضاه وإن لم يكن عليه فقد أجر إن شاء الله
وقال الثوري يتسحر ما شك في الفجر حتى يرى الفجر
وقال الشافعي وعبيد الله بن الحسن لا يأكل إذا شك فإن أكل فلا شيء عليه
وقال الأوزاعي إذا شك الرجل فلم ير وأكل في الفجر أم في الليل فلا شيء عليه
344

وقال أبو حنيفة وأصحابه إن كان أكثر رأيه أنه أكل بعد طلوع الفجر فأوجب أن يقضي
قال أبو عمر قول الشافعي ومن تابعه قول احتياط لأنه قد نهاه عن الأكل مع الشك خوفا أن يواقع ما لا يحل من الأكل بعد الفجر ولم ير عليه قضاء لأنه لم يبن له أنه أكل بعد الفجر وإيجاب القضاء إيجاب فرض فلا ينبغي أن يكون إلا بيقين
واحتج بعض أصحابنا لمالك بأن الصائم يلزمه اعتراف طرفي النهار وذلك لا يكون إلا بتقدم شيء وإن قل من السحر وآخر شيء من الليل
قال أبو عمر هذا التزام لصوم ما لم يأمر الله بصيامه مع مخالفة الآثار في تعجيل الفطر وتأخير السحور وهي متواترة صحاح
وقول الثوري من الفقه
وقول الله عز وجل * (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) * [البقرة 187] فلم يمنعهم من الأكل حتى يستبين لهم الفجر
فأما رواية مالك في هذا الباب
633 - عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول يصوم قضاء رمضان متتابعا من أفطره من مرض أو في سفر
634 - وعن بن شهاب أن عبد الله بن عباس وأبا هريرة اختلفا في قضاء رمضان فقال أحدهما يفرق بينه وقال الآخر لا يفرق بينه لا أدري أيهما قال يفرق بينه
635 - وعن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يسأل عن قضاء رمضان فقال سعيد أحب إلي أن لا يفرق قضاء رمضان وأن يواتر
قال أبو عمر هو قول مالك لا خلاف عنه في أنه يستحب أن يتابع قضاء رمضان ولا يرى إعادة على من لم يتابعه هذا قوله في موطئه وغيره وكذلك يستحب في كل صيام مذكور في كتاب الله - عز وجل - بكفارة يمين وغيرها
345

وأما حديث بن شهاب عن أبي هريرة وبن عباس وقوله لا أدري أيهما قال لا يفرق بينه وأيهما قال يفرق بينه ولا أدري عمن أخذ بن شهاب ذلك
وقد صح عندنا عن بن عباس وأبي هريرة أنهما أجازا أن يفرق قضاء رمضان
ذكر عبد الرزاق قال أخبرنا بن جريج عن عطاء عن بن عباس وأبي هريرة قالا في قضاء رمضان فرقه إن شئت حسبك إذا أحصيته
قال وأخبرنا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عباس قال صم كيف شئت قال الله - عز وجل - * (فعدة من أيام أخر) * [البقرة 185]
قال وأخبرنا بن عيينة عن عمرو بن دينار عن هشام بن يحيى عن أبي هريرة قال صم كيف شئت وأحص العدة
قال وأخبرنا الثوري عن رجل من قريش عن أمه أنها سألت أبا هريرة عن قضاء رمضان فقال لا بأس أن تفرقيه إنما هي عدة من أيام أخر
وأما بن عمر فلا أعلم عنه خلافا أنه قال صمه متتابعا كما أفطرته
ذكره معمر وبن جريج عن بن شهاب عن سالم عن بن عمر وعبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر
وعن الثوري عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي قال صمه متتابعا
وهو قول الحسن والشعبي
وذكر عبد الرزاق عن بن جريج عن بن شهاب عن عروة عن عائشة قالت نزلت * (من أيام أخر) * [البقرة 184] (متتابعات) ثم سقطت متتابعات
قال أبو عمر قولها سقطت يحتمل نسخت ورفعت وهو دليل على سقوط التتابع وليس شيء بين الدفتين (متتابعات) فصح سقوطها ورفعها
وعلى هذا جمهور العلماء وهو قول طاوس ومجاهد وعطاء وعبيد بن عمير وجماعة وبه قال الأوزاعي والثوري وأبو حنيفة والشافعي وأبو ثور وأحمد وإسحاق وكلهم مع ذلك يستحبونها متتابعات
636 - وأما حديثه في هذا الباب عن نافع عن بن عمر أنه كان يقول من استقاء وهو صائم فعليه القضاء ومن ذرعه القيء فليس عليه القضاء
346

فقد روى هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم مسندا من حديث أبي هريرة
رواه عيسى بن يونس عن هشام بن حسان عن محمد بن يزيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من ذرعه القيء وهو صائم فليس عليه القضاء ومن استقاء فعليه القضاء (1)
أخبرنا عبد الله بن محمد أخبرنا محمد بن بكر أخبرنا أبو داود أخبرنا مسدد أخبرنا عيسى بن يونس
وعيسى ثقة فاضل إلا أنه عند أهل الحديث قد وهم فيه وأنكروه عليه
وقد زعم بعضهم أنه قد رواه حفص بن غياث عن هشام بن حسان بإسناده والله أعلم
قال أبو عمر وقد رواه عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن جده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن سعيد ضعيف لا يحتج به
ورواه معاوية بن سلام وغيره عن يحيى بن كثير قال أخبرني عمر بن الحكم بن ثوبان أنه سمع أبا هريرة يقول إذا قاء أحدكم فلا يفطر فإنما يخرج ولا يدخل
وهذا عندهم أصح موقوفا على أبي هريرة
واختلف العلماء فيمن استقاء بعد إجماعهم على أن من ذرعه القيء فلا شيء عليه
فقال مالك والثوري وأبو حنيفة وصاحباه والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق من استقاء عامدا فعليه القضاء
قال أبو عمر على هذا جمهور العلماء فيمن استقاء أنه ليس عليه إلا القضاء
روي ذلك عن عمر وعلي وبن عمر وأبي هريرة وجماعة من التابعين وهو قول بن شهاب
قال أبو عمر ليس في قوله - عليه السلام - إن صح - ثلاث لا يفطرن الصائم القيء والحجامة والاحتلام حجة في هذا الباب لأنه يحتمل للتأويل في الاستقاءة ومن ذرعه القيء
347

وقال الأوزاعي وأبو ثور عليه القضاء والكفارة مثل كفارة الآكل عمدا في رمضان
وهو قول عطاء بن أبي رباح
وحجة هؤلاء حديث الأوزاعي عن يعيش بن الوليد بن هشام أن أباه حدثه قال حدثني معدان فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فقلت إن أبا الدرداء حدثني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر قال صدق وأنا صببت له وضوءه (1)
وزاده عمر عن يحيى بن أبي كثير عن يعيش بن الوليد بمعناه
قالوا وإذا كان القيء يفطر الصائم فعلى من تعمده [قياسا] على من تعمد الأكل أو الشرب أو الجماع لأنه بهذه أو بواحدة منها يكون مفطرا ومن تعمد الإفطار فعليه القضاء والكفارة
قال أبو عمر زعم محمد بن عيسى الترمذي وغيره أن حديث أبي الدرداء أصح من حديث أبي هريرة المرفوع في هذا الباب
وذكر عبد الرزاق عن بن جريج قال قلت لعطاء رجل استقاء في رمضان قال يقضي ذلك اليوم ويكفر بما قال النبي صلى الله عليه وسلم قال وإن كان جاهلا أو ناسيا فلا
قال بن جريج وقال مثل ذلك عمرو بن دينار
وفي هذا الباب
قال مالك من أكل أو شرب في رمضان ساهيا أو ناسيا أو ما كان من صيام واجب عليه أن عليه قضاء يوم مكانه
هذا قوله في موطئه
وقال أشهب عنه أحسن ما سمعت ثم ذكر معناه
وقال الليث بن سعد كما قال مالك من أكل أو شرب أو جامع ناسيا فعليه القضاء
وهو قول ربيعة وبن علية
348

قال بن علية من أكل أو جامع ناسيا فإنما عليه القضاء لا غير ولا إثم عليه ولو تعمد أثم وكفر
وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والحسن بن حي والثوري وبن أبي ذئب والأوزاعي وأبو ثور من جامع أو أكل أو شرب ناسيا في رمضان فلا قضاء عليه
هذا قول الثوري في رواية الأشجعي
وقد روي عن أبي حنيفة أنه قال لولا قول الناس لقلت يقضي
وروى المعافري عن الثوري أنه قال إذا جامع ناسيا فليصم يوما مكانه وإن أكل أو شرب ولم يفطر فلا شيء عليه
وقال أهل الظاهر من جامع ناسيا أو عامدا فعليه القضاء والكفارة
وهو قول أحمد بن حنبل قال ليس في حديث أبي هريرة الفرق بين الناسي والعامد يريد حديث بن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة موقوفا
قال أحمد قال مجاهد في الرجل يطأ أهله في رمضان وهو ناس لا شيء عليه
وقال عطاء ليس مثل هذا ينسى ولا يعذر فيه أحد
قال أحمد وقول عطاء أحب إلي
قال أحمد بن حنبل من أكل أو شرب ناسيا في رمضان فلا شيء عليه لا قضاء ولا كفارة وذهب فيه إلى حديث أبي هريرة ثم قال
حدثنا محمد بن جعفر وروح بن عبادة قالا حدثنا سعيد عن قتادة عن أبي رافع أنه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أكل أو شرب في صومه ناسيا فليتم يومه (1)
قال أبو عمر أخبرنا أحمد بن محمد قال حدثنا أحمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جرير قال حدثنا محمد بن خلف العسقلاني قال حدثنا آدم بن أبي إياس قال حدثنا بن سلمة عن أيوب وحبيب بن الشهيد عن محمد بن سيرين قال قال رجل يا رسول الله إني أكلت وشربت ناسيا في رمضان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله أطعمك وسقاك أتم صومك ولا شيء عليك
349

قال أبو عمر رواه معمر عن أيوب عن بن سيرين عن أبي هريرة موقوفا قال من أكل أو شرب ناسيا فليس عليه بأس الله أطعمه وسقاه
قال معمر وكان قتادة يقوله
وروي عن علي وعن بن عمر وأبي هريرة - رضي الله عنهم - وعن عطاء وطاوس وإبراهيم والحسن فيمن أكل أو شرب ناسيا أنه لا شيء عليه
637 - وفي هذا [الباب ذكر] مالك عن حميد بن قيس المكي أنه أخبره قال كنت مع مجاهد وهو يطوف بالبيت فجاءه إنسان فسأله عن صيام أيام الكفارة أمتتابعات أم يقطعها قال حميد فقلت له نعم يقطعها إن شاء قال مجاهد لا يقطعها فإنها في قراءة أبي بن كعب ثلاثة أيام متتابعات
قال مالك وأحب إلي أن يكون ما سمى الله في القرآن يصام متتابعا
قال أبو عمر في هذا الحديث جواب المتعلم بين يدي المعلم أنه لا حرج عليه في ذلك وحسب الشيخ إن كان عنده علم بذلك أخبر به ونبه عليه فأفاد ولم يعنف
ويجب بدليل هذا الخبر أيضا أن من رد على غيره قوله كان دونه أو مثله أو فوقه - أن يأتي بحجة أو وجه يبين به فضل قوله لموضع الخلاف
وفيه جواز الاحتجاج من القراءات بما ليس في مصحف عثمان إذا لم يكن في مصحف عثمان ما يدفعها وهذا جائز عند جمهور العلماء وهو عندهم يجري مجرى خبر الواحد في الاحتجاج به للعمل بما يقتضيه معناه دون القطع عن مغيبيه
وفي مثل هذا ما مضى في كتاب الصلاة من الاحتجاج على قول الله - عز وجل - * (فاسعوا إلى ذكر الله) * (فامضوا إلى ذكر الله) [الجمعة 9] وهي قراءة ابنه مسعود
وأما صيام الثلاثة أيام في كفارة اليمين لمن لم يجد ما يكفر به من إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة فجمهور أهل العلم يستحبون أن تكون متتابعات
350

ولا يوجبون التتابع إلا في الشهرين اللذين يصامان كفارة لقتل الخطأ أو الظهار أو الوطء عامدا في رمضان ويستحبون في ذلك ما استحبه مالك
ذكر عبد الرزاق عن الثوري عن ليث عن مجاهد قال كل صوم في القرآن فهو متتابع إلا قضاء رمضان
وعن بن جريج قال سمعت عطاء يقول بلغنا أن في قراءة بن مسعود * (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام) * متتابعات المائدة 89] قال عطاء وكذلك يقرؤها وكذلك كان يقرؤها أبو إسحاق والأعمش
وعن معمر عن أبي إسحاق والأعمش قالا في حرف بن مسعود (فصيام ثلاثة أيام متتابعات)
وعن بن عيينة عن بن جريج قال جاء رجل إلى طاوس يسأله عن صيام ثلاثة أيام كفارة اليمين فقال صم كيف شئت فقال مجاهد يا أبا عبد الرحمن إنها في قراءة بن مسعود (متتابعات) قال فأخبر الرجل
وفيما ذكرنا عن هؤلاء العلماء دليل على صحة ما وصفنا وبالله توفيقنا
وأما قوله سئل مالك عن المرأة تصبح صائمة في رمضان فتدفع دفعة من دم عبيط في غير أوان حيضها إلى آخر قوله فقد تقدم في كتاب الحيض وجه هذه المسألة وأصل مالك الذي تقدم منه هذه المسألة ومثلها عنده أن كل دم ظاهر من الرحم في غير أوان الحيض أو في غير أوانه قل أو كثر فهو دم حيض عنده تترك له المرأة الصوم والصلاة ما تمادى فيها حتى تتجاوز خمسة عشرة يوما فيعلم ذلك الوقت أنه فساد ودم عرق منقطع لا دم حيض
وهذه رواية المدنيين عنه
وكذلك إذا جاوزت أيامها المعروفة واستظهرت بثلاث في رواية المصريين عنه وهذا كله مبين في باب الحيض والحمد لله
وفي هذا الباب
وسئل مالك عمن أسلم في آخر يوم من رمضان هل عليه قضاء رمضان كله أو يجب عليه قضاء اليوم الذي أسلم فيه فقال ليس عليه قضاء ما مضى وإنما يستأنف الصيام فيما يستقبل وأحب إلي أن يقضي اليوم الذي أسلم فيه
قال أبو عمر اختلف علماء التابعين من السلف ومن بعدهم في الكافر يسلم في
351

رمضان والصبي يبلغ فيه هل عليهما قضاء ما مضى من شهر رمضان وفي اليوم الذي أسلم أو بلغ فيه
ذكر عبد الرزاق عن بن جريج عن عطاء قال إن أسلم نصراني في بعض رمضان صام ما مضى منه مع ما بقي وإن أسلم في آخر النهار صام ذلك اليوم
وعن الحكم بن أبان عن عكرمة قال يصوم ما بقي من رمضان ويقضي ما فاته فإن أسلم في آخر يوم من رمضان فهو بمنزلة المسافر يدخل في صلاة المقيمين
وعن معمر عن من سمع الحسن يقول إذا أسلم في شهر رمضان صامه كله
قال معمر وقال قتادة يصوم ما بقي من الشهر
قال معمر وقول قتادة أحب إلي
قال عبد الرزاق وقال الثوري لو أسلم كف عن الطعام في ذلك اليوم ولم يقضه ولا شيء عليه فيما مضى
وهذا نحو قول مالك
قال بن القاسم عن مالك يكف الذي يسلم في رمضان عن الأكل بقية يومه وليس عليه قضاء ذلك اليوم بواجب وأحب إلي لو قضاه
وهو قول الشافعي قال في النصراني يسلم في رمضان والصبي يحتلم عليهما أن يصوما ما بقي من شهر رمضان ولا شيء عليهما فيما مضى ولا يجب عليهما قضاء اليوم
الذي أسلم أو بلغ وأستحب لهما صومه
هذا كله معنى قول أبي حنيفة وأصحابه والليث بن سعد وعبيد الله بن الحسن وكلهم يستحب لهما أن يكفا ذلك اليوم عن الطعام
وقال الأوزاعي في الغلام يحتلم في النصف من رمضان فإنه يصوم ما مضى لأنه كان يطيق الصوم
وبه قال عبد الملك بن الماجشون
قال أبو عمر من أوجب على الكافر يسلم في رمضان والصبي يحتلم ما مضى فقد كلف غير مكلف لأن الله تعالى لم يكلف الصيام إلا على المؤمن إذا كان بالغا لقوله تعالى * (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام) * [البقرة 183] ولقوله * (واتقون يا أولي الألباب) * [البقرة 197] فلم يدخل في إيجاب هذا الخطاب
352

