الكتاب: شرح نهج البلاغة
المؤلف: ابن أبي الحديد
الجزء: ٩
الوفاة: ٦٥٦
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ القسم العام
تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: مؤسسة إسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
ردمك:
ملاحظات:

شرح نهج البلاغة
لابن أبي الحديد
بتحقيق
محمد أبو الفضل إبراهيم
الجزء التاسع
(1960)
دار إحياء الكتب العربية
عيسى البابي الحلبي وشركاه
1

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد العدل
[ذكر أطراف مما شجر بين على وعثمان في أثناء خلافته]
واعلم أن هذا الكتاب يستدعى منا أن نذكر أطرافا مما شجر بين أمير المؤمنين عليه
السلام وعثمان
أيام خلافته، إذ كان هذا (1) الكلام الذي شرحناه من ذلك النمط،
والشئ يذكر بنظيره، وعادتنا في هذا الشرح أن نذكر الشئ مع ما يناسبه
ويقتضي ذكره.
وقال أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب " أخبار السقيفة ": حدثني محمد بن
منصور الرمادي، عن عبد الرزاق عن معمر، عن زياد بن جبل، عن أبي كعب
الحارثي (2)، وهو ذو الإداوة (3). قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز: وإنما سمى ذا الإدواة
لأنه قال: إني خرجت في طلب إبل ضوال، فتزودت لبنا في إداوة ثم قلت في
نفسي: ما أنصفت ربى! فأين الوضوء؟ فأرقت اللبن وملأتها ماء، فقلت: هذا وضوء
وشراب، وطفقت أبغي إبلي، فلما أردت الوضوء اصطببت من الإداوة ماء فتوضأت،
ثم أردت الشرب، فلما اصطببتها، إذا لبن فشربت، فمكثت بذلك ثلاثا. فقالت

(1) انظر الجزء الثامن ص 252 إلى 262 في أخبار أبي ذر الغفاري وإخراجه إلى الربذة وموقف
عثمان وعلى منه.
(2) أبو كعب الحارثي، أورده ابن حجر في الإصابة 4: 165، ونقل خبره، عن معمر في جامعه.
(3) الإداوة، بالكسر: إناء صغير من جلد.
3

له أسماء النحرانية، يا أبا كعب، أحقينا كان أم حليبا (1) قال، إنك لبطالة، كان
يعصم من الجوع ويروى من الظمأ، أما إني حدثت بهذا نفرا من قومي، منهم علي بن
الحارث سيد بنى قنان، فلم يصدقني، وقال ما أظن الذي تقول كما قلت! فقلت: الله أعلم
بذلك. ورجعت إلى منزلي، فبت ليلتي تلك، فإذا به صلاة الصبح على بابي، فخرجت إليه،
فقلت: رحمك الله! لم تعنيت؟ ألا أرسلت إلى فأتيك! فإني لاحق بذلك منك. قال:
ما نمت الليلة إلا أتاني آت فقال: أنت الذي تكذب من يحدث بما أنعم الله عليه! قال
أبو كعب: ثم خرجت حتى أتيت المدينة، فأتيت عثمان بن عفان، وهو الخليفة يومئذ،
فسألته عن شئ من أمر ديني، وقلت: يا أمير المؤمنين، إني رجل من أهل اليمن من
بنى الحارث بن كعب، وإني أريد أن أسألك فأمر حاجبك ألا يحجبني، فقال:
يا وثاب إذا جاءك هذا الحارثي، فأذن له. قال: فكنت إذا جئت، فقرعت الباب،
قال: من ذا؟ فقلت: الحارثي، فيقول: ادخل، فدخلت يوما فإذا عثمان جالس، وحوله
نفر سكوت لا يتكلمون، كأن على رؤوسهم الطير، فسلمت ثم جلست، فلم أسأله عن
شئ لما رأيت من حالهم وحاله، فبينا أنا كذلك إذ جاء نفر، فقالوا: إنه أبى
أن يجئ، قال: فغضب وقال: أبى أن يجئ! اذهبوا فجيئوا به، فإن أبى
فجروه جرا.
قال: فمكثت قليلا فجاءوا ومعهم رجل آدم طوال أصلع، في مقدم رأسه شعرات،
وفى قفاه شعرات، فقلت: من هذا؟ قالوا: عمار بن ياسر، فقال له عثمان: أنت الذي
تأتيك رسلنا فتأبى أن تجئ! قال فكلمه بشئ لم أدر ما هو، ثم خرج. فما
زالوا

(1) الحقين: اللبن الذي قد حقن في السقاء لتخرج زبدته. والحليب: اللبن المحلوب الذي لم يتغير طعمه.
4

ينفضون من عنده حتى ما بقي غيري فقام، فقلت: والله لا أسأل عن هذا الامر أحدا
أقول حدثني فلان حتى أدرى ما يصنع. فتبعته حتى دخل المسجد، فإذا عمار جالس إلى
سارية، وحوله نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكون، فقال عثمان: يا وثاب
على بالشرط، فجاءوا فقال: فرقوا بين هؤلاء، ففرقوا بينهم.
ثم أقيمت الصلاة، فتقدم عثمان فصلى بهم، فلما كبر قالت امرأة من حجرتها: يا أيها
الناس. ثم تكلمت، وذكرت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما بعثه الله به. ثم قالت:
تركتم أمر الله، وخالفتهم عهده ونحو هذا، ثم صمتت، وتكلمت امرأة أخرى بمثل ذلك،
فإذا هما عائشة وحفصة.
قال: فسلم عثمان، ثم أقبل على الناس، وقال: إن هاتين لفتانتان، يحل لي سبهما،
وأنا بأصلهما عالم.
فقال له سعد بن أبي وقاص: أتقول هذا لحبائب رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال:
وفيم أنت! وما هاهنا! ثم أقبل نحو سعد عامدا ليضربه، فانسل سعد.
فخرج من المسجد، فاتبعه عثمان، فلقى عليا عليه السلام بباب المسجد، فقال له عليه
السلام: أين تريد؟ قال: أريد هذا الذي كذا وكذا - يعنى سعدا يشتمه - فقال له علي عليه
السلام: أيها الرجل، دع عنك هذا. قال فلم يزل بينهما كلام، حتى غضبا، فقال
عثمان: ألست الذي خلفك رسول الله صلى الله عليه وسلم له يوم تبوك! فقال على: ألست
الفار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد.
قال: ثم حجز الناس بينهما. قال: ثم خرجت من المدينة حتى انتهيت إلى
الكوفة، فوجدت أهلها أيضا وقع بينهم شر، ونشبوا في الفتنة، أتيت بلاد قومي.
* * *
5

وروى الزبير بن بكار في كتاب " الموفقيات " عن عمه، عن عيسى بن داود، عن
رجاله، قال: قال ابن عباس رحمه الله: لما بنى عثمان داره بالمدينة، أكثر الناس عليه
في ذلك، فبلغه، فخطبنا في يوم جمعة، ثم صلى بنا، ثم عاد إلى المنبر، فحمد الله وأثنى عليه،
وصلى على رسوله، ثم قال: أما بعد، فإن النعمة إذا حدثت حدث لها حساد حسبها،
وأعداء قدرها، وإن الله لم يحدث لنا نعما ليحدث لها حساد عليها، ومنافسون فيها، ولكنه قد كان من بناء منزلنا هذا، ما كان إرادة جمع المال فيه، وضم القاصية إليه، فأتانا
عن أناس منكم أنهم يقولون: أخذ فيئنا وأنفق شيئنا، واستأثر بأموالنا، يمشون خمرا (1)،
و ينطقون سرا، كأنا غيب عنهم، وكأنهم يهابون مواجهتنا، معرفة منهم بدحوض
حجتهم، فإذ غابوا عنا يروح بعضهم إلى بعض يذكرنا. وقد وجدوا على ذلك أعوانا من
نظرائهم، ومؤازرين من شبهائهم، فبعدا بعدا! ورغما رغما! ثم أنشد بيتين كأنه يومئ
فيهما إلى علي عليه السلام:
توقد بنار أينما كنت واشتعل * فلست ترى مما تعالج شافيا
تشط فيقضى الامر دونك أهله * وشيكا، ولا تدعى إذا كنت نائيا.
ما لي ولفيئكم وأخذ مالكم! ألست من أكثر قريش مالا، وأظهرهم من الله نعمة!
ألم أكن على ذلك قبل الاسلام وبعده! وهبوني بنيت منزلا من بيت المال، أليس هو
لي ولكم! ألم أقم أموركم، وإني من وراء حاجاتكم! فما تفقدون من حقوقكم شيئا،
فلم لا أصنع في الفضل ما أحببت، فلم كنت إماما إذا! ألا وإن من أعجب العجب،
أنه بلغني عنكم أنكم تقولون: لنفعلن به ولنفعلن! فبمن تفعلون، لله آباؤكم! أبنقد
البقاع أم بفقع القاع، ألست أحراكم إن دعا أن يجاب، وأقمنكم إن أمر أن يطاع!.

(1) في المثل: (هو يدب له الضراء، ويمشي له الخمر)، يقال لمن ختل صاحبه.
6

لهفي على بقائي فيكم بعد أصحابي، وحياتي فيكم بعد أترابي يا ليتني تقدمت قبل هذا،
لكني لا أحب خلاف ما أحبه الله لي عز وجل، إذا شئتم فإن الصادق المصدق محمدا
صلى الله عليه وسلم قد حدثني بما هو كائن من أمري وأمركم، وهذا بدء ذلك وأوله،
فكيف الهرب مما حتم وقدر! أما إنه عليه السلام قد بشرني في آخر حديثه بالجنة دونكم،
إذا شئتم فلا أفلح من ندم!
قال: ثم هم بالنزول فبصر بعلي بن أبي طالب عليه السلام ومعه عمار بن ياسر رضي الله عنه
، وناس من أهل هواه يتناجون فقال: إيها إيها! أسرارا لا جهارا! أما والذي نفسي
بيده ما أحنق على جرة، ولا أوتى من ضعف مرة، ولولا النظر لي ولكم، والرفق بي
وبكم لعاجلتكم، فقد اغتررتم وأقلتم من أنفسكم.
ثم رفع يديه يدعو ويقول: اللهم قد تعلم حبى للعافية فألبسنيها، وإيثاري
للسلامة فآتنيها.
قال: فتفرق القوم عن علي عليه السلام، وقام عدى بن الخيار، فقال: أتم الله عليك
يا أمير المؤمنين النعمة، وزادك في الكرامة، والله لان تحسد أفضل من أن تحسد، ولان
تنافس أجل من أن تنافس! أنت والله في حسبنا الصميم، ومنصبنا الكريم، إن دعوت
أجبت، وإن أمرت أطعت، فقل نفعل، وادع تجب، جعلت الخيرة والشورى إلى أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم ليختاروا لهم ولغيرهم، وإنهم ليرون مكانك، ويعرفون مكان
غيرك، فاختاروك منيبين طائعين، غير مكرهين ولا مجبرين، ما غيرت ولا فارقت
ولا بدلت ولا خالفت، فعلام يقدمون عليك، وهذا رأيهم فيك! أنت والله كما
قال الأول:
اذهب إليك فما للحسود * إلا طلابك تحت العثار
7

حكمت فما جرت في خلة * فحكمك بالحق بادي المنار
فإن يسبعوك فسرا وقد * جهرت بسيفك كل الجهار (1)
* * *
قال: ونزل عثمان فأتى منزله، وأتاه الناس وفيهم ابن عباس، فلما أخذوا مجالسهم،
أقبل على ابن عباس، فقال: ما لي ولكم يا بن عباس! ما أغراكم بي، وأولعكم بتعقب
أمري! أتنقمون على أمر العامة! أتيت من وراء حقوقهم، أم أمركم، فقد جعلتهم
يتمنون منزلتكم! لا والله لكن الحسد والبغي وتثوير الشر وإحياء الفتن! والله لقد ألقى
النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، وأخبرني به عن أهله واحدا واحدا، والله ما كذبت
ولا أنا بمكذوب.
فقال ابن عباس: على رسلك يا أمير المؤمنين، فوالله ما عهدتك جهرا بسرك ولا مظهرا
ما في نفسك، فما الذي هيجك وثورك! إنا لم يولعنا بك أمر، ولم نتعقب أمرك بشئ، أتيت
بالكذب، وتسوق عليك بالباطل. والله ما نقمنا عليك لنا ولا للعامة قد أوتيت من وراء حقوقنا
وحقوقهم، وقضيت ما يلزمك لنا ولهم، فأما الحسد والبغي وتثوير الفتن وإحياء الشر
فمتى رضيت به عترة النبي وأهل بيته! وكيف وهم منه وإليه! على دين الله يثورون الشر،
أم على الله يحيون الفتن، كلا ليس البغي ولا الحسد من طباعهم. فاتئد يا أمير المؤمنين
وأبصر أمرك، وأمسك عليك فإن حالتك الأولى خير من حالتك الأخرى! لعمري أن
كنت لأثيرا عند رسول الله، وأن كان ليفضي إليك بسره ما يطويه عن غيرك، ولا كذبت
ولا أنت بمكذوب، إخس الشيطان عنك، ولا ير كبك، وأغلب غضبك ولا يغلبك، فما
دعاك إلى هذا الامر الذي كان منك!

(1) يسبعونك: يشتمونك.
8

قال: دعاني إليه ابن عمك علي بن أبي طالب. فقال ابن عباس: وعسى أن يكذب
مبلغك! قال عثمان: إنه ثقة، قال ابن عباس: إنه ليس بثقة من بلغ وأغرى. قال عثمان:
يا بن عباس، آلله إنك ما تعلم من على ما شكوت منه؟ قال: اللهم لا إلا أن يقول كما يقول
الناس، وينقم كما ينقمون؟ فمن أغراك به وأولعك بذكره دونهم! فقال عثمان: إنما آفتي من
أعظم الداء الذي ينصب نفسه لرأس الامر، وهو على ابن عمك، وهذا والله كله من نكده
وشؤمه. قال ابن عباس: مهلا استثن يا أمير المؤمنين، قل إن شاء الله، فقال: إن شاء الله،
ثم قال: إني أنشدك يا بن عباس الاسلام والرحم فقد والله غلبت وابتليت بكم، والله
لوددت أن هذا الامر كان صار إليكم دوني فحملتموه عنى، وكنت أحد أعوانكم عليه
إذا والله لوجدتموني لكم خيرا مما وجدتكم لي، ولقد علمت أن الامر لكم، ولكن
قومكم دفعوكم عنه واختزلوه دونكم، فوالله ما أدرى أدفعوه عنكم أم دفعوكم عنه!
قال ابن عباس: مهلا يا أمير المؤمنين، فإنا ننشدك الله والاسلام والرحم، مثل
ما نشدتنا أن تطمع فينا وفيك عدوا، وتشمت بنا وبك حسودا! إن أمرك إليك
ما كان قولا، فإذا صار فعلا فليس إليك ولا في يديك. وإنا والله لنخالفن إن خولفنا،
ولننازعن إن نوزعنا، وما تمنيك أن يكون الامر صار إلينا دونك إلا أن يقول قائل منا
ما يقوله الناس ويعيب كما عابوا! فأما صرف قومنا عنا الامر فعن حسد قد والله عرفته،
وبغى قد والله علمته، فالله بيننا وبين قومنا! وأما قولك: إنك لا تدري أدفعوه عنا أم
دفعونا عنه؟ فلعمري إنك لتعرف أنه لو صار إلينا هذا الامر ما زدنا به فضلا إلى فضلنا
ولا قدرا إلى قدرنا وإنا لأهل الفضل وأهل القدر، وما فضل فاضل إلا بفضلنا ولا سبق
سابق إلا بسبقنا، ولولا هدينا ما اهتدى أحد ولا أبصروا من عمى، ولا قصدوا من جور.
فقال عثمان: حتى متى يا بن عباس يأتيني عنكم ما يأتيني! هبوني كنت بعيدا، أما
كان لي من الحق عليكم أن أراقب وأن أناظر! بلى، ورب الكعبة، ولكن الفرقة
9

سهلت لكم القول في وتقدمت بكم إلى الاسراع إلى. والله المستعان.
قال ابن عباس: مهلا، حتى ألقى عليا ثم أحمل إليك على قدر ما رأى. قال عثمان:
افعل فقد فعلت، وطالما طلبت فلا أطلب (1)، ولا أجاب ولا أعتب.
قال ابن عباس: فخرجت فلقيت عليا وإذا به من الغضب والتلظي أضعاف ما بعثمان،
فأردت تسكينه فامتنع، فأتيت منزلي وأغلقت بابي، واعتزلتهما.
فبلغ ذلك عثمان فأرسل إلى، فأتيته وقد هدأ غضبه، فنظر إلى ثم ضحك وقال:
يا بن عباس، ما أبطأ بك عنا! إن تركك العود إلينا لدليل على ما رأيت عند صاحبك،
وعرفت من حاله، فالله بيننا وبينه، خذ بنا في غير ذلك.
قال ابن عباس: فكان عثمان بعد ذلك إذا أتاه عن علي شئ فأردت التكذيب
عنه يقول: ولا يوم الجمعة حين أبطأت عنا وتركت العود إلينا! فلا أدرى كيف أرد عليه.
* * *
وروى الزبير بن بكار أيضا في " الموفقيات " عن ابن عباس رحمه الله، قال: خرجت
من منزلي سحرا أسابق إلى المسجد وأطلب الفضيلة، فسمعت خلفي حسا وكلاما، فتسمعته،
فإذا حس عثمان وهو يدعو ولا يرى أن أحدا يسمعه، ويقول: اللهم قد تعلم نيتي فأعني
عليهم، وتعلم الذين ابتليت بهم من ذوي رحمي وقرابتي، فأصلحني لهم، وأصلحهم لي.
قال: فقصرت من خطوتي وأسرع في مشيته، فالتقينا فسلم فرددت عليه، فقال:
إني خرجت ليلتنا هذه أطلب الفضل والمسابقة إلى المسجد، فقلت: إنه أخرجني
ما أخرجك، فقال: والله لئن سابقت إلى الخير، إنك لمن سابقين مباركين، وإني
لأحبكم وأتقرب إلى الله بحبكم، فقلت: يرحمك الله يا أمير المؤمنين! إنا لنحبك
ونعرف سابقتك وسنك وقرابتك وصهرك. قال: يا بن عباس، فما لي ولابن عمك
وابن خالي! قلت: أي بنى عمومتي وبنى أخوالك؟ قال: اللهم اغفر! أتسأل مسألة الجاهل!

(1) فلا أطلب، أي فلا أجاب إلى طلبي.
10

قلت: إن بنى عمومتي من بنى خؤلتك كثير، فأيهم تعنى؟ قال: أعني عليا لا غيره. فقلت:
لا والله يا أمير المؤمنين ما أعلم منه إلا خيرا ولا أعرف له إلا حسنا. قال: والله بالحري أن
يستر دونك ما يظهره لغيرك، ويقبض عنك ما ينبسط به إلى سواك.
قال: ورمينا بعمار بن ياسر، فسلم فرددت عليه سلامه، ثم قال: من معك؟ قلت:
أمير المؤمنين عثمان، قال: نعم، وسلم بكنيته، ولم يسلم عليه بالخلافة، فرد عليه، ثم قال
عمار: ما الذي كنتم فيه، فقد سمعت ذروا (1) منه؟ قلت: هو ما سمعت، فقال عمار: رب
مظلوم غافل، وظالم متجاهل! قال عثمان: أما إنك من شنائنا وأتباعهم، وأيم الله، إن
اليد عليك لمنبسطة، وإن السبيل إليك لسهلة، ولولا إيثار العافية، ولم الشعث لزجر تك
زجرة تكفى ما مضى، وتمنع ما بقي.
فقال عمار: والله ما أعتذر من حبى عليا، وما اليد بمنبسطة، ولا السبيل بسهلة،
إني لازم حجة، ومقيم على سنة، وأما إيثارك العافية ولم الشعث، فلازم ذلك
وأما زجري فأمسك عنه، فقد كفاك معلمي تعليمي. فقال عثمان: أما والله إنك ما علمت
من أعوان الشر الحاضين عليه، الخذلة عند الخير، والمثبطين عنه. فقال عمار: مهلا
يا عثمان، فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يصفني بغير ذلك، قال عثمان: ومتى؟
قال: يوم دخلت عليه منصرفه عن الجمعة، وليس عنده غيرك، وقد ألقى ثيابه، وقعد في فضله (2) فقبلت صدره ونحره وجبهته، فقال: " يا عمار، إنك
لتحبنا وإنا لنحبك،
وإنك لمن الأعوان على الخير المثبطين عن الشر ". فقال عثمان: أجل ولكنك غيرت
وبدلت. قال: فرفع عمار يده يدعو، وقال: أمن يا بن عباس، اللهم من غير فغير به!
ثلاث مرات.
قال: ودخلنا المسجد، فأهوى عمار إلى مصلاه، ومضيت مع عثمان إلى القبلة،

(1) الذرو: الطرف من القول.
(2) الفضل: الثوب يلبسه الرجل في بيته.
11

فدخل المحراب، وقال: تلبث على إذا انصرفنا، فلما رآني عمار وحدي أتاني، فقال:
أما رأيت ما بلغ بي آنفا! قلت: أما والله لقد أصعبت به وأصعب بك، وأن له لسنه
وفضله وقرابته، قال: إن له لذلك، ولكن لا حق لمن لا حق عليه. وانصرف.
وصلى عثمان وانصرفت معه يتوكأ على، فقال: هل سمعت ما قال عمار؟ قلت: نعم،
فسرني ذلك وساءني، أما مساءته إياي فما بلغ بك، وأما مسرته لي فحلمك واحتمالك.
فقال: إن عليا فارقني منذ أيام على المقاربة وإن عمارا آتيه فقائل له وقائل، فابدره
إليه، فإنك أوثق عنده منه وأصدق قولا، فألق الامر إليه على وجهه، فقلت: نعم.
وانصرفت أريد عليا عليه السلام في المسجد، فإذا هو خارج منه، فلما رآني تفجع
لي من فوت الصلاة، وقال: ما أدركتها! قلت: بلى ولكني خرجت مع أمير المؤمنين،
ثم اقتصصت عليه القصة، فقال: أما والله يا بن عباس، إنه ليقرف قرحة، ليحورن
عليه ألمها (1). فقلت: إن له سنه وسابقته، وقرابته وصهره، قال: إن ذلك له، ولكن
لا حق لمن لا حق عليه.
قال: ثم رهقنا (2) عمار فبش به على، وتبسم في وجهه، وسأله. فقال عمار: يا بن عباس
هل ألقيت إليه ما كنا فيه؟ قلت: نعم، قال: أما والله إذا لقد قلت بلسان عثمان،
ونطقت بهواه! قلت: ما عدوت الحق جهدي، ولا ذلك من فعلى، وإنك لتعلم أي
الحظين أحب إلى، وأي الحقين أوجب على!
قال: فظن على أن عند عمار غير ما ألقيت إليه، فأخذ بيده وترك يدي، فعلمت أنه
يكره مكاني، فتخلفت عنهما، وانشعب بنا الطريق، فسلكاه ولم يدعني، فانطلقت إلى
منزلي، فإذا رسول عثمان يدعوني، فأتيته، فأجد ببابه مروان وسعيد بن العاص.

(1) يقال: قرف القرحة، أي قشرها بعد يبسها، وليحورن: ليرجعن.
(2) رهقنا: غشينا.
12

في رجال من بنى أمية، فأذن لي وألطفني، وقربني وأدنى مجلسي، ثم قال: ما صنعت؟
فأخبرته بالخبر على وجهه وما قال الرجل، وقلت له - وكتمته قوله: " إنه ليقرف قرحة
ليحورن عليه ألمها " - إبقاء عليه، وإجلالا له، وذكرت مجئ عمار، وبش على له،
وظن على أن قبله غير ما ألقيت عليه، وسلوكهما حيث سلكا. قال: وفعلا؟ قلت: نعم،
فاستقبل القبلة، ثم قال: اللهم رب السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، الرحمن
الرحيم، أصلح لي عليا، وأصلحني له! أمن يا بن عباس، فأمنت. ثم تحدثنا طويلا، وفارقته
وأتيت منزلي.
* * *
وروى الزبير بن بكار أيضا في الكتاب المذكور، عن عبد الله بن عباس، قال: ما
سمعت من أبى شيئا قط في أمر عثمان يلومه فيه ولا يعذره، ولا سألته عن شئ من
ذلك مخافة أن أهجم منه على ما لا يوافقه. فإنا عنده ليلة ونحن نتعشى، إذ قيل: هذا
أمير المؤمنين عثمان بالباب، فقال: ائذنوا له، فدخل فأوسع له على فراشه، وأصاب من العشاء
معه، فلما رفع قام من كان هناك، وثبت أنا. فحمد عثمان الله وأثنى عليه، ثم قال:
أما بعد يا خال، فإني قد جئتك أستعذرك من ابن أخيك على، سبني، وشهر أمري،
وقطع رحمي، وطعن في ديني، وإني أعوذ بالله منكم يا بنى عبد المطلب، إن كان لكم
حق تزعمون أنكم غلبتم عليه، فقد تركتموه في يدي من فعل ذلك بكم، وأنا أقرب
إليكم رحما منه؟ وما لمت منكم أحدا إلا عليا، ولقد دعيت أن أبسط عليه، فتركته لله
والرحم، وأنا أخاف ألا يتركني فلا أتركه.
قال ابن عباس: فحمد أبى الله وأنى عليه، ثم قال: أما بعد يا بن أختي، فإن كنت
لا تحمد عليا لنفسك فإني لا أحمدك لعلى، وما على وحده قال فيك، بل غيره، فلو أنك
13

اتهمت نفسك للناس، اتهم الناس أنفسهم لك، ولو أنك نزلت مما رقيت وارتقوا مما نزلوا،
فأخذت منهم وأخذوا منك، ما كان بذلك بأس.
قال عثمان: فذلك إليك يا خال، وأنت بيني وبينهم. قال: أفأذكر لهم ذلك عنك؟
قال: نعم، وانصرف، فما لبثنا أن قيل: هذا أمير المؤمنين قد رجع بالباب، قال أبى:
ائذنوا له، فدخل فقام قائما، ولم يجلس، وقال: لا تعجل يا خال حتى أؤذنك، فنظرنا
فإذا مروان بن الحكم كان جالسا بالباب ينتظره حتى خرج فهو، الذي ثناه عن رأيه الأول،
فأقبل على أبى، وقال يا بنى، ما إلى هذا من أمره شئ، ثم قال: يا بنى، أملك عليك لسانك
حتى ترى ما لا بد منه، ثم رفع يديه، فقال: اللهم أسبق بي ما لا خير لي في إدراكه. فما
مرت جمعة حتى مات رحمه الله.
* * *
وروى أبو العباس المبرد في " الكامل " عن قنبر مولى علي عليه السلام قال، دخلت
مع علي على عثمان، فأحبا الخلوة، فأومأ إلى علي عليه السلام بالتنحي، فتنحيت غير بعيد،
فجعل عثمان يعاتبه وعلى مطرق، فأقبل عليه عثمان، وقال: مالك لا تقول! قال: إن قلت
لم أقل إلا ما تكره، وليس لك عندي إلا ما تحب.
قال أبو العباس: تأويل ذلك: إن قلت اعتددت عليك بمثل ما اعتددت به على،
فلذعك عتابي، وعقدي ألا أفعل - وإن كنت عاتبا - إلا ما تحب (1).
وعندي فيه تأويل آخر، وهو: إني إن قلت واعتذرت فأي شئ حسنته من الاعذار
لم يكن ذلك عندك مصدقا، ولم يكن إلا مكروها غير مقبول، والله تعالى يعلم أنه ليس
لك عندي في باطني وما أطوى عليه جوانحي إلا ما تحب، وإن كنت لا تقبل المعاذير التي
أذكرها، بل تكرهها وتنبو نفسك عنها.
* * *

(1) الكامل 1: 13.
14

وروى الواقدي في كتاب " الشورى " عن ابن عباس رحمه الله، قال: شهدت عتاب
عثمان لعلى عليه السلام يوما، فقال له في بعض ما قاله: نشدتك الله أن تفتح للفرقة بابا!
فلعهدي بك وأنت تطيع عتيقا وابن الخطاب طاعتك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولست
بدون واحد منهما، وأنا أمس بك رحما، وأقرب إليك صهرا، فإن كنت تزعم أن هذا
الامر جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لك، فقد رأيناك حين توفى نازعت ثم أقررت،
فإن كانا لم يركبا من الامر جددا، فكيف أذعنت لهما بالبيعة، وبخعت بالطاعة، وإن
كانا أحسنا فيما وليا، ولم أقصر عنهما في ديني وحسبي وقرابتي، فكن لي كما كنت لهما.
فقال علي عليه السلام: أما الفرقة، فمعاذ الله أن أفتح لها بابا، وأسهل إليها سبيلا،
ولكني أنهاك عما ينهاك الله ورسوله عنه، وأهديك إلى رشدك، وأما عتيق وابن الخطاب
فإن كانا أخذا ما جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لي، فأنت أعلم بذلك والمسلمون، ومالي
ولهذا الامر وقد تركته منذ حين! فأما الا يكون حقي بل المسلمون فيه شرع فقد أصاب
السهم الثغرة (1)، وأما أن يكون حقي دونهم فقد تركته لهم، طبت به نفسا، ونفضت
يدي عنه استصلاحا. وأما التسوية بينك وبينهما، فلست كأحدهما، إنهما وليا هذا الامر،
فظلفا (2) أنفسهما وأهلهما عنه، وعمت فيه وقومك عوم السابح في اللجة، فارجع إلى الله
أبا عمرو، وانظر هل بقي من عمرك إلا كظمء الحمار (3). فحتى متى وإلى متى! ألا تنهى
سفهاء بنى أمية عن أعراض المسلمين وأبشارهم وأموالهم! والله لو ظلم عامل من عمالك حيث
تغرب الشمس لكان إثمه مشتركا بينه وبينك.
قال ابن عباس: فقال عثمان: لك العتبى، وافعل واعزل من عمالي كل من تكرهه

(1) الثغرة: نقرة النحر بين الترقوتين.
(2) ظلفا أنفسهما، أي كفا.
(3) يقال: ما بقي من ظمء الحمار، أي لم يبق من عمره إلا اليسير، لأنه ليس شئ أقصر ظمأ من
الحمار والكلام على المثل.
15

ويكرهه المسلمون، ثم افترقا، فصده مروان بن الحكم عن ذلك، وقال: يجترئ عليك
الناس، فلا تعزل أحدا منهم!
* * *
وروى الزبير بن بكار أيضا في كتابه، عن رجال أسند بعضهم عن بعض، عن علي
بن أبي طالب عليه السلام، قال: أرسل إلى عثمان في الهاجرة (1)، فتقنعت بثوبي،
وأتيته، فدخلت عليه وهو على سريره، وفى يده قضيب، وبين يديه مال دثر (2): صبرتان
من ورق وذهب، فقال: دونك خذ من هذا حتى تملأ بطنك فقد أحرقتني. فقلت: وصلتك رحم! إن كان هذا المال ورثته أو أعطاكه معط، أو اكتسبته من تجارة، كنت
أحد رجلين: إما آخذ وأشكر أو أوفر وأجهد، وإن كان من مال الله وفيه حق
المسلمين واليتيم وابن السبيل، فوالله مالك أن تعطينيه ولا لي أن آخذه. فقال، أبيت
والله إلا ما أبيت. ثم قام إلى بالقضيب فضربني، والله ما أرد يده، حتى قضى حاجته،
فتقنعت بثوبي، ورجعت إلى منزلي، وقلت: الله بيني وبينك إن كنت أمرتك بمعروف
أو نهيت عن منكر!
* * *
وروى الزبير بن بكار، عن الزهري، قال: لما أتى عمر بجوهر كسرى، وضع في
المسجد، فطلعت عليه الشمس فصار كالجمر، فقال لخازن بيت المال: ويحك! أرحني من
هذا، واقسمه بين المسلمين، فإن نفسي تحدثني أنه سيكون في هذا بلاء وفتنة بين الناس
فقال: يا أمير المؤمنين، إن قسمته بين المسلمين لم يسعهم، وليس أحد يشتريه لان ثمنه
عظيم، ولكن ندعه إلى قابل فعسى الله أن يفتح على المسلمين بمال فيشتريه منهم من
يشتريه. قال: ارفعه فأدخله بيت المال، وقتل عمر وهو بحاله، فأخذه عثمان لما ولى
الخلافة فحلى به بناته.

(1) الهاجرة: نصف النهار في القيظ.
(2) الدثر: المال الكثير.
16

قال الزبير: فقال الزهري: كل قد أحسن، عمر حين حرم نفسه وأقاربه، وعثمان حين
وصل أقاربه.
* * *
قال الزبير: وحدثنا محمد بن حرب، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبي
خالد، قال: جاء رجل إلى علي عليه السلام يستشفع به إلى عثمان، فقال: حمال
الخطايا! لا والله لا أعود إليه أبدا. فآيسه منه.
* * *
وروى الزبير أيضا، عن سداد بن عثمان، قال: سمعت عوف بن مالك في أيام عمر،
يقول: يا طاعون خذني، فقلنا له: لم تقول هذا، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: " إن المؤمن لا يزيده طول العمر إلا خيرا "! قال: إني أخاف ستا: خلافة بنى أمية،
وإمارة السفهاء من أحداثهم، والرشوة في الحكم، وسفك الدم الحرام، وكثرة الشرط،
ونشئا ينشأ يتخذون القرآن مزامير.
* * *
وروى الزبير عن أبي غسان، عن عمر بن زياد عن الأسود بن قيس، عن عبيد بن
حارثة، قال: سمعت عثمان وهو يخطب، فأكب الناس حوله، فقال: اجلسوا يا أعداء
الله! فصاح به طلحة: إنهم ليسوا بأعداء الله، لكنهم عباده، وقد قرأوا كتابه.
* * *
وروى الزبير، عن سفيان بن عيينة، عن إسرائيل عن الحسن، قال: شهدت المسجد
يوم جمعة، فخرج عثمان، فقام رجل، فقال: أنشد كتاب الله! فقال عثمان: اجلس،
أما لكتاب الله ناشد غيرك! فجلس، ثم قام آخر فقال مثل مقالته، فقال: اجلس، فأبى
17

أن يجلس، فبعث إلى الشرط ليجلسوه، فقام الناس فحالوا بينهم وبينه، قال: ثم تراموا
بالبطحاء، حتى يقول القائل: ما أكاد أرى أديم السماء من البطحاء.
فنزل عثمان، فدخل داره ولم يصل الجمعة.
* * *
[فصل فيما شجر بين عثمان وابن عباس من الكلام بحضرة علي]
وروى الزبير أيضا في " الموفقيات " عن ابن عباس رحمه الله، قال: صليت العصر
يوما، ثم خرجت فإذا أنا بعثمان بن عفان في أيام خلافته في بعض أزقة المدينة وحده، فأتيته
إجلالا وتوقيرا لمكانه، فقال لي: هل رأيت عليا؟ قلت: خلفته في المسجد، فإن لم يكن
الان فيه فهو في منزله، قال: أما منزله فليس فيه فابغه (1) لنا في المسجد. فتوجهنا إلى المسجد،
وإذا علي عليه السلام يخرج منه. قال ابن عباس: وقد كنت أمس ذلك اليوم عند على
فذكر عثمان وتجرمه عليه، وقال: أما والله يا بن عباس إن من دوائه لقطع كلامه، وترك
لقائه. فقلت له: يرحمك الله! كيف لك بهذا! فإن تركته ثم أرسل إليك فما أنت
صانع؟ قال: أعتل، وأعتل، فمن يقسرني (2)! قال: لا أحد.
قال ابن عباس: فلما تراءينا له وهو خارج من المسجد، ظهر منه من التفلت والطلب
للانصراف ما استبان لعثمان، فنظر إلى عثمان، وقال: يا بن عباس، أما ترى ابن خالنا
يكره لقاءنا فقلت: ولم وحقك ألزم، وهو بالفضل أعلم. فلما تقاربا رماه عثمان بالسلام،
فرد عليه، فقال عثمان: إن تدخل فإياك أردنا، وإن تمض فإياك طلبنا. فقال على: أي
ذلك أحببت؟ قال: تدخل، فدخلا وأخذ عثمان بيده، فأهوى به إلى القبلة، فقصر عنها،
وجلس قبالتها، فجلس عثمان إلى جانبه، فنكصت عنهما، فدعواني جميعا، فأتيتهما،
فحمد عثمان الله، وأثنى عليه، وصلى على رسوله، ثم قال: أما بعد يا بنى خالي وابني

(1) ابغه: اطلبه.
(2) كذا في د، وفى ب: " يضرني ".
18

عمى، فإذ جمعتكما في النداء فأستجمعكما في الشكاية عن رضاي على أحدكما، ووجدي
على الاخر. إني أستعذركما من أنفسكما، وأسألكما فيئتكما، وأستوهبكما رجعتكما، فوالله
لو غالبني الناس ما انتصرت إلا بكما، ولو تهضموني ما تعززت إلا بعزكما، ولقد طال هذا
الامر بيننا حتى تخوفت أن يجوز قدره، ويعظم الخطر فيه، ولقد هاجني العدو عليكما،
وأغراني بكما، فمنعني الله والرحم مما أراد، وقد خلونا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وإلى جانب قبره، وقد أحببت أن تظهر إلى رأيكما في، وما تنطويان لي عليه وتصدقا،
فإن الصدق أنجى وأسلم، واستغفر الله لي ولكما.
قال ابن عباس: فأطرق علي عليه السلام، وأطرقت معه طويلا، أما أنا فأجللته
أن أتكلم قبله، وأما هو فأراد أن أجيب عنى وعنه. ثم قلت له: أتتكلم أم أتكلم
أنا عنك؟ قال: بل تكلم عنى وعنك. فحمدت الله، وأثنيت عليه، وصليت على رسوله،
ثم قلت: أما بعد يا بن عمنا وعمتنا، فقد سمعنا كلامك لنا، وخلطك في الشكاية بيننا
على رضاك - زعمت - عن أحدنا ووجدك على الاخر، وسنفعل في ذلك، فنذمك ونحمدك،
اقتداء منك بفعلك فينا، فإنا نذم مثل تهمتك إيانا على ما اتهمتنا عليه بلا ثقة إلا ظنا،
ونحمد منك غير ذلك من مخالفتك عشيرتك، ثم نستعذرك من نفسك استعذارك إيانا من
أنفسنا، ونستوهبك فيئتك استيهابك إيانا فيئتنا، ونسألك رجعتك مسألتك إيانا رجعتنا،
فإنا معا أيما حمدت وذممت منا، كمثلك في أمر نفسك، ليس بيننا فرق ولا اختلاف،
بل كلانا شريك صاحبه في رأيه وقوله. فوالله ما تعلمنا غير معذرين فيما بيننا وبينك،
ولا تعرفنا غير قانتين عليك، ولا تجدنا غير راجعين إليك، فنحن نسألك من نفسك
مثل ما سألتنا من أنفسنا. وأما قولك: لو غالبتني الناس ما انتصرت إلا بكما، أو تهضموني
ما تعززت إلا بعزكما، فأين بنا وبك عن ذلك، ونحن وأنت كما قال أخو كنانة:
19

بدا بحتر ما رام نال وإن يرم * يخض دونه غمرا من الغر رائمه
لنا ولهم منا ومنهم على العدى * مراتب عز مصعدات سلالمه
وأما قولك في هيج العدو إياك علينا، وإغرائه لك بنا، فوالله ما أتاك العدو من ذلك
شيئا إلا وقد أتانا بأعظم منه، فمنعنا مما أراد ما منعك من مراقبة الله والرحم، وما أبقيت
أنت ونحن إلا على أدياننا وأعراضنا ومروءاتنا، ولقد لعمري طال بنا وبك هذا الامر حتى
تخوفنا منه على أنفسنا، وراقبنا منه ما راقبت.
وأما مساءلتك إيانا عن رأينا فيك، وما ننطوي عليه لك، فإنا نخبرك أن ذلك إلى
ما تحب، لا يعلم واحد منا من صاحبه إلا ذلك، ولا يقبل منه غيره، وكلانا ضامن على صاحبه
ذلك وكفيل به، وقد برأت أحدنا وزكيته، وأنطقت الاخر وأسكته، وليس السقيم
منا مما كرهت بأنطق من البرئ فيما ذكرت، ولا البرئ منا مما سخطت بأظهر من السقيم
فيما وصفت، فإما جمعتنا في الرضا، وإما جمعتنا في السخط، لنجازيك بمثل ما تفعل بنا في ذلك،
مكايلة الصاع بالصاع، فقد أعلمناك رأينا، وأظهرنا لك ذات أنفسنا، وصدقناك، والصدق
كما ذكرت أنجى وأسلم، فأجب إلى ما دعوت إليه، وأجلل عن النقض والغدر مسجد
رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضع قبره، واصدق تنج وتسلم، ونستغفر الله لنا ولك.
قال ابن عباس: فنظر إلى علي عليه السلام نظر هيبة، وقال: دعه حتى يبلغ رضاه
فيما هو فيه، فوالله لو ظهرت له قلوبنا، وبدت له سرائرنا، حتى رآها بعينه كما يسمع الخبر
عنها بأذنه، ما زال متجرما منتقما، والله ما أنا ملقى على وضمة (1)، وإني لمانع ما وراء ظهري،
وإن هذا الكلام لمخالفة منه وسوء عشرة.
فقال عثمان: مهلا أبا حسن! فوالله إنك لتعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفني

(1) الوضم في الأصل: خشبة الجزار يقطع عليها اللحم، وفى المثل: " تركهم لحما على وضم "، أي
أوقع بهم فأوجعهم.
20

بغير ذلك يوم يقول وأنت عنده: " - ن من أصحابي لقوما سالمين لهم، وإن عثمان لمنهم، إنه
لأحسنهم بهم ظنا، وأنصحهم لهم حبا ". فقال علي عليه السلام: فتصدق قوله صلى الله
عليه وسلم بفعلك. وخالف ما أنت الان عليه، فقد قيل لك ما سمعت وهو كاف إن قبلت.
قال عثمان: تثق يا أبا الحسن! قال: نعم أثق ولا أظنك فاعلا، قال عثمان: قد وثقت
وأنت ممن لا يخفر صاحبه، ولا يكذب لقيله.
قال ابن عباس: فأخذت بأيديهما، حتى تصافحا وتصالحا وتمازحا، ونهضت عنهما،
فتشاورا وتآمرا وتذاكرا، ثم افترقا، فوالله ما مرت ثالثة حتى لقيني كل واحد منهما يذكر
من صاحبه مالا تبرك عليه الإبل. فعلمت أن لا سبيل إلى صلحهما بعدها.
* * *
وروى أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب " أخبار السقيفة " عن محمد بن قيس
الأسدي، عن المعروف بن سويد، قال: كنت بالمدينة أيام بويع عثمان، فرأيت رجلا في المسجد
جالسا، وهو يصفن (1) بإحدى يديه على الأخرى، والناس حوله، ويقول: واعجبا من قريش
واستئثارهم بهذا الامر على أهل هذا البيت، معدن الفضل، ونجوم الأرض، ونور البلاد!
والله إن فيهم لرجلا ما رأيت رجلا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى منه بالحق،
ولا أقضى بالعدل، ولا آمر بالمعروف، ولا أنهى عن المنكر، فسألت عنه فقيل: هذا المقداد،
فتقدمت إليه، وقلت: أصلحك الله! من الرجل الذي تذكر؟ فقال: ابن عم نبيك رسول
الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب!
قال: فلبثت ما شاء الله. ثم إني لقيت أبا ذر رحمه الله، فحدثته ما قال المقداد، فقال: صدق،
قلت: فما يمنعكم أن تجعلوا هذا الامر فيهم! قال: أبى ذلك قومهم، قلت: فما يمنعكم أن
تعينوهم! قال: مه لا تقل هذا، إياكم والفرقة والاختلاف!

(1) يصفن: يضرب.
21

قال: فسكت عنه، ثم كان من الامر بعد ما كان.
* * *
وذكر شيخنا أبو عثمان الجاحظ في الكتاب الذي أورد فيه المعاذير عن أحداث عثمان
أن عليا اشتكى، فعاده عثمان من شكايته، فقال علي عليه السلام:
وعائدة تعود لغير ود * تود لو أن ذا دنف يموت.
فقال عثمان: والله ما أدرى أحياتك أحب إلى أم موتك! إن مت هاضني فقدك،
وإن حييت فتنتني حياتك، لا أعدم ما بقيت طاعنا يتخذك رديئة يلجأ إليها.
فقال علي عليه السلام: ما الذي جعلني رديئة للطاعنين العائبين! إنما سوء ظنك بي
أحلني من قلبك هذا المحل، فإن كنت تخاف جانبي فلك على عهد الله وميثاقه أن لا بأس
عليك منى، ما بل بحر صوفه، وإني لك لراع، وإني منك لمحام، ولكن لا ينفعني
ذلك عندك. وأما قولك: " إن فقدي يهيضك "، فكلا أن تهاض لفقدي ما بقي لك
الوليد ومروان.
فقام عثمان فخرج.
وقد روى أن عثمان هو الذي أنشد هذا البيت، وقد كان اشتكى، فعاده علي عليه السلام
فقال عثمان:
وعائدة تعود بغير نصح * تود لو أن ذا دنف يموت.
* * *
وروى أبو سعد (1) الآبي في كتابه عن ابن عباس، قال: وقع بين عثمان وعلى

(1) هو أبو سعد زين الكفاة منصور بن الحسين الآبي، وزير مجد الدولة رستم بن فخر الدولة بن
ركن الدولة بن بويه، صاحب كتاب نثر الدرر في المحاضرات.
22

عليه السلام كلام، فقال عثمان: ما أصنع إن كانت قريش لا تحبكم، وقد قتلتم منهم يوم بدر
سبعين، كأن وجوههم شنوف الذهب، تصرع أنفهم قبل شفاههم!
وروى المذكور أيضا أن عثمان لما نقم الناس عليه ما نقموا، قام متوكئا على مروان
فخطب الناس، فقال: إن لكل أمة آفة، ولكل نعمة عاهة، وإن آفة هذه الأمة، وعاهة
هذه النعمة قوم عيابون طعانون، يظهرون لكم ما تحبون، ويسرون ما تكرهون، طغام
مثل النعام، يتبعون أول ناعق، ولقد نقموا على ما نقموا على عمر مثله، فقمعهم ووقمهم (1)
وإني لأقرب ناصرا وأعز نفرا، فما لي لا أفعل في فضول (3) الأموال ما أشاء!
وروى المذكور أيضا أن عليا عليه السلام اشتكى فعاده عثمان، فقال: ما أراك أصبحت
إلا ثقيلا! قال: أجل، قال: والله ما أدرى أموتك أحب إلى أم حياتك! إني لأحب
موتك، وأكره أن أعيش بعدك، فلو شئت جعلت لنا من نفسك مخرجا، إما صديقا مسالما
وإما عدوا مغالبا، وإنك لكما قال أخو إياد:
(3).
جرت لما بيننا حبل الشموس * فلا يأسا مبينا نرى منها ولا طمعا
فقال علي عليه السلام: ليس لك عندي ما تخافه، وإن أجبتك لم أجبك إلا بما تكرهه.
وكتب عثمان إلى علي عليه السلام حين أحيط به، أما بعد: فقد جاوز الماء الزبى،
وبلغ الحزام الطبيين، وتجاوز الامر في قدره، فطمع في من لا يدفع عن نفسه.