من لم يبلغ مبلغ من تلزمه الفرائض لقوله صلى الله عليه وسلم رفع القلم عن ثلاث (1) وذكر الغلام حتى يحتلم والجارية حتى تحيض ومن أوجب عليهم صوم ما مضى فقد أوجبه على غير مؤمن وكذلك من لم يحتلم لأنه غير مخاطب لرفع القلم عنه حتى يحتلم على ما جاء في الأثر هذا وجه النظر والله أعلم
قال أبو عمر من لم يوجب عليه صوم اليوم الذي يبلغ فيه أو يسلم استحال عنده ان يكون صائما في آخر يوم كان في أوله مفطرا وليس كاليوم الذي ظنه من شعبان الذي يبلغ أو يسلم في بعض النهار لما لم يلزمه في أول النهار لم يلزمه آخره واليوم الذي يظن أنه من شعبان ثم يصح عنده في نصف النهار أنه من رمضان لازم من أوله إلى آخره فلما فاته ذلك بجهله لزمه قضاؤه وسقط الإثم عنه ولزمه الإمساك بقية النهار عن الأكل عند جماعة العلماء لأنه كان واجبا عليه أوله وآخره وكذلك آخره مع العلم والله أعلم
((18 - باب قضاء التطوع))
638 - عن مالك عن بن شهاب أن عائشة وحفصة زوجي النبي صلى الله عليه وسلم أصبحتا صائمتين متطوعتين فأهدي لهما طعام فأفطرتا عليه فدخل عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت عائشة فقالت حفصة وبدرتني بالكلام (2) وكانت بنت أبيها (3) يا رسول الله إني أصبحت أنا وعائشة صائمتين متطوعتين فأهدي إلينا طعام فأفطرنا عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقضيا مكانه يوما آخر
هكذا هذا الحديث عند جماعة رواة الموطأ فيما علمت
وقد روي عن عبد العزيز بن يحيى ومطرف وروح بن عبادة والقدامي عن
353

مالك عن بن شهاب عن عروة عن عائشة مسندا إلا أنه لم يروه عنه إلا من ليس بذاك من أصحابه
وممن رواه كذلك عن بن شهاب جعفر بن برقان وسفيان بن حسين وصالح بن أبي الأخضر وإسماعيل بن إبراهيم بن أبي حبيبة وصالح بن كيسان ويحيى بن سعيد الأنصاري
إلا أن مدار حديث صالح بن كيسان ويحيى بن سعيد الأنصاري على يحيى بن أيوب وليس بذاك القوي
وإسماعيل بن إبراهيم متروك الحديث
وجعفر بن برقان في الزهري ليس بشيء
وسفيان بن حسين وصالح بن أبي الأخضر في حديثهما عن الزهري خطأ كبير
وحفاظ بن شهاب يروونه مرسلا عن بن شهاب أن عائشة وحفصة منهم مالك ومعمر وعبيد الله بن عمر وبن عيينة
هكذا روى حديث عبيد الله بن عمر عنه يحيى القطان وهو الصحيح عن عبيد الله
أخبرنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا محمد بن منصور قال حدثنا سفيان قال سمعناه من صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت أصبحت أنا وحفصة صائمتين فأهدي لنا طعام مخروص عليه (1) الحديث
قال سفيان فسألوا الزهري وأنا شاهد أهو عن عروة قال لا
قال أبو عمر أظن السائل الذي أشار إليه بن عيينة بالذكر هو بن جريج
ذكر عن سفيان قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا بن جريج قال قلت لابن شهاب أحدثك عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أفطر في التطوع فليصمه
قال لم أسمع من عروة في ذلك شيئا ولكن حدثني في خلافة سليمان إنسان عن بعض من كان يسأل عائشة أنها قالت أصبحت أنا وحفصة صائمتين وذكر الحديث
354

قال الشافعي أخبرنا مسلم بن خالد عن بن جريج قال قلت لابن شهاب أسمعته من عروة بن الزبير قال لا إنما أخبرنيه رجل بباب عبد الملك بن مروان أو رجل من جلساء عبد الملك بن مروان
أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا محمد بن عثمان بن ثابت قال حدثنا أحمد بن إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا علي بن المديني قال حدثنا سفيان قال جاءنا صالح بن الأخضر قبل أن يجيء الزهري لنا فقام فروى لنا عن الزهري عن عروة عن عائشة أنها أصبحت هي وحفصة صائمتين متطوعتين فأهدي لهما طعام وكان الطعام مخروصا عليه فلما جاء الزهري حدثنا بهذا الحديث فلم يذكر فيه عروة ولا قال فيه وكان الطعام مخروصا عليه فوقفوا الزهري وأنا حاضر هل سمعته من عروة فقال لم أسمعه من عروة
وقد ذكرنا في التمهيد ما روي مسندا في معنى هذا الحديث وعلل تلك الأحاديث كلها
قال أبو عمر أجمع العلماء على أنه لا شيء على من دخل في صيام أو صدقة تطوع فقطعه عليه عذر من حدث أو غيره لم يكن له فيه سبب
واختلفوا فيمن قطع صلاته أو صيامه عامدا
فقال مالك وأصحابه من أصبح صائما متطوعا ثم أفطر عامدا فعليه القضاء
وكذلك قال أبو حنيفة وأبو ثور
وحجتهم ما ذكرنا من حديث بن شهاب المذكور وما كان معناه فيما ذكرناه في التمهيد
وقال الشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق أستحب له أن لا يفطر فإن أفطر فلا قضاء عليه
وقال الثوري أحب إلي أن يقضي
واختلف أصحاب أبي حنيفة فمنهم من قال بقول صاحبهم ومنهم من قال بقول الشافعي
والفقهاء كلهم من أهل الرأي والأثر يقولون إن المتطوع إذا أفطر ناسيا أو عليه شيء فلا قضاء عليه
وقال بن علية المتطوع عليه القضاء أفطر متعمدا أو ناسيا قياسا على الحج
وقال الأثرم سألت أبا عبد الله بن حنبل عن رجل أصبح صائما متطوعا ثم بدا
355

له فأفطر أيقضيه قال إن قضاه فحسن وأرجو أن لا يجب عليه شيء
قيل له فالرجل يدخل في صلاة متطوعا أله أن يقطعها فقال الصلاة أشد لا يقطعها قيل له فإن قطعها أيقضيها قال فإن قضاها خرج من الاختلاف
قال أبو عمر من حجة من قال إن المتطوع إذا أفطر لا شيء عليه من قضاء ولا غيره ما أخبرناه عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال حدثنا جرير بن عبد الحميد عن زيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث عن أم هانئ قالت لما كان يوم فتح مكة جاءت فاطمة فجلست عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم هانئ عن يمينه قالت فجاءت الوليدة بإناء فيه شراب فناولته فشرب منه ثم ناوله أم هانئ فشربت منه قالت يا رسول الله لقد أفطرت وكنت صائمة فقال لها أكنت تقضين شيئا قالت لا قال فلا يضرك إن كان تطوعا (1)
وأخبرنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا الربيع بن سليمان قال حدثنا محمد بن حسان قال حدثنا حماد عن سماك بن حرب عن هارون بن أم هانئ عن أم هانئ قالت دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا صائمة فأتي بإناء من لبن فشرب ثم ناولني فشربت فقلت يا رسول الله إني كنت صائمة ولكني كرهت أن أرد سؤرك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان من قضاء رمضان فاقضي يوما مكانه وإن كان من غير قضاء رمضان فإن شئت فاقضي وإن شئت لا تقضي
قال أبو عمر اختلف في هذا الحديث عن سماك وغيره وهذا الإسناد أصح إسناد لهذا الحديث من طرق سماك ولا يقوم على غيره رواه شعبة عن سماك قال شعبة وكان سماك يقول حدثني ابنا أم هانئ فرويته عن أفضلهما
واحتج الشافعي أيضا بجواز الفطر في التطوع بأن قال حدثنا سفيان بن عيينة عن طلحة بن يحيى عن عمته عائشة بنت طلحة عن عائشة قالت دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت إنا خبأنا لك حيسا فقال أما إني كنت أريد الصوم ولكن قدميه
356

قال وأخبرنا سفيان عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر قال خرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة حتى إذا كان بكراع الغميم وهو صائم رفع إناء فوضعه على يده وهو الرحل فشرب والناس ينظرون (1)
فقال هذا لما كان له أن يدخل في الصوم في السفر وألا يدخل وكان مخيرا في ذلك إذا دخل فيه أن يخرج منه والتطوع بهذا أولى
قال وأخبرنا مسلم بن خالد وعبد المجيد عن بن جريج عن عطاء أن بن عباس كان لا يرى بالإفطار في صيام التطوع بأسا
قال ويضرب لذلك أمثالا رجل طاف سبعا ولم يوفه فقد ما احتسب أو صلى ركعة فلم يصل أخرى فقد ما احتسب
قال وأخبرنا مسلم وعبد المجيد عن بن جريج عن الزبير عن جابر أنه كان لا يرى بالإفطار في صيام التطوع بأسا
قال وأخبرنا عبد المجيد عن بن جريج عن عطاء عن أبي الورد مثله
قال أبو عمر ذكر هذه الآثار كلها عبد الرزاق عن بن جريج عن عطاء عن عمرو بن دينار عن أبي الزبير سواء
وذكر معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله أن بن عباس قال الصوم كالصدقة أردت أن تصوم فبدا لك وأردت أن تصدق فبدا لك
قال عبد الرزاق وأخبرني إسرائيل عن سماك بن حرب عن عكرمة عن بن عباس قال من أصبح صائما متطوعا إن شاء صام وإن شاء أفطر وليس عليه قضاء
وهو قول سلمان وأبي الدرداء ومجاهد وطاوس وعطاء
واختلف فيه عن سعيد بن جبير
واحتج الشافعي على من أدخل عليه الحجة بالإجماع في حج العمرة والتطوع أنه ليس لأحد الخروج منهما بعد الدخول فيهما وأن من خرج منهما قضاهما وأن الصيام
قياس عليه بأن قال الفرق بين ذلك أن من أفسد صلاته أو صيامه أو طوافه كان عاصيا لو تمادى في ذلك فاسدا وهو في الحج مأمور بالتمادي فيه فاسدا ولا يجوز له
357

الخروج منه حتى يتمه على فساده ثم يقضيه وليس كذلك الصوم والصلاة
قال أبو عمر من حجة مالك ومن قال بقوله في إيجاب القضاء على المتطوع إذا أفسد صومه عامدا مع حديث بن شهاب المذكور في هذا الباب حديث عائشة وحفصة وقول الله - عز وجل * (ومن يعظم حرمات الله فهو خير له) * [الحج 30] وليس من أفطر متعمدا بعد دخوله في الصوم بمعظم لحرم الصوم وقد أبطل عمله فيه وقد قال الله - عز وجل - * (ثم أتموا الصيام إلى الليل) * [البقرة 187] وهو يقتضي عموم الفرض والنافلة كما قال الله - عز وجل - * (وأتموا الحج والعمرة) * [البقرة 197] وقد أجمعوا أن المفسد لحجة التطوع أو عمرته أن عليه القضاء فالقياس على هذا الإجماع إيجاب القضاء على مفسد صومه عامدا
وأما من احتج في هذه المسألة بقوله * (ولا تبطلوا أعمالكم) * [محمد 30] فجاهل بأقوال أهل العلم فيها وذلك أن العلماء فيها على قولين
فقول أكثر أهل السنة لا تبطلوها بالرياء أخلصوها لله
وقال آخرون * (ولا تبطلوا أعمالكم) * [محمد 30] بارتكاب الكبائر وممن روي عنه ذلك أبو العالية
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب فإن كان مفطرا فليأكل (1)
وروي فإن شاء أكل وإن كان صائما فلا يأكل (2)
فلو كان الفطر في التطوع حسنا لكان أفضل ذلك وأحسنه في إجابة الدعوة التي هي سنة مسنونة فلما لم يكن ذلك كذلك علم أن الفطر في التطوع لا يجوز
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تصوم امرأة وزوجها شاهد من غير شهر رمضان إلا بإذنه
358

وفي هذا أن المتطوع لا يفطر ولا يفطره غيره لأنه لو كان للرجل أن يفسد عليها ما احتاجت إلى إذنه ولو كان مباحا كان إذنه لا معنى له
وقد روي عن النبي - عليه السلام - أنه قدم إليه سمن وتمر وهو صائم فقال ردوا تمركم في وعائه وسمنكم في سقائه فإني صائم (1) ولم يفطر بل أتم صيامه إلى الليل على ظاهر قول الله * (ثم أتموا الصيام إلى الليل) * [البقرة 187] ولم يخص فرضا من نافلة
وقد روي عن بن عمر أنه قال في المفطر متعمدا في صوم التطوع ذاك اللاعب بدينه أو قال بصومه
وقال سعيد بن جبير لأن تختلف الأسنة في جوفي أحب إلي أن أفطر
أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن الجهم قال حدثنا روح بن عبادة قال حدثنا قزعة بن سويد قال حدثنا معروف بن أبي معروف إن عطاء صنع لهم طعاما بذي طوى فقربه إليهم وعطاء صائم ومجاهد صائم وسعيد بن جبير صائم فأفطر عطاء ومجاهد وقال سعيد لأن تختلف الشفار في جوفي أحب إلي من أن أفطر
وهو قول بن عمر وإبراهيم النخعي والحسن البصري ومكحول
وإليه ذهب أبو ثور
وهو قول مالك وأصحابه
وقد احتج مالك في موطئه لهذه المسألة وما كان مثلها من صلاة التطوع بما قد أوردنا معناه فيما مضى لهذا الباب
((19 - باب فدية من أفطر في رمضان من علة))
639 - ذكر فيه مالك أنه بلغه أن أنس بن مالك كبر حتى كان لا يقدر على الصيام فكان يفتدي (2)
قال مالك ولا أرى ذلك واجبا وأحب إلي أن يفعله إذا كان قويا عليه فمن فدى فإنما يطعم مكان كل يوم مدا بمد النبي صلى الله عليه وسلم
359

قال أبو عمر الخبر بذلك عن أنس صحيح متصل رواه حماد بن زيد وحماد بن سلمة ومعمر بن راشد عن ثابت البناني قال كبر أنس بن مالك حتى كان لا يطيق الصوم قبل موته بعام أو عامين فكان يفطر ويطعم
وروى قتادة عن النضر بن أنس مثله قال كان يطعم عن كل يوم مسكينا
قال أبو عمر اختلف عن أنس في صفة إطعامه فروي عنه مد لكل مسكين وروي عنه نصف صاع وروي عنه انه كان يجمعهم فيطعمهم فربما جمع ثلاث مائة مسكين فأطعمهم وجبة واحدة وربما أطعم ثلاثين مسكينا كل ليلة من رمضان يتطوع بذلك وكان يصنع لهم الجفان من الخبز واللحم (1)
قال أبو عمر أجمع العلماء على أن للشيخ الكبير والعجوز اللذين لا يطيقان الصوم الإفطار ثم اختلفوا في الواجب عليهما
فقال مالك ما ذكرناه عنه في موطئه
وروى عنه أشهب قال قال ربيعة في الكبير والمستعطش إذا أفطرا إنما عليهما القضاء ولا إطعام عليهما
قال أشهب وقال لي مالك مثله
وقال الأوزاعي قال الله - عز وجل - * (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم) * إلى قوله * (فدية طعام مسكين) * [البقرة 183 184] قال كان من أطاق الصيام إن شاء صام وإن شاء أطعم فنسختها هذه الآية * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) * [البقرة 185] فثبت
الفدية للكبير الذي لا يطيق الصوم أن يطعم لكل يوم مسكينا مدا من حنطة
وقال الشافعي الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم ويقدر على الكفارة يتصدق عن كل يوم بمد من حنطة
قلته خبرا عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقياسا على من لم يطق الحج أنه يحج عنه غيره وليس عمل غيره عمله عن نفسه كما ليس الكفارة كعمله
قال والحال التي يترك فيها الكبير الصوم يجهده الجهد غير المحتمل
360

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد في الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم يفطر ويطعم لكل يوم مسكينا نصف صاع من حنطة ولا شيء عليه غير ذلك
وقال أبو ثور أما الشيخ الكبير الذي لا يقدر على الصوم فإنه يفطر ويطعم مكان كل يوم مسكينا إذا كان الصوم يجهده وإن كان لا يقدر على الصوم فلا شيء عليه
قال أبو عمر قال الله تعالى * (كتب عليكم الصيام) * إلى قوله * (فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم) * [البقرة 183 184]
قوله تعالى * (يطيقونه) * هو الثابت بين لوحي المصحف المجتمع عليه وهي القراءة الصحيحة التي يقطع بصحتها ويقطع الفرد بمجيئها
وقد اختلفت العلماء بتأويلها
قال منهم قائلون هي منسوخة
قالوا كان المقيم الصحيح المطيق للصيام مخيرا بين أن يصوم رمضان وبين أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينا وإن شاء صام منه ما شاء وأطعم عما شاء فكان الأمر كذلك حتى أنزل الله - عز وجل - * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) * [البقرة 184] فنسخ به ما تقدم من التخيير بين الصوم والإطعام
واختلفوا مع هذا في تأويل قوله * (فمن تطوع خيرا فهو خير له) * [البقرة 184]
فقال بعضهم يطعم مسكينين عن كل يوم مدا مدا أو نصف صاع
وقال بعضهم يطعم مسكينا أكثر مما يجب عليه
وقال بعضهم أراد بقوله * (فمن تطوع خيرا فهو خير له) * [البقرة 184] أن يصوم مع الفدية
قال والصوم مع ذلك خير له من ذلك وكل هؤلاء يقولوا الآية منسوخة بقوله * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) * [البقرة 185]
وممن قال بذلك عبد الله بن عباس رواه أيوب وخالد الحذاء عن محمد بن سيرين عن بن عباس
ورواه يزيد النحوي عن عكرمة عن بن عباس
ورواه بن جريج وعثمان بن عطاء الخرساني عن عطاء عن بن عباس
361