(1) وقمهم: أذلهم.
(2) فضول الأموال: الزائدة عن الحاجة.
(3) هو لقيط بن يعمر الأيادي.
(4) من قصيدة ينذر بها قومه غزو كسرى. إياهم، وأولها:
يا دار عمرة من محتلها الجرعا * هاجت لي الهم والأحزان والوجعا
في مختارات ابن الشجري - 6.
23

فإن كنت ماء كولا فكن خير آكل * وإلا فأدركني ولما أمزق (1).
* * *
وروى الزبير خبر العيادة على وجه آخر قال: مرض علي عليه السلام، فعاده عثمان
ومعه مروان بن الحكم، فجعل عثمان يسأل عليا عن حاله، وعلى ساكت لا يجيبه، فقال
عثمان: لقد أصبحت يا أبا الحسن منى بمنزلة الولد العاق لأبيه! إن عاش عقه، وإن مات
فجعه، فلو جعلت لنا من أمرك فرجا، إما عدوا أو صديقا، ولم تجعلنا بين السماء والماء. أما والله
لأنا خير لك من فلان وفلان، وإن قتلت لا تجد مثلي، فقال مروان: أما والله لا يرام ما وراءنا
حتى تتواصل سيوفنا، وتقطع أرحامنا.
فالتفت إليه عثمان، وقال: اسكت لأسكت! وما يدخلك فيما بيننا!
* * *
وروى شيخنا أبو عثمان الجاحظ، عن زيد بن أرقم، قال: سمعت عثمان وهو يقول لعلى
عليه السلام: أنكرت على استعمال معاوية، وأنت تعلم أن عمرا استعمله " قال علي عليه السلام:
نشدتك الله " ألا تعلم أن معاوية كان أطوع لعمر من يرفأ غلامه! إن عمر كان إذا استعمل
عاملا وطئ على صماخه، وإن القوم ركبوك وغلبوك واستبدوا بالامر دونك.
فسكت عثمان.
* * *
[أسباب المنافسة بين على وعثمان]
قلت: حدثني جعفر بن مكي الحاجب رحمه الله، قال: سألت محمد بن سليمان حاجب
الحجاب، - وقد رأيت أنا محمدا هذا، وكانت لي به معرفة غير مستحكمة، وكان ظريفا

(1) البيت للممزق العبدي، والخبر في الكامل 1: 17.
24

أديبا، وقد اشتغل بالرياضيات من الفلسفة، ولم يكن يتعصب لمذهب بعينه - قال جعفر: سألت عما عنده في أمر على وعثمان، فقال: هذه عداوة قديمة النسب بين عبد شمس وبين
بني هاشم، وقد كان حرب بن أمية نافر عبد المطلب بن هاشم، وكان أبو سفيان يحسد محمدا
صلى الله عليه وآله وحاربه، ولم تزل الثنتان متباغضتين وإن جمعتهما المنافية. ثم إن رسول
الله صلى الله عليه وآله زوج عليا بابنته، وزوج عثمان بابنته الأخرى، وكان اختصاص رسول
الله صلى الله عليه وآله لفاطمة أكثر من اختصاصه للبنت الأخرى، وللثانية التي تزوجها
عثمان بعد وفاة الأولى، واختصاصه أيضا لعلى وزيادة قربه منه وامتزاجه به واستخلاصه
إياه لنفسه، أكثر وأعظم من اختصاصه لعثمان. فنفس عثمان ذلك عليه، فتباعد ما بين قلبيهما
وزاد في التباعد ما عساه يكون بين الأختين من مباغضة أو مشاجرة أو كلام ينقل من إحداهما
إلى الأخرى، فيتكدر قلبها على أختها، ويكون ذلك التكدير سببا لتكدير ما بين
البعلين أيضا، كما نشاهده في عصرنا وفى غيره من الاعصار، وقد قيل: ما قطع من الأخوين
كالزوجين. ثم اتفق أن عليا عليه السلام قتل جماعة كثيرة من بنى عبد شمس في حروب
رسول الله صلى الله عليه وآله، فتأكد الشنآن، وإذا استوحش الانسان من صاحبه
استوحش صاحبه منه. ثم مات رسول الله صلى الله عليه وآله، فصبا إلى علي جماعة يسيرة لم
يكن عثمان منهم، ولا حضر في دار فاطمة مع من حضر من المخلفين عن البيعة، وكانت في
نفس علي عليه السام أمور من الخلافة لم يمكنه إظهارها في أيام أبى بكر وعمر، لقوة
عمر وشدته، وانبساط يده ولسانه، فلما قتل عمر وجعل الامر شورى بين الستة، وعدل
عبد الرحمن بها عن علي إلى عثمان، لم يملك على نفسه، فأظهر ما كان كامنا،
وأبدى ما كان مستورا، ولم يزل الامر يتزايد بينهما، حتى شرف وتفاقم، ومع ذلك فلم
يكن علي عليه السلام لينكر من أره إلا منكرا، ولا ينهاه إلا كما تقتضي الشريعة نهيه
عنه، وكان عثمان مستضعفا في نفسه، رخوا قليل الحزم، واهي العقدة، وسلم عنانه إلى
25

مروان يصرفه كيف شاء، فالخلافة له في المعنى، ولعثمان في الاسم، فلما انتقض على عثمان
أمره، استصرخ عليا ولاذ به، وألقى زمام أمره إليه، فدافع عنه حيث لا ينفع الدفاع،
وذب عنه حين لا يغنى الذب، فقد كان الامر فسد فسادا لا يرجى صلاحه.
قال جعفر: فقلت له: أتقول إن عليا وجد من خلافة عثمان أعظم مما وجده من خلافة
أبى بكر وعمر؟ فقال: كيف يكون ذلك، وهو فرع لهما، ولولا هما لم يصل إلى الخلافة،
ولا كان عثمان ممن يطمع فيها من قبل، ولا يخطر له ببال، ولكن هاهنا أمر يقتضى في
عثمان زيادة المنافسة، وهو اجتماعهما في النسب، وكونهما من بنى عبد مناف، والانسان
ينافس ابن عمه الأدنى أكثر من منافسة الأبعد، ويهون عليه من الأبعد مالا يهون عليه
من الأقرب.
قال جعفر: فقلت له: أفتقول: لو أن عثمان خلع ولم يقتل، أكان الامر يستقيم
لعلى عليه السلام إذا بويع بعد خلعه؟ فقال: لا، وكيف يتوهم ذلك بل يكون انتقاض
الأمور عليه وعثمان حي مخلوع أكثر من انتفاضها عليه بعد قتله، لأنه موجود يرجى
ويتوقع عوده، فإن كان محبوسا عظم البلاء والخطب، وهتف الناس باسمه في كل يوم،
بل في كل ساعة، وإن كان مخلى سربه، وممكنا من نفسه، وغير محول بينه وبين اختياره،
لجأ إلى بعض الأطراف، وذكر أنه مظلوم غصبت خلافته، وقهر على خلع نفسه، فكان
اجتماع الناس عليه أعظم، والفتنة به أشد وأغلظ.
قال جعفر: فقلت له: فما تقول في هذا الاختلاف الواقع في أمر الإمامة من مبدأ
الحال، وما الذي تظنه أصله ومنبعه؟ فقال: لا أعلم لهذا أصلا إلا أمرين: أحدهما أن رسول
الله صلى الله عليه وآله أهمل أمر الإمامة فلم يصرح فيه بأحد بعينه، وإنما كان هناك رمز
وإيماء، وكناية وتعريض، لو أراد صاحبه أن يحتج به وقت الاختلاف وحال المنازعة
26

لم يقم منه صورة حجة تغنى، ولا دلالة تحسب وتكفي، ولذلك لم يحتج علي عليه السلام
يوم السقيفة بما ورد فيه، لأنه لم يكن نصا جليا يقطع العذر، ويوجب الحجة، وعادة الملوك
إذا تمهد ملكهم، وأرادوا العقد لولد من أولادهم، أو ثقة من ثقاتهم، أن يصرحوا
بذكره، ويخطبوا باسمه على أعناق المنابر، وبين فواصل الخطب، ويكتبوا بذلك إلى
الآفاق البعيدة عنهم، والأقطار النائية منهم، ومن كان منهم ذا سرير وحصن ومدن
كثيرة، ضرب اسمه على صفحات الدنانير والدراهم مع اسم ذلك الملك، بحيث تزول الشبهة
في أمره، ويسقط الارتياب بحاله، فليس أمر الخلافة بهين ولا صغير ليترك حتى يصير
في مظنة الاشتباه واللبس، ولعله كان لرسول الله صلى الله عليه وآله في ذلك عذر لا نعلمه
نحن، إما خشية من فساد الامر أو إرجاف المنافقين، وقولهم: إنها ليس بنبوة وإنما هي
ملك به أوصى لذريته وسلالته، ولما لم يكن أحد من تلك الذرية في تلك الحال
صالحا للقيام بالامر لصغر السن، جعله لأبيهم، ليكون في الحقيقة لزوجته التي هي ابنته
ولأولاده منها من بعده.
وأما ما تقوله المعتزلة وغيرهم من أهل العدل: إن الله تعالى علم أن المكلفين يكونون
على ترك الامر مهملا غير معين أقرب إلى فعل الواجب وتجنب القبيح. قال: ولعل رسول
الله صلى الله عليه وآله لم يكن يعلم في مرضه أنه يموت في ذلك المرض، وكان يرجو البقاء
فيمهد للإمامة قاعدة واضحة، ومما يدل على ذلك أنه لما نوزع في إحضار الدواة والكتف
ليكتب لهم مالا يضلون بعده، غضب وقال: اخرجوا عنى، لم يجمعهم بعد الغضب ثانية
و يعرفهم رشدهم، ويهديهم إلى مصالحهم، بل أرجأ الامر إرجاء من يرتقب الإفاقة
و ينتظر العافية.
قال: فبتلك الأقوال المحجمة، والكنايات المحتملة، والرموز المشتبهة مثل حديث
27

خصف النعل، ومنزلة هارون من موسى، ومن كنت مولاه، وهذا يعسوب الدين،
ولا فتى إلا على، وأحب خلقك إليك، وما جرى هذا المجرى، مما لا يفصل الامر،
ويقطع العذر ويسكت الخصم، ويفحم المنازع، وثبت الأنصار فادعتها، ووثب بنو هاشم
فادعوها، وقال أبو بكر: بايعوا عمر أو أبا عبيدة، وقال العباس لعلى: امدد يدك لأبايعك،
وقال قوم ممن رعف به الدهر فيما بعد، ولم يكن موجودا حينئذ: إن الامر كان للعباس لأنه
العم الوارث، وإن أبا بكر وعمر غصباه حقه، فهذا أحدهما.
وأما السبب الثاني للاختلاف، فهو جعل عمر الامر شورى في الستة، ولم ينص على
واحد بعينه، إما منهم أو من غيرهم، فبقي في نفس كل واحد منهم أنه قد رشح للخلافة
وأهل للملك والسلطنة فلم يزل ذلك في نفوسهم وأذهانهم مصورا بين أعينهم، مرتسما
في خيالاتهم، منازعة إليه نفوسهم، طامحة نحوه عيونهم، حتى كان من الشقاق بين على
وعثمان ما كان، وحتى أفضى الامر إلى قتل عثمان.
وكان أعظم الأسباب في قتله طلحة،
وكان لا يشك أن الامر له من بعده لوجوه: منها سابقته، ومنها أنه ابن عم لأبي بكر،
وكان لأبي بكر في نفوس أهل ذلك العصر منزلة عظيمة، أعظم منها الان. ومنها أنه كان
سمحا جوادا، وقد كان نازع عمر في حياة أبى بكر، وأحب أن يفوض أبو بكر الامر إليه
من بعده، فما زال يفتل في الذروة والغارب في أمر عثمان، وينكر له القلوب، و يكدر
عليه النفوس، ويغري أهل المدينة والاعراب وأهل الأمصار به. وساعده الزبير، وكان
أيضا يرجو الامر لنفسه، ولم يكن رجاؤهما الامر بدون رجاء على، بل رجاؤهما كان أقوى لان عليا دحضه الأولان، وأسقطاه، وكسر ناموسه بين الناس، فصار نسيا
منسيا، ومات الأكثر ممن يعرف خصائصه التي كانت في أيام النبوة وفضله، ونشأ
قوم لا يعرفونه ولا يرونه إلا رجلا من عرض المسلمين، ولم يبق له مما يمت به إلا أنه ابن
عم الرسول، وزوج ابنته، وأبو سبطيه، ونسي ما وراء ذلك كله، واتفق له من بغض
28

قريش وانحرافها ما لم يتفق لأحد، وكانت قريش بمقدار ذلك البغض، تحب طلحة والزبير،
لان الأسباب الموجبة لبغضهم له لم تكن موجودة فيهما، وكانا يتألفان قريشا في أواخر
أيام عثمان، ويعدانهم بالعطاء والإفضال، وهما عند أنفسهما وعند الناس خليفتان بالقوة
لا بالفعل، لان عمر نص عليهما وارتضاهما للخلافة، وعمر متبع القول ومرضى الفعال،
موفق مؤيد مطاع، نافذ الحكم في حياته وبعد وفاته، فلما قتل عثمان، أرادها طلحة،
وحرص عليها، فلولا الأشتر وقوم معه من شجعان العرب جعلوها في علي لم تصل إليه أبدا،
فلما فاتت طلحة والزبير، فتقا ذلك الفتق العظيم على على، وأخرجا أم المؤمنين معهما، وقصدا
العراق، وأثارا الفتنة، وكان من حرب الجمل ما قد علم وعرف، ثم كانت حرب الجمل
مقدمة وتمهيدا لحرب صفين، فإن معاوية لم يكن ليفعل ما فعل، لولا طمعه بما جرى في
البصرة، ثم أوهم أهل الشام أن عليا قد فسق بمحاربة أم المؤمنين، ومحاربة المسلمين،
وأنه قتل طلحة والزبير، وهما من أهل الجنة، ومن يقتل مؤمنا من أهل الجنة فهو من
أهل النار، فهل كان الفساد المتولد في صفين إلا فرعا للفساد الكائن يوم الجمل! ثم نشأ
من فساد صفين وضلال معاوية كل ما جرى من الفساد والقبيح في أيام بنى أمية، ونشأت
فتنة ابن الزبير فرعا من فروع يوم الدار، لان عبد الله كان يقول: إن عثمان لما أيقن بالقتل
نص على بالخلافة، ولى بذلك شهود، ومنهم مروان بن الحكم. أفلا ترى كيف تسلسلت هذه
الأمور فرعا على أصل، وغصنا من شجرة، وجذوة من ضرام! هكذا يدور بعضه على
بعض، وكله من الشورى في الستة.
قال: وأعجب من ذلك قول عمر وقد قيل له: إنك استعملت يزيد بن أبي سفيان وسعيد بن
العاص ومعاوية وفلانا وفلانا من المؤلفة قلوبهم من الطلقاء وأبناء الطلقاء، وتركت أن
تستعمل عليا والعباس والزبير وطلحة! فقال: أما على فأنبه من ذلك، وأما هؤلاء النفر
29

من قريش، فإني أخاف أن ينتشروا في البلاد، فيكثروا فيها الفساد، فمن يخاف من
تأميرهم لئلا يطمعوا في الملك، ويدعيه كل واحد منهم لنفسه، كيف لم يخف من جعلهم
ستة متساوين في الشورى، مرشحين للخلافة! وهل شئ أقرب إلى الفساد من هذا! وقد
روى أن الرشيد رأى يوما محمدا وعبد الله ابنيه يلعبان ويضحكان، فسر بذلك، فلما غابا
عن عينه بكى، فقال له الفضل بن الربيع: ما يبكيك يا أمير المؤمنين، وهذا مقام جذل
لا مقام حزن؟ فقال: أما رأيت لعبهما ومودة بينهما؟ أما والله ليتبدلن ذلك بغضا وشنفا (1)،
وليختلسن كل واحد منهما نفس صاحبه عن قريب، فإن الملك عقيم، وكان الرشيد قد
عقد الامر لهما على ترتيب، هذا بعد هذا، فكيف من لم يرتبوا في الخلافة، بل جعلوا
فيها كأسنان المشط!
فقلت أنا لجعفر: هذا كله تحكيه عن محمد بن سليمان، فما تقول أنت؟ فقال:
إذا قالت حذام فصدقوها * فإن القول ما قالت حذام (2)

(1) الشنف: الكره.
(2) قبله:
فلولا المزعجات من الليالي * لما ترك القطا طيب المنام
نسبهما صاحب اللسان (في رقش) للجيم بن صعب.
30

(136)
الأصل:
ومن كلام له عليه السلام:
لم تكن بيعتكم إياي فلتة، وليس أمري وأمركم واحدا، إني أريدكم لله
وأنتم تريدونني لأنفسكم.
أيها الناس أعينوني على أنفسكم، وأيم الله لأنصفن المظلوم من ظالمه،
ولأقودن الظالم بخزامته، حتى أورده منهل الحق وإن كان كارها.
* * *
الشرح:
الفلتة: الامر يقع عن غير تدبر ولا روية، وفى الكلام تعريض ببيعة أبى بكر، وقد تقدم
لنا في معنى قول عمر: " كانت بيعة أبى بكر فلتة وقى الله شرها " كلام.
والخزامة: حلقة من شعر تجعل في أنف البعير، ويجعل الزمام فيها.
وأعينوني على أنفسكم: خذوها بالعدل، واقمعوها عن اتباع الهوى، واردعوها بعقولكم
عن المسالك التي ترديها وتوبقها، فإنكم إذا فعلتم ذلك أعنتموني عليها، لأني أعظكم
وآمركم بالمعروف، وأنهاكم عن المنكر، فإذا كبحتم أنفسكم بلجام العقل الداعي إلى ما أدعو
إليه، فقد أعنتموني عليها.
فإن قلت: ما معنى قوله: " أريدكم لله وتريدونني لأنفسكم "؟
31

قلت: لأنه لا يريد من طاعتهم له إلا نصرة دين الله والقيام بحدوده وحقوقه، ولا يريدهم
لحظ نفسه، وأما هم فإنهم يريدونه لحظوظ أنفسهم من العطاء والتقريب، والأسباب
الموصلة إلى منافع الدنيا.
وهذا الخطاب منه عليه السلام لجمهور أصحابه، فأما الخواص منهم فإنهم كانوا يريدونه
لأمر الذي يريدهم له من إقامة شرائع الدين وإحياء معالمه.
32

(137)
الأصل:
ومن كلام له عليه السلام في شأن طلحة والزبير:
والله ما أنكروا على منكرا، ولا جعلوا بيني وبينهم نصفا، وإنهم ليطلبون
حقا هم تركوه، ودما هم سفكوه، فإن كنت شريكهم فيه، فإن لهم نصيبهم
منه، وإن كانوا ولوه دوني فما الطلبة إلا قبلهم. وإن أول عدلهم للحكم على
أنفسهم، وإن معي لبصيرتي، ما لبست ولا لبس (1) على.
وإنها للفئة الباغية فيها الحما والحمة، والشبهة المغدفة. وإن الامر لواضح،
وقد زاح الباطل عن نصابه، وانقطع لسانه عن شغبه، وأيم الله لأفرطن لهم حوضا
أنا ماتحه، لا يصدرون عنه بري، ولا يعبون بعده في حسي.
* * *
الشرح:
النصف: الانصاف، قال الفرزدق:
ولكن نصفا لو سببت وسبني * بنو عبد شمس من قريش وهاشم (2)
وهو على حذف المضاف، أي ذا نصف، أي حكما منصفا عادلا يحكم بيني وبينهم.
والطلبة: بكسر اللام: ما طلبته من شئ. ولبست على فلان الامر، ولبس عليه
الامر، كلاهما بالتخفيف.

(1) مخطوطة النهج بتشديد الباء.
(2) اللسان 11: 246.
33

والحمأ: الطين الأسود، قال سبحانه: (من صلصال من حما مسنون) (1).
وحمة العقرب: سمها، أي في هذه الفئة الباغية الضلال والفساد والضرر ة وإذا أرادت
العرب أن تعبر عن الضلال والفساد قالت: الحمأ، مثله الحمأة بالتاء، ومن أمثالهم: " ثأطة
مدت بماء (2)، يضرب للرجل يشتد موقه وجهله، والثأطة: الحمأة، وإذا أصابها الماء
ازدادت فسادا ورطوبة.
ويروى فيها: " الحما " بألف مقصورة. وهو كناية عن الزبير، لان كل ما كان بسبب
الرجل فهم الأحماء، واحدهم " حما " مثل قفا وأقفاء، وما كان بسبب المرأة فهم الا خاتن،
فأما الأصهار فيجمع الجهتين جمعا. وكان الزبير ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وآله،
وقد كان النبي صلى الله عليه وآله أعلم عليا بأن فئة من المسلمين تبغى عليه أيام خلافته،
فيها بعض زوجاته وبعض أحمائه، فكنى علي عليه السلام عن الزوجة بالحمة وهي سم
العقرب، ويروى: " والحمء " يضرب مثلا لغير الطيب ولغير الصافي، وظهر أن الحمء الذي
أخبر النبي صلى الله عليه وآله بخروجه مع هؤلاء البغاة هو الزبير ابن عمته. وفى الحما أربع
لغات: حما مثل قفا، وحمء مثل كمء، وحمو مثل " أبو "، وحم مثل أب.
قوله عليه السلام: " والشبهة المغدفة " أي الخفية، وأصله المرأة تغدف وجهها بقناعها
أي تستره. وروى: " المغدفة " (3) بكسر الدال، من أغدف الليل، أي أظلم.
وزاح الباطل، أي بعد وذهب، وأزاحه غيره.
وعن نصابه: عن مركزه ومقره، ومنه قول بعض المحدثين:
قد رجع الحق إلى نصابه * وأنت من دون الورى أولى به
والشغب، بالتسكين: تهييج الشر، شغب الحقد بالفتح شغبا، وقد جاء بالتحريك في
لغة ضعيفة، وماضيها شغب، بالكسر.

(1) سورة الحجر 26.
(2) مجمع الأمثال للميدني 1: 153.
(3) هي رواية مخطوطة النهج.
34

ولا فرطن لهم حوضا، أي لأملأن، يقال: أفرطت المزادة أي ملأتها، وغدير
مفرط، أي ملآن.
والماتح، بنقطتين من فوق: المستقى من فوق، وبالياء: مالئ الدلاء من تحت.
والعب: الشرب بلا مص كما تشرب الدابة. وفى الحديث: " الكباد من
العب " (1). والحسى: ماء كامن في رمل يحفر عنه فيستخرج، وجمعه أحساء.
* * *
يقول عليه السلام: والله ما أنكروا على أمرا هو منكر في الحقيقة، وإنما أنكروا
ما الحجة عليهم فيه لا لهم، وحملهم على ذلك الحسد وحب الاستئثار بالدنيا والتفضيل في
العطاء، وغير ذلك مما لم يكن أمير المؤمنين عليه السلام يراه ولا يستجيزه في الدين. قال:
ولا جعلوا بيني وبينهم نصفا، يعنى وسيطا يحكم وينصف، بل خرجوا عن الطاعة بغتة، وإنهم
ليطلبون حقا تركوه، أي يظهرون أنهم يطلبون حقا بخروجهم إلى البصرة وقد تركوا
الحق بالمدينة.
قال: ودما هم سفكوه، يعنى دم عثمان، وكان طلحة من أشد الناس تحريضا عليه،
وكان الزبير دونه في ذلك.
روى أن عثمان قال: ويلي على ابن الحضرمية - يعنى طلحة -، أعطيته كذا وكذا
بهارا (2) ذهبا، وهو يروم دمى يحرض على نفسي، اللهم لا تمتعه به ولقه عواقب بغيه (3).
وروى الناس الذين صنفوا في واقعة الدار أن طلحة كان يوم قتل عثمان مقنعا بثوب
قد استتر به عن أعين الناس، يرمى الدار بالسهام. ورووا أيضا أنه لما امتنع على الذين

(1) النهاية لابن الأثير 4: 3.
(2) البهار: الحمل، قيل: هو ثلاثمائة رطل بالقبطية.
(3) انظر النهاية 1: 1. 1.
35

حصروه الدخول من باب الدار، حملهم طلحة إلى دار لبعض الأنصار، فأصعدهم إلى سطحها،
وتسوروا منها على عثمان داره فقتلوه.
ورووا أيضا أن الزبير كان يقول: اقتلوه فقد بدل دينكم. فقالوا: إن ابنك
يحامي عنه بالباب، فقال: ما أكره أن يقتل عثمان ولو بدئ بابني، أن عثمان لجيفة على
الصراط غدا.
وقال مروان بن الحكم يوم الجمل: والله لا أترك ثأري وأنا أراه، ولأقتلن طلحة بعثمان،
فإنه قتله. ثم رماه بسهم فأصاب مأبضه (1)، فنزف الدم حتى مات.
ثم قال عليه السلام: إن كنت شريكهم في دم عثمان، فإن لهم نصيبهم منه،
فلا يجوز لهم أن يطلبوا بدمه وهم شركاء فيه، وإن كانوا ولوه، دوني فهم المطلوبون
إذن به لا غيرهم.
وإنما لم يذكر القسم الثالث، وهو أن يكون هو عليه السلام وليه دونهم، لأنه لم
يقل به قائل، فإن الناس كانوا على قولين في ذلك: أحدهما أن عليا وطلحة والزبير مسهم
لطخ من عثمان، لا بمعنى أنهم باشروا قتله، بل بمعنى الاغراء والتحريض، وثانيهما
أن عليا عليه السلام برئ من ذلك، وأن طلحة والزبير غير بريئين منه.
ثم قال: وإن أول عدلهم للحكم على أنفسهم، يقول: إن هؤلاء خرجوا ونقضوا
البيعة، وقالوا: إنما خرجنا للامر بالمعروف والنهى عن المنكر، وإظهار العدل وإحياء
الحق وإماتة الباطل، وأول العدل أن يحكموا على أنفسهم، فإنه يجب على الانسان أن
يقضى على نفسه، ثم على غيره، وإذا كان دم عثمان قبلهم، فالواجب أن ينكروا على أنفسهم
قبل إنكارهم على غيرهم.

(1) المأبض: ما يثبت عليه الفخذ.
36

قال: وإن معي لبصيرتي، أي عقلي، ما لبست على الناس أمرهم ولبس الامر
على، أي لم يلبسه رسول الله صلى الله عليه وآله على بل أوضحه لي وعرفنيه.
ثم قال: وإنها للفئة الباغية: لام التعريف في " الفئة " تشعر بأن نصا قد كان عنده
أنه ستخرج عليه فئة باغية، ولم يعين له وقتها ولا كل صفاتها، بل بعض علاماتها، فلما
خرج أصحاب الجمل ورأي تلك العلامات موجودة فيهم، قال: وإنها للفئة الباغية، أي وإن
هذه الفئة، أي الفئة التي وعدت بخروجها على، ولولا هذا لقال: " وإنها لفئة باغية "،
على التنكير.
ثم ذكر بعض العلامات، ثم قال: إن الامر لواضح، كل هذا يؤكد به عند نفسه
وعند غيره أن هذه الجماعة هي تلك الفئة الموعود بخروجها، وقد ذهب الباطل وزاح، وخرس
لسانه بعد شغبه.
ثم أقسم ليملأن لهم حوضا هو ماتحه، وهذه كناية عن الحرب والهيجاء وما يتعقبهما
من القتل والهلاك، لا يصدرون عنه بري، أي ليس كهذه الحياض الحقيقية التي إذا وردها
الظمآن صدر عن ري ونقع غليله، بل لا يصدرون عنه إلا وهم جزر السيوف، ولا يعبون
بعده في حسي لأنهم هلكوا، فلا يشربون بعده البارد العذب.
وكان عمرو بن الليث الصفار أمير خراسان أنفذ جيشا لمحاربة إسماعيل بن أحمد
الساماني، فانكسر ذلك الجيش وعادوا إلى عمرو بن الليث، فغضب ولقى القواد بكلام
غليظ، فقال له بعضهم: أيها الأمير، إنه قد طبخ لك مرجل عظيم، وإنما نلنا منه
لهمة (1) يسيرة والباقي مذخور لك، فعلام تتركه! اذهب إليهم فكله. فسكت عمرو
ابن الليث عنه ولم يجب.

(1) اللهمة: الجزء اليسير.
37

ومرادنا من هذه، المشابهة والمناسبة بين الكنايتين.
* * *
الأصل:
منها:
فأقبلتم إلى إقبال العوذ المطافيل على أولادها، تقولون: البيعة البيعة!
قبضت كفى فبسطتموها، ونازعتكم يدي فجاذبتموها.
اللهم إنهما قطعاني وظلماني، ونكثا بيعتي، وألبا الناس على / فاحلل ما عقدا،
ولا تحكم لهما ما أبرما، وأرهما المساءة فيما أملا وعملا. ولقد استثبتهما قبل القتال،
واستأنيت بهما أمام الوقاع، فغمطا النعمة، وردا العافية.
* * *
الشرح:
العوذ: النوق الحديثات النتاج، الواحدة عائذ، مثل حائل وحول، وقد يقال ذلك
للخيل والظباء، ويجمع أيضا على " عوذان " مثل راع ورعيان وهذه عائذة بينة العؤوذ،
وذلك إذا ولدت عن قريب، وهي في عياذها، أي بحدثان نتاجها (1).
والمطافيل: جمع مطفل، وهي التي زال عنها اسم العياذ ومعها طفلها، وقد تسمى
المطافيل عوذا إلى أن يبعد العهد بالنتاج مجازا، وعلى هذا الوجه قال أمير المؤمنين: " إقبال
العوذ المطافيل "، وإلا فالاسمان معا لا يجتمعان حقيقة، وإذا زال الأول ثبت الثاني.
قوله: " وألبا الناس على " أي حرضا، يقال: حسود مؤلب.

(1) في اللسان: " ويقال: هي عائدة بينة العؤوذ، إذا ولدت عشرة أيام أو خمسة عشر، ثم هي
مطفل ".
38

واستثبتهما، بالثاء المعجمة بثلاث: طلبت منهما أن يثوبا أي يرجعا، وسمى المنزل
مثابة لان أهله ينصرفون في أمورهم ثم يثوبون إليه، ويروى: " ولقد استتبتهما "، أي
طلبت منهما أن يتوبا إلى الله من ذنبهما في نقض البيعة.
واستأنيت بهما، من الأناءة والانتظار.
والوقاع، بكسر الواو: مصدر: واقعتهم في الحرب وقاعا، مثل نازلتهم نزالا،
وقاتلتهم قتالا.
وغمط فلان النعمة، إذا حقرها وأزرى بها غمطا، ويجوز " غمط " النعمة بالكسر
والمصدر غير محرك ويقال: إن الكسر أفصح من الفتح.
يقول عليه السلام: إنكم أقبلتم مزدحمين كما تقبل النوق إلى أولادها، تسألونني البيعة
فامتنعت عليكم حتى علمت اجتماعكم فبايعتكم. ثم دعا على على طلحة والزبير
بعد أن وصفهما بالقطيعة والنكث والتأليب عليه، بأن يحل الله تعالى ما عقدا، وألا يحكم
لهما ما أبرما، وأن يريهما المساءة فيما أملا وعملا.
فأما الوصف لهما بما وصفهما به، فقد صدق عليه السلام فيه، وأما دعاؤه فاستجيب له،
والمساءة التي دعا بها هي مساءة الدنيا لا مساءة الآخرة، فإن الله تعالى قد وعدهما على لسان
رسوله بالجنة، وإنما استوجباها بالتوبة التي ينقلها أصحابنا رحمهم الله في كتبهم عنهما،
ولولاها لكانا من الهالكين.
39

(138)
الأصل:
ومع خطبة له عليه السلام يومئ فيها إلى ذكر الملاحم:
يعطف الهوى على الهدى، إذا عطفوا الهدى على الهوى، ويعطف الرأي على
القرآن، إذا عطفوا القرآن على الرأي.
* * *
الشرح:
هذا إشارة إلى إمام يخلقه الله تعالى في آخر الزمان، وهو الموعود به في الاخبار والآثار،
ومعنى " يعطف الهوى " يقهره ويثنيه عن جانب الايثار والإرادة، عاملا عمل الهدى، فيجعل
الهدى قاهرا له، وظاهرا عليه.
وكذلك قوله: " ويعطف الرأي على القرآن " أي يقهر حكم الرأي والقياس والعمل
بغلبة الظن عاملا عمل القرآن.
وقوله: " إذا عطفوا الهدى " و " إذا عطفوا القرآن " إشارة إلى الفرق المخالفين لهذا
الامام، المشاقين له، الذين لا يعملون بالهدى بل بالهوى، ولا يحكمون بالقرآن
بل بالرأي
* * *
40

الأصل:
منها:
حتى تقوم الحرب بكم على ساق، باديا نواجذها، مملوءة أخلافها، حلوا
رضاعها، علقما عاقبتها.
ألا وفى غد - وسيأتي غد بما لا تعرفون - يأخذ الوالي من غيرها عمالها على
مساوئ أعمالها، وتخرج له الأرض أفاليذ كبدها، وتلقى إليه سلما مقاليدها، فيريكم
كيف عدل السيرة، ويحيى ميت الكتاب والسنة.
* * *
الشرح:
الساق: الشدة، ومنه قوله تعالى: " يوم يكشف عن ساق " (1).
والنواجذ: أقصى الأضراس، والكلام كناية عن بلوغ الحرب غايتها، كما أن غاية
الضحك أن تبدو النواجذ.
وكذلك قوله: " مملوءة أخلافها "، والأخلاف للناقة حلمات الضرع، واحدها خلف
وقوله: " حلوا رضاعها، علقما عاقبتها " قد أخذه الشاعر، فقال:
الحرب أول ما تكون فتية * تسعى بزينتها لكل جهول (2)
حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها (3) * عادت عجوزا غير ذات حليل
شمطاء جزت رأسها وتنكرت * مكروهة للشم والتقبيل

(1) سورة القلم 42.
(2) تنسب إلى امرئ القيس، وهي في ديوانه 353، من زيادات نسخة ابن النحاس.
(3) الديوان: " حتى إذا استعرت ".
41

وهو الرضاع بالفتح، والماضي رضع بالكسر، مثل سمع سماعا، وأهل نجد يقولون:
" رضع " بالفتح " يرضع " بالكسر رضعا، مثل ضرب يضرب ضربا، وأنشدوا:
وذموا لنا الدنيا وهم يرضعونها * أفاويق حتى ما يدر لها ثعل (1)
بكسر الضاد.
[فصل في الاعتراض وإيراد مثل منه]
وقوله: " ألا وفى غد " تمامه " يأخذ الوالي " وبين الكلام جملة اعتراضية، وهي
قوله: " وسيأتي غد بما لا تعرفون " والمراد تعظيم شأن الغد الموعود بمجيئه، ومثل ذلك
في القرآن كثير، نحو قوله تعالى: " فلا أقسم بمواقع النجوم * وإنه لقسم لو تعلمون
عظيم * إنه لقرآن كريم) (2)، فقوله تعالى: (إنه لقرآن كريم) هو الجواب
المتلقى به قوله: (فلا أقسم)، وقد اعترض بينهما قوله: (وإنه لقسم لو تعلمون
عظيم)، واعترض بين هذا الاعتراض قوله: (لو تعلمون)، لأنك لو حذفته لبقي الكلام
على إفادته، وهو قوله: " وإنه لقسم عظيم "، والمراد تعظيم شأن ما أقسم به من مواقع
النجوم وتأكيد إجلاله في النفوس، ولا سيما بقوله: (لو تعلمون عظيم).
ومن ذلك قوله تعالى: (ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون) (3)،
فقوله: (سبحانه) اعتراض، والمراد التنزيه. وكذلك قوله: (تالله لقد علمتم ما جئنا
لنفسد في الأرض)، ف‍ " لقد علمتم " اعتراض، والمراد به تقرير إثبات البراءة من تهمة السرقة.
وكذلك قوله: (وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت

(1) اللسان 9: 484، ونسبها إلى ابن همام السلولي.
(2) سورة الواقعة 75 - 77.
(3) سورة النحل 57.
42

مفتر) (1) فاعترض بين " إذا " وجوابها بقوله: (والله أعلم بما ينزل)، فكأنه أراد
أن يجيبهم عن دعواهم، فجعل الجواب اعتراضا.
ومن ذلك قوله: (ووصينا الانسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله
في عامين أن اشكر لي ولوالديك) (2) فاعترض بقوله: (حملته أمه وهنا على وهن
وفصاله في عامين) بين (وصينا) وبين الموصى به، وفائدة ذلك إذكار الولد بما
كابدته أمه من المشقة في حمله وفصاله.
ومن ذلك قوله: (وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون *
فقلنا اضربوه ببعضها) (3) فقوله: (والله مخرج ما كنتم تكتمون) اعتراض بين
المعطوف والمعطوف عليه، والمراد أن يقرر في أنفس السامعين أنه لا ينفع البشر كتمانهم
وإخفاؤهم لما يريد الله إظهاره.
ومن الاعتراض في الشعر قول جرير:
ولقد أراني - والجديد إلى بلى - * في موكب بيض الوجوه كرام (4)
فقوله: " والجديد إلى بلى " اعتراض، والمراد تعزيته نفسه عما مضى من
تلك اللذات.
وكذلك قول كثير: لو أن الباخلين - وأنت منهم - رأوك تعلموا منك المطالا (5)
فقوله: " وأنت منهم " اعتراض، وفائدته ألا تظن أنها ليست باخلة.

(1) سورة النحل 1. 1.
(2) سورة لقمان 14.
(3) سورة البقرة 73، 74.
(4) ديوانه 551، والرواية فيه: " في فتية طرف الحديث كرام ".
(5) ديوانه 1: 151.
43

ومن ذلك قول الشاعر (1):
فلو سألت سراة الحي سلمى * على أن قد تلون بي زماني (2)
لخبرها ذوو أحساب قومي * وأعدائي فكل قد بلاني
بذبي الذم عن حسبي ومالي * وزبونات أشوس تيحان (3)
وإني لا أزال أخا حروب * إذا لم أجن كنت مجن جاني
فقوله:
* على أن قد تلون بي زماني *
اعتراض، وفائدته الاخبار عن أن السن قد أخذت منه وتغيرت بطول العمر أوصافه.
ومن ذلك قول أبى تمام:
رددت رونق وجهي في صحيفته * رد الصقال بهاء الصارم الخذم (4)
وما أبالي - وخير القول أصدقه - * حقنت لي ماء وجهي أم حقنت دمى
فقوله: " وخير القول أصدقه " اعتراض، وفائدته إثبات صدقه في دعواه أنه لا يبالي
أيهما حقن.
فأما قول أبى تمام أيضا:
وإن الغنى لي إن لحظت مطالبي * من الشعر - إلا في مديحك - أطوع (5).
فإن الاعتراض فيه هو قوله: " إلا في مديحك " وليس قوله: " إن لحظت مطالبي "
اعتراضا كما زعم ابن الأثير الموصلي (6) لان فائدة البيت معلقة عليه، لأنه لا يريد أن الغنى

(1) لسوار بن المضرب السعدي. ديوان الحماسة بشرح المرزوقي 1: 130.
(2) سراة القوم: خيارهم.
(3) زبونات، من الزبن، وهو الدفع. والتيحان. العريض المقدام.
(4) ديوانه 2: 218. والخذم: السريع القطع.
(5) ديوانه 2: 333.
(6) المثل السائر 2: 188.
44

لي على كل حال أطوع من الشعر، وكيف يريد هذا وهو كلام فاسد مختل! بل مراده
أن الغنى لي بشرط أن تلحظ مطالبي من الشعر أطوع لي! إلا في مديحك، فإن الشعر
في مديحك أطوع لي منه، وإذا كانت الفائدة معلقة بالشرط المذكور لم يكن اعتراضا.
وكذلك وهم ابن الأثير (1) أيضا في قول امرئ القيس:
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة * كفاني ولم أطلب قليل من المال (2)
ولكنما أسعى لمجد مؤثل * وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
فقال: إن قوله: " ولم أطلب " اعتراض، وليس بصحيح، لان فائدة البيت مرتبطة
به، وتقديره: لو سعيت لان آكل وأشرب لكفاني القليل، ولم أطلب الملك، فكيف
يكون قوله: ولم أطلب الملك اعتراضا، ومن شأن الاعتراض أن يكون فضلة ترد
لتحسين وتكملة، وليست فائدته أصلية!
وقد يأتي الاعتراض ولا فائدة فيه، وهو غير مستحسن، نحو قول النابغة:
يقول رجال يجهلون خليقتي * لعل زيادا - لا أبالك - غافل (3)
فقوله: " لا أبالك "، اعتراض لا معنى تحته هاهنا، ومثله قول زهير:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش * ثمانين حولا - لا أبالك - يسأم (4)
فإن جاءت " لا أبالك " تعطى معنى يليق بالموضع فهي اعتراض جيد، نحو قول
أبى تمام:
* عتابك عنى - لا أبالك - واقصد *
فإنه أراد زجرها وذمها لما أسرفت في عتابه.

(1) المثل السائر 2: 186.
(2) ديوانه 39.
(3) ديوانه 61.
(4) ديوانه 29.
45

وقد يأتي الاعتراض على غاية من القبح والاستهجان، وهو على سبيل التقديم
والتأخير، نحو قول الشاعر:
فقد والشك بين لي عناء * بوشك فراقهم صرد فصيح (1)
تقديره: فقد بين لي صرد يصيح بوشك فراقهم، والشك عناء، فلأجل قوله:
" والشك عناء " بين " قد " والفعل الماضي، وهو " بين " عد اعتراضا مستهجنا.
وأمثال هذا للعرب كثير.
قوله عليه السلام: " يأخذ الوالي من غيرها عمالها على مساوئ أعمالها " كلام منقطع
عما قبله، وقد كان تقدم ذكر طائفة من الناس ذات ملك وإمرة، فذكر عليه السلام أن
الوالي - يعنى الامام الذي يخلقه الله تعالى في آخر الزمان - يأخذ عمال
هذه الطائفة على سوء أعمالهم. وعلى هاهنا متعلقة ب‍ " يأخذ " التي هي بمعنى " يؤاخذ "
من قولك: أخذته بذنبه، وآخذته، والهمز أفصح.
والأفاليذ: جمع أفلاذ، وأفلاذ جمع فلذ، وهي القطعة من الكبد، وهذا كناية عن
الكنوز التي تظهر للقائم بالامر، وقد جاء ذكر ذلك في خبر مرفوع في لفظة: " وقاءت له
الأرض أفلاذ كبدها "، وقد فسر قوله تعالى: (وأخرجت الأرض أثقالها) (2) بذلك
في بعض التفاسير.
والمقاليد: المفاتيح.
* * *
الأصل:
منها:
كأني به قد نعق بالشام، وفحص براياته في ضواحي كوفان، فعطف إليها
عطف الضروس، وفرش الأرض بالرؤوس. قد فغرت فاغرته، وثقلت في الأرض
وطأته، بعيد الجولة عظيم الصولة.

(1) المثل السائر 2: 191.
(2) سورة الزلزلة 2.
46

والله ليشردنكم في أطراف الأرض حتى لا يبقى منكم الا قليل، كالكحل في
العين، فلا تزالون كذلك حتى تؤوب إلى العرب عوازب أحلامها.
فالزموا السنن القائمة، والآثار البينة، والعهد القريب الذي عليه باقي النبوة
واعلموا أن الشيطان إنما يسني لكم طرقه لتتبعوا عقبه.
* * *
الشرح:
هذا إخبار عن عبد الملك بن مروان وظهوره بالشام وملكه بعد ذلك العراق،
وما قتل من العرب فيها أيام عبد الرحمن بن الأشعث، وقتله أيام مصعب بن الزبير.
ونعق الرعى بغنمه، بالعين المهملة، ونغق الغراب بالغين المعجمة. وفحص براياته
هاهنا: مفعول محذوف تقديره، وفحص الناس براياته، أي نحاهم وقلبهم يمينا وشمالا.
وكوفان: اسم الكوفة. وضواحيها: ما قرب منها من القرى. والضروس: الناقة
السيئة الخلق تعض حالبها، قال بشر بن أبي خازم:
عطفنا لهم عطف الضروس من الملا * بشهباء لا يمشى الضراء رقيبها (1)
وقوله: " وفرش الأرض بالرؤوس ": غطاها بها كما يغطى المكان بالفراش.
وفغرت فاغرته، كأنه يقول: فتح فاه، والكلام استعارة، وفغر " فعل " يتعدى ولا
يتعدى. وثقلت في الأرض وطأته، كناية عن الجور والظلم.
بعيد الجولة: استعارة أيضا، والمعنى أن تطواف خيوله وجيوشه في البلاد، أو جولان
رجاله في الحرب على الاقران طويل جدا لا يتعقبه السكون إلا نادرا.
وبعيد منصوب على الحال، وإضافته غير محضة.

(1) اللسان 9: 424.
(2) 15.
47

وعوازب أحلامها: ما ذهب من عقولها، عزب عنه الرأي، أي بعد.
ويسني لكم طرقه، أي يسهل. والعقب، بكسر القاف: مؤخر القدم، وهي مؤنثة.
فإن قلت: فإن قوله: " حتى تؤوب " يدل على أغاية ملكه أن تؤوب إلى العرب
عوازب أحلامها، وعبد الملك مات في ملكه ولم يزل الملك عنه بأوبة أحلام العرب إليها
فإن فائدة " حتى " إلى، وهي موضوعة للغاية.
قلت: إن ملك أولاده ملكه أيضا، وما زال الملك عن بنى مروان حتى آبت إلى العرب
عوازب أحلامها، والعرب هاهنا: بنو العباس ومن اتبعهم من العرب أيام ظهور الدولة
كقحطبة بن شبيب الطائي وابنيه حميد والحسن، وكبني رزتني، بتقديم الراء المهملة، الذين
منهم طاهر بن الحسين وإسحاق بن إبراهيم المصعبي وعدادهم في خزاعة وغيرهم من العرب
من شيعة بنى العباس. وقد قيل: إن أبا مسلم أيضا عربي أصله، وكل هؤلاء وآبائهم
كانوا مستضعفين مقهورين مغمورين في دولة بنى أمية لم ينهض منهم ناهض، ولا وثب إلى الملك
واثب، إلى أن أفاء الله تعالى إلى هؤلاء ما كان عزب عنهم من إبائهم وحميتهم، فغاروا
للدين والمسلمين من جور بنى مروان وظلمهم، وقاموا بالامر، وأزالوا تلك الدولة التي كرهها
الله تعالى، وأذن في انتقالها.
ثم أمرهم عليه السلام بأن يلزموا بعد زوال تلك الدولة الكتاب والسنة، والعهد
القريب الذي عليه باقي النبوة - يعنى عهده وأيامه عليه السلام - وكأنه خاف من أن يكون
بإخباره لهم بأن دولة هذا الجبار ستنقضي إذا آبت إلى العرب عوازب أحلامها، كالأمر لهم
باتباع ولاة الدولة الجديدة في كل ما تفعله، فاستظهر عليهم بهذه الوصية، وقال لهم: إذا ابتذلت
الدولة، فالزموا الكتاب والسنة، والعهد الذي فارقتكم عليه.
48

(139)
الأصل:
ومن كلام له عليه السلام في وقت الشورى:
لن يسرع أحد قبلي إلى دعوة حق، وصلة رحم، وعائدة كرم، فاسمعوا قولي
وعوا منطقي. عسى أن تروا هذا الامر من بعد هذا اليوم، تنتضي فيه السيوف،
وتخان فيه العهود، حتى يكون بعضكم أئمة لأهل الضلالة، وشيعة
لأهل الجهالة.
* * *
الشرح:
هذا من جملة كلام قاله عليه السلام لأهل الشورى بعد وفاة عمر.
[من أخبار يوم الشورى وتولية عثمان]
وقد ذكرنا من حديث الشورى فيما تقدم ما فيه كفاية، ونحن نذكر هاهنا ما لم نذكره
هناك، وهو من رواية عوانة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي في كتاب " الشورى "
و " مقتل عثمان "، وقد رواه أيضا أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في زيادات
كتاب " السقيفة " قال:
لما طعن عمر جعل الامر شورى بين ستة نفر: علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان،
وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن مالك، وكان
49

طلحة يومئذ بالشام، وقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض وهو عن هؤلاء
راض، فهم أحق بهذا الامر من غيرهم، وأوصى صهيب بن سنان، مولى عبد الله بن
جدعان - ويقال: إن أصله من حي من ربيعة بن نزار، يقال لهم عنزة - فأمره أن يصلى
بالناس حتى يرضى هؤلاء القوم رجلا منهم، وكان عمر لا يشك أن هذا الامر صائر إلى
أحد الرجلين: على وعثمان، وقال: إن قدم طلحة فهو معهم، وإلا فلتختر الخمسة واحدا
منها. وروى أن عمر قبل موته أخرج سعد بن مالك من أهل الشورى، وقال: الامر
في هؤلاء الأربعة، ودعوا سعدا على حاله أميرا بين يدي الامام. ثم قال: ولو كان أبو عبيدة
ابن الجراح حيا لما تخالجتني فيه الشكوك، فإن اجتمع ثلاثة على واحد، فكونوا مع الثلاثة،
وإن اختلفوا فكونوا مع الجانب الذي فيه عبد الرحمن.
وقال لأبي طلحة الأنصاري: يا أبا طلحة، فوالله لطالما أعز الله بكم الدين، ونصر بكم
الاسلام، اختر من السلام خمسين رجلا، فائت بهم هؤلاء القوم في كل يوم مرة،
فاستحثوهم حتى يختاروا لأنفسهم وللأمة رجلا منهم.
ثم جمع قوما من المهاجرين والأنصار، فأعلمهم ما أوصى به، وكتب في وصيته أن
يولى الامام سعد بن مالك الكوفة، وأبا موسى الأشعري، لأنه كان عزل سعدا عن سخطة
فأحب أن يطلب ذلك إلى من يقوم بالامر من بعده استرضاء لسعد.
قال الشعبي: فحدثني من لا أتهمه من الأنصار، وقال أحمد بن عبد العزيز الجوهري:
هو سهل بن سعد الأنصاري، قال: مشيت وراء علي بن أبي طالب حيث انصرف من
عند عمر، والعباس بن عبد المطلب يمشى في جانبه، فسمعته يقول للعباس: ذهبت منا والله!
فقال: كيف علمت؟ قال: ألا تسمعه يقول: كونوا في الجانب الذي فيه عبد الرحمن،
لأنه ابن عمه، وعبد الرحمن نظير عثمان وهو صهره، فإذا اجتمع هؤلاء! فلو أن الرجلين
50

الباقيين كانا معي لم يغنيا عنى شيئا، مع أنى لست أرجو إلا أحدهما، ومع ذلك فقد أحب
عمر أن يعلمنا أن لعبد الرحمن عنده فضلا علينا. لعمر الله ما جعل الله ذلك لهم علينا،
كما لم يجعله لأولادهم على أولادنا. أما والله لئن عمر لم يمت لاذ كرته ما أتى إلينا قديما، ولا علمته
سوء رأيه فينا، وما أتى إلينا حديثا، ولئن مات - وليموتن - ليجتمعن هؤلاء القوم على أن
يصرفوا هذا الامر عنا، ولئن فعلوها - وليفعلن - ليرونني حيث يكرهون، والله ما بي
رغبة في السلطان، ولا حب الدنيا، ولكن لاظهار العدل، والقيام بالكتاب والسنة.
قال: ثم التفت فرآني وراءه فعرفت أنه قد ساءه ذلك، فقلت: لا ترع أبا حسن!
لا والله لا يستمع أحد الذي سمعت منك في الدنيا ما اصطحبنا فيها، فوالله ما سمعه منى
مخلوق حتى قبض الله عليا إلى رحمته.
قال عوانة: فحدثنا إسماعيل، قال: حدثني الشعبي، قال: فلما مات عمر، وأدرج
في أكفانه، ثم وضع ليصلي عليه، تقدم علي بن أبي طالب، فقام عند رأسه، وتقدم
عثمان فقام عند رجليه، فقال علي عليه السلام: هكذا ينبغي أن تكون الصلاة، فقال
عثمان: بل هكذا، فقال عبد الرحمن: ما أسرع ما اختلفتم! يا صهيب، صل على عمر
كما رضى أن تصلى بهم المكتوبة، فتقدم صهيب فصلى على عمر.
قال الشعبي: وأدخل أهل الشورى دارا، فأقبلوا يتجادلون عليها، وكلهم بها ضنين،
وعليها حريص، إما لدنيا وإما لآخرة، فلما طال ذلك قال عبد الرحمن: من رجل منكم
يخرج نفسه عن هذا الامر، وختار لهذه الأمة رجلا منكم، فإني طيبة نفسي أن أخرج منها،
وأختار لكم؟ قالوا: قد رضينا، إلا علي بن أبي طالب فإنه اتهمه وقال: أنظر وأرى
فأقبل أبو طلحة عليه، وقال: يا أبا الحسن، ارض برأي عبد الرحمن، كان الامر لك
أو لغيرك. فقال على: أعطني يا عبد الرحمن موثقا من الله لتؤثرن الحق ولا تتبع الهوى،
51

ولا تمل إلى صهر ولا ذي قرابة، ولا تعمل إلا لله، ولا تألو هذه الأمة أن تختار
لها خيرها.
قال: فحلف له عبد الرحمن بالله الذي لا إله إلا هو، لأجتهدن لنفسي ولكم وللأمة،
ولا أميل إلى هوى ولا إلى صهر ولا ذي قرابة. قال: فخرج عبد الرحمن، فمكث ثلاثة أيام يشاور الناس، ثم رجع واجتمع الناس،
وكثروا على الباب لا يشكون أنه يبايع علي بن أبي طالب، وكان هوى قريش كافة
ما عدا بني هاشم في عثمان، وهوى طائفة من الأنصار مع علي، وهوى طائفة أخرى مع
عثمان، وهي أقل الطائفتين، وطائفة لا يبالون: أيهما بويع.
قال: فأقبل المقداد بن عمرو، والناس مجتمعون، فقال: أيها الناس، اسمعوا ما أقول،
أنا المقداد بن عمرو، إنكم إن بايعتم عليا سمعنا وأطعنا، وإن بايعتم عثمان سمعنا وعصينا،
فقام عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي، فنادى: أيها الناس، إنكم إن بايعتم
عثمان سمعنا وأطعنا، وإن بايعتم عليا سمعنا وعصينا. فقال له المقداد: يا عدو الله وعدو رسوله
وعدو كتابه، ومتى كان مثلك يسمع له الصالحون! فقال له عبد الله: يا بن الحليف
العسيف (1)، ومتى كان مثلك يجترئ على الدخول في أمر قريش!
فقال عبد الله بن سعد بن أبي سرح: أيها الملا، إن أردتم ألا تختلف قريش فيما بينها،
فبايعوا عثمان، فقال عمار بن ياسر: إن أردتم ألا يختلف المسلمون فيما بينهم فبايعوا عليا،
ثم أقبل على عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فقال: يا فاسق يا بن الفاسق، أأنت ممن يستنصحه
المسلمون أو يستشيرونه في أمورهم! وارتفعت الأصوات، ونادى مناد لا يدرى من هو!
- فقريش تزعم أنه رجل من بنى مخزوم: والأنصار تزعم أنه رجل طوال آدم مشرف على
الناس - لا يعرفه أحد منهم: يا عبد الرحمن، افرغ من أمرك، وامض على ما في نفسك
فإنه الصواب.

(1) الصيف: المستهان به.
52

قال الشعبي: فأقبل عبد الرحمن على علي بن أبي طالب، فقال: عليك عهد الله
وميثاقه، وأشد ما أخذ الله على النبيين من عهد وميثاق: إن بايعتك لتعملن بكتاب الله
وسنة رسوله، وسيرة أبى بكر وعمر! فقال علي عليه السلام: طاقتي ومبلغ علمي وجهد
رأيي، والناس يسمعون.
فأقبل على عثمان، فقال له مثل ذلك، فقال: نعم لا أزول عنه ولا أدع شيئا منه.
ثم أقبل على على فقال له ذلك ثلاث مرات، ولعثمان ثلاث مرات، في كل
ذلك يجيب على مثل ما كان أجاب به، ويجيب عثمان بمثل ما كان أجاب به.
فقال: ابسط يدك يا عثمان، فبسط يده فبايعه، وقام القوم فخرجوا، وقد بايعوا
إلا علي بن أبي طالب، فإنه لم يبايع.
قال: فخرج عثمان على الناس ووجهه متهلل، وخرج على وهو كاسف البال مظلم،
وهو يقول: يا بن عوف، ليس هذا بأول يوم تظاهرتم علينا من دفعنا عن حقنا والاستئثار
علينا! وإنها لسنة علينا، وطريقة تركتموها.
فقال المغيرة بن شعبة لعثمان: أما والله لو بويع غيرك لما بايعناه، فقال عبد الرحمن بن
عوف: كذبت، والله لو بويع غيره لبايعته، وما أنت وذاك يا بن الدباغة، والله لو وليها
غيره لقلت له مثل ما قلت الان، تقربا إليه وطمعا في الدنيا، فاذهب لا أبالك!.
فقال المغيرة: لولا مكان أمير المؤمنين لأسمعتك ما تكره. ومضيا.
قال الشعبي: فلما دخل عثمان رحله دخل إليه بنو أمية حتى امتلأت بهم الدار، ثم
أغلقوها عليهم، فقال أبو سفيان بن حرب: أعندكم أحد من غيركم؟ قالوا: لا، قال:
يا بنى أمية، تلقفوها تلقف الكرة، فوالذي يحلف به أبو سفيان، ما من عذاب ولا حساب،
ولا جنة ولا نار، ولا بعث ولا قيامة!
53

قال: فانتهره عثمان، وساءه بما قال، وأمر بإخراجه.
قال الشعبي: فدخل عبد الرحمن بن عوف على عثمان، فقال له: ما صنعت! فوالله
ما وفقت حيث تدخل رحلك قبل أن تصعد المنبر، فتحمد الله وتثنى عليه، وتأمر بالمعروف
وتنهى عن المنكر، وتعد الناس خيرا.
قال: فخرج عثمان، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: هذا مقام لم نكن
نقومه، ولم نعد له من الكلام الذي يقام به في مثله، وسأهيئ ذلك إن شاء الله، ولن
آلو أمة محمد خيرا، والله المستعان.
ثم نزل.
* * *
قال عوانة: فحدثني يزيد بن جرير، عن الشعبي، عن شقيق بن مسلمة، أن علي بن أبي
طالب، لما انصرف إلى رحله، قال لبني أبيه: يا بنى عبد المطلب ة إن قومكم عادوكم
بعد وفاة النبي كعداوتهم النبي في حياته، وإن يطع قومكم لا تؤمروا أبدا، ووالله
لا ينيب هؤلاء إلى الحق إلا بالسيف.
قال: وعبد الله بن عمر بن الخطاب، داخل إليهم، قد سمع الكلام كله، فدخل،
وقال: يا أبا الحسن، أتريد أن تضرب بعضهم ببعض! فقال: اسكت ويحك! فوالله لولا
أبوك وما ركب منى قديما وحديثا، ما نازعني ابن عفان ولا ابن عوف. فقام
عبد الله فخرج.
قال: وأكثر الناس في أمر الهرمزان وعبيد الله بن عمر، وقتله إياه، وبلغ ما قال فيه
علي بن أبي طالب. فقام عثمان فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس،
إنه كان من قضاء الله أن عبيد الله بن عمر بن الخطاب أصاب الهرمزان، وهو رجل من
54

المسلمين، وليس له وارث إلا الله والمسلمون، وأنا إمامكم وقد عفوت، أفتعفون عن
عبيد الله ابن خليفتكم بالأمس؟ قالوا: نعم، فعفا عنه، فلما بلغ ذلك عليا تضاحك، وقال:
سبحان الله! لقد بدأ بها عثمان! أيعفو عن حق امرئ ليس بواليه! تالله إن هذا لهو العجب!
قالوا: فكان ذلك أول ما بدا من عثمان مما نقم عليه.
قال الشعبي: وخرج المقداد من الغد، فلقى عبد الرحمن بن عوف، فأخذ بيده، وقال:
إن كنت أردت بما صنعت وجه الله، فأثابك الله ثواب الدنيا والآخرة، وإن كنت
إنما أردت الدنيا فأكثر الله مالك. فقال عبد الرحمن: اسمع، رحمك الله، اسمع! قال:
لا أسمع والله، وجذب يده من يده، ومضى حتى دخل على علي عليه السلام، فقال: قم
فقاتل حتى نقاتل معك، قال على: فبمن أقاتل رحمك الله! وأقبل عمار بن ياسر ينادى:
يا ناعي الاسلام قم فانعه * قد مات عرف وبدا نكر
أما والله لو أن لي أعوانا لقاتلتهم، والله لئن قاتلهم واحد لأكونن له ثانيا. فقال على:
يا أبا اليقظان، والله لا أجد عليهم أعوانا، ولا أحب أن أعرضكم لما لا تطيقون. وبقى عليه
السلام في داره، وعنده نفر من أهل بيته، وليس يدخل إليه أحد مخافة عثمان.
قال الشعبي: واجتمع أهل الشورى على أن تكون كلمتهم واحدة على من لم يبايع،
فقاموا إلى علي، فقالوا: قم فبايع عثمان، قال: فإن لم أفعل، قالوا: نجاهدك، قال: فمشى إلى
عثمان حتى بايعه، وهو يقول: صدق الله ورسوله. فلما بايع أتاه عبد الرحمن بن عوف،
فاعتذر إليه، وقال: إن عثمان أعطانا يده ويمينه، ولم تفعل أنت، فأحببت أن أتوثق
للمسلمين، فجعلتها فيه، فقال: أيها عنك! إنما آثرته بها لتنالها بعده، دق الله بينكما
عطر منشم (1).

(1) منشم: امرأة عطارة من خزاعة، فتحالف قوم فأدخلوا أيديهم في عطرها على أن يقاتلوا حتى
تموتوا، فضرب ذلك مثلا لشدة الامر.
55

قال الشعبي: وقدم طلحة من الشام بعد ما بويع عثمان، فقيل له: رد هذا الامر حتى
ترى فيه رأيك، فقال: والله لو بايعتم شركم لرضيت، فكيف وقد بايعتم خيركم! قال: ثم
عدا عليه بعد ذلك وصاحبه حتى قتلاه، ثم زعما أنهما يطلبان بدمه.
قال الشعبي: فأما ما يذكره الناس من المناشدة، وقول علي عليه السلام لأهل الشورى:
أفيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، فإنه لم يكن يوم البيعة، وإنما
كان بعد ذلك بقليل، دخل علي عليه السلام على عثمان وعنده جماعة من الناس، منهم أهل
الشورى، وقد كان بلغه عنهم هنات وقوارص، فقال لهم: أفيكم أفيكم! كل ذلك يقولون
لا، قال: لكني أخبركم عن أنفسكم، أما أنت يا عثمان ففررت يوم حنين، وتوليت يوم التقى
الجمعان، وأما أنت يا طلحة فقلت: إن مات محمد لنركضن بين خلاخيل نسائه كما ركض بين
خلاخيل نسائنا، وأما أنت يا عبد الرحمن، فصاحب قراريط، وأما أنت يا سعد فتدق عن
أن تذكر.
قال: ثم خرج فقال عثمان: أما كان فيكم أحد يرد عليه! قالوا: وما منعك من ذلك
وأنت أمير المؤمنين! وتفرقوا.
* * *
قال عوانة: قال إسماعيل: قال الشعبي: فحدثني عبد الرحمن بن جندب، عن أبيه
جندب بن عبد الله الأزدي، قال: كنت جالسا بالمدينة حيث بويع عثمان، فجئت فجلست
إلى المقداد بن عمرو، فسمعته يقول: والله ما رأيت مثل ما أتى إلى أهل هذا البيت! وكان
عبد الرحمن بن عوف جالسا، فقال: وما أنت وذاك يا مقداد! قال المقداد: إني والله أحبهم
لحب رسول الله صلى الله عليه وآله، وإني لأعجب من قريش وتطاولهم على الناس بفضل
رسول الله، ثم انتزاعهم سلطانه من أهله. قال عبد الرحمن: أما والله لقد أجهدت نفسي
56

لكم. قال المقداد: أما والله لقد تركت رجلا من الذين يأمرون بالحق وبه يعدلون! أما والله
لو أن لي على قريش أعوانا لقاتلتهم قتالي إياهم ببدر وأحد. فقال عبد الرحمن: ثكلتك
أمك، لا يسمعن هذا الكلام الناس، فإني أخاف أن تكون صاحب فتنة وفرقة.
قال المقداد: إن من دعا إلى الحق وأهله وولاه الامر لا يكون صاحب فتنة، ولكن
من أقحم الناس في الباطل، وآثر الهوى على الحق، فذلك صاحب الفتنة والفرقة.
قال: فتربد وجه عبد الرحمن، ثم قال: لو أعلم أنك إياي تعنى لكان لي
ولك شأن.
قال المقداد: إياي تهدد يا بن أم عبد الرحمن! ثم قام عن عبد الرحمن، فانصرف.
قال جندب بن عبد الله: فاتبعته، وقلت له: يا عبد الله، أنا من أعوانك، فقال:
رحمك الله! إن هذا الامر لا يغنى فيه الرجلان ولا الثلاثة، قال: فدخلت من فوري ذلك
على علي عليه السلام، فلما جلست إليه، قلت: يا أبا الحسن، والله ما أصاب قومك بصرف
هذا الامر عنك، فقال: صبر جميل والله المستعان.
فقلت: والله إنك لصبور! قال: فإن لم أصبر فما ذا أصنع؟ قلت: إني جلست إلى
المقداد بن عمرو آنفا وعبد الرحمن بن عوف، فقالا كذا وكذا، ثم قام المقداد فاتبعته،
فقلت له كذا، فقال لي كذا. فقال علي عليه السلام: لقد صدق المقداد، فما أصنع؟ فقلت:
تقوم في الناس فتدعوهم إلى نفسك، وتخبرهم أنك أولى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وتسألهم
النصر على هؤلاء المظاهرين عليك، فإن أجابك عشرة من مائة شددت بهم على الباقين،
فإن دانوا لك فذاك، وإلا قاتلتهم وكنت أولى بالعذر، قتلت أو بقيت، وكنت أعلى
عند الله حجة.
فقال: أترجو يا جندب أن يبايعني من كل عشرة واحد؟ قلت: أرجو ذلك، قال:
لكني لا أرجو ذلك، لا والله ولا من المائة واحد، وسأخبرك، إن الناس إنما ينظرون إلى
57

قريش فيقولون: هم قوم محمد وقبيله. وأما قريش بينها فتقول: إن آل محمد يرون لهم على
الناس بنبوته فضلا، ويرون أنهم أولياء هذا الامر دون قريش، ودون غيرهم من الناس،
وهم إن ولوه لم يخرج السلطان منهم إلى أحد أبدا، ومتى كان في غيرهم تداولته قريش بينها،
لا والله لا يدفع الناس إلينا هذا الامر طائعين أبدا!
فقلت: جعلت فداك يا بن عم رسول الله! لقد صدعت قلبي بهذا القول، أفلا أرجع
إلى المصر، فأوذن الناس بمقالتك، وأدعو الناس إليك؟ فقال: يا جندب ليس هذا
زمان ذاك.
قال: فانصرفت إلى العراق، فكنت أذكر فضل على على الناس فلا أعدم رجلا
يقول لي ما أكره، وأحسن ما أسمعه قول من يقول: دع عنك هذا وخذ فيما ينفعك. فأقول:
إن هذا مما ينفعني وينفعك، فيقوم عنى ويدعني.
وزاد أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري: حتى رفع ذلك من قولي إلى الوليد
ابن عقبة، أيام ولينا، فبعث إلى فحبسني حتى كلم في، فخلى سبيلي.
وروى الجوهري، قال: نادى عمار بن ياسر ذلك اليوم: يا معشر المسلمين، إنا قد كنا
وما كنا نستطيع الكلام، قلة وذلة، فأعزنا الله بدينه، وأكرمنا برسوله، فالحمد لله رب
العالمين. يا معشر قريش، إلى متى تصرفون هذا الامر عن أهل بيت نبيكم، تحولونه
هاهنا مرة، وهاهنا مرة! ما أنا آمن أن ينزعه الله منكم ويضعه في غيركم، كما نزعتموه من أهله
ووضعتموه في غير أهله!
فقال له هاشم بن الوليد بن المغيرة: يا بن سمية، لقد عدوت طورك وما عرفت قدرك،
ما أنت وما رأت قريش لأنفسها! إنك لست في شئ من أمرها وإماراتها، فتنح عنها.
وتكلمت قريش بأجمعها، فصاحوا بعمار وانتهروه، فقال: الحمد لله رب العالمين، ما زال
أعوان الحق أذلاء! ثم قام فانصرف.
58

(140)
الأصل:
ومن كلام له عليه السلام في النهى عن غيبة الناس:
وإنما ينبغي لأهل العصمة والمصنوع إليهم في السلامة أن يرحموا أهل
الذنوب والمعصية، ويكون الشكر هو الغالب عليهم، والحاجز لهم عنهم،
فكيف بالغائب الذي عاب أخاه، وعيره ببلواه. أما ذكر موضع ستر الله
عليه من ذنوبه مما هو أعظم من الذنب الذي عابه به! وكيف يذمه بذنب
قد ركب مثله! فإن لم يكن ركب ذلك الذنب بعينه فقد عصى الله فيما
سواه، مما هو أعظم منه.
وأيم الله لئن لم يكن عصاه في الكبير، وعصاه في الصغير لجرأته على
عيب الناس أكبر.
يا عبد الله، لا تعجل في عيب أحد بذنبه، فلعله مغفور له، ولا تأمن على
نفسك صغير معصية، فلعلك معذب عليه. فليكفف من علم منكم
عيب غيره لما يعلم من عيب نفسه، وليكن الشكر شاغلا له على معافاته
مما ابتلى به غيره.
* * *
الشرح:
ليس في هذا الفصل من غريب اللغة ما نشرح.
59

[أقوال مأثورة في ذم الغيبة والاستماع إلى المغتابين]
ونحن نذكر مما ورد في الغيبة لمعا نافعة، على عادتنا في ذكر الشئ عند مرورنا على
ما يقتضيه ويستدعيه.
وقد ورد في الكتاب العزيز ذم الغيبة، قال سبحانه: (ولا يغتب بعضكم
بعضا) (1).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: " لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا يغتب بعضكم بعضا،
وكونوا عباد الله إخوانا ".
وروى جابر وأبو سعيد عنه صلى الله عليه وآله: " إياكم والغيبة، فإن الغيبة أشد
من الزنا، إن الرجل يزنى فيتوب الله عليه، وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى
يغفر له صاحبه ".
وروى عن أنس عنه صلى الله عليه وآله: " مررت ليلة أسرى بي، فرأيت قوما يخمشون
وجوههم بأظافيرهم، فسألت جبريل عنهم، فقال: هؤلاء الذين يغتابون الناس ".
وفى حديث سلمان، قلت: يا رسول الله، علمني خيرا ينفعني الله به، قال:
" لا تحقرن من المعروف شيئا، ولو أرفضت من دلوك في إناء المستقى، والق أخاك
ببشر حسن، ولا تغتابنه إذا أدبر ".
وفى حديث البراء بن عازب: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسمع
العواتق في بيوتهن، فقال: " ألا لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من
يتتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته ".

(1) سورة الحجرات 12.
60

وفى حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال في يوم صوم: " إن فلانه
وفلانه كانتا تأكلان اليوم شحم امرأة مسلمة - يعنى الغيبة - فمرهما فليتقايآ فقاءت كل
واحدة منهما علقة دم " (1).
وفى الصحاح المجمع عليها أنه عليه السلام مر بقبرين جديدين، فقال: إنهما ليعذبان
وما يعذبان بكبير، أما أحدهما، فكان يغتاب الناس، وأما الاخر فكان لا يتنزه من
البول ". ودعا بجريدة رطبة فكسرها اثنتين - أو قال: دعا بجريدتين - ثم غرسهما في
القبرين - وقال: " أما إنه سيهون من عذابهما ما دامتا رطبتين ".
وفى حديث ابن عباس أن رجلين من أصحابه اغتابا بحضرته رجلا، وهو يمشى عليه
السلام، وهما يمشيان معه، فمر على جيفة، فقال: " انهشا منها "، فقالا: يا رسول الله، أو ننهش
الجيفة! فقال:: " ما أصبتما من أخيكما أنتن من هذه ".
وفى حديث أبي هريرة: " من أكل لحم أخيه حيا قرب إليه لحمه في الآخرة،
فقيل له: كله ميتا كما أكلته حيا، فيأكله ويضج ويكلح ".
وروى أن رجلين كانا عند باب المسجد، فمر بهما رجل كان مخنثا، فترك ذلك،
فقالا: لقد بقي عنده منه شئ، فأقيمت الصلاة، فصليا مع الناس، وذلك يجول في أنفسهما
فأتيا عطاء بن أبي رباح، فسألاه، فأمرهما أن يعيدا الوضوء والصلاة، وإن كانا صائمين
أن يقضيا صيام ذلك اليوم.
وعن مجاهد: (ويل لكل همزة لمزة)، الهمزة: الطعان في الناس،
واللمزة: النمام.
وعن الحسن: والله للغيبة أسرع في دين المؤمن من الاكلة في الجسد.

(1) العلقة: القطعة من الدم.
61

بعضهم: أدركنا السلف وهم لا يرون العبادة في الصوم ولا في الصلاة، ولكن في
الكف عن أعراض الناس.
ابن عباس: إذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك، فإذ كر عيوبك. وهذا مشتق من
كلام أمير المؤمنين عليه السلام.
أبو هريرة: يبصر أحدهما القذى في عين أخيه، ولا يبصر الجذع في عين نفسه!
وهذا كالأول.
الحسن: يا بن آدم، إنك إن قضيت حقيقة الايمان فلا تعب الناس بعيب هو فيك
حتى تبدأ بإصلاح ذلك العيب من نفسك، فإذا فعلت ذلك كان شغلك في خاصة نفسك.
وأحب العباد إلى الله من كان هكذا.
ويروى أن المسيح عليه السلام مر على جيفة كلب، فقال بعض التلامذة: ما أشد
نتنه! فقال المسيح: ما أشد بياض أسنانه! كأنه نهاهم عن غيبة الكلب ونبههم على أنه
لا ينبغي أن يذكر من كل شئ إلا أحسنه.
وسمع علي بن الحسين عليه السلام رجلا يغتاب آخر، فقال: إن لكل شئ إداما،
وإدام كلاب الناس الغيبة.
وفى خطبه حجة الوداع: " أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم
حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا! في بلدكم هذا. إن الله حرم الغيبة كما حرم
المال والدم ".
عمر: ما يمنعكم إذا رأيتم من يخرق أعراض الناس أن تعربوا عليه، أي تقبحوا، قالوا:
نخاف سفهه وشره، قال: ذلك أدنى ألا تكونوا شهداء.
أنس يرفعه: " من مات على الغيبة حشر يوم القيامة مزرقة عيناه، ينادى بالويل
والندامة، يعرف أهله ولا يعرفونه ".
62

وقال: هشام بن عبد الملك في بعض ولد الوليد بن عقبة:
أبلغ أبا وهب إذا ما لقيته * بأنك شر الناس غيبا لصاحب
فتبدى له بشرا إذا ما لقيته * وتلسعه بالغيب لسع العقارب
مر الشعبي بقوم يغتابونه في المسجد، وفيهم بعض أصدقائه، فأخذ بعضادتي
الباب، وقال:
هنيئا مريئا غير داء مخامر * لعزة من أعراضنا ما استحلت (1)
ومن كلام بعض الحكماء: أبصر الناس بالعوار المعوار، هذا مثل قول الشاعر:
وأجرأ من رأيت بظهر غيب * على عيب الرجال ذوو العيوب
قيل لشبيب بن شبة بن عقال: ما بال عبد الله بن الأهتم يغتابك وينتقصك " قال:
لأنه شقيقي في النسب، وجاري في البلد، وشريكي في الصنعة.
دخل أبو العيناء على المتوكل، وعنده جلساؤه، فقال له: يا محمد كلهم كانوا في غيبتك
منذ اليوم، ولم يبق أحد لم يذممك غيري، فقال:
إذا رضيت عنى كرام عشيرتي * فلا زال غضبانا على لئامها
قال بعضهم: بت بالبصرة ليلة مع المسجديين، فلما كان وقت السحر، حركهم
واحد، فقال: إلى كم هذا النوم عن أعراض الناس!
وقيل لشاعر وصله بعض الرؤساء، وأنعم عليه: ما صنع بك فلان؟ قال: ما وفت
نعمته بإساءته، منعني لذة الثلب، وحلاوة الشكوى.
أعرابي: من عاب سفلة فقد رفعه، ومن عاب شريفا فقد وضع نفسه.

(1) لكثير، أمالي القالي 2: 108.
63

نظر بعض السلف إلى رجل يغتاب رجلا، وقال: يا هذا، إنك تملى على حافظيك
كتابا، فانظر ماذا تقول!
ابن عباس: ما الأسد الضاري على فريسة بأسرع من الدنئ في عرض السرى.
بعضهم:
ومطروفة عيناه عن عيب نفسه * فإن لاح عيب من أخيه تبصرا
وقالت رابعة العدوية: إذا نصح الانسان لله أطلعه الله تعالى على مساوئ عمله، فتشاغل
بها عن ذكر مساوئ خلقه.
قال عبد الله بن عروة بن الزبير لابنه: يا بنى، عليك بالدين، فإن الدنيا ما بنت شيئا
إلا هدمه الدين، وإذا بنى الدين شيئا لم تستطع الدنيا هدمه، ألا ترى علي بن أبي طالب
وما يقول فيه خطباء بنى أمية من ذمه وعيبه وغيبته! والله لكأنما يأخذون بناصيته إلى
السماء! ألا تراهم كيف يندبون موتاهم، ويرثيهم شعراؤهم، والله لكأنما يندبون
جيف الحمر!
ومن كلام بعض الصالحين: الورع في المنطق أشد منه في الذهب والفضة، لأنك إذا
استودعك أخوك مالا لم تجد بك نفسك لخيانة فيه، وقد استودعك عرضه وأنت
تغتابه، ولا تبالي.
كان محمد بن سيرين قد جعل على نفسه كلما اغتاب أحدا أن يتصدق بدينار، وكان
إذا مدح أحدا قال: هو كما يشاء الله، وإذا ذمه قال: هو كما يعلم الله.
الأحنف: في خلتان: لا أغتاب جليسي إذا قام عنى، ولا أدخل بين القوم فيما
لم يدخلوني فيه.
قيل: لرجل من العرب: من السيد فيكم؟ قال: الذي إذا أقبل هبناه، وإذا
أدبر اغتبناه.
64

قيل للربيع بن خيثم: ما نراك تعيب أحدا! فقال: لست راضيا على نفسي، فأتفرغ
لذكر عيوب الناس! ثم قال:
لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها * لنفسي في نفسي عن الناس شاغل
عبد الله بن المبارك، قلت لسفيان: ما أبعد أبا حنيفة من الغيبة! ما سمعته يغتاب
عدوا، قال: هو والله أعقل من أن يسلط على حسناته ما يذهب بها.
سئل فضيل عن غيبة الفاسق، فقال: لا تشتغل بذكره، ولا تعود لسانك الغيبة،
اشغل لسانك بذكر الله، وإياك وذكر الناس، فإن ذكر الناس داء، وذكر
الله دواء.
بعض الشعراء:
ولست بذي نيرب في الصديق * خؤون العشيرة سبابها (1)
ولا من إذا كان في مجلس * أضاع القبيلة واغتابها
ولكن أبجل ساداتها * ولا أتعلم ألقابها
وكان يقال: الغيبة فاكهة القراء.
وقيل لإسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة: أي اللحمان أطيب؟ قال: لحوم الناس،
هي والله أطيب من لحوم الدجاج والدراج (2) - يعنى الغيبة.
ابن المغيرة: لا تذكر الميت بسوء، فتكون الأرض أكتم عليه منك.
وكان عبد الملك بن صالح الهاشمي إذا ذكر عنده الميت بسوء، يقول: كفوا عن
أسارى الثرى.
وفى الأثر: سامع الغيبة أحد المغتابين.

(1) النيرب: العداوة.
(2) الدراج: طائر على خلقة القطا.
65

أبو نواس:
ما حطك الواشون من رتبة * عندي وما ضرك مغتاب
كأنهم أثنوا ولم يعلموا * عليك عندي بالذي عابوا
الحسن: ذم الرجل في السر، مدح له في العلانية.
علي عليه السلام: الغيبة جهد العاجز، أخذه المتنبي فقال:
وأكبر نفسي عن جزاء بغيبة * وكل اغتياب جهد من ما له جهد (1)
بلغ الحسن أن رجلا اغتابه، فأهدى إليه طبقا من رطب، فجاءه الرجل معتذرا،
وقال: أصلحك الله! اغتبتك فأهديت لي! قال: إنك أهديت إلى حسناتك، فأردت
أن أكافئك.
أتى رجل عمرو بن عبيد الله، فقال له: إن الأسواري لم يزل أمس يذكرك ويقول:
عمرو الضال، فقال له: يا هذا، والله ما رعيت حق مجالسة الرجل حين نقلت إلينا حديثه،
ولا رعيت حقي حين بلغت عن أخي ما أكرهه. أعلمه أن الموت يعمنا، والبعث يحشرنا
والقيامة تجمعنا، والله يحكم بيننا.
[حكم الغيبة في الدين]
واعلم أن العلماء ذكروا في حد الغيبة: أن تذكر أخاك بما بكرهه لو بلغه، سواء
ذكرت نقصانا في بدنه، مثل أن تقول: الأفرع، أو الأعور، أو في نسبه نحو أن تقول:
ابن النبطي، وابن الإسكاف، أو الزبال، أو الحائك، أو في خلقه، نحو سيئ الخلق أو بخيل،

(1) 1: 376.
66

أو متكبر، أوفى أفعاله الدنيئة نحو قولك: كذاب وظالم ومتهاون بالصلاة، أو الدنيوية نحو
قولك: قليل الأدب متهاون بالناس، كثير الكلام، كثير الاكل، أوفى ثوبه كقولك:
وسخ الثياب، كبير العمامة، طويل الأذيال.
وقد قال قوم: لا غيبة في أمور الدين، لان المغتاب إنما ذم ما ذمه الله تعالى، واحتجوا
بما روى أنه ذكر لرسول الله صلى الله عليه وآله امرأة وكثرة صومها وصلاتها، ولكنها
تؤذى جارتها، فقال: " هي في النار "، ولم ينكر عليهم غيبتهم إياها.
وروى أن امرأة ذكرت عنده عليه السلام بأنها بخيلة: فقال: " فما خيرها إذن "!
وأكثر العلماء على أن الغيبة في أمور الدين محرمة أيضا، وادعوا الاجماع على أن من
ذكر غيره بما يكرهه فهو مغتاب، سواء أكان في الدين أو في غيره. قالوا: والمخالف مسبوق
بهذا الاجماع، وقالوا: وقد روى عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: " هل تدرون
ما الغيبة "؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: " ذكرك أخاك بما يكرهه "، فقائل قال:
أرأيت يا رسول الله، إن كان ذلك في أخي؟ قال: " إن كان فيه فقد اغتبته، وإن لم
يكن فقد بهته " (1).
قالوا: وروى معاذ بن جبل أن رجلا ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال
قوم: ما أعجزه! فقال عليه السلام: " اغتبتم صاحبكم "، فقالوا: قلنا ما فيه، فقال: " إن قلتم
ما ليس فيه فقد بهتموه.
قالوا: وما احتج به الزاعمون أن لا غيبة في الدين، ليس بحجة، لان الصحابة إنما
ذكرت ذلك في مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله لحاجتها إلى تعرف الاحكام بالسؤال،
ولم يكن غرضها التنقص.
واعلم أن الغيبة ليست مقصورة على اللسان فقط، بل كل ما عرفت به صاحبك

(1) بهته، أي قذفته بالباطل.
67

نقص أخيك فهو غيبة، فقد يكون ذلك باللسان، وقد يكون بالإشارة والايماء،
وبالمحاكاة، نحو أن تمشى خلف الأعرج متعارجا، وبالكتاب، فإن القلم أحد اللسانين.
و - ذا ذكر المصنف شخصا في تصنيفه، وهجن كلامه، فهو غيبة، فأما قوله: " قال
قوم كذا " فليس بغيبة، لأنه لم يعين شخصا بعينه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: " ما بال أقوام يقولون كذا! "، فكان
لا يعين، ويكون مقصودة واحدا بعينه.
وأخبث أنواع الغيبة غيبة القراء المرائين، وذلك نحو أن يذكر عندهم إنسان، فيقول
قائلهم: الحمد لله الذي لم يبلنا بدخول أبواب السلطان، والتبذل في طلب الحطام، وقصده
أن يفهم الغير عيب ذلك الشخص، فتخرج الغيبة في مخرج الحمد والشكر لله تعالى، فيحصل
من ذلك غيبة المسلم، ويحصل منه الرياء، وإظهار التعفف عن الغيبة وهو واقع فيها، وكذلك
يقول: لقد ساءني ما يذكر به فلان، نسأل الله أن يعصمه، ويكون كاذبا في دعوى أنه ساءه،
وفي إظهار الدعاء له، بل لو قصد الدعاء له لأخفاه في خلوة عقب صلواته، ولو كان قد
ساءه لساءه أيضا إظهار ما يكرهه ذلك الانسان.
* * *
واعلم أن الاصغاء إلى الغيبة على سبيل التعجب كالغيبة، بل أشد، لأنه إنما يظهر
التعجب ليزيد نشاط المغتاب في الغيبة، فيندفع فيها حكاية، يستخرج الغيبة منه بذلك،
وإذا كان السامع الساكت شريك المغتاب، فما ظنك بالمجتهد في حصول الغيبة، والباعث
على الاستزادة منها! وقد روى أن أبا بكر وعمر ذكرا إنسانا عند رسول الله، فقال أحدهما:
إنه لنؤوم، ثم أخرج رسول الله صلى الله عليه وآله خبزا قفارا، فطلبا منه أدما (1) فقال:
قد ائتدمتما، قالا: ما نعلمه، قال: " بلى بما أكلتما من لحم صاحبكما "، فجمعهما في الاثم، وقد

(1) الخبز القفار: ما كان بغير أدم، والأدم: ما يؤتدم به.
68

كان أحدهما قائلا والاخر مستمعا، فالمستمع لا يخرج من إثم الغيبة إلا بأن ينكر بلسانه،
فإن خاف فبقلبه، وإن قدر على القيام أو قطع الكلام بكلام آخر لزمه ذلك، فإن قال
بلسانه: اسكت وهو مريد للغيبة بقلبه، فذلك نفاق، ولا يخرجه عن الاثم إلا أن يكرهه
بقلبه، ولا يكفي أن يشير باليد، أي اكفف، أو بالحاجب والعين، فإن ذلك استحقار
للمذكور، بل ينبغي أن يذب عنه صريحا، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " من
أذل عنده مؤمن وهو يقدر على أن ينصره فلم ينصره، أذله الله يوم القيامة على رؤوس
الخلائق ".
* * *
[فصل في الأسباب الباعثة على الغيبة]
واعلم أن الأسباب الباعثة على الغيبة أمور:
منها شفاء الغيظ، وذلك أن يجرى من الانسان سبب يغضب به عليه آخر، فإذا
هاج غضبه تشفى بذكر مساوئه، وسبق إليها لسانه بالطبع إن لم يكن هناك دين وازع،
وقد يمنع تشفى الغيظ عند الغضب، فيحتقن الغضب في الباطن، فيصير حقدا ثابتا، فيكون سببا دائما لذكر المساوئ.
ومنها موافقة الاقران ومساعدتهم على الكلام، فإنهم إذا اجتمعوا ربما أخذوا
يتفكهون بذكر الاعراض، فيرى أنه لو أنكر أو قطع المجلس استثقلوه، ونفروا عنه
فيساعدهم، ويرى ذلك من حسن المعاشرة، ويظن أنه مجاملة في الصحبة، وقد يغضب
رفقاؤه من أمر فيحتاج إلى أن يغضب لغضبهم، إظهارا للمساهمة في السراء والضراء،
فيخوض معهم في ذكر العيوب والمساوي.
69

ومنها أن يستشعر من إنسان أنه سيذمه ويطول لسانه فيه، ويقبح حاله عند بعض
الرؤساء، أو يشهد عليه بشهادة فيبادره قبل أن يقبح حاله، فيطعن فيه ليسقط أثر شهادته
عليه. وقد يبتدئ بذكر بعض ما فيه صادقا ليكذب عليه بعد ذلك، فيروج كذبه
بالصدق الأول.
ومنها أن ينسب إلى أمر فيريد التبرؤ منه، فيذكر الذي فعله، وكان من حقه أن
يبرئ نفسه، ولا يذكر الذي فعله، لكنه إنما يذكر غيره تأكيدا لبراءة نفسه، وكيلا
يكون تبرؤا مبتورا، وربما يعتذر بأن يقول: فلان فعله، وكنت شريكا في بعض الامر
ليبرئ نفسه بعض البراءة.
ومنها المباهاة وحب الرياسة، مثل أن يقول: كلام فلان ركيك، ومعرفته بالفن
الفلاني ناقصة، وغرضه إظهار فضله عليه.
ومنها الحسد وإرادة إسقاط قدر من يمدحه الناس بذكر مساوئه، لأنه يشق عليه ثناء
الناس عليه، ولا يجد سبيلا إلى سد باب الثناء عليه إلا بذكر عيوبه.
ومنها اللعب والهزل والمطايبة وتزجية الوقت بالضحك والسخرية، فيذكر غيره بما
يضحك الحاضرين على سبيل الهزء والمحاكاة.
* * *
واعلم أن الذي يقوى في نفسي أن الغيبة لا تكون محرمة إلا إذا كانت على سبيل
القصد إلى تنقص الانسان فقط وغض قدره ة فأما إذا خرجت مخرجا آخر، فليست بحرام،
كمن يظلمه القاضي، ويأخذ الرشوة على إسقاط حقوقه، فإن له أن يذكر حاله للسلطان
متظلما من حيف الحاكم عليه إذ لا يمكنه استيفاء حقوقه إلا بذلك، فقد قال صلى الله عليه
وآله: " مطل الغنى ظلم "، وقال: " لي (1) الواجد يحل عقوبته وعرضه ".

(1) يقال: لي عن الامر، إذا تثاقل.
70

وكذلك النهى عن المنكر واجب، وقد يحتاج الانسان إلى الاستعانة بالغير على تغييره
ورد القاضي إلى منهج الصلاح، فلا بد له أن يشرح للغير حال ذلك الانسان المرتكب المنكر،
ومن ذكر الانسان بلقب مشهور فعرف عن عيبه، كالأعرج والأعمش المحدثين، لم يكن
مغتابا إذا لم يقصد الغض والنقض.
والصحيح أن المجاهر بالفسق لا غيبة له، كصاحب الماخور والمخنث، ومن يدعو
الناس إلى نفسه ابنة، وكالعشار والمستخرج بالضرب، فإن هؤلاء غير كارهين لما يذكرون به،
وربما تفاخروا بذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله: " من ألقى جلباب الحياء عن
وجهه، فلا غيبة له "، وقال عمر: ليس لفاجر حرمة، وأراد المجاهر بالفسق،
دون المستتر.
وقال الصلت بن طريف: قلت للحسن رحمه الله: الرجل الفاجر المعلن بالفجور غير
مراقب، هل ذكرى له بما فيه غيبة؟ فقال: لا، ولا كرامة له!
* * *
[طريق التوبة من الغيبة]
واعلم أن التوبة من الغيبة تكفر عقابها، والتوبة منه هي الندم عليها، والعزم على
ألا يعود، فإن لم يكن الشخص المذكور قد بلغته الغيبة، فلا حاجة إلى الاستحلال منه،
بل لا يجوز إعلامه بذلك، هكذا قال شيخنا أبو الحسين رحمه الله، لأنه لم يؤلمه فيحتاج
إلى أن يستوهب منه إثم ذلك الإيلام وفى إعلامه تضييق صدره، وإدخال مشقة عليه،
وإن كان الشخص المذكور قد بلغته الغيبة، وجب عليه أن يستحله ويستوهبه، فإن كان
قد مات سقط بالتوبة عقاب ما يختص بالبارئ سبحانه من ذلك الوقت، وبقى ما يختص
بذلك الميت لا يسقط حتى يؤخذ العوض له من المذنب يوم القصاص.
71

(141)
الأصل:
ومن كلام له عليه السلام:
أيها الناس من عرف من أخيه وثيقة دين وسداد طريق، فلا يسمعن فيه
أقاويل الرجال. أما إنه قد يرمى الرامي، وتخطئ السهام، ويحيل الكلام، وباطل ذلك
يبور، والله سميع وشهيد.
أما إنه ليس بين الحق والباطل إلا أربع أصابع.
* * *
فسئل عليه السلام عن معنى قوله هذا فجمع أصابعه ووضعها بين أذنه وعينه
ثم قال:
الباطل أن تقول: سمعت، والحق أن تقول: رأيت
* * *
الشرح:
هذا الكلام هو نهى عن التسرع إلى التصديق بما يقال من العيب والقدح في حق
الانسان المستور، الظاهر المشتهر بالصلاح والخير، وهو خلاصة قوله سبحانه: (إن جاءكم
فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) (1). ثم
ضرب عليه السلام لذلك مثلا، فقال: قد يرمى الرامي فلا يصيب الغرض، وكذلك قد
يطعن الطاعن فلا يكون طعنه صحيحا، وربما كان لغرض فاسد أو سمعة ممن له غرض

(1) سورة الحجرات 6.
72

فاسدا، كالعدو والحسود، وقد يشتبه الامر فيظن المعروف منكرا، فيعجل الانسان
بقول لا يتحققه، كمن يرى غلام زيد يحمل في إناء مستور مغطى خلا،
فيظنه خمرا.
قال عليه السلام: " ويحيل الكلام " أي يكون باطلا، أحال الرجل في منطقه إذا
تكلم الذي لا حقيقة له، ومن الناس من يرويه: " ويحيك الكلام " بالكاف،
من قولك: ما حاك فيه السيف، ويجوز " أحاك " بالهمزة، أي ما أثر يعنى أن القول يؤثر
في العرض وإن كان باطلا، والرواية الأولى أشهر وأظهر.
ويبور: يفسد. وقوله: " وباطل ذلك يبور "، مثل قولهم: للباطل جولة، وللحق دولة،
وهذا من قوله تعالى: (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) (1)
والإصبع مؤنثة ولذلك، قال: " أربع أصابع " فحذف الهاء.
فإن قلت: كيف يقول عليه السلام: الباطل ما يسمع والحق ما يرى، وأكثر المعلومات
إنما هي من طريق السماع، كعلمنا الان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله بما بلغنا من معجزاته
التي لم نرها، وإنما سمعناها!
قلت: ليس كلامه في المتواتر من الاخبار، وإنما كلامه في الأقوال الشاذة
الواردة من طريق الآحاد، التي تتضمن القدح فيمن قد غلبت نزاهته، فلا يجوز العدول عن
المعلوم بالمشكوك.

(1) سورة الإسراء 81.
73

(142)
الأصل:
ومن كلام له عليه السلام:
وليس لواضع المعروف في غير حقه، وعند غير أهله من الحظ فيما أتى إلا محمدة
اللئام، وثناء الأشرار، ومقالة الجهال، ما دام منعما عليهم: ما أجود يده! وهو عن
ذات الله بخيل!.
فمن آتاه الله مالا فليصل به القرابة، وليحسن منه الضيافة، وليفك به
الأسير والعاني، وليعط منه الفقير والغارم، وليصبر نفسه على الحقوق والنوائب،
ابتغاء الثواب، فإن فوزا بهذه الخصال شرف مكارم الدنيا، ودرك فضائل
الآخرة، إن شاء الله.
* * *
الشرح:
هذا الكلام يتضمن ذم من يخرج ماله إلى الفتيان والأقران والشعراء ونحوهم،
ويبتغي به المدح والسمعة، ويعدل عن إخراجه في وجوه البر وابتغاء الثواب، قال عليه
السلام: ليس له من الحظ إلا محمدة اللئام وثناء الأشرار، وقولهم: ما أجود يده! أي
ما أسمحه! وهو بخيل بما يرجع إلى ذات الله - يعنى الصدقات وما يجرى مجراها من صلة
الرحم والضيافة وفك الأسير والعاني، وهو الأسير بعينه، وإنما اختلف اللفظ.
74

والغارم: من عليه الديون. ويقال: صبر فلان نفسه على كذا مخففا، أي حبسها، قال تعالى:
(واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم) (1).
وقال عنترة يذكر حربا:
فصبرت عارفة لذلك حرة * ترسو إذا نفس الجبان تطلع (3)
وفى الحديث النبوي في رجل أمسك رجلا، وقتله آخر فقال عليه السلام: " اقتلوا
القاتل واصبروا الصابر "، أي احبسوا الذي حبسه للقتل إلى أن يموت.
وقوله: " فإن فوزا ": أفصح من أن يقول: " فإن الفوز " أو فإن في الفوز كما
قال الشاعر:
إن شواء ونشوة * وخبب البازل الأمون (3)
من لذة العيش، والفتى * للدهر، والدهر ذو شؤون (4)
ولم يقل: " إن الشواء والنشوة "، والسر في هذا أنه كأنه يجعل هذا الشواء شخصا
من جملة أشخاص، داخلة تحت نوع واحد، ويقول: إن واحدا منها أيها كان فهو من
لذة العيش، وإن لم يحصل له كل أشخاص ذلك النوع، ومراده تقرير فضيلة هذه
الخصال في النفوس، أي متى حصل للانسان فوز ما بها، فقد حصل له الشرف، وهذا
المعنى وإن أعطاه لفظة " الفوز " بالألف واللام إذا قصد بها الجنسية إلا أنه قد يسبق إلى الذهن منها الاستغراق لا الجنسية، فأتى بلفظة لا توهم الاستغراق، وهي اللفظة
المنكرة، وهذا دقيق، وهو من لباب علم البيان.

(1) سورة الكهف 28.
(2) اللسان 6: 107، بقول: حبست نفسا صابرة.
(3) لسلم بن ربيعة، ديوان الحماسة بشرح المرزوقي 3: 1137.
(4) الحماسة: " ذو فنون ".
75

(143)
الأصل:
ومنه خطبة له عليه السلام في الاستسقاء:
ألا وإن الأرض التي تحملكم، والسماء التي تظلكم، مطيعتان لربكم،
وما أصبحتا تجودان لكم ببركتهما توجعا لكم، ولا زلفة إليكم، ولا لخير
ترجوانه منكم، ولكن أمرتا بمنافعكم فأطاعتا، وأقيمتا على حدود
مصالحكم فقامتا.
إن الله يبتلى عباده عند الأعمال السيئة بنقص الثمرات، وحبس البركات،
وإغلاق خزائن الخيرات، ليتوب تائب، ويقلع مقلع، ويتذكر متذكر،
ويزدجر مزدجر.
وقد جعل الله سبحانه الاستغفار سببا لدرور الرزق ورحمة الخلق، فقال
سبحانه: (استغفروا ربكم إنه كان غفارا. يرسل السماء عليكم مدرارا.
ويمدد كم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا) (1).
فرحم الله امرأ استقبل توبته، واستقال خطيئته، وبادر منيته!
اللهم إنا خرجنا إليك من تحت الأستار والأكنان، وبعد عجيج البهائم
والولدان، راغبين في رحمتك، وراجين فضل نعمتك. وخائفين من
عذابك ونقمتك.