وهو قول سلمة بن الأكوع لم يختلف عنه فيه وقول علقمة وعبيدة وبن سيرين والشعبي وبن شهاب الزهري
وهو قول جماعة من أهل الحجاز والعراق إلا أنهم في قولهم أنها منسوخة مفترقون فرقتين
منهم من قال منسوخة جملة في الشيخ وفي غيره
ومن قول هؤلاء أو بعضهم أن الناس لا يخلون من إقامة أو سفر ومن صحة أو مرض فالصحيح المقيم غير مخير لأن الصوم كان عليه فرضا واجبا لقدرته على ذلك وإقامته ببلده والمسافر يخير على ما تقدم من حكمه في كتاب الله - عز وجل - فإن أفطر فعليه عدة من أيام أخر ولا فدية والمريض لا يخلو من أن يرجى برؤه وصحته فهذا إن صح قضى ما عليه عدة من أيام أخر وإن لم يطمع له بصحة ولا قوة كالشيخ والعجوز اللذين قد انقطعت قوتهما ولا يطمعان أن يثوبا إليهما حال يمكنها من القضاء فلا شيء عليهما من فدية ولا غيرها لأن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها
هذا معنى قول القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله ومكحول الدمشقي وربيعة بن عبد الرحمن وسعيد بن عبد العزيز ومالك وأصحابه وبه قال أبو ثور ورواية عن قتادة
إلا أن مالكا يستحب للشيخ الذي لا يقدر على الصيام إذا قدر على الفدية بالطعام أن يطعم عن كل يوم مدا لمسكين من قوته ولا يرى ذلك عليه واجبا عليه
وذهبت الفرقة الأخرى تقرأ * (يطيقونه) * وترى الآية منسوخة إلا أن النسخ فيها على بعض المطيقين للصوم
وهي محكمة عند بعضهم فقالوا كل من طاف الصوم فلا مشقة تضر به فالصوم واجب عليه وكل من لم يطق الصوم إلا بجهد ومشقة مضرة به فله أن يفطر ويفتدي لقول الله - عز وجل - * (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) * [البقرة 185]
قالوا وذلك في الشيخ الكبير والعجوز والحامل والمرضع الذين لا يطيقون الصيام إلا بجهد ومشقة خوفا على الولد
ذهب إلى هذا جماعة من العلماء منهم أنس بن مالك وبن عباس في رواية وعطاء ومجاهد وطاوس وعكرمة
وشريح كان يطعم عن نفسه ولا يصوم كفعل أنس بن مالك
362

وبهذا قال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن حي والأوزاعي والشافعي وطائفة من أهل المدينة منهم يحيى بن سعيد وأبو الزناد وبن شهاب في رواية
وهو معنى قراءة من قرأ * (يطيقونه) * لأن القراءتين على هذا التأويل غير متناقضتين
وهذا شأن الحروف السبعة يختلف سماعها ويتفق مفهومها فقراءة من قرأ * (يطيقونه) * يعني بمشقة وهو بمعنى يطوقونه أي يتكلفونه ولا يطيقونه إلا بمشقة
وعن بن شهاب رواية أخرى وهي أصح وذلك إن كان يرى الآية في التخيير بين الإطعام والصيام للمسافر والمريض خاصة وقرأها منسوخة كما ذكرنا من قوله - عز وجل - * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) * * (فعدة من أيام أخر) * قال القضاء باق ونسخ الخيار
قال أبو عمر قول بن شهاب هذا كالقول الأول الذي حكيناه عن ربيعة ومالك ومن ذكرنا معهم في ذلك
ومن حجة من قال بوجوب الفدية ظاهر قول الله - عز وجل - * (وعلى الذين يطيقونه) * يريد يطيقونه ويشق عليهم ويضر بهم * (فدية طعام) * قال لو أفطر هؤلاء في الآية المحكمة ألزموا الفدية بدلا من الصوم كما ألزم من لا يطيق الحج ببدنه أن يحج غيره بماله وكما ألزم الجميع الجاني على عضو مخوف الدية بدلا من القصاص في قول الله - عز وجل - * (والجروح قصاص) * [المائدة 45]
قال أبو عمر الاحتجاج بهذه الأقوال يطول وقد أكثروا فيها والصحيح في النظر - والله أعلم - قول من قال إن الفدية غير واجبة على من لا يطيق الصيام لأن الله تعالى لم يوجب الصيام على من لا يطيقه لأنه لم يوجب فرضا إلا على من أطاقه والعاجز عن الصوم كالعاجز عن القيام في الصلاة وكالأعمى العاجز عن النظر لا يكلفه وأما الفدية فلم تجب بكتاب مجتمع على تأويله ولا سنة يفقهها من تجب الحجة بفقهه ولا إجماع في ذلك عن الصحابة ولا عن من بعدهم والفرائض لا تجب إلا من هذه الوجوه والذمة بريئة
قالوا أحب أن لا يوجب فيها شيء إلا بدليل لا تنازع فيه والاختلاف عن السلف في إيجاب الفدية موجود والروايات في ذلك عن بن عباس مختلفة وحديث علي أن لا يصح عنه وحديث أنس بن مالك يحتمل أن يكون طعامه عن نفسه تبرعا وتطوعا وهو الظاهر في الأخبار عنه في ذلك
363

وأما الذين كانوا يقرؤون (على الذين يطوقونه فدية طعام مساكين) فهذه القراءة رويت عن بن عباس من طرق وعن عائشة كذلك كان يقرأ مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير وعكرمة وجماعة من التابعين وغيرهم وكلهم يذهب إلى أن الآية محكمة في الشيخ والعجوز والحامل والمرضع الذين يكلفون الصيام ولا يطيقونه وسيأتي ذكر الحامل والمرضع في هذا الباب إن شاء الله
ومعنى * (يطيقونه) * عند جميعهم يكلفونه
ثم اختلفوا فقال بعضهم يكلفونه ولا يطيقونه إلا بجهد ومشقة مضرة فهؤلاء جعلت عليهم الفدية
وهذا القول نحو ما قدمنا عن الذين ذهبوا إلى ذلك ممن قرأ القراءة الثابتة في المصحف (يطيقونه)
وقال بعضهم يكلفونه ولا يطيقونه على حال النية فألزموا الفدية بدلا من الصوم وذكروا نحو ما ذكرنا من الحجة ومعارضات لم أر لذكرها وجها لأن القراءة غير ثابتة في المصحف ولا يقطع بها على الله تعالى وإنما مجراها مجرى أخبار الآحاد العدول في الأحكام
وفيما ذكرنا كفاية ودلالة على ما عنه سكتنا وبالله توفيقنا
وأما حديث مالك في هذا الباب
640 - أنه بلغه أن عبد الله بن عمر سئل عن المرأة الحامل إذا خافت على ولدها واشتد عليها الصيام قال تفطر وتطعم مكان كل يوم مسكينا مدا من حنطة بمد النبي صلى الله عليه وسلم
قال مالك وأهل العلم يرون عليها القضاء كما قال الله عز وجل * (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) * ويرون ذلك مرضا من الأمراض مع الخوف على ولدها
قال أبو عمر أما الخبر عن بن عمر بما ذكر مالك أنه بلغه فقد رواه حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن بن عمر وحماد بن سلمة عن أيوب وعبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر أنه كان يقول في الحامل والمرضع يفطران وتطعمان عن كل يوم مدا لمسكين
364

ومعمر عن أيوب عن نافع عن بن عمر قال الحامل إذا خشيت على نفسها في رمضان تفطر وتطعم ولا قضاء عليها
وهو قول سعيد بن جبير والقاسم بن محمد وطائفة
قال إسحاق بن راهويه والذي أذهب إليه في الحامل والمرضع أن يفطرا ويطعما ولا قضاء عليهما اتباعا لابن عباس وبن عمر
قال أبو عمر رواه عن بن عباس سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة بأسانيد حسان أنهما تفطران وتطعمان ولا قضاء عليهما
وقال بن عباس خمسة لهم الفطر في شهر رمضان المريض والمسافر والحامل والمرضع والكبير فثلاثة عليهم الفدية ولا قضاء عليهم الحامل والمرضع والكبير
قال الوليد فذكرت هذا الحديث لأبي عمرو - يعني الأوزاعي - فقال الحمل والرضاع عندنا مرض من الأمراض تقضيان ولا إطعام عليهما
روي ذلك عن الحسن البصري وإبراهيم النخعي وعطاء والزهري والضحاك والأوزاعي وربيعة والثوري وأبي حنيفة وأصحابه والليث والطبري وبه قال أبو ثور وأبو عبيد وهو قول مالك في المرضع وأحد قولي الشافعي في الحامل والثالث عليها القضاء والإطعام معا
قال أبو عبد الله المروزي لا نعلم أحدا صح عنه أنه جمع عليهما الأمرين القضاء والإطعام إلا مجاهدا
قال وروي ذلك عن عطاء وعن بن عمر أيضا ولا يصح عنهما والصحيح عن بن عمر فيها الإطعام ولا قضاء
ويقول مجاهد في جمع القضاء والإطعام عليهما بقول الشافعي في رواية المزني عنه وروى عنه البويطي أن الحامل لا إطعام عليها وهي كالمريض تقضي عدة من أيام أخر
وهو قول أحمد بن حنبل كقول الشافعي في رواية المزني
قال أحمد الحامل إذا خافت على جنينها والمرضع إذا خافت على ولدها أفطرتا وقضتا وأطعمتا عن كل يوم مسكينا
قال ومن عجز عن الصوم لكبر أفطر وأطعم عن كل يوم مسكينا
والقول الراجح الفرق بين الحامل والمرضع
365

قال مالك الحامل كالمريض تفطر وتقضي ولا إطعام عليها والمرضع تفطر وتقضي وتطعم عن كل يوم مدا من بر
وقد ذكرنا قوله الآخر في المرضع
وقال بعض أصحابه إن الإطعام في المرضع استحباب
قال أبو عمر الفقهاء في الإطعام في هذا الباب وفي سائر أبواب الصيام وسائر الكفارات على أصولهم كل على أصله والإطعام عند الحجازيين مدا بمد النبي صلى الله عليه وسلم وعند العراقيين نصف صاع
641 - وأما حديث مالك في هذا الباب عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أنه كان يقول من كان عليه قضاء رمضان فلم يقضه وهو قوي على صيامه حتى جاء رمضان آخر فإنه يطعم مكان كل يوم مسكينا مدا من حنطة وعليه مع ذلك القضاء
وعن مالك أنه بلغه عن سعيد بن جبير مثل ذلك
قال أبو عمر ليس في هذا الباب عند مالك شيء عن أحد من الصحابة ولا أعلم فيه حديثا مسندا وما ذكر فيه أنه بلغه عن سعيد بن جبير فهو محفوظ عن سعيد بن جبير
رواه بن أبي شيبة عن غندر عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير
وأما أقاويل الفقهاء في هذه المسألة
فقال مالك والثوري والليث بن سعد والشافعي والحسن بن حي والأوزاعي إن فرط في رمضان حتى دخل رمضان آخر صام الآخر ثم قضى ما كان عليه من الأول وأطعم عن كل يوم مسكينا
وروي ذلك عن بن عباس وبن عمر وأبي هريرة وعطاء والقاسم بن محمد وبن شهاب الزهري
وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق والكوفيون نصف صاع والحجازيون مد كل على أصله
وذكر يحيى بن أكثم أنه وجب في هذه المسألة الإطعام عن ستة من الصحابة لم يعلم لهم منهم مخالفا
366

وقال أبو حنيفة وأصحابه يصوم رمضان الثاني ثم يقضي الأول ولا فدية عليه سواء قوي على الصيام أم لا
وهو قول الحسن وإبراهيم النخعي
وبه قال داود ليس على من أوجب الفدية في هذه المسألة حجة من كتاب ولا سنة ولا إجماع
وقال أبو جعفر الطحاوي قال الله تعالى * (فعدة من أيام أخر) * فأوجب القضاء دون غيره فلا يجوز زيادة الطعام
إلا أن هذه الجماعة من الصحابة قد اتفقت على وجوب الإطعام بالتفريط إلى دخول رمضان آخر
قال أبو عمر التفريط أن يكون صحيحا لا علة تمنعه من الصيام حتى يدخل رمضان آخر
واختلفوا فيما يجب عليه إن لم يصح من مرضه حتى دخل الرمضان المقبل
فروي عن بن عباس وبن عمر وسعيد بن جبير وقتادة يصوم الثاني إذا أدركه صحيحا ويطعم عن الأول ولا قضاء عليه
وقال الحسن البصري وإبراهيم النخعي وطاوس وحماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة والثوري ومالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق يصوم الثاني ثم يقضي الأول ولا فدية عليه لأنه لم يفرط
وقال الأوزاعي إذا فرط في قضاء رمضان الأول ومرض في الآخر حتى انقضى ثم مات فإنه يطعم عن الأول مدين مدا لتضييعه ومدا للصيام ويطعم عن الآخر مدا لكل يوم
((20 - باب جامع قضاء الصيام))
642 - ذكر فيه مالك عن يحيى بن سعيد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سمع عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول إن كان ليكون علي الصيام من رمضان فما أستطيع أن أصومه حتى يأتي شعبان
367

قال أبو عمر حملها - رضي الله عنها - على ذلك الأخذ بالرخصة والتوسعة لأن ما بين رمضان عامها ورمضان العام المقبل وقت القضاء كما أن وقت الصلاة له طرفان
ومثل ذلك أيضا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة ليس التفريط في النوم إنما التفريط في اليقظة (1) على من لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى
وقد أجمع العلماء على قضاء ما عليه من إتمام رمضان في شعبان بعده أنه مؤد لفريضة غير مفرط
وقد قيل إن ذلك كان لشغلها برسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا ليس بشيء لأن شغل سائر أزواج النبي (عليه السلام) كشغلها أو قريبا منه لأنه كان صلى الله عليه وسلم أعدل الناس بين نسائه في كل ما يجب لهن عليه وكان مع ذلك يخاف أن يؤاخذ على ما في قلبه من حب من مالت نفسه إليها أكثر منه إلى غيرها وكان يقول إذا قسم بينهن شيئا اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك (2) يعني القلب
قال الله - عز وجل * (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم) * [الأنفال 63]
وقد يجوز أن يشتبه على قائلها ذلك القول بحديث السدي عن عبد الله البهي عن عائشة قالت ما كنت أقضي ما يكون علي من رمضان إلا في شعبان حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم (3)
وقوله في هذا الحديث حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر يخبر من وجه يحتج به إن شاء الله
((21 - باب صيام اليوم الذي يشك فيه))
643 - ذكر فيه مالك أنه سمع أهل العلم ينهون أن يصام اليوم الذي يشك فيه من شعبان إذا نوى به صيام رمضان ويرون أن على من صامه على غير رؤية
368

ثم جاء الثبت (1) أنه من رمضان أن عليه قضاءه ولا يرون بصيامه تطوعا بأسا
قال مالك وهذا الأمر عندنا والذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا
قال أبو عمر هذا أعدل المذاهب في هذه المسألة إن شاء الله وعليه جمهور العلماء
وممن روي عنه كراهة صوم يوم الشك عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وحذيفة وبن مسعود وبن عباس وأبو هريرة وأنس بن مالك
ومن التابعين سعيد بن المسيب وأبو وائل والشعبي وعكرمة وإبراهيم النخعي والحسن وبن سيرين
وبه قال مالك والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة والشافعي وأبو ثور وأبو عبيد وإسحاق بن راهويه وداود بن علي
والحجة في ذلك من طريق الأثر حديث عمار قال من صام هذا اليوم - يعني يوم الشك - فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم (2)
وقال الليث بن سعد من أصبح صائما في آخر يوم من شعبان متطوعا أو احتياطا كالدخول لدخول رمضان إذا أصبح مفطرا إلا أنه لم يطعم ثم جاءهم الخبر أنه من رمضان فإنهم يتمون صيامهم ولا قضاء عليهم
قال الليث وإن لم يأتهم الخبر إلا بعد ذلك اليوم أو بعد ما أمسوا كان عليهم قضاء ذلك اليوم
وكان عبد الله بن عمر يصومه إذا حال دون ذلك منظر الهلال ليلة ثلاثين من شعبان غيم أو سحاب وإن لم يكن ذلك لم يصمه
وتابعه على ذلك أحمد بن حنبل وروى عن أسماء بنت أبي بكر أنها كانت تصوم اليوم الذي يغم فيه على الناس نحو مذهب بن عمر
وروت عن عائشة أنها قالت لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان
369

وهذا صوم اليوم الذي يشك فيه
وقال أحمد بن حنبل الذي أذهب إليه في هذا فعل بن عمر
ثم قال حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال أخبرنا أيوب عن نافع عن بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له (1)
قال نافع فكان عبد الله إذا كان من شعبان تسع وعشرون بعث من ينظر الهلال فإن رآه فذلك وإن لم ير دون منظره سحاب أو قتر أصبح مفطرا وإن حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائما
قال أحمد إن كان صحو ولم يكن في السماء علة أكملوا شعبان ثلاثين يوما وإن كان في السماء علة ليلة الشك فأصبح الرجل وقد أجمع الصيام من الليل وصام فإذا هو من رمضان أجزأه وإن لم يجمع الصيام من الليل وقال إن صام الناس صمت وأصبح على ذلك وصامه لم يجزه لحديث حفصة لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل (2)
قال أبو عمر كل من أجمع الصيام بلا تبييت أجاز قول من قال إن كان غدا رمضان صمت وأصبح على ذلك صائما من غير يقين بدخول رمضان وبعضهم يقول قد وفق لصيامه وقد مضت هذه المسألة في صدر هذا الكتاب
وذكر البويطي والربيع عن الشافعي قال لا أحب لأحد أن يتعمد صيام يوم الشك تطوعا ومن كان يسدد الصيام أو كان يصوم أياما جعلها على نفسه فوافق ذلك اليوم فلا بأس أن يصومه
وكرهت طائفة من أهل الحديث صيام يوم الشك تطوعا لحديث أبي هريرة عن
370

النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا أن يوافق ذلك صوما كان يصومه أحدكم (1)
وهو حديث صحيح من جهة النقل وقد قيل إن ذلك كراهة ان يدخل صيام شعبان برمضان
واستحب بن عباس وجماعة من السلف - رحمهم الله - أن يفصلوا بين شعبان ورمضان بفطر يوم أو أيام كما كانوا يستحبون أن يفصلوا بين صلاة الفريضة والنافلة بكلام
أو قيام أو مشي أو تقدم أو تأخر من المكان
وقد روى الدراوردي وغيره عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بقي نصف شعبان فلا تصوموا (2)
وهو حديث صحيح إلا أن الذي عليه جماعة الفتوى من فقهاء الأمصار أنه لا بأس بصيام يوم الشك تطوعا كما قال مالك - رحمه الله -
قال أبو عمر من هنا قال يحيى بن معين كانوا يتقون حديث العلاء بن عبد الرحمن
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صام شعبان كله وهذه حجة لهم
ومن حديث عائشة - رضي الله عنها - ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر صياما منه في شعبان كان يصومه إلا قليلا بل كان يصومه كله
371

رواه محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن عائشة
وروى الثوري عن منصور عن سالم بن أبي الجعد عن أبي سلمة عن أم سلمة قالت ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان (1)
وقال عبد الله بن المبارك جائز في كلام العرب أن يقال صام الشهر كله إذا صام أكثره إن شاء الله تعالى
((22 - باب جامع الصيام))
644 - ذكر فيه مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر ويفطر حتى نقول لا يصوم وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان وما رأيته في شهر أكثر صياما منه في شعبان
قال أبو عمر لا تنازع بين العلماء في هذا الحديث وليس فيه ما يشكل وصيام غير رمضان تطوع فمن شاء استقل ومن شاء استكثر
645 - وذكر عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الصيام جنة فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم إني صائم
قال أبو عمر الصيام في الشريعة الإمساك عن الأكل والشرب والجماع هذا فرضه عند جميع الأئمة وسننه اجتناب قول الزور واللغو والرفث
372

وأصله في اللغة الإمساك مطلقا وكل من أمسك عن شيء فهو صائم منه ألا ترى قول الله تعالى * (إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا) * [مريم 26]
وقوله جنة فهي الوقاية والستر عن النار وحسبك بهذا فضلا للصائم
وروي عن عثمان بن أبي العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الصيام جنة يستجن بها العبد من النار (1)
وقوله فلا يرفث فالرفث هنا الكلام القبيح والشتم والخنا والغيبة والجفاء وأن تغضب صاحبك بما يسوءه والمراء ونحو ذلك كله
ومعنى لا يجهل قريب مما يصيبنا من الشتم والسباب والقباح كقول القائل
(ألا لا يجهلن أحد علينا
* فنجهل فوق جهل الجاهلينا) (2)
واللغو هو الباطل قال الله - عز وجل - * (وإذا مروا باللغو مروا كراما) * [الفرقان 72]
قال العجاج
(عن اللغا ورفث التكلم
*) (3)
وروي عن أبي العالية أنه قال خرجنا مع بن عباس حجاجا فأحرم وأحرمنا ثم نزل يرتجز يسوق الإبل ويقول
(وهن يمشين بنا هميسا
* إن تصدق الطير تنك لميسا
373

فقلت يا أبا عباس ألست محرما قال بلى فقلت هذا الكلام الذي تكلم به قال لا يكون الرفث إلا ما واجهت به النساء وليس معنا نساء
واختلف العلماء في قوله - عز وجل - * (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) * [البقرة 197]
فأكثر العلماء على أن الرفث ها هنا جماع النساء
وكذلك لم يختلفوا في قوله تعالى * (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) * [البقرة 187] أنه الجماع
وأما قوله فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم ففيه قولان
أحدهما أن يقول الذي يريد مشاتمته ومقاتلته إني صائم وصومي يمنعني من مجاوبتك لأني أصون صومي عن الخنا والزور والمعنى في المقاتلة مقاتلته بلسانه
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه (1)
والمعنى الثاني أن الصائم يقول في نفسه إني صائم يا نفسي فلا سبيل إلى شفاء غيظك بالمشاتمة ولا يعلن بقوله إني صائم لما فيه من الرياء واطلاع الناس عليه لأن الصوم من العمل الذي لا يظهر وكذلك يجزئ الله الصائم أجره بغير حساب
ومعنى قوله من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه فمعناه الكراهة والتحذير كما جاء من شرب الخمر فليشقص الخنازير (2) أي يذبحها وليس هذا على الأمر بتشقيص الخنازير ولكنه على تعظيم إثم شارب الخمر
وكذلك من اغتاب أو شهد زورا أو منكرا لم يؤمر بأن يدع صيامه ولكنه باجتناب ذلك ليتم له أجر صومه
374

646 - عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم (1) أطيب عند الله من ريح المسك إنما يذر (2) شهوته وطعامه وشرابه من أجلي فالصيام لي وأنا أجزي به كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به
قوله لخلوف فم الصائم يعني ما يعتريه في آخر النهار من التغير وأكثر ذلك في شدة الحر
وقوله أطيب عند الله من ريح المسك يريد أزكى عند الله وأقرب إليه من ريح المسك عندكم يحضهم عليه ويرغبهم فيه وهذا في فضل الصيام وثواب الصائم
وقوله الصيام لي وأنا أجزي به معناه والله أعلم أن الصوم لا يظهر من بن آدم في قول ولا عمل وإنما هو نية ينطوي عليها لا يعلمها إلا الله وليست مما يظهر فيكتبها الحفظة كما تكتب الذكر والصلاة والصدقة وسائر أعمال الظاهر لأن الصوم في الشريعة ليس هو بالإمساك عن الطعام والشراب دون استشعار النية واعتقاد النية بأن تركه الطعام والشراب والجماع ابتغاء ثواب الله ورغبته فيما ندب إليه تزلفا وقربة منه كل ذلك منه إيمانا واحتسابا لا يريد به غير الله - عز وجل -
ومن لم ينو بصومه أنه لله عز وجل فليس بصيام فلهذا قلنا إنه لا تطلع عليه الحفظة لأن التارك للأكل والشرب ليس بصائم في الشرع إلا أن ينوي بفعله ذلك التقرب إلى الله تعالى بما أمره به ورضيه من تركه طعامه وشرابه له وحده لا شريك له لا لأحد سواه
فمعنى قوله الصوم لي والله أعلم وكل ما أريد به وجه الله فهو له ولكنه ظاهر والصوم ليس بظاهر
وفي قوله الصوم لي فضل عظيم للصوم لأنه لا يضاف إليه إلا أكرم الأمور وأفضل الأعمال كما قال بيت الله في الكعبة وكما قال تعالى " ونفخت
375

فيه من روحي) [الحجر 29] وقيل لعيسى - عليه السلام - روح الله وكما قال * (صبغة الله) * [البقرة 138] وكما قال * (وطهر بيتي للطائفين) * [الحج 26] ويقال دين الله وبيت الله ومثل هذا كثير
والصوم في لسان العرب الصبر
قال بن الأنباري إنما سمي الصوم صبرا لأنه حبس النفس عن المطاعم والمشارب والمناكح والشهوات
وقال قال - عليه السلام - من صام شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر فكأنما صام الدهر (1) يعني بشهر الصبر شهر رمضان
وقد يسمى الصائم سائحا ومنه قوله تعالى * (السائحون) * [التوبة 112] يعني الصائمين المصلين ومنه قوله تعالى * (عابدات سائحات) * [التحريم 5]
وللصوم وجوه في لسان العرب
647 - مالك عن عمه أبي سهيل بن مالك عن أبيه عن أبي هريرة أنه قال إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت (2) الشياطين
قال أبو عمر هذا الحديث ذكرناه في التمهيد لأن مثله لا يكون رأيا ولا يدرك إلا بتوقيف
وقد روي مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي سهيل وغيره من رواية مالك أيضا
كذلك هو في موطأ معن بن عيسى عن مالك مرفوعا وقد ذكرنا طرقه مرفوعة من وجوه في التمهيد ومن أحسنها ما
حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا قالون قال حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير القارئ عن نافع عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا استهل رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين
376

قال أبو عمر صفدت الشياطين وجهه عندي والله أعلم أنه على المجاز وإن كان قد روي في بعض الأحاديث سلسلت (1) فهو عندي مجاز والمعنى فيه والله أعلم أن الله يعصم فيه المسلمين أو أكثرهم في الأغلب من المعاصي ولا يخلص إليهم فيه الشياطين كما كانوا يخلصون إليهم في سائر السنة
وأما الصفد (بتخفيف الفاء) فهو الغل عند العرب
وقد روي من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أعطيت أمتي خمس خصال في رمضان لم تعطهن أمة قبلها خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا ويزين الله لهم كل يوم جنته ثم يقول يوشك عبادي الصائمون أن يلقوا عنهم المؤنة والأذى ثم يصيرون إليك وتصفد فيه مردة الشياطين فلا يخلصون إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره ويغفر لهم آخر كل ليلة قيل يا رسول الله أهي ليلة القدر قال لا ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله (2)
وقد ذكرنا أسانيد هذا الحديث في التمهيد
وروى أيوب عن أبي قلابة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاكم شهر رمضان شهر مبارك فرض الله عليكم صيامه تفتح فيه أبواب السماء وتغل فيه مردة الشياطين لله فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم (3)
وقد ذكرناه من طرق في التمهيد وذكرنا هناك أيضا قوله - عليه السلام - تغلق في رمضان أبواب النار وتفتح أبواب الجنة وتصفد فيه الشياطين وينادي مناد كل ليلة يا باغي الخير هلم ويا باغي الشر انصرف
377

648 - وذكر مالك في هذا الباب أنه سمع أهل العلم لا يكرهون السواك للصائم في رمضان في ساعة من ساعات النهار لا في أوله ولا في آخره ولم أسمع أحدا من أهل العلم يكره ذلك ولا ينهى عنه
قال أبو عمر اختلف الفقهاء في السواك للصائم
فرخص فيه مالك وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري والأوزاعي وبن علية
وهو قول النخعي ومحمد بن سيرين وعروة بن الزبير
ورواية الرخصة فيه أيضا عن عمر وبن عباس
وحجة من ذهب إلى هذا قوله - عليه السلام - لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك لكل صلاة (1) ولم يخص رمضان من غيره ولا خص من السواك نوعا رطبا ولا يابسا ولا صدر النهار ولا آخره
وقد روي عنه - عليه السلام - أنه كان يستاك وهو صائم (2)
وروي عنه - عليه السلام - أنه قال أفضل خصال الصائم للصائم السواك (3)
وكان مالك - رحمه الله - يكره السواك الرطب للصائم في أول النهار وآخره
وهو قول أحمد وإسحاق وروي ذلك عن زياد بن يزيد بن ميسرة والشعبي والحكم بن عتيبة
ورخص في السواك الرطب الثوري والأوزاعي والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور
وهو قول مجاهد وإبراهيم وعطاء وبن سيرين وروي ذلك عن بن عمر
وقال بن علية السواك سنة الصائم والمفطر والرطب واليابس سواء لأنه ليس بمأكول ولا مشروب
378

وقال الشافعي أحب السواك عند كل وضوء في الليل والنهار وعند تغيير الفم إلا أني أكرهه للصائم آخر النهار ومن أجل الحديث في خلوف فم الصائم
وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور
وروي ذلك عن عطاء ومجاهد
وذكر مالك في صيام ستة أيام بعد الفطر أنه لم ير أحدا من أهل العلم والفقه يصومها
قال ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف وإن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته وأن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء لو رأوا في ذلك رخصة عند أهل العلم ورأوهم يعملون ذلك
قال أبو عمر في هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث انفرد به عمر بن ثابت عن أبي أيوب الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنه صام الدهر (1)
أخبرناه عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال أخبرنا أبو داود قال حدثنا النفيلي
وأخبرنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا خلاد بن أسلم قالا حدثنا عبد العزيز بن محمد عن صفوان بن سليم وسعد بن سعيد عن عمر بن ثابت الأنصاري عن أبي أيوب صاحب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال فكأنما صام الدهر (2)
وقال أحمد بن شعيب أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال حدثنا أبو عبد الرحمن المروي قال حدثنا شعبة بن الحجاج عن عبد ربه بن سعيد عن عمر بن ثابت [عن أبي أيوب] الأنصاري أنه قال من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال فكأنما صام السنة كلها
هكذا ذكره موقوفا على أبي أيوب وقد روي عن يحيى بن سعيد عن عمر بن ثابت بإسناده مثله موقوفا
379

قال أبو عمر انفرد بهذا الحديث عمر بن ثابت الأنصاري وهو من ثقات أهل المدينة
قال أبو حاتم الرازي عمر بن ثابت الأنصاري سمع أبا أيوب الأنصاري روى عنه الزهري وصفوان بن سليم وصالح بن كيسان ومالك بن أنس وسعد وعبد ربه ابنا سعيد
وحديث ثوبان يعضد حديث عمر بن ثابت هذا
أخبرنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا محمد بن شعيب بن سابور قال حدثنا يحيى بن الحارث قال حدثنا أبو أسماء الرحبي عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمع رسول الله يقول جعل الله الحسنة بعشر فشهر رمضان بعشرة أشهر وستة أيام بعد الفطر تمام السنة (1)
قال أبو عمر لم يبلغ مالكا حديث أبي أيوب على أنه حديث مدني والإحاطة بعلم الخاصة لا سبيل إليه والذي كرهه له مالك أمر قد بينه وأوضحه وذلك خشية أن يضاف إلى فرض رمضان وأن يستبين ذلك إلى العامة وكان - رحمه الله - متحفظا كثير الاحتياط للدين
وأما صيام الستة الأيام من شوال على طلب الفضل وعلى التأويل الذي جاء به ثوبان - رضي الله عنه - فإن مالكا لا يكره ذلك إن شاء الله لأن الصوم جنة وفضله معلوم لمن رد طعامه وشرابه وشهوته لله تعالى وهو عمل بر وخير وقد قال الله عز وجل * (وافعلوا الخير) * [الحج 77] ومالك لا يجهل شيئا من هذا ولم يكره من ذلك إلا ما خافه على أهل الجهالة والجفاء إذا استمر ذلك وخشي أن يعدوه من فرائض الصيام مضافا إلى رمضان وما أظن مالكا جهل الحديث والله أعلم لأنه حديث مدني انفرد به عمر بن ثابت وقد قيل إنه روى عنه مالك ولولا علمه به ما أنكره وأظن الشيخ عمر بن ثابت لم يكن عنده ممن يعتمد عليه وقد ترك مالك الاحتجاج ببعض ما رواه عن بعض شيوخه إذا لم يثق بحفظه ببعض ما رواه وقد يمكن أن يكون جهل الحديث ولو علمه لقال به والله أعلم
وقال [مالك] لم أسمع أحدا من أهل العلم والفقه ومن يقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة وصيامه حسن وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه وأراه كان يتحراه
380

قال أبو عمر اختلفت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم في صيام يوم الجمعة ف روى بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر قال وما رأيته يفطر يوم الجمعة (1) وهو حديث صحيح
وقد روي عن بن عمر أنه قال ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مفطرا يوم جمعة قط
ذكره بن أبي شيبة عن حفص بن غياث عن ليث بن أبي سليم عن عمير بن أبي عمير عن بن عمر
وروي عن بن عباس أنه كان يصوم يوم الجمعة ويواظب عليه
وأما الذي ذكره مالك فيقولون إنه محمد بن المنكدر وقيل إنه صفوان بن سليم عن رجل من بني جشم أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من صام يوم الجمعة كتب له عشرة أيام عددهن من أيام الآخرة لا تشاكلهن أيام الدنيا
رواه علي بن المديني وغيره عن الدراوردي
وأما الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن صيام يوم الجمعة فحديث جابر
على أنه قد روي عنه أنه سئل عن صيام يوم الجمعة فقال قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفرد بصوم
وحديث أبي هريرة وغيره
فأما حديث جابر ف حدثنا عبد الله بن محمد بن أسد قال حدثنا حمزة بن محمد بن علي قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا سفيان عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة عن محمد بن عباد قال سألت جابر بن عبد الله وهو يطوف بالبيت أنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الجمعة قال نعم ورب هذا البيت
381