(1) سورة نوح 10 - 12.
76

اللهم فاسقنا غيثك، ولا تجعلنا من القانطين، ولا تهلكنا بالسنين، ولا تؤاخذنا
بما فعل السفهاء منا، يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا خرجنا إليك نشكو إليك مالا يخفى عليك، حين ألجأتنا المضايق
الوعرة، وأجاءتنا المقاحط المجدبة، وأعيتنا المطالب المتعسرة، وتلاحمت علينا
الفتن المستصعبة.
اللهم إنا نسألك ألا تردنا خائبين، ولا تقلبنا واجمين، ولا تخاطبنا بذنوبنا،
ولا تقايسنا بأعمالنا.
اللهم انشر علينا غيثك وبركتك، ورزقك ورحمتك، واسقنا سقيا ناقعة
مروية معشبة، تنبت بها ما قد فات، وتحيي بها ما قد مات، نافعة الحيا، كثيرة
المجتنى، تروى بها القيعان، وتسيل البطنان، وتستورق الأشجار، وترخص
الأسعار، إنك على ما تشاء قدير.
* * *
الشرح:
تظلكم: تعلو عليكم، وقد أظلتني الشجرة واستظلت بها. والزلفة: القربة، يقول:
إن السماء والأرض إذا جاءتا بمنافعكم - أما السماء فبالمطر، وأما الأرض فبالنبات - فإنهما
لم تأتيا بذلك تقربا إليكم، ولا رحمة لكم، ولكنهما أمرتا بنفعكم فامتثلتا الامر، لأنه
أمر من تجب طاعته، ولو أمرتا بغير ذلك لفعلتاه. والكلام مجاز واستعارة، لان الجماد
لا يؤمر، والمعنى أن الكل مسخر تحت القدرة الإلهية، ومراده تمهيد قاعدة الاستسقاء،
كأنه يقول: إذا كانت السماء والأرض أيام الخصب والمطر والنبات لم يكن ما كان منهما
محبة لكم، ولا رجاء منفعة منكم، بل طاعة الصانع الحكيم سبحانه فيما سخرهما له،
77

فكذلك السماء والأرض أيام الجدب وانقطاع المطر وعدم الكلأ، ليس ما كان منهما
بغضا لكم، ولا استدفاع ضرر يخاف منكم، بل طاعة الصانع الحكيم سبحانه فيما
سخرهما له، وإذا كان كذلك فبالحري ألا نأمل السماء ولا الأرض وأن نجعل آمالنا
معلقة بالملك الحق المدبر لهما، وأن نسترحمه وندعوه ونستغفره، لا كما كانت العرب
في الجاهلية يقولون: مطرنا بنوء كذا، وقد سخط النوء الفلاني على بنى فلان فأمحلوا.
ثم ذكر عليه السلام أن الله تعالى يبتلى عباده عند الذنوب بتضييق الأرزاق عليهم،
وحبس مطر السماء عنهم، وهذا الكلام مطابق للقواعد الكلامية، لان أصحابنا يذهبون
إلى أن الغلاء قد يكون عقوبة على ذنب، وقد يكون لطفا للمكلفين في الواجبات العقلية
وهو معنى قوله: " ليتوب تائب... " إلى آخر الكلمات. ويقلع: يكف ويمسك.
ثم ذكر أن الله سبحانه جعل الاستغفار سببا في درور الرزق، واستدل عليه بالآية
التي أمر نوح عليه السلام فيها قومه بالاستغفار، يعنى التوبة عن الذنوب، وقدم إليهم
الموعد بما هو واقع في نفوسهم، وأحب إليهم من الأمور الأجلة، فمناهم الفوائد العاجلة،
ترغيبا في الايمان وبركاته، والطاعة ونتائجها، كما قال سبحانه للمسلمين: (وأخرى تحبونها
نصر من الله وفتح قريب) (1) فوعدهم بمحبوب الأنفس الذي يرونه في العاجل عيانا
ونقدا لا جزاء ونسيئة، وقال تعالى في موضع آخر: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا
لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض) (2)، وقال سبحانه: (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم) (3)

(1) سورة الصف 13.
(2) سورة الأعراف 96.
(3) سورة المائدة 66.
78

وقال تعالى: (وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا) (1).
* * *
[الثواب والعقاب عند المسلمين وأهل الكتاب]
وكل ما في التوراة من الوعد والوعيد فهو لمنافع الدنيا ومضارها، أما منافعها فمثل أن
يقول: إن أطعتم باركت فيكم، وكثرت من أولادكم وأطلت أعماركم، وأوسعت أرزاقكم،
واستبقيت اتصال نسلكم، ونصرتكم على أعدائكم، وإن عصيتم وخالفتم اخترمتكم
ونقصت من آجالكم، وشتت شملكم، ورميتكم بالجوع والمحل، وأذللت أولادكم
وأشمت بكم أعداءكم، ونصرت عليكم خصومكم، وشردتكم في البلاد، وابتليتكم
بالمرض والذل، ونحو ذلك.
ولم يأت في التوراة وعد ووعيد بأمر يتعلق بما بعد الموت. وأما المسيح عليه السلام،
فإنه صرح بالقيامة وبعث الأبدان، ولكن جعل العقاب روحانيا، وكذلك الثواب،
أما العقاب فالوحشة والفزع وتخيل الظلمة وخبث النفس وكدرها وخوف شديد،
وأما الثواب فما زاد على أن قال: إنهم يكونون كالملائكة، وربما قال: يصعدون إلى
ملكوت السماء، وربما قال أصحابه وعلماء ملته: الضوء واللذة والسرور والامن من زوال
اللذة الحاصلة لهم. هذا هو قول المحققين منهم، وقد أثبت بعضهم نارا حقيقية، لان لفظة
" النار " وردت في الإنجيل، فقال محققوهم: نار قلبية أي نفسية روحانية، وقال الأقلون:
نار كهذه النار. ومنهم من أثبت عقابا غير النار وهو بدني، فقال: الرعدة وصرير الأسنان،
فأما الجنة بمعنى الأكل والشرب والجماع، فإنه لم يقل منهم قائل به أصلا، والإنجيل
صرح بانتفاء ذلك في القيامة تصريحا لا يبقى بعده ريب لمرتاب، وجاء خاتم الأنبياء محمد

(1) سورة الجن 16.
79

صلى الله عليه وسلم فأثبت المعاد على وجه محقق كامل، أكمل مما ذكره الأولان،
فقال: إن البدن والنفس معا مبعوثان، ولكل منهما حظ في الثواب والعقاب.
وقد شرح الرئيس أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا هذا الموضع في رسالة له في
المعاد، تعرف " بالرسالة الأصحوبة " شرحا جيدا، فقال: إن الشريعة المحمدية أثبتت في
القيامة رد النفس إلى البدن، وجعلت للمثاب والمعاقب ثوابا وعقابا بحسب البدن والنفس
جميعا، فكان للمثاب لذات بدنية من حور عين وولدان مخلدين وفاكهة مما يشتهون،
وكأس لا يصدعون عنها ولا ينزفون، وجنات تجرى من تحتها الأنهار، من لبن وعسل وخمر
وماء زلال، وسرر وأرائك وخيام وقباب، فرشها من سندس وإستبرق، وما جرى مجرى
ذلك. ولذات نفسانية من السرور ومشاهدة الملكوت والامن من العذاب والعلم اليقيني
بدوام ما هم فيه، وأنه لا يتعقبه عدم ولا زوال، والخلو عن الأحزان والمخاوف. وللمعاقب
عقاب بدني، وهو المقامع من الحديد، والسلاسل، والحريق والحميم والغسلين والصراخ
والجلود التي كلما نضجت بدلوا جلودا غيرها، وعقاب نفساني من اللعن والخزي والخجل
والندم والخوف الدائم واليأس من الفرج، والعلم اليقيني بدوام الأحوال السيئة
التي هم عليها.
قال: فوقت الشريعة الحكمة حقها من الوعد الكامل، والوعيد الكامل، وبهما
ينتظم الامر، وتقوم الملة، فأما النصارى وما ذهبوا إليه من أمر بعث الأبدان، ثم خلوها
في الدار الآخرة من المطعم والملبس والمشرب والمنكح، فهو أرك ما ذهب إليه أرباب
الشرائع وأسخفه، وذلك أنه إن كان السبب في البعث هو أن الانسان هو البدن، أو أن
البدن شريك النفس في الأعمال الحسنة والسيئة، فوجب أن يبعث، فهذا القول بعينه
إن أوجب ذلك، فإنه يوجب أن يثاب البدن، ويعاقب بالثواب والعقاب البدني المفهوم
عند العالم، وإن كان الثواب والعقاب روحانيا فما الغرض في بعث الجسد؟ ثم ما ذلك
80

الثواب والعقاب الروحانيان! وكيف تصور العامة ذلك حتى يرغبوا ويرهبوا! كلا بل
لم تصور لهم الشريعة النصرانية من ذلك شيئا، غير أنهم يكونون في الآخرة كالملائكة،
وهذا لا يفي بالترغيب التام، ولا ما ذكروه من العقاب الروحاني - وهو الظلمة وخبث النفس -
كاف في الترهيب. والذي جاءت به شريعة الاسلام حسن لا زيادة عليه. انقضى كلام هذا الحكيم.
* * *
فأما كون الاستغفار سببا لنزول القطر ودرور الرزق، فإن الآية بصريحها ناطقة به،
لأنها أمر وجوابه، قال: " استغفروا ربكم إنه كان غفارا. يرسل السماء عليكم مدرار)،
كما تقول: قم أكرمك، أي إن قمت أكرمتك، وعن عمر أنه خرج يستسقى، فما زاد على
الاستغفار، فقيل له: ما رأيناك استسقيت! فقال: لقد استسقيت بمجاديح (1) السماء التي
يستنزل بها المطر.
وعن الحسن أن رجلا شكا إليه الجدب، فقال: استغفر الله، فشكا آخر
إليه الفقر، وآخر قلة النسل، وآخر قلة ريع أرضه، فأمرهم كلهم بالاستغفار، فقال له
الربيع بن صبيح: رجال أتوك يشكون أبوابا، ويشكون أنواعا، فأمرتهم كلهم
بالاستغفار، فتلا له الآية.
قوله: " استقبل توبته " أي استأنفها وجددها. واستقال خطيئته: طلب الإقالة
منها والرحمة. وبادر منيته: سابق الموت قبل أن يدهمه.

(1) النهاية لابن الأثير 1: 146، قال: " المجاديح، واحدها مجدح، والياء زائدة للاشباع،
والقياس أن يكون واحدها " مجداح "، فأما " مجدح " فجمعه مجادح، والمجدح: نجم من النجوم، قيل:
هو الدبران، وقيل: هو ثلاثة كواكب كالأثافي تشبيها بالمجدح الذي له ثلاث شعب، وهو عند العرب
من الأنواء الدالة على المطر، فجعل الاستغفار مشيها بالأنواء مخاطبة لهم بما يعرفون، لا قولا بالأنواء،
وجاء بلفظ الجمع، لأنه أراد الأنواء جميعها التي يزعمون أن من شأنها المطر ".
81

قوله عليه السلام: " لا تهلكنا بالسنين " جمع: سنة، وهي الجدب والمحل، قال
تعالى: (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين) (1)، وقال النبي صلى الله عليه وآله يدعو
على المشركين: " اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف "، والسنة لفظ محذوف منه حرف، قيل
إنه الهاء، وقيل الواو، فمن قال: المحذوف هاء، قال: أصله " سنهة " مثل جبهة، لأنهم
قالوا: نخلة سنهاء، أي تحمل سنة ولا تحمل أخرى، وقال بعض الأنصار:
فليست بسنهاء ولا رجبية * ولكن عرايا في السنين الجوائح (2)
ومن قال أصلها الواو، احتج بقولهم: أسنى القوم يسنون إسناء، إذا لبثوا في المواضع
سنة، فأما التصغير فلا يدل على أحد المذهبين بعينه، لأنه يجوز سنية وسنيهة، والأكثر في
جمعها بالواو والنون " سنون " بكسر السين كما في هذه الخطبة، وبعضهم يقول:
" سنون " بالضم.
والمضايق الوعرة، بالتسكين، ولا يجوز التحريك، وقد وعر هذا الشئ بالضم وعورة،
وكذلك توعر، أي صار وعرا، واستوعرت الشئ: استصعبته.
وأجاءتنا: ألجأتنا، قال تعالى: (فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة) (3).
والمقاحط المجدبة: السنون الممحلة، جمع مقحطة.
وتلاحمت: اتصلت. والواجم: الذي قد اشتد حزنه حتى أمسك عن الكلام،
والماضي " وجم " بالفتح يجم وجوما.
قوله: " ولا تخاطبنا بذنوبنا، ولا تقايسنا بأعمالنا "، أي لا تجعل جواب دعائنا لك
ما تقتضيه ذنوبنا، كأنه يجعله كالمخاطب لهم، والمجيب عما سألوه إياه، كما يفاوض الواحد

(1) سورة الأعراف 130.
(2) اللسان (سنه)،. نسبه إلى سويد بن الصامت الأنصاري.
(3) سورة مريم 23.
82

منا صاحبه ويستعطفه، فقد يجيبه ويخاطبه بما يقتضيه ذنبه إذا اشتدت موجدته عليه ونحوه
ولا تقايسنا بأعمالنا، قست الشئ بالشئ إذا حذوته ومثلته به، أي لا نجعل
ما تجيبنا به مقايسا ومماثلا لأعمالنا السيئة.
قوله: " سقيا ناقعة " هي " فعلى " مؤنثة غير مصروفة.
والحيا: المطر. وناقعة مروية مسكنة للعطش، نقع الماء العطش نقعا ونقوعا سكنه،
وفى المثل " الرشف أنقع " أي أن الشراب الذي يرشف قليلا قليلا أنجع وأقطع للعطش،
وإن كان فيه بطء.
وكثيرة المجتنى، أي كثيرة الكلأ، والكلأ: الذي يجتني ويرعى. والقيعان: جمع قاع،
وهو الفلاة.
والبطنان: جمع بطن، وهو الغامض من الأرض، مثل ظهر وظهران
وعبد وعبدان
83

(144)
الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام:
بعث رسله بما خصهم به من وحيه، وجعلهم حجة له على خلقه. لئلا
تجب الحجة لهم بترك الاعذار إليهم، فدعاهم بلسان الصدق إلى سبيل الحق.
ألا إن الله تعالى قد كشف الخلق كشفة، لا أنه جهل ما أخفوه من مصون
أسرارهم ومكنون ضمائرهم، ولكن ليبلوهم: أيهم أحسن عملا، فيكون
الثواب جزاء والعقاب بواء.
أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا، كذبا وبغيا علينا، أن رفعنا
الله ووضعهم، وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم، بنا يستعطى الهدى،
ويستجلى العمى.
إن الأئمة من قريش، غرسوا في هذا البطن من هاشم، لا تصلح على سواهم،
ولا تصلح الولاة من غيرهم.
* * *
الشرح:
أول الكلام مأخوذ من قوله سبحانه: (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون
للناس على الله حجة بعد الرسل) (1)، وقوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى
نبعث رسولا) (2).

(1) سورة النساء 165.
(2) سورة الإسراء 15.
84

فإن قلت: فهذا يناقض مذهب المعتزلة في قولهم بالواجبات عقلا، ولو لم تبعث
الرسل!
قلت: صحة مذهبهم تقتضي أن تحمل عموم الألفاظ على أن المراد بها الخصوص،
فيكون التأويل: لئلا يكون للناس على الله حجة فيما لم يدل العقل على وجوبه ولا قبحه،
كالشرعيات، وكذلك: " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " على ما لم يكن العقل دليلا
عليه حتى نبعث رسولا.
الإعذار: تقديم العذر. ثم قال: إن الله تعالى كشف الخلق بما تعبدهم به من
الشرعيات على ألسنة الأنبياء: ولم يكن أمرهم خافيا عنه، فيحتاج إلى أن يكشفهم بذلك،
ولكنه أراد ابتلاءهم واختبارهم، ليعلم أيهم أحسن عملا، فيعاقب المسئ ويثيب
المحسن.
فإن قلت: الاشكال قائم، لأنه إذا كان يعلم أهم يحسن، وأيهم يسئ، فما فائدة
الابتلاء؟ وهل هو إلا محض العبث!
قلت: فائدة الابتلاء إيصال نفع إلى زيد لم يكن ليصح إيصاله إليه إلا بواسطة
هذا الابتلاء، وهو ما يقوله أصحابنا، إن الابتلاء بالثواب قبيح، والله تعالى يستحيل أن
يفعل القبيح.
قوله: " وللعقاب بواء " أي مكافأة، قالت ليلى الأخيلية:
فإن تكن القتلى بواء فإنكم * فتى ما قتلتم آل عوف بن عامر (1)
وأبأت القاتل بالقتيل واستبأته أيضا، إذا قتلته به، وقد باء الرجل بصاحبه، أي قتل به

(1) في مقتل توبة بن الحمير، اللسان 1: 29.
85

وفى المثل: " باءت عرار بكحل " (1) وهما بقرتان، قتلت إحداهما بالأخرى. وقال مهلهل
لبجير لما قتل: " بؤ بشسع نعل كليب ".
قوله عليه السلام " أين الذين زعموا " هذا الكلام كناية وإشارة إلى قوم من
الصحابة كانوا ينازعونه الفضل فمنهم من كان يدعى له أنه أفرض، ومنهم من كان
يدعى له إنه أقرأ، ومنهم كان يدعى له أنه أعلم بالحلال والحرام. هذا مع تسليم هؤلاء له
أنه عليه السلام أقضى الأمة، وأن القضاء يحتاج إلى كل هذه الفضائل، وكل واحدة منها
لا تحتاج إلى غيرها، فهو إذا أجمع للفقه وأكثرهم احتواء عليه، إلا أنه عليه السلام لم يرض
بذلك ولم يصدق الخبر الذي قيل: " أفرضكم فلان " إلى آخره فقال: إنه كذب وافتراء
حمل قوما على وضعه الحسد والبغي والمنافسة لهذا الحي من بني هاشم، أن رفعهم الله على
غيرهم، واختصهم دون من سواهم.
وأن هاهنا للتعليل، أي " لان " فحذف اللام التي هي أداة التعليل على الحقيقة قال
سبحانه: (بئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم) (2): وقال بعض النحاة
لبعض الفقهاء الزاعمين أن لا حاجة للفقه إلى النحو: ما تقول لرجل قال لزوجته: أنت
طالق إن دخلت الدار؟ فقال: لا يقع إلا بالدخول، فقال: فإن فتح الهمزة قال: كذلك،
فعرفه أن العربية نافعة في الفقه، وأن الطلاق منجز لا معلق، إن كان مراده تعليل
الطلاق بوقوع الدخول لاشتراطه به.
ثم قال: " بنا يستعطى الهدى، أي يطلب أن يعطى، وكذلك " يستجلى " أي
يطلب جلاؤه.
ثم قال: إن الأئمة من قريش... إلى آخر الفصل.
* * *

(1) المثل في اللسان 14: 103، قال: ومن أمثالهم: " باءت عرار بكحل "، إذا قتل القاتل
بمقتوله، يقال: كانتا بقرتين في بني إسرائيل، قتلت إحداهما بالأخرى. ونقل عن ابن بري: كحل
بمنزله " دعد " يصرف ولا ينصرف.
(2) سورة المائدة 80.
86

[اختلاف الفرق الاسلامية في كون الأئمة من قريش]
وقد (1) اختلف الناس في اشتراط النسب في الإمامة، فقال قوم من قدماء أصحابنا: إن
النسب ليس بشرط فيها أصلا، وإنها تصلح في القرشي وغير القرشي إذا كان فاضلا
مستجمعا للشرائط المعتبرة، واجتمعت الكلمة عليه، وهو قول الخوارج.
وقال أكثر أصحابنا: وأكثر الناس أن النسب شرط فيها، وأنها لا تصلح إلا في
العرب خاصة، ومن العرب فقريش خاصة. وقال أكثر أصحابنا: معنى قول النبي صلى
الله عليه وآله: " الأئمة من قريش " إن القرشية شرط إذا وجد في قريش من يصلح
للإمامة، فإن لم يكن فيها من يصلح، فليست القرشية شرطا فيها.
وقال بعض أصحابنا: معنى الخبر أنه لا تخلو قريش أبدا ممن يصلح للإمامة، فأوجبوا
بهذا الخبر وجود من يصلح من قريش لها في كل عصر وزمان.
وقال معظم الزيدية: إنها في الفاطميين خاصة من الطالبيين، لا تصلح في غير
البطنين، ولا تصح إلا بشرط أن يقوم بها ويدعو إليها فاضل زاهد عالم عادل شجاع
سائس. وبعض الزيدية يجيز الإمامة في غير الفاطميين من ولد علي عليه السلام، وهو
من أقوالهم الشاذة.
وأما الراوندية فإنهم خصصوها بالعباس رحمه الله وولده من بين بطون قريش كلها،
وهذا القول الذي ظهر في أيام المنصور والمهدى، وأما الامامية فإنهم جعلوها سارية في
ولد الحسين عليه السلام في أشخاص مخصوصين، ولا تصلح عندهم لغيرهم. وجعلها
الكيسانية في محمد بن الحنفية وولده، ومنهم من نقلها منه إلى ولد غيره.
فإن قلت: إنك شرحت هذا الكتاب على قواعد المعتزلة وأصولهم، فما قولك في هذا

(1) كذا في أ، ب وفى د: " قد ".
87

الكلام وهو تصريح بأن الإمامة لا تصلح من قريش إلا في بني هاشم خاصة، وليس
ذلك بمذهب للمعتزلة، لا متقدميهم ولا متأخريهم!
قلت: هذا الموضع مشكل، ولى فيه نظر، وإن صح أن عليا عليه السلام، قاله، قلت كما
قال، لأنه ثبت عندي أن النبي صلى الله عليه وآله قال: " إنه مع الحق وإن الحق يدور
معه حيثما دار " ويمكن أن يتأول ويطبق على مذهب المعتزلة فيحمل على أن المراد به كمال
الإمامة كما حمل قوله صلى الله عليه وآله: " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد "، على
نفى الكمال، لا على نفى الصحة.
* * *
الأصل:
منها:
آثروا عاجلا، وأخروا آجلا، وتركوا صافيا، وشربوا آجنا، كأني أنظر إلى
فاسقهم وقد صحب المنكر فألفه، وبسئ به ووافقه، حتى شابت عليه مفارقه،
وصبغت به خلائقه، ثم أقبل مزبدا كالتيار لا يبالي ما غرق، أو كوقع النار
في الهشيم لا يحفل ما حرق.
أين العقول المستصبحة بمصابيح الهدى، والابصار اللامحة إلى منازل التقوى!
أين القلوب التي وهبت لله، وعوقدت على طاعة الله! ازدحموا على الحطام، وتشاحوا على
الحرام، ورفع لهم علم الجنة والنار، فصرفوا عن الجنة وجوههم، وأقبلوا إلى النار
بأعمالهم، ودعاهم ربهم فنفروا، وولوا، ودعاهم الشيطان فاستجابوا وأقبلوا!
* * *
88

آثروا: اختاروا. وأخروا: تركوا. الآجن: الماء المتغير. أجن الماء يأجن وآجن.
وبسئ به: ألفه، وناقة بسوء: ألفت الحالب ولا (1) تمنعه. وشابت عليه مفارقه: طال
عهده به مذ زمن الصبا حتى صار شيخا. وصبغت به خلائقه ما صارت طبعا لان العادة
طبيعة ثانية.
مزبدا، أي ذو زبد، وهو ما يخرج من الفم كالرغوة، يضرب مثلا للرجل
الصائل المقتحم.
والتيار: معظم اللجة، والمراد به هاهنا السيل. والهشيم: دقاق الحطب.
ولا يحفل، بفتح حرف المضارعة، لان الماضي ثلاثي، أي لا يبالي.
والابصار اللامحة: الناظرة. وتشاحوا: تضايقوا، كل منهم يريد ألا يفوته ذلك،
وأصله الشح وهو البخل.
فإن قلت: هذا الكلام يرجع إلى الصحابة الذين تقدم ذكرهم في أول الخطبة؟
قلت: لا، وإن زعم قوم أنه عناهم: بل هو إشارة إلى قوم ممن يأتي من الخلف
بعد السلف، ألا تراه قال: كأني أنظر إلى فاسقهم قد صحب المنكر فألفه، وهذا اللفظ
إنما يقال في حق من لم يوجد بعد، كما قال في حق الأتراك: " كأني أنظر إليهم قوما كأن
وجوههم المجان "، وكما قال في حق صاحب الزنج: " كأني به يا أحنف قد سار في الجيش "،
وكما قال في الخطبة التي ذكرناها آنفا: " كأني به قد نعق بالشام " يعنى به عبد الملك.
وحوشي عليه السلام أن يعنى بهذا الكلام الصحابة، لأنهم ما آثروا العاجل، ولا أخروا الاجل
ولا صحبوا المنكر، ولا أقبلوا كالتيار، لا يبالي ما غرق، ولا كالنار لا تبالي ما أحرقت،
ولا ازدحموا على الحطام، ولا تشاحوا على الحرام، ولا صرفوا عن الجنة وجوههم، ولا أقبلوا

(1) ج: " فلا تمنعه ".
89

إلى النار بأعمالهم، ولا دعاهم الرحمن فولوا، ولا دعاهم الشيطان فاستجابوا. وقد علم كل
أحد حسن سيرتهم، وسداد طريقتهم وإعراضهم عن الدنيا وقد ملكوها، وزهدهم فيها
وقد تمكنوا منها. ولولا قوله: " كأني أنظر إلى فاسقهم " لم أبعد أن يعنى بذلك قوما ممن
عليه اسم الصحابة وهو ردئ الطريقة، كالمغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص، ومروان بن
الحكم، ومعاوية، وجماعة معدودة أحبوا الدنيا واستغواهم الشيطان، وهم معدودون في كتب
أصحابنا. ومن اشتغل بعلوم السيرة والتواريخ عرفهم بأعيانهم.
90

(145)
الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام:
أيها الناس، إنما أنتم في هذه الدنيا غرض تنتضل فيه المنايا، مع كل جرعة
شرق، وفى كل أكله غصص، لا تنالون منها نعمة إلا بفراق أخرى، ولا يعمر معمر
منكم يوما من عمره إلا بهدم آخر من أجله، ولتجدد له زيادة في أكله
إلا بنفاد ما قبلها من رزقه، ولا يحيا له أثر إلا مات له أثر، ولا يتجدد له جديد
إلا بعد أن يخلق له جديد ولا تقوم له نابتة إلا وتسقط منه محصودة. وقد مضت
أصول نحن فروعها، فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله!
* * *
الشرح:
الغرض: ما ينصب ليرمى، وهو الهدف. وتنتضل فيه المنايا: تترامى فيه للسبق،
ومنه الانتضال بالكلام وبالشعر (1)، كأنه يجعل المنايا أشخاصا تتناضل بالسهام، من الناس
من يموت قتلا، ومنهم من يموت غرقا، أو يتردى في بئر، أو تسقط عليه حائط، أو يموت
على فراشه.
ثم قال: " مع كل جرعة شرق، وفى كل أكلة غصص ": بفتح الغين، مصدر
قولك: غصصت يا فلان بالطعام، وروى: " غصص " جمع غصة، وهي الشجا،
وهذا مثل قول بعضهم: المنحة فيها مقرونة بالمحنة، والنعمة مشفوعة بالنقمة.

(1) في أ، ب: " الشعر "،. ما أثبته من د، ج.
91

وقد بالغ بعض الشعراء في الشكوى، فأتى بهذه الألفاظ، لكنه أسرف، فقال:
حظي من العيش أكل كله غصص * مر المذاق، وشرب كله شرق
ومراد أمير المؤمنين عليه السلام بكلامه، أن نعيم الدنيا لا يدوم، فإذا أحسنت
أساءت، وإذا أنعمت أنقمت.
ثم قال: " لا ينالون منها نعمة إلا بفراق أخرى "، هذا معنى لطيف، وذلك أن الانسان
لا يتهيأ له أن يجمع بين الملاذ الجسمانية كلها في وقت، فحال ما يكون آكلا لا يكون مجامعا،
وحال ما يشرب لا يأكل، وحال ما يركب للقنص والرياضة، لا يكون جالسا على فراش
وثير ممهد، وعلى هذا القياس لا يأخذ في ضرب من ضروب الملاذ إلا وهو تارك
لغيره منها.
ثم قال: " ولا يعمر معمر منكم يوما من عمره إلا بهدم آخر من أجله "، وهذا أيضا
لطيف لان المسرور ببقائه إلى يوم الأحد لم يصل إليه إلا بعد أن قضى يوم السبت وقطعه،
ويوم السبت من أيام عمره، فإذا قد هدم من عمره يوما، فيكون قد قرب إلى الموت، لأنه
قد قطع من المسافة جزأ.
ثم قال: " ولا تجدد له زيادة في أكله إلا بنفاد ما قبلها من رزقه " وهذا صحيح فإن
فسرنا الرزق بما وصل إلى البطن على أحد تفسيرات المتكلمين، فإن الانسان لا يأكل
لقمة إلا وقد فرغ من اللقمة التي قبلها، فهو إذا لا يتجدد له زيادة في أكله إلا بنفاد ما قبلها
من رزقه.
ثم قال: " ولا يحيا له أثر، إلا مات له أثر "، وذلك أن الانسان في الأعم الأغلب
لا ينتشر صيته ويشيع فضله إلا عند الشيخوخة، وكذلك لا تعرف أولاده ويصير لهم اسم
في الدنيا إلا بعد كبره وعلو سنه، فإذا ما حيى له أثر إلا بعد أن مات له أثر، وهو قوته ونشاطه
وشبيبته، ومثله قوله: " ولا يتجدد له جديد، إلا بعد أن يخلق له جديد ".
92

ثم قال: " ولا تقوم له نابتة إلا وتسقط منه محصودة " هذه إشارة إلى ذهاب الاباء
عند حدوث أبنائهم في الأعم الأغلب، ولهذا قال: " وقد مضت أصول نحن فروعها
فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله "، وقد نظر الشعراء إلى هذا المعنى، فقالوا فيه وأكثروا،
نحو قول الشاعر:
فإن أنت لم تصدقك نفسك فانتسب * لعلك تهديك القرون الأوائل (1)
فإن لم تجد من دون عدنان والدا * ودون معد فلتزعك العواذل
وقال الشاعر:
فعددت آبائي إلى عرق الثرى * فدعوتهم فعلمت أن لم يسمعوا
لابد من تلف مصيب فانتظر * أبأرض قومك أم بأخرى تصرع
وقد صرح أبو العتاهية بالمعنى، فقال:
كل حياة إلى ممات * وكل ذي جدة يحول
كيف بقاء الفروع يوما * وقد ذوت قبلها الأصول!
* * *
الأصل:
منها:
وما أحدثت بدعة إلا ترك بها سنة، فاتقوا البدع، والزموا المهيع.
إن عوازم الأمور أفضلها، وإن محدثاتها شرارها.

(1) للبيد، ديوانه 2: 27، 28.
93

الشرح:
البدعة: كل ما أحدث مما لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله، فمنها الحسن
كصلاة التراويح، ومنها القبيح كالمنكرات التي ظهرت في أواخر الخلافة العثمانية، وإن
كانت قد (1) تكلفت الاعذار عنها.
ومعنى قوله عليه السلام: " ما أحدثت بدعة إلا ترك بها سنة "، أن من السنة
ألا تحدث البدعة، فوجود البدعة عدم للسنة لا محالة.
والمهيع: الطريق الواضح، من قولهم: أرض هيعة، أي مبسوطة واسعة، والميم مفتوحة
وهي زائدة.
وعوازم الأمور: ما تقادم منها، من قولهم: عجوز عوزم أي مسنة، قال الراجز:
لقد غدوت خلق الثياب * أحمل عدلين من التراب (2)
لعوزم وصبية سغاب * فآكل ولاحس وآبي
ويجمع " فوعل " على فواعل، كدورق، وهو جل، ويجوز أن يكون " عوازم "
جمع عازمة، ويكون فاعل بمعنى مفعول، أي معزوم عليها، أي مقطوع معلوم بيقين صحتها،
ومجئ " فاعلة " بمعنى " مفعولة " كثير، كقولهم: عيشة راضية بمعنى مرضية، والأول
أظهر عندي، لان في مقابلته قوله: " وإن محدثاتها شرارها "، والمحدث في مقابلة القديم.

(1) ساقطة من ا.
(2) اللسان 15: 295 (عن الفراء).
94

(146)
الأصل:
ومن كلام له عليه السلام وقد استشاره عمر في الشخوص لقتال الفرس بنفسه:
إن هذا الامر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا بقلة وهو دين الله الذي أظهره،
وجنده الذي أعده وأمده، حتى بلغ ما بلغ، وطلع حيثما (1) طلع، ونحن على موعود من
الله، والله منجز وعده، وناصر جنده، ومكان القيم بالامر مكان النظام من
الخرز، يجمعه ويضمه، فإن انقطع النظام تفرق الخرز وذهب، ثم لم يجتمع
بحذافيره أبدا.
والعرب اليوم وإن كانوا قليلا فهم كثيرون بالاسلام، عزيزون بالاجتماع،
فكن قطبا واستدر الرحى بالعرب، وأصلهم دونك نار الحرب، فإنك إن شخصت
من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها، حتى يكون
ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك.
إن الأعاجم إن ينظروا إليك غدا يقولوا: هذا أصل العرب: فإذا اقتطعتموه
استرحتم، فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك وطمعهم فيك.
فأما ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين، فإن الله سبحانه هو
أكره لمسيرهم منك، وهو أقدر على تغيير ما يكره، وأما ما ذكرت من
عددهم فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة، وإنما كنا نقاتل بالنصر والمعونة.
* * *

(1) مخطوطة النهج: " حيث ".
95

الشرح:
نظام العقد: الخيط الجامع له، وتقول: أخذته كله بحذافيره، أي بأصله، وأصل
الحذافير أعالي الشئ ونواحيه، الواحد حذفار.
واصلهم نار الحرب: اجعلهم صالين لها، يقال: صليت اللحم وغيره أصليه صليا،
مثل رميته أرميه رميا، إذا شويته، وفى الحديث إنه صلى الله عليه وآله أتى بشاة مصلية (1)،
أي مشوية. ويقال أيضا: صليت الرجل نارا إذا أدخلته النار وجعلته يصلاها، فإن
ألقيته فيها إلقاء كأنك تريد الاحراق قلت: أصليته بالألف، وصليته تصلية، وقرئ
(ويصلى سعيرا) (2) ومن خفف فهو من قولهم: صلى فلان بالنار بالكسر يصلى صليا
احترق، قال الله تعالى: (هم أولى بها صليا) (3) ويقال أيضا: صلى فلان بالامر،
إذا قاسى حره وشدته، قال الطهوي:
ولا تبلى بسالتهم وإن هم * صلوا بالحرب حينا بعد حين (4)
وعلى هذا الوجه يحمل كلام أمير المؤمنين عليه السلام وهو مجاز من الاحراق،
والشئ الموضوع لها هذا اللفظ حقيقة.
والعورات: الأحوال التي يخاف انتقاضها في ثغر أو حرب، قال تعالى: (يقولون
إن بيوتنا عورة وما هي بعورة) (5). والكلب: الشر والأذى.
* * *
[يوم القادسية]
واعلم أن هذا الكلام قد اختلف في الحال التي قاله فيها لعمر، فقيل: قاله له في

(1) النهاية لابن الأثير 2: 273.
(2) سورة الانشقاق 12، وهي قراءة الحرمين وابن عامر والكسائي. تفسير القرطبي 19: 270.
(3) سورة مريم 70.
(4) لأبي الغول الطهوي، الحماسة، بشرح المرزوقي 1: 41.
(5) سورة الأحزاب 13.
96

غزاة القادسية، وقيل في غزاة نهاوند. وإلى هذا القول الأخير ذهب محمد بن جرير الطبري
في " التاريخ الكبير "، وإلى القول الأول ذهب المدائني في كتاب " الفتوح "، ونحن
نشير إلى ما جرى في هاتين الوقعتين إشارة خفيفة على مذهبنا في ذكر السير والأيام.
فأما وقعة القادسية فكانت في سنة أربع عشرة للهجرة، استشار عمر المسلمين في أمر
القادسية، فأشار عليه علي بن أبي طالب في رواية أبى الحسن علي بن محمد بن سيف
المدائني ألا يخرج بنفسه، وقال: إنك إن تخرج لا يكن للعجم همه إلا استئصالك،
لعلمهم أنك قطب رحا العرب، فلا يكون للاسلام بعدها دولة. وأشار عليه غيره من الناس أن
يخرج بنفسه، فأخذ برأي علي عليه السلام.
وروى غير المدائني أن هذا الرأي أشار به عبد الرحمن بن عوف، قال أبو جعفر محمد
ابن جرير الطبري: لما بدا لعمر في المقام بعد أن كان عزم على الشخوص بنفسه، أمر
سعد بن أبي وقاص على المسلمين، وبعث يزدجرد رستم الأرمني أميرا على الفرس، فأرسل
سعد النعمان بن مقرن رسولا إلى يزدجرد، فدخل عليه، وكلمه بكلام غليظ، فقال
يزدجرد: لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتك، ثم حمله وقرا من تراب على رأسه، وساقه
حتى أخرجه من باب من أبواب المدائن، وقال: ارجع إلى صاحبك، فقد كتبت إلى
رستم أن يدفنه وجنده من العرب في خندق القادسية، ثم لأشغلن العرب بعدها بأنفسهم،
ولأصيبنهم بأشد مما أصابهم به سابور ذو الأكتاف. فرجع النعمان إلى سعد فأخبره، فقال:
لا تخف، فإن الله قد ملكنا أرضهم تفاؤلا بالتراب.
قال أبو جعفر: وتثبط رستم عن القتال وكرهه، وآثر المسالمة، واستعجله يزدجرد
مرارا، واستحثه على الحرب، وهو يدافع بها، ويرى المطاولة. وكان عسكره مائة وعشرين ألفا
97

وكان عسكر سعد بضعا وثلاثين ألفا، وأقام رستم بريدا من الرجال، الواحد منهم
إلى جانب الاخر، من القادسية إلى المدائن، كلما تكلم رستم كلمة أداها بعضهم إلى بعض،
حتى تصل إلى سمع يزدجرد في وقتها، وشهد وقعة القادسية مع المسلمين طليحة بن خويلد،
وعمرو بن معديكرب، والشماخ بن ضرار، وعبدة بن الطبيب الشاعر، وأوس بن معن الشاعر
وقاموا في الناس ينشدونهم الشعر ويحرضونهم، وقرن أهل فارس أنفسهم بالسلاسل
لئلا يهربوا، فكان المقرنون منهم نحو ثلاثين ألفا، والتحم الفريقان في اليوم الأول،
فحملت الفيلة التي مع رستم على الخيل فطحنتها، وثبت لها جمع من الرجالة، وكانت ثلاثة
وثلاثين فيلا، منها فيل الملك، وكان أبيض عظيما، فضربت الرجال خراطيم الفيلة
بالسيوف فقطعتها، وارتفع عواؤها وأصيب في هذا اليوم - وهو اليوم الأول - خمسمائة من
المسلمين، وألفان من الفرس. ووصل في الثاني أبو عبيدة بن الجراح من الشام في عساكر
من المسلمين، فكان مددا لسعد، وكان هذا اليوم على الفرس أشد من اليوم الأول
قتل من المسلمين ألفان، ومن المشركين عشرة آلاف. وأصبحوا في اليوم الثالث على القتال،
وكان عظيما على العرب والعجم معا، وصبر الفريقان، وقامت الحرب ذلك اليوم، وتلك
الليلة جمعاء لا ينطقون، كلامهم الهرير، فسميت ليلة الهرير.
وانقطعت الاخبار والأصوات عن سعد ورستم، وانقطع سعد إلى الصلاة والدعاء
والبكاء، وأصبح الناس حسرى لم يغمضوا ليلتهم كلها، والحرب قائمة بعد إلى وقت
الظهر، فأرسل الله تعالى ريحا عاصفا في اليوم الرابع، أمالت الغبار والنقع على العجم،
فانكسروا، ووصلت العرب إلى سرير رستم، وقد قام عنه ليركب جملا، وعلى رأسه العلم
فضرب هلال بن علقمة الحمل الذي رستم فوقه، فقطع حباله، ووقع على هلال أحد العدلين،
فأزال فقار ظهره، ومضى رستم نحو العتيق، فرمى نفسه فيه، واقتحم هلال عليه، فأخذ
98

برجله، وخرج به يجره حتى ألقاه تحت أرجل الخيل، وقد قتله وصعد السرير، فنادى:
أنا هلال، أنا قاتل رستم، فانهزمت الفرس، وتهافتوا (1) في العقيق، فقتل منهم نحو ثلاثين
ألفا، ونهبت أموالهم وأسلابهم، وكانت عظيمة جدا، وأخذت العرب منهم كافورا
كثيرا، فلم يعبئوا به، لأنهم لم يعرفوه، وباعوه من قوم بملح، كيلا بكيل، وسروا بذلك
وقالوا: أخذنا منهم ملحا طيبا، ودفعنا إليهم ملحا غير طيب، وأصابوا من الجامات
من الذهب والفضة مالا يقع عليه العد لكثرته، فكان الرجل منهم يعرض جامين من
ذهب على صاحبه، ليأخذ منه جاما واحدا من فضة يعجبه بياضها ويقول: من يأخذ
صفراوين ببيضاء!
وبعث سعد بالأنفال والغنائم إلى عمر، فكتب إلى سعد: لا تتبع الفرس وقف
مكانك واتخذه منزلا. فنزل موضع الكوفة اليوم واختط مسجدها، وبنى فيها
الخطط للعرب.
* * *
[يوم نهاوند]
فأما وقعة نهاوند، فإن أبا جعفر محمد بن جرير الطبري ذكر في كتاب التاريخ (2)، أن
عمر لما أراد أن يغزو العجم وجيوش كسرى وهي مجتمعة بنهاوند، استشار الصحابة،
فقام عثمان فتشهد، فقال: أرى يا أمير المؤمنين أن تكتب إلى أهل الشام فيسيروا
من شامهم، وتكتب إلى أهل اليمن فيسيروا من يمنهم، ثم تسير أنت بأهل هذين الحرمين
إلى المصرين: البصرة والكوفة، فتلقى جمع المشركين بجمع المسلمين، فإنك إذا سرت

(1) تهافت على الشئ: تساقط وتتابع، وأكثر استعماله في الشعر.
(2) تاريخه 4: 237 وما بعدها (المطبعة الحسينية).
99

بمن معك ومن عندك، قل في نفسك ما تكاثر من عدد القوم، وكنت أعز عزا
وأكثر، إنك لا تستبقي من نفسك بعد اليوم (1) باقية، ولا تمتع من الدنيا بعزيز،
ولا تكون منها في حرز حريز. إن هذا اليوم له ما بعده، فاشهد بنفسك ورأيك
وأعوانك، ولا تغب عنه.
قال أبو جعفر: وقام طلحة، فقال: أما بعد يا أمير المؤمنين، فقد أحكمتك الأمور،
وعجمتك البلايا، وحنكتك (2) التجارب، وأنت وشأنك، وأنت ورأيك، لا ننبو في
يديك، ولا نكل أمرنا إلا إليك، فأمرنا نجب، وادعنا نطع، واحملنا نركب، وقدنا
ننقد، فإنك ولى هذا الامر، وقد بلوت وجربت واختبرت، فلم ينكشف شئ من
عواقب الأمور لك إلا عن خيار.
فقال علي بن أبي طالب عليه السلام: أما بعد، فإن هذا الامر لم يكن نصره ولا خذلانه
بكثرة ولا قلة، إنما هو دين الله الذي أظهره، وجنده الذي أعزه وأمده بالملائكة،
حتى بلغ ما بلغ، فنحن على موعود من الله، والله منجز وعده، وناصر جنده، وإن
مكانك منهم مكان النظام من الخرز، يجمعه ويمسكه، فأن انحل تفرق ما فيه وذهب،
ثم لم يجتمع بحذافيره أبدا، والعرب اليوم وإن كانوا قليلا، فإنهم كثير عزيز بالاسلام،
أقم مكانك، واكتب إلى أهل الكوفة، فإنهم أعلام
العرب ورؤساؤهم، وليشخص
منهم الثلثان، وليقم الثلث، واكتب إلى أهل البصرة أن يمدوهم ببعض من عندهم،
ولا تشخص الشام ولا اليمن، إنك إن أشخصت أهل الشام من شامهم، سارت الروم إلى
ذراريهم، وإن أشخصت أهل اليمن من يمنهم سارت الحبشة إلى ذراريهم، ومتى
شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أقطارها وأطرافها، حتى يكون
ما تدع وراءك أهم إليك مما بين يديك من العورات والعيالات. إن الأعاجم إن ينظروا

(1) الطبري: " العرب ".
(2) الطبري: " واحتنكتك ".
100

إليك غدا قالوا: هذا أمير العرب وأصلهم، فكان ذلك أشد لكلبهم عليك. وأما
ما ذكرت من مسير القوم، فإن الله هو أكره ليرهم منك، وهو أقدر على تغيير
ما يكره، وأما ما ذكرت من عددهم فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة، وإنما كنا
نقاتل بالصبر والنصر.
فقال عمر: أجل! هذا الرأي، وقد كنت أحب أن أتابع عليه، فأشيروا على برجل
أوليه ذلك الثغر. قالوا: أنت أفضل رأيا، فقال: أشيروا على به، واجعلوه عراقيا، قالوا:
أنت أعلم بأهل العراق، وقد وفدوا عليك، فرأيتهم وكلمتهم. قال: أما والله لأولين أمرهم
رجلا يكون عمدا لأول الأسنة، قيل: ومن هو يا أمير المؤمنين؟ قال: النعمان بن مقرن،
قالوا: هو لها.
وكان النعمان يومئذ بالبصرة، فكتب إليه عمر، فولاه أمر الجيش.
قال أبو جعفر: كتب إليه عمر: سر إلى نهاوند، فقد وليتك حرب الفيروزان -
وكان المقدم على جيوش كسرى - فإن حدث بك حدث فعلى الناس حذيفة بن اليمان،
فإن حدث به حدث، فعلى الناس نعيم بن مقرن، فإن فتح الله عليكم فاقسم على الناس
ما أفاء الله عليهم، ولا ترفع إلى منه شيئا، وإن نكث القوم فلا تراني ولا أراك، وقد
جعلت معك طليحة بن خويلد، وعمرو بن معد يكرب، لعلمهما بالحرب، فاستشرهما
ولا تولهما شيئا.
قال أبو جعفر: فسار النعمان بالعرب حتى وافى نهاوند، وذلك في السنة السابعة من
خلافة عمر، وتراءى الجمعان، ونشب القتال، وحجزهم المسلمون في خنادقهم، واعتصموا
بالحصون والمدن، وشق على المسلمين ذلك، فأشار طليحة عليه، فقال: أرى أن تبعث
خيلا ببعض القوم وتحمشهم (1)، فإذا استحمشوا خرج بعضهم، واختلطوا بكم

(1) تحمشهم: تهيجهم.
101

فاستطردوا لهم، فإنهم يطمعون بذلك، ثم تعطف عليهم حتى يقضى الله بيننا وبينهم
بما يحب.
ففعل النعمان ذلك، فكان كما ظن طليحة، وانقطع العجم عن حصونهم بعض
الانقطاع، فلما أمعنوا في الانكشاف للمسلمين حمل النعمان بالناس، فاقتتلوا قتالا شديدا
لم يسمع السامعون مثله، وزلق بالنعمان فرسه فصرع وأصيب، وتناول الراية نعيم أخوه،
فأتى حذيفة لها فدفعها إليه، وكتم المسلمون مصاب أميرهم، واقتتلوا حتى أظلم الليل،
ورجعوا والمسلمون وراءهم، فعمى عليهم قصدهم فتركوه، وغشيهم المسلمون بالسيوف، فقتلوا
منهم مالا يحصى، وأدرك المسلمون الفيروزان وهو هارب، وقد انتهى إلى ثنية
مشحونة (1) ببغال موقرة عسلا، فحبسته على أجله، فقتل، فقال المسلمون: إن لله جنودا
من عسل.
ودخل المسلمون نهاوند فاحتووا على ما فيها، وكانت أنفال هذا اليوم عظيمة، فحملت
إلى عمر، فلما رآها بكى، فقال له المسلمون: إن هذا اليوم يوم سرور وجذل، فما بكاؤك؟
قال: ما أظن أن الله تعالى زوى (2) هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر
إلا لخير أراده بهما، ولا أراه فتحه على إلا لشر أريد بي، إن هذا المال لا يلبث
أن يفتن الناس.
ثم رفع يده إلى السماء يدعو ويقول: اللهم اعصمني ولا تكلني إلى نفسي، يقولها
مرارا، ثم قسمه بين المسلمين عن آخره.

(1) يقال: شحن المدينة بالخيل أو البغال، إذا ملأها.
(2) زوى: منع وصرف.
102

(147)
الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام:
فبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق، ليخرج عباده من عبادة الأوثان
إلى عبادته، ومن طاعة الشيطان إلى طاعته، بقرآن قد بينه وأحكمه، ليعلم العباد
ربهم إذ جهلوه، وليقروا به بعد إذ جحدوه، وليثبتوه بعد إذ أنكروه، فتجلى
لهم سبحانه في كتابه من غير أن يكونوا رأوه بما أراهم من قدرته، وخوفهم من
سطوته. وكيف محق من محق بالمثلات، واحتصد من احتصد بالنقمات!
* * *
الشرح:
الأوثان: جمع وثن، وهو الصنم، ويجمع أيضا على وثن، مثل أسد وآساد وأسد،
وسمى وثنا لانتصابه وبقائه على حال واحدة، من قولك: وثن فلان بالمكان، فهو واثن،
وهو الثابت الدائم.
قوله: " فتجلى سبحانه لهم "، أي ظهر من غير أن يرى بالبصر، بل بما نبههم عليه
في القرآن من قصص الأولين، وما حل بهم من النقمة عند مخالفة الرسل.
والمثلات، بضم الثاء: العقوبات.
فإن قلت: ظاهر هذا الكلام أن الرسول عليه الصلاة والسلام بعث إلى الناس
ليقروا بالصانع ويثبتوه، وهذا خلاف قول المعتزلة، لان فائدة الرسالة عندهم هي إلطاف
103

المكلفين بالأحكام الشرعية المقربة إلى الواجبات العقلية، والمبعدة من المقبحات العقلية،
ولا مدخل للرسول في معرفة البارئ سبحانه، لان العقل يوجبها، وإن لم يبعث الرسل!
قلت: إن كثيرا من شيوخنا أوجبوا بعثه الرسل، إذا كان في حثهم المكلفين على
ما في العقول فائدة، وهو مذهب شيخنا أبى على رحمه الله، فلا يمتنع أن يكون إرسال
محمد صلى الله عليه وآله إلى العرب وغيرهم، لان الله تعالى علم أنهم مع تنبيهه إياهم - على ما هو
واجب في عقولهم من المعرفة - أقرب إلى حصول المعرفة، فحينئذ يكون بعثه لطفا، ويستقيم
كلام أمير المؤمنين.
* * *
الأصل:
وإنه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شئ أخفى من الحق، ولا أظهر
من الباطل، ولا أكثر من الكذب على الله ورسوله، وليس عند أهل ذلك الزمان
سلعة أبور من الكتاب إذا تلى حق تلاوته، ولا أنفق منه إذا حرف عن مواضعه،
ولا في البلاد شئ أنكر من المعروف، ولا أعرف من المنكر، فقد نبذ الكتاب
حملته، وتناساه حفظته، فالكتاب يومئذ وأهله طريدان منفيان، وصاحبان مصطحبان،
في طريق واحد لا يؤويهما مؤو، فالكتاب وأهله في ذلك الزمان في الناس وليسا
فيهم ومعهم وليسا معهم لان الضلالة لا توافق الهدى وإن اجتمعا. فاجتمع القوم على
الفرقة، وافترقوا عن الجماعة، كأنهم أئمة الكتاب، وليس الكتاب إمامهم، فلم يبق
عندهم منه إلا اسمه، ولا يعرفون إلا خطه وزبره، ومن قبل ما مثلوا بالصالحين كل
مثلة، وسموا صدقهم على الله فرية، وجعلوا في الحسنة عقوبة السيئة، وإنما هلك
104

من كان قبلكم بطول آمالهم، وتغيب آجالهم، حتى نزل بهم الموعود الذي ترد عنه
المعذرة، وترفع عنه التوبة، وتحل معه القارعة والنقمة.
* * *
الشرح:
أخبر عليه السلام أنه سيأتي على الناس زمان من صفته كذا وكذا، وقد رأيناه ورآه
من كان قبلنا أيضا، قال شعبة إمام المحدثين: تسعة أعشار الحديث كذب. وقال
الدارقطني: ما الحديث الصحيح في الحديث إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود.
وأما غلبة الباطل على الحق حتى يخفى الحق عنده فظاهرة.
وأبور: أفسد، من بار الشئ، أي هلك. والسلعة: المتاع، ونبذ الكتاب: ألقاه
ولا يؤويهما: لا يضمهما إليه، وينزلهما عنده.
والزبر: مصدر زبرت أزبر بالضم، أي كتبت، وجاء يزبر بالكسر، والزبر
بالكسر: الكتاب وجمعه زبور، مثل قدر وقدور، وقرأ بعضهم: (وآتينا داود
زبورا) (1)، أي كتبا. والزبور، بفتح الزاي: الكتاب المزبور، فعول بمعنى مفعول،
وقال الأصمعي: سمعت أعرابيا يقول: أنا أعرف بزبرتي (2) أي خطى وكتابتي.
ومثلوا بالصالحين، بالتخفيف: نكلوا بهم، مثلت بفلان أمثل بالضم مثلا بالفتح
وسكون الثاء، والاسم المثلة بالضم، ومن روى " مثلوا " بالتشديد، أراد جدعوهم
بعد قتلهم.
و " على " في قوله: " وسموا صدقهم على الله فرية "، ليست متعلقة بصدقهم، بل بفرية،

(1) سورة الإسراء 55.
(2) الصحاح 2: 667.
105

أي وسموا صدقهم فرية على الله، فإن امتنع ان يتعلق حرف الجر به لتقدمه عليه، وهو
مصدر، فليكن متعلقا بفعل مقدر دل عليه هذا المصدر الظاهر. وروى: وجعلوا في الحسنة
العقوبة السيئة " والرواية الأولى بالإضافة أكثر وأحسن.
ولموعود هاهنا: الموت. والقارعة: المصيبة تقرع، أي تلقى بشدة وقوة.
* * *
الأصل:
أيها الناس، إنه من استنصح الله وفق، ومن اتخذ قوله دليلا هدى للتي هي
أقوم، فإن جار الله آمن، وعدوه خائف.
وإنه لا ينبغي لمن عرف عظمة الله أن يتعظم، فإن رفعة الذين يعلمون
ما عظمته أن يتواضعوا له، وسلامة الذين يعلمون ما قدرته أن يستسلموا له.
فلا تنفروا من الحق نفار الصحيح من الأجرب، والبارئ من ذي السقم.
واعلموا أنكم لن تعرفوا الرشد حتى تعرفوا الذي تركه، ولن تأخذوا بميثاق
الكتاب حتى تعرفوا الذي نقضه، ولن تمسكوا به حتى تعرفوا الذي نبذه.
فالتمسوا ذلك من عند أهله، فإنهم عيش العلم، وموت الجهل، هم الذين يخبركم
حكمهم عن علمهم، وصمتهم عن منطقهم، وظاهرهم عن باطنهم، لا يخالفون
الدين ولا يختلفون فيه، فهو بينهم شاهد صادق، وصامت ناطق.
* * *
الشرح:
من استنصح الله: من أطاع أوامره وعلم أنه يهديه إلى مصالحه، ويرده عن مفاسده
ويرشده إلى ما فيه نجاته، ويصرفه عما فيه عطبه.
106

والتي هي أقوم: يعنى الحالة والخلة التي اتباعها أقوم، وهذا من الألفاظ القرآنية، قال
سبحانه: (إن هذا القرآن يهدى للتي هي أقوم) (1). والمراد بتلك الحالة المعرفة
بالله وتوحيده ووعد له.
ثم نهى عليه السلام عن التكبر والتعظم وقال: إن رفعة القوم الذين يعرفون
عظمة الله أن يتواضعوا له. وما هاهنا، بمعنى أي شئ ومن روى بالنصب جعلها زائدة.
وقد ورد في ذم التعظم والتكبر ما يطول استقصاؤه، وهو مذموم على العباد، فكيف بمن
يتعظم على الخالق سبحانه وإنه لمن الهالكين! وقال رسول الله صلى الله عليه وآله لما
افتخر: " أنا سيد ولد آدم "، ثم قال: " ولا فخر "، فجهر بلفظة الافتخار، ثم أسقط
استطالة الكبر، وإنما جهر بما جهر به، لأنه أقامه مقام شكر النعمة والتحدث بها،
وفى الحديث المرفوع عنه صلى الله عليه وآله: " إن الله قد أذهب عنكم حمية الجاهلية وفخرها
بالآباء، الناس بنو آدم وآدم من تراب، مؤمن تقى، وفاجر شقي. لينتهين أقوام يفخرون
برجال، إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من جعلان تدفع
النتن بأنفها ".
قوله: " واعلموا أنكم لن تعرفوا الرشد حتى تعرفوا الذي تركه "، فيه تنبيه على أنه يجب
البراءة من أهل الضلال، وهو قول أصحابنا جميعهم، فإنهم بين مكفر لمن خالف أصول
التوحيد والعدل - وهم الأكثرون - أو مفسق، وهم الأقلون، وليس أحد منهم معذورا عند
أصحابنا وان ضل بعد النظر، كمالا تعذر اليهود والنصارى إذا ضلوا بعد النظر.
ثم قال عليه السلام: " فالتمسوا ذلك عند أهله "، هذا كناية عنه عليه السلام، وكثيرا
ما يسلك هذا المسلك، ويعرض هذا التعريض، وهو الصادق الأمين العارف
بأسرار الإلهية.

(1) سورة الإسراء 9.
107

ثم ذكر أن هؤلاء الذين أمر باتباعهم ينبئ حكمهم عن علمهم، وذلك لان الامتحان
يظهر خبيئة الانسان.
ثم قال: " وصمتهم عن نطقهم "، صمت العارف أبلغ من نطق غيره، ولا يخفى فضل الفاضل
وإن كان صامتا.
ثم ذكر أنهم لا يخالفون الدين لأنهم قوامه وأربابه، ولا يختلفون فيه، لان الحق
في التوحيد والعدل واحد، فالدين بينهم شاهد صادق يأخذون بحكمه، كما يؤخذ بحكم
الشاهد الصادق.
وصامت ناطق، لأنه لا ينطق بنفسه بل لا بد له من مترجم، فهو صامت في
الصورة، وهو في المعنى أنطق الناطقين، لان الأوامر والنواهي والآداب كلها مبنية عليه
ومتفرعة عليه.
108

(148)
ومن كلام له عليه السلام في ذكر أهل البصرة:
كل واحد منهما يرجو الامر له، ويعطفه عليه دون صاحبه، لا يمتان إلى الله
بحبل، ولا يمدان إليه بسبب.
كل واحد منهما حامل ضب لصاحبه، وعما قليل يكشف قناعه به.
والله لئن أصابوا الذي يريدون لينتزعن هذا نفس هذا، وليأتين هذا
على هذا.
قد قامت الفئة الباغية فأين المحتسبون! قد سنت لهم السنن، وقدم لهم الخبر،
ولكل ضلة علة، ولكل ناكث شبهة.
والله لا أكون كمستمع اللدم، يسمع الناعي، ويحضر الباكي،
ثم لا يعتبر.
* * *
الشرح:
ضمير التثنية راجع إلى طلحة والزبير رضي الله عنهما. ويمتان: يتوسلان، الماضي ثلاثي،
مت يمت بالضم. والضب: الحقد. والمحتسبون: طالبوا الحسبة، وهي الاجر. ومستمع اللدم
كناية عن الضبع، تسمع وقع الحجر بباب جحرها من يد الصائد فتنخذل وتكف
109

جوارحها إليها حتى يدخل عليها فيربطها، يقول: لا أكون مقرا بالضيم راغنا (1)، أسمع الناعي
المخبر عن قتل عسكر الجمل لحكيم بن جبلة وأتباعه، فلا يكون عندي من التغيير والانكار
لذلك، إلا أن أسمعه وأحضر الباكين على قتلاهم.
وقوله: " لكل ضلة علة، ولكل ناكث شبهة "، هو جواب سؤال مقدر، كأنه
يقول: إن قيل: لأي سبب خرج هؤلاء؟ فإنه لابد أن يكون لهم تأويل في خروجهم،
وقد قيل: إنهم يطلبون بدم عثمان، فهو عليه السلام قال: كل ضلالة فلا بد لها من علة
اقتضتها، وكل ناكث فلا بد له من شبهة يستند إليها.
وقوله: " لينتزعن هذا نفس هذا " قول صحيح لا ريب فيه، لان الرياسة لا يمكن
أن يدبرها اثنان معا، فلو صح لهما ما أراداه لوثب حدهما على الاخر فقتله، فإن الملك عقيم،
وقد ذكر أرباب السيرة أن الرجلين اختلفا من قبل وقوع الحرب، فإنهما اختلفا في
الصلاة، فأقامت عائشة محمد بن طلحة وعبد الله بن الزبير، يصلى هذا يوما، وهذا يوما، إلى
أن تنقضي الحرب.
ثم إن عبد الله بن الزبير ادعى أن عثمان نص عليه بالخلافة يوم الدار، واحتج في ذلك
بأنه استخلفه على الصلاة، واحتج تارة أخرى بنص صريح زعمه وادعاه، وطلب طلحة من
عائشة أن يسلم الناس عليه بالإمرة، وأدلى إليها بالتيمية، وأدلى الزبير إليها بأسماء أختها،
فأمرت الناس أن يسلموا عليهما معا بالإمرة.
واختلفا في تولى القتال، فطلبه كل منهما أولا، ثم نكل كل منهما عنه وتفادى (2) منه.
وقد ذكرنا في الاجزاء المتقدمة قطعة صالحة من أخبار الجمل.

(1) يقال: رغن إليه، إذا أصغى.
(2) تفادى منه: تحاماه.
110

[من أخبار يوم الجمل]
وروى أبو مخنف، قال: لما تزاحف الناس يوم الجمل والتقوا، قال علي عليه السلام
لأصحابه: لا يرمين رجل منكم بسهم، ولا يطعن أحدكم فيهم برمح، حتى أحدث إليكم،
وحتى يبدأوكم بالقتال وبالقتل. فرمى أصحاب الجمل عسكر علي عليه السلام بالنبل رميا شديدا
متتابعا، فضج إليه أصحابه، وقالوا: عقرتنا سهامهم يا أمير المؤمنين. وجئ برجل إليه،
وإنه لفي فسطاط له صغير، فقيل له: هذا فلان قد قتل. فقال: اللهم اشهد، ثم قال:
أعذروا إلى القوم، فأتى برجل آخر فقيل: وهذا قد قتل، فقال: اللهم اشهد، أعذروا إلى
القوم، ثم أقبل عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وهو من أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وآله، يحمل أخاه عبد الرحمن بن بديل، قد أصابه سهم فقتله، فوضعه بين يدي
علي عليه السلام، وقال: يا أمير المؤمنين، هذا أخي قد قتل، فعند ذلك استرجع علي عليه
السلام، ودعا بدرع رسول الله صلى الله عليه وآله ذات الفضول فلبسها، فتدلت بطنه
فرفعها بيده، وقال لبعض أهله، فحزم وسطه بعمامة، وتقلد ذا الفقار، ودفع إلى ابنه محمد
راية رسول الله صلى الله عليه وآله السوداء، وتعرف بالعقاب، وقال لحسن وحسين
عليهما السلام: إنما دفعت الراية إلى أخيكما. وتركتكما لمكانكما من رسول الله صلى الله
عليه وسلم
* * *
قال أبو مخنف: وطاف علي عليه السلام على أصحابه، وهو يقرأ: (أم حسبتم أن
تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء
وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب) (1)

(1) سورة البقرة 214.
111

ثم قال: أفرغ الله علينا وعليكم الصبر، وأعز لنا ولكم النصر، وكان لنا ولكم ظهيرا
في كل أمر. ثم رفع مصحفا بيده، فقال: من يأخذ هذا المصحف، فيدعوهم إلى ما فيه،
وله الجنة؟ فقام غلام شاب اسمه مسلم، عليه قباء أبيض، فقال: أنا آخذه، فنظر إليه على
وقال: يا فتى إن أخذته، فإن يدك اليمنى تقطع، فتأخذه بيدك اليسرى فتقطع، ثم تضرب
بالسيف حتى تقتل. فقال الغلام: لا صبر لي على ذلك، فنادى على ثانية، فقام الغلام،
وأعاد عليه القول، وأعاد الغلام القول مرارا، حتى قال الغلام: أنا آخذه، وهذا الذي
ذكرت في الله قليل، فأخذه وانطلق، فلما خالطهم ناداهم: هذا كتاب الله بيننا وبينكم.
فضربه رجل فقطع يده اليمنى، فتناوله باليسرى فضربه أخرى فقطع اليسرى، فاحتضنه
فضربوه بأسيافهم، حتى قتل فقالت أم ذريح العبدية في ذلك (1):
يا رب إن مسلما أتاهم (2) * بمصحف أرسله مولاهم
للعدل والايمان قد دعاهم * يتلو كتاب الله لا يخشاهم
فخضبوا من دمه ظباهم (3) * وأمهم واقفة تراهم (4)
* تأمرهم بالغي لا تنهاهم (5) *
قال أبو مخنف: فعند ذلك أمر علي عليه السلام ولده محمدا أن يحمل الراية، فحمل
وحمل معه الناس، واستحر القتل في الفريقين وقامت الحرب على ساق.
* * *

(1) الأبيات والخبر في تاريخ الطبري (حوادث سنة 36) مع اختلاف في الرواية وترتيب الأبيات.
(2) في الطبري: " لأهم إن مسلما دعاهم ".
(3) الطبري: " قد خضبت من علق لحاهم ".
(4) الطبري: " وأمهم قائمة ".
(5) الطبري: " يأتمرون الغي ".
112

[مقتل طلحة والزبير]
قال: فأما طلحة، فإن أهل الجمل لما تضعضعوا قال مروان: لا أطلب ثار عثمان من
طلحة بعد اليوم " فانتحى له بسهم فأصاب ساقه، فقطع أكحله (1)، فجعل الدم يبض (2)،
فاستدعى من مولى له بغلة، فركبها وأدبر، وقال لمولاه: ويحك! أما من مكان أقدر فيه
على النزول، فقد قتلني الدم! فيقول له مولاه: انج، وإلا لحقك القوم، فقال: بالله (3)
ما رأيت مصرع شيخ أضيع من مصرعي هذا! حتى انتهى إلى دار من دور البصرة،
فنزلها ومات بها.
وقد روى أنه رمى قبل أن يرميه مروان، وجرح في غير موضع
من جسده.
وروى أبو الحسن المدائني أن عليا عليه السلام مر بطلحة، وهو يكيد (4) بنفسه،
فوقف عليه وقال: أما والله إن كنت لأبغض أن أراكم مصرعين في البلاد، ولكن
ما حتم واقع، ثم تمثل:
وما تدري إذا أزمعت أمرا * بأي الأرض يدركك المقيل (5)
وما يدري الفقير متى غناه * ولا يدري الغني متى يعيل! (6)

(1) الأكحل: عرق في الذراع.
(2) يبض: يسيل قليلا قليلا.
(3) ا، ح د: " تالله ".
(4) يقال: هو يكيد بنفسه، أي بجود بها، وفى الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على سعد
ابن معاذ، وهو يكيد بنفسه، فقال: جزاك الله من سيد قوم، فقد صدقت الله ما وعدته، وهو صادقك
ما وعدك ".
(5) من أبيات في اللسان (عيل) ونسبها إلى أحيحة، والبيت الأول في الأغاني 21: 106 (من
غير نسبة).
(6) يعيل: يفتقر.
113

وما تدرى إذا ألقحت شولا (1) * أتنتج بعد ذلك أم تحيل (2)
* * *
وأما الزبير فقتله ابن جرموز غيلة بوادي السباع، وهو منصرف عن الحرب، نادم على
ما فرط منه، وتقدم ذكر كيفية قتله فيما سبق.
وروى الكلبي، قال: كان العرق الذي أصابه السهم إذا أمسكه طلحة بيده استمسك،
وإذا رفع يده عنه سال، فقال طلحة: هذا سهم أرسله الله تعالى، وكان أمر الله قدرا مقدورا،
ما رأيت كاليوم دم قرشي أضيع!
قال: وكان الحسن البصري إذا سمع هذا وحكى له، يقول: ذق عقعق (3)!
وروى أبو مخنف، عن عبد الله بن عون، عن نافع، قال: سمعت مروان بن الحكم
يقول: أنا قتلت طلحة.
وقال أبو مخنف: وقد قال عبد الملك بن مروان: لولا أن أبى أخبرني أنه رمى
طلحة فقتله، ما تركت تيميا إلا قتلته بعثمان. قال: يعنى أن محمد بن أبي بكر وطلحة قتلاه،
وكانا تيميين.
قال أبو مخنف: وحدثنا عبد الرحمن بن جندب، عن أبيه جندب بن عبد الله،
قال: مررت بطلحة، وإن معه عصابة يقاتل بهم، وقد فشت فيهم الجراح، وكثرهم
الناس، فرأيته جريحا، والسيف في يده، وأصحابه يتصدعون (4) عنه رجلا فرجلا، واثنين
فاثنين، وأنا أسمعه، وهو يقول: عباد الله، الصبر الصبر، فإن بعد الصبر النصر والاجر،

(1) الشول من النوق: التي خف لبنها وارتفع ضرعها، وأتى عليها سبعة أشهر من يوم نتاجها،
فلم يبق في ضروعها إلا شوال من اللبن أو بقية.
(2) تحيل: لم تلقح.
(3) العقعق، كثعلب: طائر على قدر الحمامة، على شكل الغراب، وجناحاه أكبر من جناحي الحمامة،
والعرب تضرب ب المثل فيما لا يحمد.
(4) يتصدعون: يتفرقون، وفى د " ينصدعون ".
114

فقلت له: النجاء النجاء! ثكلتك أمك! فوالله ما أجرت ولا نصرت، ولكنك وزرت
وخسرت، ثم صحت بأصحابه، فانذعروا عنه، ولو شئت أن أطعنه لطعنته، فقلت له:
أما والله لو شئت لجدلتك في هذا الصعيد (1)، فقال: والله لهلكت هلاك الدنيا والآخرة إذن!
فقلت له: والله لقد أمسيت وإن دمك لحلال، وإنك لمن النادمين. فانصرف ومعه
ثلاثة نفر، وما أدرى كيف كان أمره إلا أنى أعلم أنه قد هلك.
وروى أن طلحة قال ذلك اليوم: ما كنت أظن أن هذه الآية نزلت فينا: (واتقوا
فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) (2).
وروى المدائني، قال: لما أدبر طلحة وهو جريح يرتاد مكانا ينزله (3)، جعل يقول
لمن يمر به من أصحاب علي عليه السلام: أنا طلحة، من يجيرني! يكررها. قال:
فكان الحسن البصري إذا ذكر ذلك يقول: لقد كان في جوار عريض.

(1) الصعيد: التراب.
(2) سورة الأنفال 25.
(3) ب: " يرتاد منزله ".
115

(149)
الأصل:
ومن كلام له عليه السلام قبل موته:
أيها الناس، كل امرئ لاق ما يفر منه في فراره. الاجل مساق النفس، والهرب
منه موافاته.
كم أطردت الأيام أبحثها عن مكنون هذا الامر، فأبى الله إلا إخفاءه. هيهات!
علم مخزون.
أما وصيتي فالله لا تشركوا به شيئا، ومحمدا صلى الله عليه وسلم فلا تضيعوا سنته،
أقيموا هذين العمودين، وأوقدوا هذين المصباحين، وخلاكم ذم ما لم تشردوا.
حمل كل امرئ منكم مجهوده، وخفف عن الجهلة، رب رحيم، ودين قويم،
وإمام عليم.
أنا بالأمس صاحبكم، وأنا اليوم عبرة لكم، وغدا مفارقكم! غفر الله
لي ولكم! إن ثبتت الوطأة في هذه المزلة فذاك، وإن تدحض القدم، فإنا كنا
في أفياء أغصان، ومهب رياح، وتحت ظل غمام.
اضمحل في الجو متلفقها، وعفا في الأرض مخطها، وإنما كنت جارا جاوركم
بدني أياما، وستعقبون منى جثة خلاء، ساكنة بعد حراك، وصامتة بعد نطق.
ليعظكم هدوي، وخفوت إطراقي، وسكون أطرافي ة فإنه أوعظ للمعتبرين
من المنطق البليغ، والقول المسموع.
116

وداعي لكم وداع امرئ مرصد للتلاقي! غدا ترون أيامي، ويكشف لكم
عن سرائري، وتعرفونني بعد خلو مكاني، وقيام غيري مقامي.
* * *
الشرح:
أطردت الرجل، إذا أمرت بإخراجه وطرده، وطردته إذا نفيته وأخرجته،
فالإطراد أدل على العز والقهر من الطرد، وكأنه عليه السلام جعل الأيام أشخاصا يأمر
بإخراجهم وإبعادهم عنه، أي ما زلت أبحث عن كيفية قتلى، وأي وقت يكون بعينه،
وفى أي أرض يكون، يوما يوما، فإذا لم أجده في اليوم أطردته واستقبلت غده، فأبحث
فيه أيضا فلا أعلم، فأبعده وأطرده، وأستأنف يوما آخر، هكذا حتى وقع المقدور. وهذا
الكلام يدل على أنه لم يكن يعرف حال قتله معرفة مفصلة من جميع الوجوه، وأن رسول
الله صلى الله عليه وآله أعلمه بذلك علما مجملا، لأنه قد ثبت أنه صلى الله عليه وآله قال له:
" ستضرب على هذه - وأشار إلى هامته - فتخضب منها هذه - وأشار إلى لحيته "، وثبت
أنه صلى الله عليه وآله قال له: " أتعلم من أشقى الأولين "؟ قال: نعم، عاقر
الناقة، فقال له: " أتعلم من أشقى الآخرين "؟ قال: لا، قال: " من يضربك هاهنا،
فيخضب هذه ".
وكلام أمير المؤمنين عليه السلام يدل على أنه بعد ضرب ابن ملجم له لا يقطع على
أنه يموت من ضربته، ألا تراه يقول: إن ثبتت الوطأة في هذه المزلة فذاك، وإن
تدحض
فإنما كنا في أفياء أغصان، ومهاب رياح، أي إن سلمت فذاك الذي تطلبونه، يخاطب
أهله وأولاده، ولا ينبغي أن يقال: " فذاك ما طلبه "، لأنه عليه السلام كان يطلب الآخرة.
117

أكثر من الدنيا. وفى كلامه المنقول عنه ما يؤكد ما قلناه، وهو قوله: " إن عشت فأنا ولي
دمى، وإن مت فضربة بضربة ".
وليس قوله عليه السلام: " وأنا اليوم عبرة لكم، وغدا مفارقكم "، وما يجرى
مجراه من ألفاظ الفصل بناقض (1) لما قلناه، وذلك لأنه لا يعنى غدا بعينه، بل ما يستقبل
من الزمان، كما يقول الانسان الصحيح: أنا غدا ميت، فما لي أحرص على الدنيا! ولان
الانسان قد يقول في مرضه الشديد لأهله وولده: ودعتكم وأنا مفارقكم، وسوف يخلو
منزلي منى، وتتأسفون على فراقي، وتعرفون موضعي بعدي، كله على غلبة الظن، وقد
يقصد الصالحون به العظة والاعتبار وجذب السامعين إلى جانب التقوى، وردعهم عن
الهوى وحب الدنيا.
فإن قلت: فما تصنع بقوله عليه السلام لابن ملجم:
أريد حباءه ويريد قتلى * عذيرك من خليلك من مراد (2)
وقول الخلص من شيعته: فهلا تقتله! فقال: فكيف أقتل قاتلي! وتارة قال: إنه لم
يقتلني، فكيف (3) أقتل من لم يقتل! وكيف قال في البط الصائح خلفه في المسجد، ليلة ضربه
ابن ملجم: دعوهن، فإنهن نوائح، وكيف قال تلك الليلة: إني رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فشكوت إليه، وقلت: ما لقيت من أمتك من الأود واللدد! فقال: ادع الله
عليهم، فقلت: اللهم أبدلني بهم خيرا منهم، وأبدلهم بي شرا منى! وكيف قال: إني
لا أقتل محاربا، وإنما أقتل فتكا وغيلة، يقتلني رجل خامل الذكر. وقد جاء عنه عليه
السلام من هذا الباب آثار كثيرة.
قلت: كل هذا لا يدل على أنه كان يعلم الامر مفصلا من جميع الوجوه، ألا ترى أنه

(1) د: " بمناقض ".
(2) من أبيات فس اللآلي 63، نسبها إلى عمرو بن معديكرب، وروايته فيها: " أريد حياته ".
(3) ساقطة من ب.
118

ليس في الاخبار والآثار ما يدل على الوقت الذي يقتل فيه بعينه، ولا على المكان الذي يقتل
فيه بعينه! وأما ابن ملجم، فمن الجائز أن يكون علم أنه هو الذي يقتله، ولم يعلم علما محققا
أن هذه الضربة تزهق نفسه الشريفة منها، بل قد كان يجوز أن يبل ويفيق منها، ثم
يكون قتله فيما بعد على يد ابن ملجم، وإن طال الأمد. وليس هذا بمستحيل، وقد وقع
مثله، فإن عبد الملك جرح عمرو بن سعيد الأشدق في أيام معاوية على منافرة كانت بينهما
فعفا عمرو عنه، ثم كان من القضاء والقدر أن عبد الملك قتل عمرا أيضا بيده ذبحا، كما
تذبح الشاة.
وأما قوله في البط: " دعوهن فإنهن نوائح " فلعله علم أنه تلك الليلة يصاب ويجرح، وإن
لم يعلم أنه يموت منه، والنوائح قد ينحن على المقتول وقد ينحن على المجروح، والمنام والدعاء
لا يدل على العلم بالوقت بعينه، ولا يدل على أن إجابة دعائه تكون على الفور لا محالة.
* * *
ثم نعود إلى الشرح.
أما قوله: " كل امرئ لاق ما يفر منه في فراره "، أي إذا كان مقدورا، وإلا فقد
رأينا من يفر من الشئ ويسلم، لأنه لم يقدر، وهذا من قوله تعالى: " ولو كنتم في بروج
مشيدة) (1)، (لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم) (2) ومن قوله تعالى: (قل
إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم) (3)، وفى القرآن العزيز مثل هذا كثير.
قوله: " والأجل مساق النفس " أي الامر الذي تساق إليه، وتنتهي عنده، وتقف إذا
بلغته فلا يبقى له حينئذ أكله في الدنيا.

(1) سورة النساء 78.
(2) سورة آل عمران 154.
(3) سورة الجمعة 8.
119

قوله: " والهرب منه موافاته "، هذا كلام خارج مخرج المبالغة في عدم النجاة، وكون
الفرار غير مغن ولا عاصم من الموت، يقول: الهرب بعينه من الموت موافاة للموت، أي
إتيان إليه، كأنه لم يرتض بأن يقول: الهارب لابد أن ينتهى إلى الموت، بل جعل نفس
الهرب هو ملاقاة الموت.
قوله: " أبحثها " أي أكشفها، وأكثر ما يستعمل " بحث " معدى بحرف الجر،
وقد عداه هاهنا إلى " الأيام " بنفسه وإلى " مكنون الامر " بحرف الجر، وقد جاء: بحثت
الدجاجة التراب، أي نبشته.
قوله: " فأبى الله إلا إخفاءه، هيهات علم مخزون "! تقديره: هيهات ذلك! مبتدأ
وخبره، هيهات اسم للفعل، معناها بعد، أي علم هذا الغيب علم مخزون مصون، لم أطلع عليه.
فإن قلت: ما معنى قوله: " كم أطردت الأيام أبحثها؟ وهل علم الانسان بموته كيف
يكون، وفى أي وقت يكون، وفى أي أرض يكون، مما يمكن استدراكه بالنظر
والفكر والبحث؟
قلت: مراده عليه السلام أنى كنت في أيام رسول الله صلى الله عليه وآله أسأله كثيرا
عن هذا الغيب، فما أنبأني منه إلا بأمور إجمالية غير مفصلة، ولم يأذن الله تعالى في إطلاعي
على تفاصيل ذلك.
قوله: " فالله لا تشركوا به شيئا " الرواية المشهورة " فالله " بالنصب، وكذلك " محمدا "
بتقدير فعل، لان الوصية تستدعي الفعل بعدها، أي وحدوا الله، وقد روى بالرفع،
وهو جائز على المبتدأ والخبر.
قوله: " أقيموا هذين العمودين، وأوقدوا هذين المصباحين، وخلاكم ذم ما لم تشردوا "،
كلام داخل في باب الاستعارة، شبه الكتاب والسنة بعمودي الخيمة، وبمصباحين
120

يستضاء بهما. وخلاكم ذم: كلمة جارية مجرى المثل، معناها: ولا ذم عليكم، فقد أعذرتم.
وذم، مرفوع بالفاعلية، معناه: عداكم وسقط عنكم.
فإن قلت: إذا لم يشركوا بالله ولم يضيعوا سنة محمد صلى الله عليه وآله فقد قاموا بكل
ما يجب، وانتهوا عن كل ما يقبح، فأي حاجة له إلى أن يستثنى ويقول: " ما لم تشردوا "،
وإنما كان يحتاج إلى هذه اللفظة لو قال: وصيتي إليكم أن توحدوا الله، وتؤمنوا بنبوة محمد
صلى الله عليه وآله، كان حينئذ يحتاج إلى قوله: " ما لم تشردوا " ويكون مراده بها فعل
الواجبات، وتجنب المقبحات، لأنه ليس في الاقرار بالوحدانية والرسالة العمل، بل العمل
خارج عن ذلك، فوجب إذا أوصى أن يوصى بالاعتقاد والعمل، كما قال عمر لأبي بكر في
واقعة أهل الردة: كيف تقاتلهم وهم مقرون بالشهادتين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه
وآله: " أمرت بأن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله "، فقال أبو بكر:
أنه قال تتمة " هذا فإذا هم قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها " وأداء الزكاة
من حقها!
قلت: مراده بقوله: " ما لم تشردوا " ما لم ترجعوا عن ذلك فكأنه قال: خلاكم ذم
إن وحدتم الله واتبعتم سنة رسوله، ودمتم على ذلك ولا شبهة أن هذا الكلام منتظم،
وأن اللفظتين الأوليين ليستا بمغنيتين عن اللفظة الثالثة (1) وبتقدير أن يغنيا عنه، فإن في ذكره
مزيد تأكيد وإيضاح غير موجودين لو لم يذكر، وهذا كقوله تعالى: (ومن يطع الله
ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون) (2)، وليس لقائل أن يقول: من لا يخشى
الله لا يكون مطيعا لله والرسول، وأي حاجة به إلى ذكر ما قد أغنى اللفظ الأول عنه!
قوله: " حمل كل امرئ مجهوده، وخفف عن الجهلة "، هذا كلام متصل بما قبله،

(1) ب: " اللفظ الثالث ".
(2) سورة النور 52.
121

لأنه لما قال: " ما لم تشردوا " أنبأ عن تكليفهم كل ما وردت به السنة النبوية وأن يدوموا
عليه، وهذا في الظاهر تكليف أمور شاقة، فاستدرك بكلام يدل على التخفيف، فقال
إن التكاليف على قدر المكلفين، فالعلماء تكليفهم غير تكليف العامة، وأرباب الجهل
والمبادئ كالنساء وأهل البادية وطوائف من الناس، الغالب عليهم البلادة وقلة الفهم،
كأقاصي الحبشة والترك ونحوهم، وهؤلاء عند المكلفين غير مكلفين، إلا بحمل التوحيد
والعدل، بخلاف العلماء الذين تكليفهم الأمور المفصلة وحل المشكلات الغامضة، وقد روى
" حمل " على صيغة الماضي، و " مجهوده " بالنصب، " وخفف " على صيغة الماضي أيضا،
ويكون الفاعل هو الله تعالى المقدم ذكره، والرواية الأولى أكثر وأليق.
ثم قال: " رب رحيم " أي ربكم رب رحيم. ودين قويم، أي مستقيم. وإمام
عليم، يعنى رسول الله صلى الله عليه وآله، ومن الناس من يجعل " رب رحيم " فاعل
" خفف " على رواية من رواها فعلا ماضيا وليس بمستحسن لان عطف " الدين " عليه
يقتضى أن يكون الدين أيضا مخففا، وهذا لا يصح.
ثم دعا لنفسه ولهم بالغفران.
ثم قسم الأيام الماضية والحاضرة والمستقبلة قسمة حسنة، فقال: أنا بالأمس صاحبكم
وأنا اليوم عبرة لكم، وغدا مفارقكم، إنما كان عبرة لهم لأنهم يرونه بين أيديهم ملقى
صريعا بعد أن صرع الابطال، وقتل الاقران، فهو كما قال الشاعر:
أكال أشلاء الفوارس بالقنا * أضحى بهن وشلوه مأكول
ويقال: دحضت قدم فلان، أي زلت وزلقت.
ثم شبه وجوده في الدنيا بأفياء الأغصان ومهاب الرياح وظلال الغمام، لان ذلك كله
سريع الانقضاء لاثبات له.
122

قوله: " اضمحل في الجو متلفقها، وعفا في الأرض مخطها "، اضمحل ذهب، والميم زائدة،
ومنه الضحل وهو الماء القليل، واضمحل السحاب: تقشع وذهب، وفى لغة الكلابيين
اضمحل الشئ بتقديم الميم، ومتلفقها: مجتمعها، أي ما اجتمع من الغيوم في الجو، والتلفيق:
الجمع: وعفا: درس، ومخطها: أثرها، كالخطة.
قوله: " وإنما كنت جارا جاوركم بدني أياما "، في هذا الكلام إشعار بما يذهب إليه
أكثر العقلاء من أمر النفس، وأن هوية الانسان شئ غير هذا البدن.
وقوله: " ستعقبون منى " أي إنما تجدون عقيب فقدي جثة، يعنى بدنا خلاء،
أي لا روح فيه، بل قد أقفر من تلك المعاني التي كنتم تعرفونها وهي العقل والنطق والقوة
وغير ذلك. ثم وصف تلك الجثة فقال: " ساكنة بعد حراك " بالفتح، أي بعد حركة
وصامتة بعد نطق ". وهذا الكلام أيضا (1) يشعر بما قلناه من أمر النفس، بل يصرح
بذلك، " ألا تراه قال: " ستعقبون منى جثة " أي تستبدلون بي جثة صفتها كذا! وتلك الجثة
جثته عليه السلام، ومحال أن يكون العوض والمعوض عنه واحدا، فدل على أن هويته
عليه السلام التي أعقبنا منها الجثة غير الجثة.
قوله: " ليعظكم هدوي "، أي سكوني، وخفوت إطراقي، مثله خفت خفوتا سكن،
وخفت خفاتا مات فجأة. وإطراقه: إرخاؤه عينيه ينظر إلى الأرض، لضعفه عن رفع جفنه،
وسكون أطرافه: يداه ورجلاه ورأسه عليه السلام.
قال: " فإنه أوعظ للمعتبرين من المنطق البليغ، والقول المسموع "، وصدق عليه
السلام! فإن خطبا أخرس ذلك اللسان، وهد تلك القوى لخطب جليل، ويجب أن يتعظ
العقلاء به. وما عسى يبلغ قول الواعظين بالإضافة إلى من شاهد تلك الحال، بل بالإضافة
إلى من سمعها، وأفكر فيها، فضلا عن مشاهدتها عيانا! وفى هذا الكلام شبه من
كلام الحكماء الذين تكلموا عند تابوت الإسكندر فقال أحدهم: حركنا بسكونه.

(1) ب: " مشعر ".
123

وقال الآخر: قد كان سيفك لا يجف، وكانت مراقيك لا ترام، وكانت نقماتك
لا تؤمن، وكانت عطاياك يفرح بها، وكان ضياؤك لا ينكشف، فأصبح ضوءك قد خمد،
وأصبحت نقماتك لا تخشى، وعطاياك لا ترجى، ومراقبك لا يمنع، وسيفك
لا يقطع.
وقال الآخر: انظروا إلى حلم المنام كيف انجلى، وإلى ظل الغمام كيف انسرى.
وقال آخر: ما كان أحوجه إلى هذا الحلم، وإلى هذا الصبر والسكون أيام حياته!
وقال آخر: القدرة العظيمة التي ملأت الدنيا العريضة الطويلة، طويت
في ذراعين.
وقال الآخر: أصبح آسر الاسراء أسيرا، وقاهر الملوك مقهورا. كان بالأمس مالكا،
فصار اليوم هالكا.
ثم قال عليه السلام: " ودعتكم وداع امرئ مرصدا للتلاقي "، أرصدته لكذا
أي أعددته له، وفى الحديث " إلا أن أرصده لدين على ". والتلاقي هاهنا. لقاء الله،
ويروى " وداعيكم " أي وداعي إياكم، والوداع مفتوح الواو.
ثم قال: " غدا ترون أيامي، ويكشف لكم عن سرائري، وتعرفونني بعد خلو مكاني
وقيام غيري مقامي "، هذا معنى قد تداوله الناس قديما وحديثا، قال أبو تمام:
راحت وفود الأرض عن قبره * فارغة الأيدي ملاء القلوب
قد علمت ما رزئت إنما * يعرف قدر الشمس بعد الغروب
وقال أبو الطيب:
ونذمهم وبهم عرفنا فضله * وبضدها تتبين الأشياء (1)

(1) ديوانه 1: 21، ورواية: " ونذيمهم ".
124

ومن أمثالهم:
* الضد يظهر حسنه الضد *
ومنها أيضا: لولا مرارة المرض لم تعرف حلاوة العافية.
وإنما قال عليه السلام: " ويكشف لكم عن سرائري "، لأنهم بعد فقده وموته
يظهر لهم ويثبت عندهم إذا رأوا وشاهدوا إمرة من بعده، أنه إنما كان يريد بتلك الحروب
العظيمة وجه الله تعالى، وألا يظهر المنكر في الأرض، وإن ظن قوم في حياته أنه كان
يريد الملك والدنيا.
125

(150)
الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام ويومئ فيها إلى الملاحم:
وأخذوا يمينا وشمالا ظعنا في مسالك الغي، وتركا لمذاهب الرشد، فلا تستعجلوا
ما هو كائن مرصد، ولا تستبطئوا ما يجئ، به الغد، فكم من مستعجل بما إن
أدركه ود أنه لم يدركه. وما أقرب اليوم من تباشير غد!
يا قوم هذا إبان ورود كل موعود، ودنو من طلعة مالا تعرفون. ألا وإن
من أدركها منا يسرى فيها بسراج منير، ويحذو فيها على مثال الصالحين، ليحل
فيها ربقا، ويعتق فيها رقا، ويصدع شعبا، ويشعب صدعا، في سترة عن الناس،
لا يبصر القائف أثره، ولو تابع نظره، ثم ليشحذن فيها قوم شحذ القين النصل،
تجلى بالتنزيل أبصارهم، ويرمى بالتفسير في مسامعهم، ويغبقون كأس الحكمة
بعد الصبوح.
* * *
الشرح:
يذكر عليه السلام قوما من فرق الضلال أخذوا يمينا وشمالا، أي ضلوا عن الطريق
الوسطى التي هي منهاج الكتاب والسنة، وذلك لان كل فضيلة وحق فهو محبوس بطرفين
خارجين عن العدالة، وهما جانبا الافراط والتفريط، كالفطانة التي هي محبوسة
126

بالجربزة والغباوة، والشجاعة التي هي محبوسة بالتهور والجبن، والجود المحبوس
بالتبذير والشح، فمن لم يقع على الطريق الوسطى وأخذ يمينا وشمالا فقد ضل.
ثم فسر قوله: " أخذ يمينا وشمالا "، فقال: " ظعنوا ظعنا في مسالك الغي، وتركوا
مذاهب الرشد تركا "، وينصب " تركا " و " ظعنا " على المصدرية، والعامل فيهما من غير
لفظهما (1)، وهو قوله: " أخذوا ".
ثم نهاهم عن استعجال ما هو معد، ولا بد من كونه ووجوده، وإنما سماه كائنا لقرب
كونه، كما قال تعالى: (إنك ميت وإنهم ميتون) (2) ونهاهم أن يستبطئوا ما يجئ في
الغد لقرب وقوعه، كما قال:
* وإن غدا للناظرين قريب *
وقال الآخر:
* غد ما غد ما أقرب اليوم من غد *
وقال تعالى: (إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب) (3).
ثم قال: كم من مستعجل أمرا ويحرص عليه، فإذا حصل ود أنه لم يحصل
قال أبو العتاهية:
من عاش لاقى ما يسوء * من الأمور وما يسر (4)
ولرب حتف فوقه * ذهب وياقوت ودر
وقال آخر:
فلا تتمنين الدهر شيئا * فكم أمنية جلبت منيه

(1) ب: " لفظها ".
(2) سورة الزمر 30.
(3) سورة هود 81.
(4) ديوانه 99.
127

وقال تعالى: (وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم
لا تعلمون) (1). وتباشير الصبح أوائله.
ثم قال: " يا قوم قد دنا وقت القيامة، وظهور الفتن التي تظهر أمامها.
وإبان الشئ، بالكسر والتشديد: وقته وزمانه، وكنى عن تلك الأهوال بقوله:
" ودنو من طلعة مالا تعرفون، لان تلك الملاحم والأشراط الهائلة غير معهود مثلها، نحو دابة
الأرض، والدجال وفتنته، وما يظهر على يده من المخاريق والأمور الموهمة، وواقعة
السفياني (2) وما يقتل فيها من الخلائق الذين لا يحصى عددهم.
ثم ذكر أن مهدي آل محمد صلى الله عليه وآله، وهو الذي عنى بقوله: " وإن من
أدركها منا يسرى في ظلمات هذه الفتن بسراج منير "، وهو المهدى، واتباع
الكتاب والسنة.
ويحذو فيها: يقتفى ويتبع مثال الصالحين، ليحل في هذه الفتن. وربقا، أي حبلا
معقودا.
ويعتق رقا، أي يستفك أسرى، وينقذ مظلومين من أيدي ظالمين.
ويصدع شعبا، أي يفرق جماعة من جماعات الضلال. ويشعب صدعا: يجمع
ما تفرق من كلمة أهل الهدى والايمان.
قوله عليه السلام: " في سترة عن الناس "، هذا الكلام يدل على استتار هذا الانسان
المشار إليه، وليس ذلك بنافع للامامية في مذهبهم، وإن ظنوا أنه تصريح بقولهم، وذلك
لأنه من الجائز أن يكون هذا الامام يخلقه الله تعالى في آخر الزمان، ويكون مستترا مدة،
وله دعاة يدعون إليه، ويقررون أمره، ثم يظهر يعد ذلك الاستتار، ويملك الممالك،

(1) سورة البقرة 216.
128

ويقهر الدول، ويمهد الأرض، كما ورد في قوله: " لا يبصر القائف " أي هو في استتار
شديد لا يدركه القائف، وهو الذي يعرف الآثار، والجمع " قافة "، ولا يعرف أثره
ولو استقصى في الطلب، وتابع النظر والتأمل.
ويقال: شحذت السكين أشحذه شحذا، أي حددته، يريد ليحرضن في هذه
الملاحم قوم على الحرب وقتل أهل الضلال، ولتشحذن عزائمهم كما يشحذ الصيقل السيف،
ويرقق حده.
ثم وصف هؤلاء القوم المشحوذي العزائم، فقال: تجلى بصائرهم بالتنزيل، أي
يكشف الرين والغطاء عن قلوبهم بتلاوة القرآن وإلهامهم تأويله ومعرفة أسراره.
ثم صرح بذلك فقال: " ويرمى بالتفسير في مسامعهم "، أي يكشف لهم الغطاء، وتخلق
المعارف في قلوبهم، ويلهمون فهم الغوامض والاسرار الباطنة، ويغبقون كأس الحكم
بعد الصبوح، أي لا تزال المعارف الربانية والاسرار الإلهية تفيض عليهم صباحا
ومساء، فالغبوق كناية عن الفيض الحاصل لهم في الآصال، والصبوح كناية عما يحصل
لهم منه في الغدوات، وهؤلاء هم العارفون الذين جمعوا بين الزهد والحكمة والشجاعة،
وحقيق بمثلهم أن يكونوا أنصارا لولي الله الذي يجتبيه، ويخلقه في آخر أوقات الدنيا،
فيكون خاتمة أوليائه، والذي يلقى عصا التكليف عنده.
* * *
الأصل:
ومنها:
وطال الأمد بهم ليستكملوا الخزي، ويستوجبوا الغير، حتى إذا اخلولق
129

الاجل، واستراح قوم إلى الفتن، واشتالوا عن لقاح حربهم، لم يمنوا على الله بالصبر،
ولم يستعظموا بذل أنفسهم في الحق، حتى إذا وافق وارد القضاء انقطاع مدة البلاء،
حملوا بصائرهم على أسيافهم، ودانوا لربهم بأمر واعظهم
* * *
الشرح:
هذا الكلام يتصل بكلام قبله، لم يذكره الرضى رحمه الله، وهو وصف فئة ضالة
قد استولت وملكت، وأملى لها الله سبحانه. قال عليه السلام: وطال الأمد بهم
ليستكملوا الخزي، ويستوجبوا الغير، أي (1) النعم التي يغيرها بهم من نعم الله سبحانه،
كما قال: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول
فدمرناها تدميرا) (2) وكما قال تعالى: " سنستدرجهم من حيث لا يعلمون). (3).
حتى إذا اخلولق الاجل، أي قارب أمرهم الانقضاء، من قولك: اخلولق السحاب،
أي استوى، وصار خليقا بأن يمطر، واخلولق الرسم: استوى مع الأرض.
واستراح قوم إلى الفتن، أي صبا قوم من شيعتنا وأوليائنا إلى هذه الفئة، واستراحوا
إلى ضلالها وفتنتها، واتبعوها.
واشتالوا عن لقاح حربهم، أي رفعوا أيديهم وسيوفهم عن أن يشبوا الحرب بينهم
وبين هذه الفئة، مهادنة لها وسلما وكراهية للقتال، يقال: شال فلان كذا، أي رفعه، واشتال
" افتعل " هو في نفسه، كقولك: حجم زيد عمرا، واحتجم هو نفسه. ولقاح حربهم،
هو بفتح اللام، مصدر من لقحت الناقة.
قوله: " لم يمنوا " هذا جواب قوله: " حتى إذا "، والضمير في " يمنوا " راجع إلى

(1) كذا في د، وفى ا، ب: " والنعم ".
(2) سورة الإسراء 16.
(3) سورة الأعراف 182.
130

العارفين الذين تقدم ذكرهم في الفصل السابق ذكره، يقول: حتى إذا ألقى هؤلاء السلام
إلى هذه الفئة عجزا عن القتال، واستراحوا من منابذتهم بدخولهم في ضلالتهم وفتنتهم،
أما تقية (1) منهم، أو لشبهة دخلت عليهم، أنهض الله تعالى هؤلاء العارفين الشجعان
الذين خصهم بحكمته، وأطلعهم على أسرار ملكوته فنهضوا، ولم يمنوا على الله تعالى
بصبرهم، ولم يستعظموا أن يبذلوا في الحق نفوسهم، قال: حتى إذا وافق قضاء الله
تعالى وقدره كي ينهض هؤلاء قضاء الله وقدره في انقضاء مدة تلك الفئة، وارتفاع
ما كان شمل الخلق من البلاء بملكها وإمرتها، حمل هؤلاء العارفون بصائرهم على أسيافهم،
وهذا معنى لطيف، يعنى أنهم أظهروا بصائرهم وعقائدهم وقلوبهم للناس، وكشفوها
وجردوها من أجفانها، مع تجريد السيوف من أجفانها، فكأنها شئ محمول على السيوف
يبصره من يبصر السيوف، ولا ريب أن السيوف المجردة من أجلى الأجسام للأبصار،
فكذلك ما يكون محمولا عليها، ومن الناس من فسر هذا الكلام، فقال: أراد بالبصائر
جمع بصيرة، وهو الدم، فكأنه أراد طلبوا ثأرهم والدماء التي سفكتها هذه الفئة، وكأن
تلك الدماء المطلوب ثأرها محمولة على أسيافهم التي جردوها للحرب، وهذا اللفظ قد قاله
بعض الشعراء المتقدمين بعينه:
راحوا بصائرهم على أكتافهم * وبصيرتي يعدو بها عتد وأي (2)
وفسره أبو عمرو بن العلاء، فقال: يريد أنهم تركوا دم أبيهم وجعلوه خلفهم،
أي لم يثأروا به، وانا طلبت ثأري. وكان أبو عبيدة معمر بن المثنى يقول في هذا البيت:
البصيرة: الترس أو الدرع، ويرويه: " حملوا بصائرهم ".
* * *

(1) كذا في ج، وفى ا، ب: " بقية "، وفى د: " بفئة ".
(2) البيت في الصحاح 2: 592، ونسبه إلى الأسعر الجعفي، وهو أيضا في اللسان 5: 133.
131

الأصل:
منها:
حتى إذا قبض الله رسوله رجع قوم على الأعقاب، وغالتهم السبل، واتكلوا
على الولائج، ووصلوا غير الرحم، وهجروا السبب الذي أمروا بمودته، ونقلوا
البناء عن رص أساسه، فبنوه في غير موضعه.
معادن كل خطيئة، وأبواب كل ضارب في غمرة، قد ماروا في الحيرة،
وذهلوا في السكرة، على سنة من آل فرعون، من منقطع إلى الدنيا راكن،
أو مفارق للدين مباين.
* * *
الشرح:
رجعوا على الأعقاب: تركوا ما كانوا عليه، قال سبحانه: " ومن ينقلب على
عقبيه فلن يضر الله شيئا) (1)
وغالتهم السبل: أهلكهم اختلاف الآراء والأهواء، غاله كذا، أي أهلكه،
والسبل: الطرق.
والولائج: جمع وليجة، وهي البطانة يتخذها الانسان لنفسه، قال سبحانه: " ولم
يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة) (2)
ووصلوا غير الرحم، أي غير رحم الرسول صلى الله عليه وآله، فذكرها عليه السلام

(1) سورة آل عمران 144.
(2) سورة التوبة 16.
132

ذكرا مطلقا غير مضاف للعلم بها، كما يقول القائل: " أهل البيت " فيعلم السامع أنه أراد
أهل بيت الرسول.
وهجروا السبب، يعنى أهل البيت أيضا: وهذه إشارة إلى قول النبي صلى الله عليه
وآله: " خلفت فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، حبلان ممدودان من السماء
إلى الأرض، لا يفترقان حتى يردا على الحوض "، فعبر أمير المؤمنين عن أهل البيت
بلفظ " السبب " لما كان النبي صلى الله عليه وآله قال: " حبلان "، والسبب
في اللغة: الحبل.
عنى بقوله: " أمروا بمودته "، قول الله تعالى: " قل لا أسألكم عليه أجرا
إلا المودة في القربى) (1).
قوله: " ونقلوا البناء عن رص أساسه، "، الرص مصدر رصصت الشئ أرصه، أي
ألصقت بعضه ببعض، ومنه قوله تعالى: " كأنهم بنيان مرصوص " (2)، وتراص
القوم في الصف، أي تلاصقوا. فبنوه في غير موضعه! ونقلوا (3) الامر عن أهله إلى غير أهله.
ثم ذمهم عليه السلام، وقال: " إنهم معادن كل خطيئة، وأبواب كل ضارب في
غمرة "، الغمرة: الضلال والجهل. والضارب فيها: الداخل المعتقد لها.
قد ماروا في الحيرة، مار يمور إذا ذهب وجاء، فكأنهم يسبحون في الحيرة كما يسبح
الانسان في الماء.
وذهل فلان، بالفتح، يذهل. على سنة من آل فرعون، أي على طريقة، وآل
فرعون: أتباعه، قال تعالى: (أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) (4).