وحدثنا عبد الله قال حدثنا حمزة قال حدثنا أحمد قال حدثنا عمر بن علي قال حدثنا يحيى القطان قال حدثنا بن جريج قال أخبرني محمد بن عباد بن جعفر قال قلت لجابر أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يفرد يوم الجمعة بصوم قال أي ورب الكعبة
هكذا رواه فأسقط من الإسناد عبد الحميد بن جبير بن شيبة وتابعه على ذلك النضر بن شميل وحفص بن غياث
وأما حديث أبي هريرة ف حدثنا عبد الله قال حدثنا حمزة قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا محمد بن منصور والحارث بن مسكين قراءة عليه - واللفظ له - عن سفيان عن عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة عن عبد الله بن عمرو القارئ قال سمعت أبا هريرة يقول ما أنا نهيت عن صيام يوم الجمعة محمد (صلى الله عليه وسلم) ورب هذا البيت نهى عنه (1)
وعلى هذا حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن صيام يوم الجمعة إلا أن يصام قبله أو بعده
وروت جويرية زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك
وهذه الآثار كلها ذكرها النسائي وأبو داود وبن أبي شيبة
والأصل في صوم يوم الجمعة أنه عمل بر لا يمتنع منه إلا بدليل لا معارض له
وأما الذين كرهوا صيامه من الصحابة والتابعين فبشهود يوم العيد فلذلك كرهوا صومه
ومنهم من قال يفطره ليقوى على الصلاة ذلك اليوم كما قال بن عمر لا يصام يوم عرفة بعرفة من أجل القوة على الدعاء
ذكر بن أبي شيبة عن عمران بن ظبيان عن حكيم بن سعد عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال من كان منكم متطوعا من الشهر أياما فليكن في صومه يوم الخميس ولا يصوم يوم الجمعة فإنه يوم طعام وشراب وذكر فيجمع الله يومين صالحين يوم صيامه ويوم نسكه مع المسلمين
وذكره الشعبي ومجاهد أن يتعمد يوم الجمعة بصوم
382

وذكر عن جرير بن مغيرة عن إبراهيم أنهم كرهوا صوم يوم الجمعة ليقووا على الصلاة
وعن وكيع عن سفيان عن عاصم عن بن سيرين قال لا تخصوا يوم الجمعة بصوم بين الأيام ولا ليلة الجمعة بقيام بين الليالي
وممن كره صوم يوم الجمعة الزهري وأحمد وإسحاق
وقال الشافعي لا يتبين لي أنه نهى عن صيام يوم الجمعة إلا على الاختيار
تم كتاب الصيام بحمد الله وعونه وتأييده ونصره
383

((19 كتاب الاعتكاف))
((باب ذكر الاعتكاف))
649 - ذكر فيه مالك عن بن شهاب عن عروة بن الزبير عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله (1) وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان (2)
قال أبو عمر قد ذكرنا في التمهيد اختلاف أصحاب مالك عليه في إسناد هذا الحديث ومتنه واختلاف أصحاب بن شهاب عليه في ذلك أيضا وبينا ذلك كله هنالك والحمد لله
وأما الاعتكاف في كلام العرب فهو القيام على الشيء والمواظبة عليه والملازمة له
وأما في الشريعة فمعناه الإقامة على الطاعة وعمل البر على حسب ما ورد من سنن الاعتكاف
فما أجمع العلماء عليه من ذلك أن الاعتكاف جائز الدهر كله إلا الأيام التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامها فإنها موضع اختلاف لاختلافهم في جواز الاعتكاف بغير صوم
384

وأجمعوا أن سنة الاعتكاف المندوب إليها شهر رمضان كله أو بعضه وأنه جائز في السنة كلها إلا ما ذكرنا
وأجمعوا أن الاعتكاف لا يكون إلا في مسجد لقوله تعالى * (وأنتم عاكفون في المساجد) * في الآية المذكورة [يعني في البقرة 187]
فذهب قوم إلى أن الآية خرجت على نوع من المساجد وإن كان لفظه العموم فقالوا لا اعتكاف إلا في مسجد نبي كالكعبة أو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم أو بيت المقدس لا غير
وروي هذا القول عن حذيفة بن اليمان وسعيد بن المسيب
ومن حجتهما أن الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو معتكف في مسجده وكان القصد والإشارة إلى نوع ذلك المسجد مما بناه نبي
وقال آخرون لا اعتكاف إلا في مسجد تجمع فيه الجمعة لأن الإشارة في الآيات عندهم إلى ذلك الجنس من المساجد
روي هذا القول عن علي بن أبي طالب وبن مسعود وبه قال عروة بن الزبير والحكم بن عيينة وحماد والزهري وأبو جعفر محمد بن علي وهو أحد قولي مالك
وقال آخرون الاعتكاف في كل مسجد جائز
روي عن سعيد بن جبير وأبي قلابة وإبراهيم النخعي وهمام بن الحارث وأبي سلمة بن عبد الرحمن وأبي الأحوص والشعبي
وهو قول الشافعي وأبي حنيفة والثوري وهو أحد قولي مالك وبه يقول بن علية وداود والطبري
وحجتهم حمل الآية على عمومها في كل مسجد
650 - وقال مالك في الموطأ [أنه سأل بن شهاب عن الرجل يعتكف هل يدخل لحاجته تحت سقف فقال نعم لا بأس بذلك
قال مالك] الأمر عندنا الذي لا اختلاف فيه أنه لا يكره الاعتكاف في كل مسجد يجمع فيه ولا أراه كره الاعتكاف في المساجد التي لا يجمع فيها وإلا كراهية أن يخرج المعتكف من مسجده الذي اعتكف فيه إلى الجمعة أو يدعها فإن كان
385

مسجدا لا يجمع فيه الجمعة ولا يجب على صاحبة إتيان الجمعة في مسجد سواه فإني لا أرى بأسا بالاعتكاف فيه لأن الله تبارك وتعالى قال * (وأنتم عاكفون في المساجد) * [البقرة 187] فعم الله المساجد كلها ولم يخص شيئا منها
وقال الشافعي لا يعتكف في غير المسجد الجامع إلا من الجمعة إلى المسجد قال والاعتكاف في المسجد الجامع أحب إلي
قال ويعتكف المسافر والعبد والمرأة حيث شاؤوا ولا اعتكاف إلا في مسجد
وذكر بن عبد الحكم عن مالك قال لا يعتكف أحد إلا في رحاب المسجد التي يجوز فيها الصلاة
واختلفوا في مكان اعتكاف النساء ف قال الشافعي ما قدمنا عنه
وقال مالك تعتكف المرأة في مسجد الجماعة ولا يعجبه اعتكافها في مسجد بيتها
وقال الكوفيون لا تعتكف المرأة إلا في مسجد بيتها ولا تعتكف في مسجد الجماعة
وسنزيد هذا بيانا في باب قضاء الاعتكاف إن شاء الله وهناك ذكر مالك هذه المسألة
قال أبو عمر في ترجيل عائشة شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معتكف دليل على أن اليدين من المرأة ليستا بعورة ولو كانتا عورة لم تباشره بهما في اعتكافه لأن المعتكف منهي عن المباشرة
قال الله عز وجل * (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) * [البقرة 187]
ويدلك على ذلك أيضا أنها تنهى في الإحرام عن لباس القفازين وتؤمر بستر ما عدا وجهها وكفيها وهكذا حكمها في الصلاة تكشف وجهها وكفيها
وقد مضى ذكر ما هو عورة في كتاب الصلاة
وقد روى تميم بن سلمة وهشام بن عروة عن عروة عن عائشة قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يدني إلي رأسه وهو مجاور وأنا في حجرتي فأرجله وأنا حائض
386

وفي ذلك دليل على أن الحائض طاهر غير نجسة إلا موضع النجاسة منها
وقد مضى هذا المعنى مجودا في باب الحيض
وأما قولها وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي ذلك دليل على أن المعتكف لا يشتغل بغير ملازمة المسجد للصلوات وتلاوة القرآن وذكر الله أو السكوت ففيه سلامة ولا يخرج من المسجد إلا لحاجة الإنسان كل ما لا غنى بالإنسان عنه من منافعه ومصالحه وما لا يقضيه عنه غيره
ومعنى ترجيل شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمال كل ما كان فيه صلاح بدنه من الغذاء وغيره مما يحتاج إليه
ومن جهة النظر فإن المعتكف ناذر جاعل على نفسه المقام في المسجد لطاعة الله فواجب عليه الوفاء بذلك وأن لا يشتغل بما يلهيه عن الذكر والصلاة ولا يخرج إلا لضرورة كالمرض البين والحيض في النساء وهذا في معنى خروجه صلى الله عليه وسلم لحاجة الإنسان لأنها ضرورة
واختلف قول مالك في المعتكف يخرج لعذر غير ضرورة مثل أن يموت أبوه أو ابنه ولا يكون له من يقوم به أو شراء طعام يفطر عليه أو غسل النجاسة من ثوبه فروي عنه أنه من فعل ذلك كله يبتدئ اعتكافه وروي عنه أنه يبني وهو الأصح عندي قياسا على حاجة الإنسان
651 - وأما حديثه عن بن شهاب عن عمرة بنت عبد الرحمن أن عائشة كانت إذا اعتكفت لا تسأل عن المريض إلا وهي تمشي لا تقف
فقد ذكرنا في التمهيد علل إسناده لأن عبد الرحمن بن مهدي والقطان روياه عن مالك عن بن شهاب عن عروة عن عمرة عن عائشة ورواه أكثر أصحاب مالك كما رواه يحيى عن مالك عن عمرة عن عائشة لم يذكروا عروة ورواه الشافعي وطائفة من أصحاب مالك عن مالك عن عروة عن عائشة
وبين أصحاب بن شهاب فيه وفي المسند الذي قبله ضروب من الاضطراب قد ذكرنا أكثر ذلك في باب بن شهاب من التمهيد
وفي حديثها هذا دليل على أن المريض لا يجوز عندها أن يعوده المعتكف ولا يخرج لعيادته له عن اعتكافه
387

وأما قول مالك لا يأتي المعتكف حاجة ولا يخرج لها ولا يعين أحدا عليها ولا يشتغل بتجارة ولا يعرض لها ولا بأس أن يأمر بمصلحة أهله وبيع ماله وصلاح ضيعته
وقال بن القاسم عنه لا يقوم المعتكف لرجل يعزيه ولا يهنيه ولا يشهد عقد نكاح يقوم له من مكانه ولا يشتغل بالكلام في العلم وكتابته وجائز له ما خف من الشراء
قال في موطئه ولو كان المعتكف خارجا لحاجة أحد لكان أحق ما يخرج إليه عيادة المريض والصلاة على الجنائز واتباعها ولا يكون معتكفا حتى يجتنب ما يجتنب المعتكف
652 - مالك عن بن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يذهب لحاجة الإنسان في البيوت
قال مالك لا يخرج المعتكف مع جنازة أبويه
653 - وذكر أنه سأل بن شهاب عن الرجل يعتكف هل يدخل لحاجته تحت سقف قال نعم لا بأس بذلك
قال أبو عمر هو قول مالك
واختلف الفقهاء في اشتغال المعتكف بالأمور المباحة أو المندوب إليها
فقال مالك ما ذكرناه عنه
وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه للمعتكف أن يتحدث ويبيع ويشتري في المسجد واشتغال ما لا يأثم فيه وليس عليه صمت
واتفق مالك والشافعي وأبو حنيفة أن المعتكف لا يخرج من موضع اعتكافه لشهود جنازة ولا لعيادة مريض ولا يفارق موضع اعتكافه إلا لحاجة الإنسان ومعانيهم متقاربة جدا في هذا الباب
وقال الثوري المعتكف يعود المريض ويشهد الجنازة والجمعة وما لا يحسن به أن يضيع من أموره ولا يدخل تحت سقف إلا أن يكون ممره فيه ولا يجلس عنده أهله ولا يوصيهم لحاجة إلا وهو قائم أو ماش ولا يبيع ولا يشتري وإن دخل تحت سقف بطل اعتكافه
388

وقال الحسن بن حي إذا دخل المعتكف بيتا غير المسجد الذي هو فيه أو بيتا ليس في طريقه بطل اعتكافه ويحضر الجنازة ويعود المريض في المسجد ويشهد الجمعة ويخرج للوضوء ويكره أن يبيع ويشتري
قال أبو عمر من الحجة لمالك ومن تابعه في هذا الباب ما رواه عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة أنها قالت السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج إلا لما لا بد منه ولا اعتكاف إلا بصوم ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع
قال أبو عمر لم يقل أحد في حديث عائشة هذا السنة إلا عبد الرحمن بن إسحاق ولا يصح الكلام عندهم إلا من قول الزهري وبعضه من كلام عروة
وذكر عبد الرزاق عن الثوري عن هشام بن عروة عن أبيه قال المعتكف لا يجيب دعوة ولا يعود مريضا ولا يشهد جنازة
والحجة لمذهب الثوري ومن تابعه أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال من اعتكف فلا يرفث ولا يساب وليشهد الجمعة والجنازة ويوصي أهله إذا كانت له حاجة وهو صائم ولا يجلس عندهم
ذكره عبد الرزاق عن معمر والثوري عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي
وبه يأخذ عبد الرزاق
وذكر الحسن الحلواني قال حدثنا محمد بن إسحاق قال حدثنا إسحاق الفزاري عن أبي إسحاق الشيباني عن سعيد بن جبير قال اعتكفت في مسجد الحي فأرسل إلي عمرو بن حريث يدعوني - وهو أمير على الكوفة - فلم آته فعاد فلم آته ثم عاد فلم آته ثم عاد فأتيته فقال ما يمنعك أن تأتينا قلت إني كنت معتكفا فقال وما عليك إن المعتكف يشهد الجمعة ويعود المريض ويمشي مع الجنازة ويجيب الإمام
وبهذا كان يفتي سعيد بن جبير
وعن بن جريج ومعمر عن الزهري قال لا يخرج المعتكف إلا إلى حاجة لا بد له منها غائطا وبولا ولا يشيع جنازة ولا يعود مريضا
قال وقال عطاء إن عاد مريضا قطع اعتكافه
389

قال أبو عمر ذكر بن خواز بنداذ أن مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة والثوري في المعتكف يأتي كبيرة أنه قد بطل اعتكافه
قال أبو عمر هؤلاء يبطلون الاعتكاف بترك سنة عمدا فكيف بارتكاب الكبيرة فيه
وروي عن أبي حنيفة أن من سكر ليلا لم يفسد اعتكافه يعني إذا لم يتعمد السكر
وأما قول مالك لم أسمع أحدا من أهل العلم يذكر في الاعتكاف شرطا وإنما الاعتكاف عمل من الأعمال مثل الصلاة والصيام والحج إلى آخر كلامه في هذا الباب من الموطأ
ومعناه أن الشرط فيه لا يبطل شيئا من سنته ولا يجزئه إلا على سنته كسائر ما ذكر معه من أعمال البر
قول جماعة من العلماء منهم أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب قالا على المعتكف الصوم وإن نوى ألا يصوم
وبه قال بن شهاب الزهري وأبو عمر والأوزاعي
قال أبو عمر أما الصلاة والصيام فأجمعوا أن لا مدخل للشرط فيهما وأما الحج فإنهم اختلفوا فيه فمن أجاز فيه الأشراط احتج بحديث ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها أهلي بالحج واشرطي أن تحلي حيث حبست (1) وسنذكر هذه المسألة في موضعها من كتاب الحج مما فيها للعلماء من المذاهب إن شاء الله
وأما الاعتكاف فالشرط فيه أنه متى عرضه ما يقطعه عليه أن يبني إن شاء ولا يبتدئ ف أكثر أهل العلم على ما قال مالك أنه إذا أتى ما يقطع اعتكافه ابتدأ ولم ينفعه شرطه وعليه قضاء اعتكافه
ومنهم من أجاز له شرطه إذا اشترط في حين دخوله في اعتكافه
ذكر عبد الرزاق عن شيوخه بالأسانيد أن قتادة وعطاء وإبراهيم أجازوا الشرط للمعتكف في البيع والشراء وعيادة المريض واتباع الجنازة والجمعة وأن يأتي الخلاء في بيته ونحو ذلك
390

وزاد عطاء إن اشترط أن يعتكف النهار دون الليل وأن يأتي بيته ليلا فذلك له
وعن علي بن أبي طالب وعبد الله له نيته
وقال الشافعي لا بأس أن يشرط إن عرض لي أمر خرجت
وممن أجاز الشرط للمعتكف أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه إلا أن أحمد اختلف قوله فيه فمرة قال أرجو أنه لا بأس به ومرة منع منه
وقال إسحاق أما الاعتكاف الواجب فلا أرى أن يعود فيه مريضا ولا يشهد جنازة وأما التطوع فإنه يشرط فيه حين يبتدئ شهود الجنازة وعيادة المرضى
واختلفوا في المعتكف يمرض ف قال مالك وأبو حنيفة والشافعي يخرج فإذا صح رجع فأتم ما بقي عليه من اعتكافه إذا كان نذرا واجبا عليه
وقال الثوري يبتدئ
قال أبو عمر هذا إذا كان مرضه يمنعه معه المقام
واختلفوا في المعتكفة تطلق أو يموت عنها زوجها ف قال مالك تمضي في إعتكافها حتى تفرغ منه وتتم بقية عدتها في بيت زوجها
وقال الشافعي تخرج فإذا انقضت عدتها رجعت
واختلفوا في المعتكف يدخل بيتا ف قال بن عمر وعطاء وإبراهيم لا يدخل تحت سقف
وبه قال إسحاق
وقال الثوري إن دخل بيتا غير مسجده بطل اعتكافه
ورخص فيه بن شهاب ومالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم
وكان الشافعي لا يكره للمعتكف أن يصعد المنارة
وهو قول أبي حنيفة وبه قال أبو ثور
وكره ذلك مالك ولم يرخص فيه
واختلفوا في المعتكف يصعد المئذنة ليؤذن ف كره ذلك مالك والليث وقالا لا يصعد على ظهر المسجد
391