(1) سورة الشورى 23.
(2) سورة الصف 5.
(3) ب: " ونقلوا "، وما أثبته من د.
(4) سورة غافر 46.
133

من منقطع إلى الدنيا: لا هم له غيرها. راكن: مخلد إليها، قال الله تعالى:
(ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) (1) أو مفارق للدين مباين (2): مزايل.
فإن قلت: أي فرق بين الرجلين؟ وهل يكون المنقطع إلى الدنيا إلا مفارقا للدين؟
قلت: قد يكون في أهل الضلال من هو مفارق للدين مباين، وليس براكن إلى الدنيا
ولا منقطع إليها، كما نرى كثيرا من أحبار النصارى ورهبانهم.
فإن قلت: أليس هذا (3) الفصل صريحا في تحقيق مذهب الإمامية؟
قلت: لا، بل نحمله على أنه عنى عليه السلام أعداءه الذين حاربوه من قريش وغيرهم
من أفناء العرب، في أيام صفين، وهم الذين نقلوا البناء، وهجروا السبب، ووصلوا غير
الرحم، واتكلوا على الولائج، وغالتهم السبل، ورجعوا على الأعقاب، كعمرو بن العاص،
والمغيرة بن شعبة، ومروان بن الحكم، والوليد بن عقبة، وحبيب بن مسلمة، وبسر بن
أرطاة، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وحوشب، وذي الكلاع، وشرحبيل
ابن السمط (4)، وأبى الأعور السلمي، وغيرهم ممن تقدم ذكرنا له في الفصول المتعلقة بصفين
وأخبارها، فإن هؤلاء نقلوا الإمامة عنه عليه السلام إلى معاوية، فنقلوا البناء عن رص
أصله إلى غير موضعه.
فإن قلت: لفظ الفصل يشهد بخلاف ما تأولته، لأنه قال عليه السلام: حتى إذا قبض
الله رسوله رجع قوم على الأعقاب، فجعل رجوعهم على الأعقاب عقيب قبض الرسول
صلى الله عليه وآله، وما ذكرته أنت كان بعد قبض الرسول بنيف وعشرين سنة!
قلت: ليس يمتنع أن يكون هؤلاء المذكورون رجعوا على الأعقاب، لما مات رسول
الله صلى الله عليه وآله، وأضمروا في أنفسهم مشاقة أمير المؤمنين وأذاه، وقد كان فيهم من

(1) سورة هود 113.
(2) كذا في د، وفى ا، ب: " ومباين ".
(3) ساقطة من د.
(4) ب: " الصمت ".
134

يتحكك به في أيام أبى بكر وعمر وعثمان، ويتعرض له، ولم يكن أحد منهم ولا من غيرهم يقدم
على ذلك في حياة رسول الله. ولا يمتنع أيضا أن يريد برجوعهم على الأعقاب ارتدادهم عن
الاسلام بالكلية، فإن كثيرا من أصحابنا يطعنون في إيمان بعض من ذكرناه ويعدونهم
من المنافقين، وقد كان سيف رسول الله صلى الله عليه وآله يقمعهم ويردعهم عن إظهار
ما في أنفسهم من النفاق، فأظهر قوم منهم بعده ما كانوا يضمرونه من ذلك، خصوصا
فيما يتعلق بأمير المؤمنين، الذي ورد في حقه: " ما كنا نعرف المنافقين على
عهد رسول الله إلا ببغض علي بن أبي طالب "، وهو خبر محقق مذكور
في الصحاح.
فإن قلت: يمنعك من هذا التأويل قوله: " ونقلوا البناء عن رص أساسه، فجعلوه في
غير موضعه "، وذلك لان " إذا " ظرف، والعامل فيها قوله: " رجع قوم على الأعقاب "
وقد عطف عليه قوله: " ونقلوا البناء "، فإذا كان الرجوع على الأعقاب واقعا في الظرف
المذكور، وهو وقت قبض الرسول، وجب أن يكون نقل البناء إلى غير موضعه واقعا في
ذلك الوقت أيضا، لان أحد الفعلين معطوف على الاخر، ولم ينقل أحد وقت
قبض الرسول صلى الله عليه وآله البناء إلى معاوية عن أمير المؤمنين عليه السلام، وإنما
نقل عنه إلى شخص آخر، وفى إعطاء العطف حقه إثبات مذهب الإمامية صريحا!
قلت: إذا كان الرجوع على الأعقاب واقعا وقت قبض النبي صلى الله عليه وآله فقد
قمنا بما يجب من وجود عامل في الظرف، ولا يجب أن يكون نقل البناء إلى غير موضعه
واقعا في تلك الحال أيضا، بل يجوز أن يكون واقعا في زمان آخر، إما بأن تكون الواو
للاستئناف لا للعطف، أو بأن تكون للعطف في مطلق الحدث لا في وقوع الحدث في عين
ذلك الزمان المخصوص، كقوله تعالى: (حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن
135

يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه)، فالعامل في الظرف " استطعما "،
ويجب أن يكون استطعامهما وقت إتيانهما أهلها لا محالة. ولا يجب أن تكون جميع الأفعال
المذكورة المعطوفة واقعة حال الاتيان أيضا، ألا ترى أن من جملتها " فأقامه " ولم يكن
إقامة الجدار حال إتيانهما القرية بل متراخيا عنه بزمان ما، اللهم إلا أن يقول قائل: أشار
بيده إلى الجدار فقام، أو قال له: قم، فقام لأنه لا يمكن أن يجعل إقامة الجدار مقارنا
للاتيان إلا على هذا الوجه، وهذا لم يكن، ولا قاله مفسر. ولو كان قد وقع على هذا الوجه
لما قال له: (لو شئت لاتخذت عليه أجرا)، لان الاجر إنما يكون على اعتمال عمل فيه
مشقة، وإنما يكون فيه مشقة إذا بناه بيده، وباشره بجوارحه وأعضائه.
واعلم أنا نحمل كلام أمير المؤمنين عليه السلام على ما يقتضيه سؤدده الجليل،
ومنصبه العظيم، ودينه القويم، من الاغضاء عما سلف ممن سلف، فقد كان صاحبهم
بالمعروف برهة من الدهر، فأما أن يكون ما كانوا فيه حقهم أو حقه، فتركه لهم رفعا
لنفسه عن المنازعة، أو لما رآه من المصلحة، وعلى كلا التقديرين فالواجب علينا أن
نطبق بين آخر أفعاله وأقواله بالنسبة إليهم وبين أولها، فإن بعد تأويل ما يتأوله من
كلامه، ليس بأبعد من تأويل أهل التوحيد والعدل الآيات المتشابهة في القرآن، ولم يمنع
بعدها من الخوض في تأويلها محافظة على الأصول المقررة، فكذلك هاهنا.

(1) سورة الكهف 77.
136

(151)
الأصل:
ومنه خطبة له عليه السلام:
وأستعينه على مداحر الشيطان ومزاجره، والاعتصام من حبائله ومخاتله،
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ونجيبه وصفوته، لا يؤازى فضله، ولا يجبر
فقده، أضاءت به البلاد بعد الضلالة المظلمة، والجهالة الغالبة، والجفوة الجافية،
والناس يستحلون الحريم، ويستذلون الحكيم، يحيون على فترة، ويموتون
على كفرة.
ثم إنكم معشر العرب أغراض بلايا قد اقتربت، فاتقوا سكرات النعمة،
واحذروا بوائق النقمة، وتثبتوا في قتام العشوة، واعوجاج الفتنة، عند طلوع
جنينها، وظهور كمينها، وانتصاب قطبها، ومدار رحاها، تبدأ في مدارج خفية،
وتؤول إلى فظاعة جلية شبابها كشباب الغلام، وآثارها كآثار السلام،
يتوارثها الظلمة بالعهود، أولهم قائد لآخرهم، وآخرهم مقتد بأولهم،
يتنافسون في دنيا دنية، ويتكالبون على جيفة مريحة، وعن قليل
يتبرأ التابع من المتبوع، والقائد من المقود، فيتزايلون بالبغضاء، ويتلاعنون
عند اللقاء.
ثم يأتي بعد ذلك طالع الفتنة الرجوف، والقاصمة الزحوف، فتزيغ قلوب بعد
استقامة، وتضل رجال بعد سلامة، وتختلف الأهواء عند هجومها، وتلتبس الآراء
عند نجومها.
137

من أشرف لها قصمته، ومن سعى فيها حطمته، يتكادمون فيها تكادم الحمر
في العانة. قد اضطرب معقود الحبل، وعمى وجه الامر، تغيض فيها الحكمة،
وتنطق فيها الظلمة، وتدق أهل البدو بمسحلها، وترضهم بكلكلها، يضيع في غبارها
الوحدان، ويهلك في طريقها الركبان، ترد بمر القضاء، وتحلب عبيط الدماء، وتثلم
منار الدين، وتنقض عقد اليقين.
يهرب منها الأكياس، ويدبرها الأرجاس. مرعاد مبراق، كاشفة عن
ساق، تقطع فيها الأرحام، ويفارق عليها الاسلام، بريها سقيم،
وظاعنها مقيم.
* * *
الشرح:
مداحر الشيطان: الأمور التي يدحر بها، أي يطرد ويبعد، دحرته أدحره
دحورا، قال تعالى: (دحورا ولهم عذاب واصب) (1)، وقال سبحانه: (اخرج منها
مذؤوما مدحورا) (2)، أي مقصى.
ومزاجره: (الأمور يزجر بها، جمع مزجر: ومزجرة، وكثيرا ما يبنى عليه السلام من
الافعال " مفعلا " و " مفعلة " ويجمعه، وإذا تأملت كلامه عرفت ذلك.
وحبائل الشيطان: مكائده وأشراكه التي يضل بها البشر. ومخاتله: الأمور التي
يختل بها، بالكسر، أي يخدع.
لا يؤازى فضله: لا يساوى، واللفظة مهموزة، آزيت فلانا: حاذيته،
ولا يجوز " وازيته ".

(1) سورة الصافات 9.
(2) سورة الأعراف 18.
138

ولا يجبر فقده: لا يسد أحد مسده بعده. والجفوة الجافية: غلظ الطبع
وبلادة الفهم.
ويستذلون الحكيم: يستضيمون العقلاء، واللام هاهنا للجنس، كقوله: (وجاء
ربك والملك صفا صفا) (1).
يحيون على فترة: على انقطاع الوحي ما بين نبوتين.
ويموتون على كفرة، بالفتح، واحد الكفرات، كالضربة واحدة الضربات.
ويروى: " ثم إنكم معشر الناس ". والأغراض: الأهداف. وسكرات النعمة: ما تحدثه
النعم عند أربابها من الغفلة المشابهة للسكر، قال الشاعر:
خمس سكرات إذا مني المرء * بها صار عرضة للزمان
سكرة المال والحداثة والعشق * وسكر الشراب والسلطان
ومن كلام الحكماء: للوالي سكرة لا يفيق منها إلا بالعزل. والبوائق: الدواهي،
جمع بائقة، يقال: باقتهم الداهية بوقا، أي أصابتهم، وكذلك: باقتهم بؤوق
على " فعول "، وابتاقت عليهم بائقة شر، مثل انباحت، أي انفتقت، وانباق عليهم
الدهر: هجم بالداهية، كما يخرج الصوت من البوق، وفى الحديث: " لا يدخل الجنة
من لا يأمن جاره بوائقه "، أي غوائله وشره.
والقتام، بفتح القاف: الغبار. والأقتم: الذي يعلوه قتمة، وهو لون فيه
غبرة وحمرة.
والعشوة بكسر العين: ركوب الامر على غير بيان ووضوح. ويروى: " وتبينوا
في قتام العشوة " كما قرئ: (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) (2) و (فتثبتوا).

(1) سورة الفجر 22.
(2) سورة الحجرات 6.
139

واعوجاج الفتنة: أخذها في غير القصد، وعدولها عن المنهج.
ثم كنى عن ظهور المستور المخفي منها بقوله: " عند طلوع جنينها، وظهور كمينها "،
والجنين: الولد ما دام في البطن، والجمع أجنة، ويجوز ألا يكون الكلام كناية بل صريحا،
أي عند طلوع ما استحن منها، أي استتر. وظهور ما كمن، أي ما بطن.
وكنى عن استحكام أمر الفتنة بقوله: " وانتصاب قطبها، ومدار رحاها ".
ثم قال: إنها تبدو يسيرة، ثم تصير كثيرة.
والفظاعة. مصدر فظع بالضم، فهو فظيع أي شديد شنيع تجاوز المقدار، وكذلك
أفظع الرجل فهو مفظع، وأفظع الرجل على ما لم يسم فاعله: نزل به أمر عظيم، وأفظعت
الشئ: وجدته فظيعا، ومثله استفظعته، وهذا المعنى كما قال الشاعر:
ولربما هاج الكبير * من الأمور لك الصغير
وفى المثل: " والشر تبدؤه صغاره "، وقال الشاعر:
فإن النار بالعودين تذكى * وإن الحرب أولها كلام (1)
وقال أبو تمام:
رب قليل جدا كثيرا * كم مطر بدؤه مطير
وقال أيضا:
لا تذيلن صغير همك وانظر * كم بذي الأسل دوحة من قضيب (2)
قوله: " شبابها كشباب الغلام " بالكسر، مصدر شب الفرس والغلام يشب
ويشب شبابا وشبيبا، إذا قمص ولعب، وأشببته أنا، أي هيجته.

(1) لنصر بن سيار، العقد لابن عبد ربه 4: 110.
(2) ديوانه 1: 127. والأثل: شجر معروف بعظمه، والدوحة: الشجرة العظيمة.
140

والسلام: الحجارة جمع، واحده سلمة بكسر اللام، يذكر الفتنة، ويقول: إنها تبدو
في أول الأمر وأربابها يمرحون ويشبون كما يشب الغلام ويمرح، ثم تؤول إلى أن تعقب
فيهم آثارا، كآثار الحجارة في الأبدان، قال الشاعر:
والحب مثل الحرب أولها التخيل والنشاط
وختامها أم الربيق * النكر والضرب القطاط (1)
ثم ذكر أن هذه الفتنة يتوارثها قوم من قوم، وكلهم ظالم، أولهم يقود آخرهم، كما
يقود الانسان القطار من الإبل وهو أمامها وهي تتبعه. وآخرهم يقتدى بأولهم، أي يفعل
فعله، ويحذو حذوه.
وجيفة مريحة: منتنة، أراحت ظهر ريحها، ويجوز أن تكون من أراح البعير، أي
مات، وقد جاء في " أراح " بمعنى أنتن " راح " بلا همز.
ثم ذكر تبرؤ التابع من المتبوع، يعنى يوم القيامة.
فإن قلت: إن الكتاب العزيز إنما ذكر تبرؤ المتبوع من التابع في قوله: (إذ تبرأ،
الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب) (2)، وهاهنا
قد عكس ذلك، فقال: إن التابع يتبرأ من المتبوع!
قلت: إنه قد ورد في الكتاب العزيز مثل ذلك، في قوله: (أين شركاؤكم
الذين كنتم تزعمون (3)). (قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعو من قبل شيئا) (4)،
فقولهم: (لم نكن ندعو من من قبل شيئا) هو التبرؤ، وهو قوله حكاية عنهم: (والله ربنا
ما كنا مشركين (3)، وهذا هو التبرؤ.

(1) أم الربيق كناية عن الحرب.
(2) سورة البقرة 166.
(3) سورة الأنعام 22، 23.
(4) سورة غافر 74.
141

ثم ذكر عليه السلام أن القائد يتبرأ من المقود، أي يتبرأ المتبوع من التابع فيكون
كل من الفريقين تبرأ من صاحبه، كما قال سبحانه: (ويوم القيامة يكفر بعضكم
ببعض ويلعن بعضكم بعضا) (1).
ويتزايلون: يتفرقون.
قوله: " ثم يأتي بعد ذلك طالع الفتنة الرجوف "، طالعها: مقدماتها وأوائلها، وسماها
" رجوفا "، لشدة الاضطراب فيها.
فإن قلت: ألم تكن قلت: إن قوله: " عن قليل يتبرأ التابع من المتبوع " يعنى به
يوم القيامة فكيف يقول: " ثم يأتي بعد ذلك طالع الفتنة " وهذا إنما يكون قبل القيامة!
قلت: إنه لما ذكر تنافس الناس على الجيفة المنتنة وهي الدنيا، أراد أن يقول بعده
بلا فصل: " ثم يأتي بعد ذلك طالع الفتنة الرجوف "، لكنه لما تعجب من تزاحم الناس
وتكالبهم على تلك الجيفة، أراد أن يؤكد ذلك التعجب، فأتى بجملة معترضة بين
الكلامين، تؤكد معنى تعجبه منهم، فقال: إنهم على ما قد ذكرنا من تكالبهم عليها،
عن قليل يتبرأ بعضهم من بعض، ويلعن بعضهم بعضا، وذلك أدعى لهم - لو كانوا يعقلون -
إلى أن يتركوا التكالب والتهارش على هذه الجيفة الخسيسة. ثم عاد إلى نظام الكلام،
فقال: " ثم يأتي بعد ذلك طالع الفتنة الرجوف "، ومثل هذا الاعتراض في الكلام كثير،
وخصوصا في القرآن، وقد ذكرنا منه فيما تقدم طرفا.
قوله: " والقاصمة الزحوف " القاصمة: الكاسرة، وسماها زحوفا تشبيها لمشيها قدما
بمشي الدبى الذي يهلك الزروع ويبيدها، والزحف: السير على تؤدة كسير الجيوش بعضها
إلى بعض.

(1) سورة العنكبوت 25.
142

قوله: " وتزيغ قلوب " أي تميل، وهذه اللفظة والتي بعدها دالتان على خلاف
ما تذهب إليه الإمامية من أن المؤمن لا يكفر، وناصرتان لمذهب أصحابنا.
ونجومها: مصدر نجم الشر إذا ظهر.
من أشرف لها: من صادمها وقابلها. ومن سعى فيها، أي في تسكينها وإطفائها، وهذا
كله إشارة إلى الملحمة الكائنة في آخر الزمان.
والتكادم: التعاض بأدنى الفم، كما يكدم الحمار، ويقال: كدم يكدم،
والمكدم: المعض.
والعانة: القطيع من حمر الوحش، والجمع عون. تغيض فيها الحكمة: تنقض.
فإن قلت: ليس قوله: " وتنطق فيها الظلمة " واقعا في نقيض قوله: " تغيض فيها
الحكمة "، فأين هذا من الخطابة التي هو فيها نسيج وحده!
قلت: بل المناقضة ظاهرة، لان الحكمة إذا غاضت فيها لم ينطق بها أحد ولابد من
نطق ما، فإذا لم تنطق! الحكماء وجب أن يكون النطق لمن ليس من الحكماء، فهو من
الظلمة، فقد ثبت التناقض.
والمسحل: المبرد. يقول: تنحت أهل البدو وتسحتهم كما يسحت الحديد أو الخشب
بالمبرد. وأهل البدو: أهل البادية ويجوز أن يريد بالمسحل الحلقة التي في طرف شكيم
اللجام المعترضة بإزاء حلقة أخرى في الطرف الآخر، وتدخل إحداهما في الأخرى، بمعنى أن
هذه الفتنة تصدم أهل البدو بمقدمة جيشها كما يصدم الفارس الراجل أمامه بمسحل
لجام فرسه.
والكلكل: الصدر. وترضهم: تدقهم دقا جريشا.
143

قوله: " تضيع في غبارها الوحدان "، جمع واحد، مثل شاب وشبان، وراع ورعيان،
ويجوز " الأحدان " بالهمز، أي من كان يسير وحده فإنه يهلك بالكلية في غبارها، وأما
إذا كانوا جماعة ركبانا فإنهم يضلون، وهو أقرب من الهلاك، ويجوز أن يكون الوحدان جمع
أوحد، يقال: فلان أوحد الدهر، وهؤلاء الوحدان أو الأحدان، مثل أسود وسودان، أي
يضل في هذه الفتنة، وضلالها الذي كنى عنه بالغبار فضلاء، عصرها وعلماء عهدها، لغموض
الشبهة واستيلاء الباطل على أهل وقتها. ويكون معنى الفقرة الثانية على هذا التفسير أن
الراكب الذي هو بمظنة النجاة لا ينجو. والركبان: جمع راكب، ولا يكون إلا ذا بعير.
قوله: ترد بمر القضاء، أي بالبوار والهلاك والاستئصال.
فإن قلت: أيجوز أن يقال للفتنة القبيحة: إنها من القضاء؟
قلت: نعم، لا بمعنى الخلق بل بمعنى الاعلام، كما قال سبحانه: (وقضينا إلى بني إسرائيل
في الكتاب لتفسدن) (1) أي أعلمناهم، أي ترد هذه الفتنة بإعلام الله تعالى لمن
يشاء إعلامه من المكلفين أنها أم اللهيم (2) التي لا تبقى ولا تذر، فذلك الاعلام هو المر الذي
لا يبلغ الوصف مرارته، لان الاخبار عن حلول المكروه الذي لا مدفع عنه ولا محيص
منه، مر جدا.
قوله: " وتحلب عبيط الدماء "، أي هذه الفتنة يحلبها الحالب دما عبيطا، وهذه كناية
عن الحرب، وقد قال عليه السلام في موضع آخر: " أما والله ليحلبنها دما، وليتبعنها ندما "
والعبيط: الدم الطري الخالص.
وثلمت الاناء، أثلمه بالكسر. والأكياس: العقلاء.

(1) سورة الإسراء 4.
(2) أم اللهيم: الداهية.
144

والأرجاس: جمع رجس، وهو القذر والنجس، والمراد هاهنا الفاسقون، فإما أن
يكون على حذف المضاف، أي ويدبرها ذوو الأرجاس، أو أن يكون جعلهم الأرجاس
أنفسها، (1 لما كانوا قد أسرفوا في الفسق، فصاروا كأنهم الفسق والنجاسة نفسها 1)، كما يقال:
رجل عدل، ورجل رضا.
قوله: " مرعاد مبراق " أي ذات وعيد وتهدد، ويجوز أن يعنى بالرعد صوت
السلاح وقعقعته، وبالبرق لونه وضوءه.
وكاشفة عن ساق: عن شدة ومشقة.
قوله: بريئها سقيم "، يمكن أن يعنى بها أنها لشدتها لا يكاد الذي يبرأ منها وينفض
يده عنها يبرأ بالحقيقة، بل لا بد أن يستثنى شيئا من الفسق والضلال، أي لشدة التباس
الامر واشتباه الحال على المكلفين حينئذ.
ويمكن أن يعنى به أن الهارب منها غير ناج، بل لابد أن يصيبه بعض
معرتها ومضرتها.
وظاعنها مقيم: أي ما يفارق الانسان من أذاها وشرها، فكأنه غير مفارق له، لأنه قد
أبقى عنده ندوبا وعقابيل من شرورها وغوائلها.
* * *
الأصل:
منها:
بين قتيل مطلول، وخائف مستجير، يختلون بعقد الايمان، وبغرور الايمان، فلا
تكونوا أنصاب الفتن، وأعلام البدع.

(1 - 1) ساقط من ب.
145

والزموا ما عقد عليه حبل الجماعة وبنيت عليه أركان الطاعة. واقدموا على
الله مظلومين، ولا تقدموا عليه ظالمين. واتقوا مدارج الشيطان، ومهابط العدوان،
ولا تدخلوا بطونكم لعق الحرام، فإنكم بعين من حرم عليكم المعصية،
وسهل لكم سبل الطاعة
* * *
الشرح:
يقال: طل دم فلان فهو مطلول، أي مهدر لا يطلب به، ويجوز أطل دمه، وطله
الله وأطله: أهدره، ولا يقال: طل دم فلان بالفتح، وأبو عبيدة والكسائي يقولانه.
ويختلون: يخدعون بالايمان التي يعقدونها ويقسمون بها، وبالإيمان الذي يظهرونه
ويقرون به.
ثم قال: " فلا تكونوا أنصار الفتن، وأعلام البدع " أي لا تكونوا ممن يشار إليكم في
البدع كما يشار إلى الاعلام المبنية القائمة، وجاء في الخبر المرفوع: " كن في الفتنة كابن اللبون،
لا ظهر فيركب، ولا ضرع فيحلب "، وهذه اللفظة يرويها كثير من الناس لأمير المؤمنين
عليه السلام.
قوله: " واقدموا على الله مظلومين "، جاء في الخبر: " كن عبد الله المقتول ".
ومدارج الشيطان: جمع مدرجة، وهي السبيل التي يدرج فيها. ومهابط العدوان: محاله
التي يهبط فيها.
ولعق الحرام: جمع لعقة بالضم، وهي اسم لما تأخذه الملعقة، واللعقة، بالفتح: المرأة الواحدة.
قوله: " فإنكم بعين من حرم " يقال: أنت بعين فلان، أي أنت بمرأى منه،
وقد قال عليه السلام في موضع آخر بصفين: " فإنكم بعين الله، ومع ابن عم رسول الله " وهذا
من باب الاستعارة، قال سبحانه: (ولتصنع على عيني (1))، وقال: (تجرى بأعيننا (2)).

(1) سورة طه 39.
(2) سورة القمر 14.
146

(152)
الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام:
الحمد لله الدال على وجوده بخلقه، وبمحدث خلقه على أزليته، وباشتباههم
على أن لا شبه له، لا تستلمه المشاعر، ولا تحجبه السواتر، لافتراق الصانع
والمصنوع، والحاد والمحدود، والرب والمربوب، الاحد بلا تأويل عدد، والخالق
لا بمعنى حركة ونصب، والسميع لا بأداة، والبصير لا بتفريق آلة،
والشاهد لا بمماسة، والبائن لا بتراخي مسافة، والظاهر لا برؤية، والباطن
لا بلطافة.
بان من الأشياء بالقهر لها، والقدرة عليها، وبانت الأشياء منه بالخضوع له،
والرجوع إليه. من وصفه فقد حده، ومن حده فقد عده، ومن عده فقد أبطل أزله،
ومن قال: " كيف " فقد استوصفه، ومن قال: " أين "، فقد حيزه، عالم إذ
لا معلوم، ورب إذ لا مربوب، وقادر إذ لا مقدور.
* * *
الشرح:
[أبحاث كلامية]
في هذا الفصل أبحاث:
أولها في وجوده تعالى، وإثبات أن للعالم صانعا، وهاتان طريقتان في الدلالة على
وجوده الأول سبحانه:
147

إحداهما: الطريقة المذكورة في هذا الفصل، وهي طريقة المتكلمين، وهي إثبات أن
الأجسام محدثة، ولابد للمحدث من محدث.
والثانية: إثبات وجوده تعالى من النظر في نفس الوجود.
وذلك لان الوجود ينقسم بالاعتبار الأول إلى قسمين: واجب وممكن، وكل ممكن
لابد أن ينتهى إلى الواجب، لان طبيعة، الممكن يمتنع من أن يستقل بنفسه في قوامه،
فلا بد من واجب يستند إليه، وذلك الواجب الوجود الضروري الذي لابد منه، هو
الله تعالى.
وثانيها: إثبات أزليته، وبيانه ما ذكره في هذا الفصل، وهو أن العالم مخلوق له
سبحانه، حادث من جهته، والمحدث لا بد له من محدث، فإن كان ذلك المحدث
محدثا، عاد القول فيه كالقول في الأول، ويتسلسل، فلا بد من محدث قديم، وذلك هو
الله تعالى.
وثالثها: أنه لا شبيه له، أي ليس بجسم كهذه الأجسام، وبيانه ما ذكر أيضا أن مخلوقاته
متشابهة، يعنى بذلك ما يريده المتكلمون من قولهم: الأجسام متماثلة في الجسمية، وأن
نوع الجسمية واحد، أي لا يخالف جسم جسما بذاته، وإذا كانت متماثلة صح على كل
واحد منها ما صح على الاخر، فلو كان [له] سبحانه شبيه منها - أي لو كان جسما مثلها -
لوجب أن يكون محدثا كمثلها، أو تكون قديمة مثله، وكلا الامرين محال.
ورابعها: أن المشاعر لا تستلمه، وروى " لا تلمسه "، والمشاعر الحواس، وبيانه أنه تعالى
ليس بجسم لما سبق، وما ليس بجسم استحال أن تكون المشاعر لامسة له، لان إدراك المشاعر
مدركاته مقصور على الأجسام وهيئاتها. والاستلام في اللغة: لمس الحجر باليد وتقبيله،
ولا يهمز، لان أصله من السلام وهي (1) الحجارة، كما يقال: استنوق الجمل وبعضهم يهمزه.

(1) ساقطة من د.
148

وخامسها: أن السواتر لا تحجبه، و بيانه أن السواتر والحجب، إنما تحجب ما كان في
جهة، وذلك لأنها ذوات أين ووضع فلا نسبة لها، إلى ما ليس من ذوات
الأين والوضع.
ثم قال عليه السلام: " لافتراق الصانع والمصنوع "، إشارة إلى أن المصنوع من ذوات
الجهة والصانع منزه عن ذلك، برئ عن المواد، فلا يلزم فيه ما يلزم في ذوات
المادة والجهة.
وسادسها: معنى قولنا: إنه أحد، " أنه ليس بمعنى العدد، كما يقوله الناس: أول العدد
أحد وواحد، بل المراد بأحديته كونه لا يقبل التجزئ، وباعتبار آخر كونه لا ثاني
له في الربوبية.
وسابعها: أنه خالق، لا بمعنى الحركة والنصب، وهو التعب، وذلك لان الخالقين منا
يحتاجون إلى الحركة من حيث كانوا أجساما تفعل بالآلات، والبارئ سبحانه ليس بجسم،
ولا يفعل بالآلة، بل كونه قادرا إنما هو لذاته المقدسة، لا لأمر زائد عليها، فلم يكن
فاعلا بالحركة.
وثامنها: أنه سميع، لا بأداة، وذلك لان حاجتنا إلى الحواس، إنما كانت لأمر يخصنا،
وهو كوننا أحياء بحياة حالة في أبعاضنا، والبارئ تعالى حي لذاته، فلم يحتج في كونه مدركا
إلى الأداة والجارحة.
وتاسعها: أنه بصير لا بتفريق آلة، والمراد بتفريق الآلة هاهنا الشعاع الذي باعتباره يكون
الواحد منا مبصرا، فإن القائلين بالشعاع يقولون: إنه يخرج من العين أجسام لطيفة هي الأشعة،
وتكون آلة للحي في إبصار المبصرات، فيتفرق عليها، فكل جسم يقع عليه ذلك الشعاع
يكون مبصرا، والبارئ تعالى بصير لا بشعاع يجعله آلة في الادراك، ويتفرق على المرئيات
149

فيدركها به، وذلك لما قدمناه من أنه حي لذاته، لا بمعنى، فلا يحتاج إلى آلة وأداة ووصلة
تكون كالواسطة بينه وبين المدركات.
وعاشرها: أنه الشاهد لا بمماسة، وذلك لان الشاهد منا هو الحاضر بجسمه عند المشهود،
ألا ترى أن من في الصين لا يكون شاهدا من في المغرب، لان الحضور الجسماني يفتقر
إلى القرب، والقرب من لوازم الجسمية، فما ليس بجسم - وهو عالم بكل شئ - يكون شاهدا
من غير قرب ولا مماسة، ولا أين مطلوب.
وحادي عشرها: أنه البائن لا بتراخي مسافة بينونة المفارق عن المادة، بينونة ليست أينية
لأنه لا نسبة لأحدهما إلى الاخر بالجهة، فلا جرم كان الباري تعالى مباينا عن العالم،
لا بمسافة بين الذاتين.
وثاني عشرها: أنه الظاهر لا برؤية، والباطن لا بلطافة، وذلك لأن الظاهر من الأجسام
ما كان مرئيا بالبصر، والباطن منها ما كان لطيفا جدا، إما لصغره أو لشفافيته، والباري
تعالى ظاهر للبصائر لا للإبصار، باطن، أي غير مدرك بالحواس، لان ذاته لا تقبل المدركية
لا من حيث كان لطيف الحجم أو شفاف الجرم.
وثالث عشرها: أنه قال: بان من الأشياء بالقهر لها، والقدرة عليها، وبانت الأشياء
منه (1) بالخضوع له، والرجوع إليه، هذا هو معنى قول المتكلمين والحكماء، والفرق بينه
وبين الموجودات كلها أنه واجب الوجود لذاته، والأشياء كلها ممكنة الوجود (2) بذواتها،
فكلها محتاجة إليه، لأنها لا وجود لها إلا به، وهذا هو معنى خضوعها له، ورجوعها إليه.
وهو سبحانه غنى عن كل شئ، ومؤثر في كل شئ، إما بنفسه، أو بأن يكون مؤثرا
فيما هو مؤثر في ذلك الشئ، كأفعالنا، فإنه يؤثر فينا، ونحن نؤثر فيها، فإذا هو قاهر
لكل شئ، وقادر على كل شئ. فهذه هي البينونة بينه وبين الأشياء كلها.

(1) ج: " عنه ".
(2) ساقطة من د.
150

ورابع عشرها: أنه لا صفة له زائدة على ذاته، ونعني بالصفة ذاتا موجودة قائمة بذاته،
وذلك لان من أثبت هذه الصفة له فقد حده، ومن حده فقد عده، ومن عده فقد أبطل
أزله، وهذا كلام غامض، وتفسيره أن من أثبت له علما قديما أو قدرة قديمة، فقد أوجب
أن يعلم بذلك العلم معلومات محدودة، أي محصورة، وكذلك قد أوجب أن يقدر بتلك
القدرة على مقدورات محدودة، وهذه المقدمة ثابتة في كتب أصحابنا المتكلمين مما يذكرونه
في تقرير أن العلم الواحد لا يتعلق بمعلومين، وأن القدرة الواحدة لا يمكن أن تتعلق في
الوقت الواحد من الجنس الواحد في المحل الواحد إلا بجزء واحد، وسواء فرض هذان
المعنيان قديمين أو محدثين، فإن هذا الحكم لازم لهما، فقد ثبت أن من أثبت المعاني القديمة
فقد أثبت البارئ تعالى محدود العالمية والقادرية، ومن قال بذلك فقد عده، أي جعله من
جملة الجثة المعدودة فيما بيننا كسائر البشر والحيوانات، ومن قال بذلك، فقد أبطل أزله،
لان كل ذات مماثلة لهذه الذوات المحدثة، فإنها محدثة مثلها، والمحدث لا يكون أزليا.
وخامس عشرها: أن من قال: " كيف "، فقد استوصفه، أي من قال لزيد: كيف
الله؟ فقد استدعى أن يوصف الله بكيفية من الكيفيات، والبارئ تعالى لا تجوز الكيفيات
عليه، والكيفيات هي الألوان والطعوم ونحوها، والاشكال والمعاني وما يجرى مجرى
ذلك، وكل هذا لا يجوز إلا على الأجسام.
فإن قلت: ينبغي أن يقول: " فقد وصفه "، ولا يقال: " فقد استوصفه "، لان السائل
لم يستوصف الله، وإنما استوصف صاحبه الذي سأله عن كيفية الله.
قلت: " استوصف " هاهنا بمعنى " وصف، " كقولك: استغنى زيد عن عمرو، أي
غنى عنه، واستعلى عليه أي علا، ومثله كثير.
وسادس عشرها: أن من قال: " أين " فقد حيزه، لان " أين " سؤال عن المكان،
وليس الله تعالى في مكان، ويأتي أنه في كل مكان بمعنى العلم والإحاطة.
151

وسابع عشرها: أنه عالم إذ لا معلوم، ورب إذ لا مربوب، وقادر إذ لا مقدور، وكل
هذا صحيح ومدلول عليه، لأنه عالم فيما لم يزل وليس شئ من الأشياء بموجود، وهو
رب كل شئ قبل أن يخلقه، كما تقول إنه سميع بصير قبل أن يدرك المسموعات والمبصرات،
أي قبل أن يخلقها، وقادر على الأشياء قبل كونها، لأنه يستحيل حال كونها أن تكون
مقدورة، لاستحالة إيجاد الموجود.
وقد شرحنا كل هذه المسائل التوحيدية في كتبنا المصنفة في علم الكلام.
* * *
الأصل:
منها: قد طلع طالع، ولمع لامع، ولاح لائح، واعتدل مائل، واستبدل الله
بقوم قوما، وبيوم يوما، وانتظرنا الغير انتظار المجدب المطر.
وإنما الأئمة قوام الله على خلقه، وعرفاؤه على عباده، ولا يدخل الجنة إلا من
عرفهم وعرفوه، ولا يدخل النار إلا من أنكرهم وأنكروه.
إن الله تعالى خصكم بالاسلام، واستخلصكم له، وذلك لأنه اسم سلامة
وجماع كرامة، اصطفى الله تعالى منهجه وبين حججه، من ظاهر علم، وباطن
حكم، لا تفنى غرائبه، ولا تنقضي عجائبه.
فيه مرابيع النعم، ومصابيح الظلم، لا تفتح الخيرات إلا بمفاتيحه،
ولا تكشف الظلمات إلا بمصابيحه، قد أحمى حماه، وأرعى مرعاه، فيه شفاء
المشتفي، وكفاية المكتفى.
* * *
152

الشرح:
هذه خطبة خطب بها بعد قتل عثمان حين أفضت الخلافة إليه.
قد طلع طالع، يعنى عود الخلافة إليه، وكذلك قوله: " ولمع لامع، ولاح لائح "،
كل هذا يراد به معنى واحد.
واعتدل مائل، إشارة إلى ما كانت الأمور عليه من الاعوجاج في أواخر أيام عثمان،
واستبدل الله بعثمان وشيعته عليا وشيعته، وبأيام ذاك أيام هذا.
ثم قال: " وانتظرنا الغير انتظار المجدب المطر "، وهذا الكلام يدل على أنه
قد كان يتربص بعثمان الدوائر، ويرتقب حلول الخطوب بساحته، ليلى الخلافة.
فإن قلت: أليس هو الذي طلق الدنيا، فأين هذا القول من طلاقها؟
قلت: إنه طلق الدنيا أن يقبل (1) منها حظا دنيويا، ولم يطلقها، أن ينهى فيها عن
المنكرات التي أمره الله تعالى بالنهي عنها، ويقيم فيها الدين الذي أمره الله بإقامته
ولا سبيل له إلى النهى عن المنكر والامر بالمعروف إلا بولاية الخلافة.
[عقيدة على في عثمان ورأي المعتزلة في ذلك]
فإن قلت: أيجوز على مذهب المعتزلة أن يقال: إنه عليه السلام كان ينتظر قتل عثمان،
انتظار المجدب المطر، وهل هذا إلا محض مذهب الشيعة!
قلت: إنه عليه السلام لم يقل: " وانتظرنا قتله " وإنما انتظر الغير، فيجوز أن يكون
أراد انتظار خلعه وعزله عن الخلافة، فإن عليا عليه السلام عند أصحابنا كان يذهب إلى
أن عثمان استحق الخلع بإحداثه، ولم يستحق القتل، وهذا الكلام إذا حمل على انتظار
الخلع كان موافقا لمذهب أصحابنا.

(1) د: " ينال ".
153

فإن قلت: أتقول المعتزلة أن عليا كان يذهب إلى فسق عثمان المستوجب لأجله الخلع؟
قلت: كلا! حاش لله أن تقول المعتزلة ذلك! وإنما تقول إن عليا كان يرى أن عثمان
يضعف عن تدبير الخلافة، وأن أهله غلبوا عليه، واستبدوا بالامر دونه، واستعجزه
المسلمون، واستسقطوا رأيه، فصار حكمه حكم الامام إذا عمى، أو أسره العدو، فإنه
ينخلع من الإمامة.
* * *
ثم قال عليه السلام: " الأئمة قوام الله على خلقه "، أي يقومون بمصالحهم، وقيم
المنزل: هو المدبر له.
قال: " وعرفاؤه على عباده "، جمع عريف، وهو النقيب والرئيس، يقال: عرف فلان
بالضم عرافة بالفتح، مثل خطب خطابة أي صار عريفا، وإذا أردت أنه عمل ذلك قلت:
عرف فلان علينا سنين، يعرف عرافة بالكسر، مثل كتب يكتب كتابة.
قال: " ولا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه، ولا يدخل النار إلا من أنكرهم وأنكروه "،
هذا إشارة إلى قوله تعالى: (يوم ندعو كل أناس بإمامهم) (1) قال المفسرون: ينادى
في الموقف: يا أتباع فلان، ويا أصحاب فلان، فينادى كل قوم باسم إمامهم، يقول أمير المؤمنين
عليه السلام: لا يدخل الجنة يومئذ إلا من كان في الدنيا عارفا بإمامه، ومن يعرفه إمامه
في الآخرة، فإن الأئمة تعرف أتباعها يوم القيامة، وإن لم يكونوا رأوهم في الدنيا، كما أن
النبي صلى الله عليه وآله يشهد (2) للمسلمين وعليهم، وإن لم يكن رأى أكثرهم، قال سبحانه:
(فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا)، (3) وجاء في الخبر

(1) سورة الإسراء 71.
(2) ب: " شهد ".
(3) سورة النساء 41.
154

المرفوع: " من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية "، وأصحابنا كافة قائلون بصحة هذه
القضية، وهي أنه لا يدخل الجنة إلا من عرف الأئمة، ألا ترى أنهم يقولون: الأئمة بعد
رسول الله صلى الله عليه وآله فلان وفلان، ويعدونهم واحدا واحدا، فلو أن إنسانا لا يقول
بذلك، لكان عندهم فاسقا، والفاسق لا يدخل الجنة عندهم أبدا، أعني من مات على فسقه.
فقد ثبت أن هذه القضية، وهي قوله: عليه السلام: " لا يدخل الجنة إلا من عرفهم "
قضية صحيحة على مذهب المعتزلة، وليس قوله: " وعرفوه " بمنكر عند أصحابنا، إذا فسرنا
قوله تعالى: (يوم ندعو كل أناس بإمامهم) على ما هو الأظهر والأشهر من التفسيرات،
وهو ما ذكرناه.
وبقيت القضية الثانية ففيها الاشكال، وهي قوله عليه السلام: " ولا يدخل النار
إلا من أنكرهم وأنكروه "، وذلك أن لقائل أن يقول: قد يدخل النار من لم ينكرهم،
مثل أن يكون إنسان يعتقد صحة إمامة القوم الذين يذهب أنهم أئمة عند المعتزلة، ثم يزنى
أو يشرب الخمر من غير توبة، فإنه يدخل النار، وليس بمنكر للأئمة، فكيف يمكن الجمع
بين هذه القضية وبين الاعتزال!
فالجواب أن الواو في قوله: " وأنكروه " بمعنى " أو " كما في قوله تعالى: (فأنكحوا
ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) (1) فالانسان المفروض في السؤال وإن
كان لا ينكر الأئمة إلا أنهم ينكرونه، أي يسخطون يوم القيامة أفعاله، يقال: أنكرت فعل
فلان أي كرهته، فهذا هو تأويل الكلام على مذهبنا، فأما الامامية فإنهم يحملون ذلك
على تأويل آخر، ويفسرون قوله: " ولا يدخل النار "، فيقولون: أراد ولا يدخل النار دخولا
مؤبدا إلا من ينكرهم وينكرونه.

(1) سورة النساء 3.
155

ثم ذكر عليه السلام شرف الاسلام، وقال: إنه مشتق من السلامة، وإنه جامع
للكرامة، وإن الله قد بين حججه، أي الأدلة على صحته.
ثم بين ما هذه الأدلة، فقال: " من ظاهر علم، وباطن حكم "، أي حكمة، ف‍ " مين " هاهنا
للتبيين والتفسير، كما تقول: دفعت إليه سلاحا من سيف ورمح وسهم، ويعنى بظاهر علم
وباطن حكم، والقرآن، ألا تراه كيف أتى بعده بصفات ونعوت لا تكون إلا للقرآن، من
قوله: " لا تفنى عزائمه " أي آياته المحكمة، و " براهينه العازمة " أي القاطعة ولا تنقضي عجائبه،
لأنه مهما تأمله الانسان استخرج منه بكفر غرائب وعجائب لم تكن عنده من قبل.
" فيه مرابيع النعم "، المرابيع الأمطار التي تجئ في أول الربيع فتكون سببا لظهور
الكلأ، وكذلك تدبر القرآن سبب للنعم الدينية وحصولها.
قوله: " قد أحمى حماه، وأرعى مرعاه "، الضمير في " أحمى " يرجع إلى الله تعالى، أي
قد أحمى الله حماه، أي عرضه لان يحمى، كما تقول: أقتلت الرجل، أي عرضته لان يقتل.
وأضربته، أي عرضته لان يضرب، أي قد عرض الله تعالى حمى القرآن ومحارمه لان يجتنب
ومكن منها، وعرض مراعاة لان يرعى، أي مكن من الانتفاع بما فيه من الزواجر
والمواعظ لأنه خاطبنا بلسان عربي مبين، ولم يقنع ببيان مالا نعلم إلا بالشرع، حتى نبه في
أكثره على أدلة العقل.
156

(153) الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام:
وهو في مهلة من الله يهوى مع الغافلين، ويغدو مع المذنبين، بلا سبيل قاصد،
ولا إمام قائد.
* * *
الشرح:
يصف إنسانا من أهل الضلال غير معين، بل كما تقول: رحم الله امرأ اتقى ربه وخاف
ذنبه، وبئس الرجل رجل قل حياؤه وعدم وفاؤه، ولست تعنى رجلا بعينه.
ويهوى: يسقط. والسبيل القاصد: الطريق المؤدية إلى المطلوب.
والامام إما الخليفة، وإما الأستاذ، أو الدين، أو الكتاب، على كل من هؤلاء تطلق
هذه اللفظة.
* * *
الأصل:
منها:
حتى إذا كشف لهم عن جزاء معصيتهم، واستخرجهم من جلابيب غفلتهم
استقبلوا مدبرا، واستدبروا مقبلا، فلم ينتفعوا بما أدركوا من طلبتهم، ولا بما قضوا
من وطرهم.
157

وإني أحذركم ونفسي هذه المنزلة، فلينتفع امرؤ بنفسه، فإنما البصير من
سمع فتفكر، ونظر فأبصر، وانتفع بالعبر، ثم سلك جددا واضحا يتجنب فيه
الصرعة في المهاوي، والضلال في المغاوي، ولا يعين على نفسه الغواة بتعسف في حق،
أو تحريف في نطق، أو تخوف من صدق.
فأفق أيها السامع من سكرتك، واستيقظ من غفلتك، واختصر من عجلتك،
وأنعم الفكر فيما جاءك على لسان النبي الأمي صلى الله عليه وسلم مما لا بد منه،
ولا محيص عنه. وخالف من خالف ذلك إلى غيره، ودعه وما رضى لنفسه، وضع
فخرك، واحطط كبرك، واذكر قبرك، فإن عليه ممرك، وكما تدين تدان،
وكما تزرع تحصد، وما قدمت اليوم تقدم عليه غدا، فامهد لقدمك، وقدم ليومك.
فالحذر الحذر أيها المستمع! والجد الجد، أيها الغافل، (ولا ينبئك مثل خبير (1)).
* * *
الشرح:
فاعل " كشف " هو الله تعالى، وقد كان سبق ذكره في الكلام، وإنما كشف لهم
عن جزاء معصيتهم بما أراهم حال الموت من دلائل الشقوة والعذاب، فقد ورد في الخبر
الصحيح أنه " لا يموت ميت حتى يرى مقره من جنة أو نار ".
ولما انفتحت أعين أبصارهم عند مفارقة الدنيا، سمى ذلك عليه السلام استخراجا لهم من
جلابيب غفلتهم، كأنهم كانوا من الغفلة والذهول في لباس نزع عنهم.
قال: " استقبلوا مدبرا "، أي استقبلوا أمرا كان في ظنهم واعتقادهم مدبرا عنهم، وهو
الشقاء والعذاب. " واستدبروا مقبلا " تركوا وراء ظهورهم ما كانوا خولوه من الأولاد
والأموال والنعم وفى قوة هذا الكلام أن يقول: عرفوا ما أنكروه وأنكروا ما عرفوه:

(1) سورة فاطر 14.
158

وروى: " أحذركم ونفسي هذه المزلة " مفعلة، من الزلل، وفى قوله: " ونفسي "
لطافة رشيقة، وذلك لأنه طيب قلوبهم بأن جعل نفسه شريكة لهم في هذا التحذير
ليكونوا إلى الانقياد أقرب وعن الاباء والنفرة أبعد، بطريق جدد لأحب.
والمهاوي: جمع مهواة، وهي الهوة يتردى فيها.
والمغاوي: جمع مغواة، وهي الشبهة التي يغوي بها الناس، أي يضلون.
ثم يصف الأمور التي يعين بها الانسان أرباب الضلال على نفسه، وهي أن يتعسف في
حق يقوله، أو يأمر به فإن الرفق أنجح، وأن يحرف المنطق فإن الكذب لا يثمر خيرا،
وأن يتخوف من الصدق في ذات الله، قال سبحانه: (إذا فريق منهم يخشون الناس
كخشية الله) (1) فذم من لا يصدق ويجاهد في الحق.
قوله: " واختصر من عجلتك " أي لا تكن عجلتك كثيرة بل إذا كانت لك
عجلة فلتكن شيئا يسيرا.
وتقول: أنعمت النظر في كذا، أي دققته، من قولك: أنعمت سحق الحجر
وقيل: إنه مقلوب " أمعن ".
والنبي الأمي، إما الذي لا يحسن الكتابة، أو المنسوب إلى أم القرى، وهي مكة.
ولا محيص عنه: لا مفر ولا مهرب حاص، أي تخلص من أمر كان
نشب فيه.
قوله: " فإن عليه ممرك " أي ليس القبر بدار مقام، وإنما هو ممر وطريق
إلى الآخرة.

(1) سورة النساء 77.
159

وكما تدين تدان، أي كما تجازى غيرك تجازى بفعلك وبحسب ما عملت، ومنه قوله
سبحانه: " إنا لمدينون " (1)، أي مجزيون، ومنه الديان في صفة الله تعالى.
قوله: " وكما تزرع تحصد " معنى قد قاله الناس بعده كثيرا، قال الشاعر:
إذا أنت لم تزرع وأدركت حاصدا * ندمت على التقصير في زمن البذر
ومن أمثالهم: " من زرع شرا حصد ندما ".
فامهد لنفسك: أي سو ووطئ: " ولا ينبئك مثل خبير) (2) من القرآن العزيز،
أي ولا يخبرك بالأمور أحد على حقائقها كالعارف بها العالم بكنهها.
* * *
الأصل:
إن من عزائم الله في الذكر الحكيم، التي عليها يثيب ويعاقب ولها يرضى
ويسخط، أنه لا ينفع عبدا - وإن أجهد نفسه، وأخلص فعله - أن يخرج من
الدنيا لاقيا ربه بخصلة من هذه الخصال لم يتب منها: أن يشرك بالله فيما افترض
عليه من عبادته، أو يشفى غيظه بهلاك نفس، أو يعر بأمر فعله غيره،
أو يستنجح حاجة إلى الناس بإظهار بدعة في دينه، أو يلقى الناس بوجهين،
أو يمشى فيهم بلسانين.
أعقل ذلك، فإن المثل دليل على شبهة. إن البهائم همها بطونها، وأن السباع
همها العدوان على غيرها، وإن النساء همهن زينة الحياة الدنيا والفساد فيها.
إن المؤمنين مستكينون، إن المؤمنين مشفقون، إن المؤمنين خائفون.

(1) سورة الصافات 53.
(2) سورة الفاطر 14.
160

الشرح:
عزائم الله، هي موجباته والامر المقطوع عليه، الذي لا ريب فيه ولا شبهة، قال
عليه السلام: إن من الأمور التي نص الله تعالى عليها نصا لا يحتمل التأويل، وهي من
العزائم التي يقطع بها، ولا رجوع فيها ولا نسخ لها، أن من تاب وهو على ذنب من
هذه الذنوب (1) المذكورة - ولو اكتفى بذلك عليه السلام لأغناه عن قوله: " لم يتب " إلا أنه
ذكر ذلك تأكيدا وزيادة في الايضاح (2) - فإنه لا ينفعه فعل شئ من الأفعال الحسنة
ولا الواجبة، ولا تفيده العبادة ولو أجهد إلها آخر فيشركه في العبادة، أو يقتل إنسانا بغير حق،
بل ليشفي غيظه، أو يقذف غيره بأمر قد فعله هو.
عره بكذا يعره عرا، أي عابه ولطخه أو يروم بلوغ حاجة من أحد بإظهار بدعة
في الدين، كما يفعل أكثر الناس في زماننا، أو يكون ذا وجهين، وهو أيضا قوله:
" أو يمشى فيهم بلسانين "، وإنما أعاده تأكيدا.
* * *
لما نصب معاوية ابنه يزيد لولاية العهد، أقعده في قبة حمراء، وأدخل الناس يسلمون
على معاوية، ثم يميلون إلى قبة يزيد، فيسلمون عليه بولاية العهد، حتى جاء رجل ففعل
ذلك، ثم رجع إلى معاوية فقال: يا أمير المؤمنين، أما إنك لو لم تول هذا أمور المسلمين
لأضعتها، وكان الأحنف جالسا، فلما خف الناس، قال معاوية: ما بالك لا تقول يا أبا بحر!
قال: أخاف الله إن كذبتك، وأخافك إن صدقتك، فماذا أقول! فقال: جزاك الله عن
الطاعة خيرا، وأمر له بصلة جزيلة فلما خرج لقيه ذلك الرجل بالباب، فقال: يا أبا بحر،
إني لأعلم أن شر من خلق الله هذا الرجل، ولكن هؤلاء قد استوثقوا من هذه

(1) ساقطة من ب.
(2) ا، ج: " زيادة الايضاح ".
161

الأموال بالأبواب والأقفال، فلسنا نطمع في استخراجها إلا بما سمعت. فقال: يا هذا أمسك
عليك، فإن ذا الوجهين خليق ألا يكون وجيها عند الله غدا.
* * *
ثم أمر عليه السلام بأن يعقل ما قاله، ويعلم باطن خطابه، وإنما رمز بباطن هذا
الكلام إلى الرؤساء يوم الجمل، لأنهم حاولوا أن يشفوا غيظهم بإهلاكه وإهلاك غيره من
المسلمين عروة (1) عليه السلام بأمر هم فعلوه، وهو التأليب على عثمان وحصره،
واستنجحوا حاجتهم إلى أهل البصرة بإظهار البدعة والفتنة، ولقوا الناس بوجهين ولسانين،
لأنهم بايعوه وأظهروا الرضا به، ثم دبوا له الخمر (2) فجعل ذنوبهم هذه مماثلة للشرك بالله
سبحانه، في أنها لا تغفر إلا بالتوبة، وهذا هو معنى قوله: " أعقل ذلك "، فإن المثل
دليل على شبهه، وروى " فإن المثل " واحد الأمثال، أي هذا الحكم بعدم المغفرة لمن
أتى شيئا من هذه الأشياء عام، والواحد منها دليل على ما يماثله ويشابهه.
فإن قلت: فهذا تصريح بمذهب الإمامية في طلحة والزبير وعائشة.
قلت: كلا فإن هذه الخطبة خطب بها وهو سائر إلى البصرة، ولم تقع الحرب
إلا بعد تعدد الكبائر، ورمز فيها إلى المذكورين، وقال: " إن لم يتوبوا "، وقد ثبت
أنهم تابوا، والاخبار عنهم بالتوبة كثيرة مستفيضة.
ثم أراد عليه السلام أن يومئ إلى ذكر النساء للحال التي كان وقع إليها من استنجاد
أعدائه بامرأة، فذكر قبل ذكر النساء أنواعا من الحيوان، تمهيدا القاعدة ذكر النساء،
فقال: إن البهائم همها بطونها، كالحمر والبقر والإبل والغنم، وإن السباع همها العدوان

(1) عروة: سبوه.
(2) أخمر القوم، إذا تواروا بالخمر، ويقال للرجل إذا ختل صاحبه: هو يدب له الضراء ويمشي له
الخمر.
162

على غيرها، كالأسود الضارية والنمور والفهود والبزاة والصقور.
ثم قال: وإن النساء همهن زينة الحياة الدنيا والفساد فيها.
نظر حكيم إلى امرأة مصلوبة على شجرة، فقال: ليت كل شجرة تحمل مثل
هذه الثمرة.
ومرت امرأة بسقراط وهو يتشرق في الشمس، فقالت: ما أقبحك أيها الشيخ!
فقال: لو أنكن من المرائي الصدئة لغمني ما بان من قبح صورتي فيكن.
ورأي حكيم امرأة تعلم الكتابة، فقال: سهم يسقى سما ليرمى به يوما ما.
ورأي بعضهم جارية تحمل نارا، فقال: نار على نار، والحامل شر من المحمول.
وقيل لسقراط: أي السباع أحسن؟ قال: المرأة.
وتزوج بعضهم امرأة نحيفة، فقيل له في ذلك، فقال: اخترت من الشر أقله.
ورأي بعض الحكماء المرأة غريقة قد احتملها السيل، فقال: زادت الكدر كدرا،
والشر بالشر يهلك.
* * *
ثم ذكر عليه السلام خصائص المؤمن، فقال: إن المؤمنين مستكينون، استكان
الرجل، أي خضع وذل.
إن المؤمنين مشفقون، التقوى رأس الايمان كما ورد في الخبر.
ثم قال: " إن المؤمنين خائفون " هو الأول وإنما أكده، والتأكيد مطلوب في
باب الخطابة.
163

(154) الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام:
وناظر قلب اللبيب به يبصر أمده، ويعرف غوره ونجده. داع دعا، وراع رعى،
فاستجيبوا للداعي، واتبعوا الراعي.
* * *
الشرح:
يقول: إن قلب اللبيب له عين يبصر بها غايته التي يجرى إليها، ويعرف من أحواله
المستقبلة ما كان مرتفعا أو منخفضا ساقطا، والنجد: المرتفع من الأرض، ومنه قولهم للعالم
بالأمور: " طلاع أنجد ".
ثم قال: " داع دعا "، موضع " داع " رفع، لأنه مبتدأ محذوف الخبر، تقديره:
" في الوجود داع دعا، وراع رعى "، ويعني بالداعي رسول الله صلى الله عليه وآله،
وبالراعي نفسه عليه السلام.
* * *
الأصل:
قد خاضوا بحار الفتن، وأخذوا بالبدع دون السنن، وأرز المؤمنون، ونطق
الضالون المكذبون.
نحن الشعار والأصحاب، والخزنة والأبواب، ولا تؤتى البيوت إلا من أبوابها،
فمن أتاها من غير أبوابها سمى سارقا.
164

الشرح:
هذا كلام متصل بكلام لم يحكه الرضى رحمه الله، وهو ذكر قوم من أهل الضلال
قد كان أخذ في ذمهم، ونعى عليهم عيوبهم.
وأرز المؤمنون، أي انقبضوا، والمضارع " يأرز " بالكسر أرزا وأروزا، ورجل أروز أي
منقبض، وفى الحديث: " إن الاسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها (1) "، أي
ينضم إليها ويجتمع.
ثم قال: " نحن الشعار والأصحاب "، يشير إلى نفسه، وهو أبدا يأتي بلفظ الجمع
ومراده الواحد.
والشعار: ما يلي الجسد من الثياب، فهو أقرب من سائرها إليه، ومراده الاختصاص
برسول الله صلى الله عليه وآله.
والخزنة والأبواب، يمكن أن يعنى به خزنة العلم وأبواب العلم، لقول رسول الله
صلى الله عليه وآله: " أنا مدينة العلم وعلى بابها، فمن أراد الحكمة فليأت الباب ".
وقوله فيه: " خازن علمي ": وقال تارة أخرى: " عيبة علمي ". ويمكن أن يريد
خزنة الجنة وأبواب الجنة، أي لا يدخل الجنة إلا من وافى بولايتنا، فقد جاء في حقه الخبر
الشائع المستفيض: إنه قسيم النار والجنة، وذكر أبو عبيد الهروي في " الجمع بين الغريبين "،
أن قوما من أئمة العربية فسروه، فقالوا: لأنه لما كان محبه من أهل الجنة، ومبغضه من
أهل النار، كأنه بهذا الاعتبار قسيم النار والجنة. قال أبو عبيد: وقال غير هؤلاء: بل هو
قسيمها بنفسه في الحقيقة، يدخل قوما إلى الجنة، وقوما إلى النار، وهذا الذي ذكره أبو عبيد
أخيرا هو ما يطابق الأخبار الواردة فيه، يقول للنار: هذا لي فدعيه، وهذا لك فخذيه.
ثم ذكر أن البيوت لا تؤتى إلا من أبوابها، قال الله تعالى: " وليس البر بأن تأتوا

(1) النهاية لابن الأثير 1: 24.
165

البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها) (1).
ثم قال: من أتاها من غير أبوابها سمى سارقا، وهذا حق ظاهرا وباطنا، أما الظاهر
فلان من يتسور البيوت من غير أبوابها هو السارق، وأما الباطن فلان من طلب العلم
من غير أستاذ محقق فلم يأته من بابه، فهو أشبه شئ بالسارق.
* * *
[ذكر الأحاديث والأخبار الواردة في فضائل على]
واعلم أن أمير المؤمنين عليه السلام لو فخر بنفسه، وبالغ في تعديد مناقبه وفضائله بفصاحته،
التي آتاه الله تعالى إياها، واختصه بها، وساعده على ذلك فصحاء العرب كافة، لم يبلغوا إلى
معشار ما نطق به الرسول الصادق صلوات الله عليه في أمره، ولست أعني بذلك الأخبار العامة
الشائعة التي يحتج بها الامامية على إمامته، كخبر الغدير، والمنزلة، وقصة براءة،
وخبر المناجاة، وقصة خيبر، وخبر الدار بمكة في ابتداء الدعوة، ونحو ذلك، بل الأخبار الخاصة
التي رواها فيه أئمة الحديث، التي لم يحصل أقل القليل منها لغيره، وأنا أذكر من
ذلك شيئا يسيرا مما رواه علماء الحديث الذين لا يتهمون فيه، وجلهم قائلون بتفضيل
غيره عليه، فروايتهم فضائله توجب سكون النفس مالا يوجبه رواية غيرهم.
* * *
الخبر الأول: " يا علي، إن الله قد زينك بزينة لم يزين العباد بزينة أحب إليه
منها، هي زينة الأبرار عند الله تعالى، الزهد في الدنيا، جعلك لا ترزأ من الدنيا شيئا (2)،
ولا ترزأ الدنيا منك شيئا، ووهب لك حب المساكين، فجعلك ترضى بهم أتباعا،
ويرضون بك إماما ".

(1) سورة البقرة 177.
(2) ترزأ: تأخذ.
166

رواه أبو نعيم الحافظ في كتابه المعروف ب‍ " حلية الأولياء " وزاد فيه أبو عبد الله
أحمد بن حنبل في " المسند ": " فطوبى لمن أحبك وصدق فيك، وويل لمن أبغضك
وكذب فيك! ".
* * *
الخبر الثاني: قال لوفد ثقيف: لتسلمن، أو لأبعثن إليكم رجلا منى - أو قال: عديل
نفسي - فليضربن أعناقكم، وليسبين ذراريكم، وليأخذن أموالكم ". قال عمر: فما تمنيت
الامارة إلا يومئذ، وجعلت أنصب له صدري رجاء أن يقول: هو هذا. فالتفت فأخذ
بيد على وقال: " هو هذا! " مرتين.
رواه أحمد في " المسند "، ورواه في كتاب فضائل علي عليه السلام، أنه قال: " لتنتهن
يا بنى وليعة (1)، أو لأبعثن إليكم رجلا كنفسي، يمضى فيكم أمري. يقتل المقاتلة،
ويسبي الذرية، قال أبو ذر: فما راعني إلا برد كف عمر في حجزتي (2) من
خلفي، يقول: من تراه يعنى؟ فقلت: إنه لا يعنيك، وإنما يعنى خاصف النعل،
وإنه قال: " هو هذا ".
* * *
الخبر الثالث: " إن الله عهد إلى في علي عهدا، فقلت: يا رب بينه لي، قال: اسمع، إن
عليا راية الهدى، وإمام أوليائي، ونور من أطاعني، وهو الكلمة التي ألزمتها المتقين،
من أحبه فقد أحبني، ومن أطاعه فقد أطاعني، فبشره بذلك. فقلت: قد بشرته يا رب
فقال: أنا عبد الله وفى قبضته، فإن يعذبني فبذنوبي لم يظلم شيئا، وإن يتم لي ما وعدني
فهو أولى، وقد دعوت له فقلت: اللهم اجل قلبه، واجعل ربيعه الايمان بك. قال:
قد فعلت ذلك، غير أنى مختصه بشئ من البلاء لم أختص به أحدا من أوليائي، فقلت:
رب، أخي وصاحبي! قال: إنه سبق في علمي أنه لمبتل ومبتلى ".

(1) بنو وليعة: حي في كندة.
(2) الحجزة: موضع الإزار.
167

ذكره أبو نعيم الحافظ في " حلية الأولياء " عن أبي برزة الأسلمي، ثم رواه بإسناد آخر بلفظ
آخر، عن أنس بن مالك: " إن رب العالمين عهد، في علي إلى عهدا أنه راية الهدى، ومنار
الايمان، وإمام أوليائي، ونور جميع من أطاعني، إن عليا أميني غدا في القيامة، وصاحب
رايتي، بيد على مفاتيح خزائن رحمة ربى ".
* * *
الخبر الرابع " من أراد أن ينظر إلى نوح في عزمه، وإلى آدم في علمه، وإلى
إبراهيم في حلمه، وإلى موسى في فطنته، وإلى عيسى في زهده، فلينظر إلى علي
بن أبي طالب ".
رواه أحمد بن حنبل في " المسند " ورواه أحمد البيهقي في صحيحه.
* * *
الخبر الخامس: " من سره أن يحيا حياتي، ويموت ميتتي، ويتمسك بالقضيب من الياقوتة
التي خلقها الله تعالى بيده، ثم قال لها: كوني فكانت، فليتمسك بولاء علي بن أبي طالب ".
ذكره أبو نعيم الحافظ في كتاب " حلية الأولياء "، ورواه أبو عبد الله بن حنبل في
" المسند "، وفى كتاب فضائل علي بن أبي طالب، وحكاية لفظ أحمد رضي الله عنه: " من أحب أن
يتمسك بالقضيب الأحمر الذي غرسه الله في جنة عدن بيمينه، فليتمسك بحب علي بن أبي طالب ".
* * *
الخبر السادس: " والذي نفسي بيده، لولا أن تقول طوائف من أمتي فيك ما قالت
النصارى في ابن مريم، لقلت اليوم فيك مقالا: لا تمر بملا من المسلمين إلا أخذوا التراب
من تحت قدميك للبركة.
ذكره أبو عبد الله أحمد بن حنبل في " المسند ".
* * *
الخبر السابع: خرج صلى الله عليه وآله على الحجيج عشية عرفة، فقال لهم: إن الله قد
168

باهى بكم الملائكة عامة، وغفر لكم عامة، وباهى بعلي خاصة، وغفر له خاصة. إني
قائل لكم قولا غير محاب فيه لقرابتي، إن السعيد كل السعيد حق السعيد من أحب
عليا في حياته وبعد موته ".
رواه أبو عبد الله أحمد بن حنبل في كتاب فضائل علي عليه السلام، وفى
" المسند " أيضا.
* * *
الخبر الثامن: رواه أبو عبد الله أحمد بن حنبل في الكتابين المذكورين: " أنا أول
من يدعى به يوم القيامة، فأقوم عن يمين العرش في ظله، ثم أكسى حلة ثم يدعى بالنبيين
بعضهم على أثر بعض، فيقومون عن يمين العرش ويكسون حللا، ثم يدعى بعلي
ابن أبي طالب لقرابته منى ومنزلته عندي، ويدفع إليه لوائي لواء الحمد، آدم ومن دونه تحت
ذلك اللواء ". ثم قال لعلي: " فتسير به حتى تقف بيني وبين إبراهيم الخليل، ثم تكسى حلة،
وينادى مناد من العرش: نعم العبد أبوك إبراهيم! ونعم الأخ أخوك على! أبشر فإنك تدعى
إذا دعيت، وتكسى إذا كسيت، وتحيا إذا حييت ".
* * *
الخبر التاسع: " يا أنس، أسكب لي وضوءا "، ثم قام فصلى ركعتين، ثم قال: " أول من
يدخل عليك من هذا الباب إمام المتقين، وسيد المسلمين، ويعسوب الدين، وخاتم الوصيين
وقائد الغر المحجلين ". قال أنس: فقلت: اللهم اجعله رجلا من الأنصار، وكتبت دعوتي،
فجاء على، فقال: صلى الله عليه وسلم: " من جاء يا أنس "؟ فقلت: على، فقام
إليه مستبشرا، فاعتنقه، ثم جعل يمسح عرق وجهه. فقال على يا رسول الله، صلى الله عليك وآلك، لقد رأيت منك اليوم تصنع بي شيئا ما صنعته بي قبل! قال: " وما يمنعني
وأنت تؤدى عنى، وتسمعهم صوتي، وتبين لهم ما اختلفوا فيه بعدي! "
رواه أبو نعيم الحافظ في " حلية الأولياء ".
* * *
169

الخبر العاشر: " ادعوا لي سيد العرب عليا " فقالت: عائشة: ألست سيد العرب؟
فقال: " أنا سيد ولد آدم، وعلى سيد العرب " فلما جاء أرسل إلى الأنصار، فأتوه، فقال لهم: " يا معشر الأنصار ألا أدلكم على ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبدا " قالوا: بلى يا رسول الله،
قال: " هذا على، فأحبوه بحبي، وأكرموه بكرامتي، فإن جبرائيل أمرني بالذي قلت لكم
عن الله عز وجل ".
رواه الحافظ أبو نعيم في " حلية الأولياء ".
الخبر الحادي عشر: " مرحبا بسيد المؤمنين، وإمام المتقين "! فقيل لعلى عليه السلام:
كيف شكرك؟ فقال: أحمد الله على ما آتاني، وأسأله الشكر على ما أولاني وأن
يزيدني مما أعطاني.
ذكره صاحب " الحيلة " أيضا.
* * *
الخبر الثاني عشر: " من سره أن يحيا حياتي، ويموت مماتي، ويسكن جنة عدن
التي غرسها ربى، فليوال عليا من بعدي، وليوال وليه، وليقتد بالأئمة من بعدي، فإنهم
عترتي، خلقوا من طينتي ورزقوا فهما وعلما. فويل للمكذبين من أمتي! القاطعين فيهم
صلتي، لا أنالهم الله شفاعتي ".
ذكره صاحب " الحلية " أيضا.
* * *
الخبر الثالث عشر: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله خالد بن الوليد في سرية،
وبعث عليا عليه السلام في سرية أخرى، وكلاهما إلى اليمن، وقال: " إن اجتمعتما فعلى على
الناس، وإن افترقتما فكل واحد منكما على جنده " فاجتمعا وأغارا وسبيا نساء، وأخذا
أموالا، وقتلا ناسا، وأخذ على جارية فاختصها لنفسه، فقال خالد لأربعة من المسلمين،
منهم بريدة الأسلمي: اسبقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاذكروا له كذا، واذكروا
170

له كذا، لأمور عددها على على، فسبقوا إليه فجاء واحد من جانبه، فقال: إن عليا فعل
كذا، فأعرض عنه، فجاء الاخر من الجانب الآخر، فقال: إن عليا فعل كذا، فأعرض
عنه فجاء بريدة الأسلمي فقال: يا رسول الله، إن عليا فعل ذلك، فأخذ جارية لنفسه،
فغضب صلى الله عليه وآله، حتى احمر وجهه، وقال: " دعوا لي عليا "! يكررها، " إن عليا
منى وأنا من على، وإن حظه في الخمس أكثر مما أخذ، وهو ولى كل مؤمن
من بعدي ".
رواه أبو عبد الله أحمد في " المسند " غير مرة، ورواه في كتاب فضائل على، ورواه
أكثر المحدثين.
* * *
الخبر الرابع عشر: " كنت أنا وعلى نورا بين يدي الله عز وجل قبل أن يخلق آدم
بأربعة عشر ألف عام، فلما خلق آدم قسم ذلك فيه وجعله جزأين، فجزء أنا وجزء على ".
رواه أحمد في " المسند " وفى كتاب فضائل علي عليه السلام، وذكره صاحب
كتاب الفردوس وزاد فيه: " ثم انتقلنا حتى صرنا في عبد المطلب، فكان لي النبوة
ولعلي الوصية ".
* * *
الخبر الخامس عشر: " النظر إلى وجهك يا علي عبادة أنت سيد في الدنيا وسيد في الآخرة
من أحبك أحبني وحبيبي حبيب الله، وعدوك عدوي وعدوي عدو الله، الويل لمن أبغضك! ".
رواه أحمد في " المسند "، قال: وكان ابن عباس يفسره، ويقول: إن من ينظر إليه
يقول: سبحان الله! ما أعلم هذا الفتى! سبحان الله ما أشجع هذا الفتى! سبحان الله، ما أفصح
هذا الفتى!
* * *

(1) السرية: قطعة من الجيش.
171

الحديث السادس عشر: لما كانت ليلة بدر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " من
يستقى لنا ماء؟ "، فأحجم الناس، فقام على فاحتضن قربة، ثم أتى بئرا بعيدة القعر مظلمة
فانحدر فيها، فأوحى الله إلى جبريل وميكائيل وإسرافيل: أن تأهبوا لنصر محمد وأخيه
وحزبه، فهبطوا من السماء، لهم لغط يذعر من يسمعه، فلما حاذوا البئر، سلموا عليه من
عند آخرهم إكراما له وإجلالا.
رواه أحمد في كتاب فضائل علي عليه السلام، وزاد فيه في طريق أخرى عن أنس بن
مالك: " لتؤتين يا علي يوم القيامة بناقة من نوق الجنة فتركبها، وركبتك مع ركبتي، وفخذك
مع فخذي، حتى تدخل الجنة ".
* * *
الحديث السابع عشر: خطب صلى الله عليه وآله الناس يوم جمعة، فقال: " أيها
الناس، قدموا قريشا ولا تقدموها، وتعلموا منها ولا تعلموها، قوة رجل من قريش تعدل
قوة رجلين
من غيرهم، وأمانة رجل من قريش تعدل أمانة رجلين من غيرهم. أيها الناس
أوصيكم بحب ذي قرباها، أخي وابن عمى علي بن أبي طالب، لا يحبه إلا مؤمن، ولا يبغضه
إلا منافق، من أحبه فقد أحبني، ومن أبغضه فقد أبغضني، ومن أبغضني عذبه الله بالنار ".
رواه أحمد رضي الله عنه في كتاب فضائل علي عليه السلام.
* * *
الحديث الثامن عشر: الصديقون ثلاثة: " حبيب النجار، الذي جاء من أقصى المدينة يسعى،
ومؤمن آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه، وعلي بن أبي طالب، وهو أفضلهم ".
رواه أحمد في كتاب فضائل علي عليه السلام.
* * *
الحديث التاسع عشر: أعطيت في علي خمسا، هن أحب إلى من الدنيا وما فيها،
أما واحدة فهو كأب (1) بين يدي الله عز وجل، حتى يفرغ من حساب الخلائق، وأما الثانية
172

فلواء الحمد بيده آدم ومن ولد تحته، وأما الثالثة فواقف على عقر (1) حوضي، يسقى من عرف
من أمتي، وأما الرابعة فساتر عورتي ومسلمي إلى ربى، وأما الخامسة فإني لست أخشى
عليه أن يعود كافرا بعد إيمان، ولا زانيا بعد إحصان ".
رواه أحمد في كتاب الفضائل.
* * *
الحديث العشرون: كانت لجماعة من الصحابة أبواب شارعة في مسجد الرسول صلى الله
عليه وآله، فقال عليه الصلاة والسلام يوما: " سدوا كل باب في المسجد إلا باب على "، فسدت،
فقال في ذلك قوم، حتى بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله فقام فيهم، فقال: " إن قوما قالوا
في سد الأبواب وتركي باب على، إني ما سددت ولا فتحت، ولكني أمرت
بأمر فاتبعته ".
رواه أحمد في " المسند " مرارا، وفى كتاب الفضائل.
* * *
الحديث الحادي والعشرون: دعا صلى الله عليه وآله عليا في غزاة الطائف، فانتجاه،
وأطال نجواه حتى كره قوم من الصحابة، ذلك، فقال قائل منهم: لقد أطال اليوم نجوى
ابن عمه، فبلغه عليه الصلاة والسلام ذلك فجمع منهم قوما، ثم قال: " إن قائلا قال: لقد
أطال اليوم نجوى ابن عمه. أما إني ما انتجيته، ولكن الله انتجاه ".
رواه أحمد رحمه الله في " المسند ".
* * *
الحديث الثاني والعشرون: " أخصمك (2) يا علي بالنبوة فلا نبوة بعدي، وتخصم الناس
بسبع، لا يجاحد فيها أحد من قريش، أنت أولهم إيمانا بالله، وأوفاهم بعهد الله، وأقومهم
بأمر الله، وأقسمهم بالسوية، وأعدلهم في الرعية. وأبصرهم بالقضية، وأعظمهم
عند الله مزية ".

(1) العقر: مؤخر الخوض حيث تقف الإبل.
(2) أخصمك: أغلبك.
173

رواه أبو نعيم الحافظ في " حلية الأولياء ".
* * *
الخبر الثالث والعشرون، قالت فاطمة: إنك زوجتني فقيرا لا مال له، فقال:
" زوجتك أقدمهم سلما، وأعظمهم حلما، وأكثرهم علما! ألا تعلمين أن الله اطلع إلى الأرض
اطلاعة، فاختار منها أباك، ثم اطلع إليها ثانية فاختار منها بعلك ".
رواه أحمد في المسند.
* * *
الحديث الرابع والعشرون، لما أنزل: " إذا جاء نصر الله والفتح) بعد انصرافه عليه
السلام من غزاة حنين، جعل يكثر من " سبحان الله! أستغفر الله "، ثم قال: " يا علي إنه
قد جاء ما وعدت به، جاء الفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وإنه ليس أحد أحق
منك بمقامي، لقدمك في الاسلام، وقربك منى، وصهرك، وعندك سيدة نساء العالمين،
وقبل ذلك ما كان من بلاء أبى طالب عندي حين نزل القرآن، فأنا حريص على أن
أراعي ذلك لولده ".
رواه أبو إسحاق الثعلبي في " تفسير القرآن ".
* * *
واعلم أنا إنما ذكرنا هذه الأخبار هاهنا، لان كثيرا من المنحرفين عنه عليه السلام إذا
مروا على كلامه في " نهج البلاغة " وغيره المتضمن التحدث بنعمة الله عليه من اختصاص
الرسول له صلى الله عليه وآله، وتميزه إياه عن غيره، ينسبونه إلى التيه والزهو والفخر،
ولقد سبقهم بذلك قوم من الصحابة، قيل لعمر: ول عليا أمر الجيش والحرب، فقال:
هو أتيه من ذلك! وقال زيد بن ثابت: ما رأينا أزهى من على وأسامة!
فأردنا بإيراد هذه الأخبار هاهنا عند تفسير قوله: " نحن الشعار والأصحاب، ونحن
الخزنة والأبواب " أن ننبه على عظم منزلته عند الرسول صلى الله عليه وآله، وأن من قيل
174

في حقه ما قيل لو رقى إلى السماء، وعرج في الهواء، وفخر على الملائكة والأنبياء، تعظما
وتبجحا، لم يكن ملوما، بل كان بذلك جديرا، فكيف وهو عليه السلام لم يسلك قط
مسلم التعظم والتكبر في شئ من أقواله ولا من أفعاله، وكان ألطف البشر خلقا،
وأكرمهم طبعا، وأشدهم تواضعا، وأكثرهم احتمالا، وأحسنهم بشرا، وأطلقهم وجها،
حتى نسبه من نسبه إلى الدعابة والمزاح، وهما خلقان ينافيان التكبر والاستطالة، وإنما كان
يذكر أحيانا ما يذكره من هذا النوع، نفثة مصدور، وشكوى مكروب، وتنفس
مهموم، ولا يقصد به إذا ذكره إلا شكر النعمة، وتنبيه الغافل على ما خصه الله به من
الفضيلة، فإن ذلك من باب الأمر بالمعروف، والحض على اعتقاد الحق والصواب في أمره
والنهى عن المنكر الذي هو تقديم غيره عليه في الفضل، فقد نهى الله سبحانه عن ذلك
فقال: (أفمن يهدى إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدى إلا أن يهدى
فما لكم كيف تحكمون).
* * *
الأصل:
منها:
فيهم كرائم القرآن، وهم كنوز الرحمن، إن نطقوا صدقوا، وإن صمتوا
لم يسبقوا. فليصدق رائد أهله، وليحضر عقله، وليكن من أبناء الآخرة، فإنه
منها قدم، وإليها ينقلب، فالناظر بالقلب، العامل بالبصر، يكون مبتدأ عمله
أن يعلم أعمله عليه أم له! فإن كان له مضى فيه، وإن كان عليه وقف عنه،
فإن العامل بغير علم، كالسائر على غير طريق، فلا يزيده بعده عن الطريق الواضح
175

إلا بعدا من حاجته، والعامل بالعلم كالسائر على الطريق الواضح، فلينظر ناظر
أسائر هو أم راجع!.
* * *
الشرح:
قوله: " فيهم " يرجع إلى آل محمد صلى الله عليه وآله الذين عناهم بقوله: " نحن الشعار
والأصحاب "، وهو يطلق دائما هذه الصيغ الجمعية، ويعنى نفسه، وفى القرآن كثير من ذلك،
نحو قوله تعالى: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم
إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) (1).
وكرائم الايمان: جمع كريمة وهي المنفسات منه قال الشاعر:
ماض من العيش لو يفدى بذلت له * كرائم المال من خيل ومن نعم
فإن قلت: أيكون في الايمان كرائم وغير كرائم؟ قلت: نعم لان الايمان عند
أكثر أصحابنا اسم للطاعات كلها واجبها ونفلها، فمن كانت نوافله أكثر كانت كرائم الايمان
عنده أكثر، ومن قام بالواجبات فقط من غير نوافل، كان عنده الايمان، ولم يكن عنده
كرائم الايمان.
فإن قلت: فعلى هذا تكون النوافل أكرم من الواجبات؟
قلت: هي أكرم منها باعتبار، والواجبات أكرم منها باعتبار آخر، أما الأول فلان
صاحبها إذا كان قد قام بالواجبات كان أعلى مرتبة في الجنة ممن اقتصر على الواجبات فقط،
وأما الثاني فلان المخل بها لا يعاقب، والمخل بالواجبات يعاقب.
قوله: " وهم كنوز الرحمن " لان الكنز مال يدخر لشديدة أو ملمة تلم بالانسان،
وكذلك هؤلاء قد ذخروا لإيضاح المشكلات الدينية على المكلفين.

(1) سورة آل عمران 173.
176

ثم قال: إن نطقوا صدقوا، وإن سكتوا لم يكن سكوتهم عن عي يوجب كونهم
مسبوقين، لكنهم ينطقون حكما، ويصمتون حلما.
ثم أمر عليه السلا بالتقوى والعمل الصالح، وقال: " ليصدق رائد أهله "، الرائد:
الذاهب من الحي يرتاد لهم المرعى، وفى أمثالهم: " الرائد لا يكذب أهله "، والمعنى
أنه عليه السلام أمر الانسان بأن يصدق نفسه ولا يكذبها بالتسويف والتعليل،
قال الشاعر:
أخي إذا خاصمت نفسك فاحتشد * لها وإذا حدثت نفسك فاصدق
وفى المثل: " المتشبع بما لا يملك كلابس ثوبي زور ".
فإنه منها قدم، قد قيل: إن الله تعالى خلق أرواح البشر قبل أجسادهم، والخبر
في ذلك مشهور والآية، أيضا، وهي قوله: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم
ذريتهم) (1) ويمكن أن يفسر على وجه آخر، وذلك أن الآخرة اليوم عدم محض، والانسان
قدم من العدم، وإلى العدم ينقلب، فقد صح أنه قدم من الآخرة ويرجع إلى الآخرة.
وروى: " أن العالم بالبصر " أي بالبصيرة، فيكون هو وقوله: " فالناظر بالقلب "،
سواء، وإنما قاله تأكيدا، وعلى هذا الوجه لا يحتاج إلى تفسير وتأويل، فأما الرواية المشهورة
فالوجه في تفسيرها أن يكون قوله: " فالناظر " مبتدأ و " العامل " صفة له، وقوله: " بالبصر
يكون مبتدأ عمله " جملة مركبة من مبتدأ وخبر، موضعها رفع لأنها خبر المبتدأ الذي هو
" فالناظر " وهذه الجملة المذكورة قد دخلت عليها " كان " فالجار والمجرور وهو الكلمة
الأولى منها منصوبة الموضع، لأنها خبر " كان "، ويكون قوله فيما بعد: " أن يعلم "
منصوب

(1) سورة الأعراف 172.
177

الموضع، لأنه بدل من " البصر " الذي هو خبر " يكون ". والمراد بالبصر هاهنا البصيرة،
فيصير تقدير الكلام: فالناظر بقلبه، العامل بجوارحه يكون مبتدأ عمله بالفكر والبصيرة،
بأن يعلم أعمله له أم عليه!
ويروى: " كالسابل على غير طريق " والسابل: طالب السبيل، وقد جاء في الخبر
المرفوع: " من عمل بغير هدى، لم يزدد من الله إلا بعدا " وفى كلام الحكماء: " العامل بغير
علم كالرامي من غير وتر ".
* * *
الأصل:
واعلم أن لكل ظاهر باطنا على مثاله، فما طاب ظاهره، طاب باطنه، وما خبث
ظاهره خبث باطنه، وقد قال الرسول الصادق صلى الله عليه وسلم: " إن الله يحب
العبد ويبغض عمله، ويحب العمل ويبغض بدنه ".
* * *
الشرح:
هذا الكلام مشتق من قوله تعالى: (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي
خبث لا يخرج إلا نكدا)، وهو تمثيل ضربه الله تعالى لمن ينجع فيه الوعظ والتذكير
من البشر، ولمن لا يؤثر ذلك فيه مثله بالأرض العذبة الطيبة تخرج النبت، والأرض
السبخة الخبيثة لا تنبت، وكلام أمير المؤمنين عليه السلام إلى هذا المعنى يومئ. يقول: إن
لكلتا حالتي الانسان الظاهرة أمرا باطنا يناسبها من أحواله، والحالتان الظاهرتان: ميله
إلى العقل وميله إلى الهوى، فالمتبع لمقتضى عقله يرزق السعادة والفوز، فهذا هو الذي طاب
178

ظاهره، وطاب باطنه، والمتبع لمقتضى هواه وعادته ودين أسلافه يرزق الشقاوة والعطب،
وهذا هو الذي خبث ظاهره وخبث باطنه.
فإن قلت: فلم قال: " فما طاب "؟ وهلا قال: " فمن طاب "! وكذلك في " خبث ".
قلت: كلامه في الأخلاق والعقائد وما تنطوي عليه الضمائر، يقول: ما طاب من هذه
الأخلاق والملكات، وهي خلق النفس الربانية المريدة للحق، من حيث هو حق، سواء
كان ذلك مذهب الاباء والأجداد أولم يكن، وسواء كان ذلك مستقبحا مستهجنا عند
العامة أولم يكن، وسواء نال به من الدنيا حظا أو لم ينل. يستطيب باطنه يعنى ثمرته،
وهي السعادة، وهذا المعنى من مواضع " ما " لا من مواضع " من ".
فأما الخبر المروى (1) فإنه مذكور في كتب المحدثين، وقد فسره أصحابنا المتكلمون
فقالوا: إن الله تعالى قد يحب المؤمن ومحبته له إرادة إثابته، ويبغض عملا من أعماله وهو
ارتكاب صغيرة من الصغائر، فإنها مكروهة عند الله، وليست قادحة في إيمان المؤمن،
لأنها تقع مكفرة، وكذلك قد يبغض العبد بأن يريد عقابه، نحو أن يكون فاسقا لم يتب،
ويحب عملا من أعماله، نحو أن يطيع ببعض الطاعات، وحبه لتلك الطاعة، هي إرادته
تعالى أن يسقط عنه بها بعض ما يستحقه من العقاب المتقدم.
* * *
الأصل:
واعلم أن لكل عمل نباتا، وكل نبات لا غنى به عن الماء، والمياه مختلفة
فما طاب سقيه، طاب غرسه وحلت ثمرته، وما خبث سقيه، خبث غرسه
وأمرت ثمرته.

(1) ساقطة من ب.
179

الشرح:
السقي: مصدر سقيت، والسقي، بالكسر: النصيب من الماء.
وأمر الشئ. أي صار مرا.
وهذا الكلام مثل في الاخلاص وضده وهو، الرياء وحب السمعة، فكل
عمل يكون مدده الاخلاص لوجهه تعالى لا غير، فإنه زاك حلو الجني، وكل عمل
يكون الرياء وحب الشهرة مدده، فليس بزاك، وتكون ثمرته مرة المذاق.
180

(155)
الأصل:
ومنه خطبة له عليه السلام يذكر فيها بديع خلقة الخفاش:
الحمد لله الذي انحسرت الأوصاف عن كنه معرفته، وردعت عظمته العقول
فلم تجد مساغا إلى بلوغ غاية ملكوته.
هو الله الملك الحق المبين، أحق وأبين مما ترى العيون. لم تبلغه العقول بتحديد
فيكون مشبها، ولم تقع عليه الأوهام بتقدير فيكون ممثلا. خلق الخلق على غير
تمثيل، ولا مشورة مشير، ولا معونة معين، فتم خلقه بأمره، وأذعن لطاعته،
فأجاب ولم يدافع، وانقاد ولم ينازع.
ومن لطائف صنعته، وعجائب حكمته، ما أرانا من غوامض الحكمة في هذه
الخفافيش التي يقبضها الضياء الباسط لكل شئ، ويبسطها الظلام القابض لكل
حي. وكيف عشيت أعينها عن أن تستمد من الشمس المضيئة نورا تهتدي به في
مذاهبها، وتتصل بعلانية برهان الشمس، إلى معارفها، وردعها بتلألؤ ضيائها عن
المضي في سبحات إشراقها، وأكنها في مكامنها عن الذهاب في بلج إئتلافها.
فهي مسدلة الجفون بالنهار على حداقها، وجاعلة الليل سراجا تستدل به في التماس
أرزاقها، فلا يرد أبصارها إسداف ظلمته، ولا تمتنع من المضي فيه لغسق دجنته، فإذا
ألقت الشمس قناعها، وبدت أوضاح نهارها، ودخل من إشراق نورها على الضباب
في وجارها، أطبقت الأجفان على مآقيها، وتبلغت بما اكتسبته من المعاش في
ظلم لياليها.
181

فسبحان من جعل الليل لها نهارا ومعاشا، والنهار سكنا وقرارا!
وجعل لها أجنحة من لحمها تعرج بها عند الحاجة إلى الطيران، كأنها شظايا الاذان،
غير ذوات ريش ولا قصب إلا أنك ترى مواضع العروق بينة أعلاما. لها جناحان
لما يرقأ فينشقا، ولم (1) يغلظا فيثقلا. تطير وولدها لاصق بها، لاجئ إليها، يقع
إذا وقعت، ويرتفع إذا ارتفعت، لا يفارقها حتى تشتد أركانه، ويحمله للنهوض
جناحه، ويعرف مذاهب عيشه، ومصالح نفسه.
فسبحان البارئ لكل شئ، على غير مثال خلا من غيره!
* * *
الشرح:
الخفاش، واحد جمعه خفافيش، وهو هذا الطائر الذي يطير ليلا ولا يطير نهارا، وهو
مأخوذ من الخفش، وهو ضعف في البصر خلقة، والرجل أخفش، وقد يكون علة، وهو الذي
يبصر بالليل لا بالنهار، أوفى يوم غيم لا في يوم صحو.
وانحسرت الأوصاف: كلت وأعيت. وردعت: كفت. والمساغ: المسلك.
قال: " أحق وأبين مما ترى العيون "، وذلك لان العلوم العقلية إذا كانت ضرورية
أو قريبة من الضرورية، كانت أوثق من المحسوسات، لان الحس يغلط دائما، فيرى الكبير
صغيرا كالبعيد، والصغير كبيرا، كالعنبة في الماء ترى كالإجاصة، ويرى الساكن متحركا،
كحرف الشط إذا رآه راكب السفينة متصاعدا، ويرى المتحرك ساكنا كالظل، إلى غير ذلك
من الأغاليط والقضايا العقلية الموثوق بها، لأنها بديهية أو تكاد، فالغلط غير داخل عليها.
قوله: " يقبضها الضياء " أي يقبض أعينها.
قوله: " وتتصل بعلانية برهان الشمس " كلام جيد في مذاهب الاستعارة.