وقال الحسن بن حي لا بأس بذلك كله
قال أبو حنيفة أن يفعل لم يضره شيء ولا يفسد اعتكافه ولو كانت خارج المسجد
وهو قول الشافعي
وقال مالك لا يشتمل المعتكف في مجالس أهل العلم ولا يكتب العلم
وقال عطاء بن أبي رباح والأوزاعي وسعيد بن عبد الرحمن والليث بن سعد والشافعي لا بأس أن يأتي المعتكف مجالس العلماء في المسجد الذي يعتكف [فيه]
قال أبو عمر من كره ذلك كما كرهه مالك فلأن مجالس العلم شاغلة له كما جعل على نفسه وقصده من الاعتكاف وإذا لم يشهد الجنازة ويعود المريض على أن لا يتعدى اعتكافه إلى شيء من أعمال البر إلا اعتكافه
وكما لا تقطع صلاة التطوع ولا غيرها لعمل بر سواها من إصلاح بين الناس وغير ذلك فكذلك لا يدع اعتكافه لما يشغله عنه من أعمال البر ومن رخص في مشاهدته مجالس العلم في المسجد فلأنه عمل لا ينافي اعتكافه وإنما يكره له ما ينافي اعتكافه من اللهو والباطل والحرام
قال أبو عمر مالك أقرب بأصله من هؤلاء لأنهم ذهبوا إلى أن المعتكف لا يشهد جنازة ولا يعود مريضا إن شاء الله تعالى
((2 - باب ما لا يجوز الاعتكاف إلا به))
654 - مالك أنه بلغه أن القاسم بن محمد ونافعا مولى عبد الله بن عمر قالا لا اعتكاف إلا بصيام بقول الله تبارك وتعالى في كتابه * (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) * [البقرة 187] فإنما ذكر الله الاعتكاف مع الصيام
قال مالك وعلى ذلك الأمر عندنا أنه لا اعتكاف إلا بصيام
قال أبو عمر قول مالك وعلى ذلك الأمر عندنا أنه لا اعتكاف [إلا بصيام] في هذا الباب هو قول بن عباس على اختلاف عنه
وهو قول عبد الله بن عمر وعائشة - رضي الله عنهم
392

ذكر بن وهب وعبد الرزاق قالا أخبرنا بن جريج عن عطاء عن بن عباس وبن عمر قالا لا اعتكاف إلا بصوم
وبه قال عروة بن الزبير وعامر الشعبي وبن شهاب الزهري وسفيان الثوري والأوزاعي والحسن بن حي وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد
وقال الشافعي الاعتكاف جائز بغير صيام
وهو قول علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنهما - كلاهما قال المعتكف إن شاء صام وإن شاء لم يصم
وعن بن مسعود أنه قال ليس على المعتكف صوم إلا أن يجعله على نفسه
وبه قال الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح وعمر بن عبد العزيز
وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق وبن علية وداود
واختلف في هذه المسألة عن بن عباس وروى عنه طاوس ليس على المعتكف صوم إلا أن يجعله على نفسه
رواه أبو سهيل نافع بن مالك عن طاوس
وروى عنه عطاء ومقسم وأبو فاختة لا اعتكاف إلا بصوم
وكذلك روى ليث عن طاوس
واختلف في هذه المسألة عن إبراهيم النخعي فروي عنه القولان جميعا
وكذلك اختلف فيها عن أحمد وإسحاق
وأما أبو ثور فقوله فيها كقول الشافعي وهو اختيار المزني واحتج لمذهبه ومذهب الشافعي كذلك بحجج
(منها) أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - نذر أن يعتكف ليلة فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوفي بنذره وليس الليل موضع صيام
(ومنها) أن صيام رمضان لا ينوي به أحد رمضان وغيره معا لا واجبا من الصيام ولا غير واجب ومعلوم أن اعتكاف رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في رمضان
(ومنها) أن ليل المعتكف ونهاره سواء وليس الليل بموضع الصيام
وذكر الحميدي عن الدراوردي قال أخبرني أبو سهيل بن مالك قال اجتمعت أنا وبن شهاب عند عمر بن عبد العزيز فكان على امرأتي اعتكاف ثلاثة أيام في المسجد الحرام فقال بن شهاب لا يكون الاعتكاف إلا بصيام فقال عمر بن
393

عبد العزيز أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا قال فمن أبي بكر قال لا قال فمن عمر قال لا قال فمن عثمان قال لا قال أبو سهيل فانصرفت فوجدت طاوسا وعطاء فسألتهما عن ذلك فقال طاوس كان بن عباس لا يرى على المعتكف صياما إلا أن يجعله على نفسه قال عطاء وذلك رأيي
وبالله التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل
((3 - باب خروج المعتكف للعيد))
هذا الباب والبابان اللذان بعده إلى آخر كتاب الاعتكاف لم يسمع ذلك يحيى عن مالك فرواه عن زياد بن عبد الرحمن عن مالك وقيل سمع الموطأ من زياد عن مالك ثم دخل إلى مالك فلم يتم الموطأ فاته منه عليه لمرضه وحضور أجله هذه الأبواب فتحملها عن زياد عنه لما فاته عن مالك أتى زيادا فرواها عنه عن مالك
655 - ذكر فيه مالك عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن أن أبا بكر بن عبد الرحمن اعتكف فكان يذهب لحاجته تحت سقيفة في حجرة مغلقة في دار خالد بن الوليد ثم لا يرجع حتى يشهد العيد مع المسلمين
قال أبو عمر أما مشي أبي بكر بن عبد الرحمن تحت سقيفة حجرة خالد بن الوليد فقد مضى القول فيمن أجاز ذلك ومن كرهه في الباب الذي قبل هذا
والأصل في الأشياء الإباحة حتى يقرع السمع ما يوجب الحظر ولم يمنع الله من ذلك ولا رسوله ولا اتفق الجميع على المنع منه ولا تقوم الحجة إلا من هذه الوجوه أو ما كان في معناها
656 - وأما قول مالك أنه رأى أهل العلم إذا اعتكفوا في العشر الأواخر من رمضان لا يرجعون إلى أهليهم حتى يشهدوا الفطر مع المسلمين
قال مالك وبلغني ذلك عن أهل الفضل الذين مضوا وهو أحب ما سمعت إلي في ذلك
قال أبو عمر هذا من قوله يدل على أنه سمع الاختلاف في هذه المسألة وقد اختلف قوله فيها فالأكثر عنه ما في موطئه أنه لا يخرج من معتكفه من اعتكف العشر الأواخر إلا إلى المصلى وإن خرج فلا شيء عليه
394

رواه بن القاسم عن مالك في المدونة وهو قول بن القاسم
وقال بن الماجشون وسحنون يعيد اعتكافه
قال سحنون لأن السنة المجتمع عليها أن يبيت في معتكفه حتى يصبح
قال أبو عمر لم يقل بقولهما أحد من أهل العلم فيما علمت إلا رواية جاءت عن مالك ذكرها إسماعيل في المبسوط لا وجه لها في القياس لما وصفنا والصحيح عن مالك فيها ما ذكرنا ولم يجتمع على ما ذكر سحنون أنها سنة مجمع عليها والخلاف موجود فيها والخلاف لا حجة فيه
وذكر بن وهب عن الليث أن عقيلا حدثه عن بن شهاب أنه كان لا يرى بأسا أن ينصرف المعتكف إلى أهله ليلة الفطر
وبه قال الليث بن سعد
قال أبو عمر هي مسألة استحباب ليصل المعتكف اعتكافه بصلاة العيد فيكون قد وصل نسكا بنسك والله أعلم لأن ذلك لا واجب ولا لازم ولا سنة مؤكدة لأن الأصل ليلة العيد ويوم العيد ليس بموضع اعتكاف لا سيما عند من لا يراه إلا بصيام ومع هذا فإن الذي ذكره مالك معلوم بالمدينة وبالكوفة
ذكر بن أبي شيبة عن وكيع عن سفيان عن مغيرة عن أبي معشر عن إبراهيم قال كانوا يستحبون للمعتكف أن يبيت ليلة الفطر في المسجد حتى يكون غدوه منه إلى العيد
وعن وكيع عن بن عمر عن عمران بن جرير عن أبي مجلز قال يبيت ليلة الفطر في المسجد الذي اعتكف فيه حتى يكون خروجه منه إلى مصلاه
وعن إسماعيل بن علية عن أيوب عن أبي قلابة أنه فعل مثل ذلك
فهؤلاء من أهل الكوفة والبصرة أعلام إلى ما حكاه مالك عن طائفة من فضلاء أهل المدينة وعلمائهم
ومذهب أحمد بن حنبل في ذلك على ما اختاره مالك واستحبه
وكان الشافعي والأوزاعي يقولان يخرج من اعتكافه إذا غربت الشمس من آخر أيامه
قال الشافعي إذا أراد أن يعتكف العشر الأواخر دخل قبل الغروب فإذا أهل هلال شوال فقد أتم العشر
وهو قول أبي حنيفة وأصحابه
395

قال أبو عمر قد أجمعوا في المعتكف في العشر الأول أو الوسط من رمضان أنه يخرج إذا غابت الشمس من آخر يوم من اعتكافه
وفي إجماعهم على ذلك ما يوهن ورواية من روى يخرج من صبيحتها أو في صبيحتها وإجماعهم على ذلك نقيض ما اختلفوا فيه من الخروج لمن اعتكف العشر الأواخر ويدل على تصويب رواية من روى يخرج فيها من اعتكافه يعني بعد الغروب والله أعلم
والصحيح في تحصيل مذهب مالك أن يقام المعتكف ليلة الفطر في معتكفه وخروجه منه إلى العيد استحباب وفضل لا إيجاب وهو الذي ذكر فيه قوله في موطئه بل قد نص عليه وبالله التوفيق
((4 - باب قضاء الاعتكاف))
657 - مالك عن بن شهاب عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يعتكف فلما انصرف إلى المكان الذي أراد أن يعتكف فيه وجد أخبية خباء عائشة وخباء حفصة وخباء زينب فلما رآها سأل عنها فقيل له هذا خباء عائشة وحفصة وزينب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم آلبر تقولون بهن ثم انصرف فلم يعتكف حتى اعتكف عشرا من شوال
قال أبو عمر كذا روى يحيى بن يحيى هذا الحديث عن مالك عن بن شهاب ولم يتابعه على روايته عن مالك عن بن شهاب أحد من رواة الموطأ والحديث معروف عن مالك
وغيره عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عمرة ولم يروه بن شهاب أصلا ولا يعرف هذا الحديث لابن شهاب لا من رواية مالك ولا من رواية غيره من أصحابه وإنما هو في الموطأ وغيره لمالك عن يحيى بن سعيد كذلك رواه جماعة الموطأ عن مالك
وكذلك رواه أصحاب يحيى بن سعيد عنه عن عمرة لا يذكر عائشة ومنهم من يرويه عن مالك عن يحيى بن سعيد لا يذكر عمرة
396

وقد ذكرنا كثيرا من طرقه بذلك عن يحيى بن سعيد في التمهيد وذكره البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يعتكف وساقه بكماله
وذكره البخاري أيضا عن أبي النعمان عارم بن الفضل عن حماد بن زيد قال حدثنا يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة
قال أبو عمر هذا الحديث أدخله مالك في باب قضاء الاعتكاف وهو أعظم ما اعتمد عليه من فقه
ومعنى ذلك عندي - والله أعلم - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد عزم على اعتكاف العشر الأواخر من رمضان فلما رأى ما كرهه من تنافس زينب وحفصة وعائشة في ذلك وخشي أن يدخل نيتهن داخلة انصرف ثم وفى الله عز وجل بما نواه من فعل البر فاعتكف عشرا من شوال وفي ذلك جواز الاعتكاف في غير رمضان وهو أمر لا خلاف فيه
وأما قوله في الحديث آلبر تقولون بهن فمعناه يظنون بهن البر وأنا أخشى عليهن أن يردن الكون معي على ما يريد النساء من الانفراد بالأزواج في كل حين وإن لم يكن حين جماع فكأنهن مع إرادتهن لذلك لم يكن اعتكافهن خالصا لله فكره لهن ذلك وهو معنى قوله في غير حديث مالك آلبر تردن - أو يردن كأنه توبيخ أي ما أظنهن يردن البر
وقد يجوز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم كره لأزواجه الاعتكاف لشدة مؤنته لأن ليله ونهاره سواء
قال مالك لم يبلغني أن أبا بكر ولا عمر ولا عثمان ولا بن المسيب ولا أحدا من سلف هذه الأمة اعتكف إلا أبا بكر بن عبد الرحمن وذلك - والله أعلم - لشدة الاعتكاف
ولو ذهب ذاهب إلى أن الاعتكاف للنساء مكروه بهذا الحديث لكان مذهبا ولولا أن بن عيينة وهو حافظ ذكر فيه أنهن استأذنه في الاعتكاف لقطعت بأن الاعتكاف للنساء في المساجد غير جائز
وما أظن استئذانهن محفوظا ولكن بن عيينة حافظ وقد تابعه الأوزاعي وبن فضيل في أن عائشة استأذنته لنفسها وبعضهم يقول إن عائشة استأذنته لنفسها وحفصة في الاعتكاف فأذن لمن استأذنته منهن ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) أعلم فيما في نيتهن
397

وفي هذا الحديث من الفقه أن الاعتكاف يلزم مع النية بالدخول فيه فإذا دخل الإنسان ثم قطعه لزمه قضاؤه
وإنما قلنا إنه يلزمه بالنية مع الدخول وإن لم يكن في حديث مالك ذكر دخوله صلى الله عليه وسلم في ذلك الاعتكاف الذي قضاه إلا في رواية بن عيينة لهذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذ أراد أن يعتكف صلى الصبح ثم دخل معتكفه فلما صلى الصبح - يعني في المسجد - وهو موضع اعتكافه مع عقد نيته على ذلك والنية هي الأصل في الأعمال وعليها تقع المجازات فمن هنا - والله أعلم - قضى اعتكافه في ذلك في شوال صلى الله عليه وسلم
وقد ذكر سنيد قال حدثنا معمر بن سليمان عن كهمس عن معبد بن ثابت في قوله عز وجل " ومنهم من عاهد الله لئن ءاتانا من فضله " [التوبة 75] إنما هو شيء يروه في أنفسهم ولم يتكلموا به ألا تسمع إلى قوله تعالى في الآية * (أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب) * [التوبة 78]
قال وحدثنا معتمر وقال ركبت البحر فأصابتنا ريح شديدة فنذر قوم معنا نذرا ونويت أنا شيئا لم أتكلم به فلما قدمت البصرة سألت أبا سليمان التيمي فقال يا بني فء به
فغير نكير أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قضى الاعتكاف من أجل أنه كان قد نوى أن يعمله وإن لم يدخل فيه لأنه كان أوفى الناس لربه بما عاهده عليه وأبدرهم إلى طاعته فإن كان دخل فيه فالقضاء واجب عند العلماء لا يختلف في ذلك الفقهاء وإن كان لم يدخل فيه فالقضاء مستحب لمن هذه حاله عند أهل العلم مندوب إليه أيضا مرغوب فيه
ومن العلماء من أوجب قضاءه عليه من أجل أنه كان عقد عليه نيته والوجه عندنا ما ذكرنا
ومن جعل على المعتكف قضاء ما قطعه من اعتكافه قاسه على الحج التطوع يقطعه صاحبه عمدا أو مغلوبا
وقد ذكرنا حكم قطع الصلاة التطوع والصيام التطوع وما للعلماء في ذلك من المذاهب فيما مضى من هذا الكتاب
وذكر الأثرم قال سمعت أحمد بن حنبل يسأل عن النساء أيعتكفن قال نعم
وقد ذكرنا طرفا من اختلاف العلماء في مكان معتكف النساء في أول باب الاعتكاف وقد ذكرنا ها هنا ما هو على شرطنا
398

قال مالك لا يعجبني أن تعتكف المرأة في مسجد بيتها ولتعتكف في مسجد الجماعة
وقال أبو حنيفة لا تعتكف المرأة إلا في مسجد بيتها ولا تعتكف في مسجد الجماعة
وقال الثوري اعتكاف المرأة في بيتها أفضل من اعتكافها في المسجد
وهو قول إبراهيم
قال أبو عمر من حجة من أجاز اعتكاف المرأة حديث بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة هذا لأن فيه أنهن استأذنه في الاعتكاف فأذن لهن فضربن أخبيتهن
في المسجد ثم منعهن بعد ومعلوم أن منعه لهن كان لغير المعنى الذي أذن لهن من أجله
وقال أصحاب أبي حنيفة إنما جاز لهن ضرب أخبيتهن في المسجد للاعتكاف من أجل أنهن كن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
وللنساء أن يعتكفن في المسجد مع أزواجهن وكما أن للمرأة أن تسافر مع زوجها كذلك لها أن تعتكف معه
وقال من لم يجز اعتكافهن في المسجد أصلا إنما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الاعتكاف إنكارا عليهن قال ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم آلبر يردن أي ليس هذا ببر
ولم يختلفوا أن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد فكذلك الاعتكاف
قال أبو عمر ليس في حديث مالك في هذا الباب ذكر دخول النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الاعتكاف الذي قضاه أي وقت هو
وقد ذكره غيره
حدثنا سعيد بن نصر حدثنا قاسم حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا الحميد قال سفيان بن عيينة قال سمعت يحيى يحدث عن عمرة عن عائشة قالت أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان فسمعت بذلك فاستأذنته فأذن لي ثم استأذنته حفصة فأذن لها ثم استأذنته زينب فأذن لها قالت وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الصبح ثم دخل معتكفه فلما صلى الصبح رأى في المسجد أربعة أبنية (1) وذكر الحديث
399

وذكره البخاري قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان وإذا صلى الغداة دخل مكانه الذي يعتكف فيه قال فاستأذنته عائشة وذكر الحديث
وذكره أبو داود قال حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال حدثنا أبو معاوية ويعلى بن عبيد عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه وذكر باقي الحديث
قال أبو عمر لا أعلم أحدا من فقهاء الأمصار قال بهذا الحديث مع ثبوته وصحته في وقت دخول المعتكف موضع اعتكافه إلا الأوزاعي والليث بن سعد وقد قال به طائفة من التابعين
وروى بن وهب عن الليث قال إنما يدخل المعتكف المسجد للاعتكاف قبل الفجر ليلة إحدى وعشرين
وذكر الأثرم قال سمعت أحمد بن حنبل يسأل عن المعتكف في أي وقت يدخل معتكفه فقال يدخل قبل غروب الشمس فيكون يبتدي ليلته
فقيل له قد روى يحيى بن سعيد عن عمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الفجر ثم يدخل معتكفه (1) فسكت
قال وسمعته مرة أخرى يسأل عن المعتكف في أي وقت يدخل معتكفه فقال قد كنت أحب له أن يدخل معتكفه في أول الليل حتى يبيت فيه ويبتدي ولكن حديث يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل معتكفه إذا صلى الغداة
قيل فمتى يخرج قال يخرج منه إلى المصلى
قال أبو عمر اتفق مالك والشافعي وأبو حنيفة على خلاف هذا الحديث إلا أنهم اختلفوا في وقت دخول المعتكف المسجد للاعتكاف إذا نذره أياما وليالي أو يوما واحدا
فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة إذا أوجب على نفسه اعتكاف شهر دخل المسجد قبل غروب الشمس
400

قال مالك ومن أراد أن يعتكف يوما أو أكثر يدخل معتكفه قبل مغيب الشمس من ليلة ذلك اليوم
وقال الشافعي إذا قال لله علي اعتكاف يوم دخل قبل طلوع الفجر وخرج بعد غروب الشمس خلاف قوله في الشهر
وقال زفر بن الهذيل والليث بن سعد يدخل قبل طلوع الفجر والشهر واليوم عندهما سواء تقدم
وروي مثل ذلك عن أبي يوسف
وقال الأوزاعي بظاهر حديث عائشة المذكور قال يصلي في المسجد الصبح ويقوم إلى معتكفه
وقال أبو ثور إذا أراد اعتكاف عشرة أيام دخل في اعتكافه قبل طلوع الفجر وإذا أراد عشر ليال دخل قبل غروب الشمس
قال أبو عمر ذهب هؤلاء إلى أن الليل لا يدخل في الاعتكاف إلا أن يتقدمه اعتكاف النهار لأن الليل ليس بموضع اعتكاف فلا يصلح الابتداء به وذهب أولئك إلى أن الليل تبع للنهار على كل حال فلذلك ابتدؤوا به والله أعلم
وأما قوله في حديث مالك ثم اعتكف عشرا من شوال فقد مضى القول في وجوب قضاء الاعتكاف للباد والقاطع بعذر وبغير عذر ومضى مع ما قضى النبي صلى الله عليه وسلم اعتكافه كل ذلك في هذا الباب والحمد لله
ومضى في الباب قبله خروج المعتكف لمرض يعرض له واختلاف العلماء في حكمه
فقول مالك في موطئه أصح ما روي عنه في ذلك أن المريض يتم ما بقي عليه من اعتكافه إذا صح
واحتج مالك بحديثه في هذا الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد الاعتكاف في رمضان فلم يعتكف واعتكف عشرا من شوال (1)
قال مالك والمتطوع في الاعتكاف والذي عليه الاعتكاف أجرهما سواء فيما يحل لهما ويحرم عليهما
قال ولم يبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان اعتكافه إلا تطوعا
401

قال أبو عمر هذا قوله مع جملة العلماء لأن الاعتكاف وإن لم يكن واجبا لا على من نذره فإنه يجب بالدخول فيه كالصلاة النافلة والحج والعمرة النافلتين
وقد اختلف العلماء في أقل ما يلزمه ها هنا ولم يرو في شيء من الآثار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل على نفسه اعتكافا
وذلك دليل على أن اعتكافه كان تطوعا
وقد أوضحنا وجه قضائه عشرا من شوال في اعتكافه بما لا معنى لإعادته ها هنا
واختلف العلماء في أقل مدة الاعتكاف ف روى بن وهب عن مالك أن أقله عنده ثلاثة أيام
وذكر بن حبيب أن أقله عنده يوم وليلة
وقال بن القاسم في المدونة وقفت مالكا على ذلك فأنكره وقال أقله عشرة أيام
قال أبو عمر هذا على الاستحقاق لأن مالكا قال من عليه الجمعة فلا يعتكف في غير مسجد الجامع إلا من الجمعة إلى الجمعة
وهو قول الشافعي
ولا حد عند أبي حنيفة والشافعي وأكثر الفقهاء في أقل مدته
وروى بن جريج عن عطاء عن بن أمية قال إني لأمكث ساعة معتكفا
قال عطاء وسمعت أنه لا يكون الاعتكاف أقل من ثلاثة أيام
قال عطاء والاعتكاف ما مكث فيه المعتكف
قال مالك في المرأة إنها إذا اعتكفت ثم حاضت في اعتكافها إنها ترجع إلى بيتها فإذا طهرت رجعت إلى المسجد أية ساعة طهرت ثم تبني على ما مضى من اعتكافها ومثل ذلك المرأة يجب عليها صيام شهرين متتابعين فتحيض ثم تطهر فتبني على ما مضى من صيامها ولا تؤخر ذلك
قال أبو عمر حكم المعتكفة تحيض كحكم من نذر صيام أيام متتابعات أو كان عليه أيام متتابعات صيام متتابع وعلى ما ذكره مالك جماعة الفقهاء وقد مضى القول فيمن كان عليه أيام متتابعات فمرض أو امرأة كان عليها صيام متتابع فمرضت أو حاضت في باب صيام الذي يقتل خطأ أو يتظاهر بما أغنى عن إعادته
وذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال إذا حاضت المعتكفة خرجت إلى بيتها فإذا طهرت قضت ذلك
402

وعن بن جريج عن عطاء قال إذا حاضت المعتكفة خرجت فإذا طهرت رجعت إلى موضعها قلت فيطؤها زوجها في يوم طهرها قال لا قلت فإن كانت مريضة قال تخرج إلى بيتها فإذا صحت رجعت إلى موضعها
قلت أيطؤها زوجها في مرضها قال لا إن وطئ الحائض في طهرها أو المريضة في مرضها فسد اعتكافها ولم يكن لها البناء على ما مضى وبالله التوفيق
((5 - باب النكاح في الاعتكاف))
قال مالك لا بأس بنكاح المعتكف نكاح الملك (1) ما لم يكن المسيس (2) والمرأة المعتكفة أيضا تنكح نكاح الخطبة ما لم يكن المسيس ويحرم على المعتكف من أهله بالليل ما يحرم عليه منهن بالنهار
ولا يحل لرجل أن يمس امرأته وهو معتكف ولا يتلذذ منها بقبلة ولا غيرها ولم أسمع أحدا يكره للمعتكف ولا للمعتكفة أن ينكحا في اعتكافهما ما لم يكن المسيس وكذلك الصائم ينكح في ليل صيامه وليس للمحرم إلى آخر كلامه
قال أبو عمر قال الله عز وجل * (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) * [البقرة 187] فأجمع العلماء على أنه إن وطئ في اعتكافه عامدا في ليل أو نهار يبدأ اعتكافه
وروي عن بن عباس ومجاهد والضحاك قالوا كانوا يجامعون وهم معتكفون حتى نزلت * (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) *
وقال بن عباس كانوا إذا اعتكفوا يخرج أحدهم إلى الغائط جامع امرأته ثم اغتسل ورجع إلى اعتكافه فنزلت الآية وأجمعوا أن قوله تعالى * (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) * قد اقتضى الجماع
واختلفوا فيما دونه من القبلة واللمس والمباشرة
فقال مالك من أفطر في اعتكافه يوما عامدا أو جامع ليلا أو نهارا ناسيا أو قبل أو لمس أو باشر فسد اعتكافه أنزل أو لم ينزل لقوله تعالى * (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) *
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إن باشر أو قبل أو نزل فسد اعتكافه
403

وقال الشافعي إن باشر فسد اعتكافه وقال في موضع آخر لا يفسد الاعتكاف إلا بالوطء الذي يوجب الحد
وهو قول عطاء
وقال أبو ثور إذا جامع دون الفرج أفسد اعتكافه
وقال الزهري والحسن ويجب عليه ما يجب على الواطئ في رمضان
وروى بن عيينة والثوري عن بن أبي نجيح عن مجاهد عن بن عباس قال إذا جامع المعتكف بطل اعتكافه
وبه قال سعيد بن المسيب والقاسم وسالم وعطاء وجماعة الفقهاء وكلهم يلزمه الاستئناف إلا الشعبي فإنه قال يتم ما بقي
وقال مجاهد يتصدق بدينارين
قال أبو عمر فساد الاعتكاف بالوطء لا شك فيه والعزم في الكفارة مختلف فيه ولا حجة لمن أوجبه فإن كان الاعتكاف في رمضان ووطئ فيه فكفارته كفارة الجماع في رمضان أو كان في غير رمضان فلا كفارة عليه وعليه قضاء اعتكافه
ولا أعلم خلافا في المعتكف يطأ أهله عامدا أنه قد أفسد اعتكافه كما يفسد صومه لو فعل ذلك فإن وطئ ناسيا فكل على أصله يقضي بفساد الصوم بالوطء ناسيا فالاعتكاف كذلك عنده فاسد ومن لم يفسد الصوم بالوطء ناسيا لم يفسد لذلك الاعتكاف وبالله التوفيق
((6 - باب ما جاء في ليلة القدر))
658 - مالك عن يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي سعيد الخدري أنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الوسط من رمضان فاعتكف عاما حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين وهي الليلة التي يخرج فيها من صبحها من اعتكافه قال من اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر وقد رأيت هذه الليلة ثم أنسيتها وقد رأيتني
404

أسجد من صبحها في ماء وطين فالتمسوها في العشر الأواخر والتمسوها في كل وتر
قال أبو سعيد فأمطرت السماء تلك الليلة وكان المسجد على عريش فوكف المسجد (1)
قال أبو سعيد فأبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين من صبح ليلة إحدى وعشرين
قال أبو عمر في هذا الحديث دليل على أن الاعتكاف في رمضان سنة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يواظب على الاعتكاف فيه وما واظب عليه فهو سنة
والدليل على أنه كان يعتكف في كل رمضان قوله كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الوسط من رمضان وهذا اللفظ يدل على المداومة
وفي رواية محمد بن فضيل عن يحيى بن سعيد في هذا الحديث بيان ذلك عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان
وأما قوله حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين وهي الليلة التي يخرج فيها من صبيحتها من اعتكافه
هكذا رواه يحيى بن بكير والشافعي عن مالك يخرج فيها من صبيحتها
ورواه القعنبي وبن وهب وبن القاسم وجماعة عن مالك وقالوا فيه وهي الليلة التي يخرج فيها من اعتكافه
وقد ذكرنا مسألة خروج المعتكف في العشر الأواخر أي وقت هو في باب خروج المعتكف إلى العيد
وأما خروج من اعتكف العشر الوسط أو اعتكف في أول الشهر ف روى بن وهب وبن عبد الحكم عن مالك قال من اعتكف أول الشهر أو وسطه فليخرج إذا غابت الشمس من آخر يوم من اعتكافه وإن اعتكف في آخر الشهر فلا ينصرف إلى بيته حتى يشهد العيد وكذلك بلغني عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال أبو عمر لا أعلم خلافا في المعتكف في غير رمضان أو في العشر الأول أو الوسط من رمضان أنه لا يخرج من اعتكافه إلا إذا غربت الشمس من آخر أيام اعتكافه
405

وهذا يعضد ويشهد بصحة رواية من روى يخرج فيها من اعتكافه وأن رواية من روى يخرج من صبيحتها وهم وأظن الوهم دخل عليهم من مذهبهم في خروج المعتكف العشر الأواخر في صبيحة يوم الفطر
حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أبو سلمة القعنبي قال حدثنا مالك عن يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي سعيد الخدري قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأوسط من رمضان فاعتكف عاما حتى إذا كانت ليلة إحدى وعشرين وهي الليلة التي يخرج فيها من اعتكافه (1) وذكر الحديث
وروى البخاري عن عبد الله بن منير عن هارون بن إسماعيل عن علي بن المبارك عن يحيى بن كثير عن أبي سلمة أنه سأل أبا سعيد الخدري قال قلت هل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر ليلة القدر قال نعم اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الأوسط من رمضان فخرجنا صبيحة عشرين فخطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة عشرين فقال إني أريت ليلة القدر فذكر الحديث
كذا قال صبيحة عشرين وهذا خلاف ما رواه مالك وغيره في حديث أبي سعيد الخدري هذا والوجه عندي - والله أعلم - انه أراد خطبهم غداة عشرين ليعرفهم أنه اليوم الآخر من أيام اعتكافهم وأن الليلة التي تلك الصبيحة هي ليلة إحدى وعشرين هي المطلوب فيها ليلة القدر بما رأى من الرؤيا
وقوله إني أريتها ثم أنسيتها ورأيتني أسجد من صبيحتها في ماء وطين فالتمسوها في العشر الأواخر والتمسوها في كل وتر فهذا يدل على أن ليلة القدر تنتقل ويخيل أن يكون قوله التمسوها في العشر الأواخر يعني في الوتر منها أي في ذلك العام والله أعلم ويحتمل أن يكون ذلك في الأغلب من كل عام ورؤياه صلى الله عليه وسلم دلته على أنها من ذلك العام في الأيام الباقية من شهر رمضان وهي العشر الأواخر وأنها في الوتر منها فلذلك خاطبهم ثم خاطبهم به والله أعلم
ويدل على هذا التأويل اختلاف الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم واختلاف العلماء فيها على ما نراه في هذا الباب إن شاء الله
حدثنا إبراهيم بن شاكر قال حدثنا محمد بن أحمد قال حدثنا محمد بن
406

أيوب قال حدثنا أحمد بن عمرو البزار قال حدثنا أحمد بن منصور قال حدثنا عبد الرحيم بن شريك عن أبيه عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم التمسوا ليلة القدر في العشر الأواخر فإني قد رأيتها فنسيتها وهي ليلة مطر وريح
أو قال فطر وريح
قال أبو عمر هذا يدل على أنه أراد في ذلك العام والله أعلم
وأما قوله وكان المسجد على عريش فوكف فإنه أراد أن سقفه كان معرشا بالجريد من غير طين ولذلك كان يكف
وقوله فوكف يعني هطل فتبلل المسجد من ذلك ماء وطين
وقد اختلف قول مالك في الصلاة في الطين على حسب اختلاف الأحوال فمرة قال لا يجزيه إلا أن ينزل بالأرض ويسجد عليها على حسب ما يمكنه استدلالا بهذا الحديث لقوله فيه فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين ومرة قال يجزيه أن يومئ إيماء ويجعل سجوده أخفض من ركوعه يعني إذا كان الماء قد أحاط به
أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا محمد بن عمر بن يحيى بن حرب قال حدثنا علي بن حرب قال حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر بن زيد أنه قال أومأ في ماء وطين
قال عمرو وما رأيت أعلم من جابر بن زيد
وقد ذكرنا في التمهيد حديث يعلى بن أمية قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابتنا السماء فكانت البلة من تحتنا والسماء من فوقنا ونحن في مضيق فحضرت الصلاة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأذن وأقام وتقدم رسول الله يصلي على راحلته والقوم على راحلتهم يومئ إيماء يجعل السجود أخفض من الركوع
وقد ذكرنا هذا من طرق في التمهيد وعن جماعة من التابعين مثل ذلك بالأسانيد
وقال الأثرم سمعت أحمد بن حنبل يسأل عن الصلاة المكتوبة على الراحلة فقال في شدة الحرب وأما الأمن فلا إلا في موضعين التطوع وفي الطين المحيط به
وقد تكلمنا على هذه المسألة في التمهيد وأتينا منه ها هنا وفي كتاب الصلاة بما فيه كفاية والحمد لله
407

وفي هذا الحديث ما يدل أن السجود على الأنف والجبهة جميعا واجتمع العلماء على أنه إذا سجد على جبهته وأنفه فقد أدى فرض سجوده
واختلفوا فيمن سجد على أنفه دون جبهته أو على جبهته دون أنفه فقال مالك يسجد على جبهته وأنفه فإن سجد على أنفه دون جبهته لم يجزه وإن سجد على جبهته دون أنفه فقد أدى ولا إعادة عليه
وقال الشافعي لا يجزيه حتى يسجد على جبهته وأنفه
وهو قول الحسن بن حي
واحتج الشافعي بحديثه في هذا الباب وبقوله - عليه السلام - أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء وذكر منها الوجه
وبان في حديث أبي سعيد هذا أن سجوده على وجهه كان على جبهته وأنفه
وروى حماد بن سلمة عن عاصم الأحول عن عكرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من لم يضع أنفه في الأرض في سجوده فلا صلاة له
وقال أبو حنيفة إذا سجد على جبهته أو ذقنه أو أنفه أجزأه
وحجته حديث بن عباس عن النبي - عليه السلام - أمرت أن أسجد على سبعة آراب (1) فذكر منها الوجه
قالوا فأي شيء وضع من الوجه أجزأه
وهذا ليس بشيء لأن حديث بن عباس قد ذكر فيه جماعة من الحفاظ الأنف والجبهة
وقد ذكرناه في التمهيد من طرق
ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو المبين عن الله عز وجل مراده قولا وفعلا
659 - وأما حديث مالك في هذا الباب عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تحروا (2) ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان
408

فقد وصلناه في التمهيد
أخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن يحيى بن عمر قال حدثنا علي بن حرب قال حدثنا سفيان بن عيينة عن أبي يعقوب عن مسلم [بن صبيح] عن مسروق قال سمعت عائشة تقول كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخلت العشر الأواخر من رمضان شد مئزره وأحيى ليله وأيقظ أهله
وحدثنا خلف بن قاسم قال حدثنا عبد الله بن عمر بن إسحاق الجوهري قال حدثنا محمد بن جعفر بن أعين قال حدثنا علي بن الجعد قال حدثنا المسعودي عن محارب بن دثار عن بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال التمسوها - ليلة القدر - في العشر الأواخر من رمضان (2)
ومعلوم سماع عروة من عائشة وبن عمر في غير حديث وقوله التمسوا ليلة القدر في العشر الأواخر على انتقالها في الوتر منها على ما قدمنا ذكره
660 - وحديثه عن عبد الله بن دينار عن بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تحروا ليلة القدر في السبع الأواخر من رمضان القول فيه كالقول فيما قبله
والأغلب من قوله في السبع الأواخر أنه في ذلك العام والله أعلم لئلا يتضاد مع قوله في العشر الأواخر ويكون قوله وقد مضى من الشهر ما يوجب قول ذلك
وفي هذه الأحاديث الحض على التماس ليلة القدر وطلبها بصلاة الليل والاجتهاد بالدعاء
661 - وذكر عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله أن عبد الله بن أنيس قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله إني رجل شاسع الدار (3) فمرني ليلة أنزل لها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم انزل ليلة ثلاث وعشرين من رمضان
409

قال أبو عمر وهذا حديث منقطع ولم يلق أبو النضر عبد الله بن أنيس ولا رآه ولكنه يتصل من وجوه شتى صحاح ثابتة منها ما رواه الزهري عن ضمرة بن عبد الله بن أنيس عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم متصل
وأخبرنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا أبو بكر بن الأسود قال حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا محمد بن إسحاق عن محمد بن الحارث التيمي عن بن عبد الله بن أنيس قال حدثني أبي قال قلت يا رسول الله إني أكون في باديتي وأنا بحمد الله أصلي فيها فمرني بليلة من هذا الشهر أنزل بهذا المسجد أصليها فيه قال انزل ليلة ثلاث وعشرين فصلها فيه
وروى يزيد بن الهاد عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه أخبره عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن عبد الله بن أنيس بمعناه
قال بن الهاد وكان محمد بن إبراهيم يجتهد تلك الليلة
وذكر بن أبي شيبة قال حدثني أبو الأحوص عن سماك عن عكرمة عن بن عباس قال بينا أنا نائم في رمضان فقيل لي إن الليلة ليلة القدر فقمت وأنا ناعس فتعلقت ببعض أطناب فسطاط رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته وهو يصلي فنظرت في الليلة فإذا هي ليلة ثلاث وعشرين
قال بن عباس إن الشيطان يطلع مع الشمس كل يوم إلا ليلة القدر وذلك أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها
ذكر عبد الرزاق عن بن جريج عن عبيد الله بن أبي يزيد قال كان بن عباس ينضح على أهله الماء ليلة ثلاث وعشرين
وعن بن جريج قال أخبرني يونس بن يوسف أنه سمع سعيد بن المسيب يقول استقام ملأ القوم أنها ليلة ثلاث وعشرين
قال أبو عمر يعني في ذلك العام والله أعلم
وهذه الليلة تعرف بليلة الجهني بالمدينة
وذكر عبد الرزاق عن منصور عن إبراهيم عن الأسود قال كانت عائشة توقظ أهلها ليلة ثلاث وعشرين
وعن محمد بن راشد عن مكحول أنه كان يراها ليلة ثلاث وعشرين
قال معمر كان أيوب يغتسل في ليلة ثلاث وعشرين
410

وذكر بن وضاح قال حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح قال حدثنا رشدين بن سعد عن زهرة بن معبد قال أصابني احتلام في أرض العدو وأنا في البحر ليلة ثلاث وعشرين في رمضان قال فذهبت لأغتسل فسقطت في الماء فإذا الماء عذب فأذنت أصحابي وأعلمتهم أني في ماء عذب
662 - وأما حديث مالك في هذا الباب عن حميد الطويل عن أنس بن مالك أنه قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فقال إني أريت هذه الليلة في رمضان حتى تلاحى (1) رجلان فرفعت (2) فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة
هكذا روى مالك هذا الحديث عن أنس قال خرج علينا رسول الله
وخالفه أصحاب حميد كأنهم قرؤوه عن حميد عن أنس عن عبادة بن الصامت قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم
أخبرناه سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا عبد الوهاب عن حميد عن أنس عن عبادة قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد أن يخبرنا بليلة القدر فتلاحى رجلان فقال إني خرجت أن أخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان ولعل ذلك أن يكون خيرا فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة
وكذلك رواه يحيى القطان وبشر بن المفضل وبن أبي عدي وحماد بن سلمة وغيرهم عن حميد عن أنس عن عبادة كلهم جعله من مسند عبادة
وقال علي بن المديني وهم فيه مالك وخالفه أصحاب حميد وهم أعلم به منه ولم يكن له وحميد علم كعلمه بمشيخة أهل المدينة
قال أبو عمر ليس في حديث عبد الوهاب هذا فرفعت وهو في حديث مالك وغيره والله أعلم بما أراد رسوله بقوله ذلك والأظهر من معانيه أنه رفع علم تلك الليلة عنه فأنسيها بعد أن كان علمها وكان سبب ذلك ما كان من تلاحي الرجلين والله أعلم
411

والملاحاة المراء والمراء لا تؤمن فتنته ولا تفهم حكمته ومن تقدم الملاحاة أنهم حرموا ليلة القدر في تلك الليلة ولم يحرموها في ذلك العام بدليل قوله التمسوها في التاسعة والخامسة والله أعلم
وأما قوله في التاسعة فإنه أراد تاسعة تبقى وهي ليلة إحدى وعشرين وقوله والسابعة السابعة تبقى وهي ليلة ثلاث وعشرين والخامسة يريد الخامسة تبقى وهي ليلة خمس وعشرين
وهذا عن الأغلب في أن الشهر ثلاثين يوما وهو الأصل بدليل قوله صلى الله عليه وسلم فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين (1) ومعلوم أن الشهر قد يكون تسعا وعشرين وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال الشهر تسع وعشرون (2) وثلاثون (3) وقد أوضحنا هذا المعنى بالآثار والشواهد في التمهيد
قال أبو عمر في ليلة إحدى وعشرين حديث أبي سعيد الخدري من رواية مالك وغيره وفي ليلة ثلاث وعشرين حديث عبد الله بن أنيس الجهني وقد تقدم ذكره وفي ليلة سبع وعشرين حديث أبي بن كعب وحديث معاوية وهي كلها صحاح تدل على انتقال ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر في الأغلب ولا يبعد أن تكون في غير العشر الأواخر ولا أن تكون في غير الوتر
ذكر عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة قال ليلة القدر تنتقل في العشر الأواخر في كل وتر
وأما حديث أبي بن كعب فحدثناه عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن
412

بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا سليمان بن حرب ومسدد قالا حدثنا حماد عن عاصم عن زر قال قلت لأبي بن كعب يا أبا المنذر أخبرني عن ليلة القدر فإن صاحبنا سئل عنها فقال من يقم الحول يصبها فقال رحم الله أبا عبد الرحمن والله لقد علم أنها في رمضان ولكن كره أن تتكلوا والله إنها لفي رمضان ليلة سبع وعشرين لا يستثني قلت يا أبا المنذر أنى علمت ذلك قال بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت ما الآية قال تطلع الشمس صبيحة تلك الليلة مثل الطست ليس لها شعاع حتى ترتفع (1)
وأما قوله إنها تكون في غير الوتر فلحديث عبد الله بن أنيس وقد ذكرناه بإسناده في التمهيد أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أرسلني إليك رهط من بني سلمة يسألونك عن ليلة القدر فقال كم الليلة قلت اثنان وعشرون قال هي الليلة ثم رجع فقال أو القابلة يريد ثلاثا وعشرين
وفي هذا الحديث دليل على جواز كونها ليلة اثني وعشرين وليس ذلك بوتر إلا أنه حديث انفرد به عباد بن إسحاق عن الزهري عن ضمرة بن عبد الله بن أنيس عن أنيس عن أبيه وعباد ليس بالقوي
وممن ذهب إلى هذا الحسن البصري
ذكر معمر عن من سمع الحسن يقول نظرت الشمس عشرين سنة فرأيتها تطلع ليلة أربع وعشرين من رمضان ليس لها شعاع
وأما قولي إنها قد تكون في غير العشر الأواخر فلما رواه جعفر عن أبيه أن علي بن أبي طالب كان يتحرى ليلة القدر ليلة تسعة عشر وإحدى وعشرين وثلاث وعشرين
وروى يزيد بن هارون قال أخبرنا المسعودي عن حوط الخزاعي قال سألت زيد بن أرقم عن ليلة القدر فما تمارى ولا شك ليلة تسع عشرة ليلة الفرقان يوم التقى الجمعان
413

وعن الثوري عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود قال قال عبد الله بن مسعود تحروا ليلة القدر ليلة سبع عشرة صبيحة بدر أو إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين
وقد روي حديث بن مسعود هذا مرفوعا وقد ذكرناه وما كان مثله في التمهيد
وذكرنا هناك بالأسانيد عن أربعة من الصحابة أن ليلة القدر في كل رمضان بن عمر وبن عباس وأبي ذر وأبي هريرة
ومنهم من يروي حديث بن عمر وحديث أبي ذر مرفوعين وقد ذكرنا ذلك في التمهيد
وروى بن جريج قال أخبرني داود بن أبي عاصم عن عبد الله بن محصن قال قلت لأبي هريرة وعمر أإن ليلة القدر قد رفعت قال كذب من قال ذلك قلت فهي في كل رمضان قال نعم
وهذا كله من قول بن مسعود وغيره يرد رواية من روى عن بن مسعود من يقم الحول يصبها وأن ذلك على ما تأوله عليه أبي بن كعب حين قال أحب أبا عبد الرحمن أن لا يتكلوا (1)
وقد حكى الجوزجاني عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد أنهم قالوا ليلة القدر في السنة كلها كأنهم ذهبوا إلى قول بن مسعود
قال مالك والشافعي والثوري وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو ثور هي منتقلة في العشر الأواخر من رمضان ولا يدفعون أن تكون في كل رمضان
قال أبو عمر روى حماد بن سلمة قال أخبرنا ربيعة بن كلثوم قال سأل رجل الحسن وأنا عنده فقال يا أبا سعيد أرأيت ليلة القدر أفي كل رمضان هي قال أي والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي كل رمضان وأنها الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم فيها يقضي الله كل خلق وأجل ورزق وعمل إلى مثلها
وذكرنا في التمهيد خبر بن عباس من طريق عكرمة عنه ومن طريق سعيد بن جبير أيضا عنه واختصرنا هنا الخبرين معا أن عمر بن الخطاب دعا جماعة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فسألهم عن ليلة القدر فقالوا كنا نراها في العشر الأوسط
414

وبلغنا أنها في العشر الأواخر وأكثروا في ذلك فقال بن عباس إني لأعلم أي ليلة هي فقال عمر وأي ليلة هي فقال سابعة تمضي أو سابعة تبقى من العشر الأواخر فقال عمر من أين علمت ذلك قال رأيت الله عز وجل خلق سبع سماوات وسبع أرضين وسبعة أيام يدور الدهر عليهن وخلق الإنسان من سبع ويأكل من سبع فتلا قوله - عز وجل - * (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين) * [المؤمنون 12 - 14] وأما يأكل من سبع فقول الله تعالى * (فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا) * [عبس 27031] فالأب للأنعام والسبعة للإنسان
قال أبو عمر وفي هذا الخبر أن عمر سأل من حضره يومئذ من الصحابة - وكانوا جماعة - عن معنى نزول سورة * (إذا جاء نصر الله والفتح) * [الفتح 1] فوقفوا
ولم يزيدوا على أن قالوا أمر نبيه - عليه السلام - إذا فتح الله عليه أن يسبحه ويستغفره فقال عمر ما تقول يا بن عباس فقال معنى يا أمير المؤمنين أنه نعى إليه نفسه وأعلمه أنه قابضه إليه إذا دخلت العرب في الدين أفواجا فسر عمر بذلك وقال يلوموني في تقريب هذا الغلام فقال عبد الله بن مسعود لو أدرك أسناننا ما عاشره منا رجل ونعم ترجمان القرآن بن عباس
663 - وأما حديث مالك في هذا الباب أنه بلغه أن رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تواطأت في السبع فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر
هكذا روى هذا الحديث وتابعه قوم
ورواه القعنبي والشافعي ومعن بن عيسى وبن وهب وبن القاسم بن بكير وأكثر الرواة عن مالك عن نافع عن بن عمر أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الحديث
والحديث محفوظ معلوم من حديث نافع عن بن عمر لمالك وغيره محفوظ أيضا معناه لمالك وغيره عن عبد الله بن دينار عن بن عمر على ما تقدم
415

ورواه حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن بن عمر قال كانوا لا يزالون يقصون على رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا بأنها في الليلة السابعة من العشر الأواخر فقال النبي صلى الله عليه وسلم إني أرى رؤياكم قد تواطأت أنها الليلة السابعة من العشر الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها ليلة السابعة من العشر الأواخر
قال أبو عمر قوله من كان متحريها يدل على أن قيام ليلة القدر نافلة غير واجب ولكنها فضل
ويدل هذا الحديث وما كان مثله على أن الأغلب فيها ليلة سبع وعشرين ويمكن أن تكون ليلة ثلاث وعشرين
وقوله أرى رؤياكم قد تواطأت يعني في ذلك المنام والله أعلم وبدليل سائر الأحاديث في ذلك
أخبرنا عبد الرحمن بن مروان قال أخبرنا أبو محمد الحسن بن يحيى القلزمي قال حدثنا عبد الله بن علي قال حدثنا إسحاق بن منصور قال حدثنا عبد الرحمن بن سعيد قال حدثنا جابر بن يزيد بن رفاعة عن يزيد بن أبي سليمان قال سمعت زر بن حبيش يقول لولا سفهاؤكم لوضعت يدي في أذني ثم ناديت إلا إن ليلة القدر في السبع الأواخر قبلها ثلاث نبأ من لم يكذبني عن نبأ من لم يكذبه يعني به أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم
664 - مالك أنه سمع من يثق به من أهل العلم يقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل مثل الذي بلغ غيرهم في طول العمر فأعطاه الله ليلة القدر خير من ألف شهر
قال أبو عمر لا أعلم هذا الحديث يروى مسندا ولا مرسلا من وجه من الوجوه إلا ما في الموطأ وهو أحد الأربعة الأحاديث التي لا توجد في غير الموطأ
أحدها إني لأنسى - أو أنسى (1)
والثاني إذا نشأت بحرية (2)
والثالث حسن خلقك للناس معاذ بن جبل
416

والرابع هذا
وليس منها حديث منكر ولا ما يدفعه أصل
وفيه من وجوه العلم أن ليلة القدر لم يعطها إلا محمد وأمته صلى الله عليه وسلم
وفيه أن أعمار من مضى كانت أطول من أعمارنا
أخبرنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بن وضاح قال حدثنا محمد بن المصفى قال حدثنا بقية بن الوليد قال حدثني بجير بن سعيد عن خالد بن معدان عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليلة القدر في العشر البواقي من قامهن ابتغاء وجه الله غفر الله له ما تقدم من ذنبه وهي ليلة تسع تبقى أو سبع أو خمس أو ثلاث أو آخر ليلة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أمارة ليلة القدر أنها صافية بلجة كأن فيها قمرا ساطعا ساكنة لا برد فيها ولا حر ولا يحل لكوكب أن يرمى به فيها حتى يصبح وإن أمارتهما الشمس أن تخرج صبيحتها مشرقة ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر ولا يحل للشيطان أن يطلع معها يومئذ
قال أبو عمر هذا حديث حسن حديث غريب وهو من حديث الشاميين رواته كلهم ثقات وبقية إذا روى عن الثقات فليس بحديثه بأس
665 - وأما حديث مالك أنه بلغه أن سعيد بن المسيب كان يقول من شهد العشاء من ليلة القدر فقد أخذ بحظه منها
قال أبو عمر مثل هذا لا يكون رأيا ولا يؤخذ إلا توقيفا ومراسيل سعيد أصح المراسيل
وفيه الحض على شهود العشاء في جماعة وبيان فضيلة ليلة القدر وبالله التوفيق تم شرح كتاب الاعتكاف
417