(1) د: " ولما ".
182

وسبحات إشراقها: جلاله وبهاؤه. وأكنها: سترها، وبلج إئتلافها: جمع بلجة، وهي
أول الصبح، وجاء بلجة أيضا بالفتح.
والحداق: جمع حدقة العين. والأسداف: مصدر أسدف الليل، أظلم.
وغسق الدجنة: ظلام الليل. فإذا ألقت الشمس قناعها، أي سفرت عن
وجهها وأشرقت.
والأوضاح: جمع وضح، وقد يراد به حلى يعمل من الدراهم الصحاح، وقد يراد به الدراهم
الصحاح نفسها وإن لم يكن حليا. والضباب، جمع ضب. ووجارها: بيتها. وشظايا الاذان:
أقطاع منها. والقصب هاهنا: الغضروف.
وخلاصة الخطبة، التعجب من أعين الخفافيش التي تبصر ليلا ولا تبصر نهارا، وكل
الحيوانات بخلاف ذلك فقد صار الليل لها معاشا، والنهار لها سكنا، بعكس الحال فيما عداها.
ثم من أجنحتها التي تطير بها وهي لحم لا ريش عليه ولا غضروف، وليست رقيقة فتنشق،
ولا كثيفة فتثقلها عن الطيران. ثم من ولدها إذا طارت احتملته وهو لاصق بها، فإذا وقعت
وقع ملتصقا بها هكذا، إلى أن يشتد ويقوى على النهوض فيفارقها:
* * *
[فصل في ذكر بعض غرائب الطيور وما فيها من عجائب]
واعلم أنه عليه السلام قد أتى بالعلة الطبيعية في عدم إبصارها نهارا، وهو انفعال حاسة
بصرها عن الضوء الشديد، وقد يعرض مثل ذلك لبعض الناس، وهو المرض المسمى
" روز كور " أي أعمى النهار، ويكون ذلك عن إفراط التحلل في الروح النوري، فإذا
لقى حر النهار أصابة قمر، ثم يستدرك ذلك برد الليل فيزول، فيعود الابصار.
183

وأما طيرانها من غير ريش، فإنه ليس بذلك الطيران الشديد، وإنما هو نهوض
وخفة، أفادها الله تعالى إياه بواسطة الطبيعة، والتصاق الولد بها، لأنها تضمه إليها بالطبع،
وينضم إليها كذلك، وتستعين على ضمه برجليها، وبقصر المسافة. وجملة الامر أنه تعجب
من عجيب. وفى الأحاديث العامية: قيل للخفاش: لماذا لا جناح لك؟ قال: لأني تصوير
مخلوق، قيل: فلماذا لا تخرج نهارا؟ قال: حياء من الطيور، يعنون أن المسيح عليه السلام
صوره، وأن إليه الإشارة بقوله تعالى: (وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني
فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني) (1).
وفى الطير عجائب وغرائب لا تهتدي العقول إليها. ويقال: إن ضربين من الحيوان
أصمان لا يسمعان، وهما النعام والأفاعي.
وتقول العرب: إن الظليم يسمع بعينه وأنفه، لا يحتاج معهما إلى حاسة أخرى.
والكراكي يجمعها أمير لها كيعسوب النحل، ولا يجمعها إلا أزواجا. والعصافير آلفة للناس
آنسة بهم، لا تسكن دارا حتى يسكنها إنسان، ومتى سكنتها لم تقم فيها إذا خرج الانسان منها،
فبفراقه تفارق، وبسكناه تسكن. ويذكر أهل البصرة أنه إذا كان زمن الخروج إلى
البساتين لم يبق في البصرة عصفور إلا خرج إليها، إلا ما أقام على بيضه وفراخه، وقد
يدرب العصفور فيستجيب من المكان البعيد ويرجع.
وقال شيخنا أبو عثمان: بلغني أنه درب فيرجع من ميل. وليس في الأرض رأس أشبه
برأس الحية من رأس العصفور، وليس في الحيوان الذي يعايش الناس أقصر عمرا منه،
قيل لأجل السفاد الذي يستكثر منه. ويتميز الذكر من الأنثى في العصافير تميز الديك

(1) سورة المائدة 110.
184

من الدجاجة، لان له لحية، ولا شئ أحنى على ولده منه، وإذا عرض له شئ صاح، فأقبلت
إليه العصافير يساعدنه، وليس [لشئ (1)] في مثل جسم العصفور [من (1)] شدة وطئه
[إذا مشى أو على السطح ما للعصفور، فإنك] (1) إذا كنت تحت السطح ووقع، حسبت وقعته وقعة
حجر، وذكور (2) العصافير لا تعيش إلا سنة، وكثيرا ما تجلب الحيات إلى المنازل لان
الحيات تتبعها حرصا على ابتلاع بيضها وفراخها.
ويقال: إن الدجاجة إذا باضت بيضتين في يوم واحد، وتكرر ذلك ماتت، وإذا
هرمت الدجاجة لم يكن لأواخر ما تبيضه صفرة، وإذا لم يكن للبيضة مح لم يخلق فيها
فروج لان غذاءه المح ما دام في البيضة، وقد يكون للبيضة محان فتنفقص (3) عن فروجين
يخلقان من البياض، ويغتذيان بالمحين، لان الفراريج تخلق من البياض وتغتذي بالصفرة، وكل
ديك فإنه يلتقط الحبة فيحذف بها إلى الدجاجة سماحا وإيثارا، ولهذا قالوا: " أسمح من
لاقطة "، يعنون الديكة، إلا ديكة مرو بخراسان، فإنها تطرد دجاجها عن الحب وتنزعه
من أفواهها فتبتلعه.
والحمامة بلهاء، وفى أمثالهم: " أحمق من حمامة "، وهي مع حمقها مهتدية إلى مصالح
نفسها وفراخها.
قال ابن الاعرابي: قلت لشيخ من العرب: من علمك هذا؟ قال: علمني الذي علم
الحمامة على بلهها تقليب بيضها، كي تعطى الوجهين جميعا نصيبهما من الحضن.
والهداية في الحمام لا تكون إلا في الخضر والسمر، فأما الأسود الشديد السواد فهو
كالزنجي القليل المعرفة، والأبيض ضعيف القوة، وإذا خرج الجوزل (4) عن بيضته علم أبواه أن
حلقه لا يتسع للغذاء، فلا يكون لهما هم إلا أن ينفخا في حلقه الريح لتتسع حوصلته بعد
التحامها، ثم يعلمان أنه لا يحتمل في أول اغتذائه أن يزق بالطعم، فيزقانه باللعاب المختلط

(1) تكملة من كتاب الحيوان 5: 217.
(2) د: " ذكورة ".
(3) انفقصت البيضة عن الفرخ: انفلقت عنه.
(4) الجوزل: فرخ الحمام.
185

بقواهما وقوى الطعم. ثم يعلمان أن حوصلته تحتاج إلى دباغ فيأكلان من شورج (1)
أصول الحيطان، وهو شئ من الملح الخالص والتراب فيزقانه به. فإذا علما أنه قد اندبغ زقاه
بالحب الذي قد غب في حواصلهما، ثم بالذي هو أطرى فأطرى، حتى يتعود، فإذا علما
أنه قد أطاق اللقط منعاه بعض المنع، ليحتاج ويتشوف، فتطلبه نفسه، ويحرص عليه، فإذا
فطماه وبلغا منتهى حاجته إليهما، نزع الله تلك الرحمة منهما، وأقبل بهما على طلب
نسل آخر.
ويقال: إن حية أكلت بيض مكاء فجعل المكاء يشرشر على رأسها، ويدنو منها
حتى دلعت (2) الحية لسانها، وفتحت فاها تريده وتهم به، فألقى فيها حسكة (3) فأخذت
بحلقها حتى ماتت!
ومن دعاء الصالحين: يا رزاق النعاب (4) في عشه! وذلك أن الغراب إذا فقص عن
فراخه، فقص عنها بيض الألوان، فينفر عنها ولا يزقها، فتفتح أفواهها، فيأتيها ذباب
يتساقط في أفواهها، فيكون غذاءها إلى أن تسود، فينقطع الذباب عنها، ويعود الغراب
إليها فيأنس بها ويغذيها.
والحبارى تدبق (5) جناح الصقر بذرقها، ثم يجتمع عليه الحباريات، فينتفن ريشه
طاقة طاقة، حتى يموت، ولذلك يحاول الحبارى العلو عليه، ويحاول هو العلو عليها،
ولا يتجاسر أن يدنو منها متسفلا عنها. ويقال: إن الحبارى تموت كمدا إذا انحسر عنها
ريشها، ورأت صويحباتها تطير.

(1) الشورج: نوع من الملح، وربما كان للدباغة خاصة.
(2) دلعت لسانها: أخرجته.
(3) حسكة: شوكة.
(4) أي الغراب.
(5) تدبق: تصطاد.
186

وكل الطير يتسافد بالأستاه إلا الحجل، فإن الحجلة تكون في سفاله الريح، واليعقوب (1)
في علاوتها، فتلقح منه كما تلقح النخلة من الفحال (2) بالريح.
والحبارى شديد الحمق، يقال إنها أحمق الطير، وهي أشده حياطة
لبيضها وفراخها.
والعقعق مع كونه أخبث الطير وأصدقها خبثا، وأشدها حذرا، ليس في الأرض طائر
أشد تضييعا لبيضه وفراخه منه.
ومن الطير ما يؤثر التفرد كالعقاب ومنه ما يتعايش زوجا كالقطا.
والظليم يبتلع الحديد المحمى، ثم يميعه في قانصته حتى يحيله كالماء الجاري، وفى ذلك
أعجوبتان: التغذي بما لا يغذى به، واستمراؤه وهضمه شيئا لو طبخ بالنار أبدا لما انحل.
وكما سخر الحديد لجوف الظليم فأحاله، سخر الصخر الأصم لأذناب الجراد، إذا أراد
أن يلقى بيضه غرس ذنبه في أشد الأرض صلابة، فانصدع له، وذلك من فعل الطبيعة
بتسخير الصانع القديم سبحانه، كما إن عود الحلفاء الرخو الدقيق (3) المنبت، يلقى في نباته
الاجر والخزف الغليظ، فيثقبه.
وقد رأيت في مسناة سور بغداد، في حجر صلد نبعة نبات قد شقت وخرجت
من موضع، لو حاول جماعة أن يضربوه بالبيارم الشديدة مدة طويلة لم يؤثر فيه أثرا.
وقد قيل: إن إبرة العقرب أنفذ في الطنجير (4) والطست.
وفى الظليم شبه من البعير من جهة المنسم والوظيف والعنق والخزامة التي في أنفه،

(1) اليعقوب. ذكر الحجل.
(2) الفحال: ذكر النخل.
(3) ساقطة من ب.
(4) الطنجير: وعاء يعمل فيه الخبيص (معرب).
187

وشبه من الطائر من جهة الريش والجناحين والذنب والمنقار. ثم إن ما فيه من شبه الطير
جذبه إلى البيض، وما فيه من شبه البعير لم يجذبه إلى الولادة.
ويقال: إن النعامة مع عظم عظامها وشدة عدوها لا مخ فيها، وأشد ما يكون عدوها
أن تستقبل الريح. فكلما كان أشد لعصوفها كان أشد لحضرها (1)، تضع عنقها على
ظهرها ثم تخرق الريح. ومن أعاجيبها أن الصيف إذا دخل وابتدأ البسر في الحمرة ابتدأ
لون وظيفها في الحمرة، فلا يزالان يزدادان حمرة إلى أن تنتهى حمرة البسر، ولذلك قيل
للظليم: خاضب. ومن العجب أنها لا تأنس بالطير ولا بالإبل مع مشاكلتها للنوعين،
ولا يكاد يرى بيضها مبددا البتة، بل تصفه طولا صفا مستويا على غاية الاستواء، حتى
لو مددت عليه خيط المسطر لما وجدت لبعضه خروجا عن البعض، ثم تعطى لكل واحدة
نصيبها من الحضن.
والذئب لا يعرض لبيض النعام ما دام الأبوان حاضرين، فإنهما متى نقفاه (2) ركبه
الذكر فطحره (3) وأدركته الأنثى فركضته، ثم أسلمته إلى الذكر وركبته عوضه،
فلا يزالان يفعلان به ذلك حتى يقتلاه أو يعجزهما هربا. والنعام قد يتخذ في الدور،
وضرره شديد، لان النعامة ربما رأت في أذن الجارية قرطا فيه حجر أو حبة لؤلؤ، فخطفته
وأكلته، وخرمت الاذن، أو رأت ذلك في لبتها فضربت بمنقارها اللبة فخرقتها.

(1) الحضر: نوع من السير.
(2) نقفاه: ثقباه.
(3) طحره: كسر بيضته.
188

(156) الأصل:
ومن كلام له عليه السلام خاطب به أهل البصرة على جهة الاقتصاص الملاحم:
فمن استطاع عند ذلك أن يعتقل نفسه على الله فليفعل، فإن أطعتموني، فإني
حاملكم إن شاء الله على سبيل الجنة وإن كان ذا مشقة شديدة ومذاقة مريرة.
وأما فلانة فأدركها رأى النساء، وضغن غلا في صدرها كمرجل القين، ولو دعيت
لتنال من غيري ما أتت إلى، لم تفعل. ولها بعد حرمتها الأولى، والحساب
على الله!
* * *
الشرح:
يعتقل نفسه على الله: يحبسها على طاعته. ثم ذكر أن السبيل التي حملهم عليها وهي
سبيل الرشاد، ذات مشقة شديدة ومذاقة مريرة، لان الباطل محبوب النفوس، فإنه اللهو
واللذة، وسقوط التكليف، وأما الحق فمكروه النفس، لان التكليف صعب وترك
الملاذ العاجلة، شاق شديد المشقة.
والضغن: الحقد. والمرجل: قدر كبيرة. والقين: الحداد، أي كغليان قدر
من حديد.
* * *
189

[فصل في ترجمة عائشة وذكر طرف من أخبارها]
وفلانة كناية عن أم المؤمنين عائشة! أبوها أبو بكر، وقد تقدم ذكر نسبه، وأمها
أم رومان ابنة عامر بن عويمر بن عبد شمس بن عتاب بن أذينة بن سبيع بن دهمان
ابن الحارث بن الغنم بن مالك بن كنانة. تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله قبل الهجرة
بسنتين، بعد وفاة خديجة، وهي بنت سبع سنين، وبنى عليها بالمدينة وهي بنت تسع
سنين وعشرة أشهر، وكانت قبله تذكر لجبير بن مطعم وتسمى له، وكان رسول الله صلى
الله عليه وآله رأى في المنام عائشة في سرقة (1) من حرير عند متوفى خديجة، فقال:
" إن يكن هذا من عند الله يمضه " (1)، روى هذا الخبر في المسانيد الصحيحة، وكان
نكاحه إياها في شوال وبناؤه عليها في شوال أيضا، فكانت تحب أن تدخل النساء
من أهلها وأحبتها على أزواجهن في شوال، وتقول: هل كان في نسائه أحظى منى!
وقد نكحني، وبنى على في شوال، رد بذلك على من يزعم من السناء أن دخول الرجل
بالمرأة بين العيدين مكروه.
وتوفى رسول الله صلى الله عليه وآله عنها وهي بنت عشرين سنة. واستأذنت رسول
الله صلى الله عليه وآله في الكنية، فقال لها: " اكتنى بابنك عبد الله بن الزبير " يعنى
ابن أختها، فكانت تكنى أم عبد الله. وكانت فقيهة راوية للشعر، ذات حظ من
رسول الله صلى الله عليه وآله، وميل ظاهر إليها وكانت لها عليه جرأة وإدلال لم يزل
ينمى ويستشرى (2)، حتى كان منها في أمره في قصة مارية، ما كان من الحديث (3)

(1) السرقة، واحدة السرق، وهو شقق من الحرير الأبيض.
(2) الإستيعاب لابن عبد البر 744.
(3) انظر تفسير الكشاف 4: 453، 454.
190

الذي أسره إلى الزوجة الأخرى، وأدى إلى تظاهرهما عليه، وأنزل فيهما قرآنا يتلى في
المحاريب، يتضمن وعيدا غليظا عقيب تصريح بوقوع الذنب، وصغو القلب، وأعقبتها تلك
الجرأة وذلك الانبساط أن حدث منها في أيام الخلافة العلوية ما حدث، ولقد عفا
الله تعالى عنها، وهي من أهل الجنة عندنا بسابق الوعد، وما صح من أمر التوبة.
وروى أبو عمر بن عبد البر في كتاب " الاستيعاب " في باب عائشة عن سعيد
ابن نصر، عن قاسم بن أصبغ، عن محمد بن وضاح، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع
عن عصام بن قدامة، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وآله لنسائه: " أيتكن صاحبه الجمل الأدبب، يقتل حولها قتلى كثير، وتنجو
بعد ما كادت؟ (1)
قال أبو عمر بن عبد البر: وهذا الحديث من أعلام نبوته صلى الله عليه وآله، قال:
وعصام بن قدامة ثقة وسائر الاسناد، فثقة رجاله أشهر من أن تذكر (2).
ولم تحمل عائشة من رسول الله صلى الله عليه وآله، ولا ولد له ولد من مهيرة (3) إلا من
خديجة، ومن السراري من مارية.
وقذفت عائشة في أيام رسول الله صلى الله عليه وآله بصفوان بن المعطل السلمي،
والقصة مشهورة، فأنزل الله تعالى براءتها في قرآن يتلى وينقل، وجلد قاذفوها الحد،
وتوفيت في سنة سبع وخمسين للهجرة، وعمرها أربع وستون سنة، ودفنت بالبقيع،

(1) النهاية لابن الأثير 2: 10، والرواية هناك: " ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأديب، تنبحها
كلاب الحوأب " وقال في شرحه: أراد: " الأدب " فأظهر الادغام لأجل الحوأب، والأدب الكثير
وبر الوجه.
(2) الاستيعاب 744، وفيه: " وسائر الاسناد أشهر من أن يحتاج إلى ذكر ".
(3) المهيرة: الحرة من النساء، وهي ضد السرية.
191

في ملك معاوية، وصلى عليها المسلمون ليلا، وأمهم أبو هريرة، ونزل في قبرها خمسة من
أهلها: عبد الله وعروة ابنا الزبير والقاسم وعبد الله ابنا محمد بن أبي بكر
وعبد الرحمن بن أبي بكر، وذلك لسبع عشرة خلت من شهر رمضان من
السنة المذكورة.
* * *
فأما قوله: " فأدركها رأى النساء " أي ضعف آرائهن. وقد جاء في الخبر " لا يفلح قوم
أسندوا أمرهم إلى امرأة ". وجاء: " إنهن قليلات عقل ودين " أو قال: " ضعيفات ".
ولذلك جعل شهادة المرأتين بشهادة الرجل الواحد، والمرأة في أصل الخلقة سريعة الانخداع
سريعة الغضب سيئة الظن فاسدة التدبير، والشجاعة فيهن مفقودة، أو قليلة، وكذلك السخاء.
وأما الضغن، فاعلم أن هذا الكلام يحتاج إلى شرح، وقد كنت قرأته على الشيخ
أبى يعقوب يوسف بن إسماعيل اللمعاني رحمه الله أيام اشتغالي عليه بعلم الكلام، وسألته
عما عنده فيه، فأجابني بجواب طويل، أنا أذكر محصوله، بعضه بلفظه رحمه الله وبعضه
بلفظي، فقد شذ عنى الان لفظه كله بعينه، قال: أول بدء الضغن كان بينها وبين فاطمة
عليهما السلام، وذلك لان رسول الله صلى الله عليه وآله تزوجها عقيب موت خديجة،
فأقامها مقامها، وفاطمة هي ابنة خديجة، ومن المعلوم أن ابنة الرجل إذا ماتت أمها،
وتزوج أبوها أخرى، كان بين الابنة وبين المرأة كدر وشنآن وهذا لا بد منه، لان
الزوجة تنفس عليها ميل الأب، والبنت تكره ميل أبيها إلى امرأة غريبة. كالضرة
لامها، بل هي ضرة على الحقيقة، وإن كانت الام ميتة. ولأنا لو قدرنا الام حية
لكانت العداوة مضطرمة متسعرة، فإذا كانت قد ماتت ورثت ابنتها تلك العداوة، وفى
المثل: " عداوة الحماة والكنة ". وقال الراجز:
192

إن الحماة أولعت بالكنه * وأولعت كنتها بالظنه (1)
ثم اتفق أن رسول الله صلى الله عليه وآله مال إليها وأحبها فازداد ما عند فاطمة بحسب
زيادة ميله، وأكرم رسول الله صلى الله عليه وآله فاطمة إكراما عظيما أكثر مما كان
الناس يظنونه وأكثر من إكرام الرجال لبناتهم، حتى خرج بها عن حد حب الاباء
للأولاد، فقال بمحضر الخاص والعام مرارا لا مرة واحدة، وفى مقامات (2) مختلفة لا في مقام
واحد: إنها سيدة نساء العالمين، وإنها عديلة مريم بنت عمران، وإنها إذا مرت في الموقف
نادى مناد من جهة العرش: يا أهل الموقف، غضوا أبصاركم لتعبر فاطمة بنت محمد.
وهذا من الأحاديث الصحيحة وليس من الاخبار المستضعفة، وإن إنكاحه عليا إياها
ما كان إلا بعد أن أنكحه الله تعالى إياها في السماء بشهادة الملائكة. وكم قال لا مرة (3)
" يؤذيني ما يؤذيها، ويغضبني ما يغضبها "، و " إنها بضعة منى، يريبني ما رابها "
فكان هذا وأمثاله يوجب زيادة الضغن عند الزوجة حسب زيادة هذا التعظيم والتبجيل،
والنفوس البشرية تغيظ على ما هو دون هذا، فكيف هذا!
ثم حصل عند بعلها ما هو حاصل عندها - أعني عليا عليه السلام - فإن النساء كثيرا
ما يجعلن الأحقاد في قلوب الرجال، لا سيما وهن محدثات الليل، كما قيل في المثل، وكانت
تكثر الشكوى من عائشة، ويغشاها نساء المدينة وجيران بيتها فينقلن إليها كلمات
عن عائشة، ثم يذهبن إلى بيت عائشة فينقلن إليها كلمات عن فاطمة، وكما كانت فاطمة
تشكو إلى بعلها، كانت عائشة تشكو إلى أبيها، لعلمها أن بعلها لا يشكيها (4) على
ابنته، فحصل في نفس أبى بكر من ذلك أثر ما، ثم تزايد تقريظ رسول الله صلى الله عليه

(1) الكنة: امرأة الابن.
(2) ب: " في ".
(3) د: " مرة ".
(4) يقال: أشكى فلانا، إذا قبل شكواه.
193

وآله لعلى عليه السلام، وتقريبه واختصاصه، فأحدث ذلك حسدا له وغبطة في نفس
أبى بكر عنه، وهو أبوها، وفى نفس طلحة وهو ابن عمها، وهي تجلس إليهما، وتسمع
كلامهما، وهما يجلسان إليها ويحادثانها، فأعدي إليها منهما كما أعدتهما.
قال: ولست أبرئ عليا عليه السلام من مثل ذلك، فإنه كان ينفس على أبى بكر
سكون النبي صلى الله عليه وآله إليه وثناءه عليه، ويحب أن ينفرد هو بهذه المزايا والخصائص
دونه ودون الناس أجمعين، ومن انحرف عن إنسان انحرف عن أهله وأولاده، فتأكدت
البغضة بين هذين الفريقين. ثم كان من أمر القذف ما كان، ولم يكن علي عليه السلام
من القاذفين، ولكنه كان من المشيرين على رسول الله صلى الله عليه وآله بطلاقها، تنزيها
لعرضه عن أقوال الشنأة والمنافقين.
قال له لما استشاره: إن هي إلا شسع نعلك، وقال له: سل الخادم وخوفها وإن
أقامت على الجحود فاضربها. وبلغ عائشة هذا الكلام كله، وسمعت أضعافه مما جرت
عادة الناس أن يتداولوه في مثل هذه الواقعة، ونقل النساء إليها كلاما كثيرا عن علي
وفاطمة، وأنهما قد أظهرا الشماتة جهارا وسرا بوقوع هذه الحادثة لها، فتفاقم
الامر وغلظ.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وآله صالحها ورجع إليها، ونزل القرآن ببراءتها،
فكان منها ما يكون من الانسان ينتصر بعد أن قهر، ويستظهر بعد أن غلب، ويبرأ
بعد أن أتهم، من بسط اللسان، وفلتات القول، وبلغ ذلك كله عليا عليه السلام وفاطمة
عليها السلام، فاشتدت الحال، وغلظت، وطوى كل من الفريقين قلبه على الشنآن لصاحبه،
ثم كان بينها وبين علي عليه السلام في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله أحوال وأقوال،
كلها تقتضي تهييج ما في النفوس، نحو قولها له وقد استدناه رسول الله، فجاء حتى قعد بينه
194

وبينها وهما متلاصقان: أما وجدت مقعدا لكذا - لا تكنى عنه - إلا فخذي! ونحو ما روى
أنه سايره يوما وأطال مناجاته، فجاءت وهي سائرة خلفهما حتى دخلت بينهما، وقالت: فيم أنتما
فقد أطلتما! فيقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله غضب ذلك اليوم. وما روى من
حديث الجفنة من الثريد التي أمرت الخادم فوقفت لها فأكفأتها، ونحو ذلك مما يكون
بين الأهل وبين المرأة وأحمائها.
ثم اتفق أن فاطمة ولدت أولادا كثيرة بنين وبنات، ولم تلد هي ولدا، وأن رسول
الله صلى الله عليه وآله كان يقيم بنى فاطمة مقام بنيه، ويسمى الواحد منهما " ابني " ويقول:
دعوا لي ابني ولا تزرموا (1) على ابني " و " ما فعل ابني " فما ظنك بالزوجة إذا حرمت
الولد من البعل، ثم رأت البعل يتبنى بنى ابنته من غيرها، ويحنو عليهم حنو الوالد المشفق!
هل تكون محبة لأولئك البنين ولأمهم ولأبيهم، أم مبغضة! وهل تود دوام ذلك
واستمراره، أم زواله وانقضائه!
ثم اتفق أن رسول الله صلى الله عليه وآله سد باب أبيها إلى المسجد، وفتح باب
صهره، ثم بعث أباها ببراءة إلى مكة، ثم عزله عنها بصهره، فقدح ذلك أيضا في نفسها،
وولد لرسول الله صلى الله عليه وآله إبراهيم من مارية، فأظهر علي عليه السلام بذلك سرورا
كثيرا، وكان يتعصب لمارية، ويقوم بأمرها عند رسول الله صلى الله عليه وآله ميلا على
غيرها، وجرت لمارية نكبة مناسبة لنكبة عائشة، فبرأها علي عليه السلام منها، وكشف
بطلانها أو كشفه الله تعالى على يده، وكان ذلك كشفا محسا بالبصر، لا يتهيأ للمنافقين
أن يقولوا فيه ما قالوه في القرآن المنزل ببراءة عائشة، وكل ذلك مما كان يوغر صدر عائشة
عليه، ويؤكد ما في نفسها منه، ثم مات إبراهيم فأبطنت شماته، وإن أظهرت كآبة،

(1) النهاية لابن الأثير 2: 124، قال: " أي لا تقطعوا عليه بوله، يقال: زرم الدمع والبول،
إذا انقطع. "
195

ووجم علي عليه السلام من ذلك وكذلك فاطمة، وكانا يؤثران، ويريدان أن تتميز مارية
عليها بالولد، فلم يقدر لهما ولا لمارية ذلك، وبقيت الأمور على ما هي عليه، وفى النفوس
ما فيها، حتى مرض رسول الله صلى الله عليه وآله المرض الذي توفى فيه، وكانت فاطمة
عليها السلام وعلي عليه السلام يريدان أن يمرضاه في بيتهما، وكذلك كان أزواجه كلهن
فمال إلى بيت عائشة بمقتضى المحبة القلبية التي كانت لها دون نسائه، وكره أن يزاحم فاطمة
وبعلها في بيتهما، فلا يكون عنده من الانبساط لوجودهما ما يكون إذا خلا بنفسه في بيت
من يميل إليه بطبعه، وعلم أن المريض يحتاج إلى فضل مداراة ونوم ويقظة وانكشاف
وخروج حدث، فكانت نفسه إلى بيته أسكن منها إلى بيت صهره وبنته، فإنه إذا تصور
حياءهما منه استحيا هو أيضا منهما، وكل أحد يحب أن يخلو بنفسه، ويحتشم الصهر
والبنت، ولم يكن له إلى غيرها من الزوجات مثل ذلك الميل إليها، فتمرض في بيتها
فغبطت على ذلك، ولم يمرض رسول الله صلى الله عليه وآله منذ قدم المدينة مثل هذا
المرض، وإنما كان مرضه الشقيقة (1) يوما أو بعض يوم ثم يبرأ، فتطاول هذا المرض،
وكان علي عليه السلام لا يشك أن الامر له، وأنه لا ينازعه فيه أحد من الناس، ولهذا
قال له عمه وقد مات رسول الله صلى الله عليه وآله: امدد يدك أبايعك، فيقول الناس:
عم رسول الله صلى الله عليه وآله: بايع ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يختلف
عليك اثنان. قال: يا عم، وهل يطمع فيها طامع غيري! قال: ستعلم، قال: فإني لا أحب
هذا الامر من وراء رتاج وأحب أن أصحر به (2). فسكت عنه، فلما ثقل (3) رسول الله
صلى الله عليه وآله في مرضه، أنفذ جيش أسامة، وجعل فيه أبا بكر وغيره من أعلام

(1) الشقيقة: مرض يأخذ في نصف الرأس والوجه.
(2) يقال: أصهر فلان بما في قلبه، أي أظهره.
(3) يقال: أصبح ثاقلا، أي مريضا.
196

المهاجرين والأنصار، فكان علي عليه السلام حينئذ بوصوله إلى الأمران - إن حدث
برسول الله صلى الله عليه وآله حدث - أوثق وتغلب على ظنه أن المدينة لو مات لخلت
من منازع ينازعه الامر بالكلية، فيأخذه صفوا عفوا وتتم له البيعة، فلا يتهيأ
فسخها لو رام ضد منازعته عليها، فكان - من عود أبى بكر من جيش أسامة بإرسالها إليه
وإعلامه بأن رسول الله صلى الله عليه وآله يموت - ما كان ومن حديث الصلاة بالناس
ما عرف فنسب علي عليه السلام عائشة أنها أمرت بلالا مولى أبيها أن يأمره فليصل
بالناس، لان رسول الله كما روى، قال: " ليصل بهم أحدهم " ولم يعين، وكانت
صلاة الصبح فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وهو في آخر رمق يتهادى بين على
والفضل بن العباس، حتى قام في المحراب كما ورد في الخبر، ثم دخل فمات ارتفاع الضحى
فجعل يوم صلاته حجة في صرف الامر إليه. وقال: أيكم يطيب نفسا أن يتقدم قدمين
قدمهما رسول الله في الصلاة! ولم يحملوا خروج رسول الله صلى الله عليه وآله إلى الصلاة
لصرفه عنها، بل لمحافظته على الصلاة مهما أمكن، فبويع على هذه النكتة التي اتهمها
علي عليه السلام على أنها ابتدأت منها.
وكان علي عليه السلام يذكر هذا لأصحابه في خلواته كثيرا، ويقول: إنه لم يقل
صلى الله عليه وآله: " إنكن لصويحبات يوسف " إلا إنكارا لهذه الحال، وغضبا منها
لأنها وحفصة تبادرتا إلى تعيين أبويهما، وأنه استدركها بخروجه وصرفه عن المحراب
فلم يجد ذلك، ولا أثر مع قوة الداعي الذي كان يدعو إلى أبى بكر ويمهد له قاعدة الامر
وتقرر حاله في نفوس الناس ومن اتبعه على ذلك من أعيان المهاجرين والأنصار
ولما ساعد على ذلك من الحظ الفلكي والامر السمائي، الذي جمع عليه القلوب
والأهواء، فكانت هذه الحال عند على أعظم من كل عظيم، وهي الطامة الكبرى
197

والمصيبة العظمى، ولم ينسبها إلا إلى عائشة وحدها ولا علق الامر الواقع إلا بها، فدعا
عليها في خلواته وبين خواصه، وتظلم إلى الله منها، وجرى له في تخلفه عن البيعة
ما هو مشهور، حتى بايع، وكان يبلغه وفاطمة عنها كل ما يكرهانه منذ مات رسول الله
صلى الله عليه وآله إلى أن توفيت فاطمة، وهما صابران على مضض ورمض (1) واستظهرت
بولاية أبيها، واستطالت وعظم شأنها، وانخذل على وفاطمة وقهرا، وأخذت فدك
وخرجت فاطمة تجادل في ذلك مرارا فلم تظفر بشئ، وفى ذلك تبلغها النساء والداخلات
والخارجات عن عائشة كل كلام يسوؤها ويبلغن عائشة عنها وعن بعلها مثل ذلك
إلا أنه شتان ما بين الحالين، وبعد ما بين الفريقين هذه غالبة وهذه مغلوبة
وهذه آمرة وهذه مأمورة، وظهر التشفي والشماتة، ولا شئ أعظم مرارة ومشقة من
شماتة العدو.
فقلت له، رحمه الله: أفتقول أنت: إن عائشة عينت أباها للصلاة ورسول الله صلى
الله عليه وآله لم يعينه! فقال: أما أنا فلا أقول ذلك، ولكن عليا كان يقوله، وتكليفي
غير تكليفه، كان حاضرا ولم أكن حاضرا! فأنا محجوج بالاخبار التي اتصلت بي
وهي تتضمن تعيين النبي صلى الله عليه وآله لأبي بكر في الصلاة، وهو محجوج بما كان قد
علمه أو يغلب على ظنه من الحال التي كان حضرها.
قال: ثم ماتت فاطمة، فجاء نساء رسول الله صلى الله عليه وآله كلهن إلى بني هاشم
في العزاء إلا عائشة، فإنها لم تأت، وأظهرت مرضا ونقل إلى علي عليه السلام عنها كلام
يدل على السرور.
ثم بايع على أباها فسرت بذلك، وأظهرت من الاستبشار بتمام البيعة واستقرار

(1) الرمض: الغيط الشديد
198

الخلافة وبطلان منازعة الخصم ما قد نقله الناقلون فأكثروا، واستمرت الأمور على هذا
مدة خلافة أبيها وخلافة عمر وعثمان، والقلوب تغلي، والأحقاد تذيب الحجارة، وكلما
طال الزمان على على تضاعفت همومه وغمومه، وباح بما في نفسه، إلى أن قتل عثمان، وقد
كانت عائشة فيها أشد الناس عليه تأليبا وتحريضا، فقالت: أبعده الله! لما سمعت قتله
وأملت أن تكون الخلافة في طلحة فتعود الامرة تيمية، كما كانت أولا، فعدل الناس
عنه إلى علي بن أبي طالب، فلما سمعت ذلك صرخت: وا عثماناه " قتل عثمان مظلوما
وثار ما في الأنفس، حتى تولد من ذلك يوم الجمل وما بعده.
هذه خلاصة كلام الشيخ أبى يعقوب رحمه الله، ولم يكن يتشيع، وكان شديدا في الاعتزال
إلا أنه في التفضيل كان بغداديا.
* * *
فأما قوله عليه السلام: " ولو دعيت لتنال من غيري مثل ما أتت إلى، لم تفعل "
فإنما يعنى به عمر، يقول: لو أن عمر ولى الخلافة بعد قتل عثمان على الوجه الذي قتل عليه
والوجه الذي أنا وليت الخلافة عليه ونسب إلى عمر أنه كان يؤثر قتله أو يحرض عليه
ودعيت عائشة إلى أن تخرج عليه في عصابة من المسلمين إلى بعض بلاد الاسلام، تثير فتنة
وتنقض البيعة - لم تفعل، وهذا حق لأنها لم تكن تجد على عمر ما تجده على علي عليه
السلام، ولا الحال الحال.
فأما قوله: " ولها بعد حرمتها الأولى، والحساب على الله " فإنه يعنى بذلك
حرمتها بنكاح رسول الله صلى الله عليه وآله لها، وحبه إياها. وحسابها على الله، لأنه
غفور رحيم لا يتعاظم عفوه زلة، ولا يضيق عن رحمته ذنب.
199

فإن قلت: هذا الكلام يدل على توقفه عليه السلام في أمرها، وأنتم تقولون: إنها
من أهل الجنة، فكيف تجمعون بين مذهبكم وهذا الكلام؟.
قلت: يجوز أن يكون قال هذا الكلام قبل أن يتواتر الخبر عنده بتوبتها، فإن أصحابنا
يقولون: إنها ثابت بعد قتل أمير المؤمنين وندمت، وقالت: لوددت أن لي من رسول الله
صلى الله عليه وآله عشرة بنين، كلهم ماتوا ولم يكن يوم الجمل. وأنها كانت بعد قتله تثنى عليه
وتنشر مناقبه، مع أنهم رووا أيضا أنها عقيب الجمل كانت تبكي حتى تبل خمارها، وأنها
استغفرت الله وندمت، ولكن لم يبلغ أمير المؤمنين عليه السلام حديث توبتها عقيب الجمل
بلاغا يقطع العذر ويثبت الحجة، والذي شاع عنها من أمر الندم والتوبة شياعا مستفيضا
إنما كان بعد قتله عليه السلام إلى أن ماتت وهي على ذلك، والتائب مغفور له، ويجب قبول
التوبة عندنا في العدل، وقد أكدوا وقوع التوبة، منها ما روى في الاخبار المشهورة أنها زوجة
رسول الله صلى الله عليه وآله في الآخرة كما كانت زوجته في الدنيا، ومثل هذا الخبر إذا شاع
أوجب علينا أن نتكلف إثبات توبتها ولو لم ينقل، فكيف والنقل لها يكاد أن يبلغ
حد التواتر!
* * *
الأصل:
منها:
سبيل أبلج المنهاج، أنور السراج، فبالإيمان يستدل على الصالحات
وبالصالحات يستدل على الايمان، وبالإيمان يعمر العلم، وبالعلم يرهب الموت
وبالموت تختم الدنيا، وبالدنيا تحرز الآخرة، وبالقيامة تزلف الجنة، وتبرز الجحيم
200

للغاوين، وإن الخلق لا مقصر لهم عن القيامة، مرقلين في مضمارها إلى
الغاية القصوى.
* * *
الشرح:
هو الان في ذكر الايمان، وعنه قال: " سبيل أبلج المنهاج " أي واضح الطريق.
ثم قال: " فبالإيمان يستدل على الصالحات "، يريد بالايمان هاهنا مسماه اللغوي لا الشرعي
لان الايمان في اللغة هو التصديق، قال سبحانه: " وما أنت بمؤمن لنا) (1) أي بمصدق
والمعنى أن من حصل عنده التصديق، بالوحدانية والرسالة، وهما كلمتا الشهادة استدل بهما
على وجوب الأعمال الصالحة عليه أو ندبه إليها، لان المسلم يعلم من دين نبيه صلى الله
عليه وآله أنه أوجب عليه أعمالا صالحة وندبه إلى أعمال صالحة، فقد ثبت أن بالايمان
يستدل على الصالحات.
ثم قال: " و بالصالحات يستدل على الايمان " فالايمان هاهنا مستعمل في مسماة
الشرعي لا في مسماه اللغوي، ومسماه الشرعي هو العقد بالقلب، والقول باللسان، والعمل
بالجوارح فلا يكون المؤمن مؤمنا حتى يستكمل فعل كل واجب، ويجتنب كل قبيح،
ولا شبهة أنا متى علمنا أو ظننا من مكلف أنه يفعل الافعال الصالحة، ويجتنب الافعال القبيحة
استدللنا بذلك على حسن إطلاق لفظ المؤمن عليه، وبهذا التفسير الذي فسرناه نسلم من
إشكال الدور، لان لقائل أن يقول: من شرط الدليل أن يعلم قبل العلم بالمدلول، فلو كان
كل واحد من الايمان والصالحات يستدل به على الاخر، لزم تقدم العلم بكل واحد منهما
على العلم بكل واحد منهما، فيؤدى إلى الدور، ولا شبهة أن هذا الدور غير لازم على
التفسير الذي فسرناه نحن.

(1) سورة يوسف 17.
201

ثم قال عليه السلام: " وبالإيمان يعمر العلم " وذلك لان العالم وهو غير عامل بعلمه،
وغير منتفع بما علم بل مستضربه غاية الضرر، فكان علمه خراب غير معمور، وإنما يعمر
بالايمان وهو فعل الواجب وتجنب القبيح على مذهبنا، أو الاعتقاد والمعرفة على مذهب غيرنا
أو القول اللساني على قول آخرين، ومذهبنا أرجح، لان عمارة العلم إنما تكون بالعمل من
الأعضاء والجوارح وبدون ذلك يبقى العلم على خرابه كما كان.
ثم قال: " وبالعلم يرهب الموت " هذا من قول الله تعالى: (إنما يخشى الله من عباده
العلماء) (1).
ثم قال: (وبالموت تختم الدنيا، وهذا حق لأنه انقطاع التكليف.
ثم قال: " وبالدنيا تحرز الآخرة " هذا كقول بعض الحكماء: الدنيا متجر، والآخرة
ربح، ونفسك رأس المال.
ثم قال: " وبالقيامة تزلف الجنة للمتقين تبرز الجحيم للغاوين " هذا من القرآن العزيز (2).
وتزلف لهم: تقدم لهم وتقرب إليهم.
ولا مقصر لي عن كذا: لا محبس ولا غاية لي دونه وأقل: أسرع. والمضمار: حيث
تستبق الخيل.
* * *
الأصل:
منها:
قد شخصوا من مستقر الأجداث، وصاروا إلى مصائر الغايات، لكل دار أهلها،

(1) سورة فاطر 28
(2) من قوله تعالى: (وأزلفت الجنة للمتقين. وبرزت الجحيم للغاوين).
202

لا يستبدلون بها ولا ينقلون عنها، وإن الامر بالمعروف، والنهى عن المنكر
لخلقان من خلق الله سبحانه، وإنهما لا يقربان من أجل، ولا ينقصان من رزق.
وعليكم بكتاب الله، فإنه الحبل المتين، والنور المبين، والشفاء النافع والري
الناقع، والعصمة للمتمسك، والنجاة للمتعلق، لا يعوج فيقام، ولا يزيغ
فيستعتب، ولا تخلقه كثرة الرد، وولوج السمع، من قال به صدق، ومن
عمل به سبق.
* * *
الشرح:
شخصوا من بلد كذا: خرجوا. ومستقر الأجداث: مكان استقرارهم بالقبور، وهي
جمع جدث.
ومصائر الغايات: جمع مصير، والغايات: جمع غاية وهي ما ينتهى إليه
قال الكميت:
فالآن صرت إلى أمية والأمور إلى مصاير
ثم ذكر أن أهل الثواب والعقاب كل من الفريقين يقيم بدار لا يتحول منها، وهذا
كما ورد في الخبر: إنه ينادى مناد: يا أهل الجنة سعادة لا فناء لها، ويا أهل النار شقاوة
لا فناء لها.
ثم ذكر أن الامر بالمعروف والنهى عن المنكر خلقان من خلق الله سبحانه وذلك
لأنه تعالى ما أمر إلا بمعروف، وما نهى إلا عن منكر ويبقى الفرق بيننا وبينه أنا يجب علينا
النهى عن المنكر بالمنع منه، وهو سبحانه، لا يجب عليه ذلك لأنه لو منع من إتيان المنكر
لبطل التكليف.
ثم قال: " إنهما لا يقربان من أجل، ولا ينقصان من رزق " وإنما قال عليه السلام
203

ذلك، لان كثيرا من الناس يكف عن نهى الظلمة عن المناكير، توهما منه أنهم إما أن
يبطشوا به فيقتلوه أو يقطعوا رزقه ويحرموه، فقال عليه السلام: إن ذلك ليس مما يقرب
من الاجل ولا يقطع الرزق. وينبغي أن يحمل كلامه عليه السلام على حال السلامة وغلبة
الظن بعدم تطرق الضرر الموفي على مصلحة النهى عن المنكر.
ثم أمر باتباع الكتاب العزيز، ووصفه بما وصفه به.
وجاء ناقع ينقع الغلة، أي يقطعها ويروى منها " ولا يزيغ يميل فيستعتب "، يطلب
منه العتبى هي الرضا، كما يطلب من الظالم يميل فيسترضى.
قال: ولا يخلقه كثرة الرد وولوج السمع، هذا من خصائص القرآن المجيد شرفه الله
تعالى، وذلك أن كل كلام منثور أو منظوم إذا تكررت تلاوته وتردد ولوجه الاسماع مل
وسمج واستهجن، إلا القرآن فإنه لا يزال غضا طريا محبوبا غير مملول.
204

(157)
الأصل:
وقام إليه عليه السلام رجل فقال: أخبرنا عن الفتنة وهل سألت عنها رسول
الله صلى الله عليه وآله؟ فقال عليه السلام:
إنه لما أنزل الله سبحانه قوله: (ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا
وهم لا يفتنون) علمت أن الفتنة لا تنزل بنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين
أظهرنا، فقلت: يا رسول الله، ما هذه الفتنة التي أخبرك الله بها؟ فقال: يا علي
إن أمتي سيفتنون بعدي.
فقلت: يا رسول الله، أوليس قد قلت لي يوم أحد حيث استشهد من استشهد من
المسلمين، وحيزت عنى الشهادة، فشق ذلك على فقلت لي: " أبشر فإن الشهادة من
ورائك؟ " فقال لي: " إن ذلك لكذلك فكيف صبرك إذا " فقلت: يا رسول
الله، ليس هذا من مواطن الصبر، ولكن من مواطن البشرى والشكر، وقال:
يا علي إن القوم سيفتنون بعدي بأموالهم، ويمنون بدينهم على ربهم، ويتمنون
رحمته، ويأمنون سطوته، ويستحلون حرامه بالشبهات الكاذبة، والأهواء
الساهية، فيستحلون الخمر بالنبيذ والسحت بالهدية، والربا بالبيع.
فقلت: يا رسول الله، فبأي المنازل أنزلهم عند ذلك أبمنزلة ردة، أم بمنزلة
فتنة؟ فقال: بمنزلة فتنة.
* * *
205

الشرح:
قد كان عليه السلام يتكلم في الفتنة ولذلك ذكر الامر بالمعروف والنهى عن المنكر
ولذلك قال: " فعليكم بكتاب الله " أي إذا وقع الامر واختلط الناس، فعليكم بكتاب
الله فلذلك، قام إليه من سأله عن الفتنة، وهذا الخبر مروي عن رسول الله صلى الله عليه
وآله، قد رواه كثير من المحدثين عن علي عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله
قال له: " إن الله قد كتب عليك جهاد المفتونين، كما كتب على جهاد المشركين "، قال:
فقلت: يا رسول الله، ما هذه الفتنة التي كتب على فيها الجهاد؟ قال: قوم يشهدون أن لا إله
إلا الله وأنى رسول الله، وهم مخالفون للسنة. فقلت: يا رسول الله فعلام أقاتلهم وهم يشهدون
كما أشهد؟ قال: على الاحداث في الدين، ومخالفة الامر، فقلت: يا رسول الله، إنك
كنت وعدتني الشهادة فاسأل الله أن يعجلها لي بين يديك، قال: فمن قاتل الناكثين
والقاسطين والمارقين! أما إني وعدتك الشهادة وستستشهد، تضرب على هذه فتخضب
هذه، فكيف صبرك إذا! قلت: يا رسول الله، ليس ذا بموطن صبر، هذا موطن شكر
قال: أجل أصبت فأعد للخصومة فإنك مخاصم فقلت: يا رسول الله، لو بينت لي قليلا! فقال:
إن أمتي ستفتن من بعدي، فتتأول القرآن وتعمل بالرأي. وتستحل الخمر بالنبيذ والسحت
بالهدية، والربا بالبيع، وتحرف الكتاب عن مواضعه وتغلب كلمة الضلال، فكن جليس
بيتك حتى تقلدها فإذا قلدتها جاشت عليك الصدور، وقلبت لك الأمور، تقاتل حينئذ
على تأويل القرآن، كما قاتلت على تنزيله، فليست حالهم الثانية بدون حالهم الأولى. فقلت:
يا رسول الله، فبأي المنازل أنزل هؤلاء المفتونين من بعدك؟ أبمنزلة فتنة أم بمنزلة ردة؟
فقال: بمنزلة فتنة يعمهون فيها إلى أن يدركهم العدل. فقلت: يا رسول الله، أيدركهم
العدل منا أم من غيرنا؟ قال: بل منا، بنا فتح وبنا يختم، وبنا ألف الله بين القلوب
206

بعد الشرك. وبنا يؤلف بين القلوب بعد الفتنة. فقلت: الحمد لله على ما وهب لنا
من فضله.
* * *
واعلم أن لفظه عليه السلام المروى في " نهج البلاغة " يدل على أن الآية المذكورة
وهي قوله عليه السلام: (ألم أحسب الناس) أنزلت بعد أحد، وهذا خلاف قول
أرباب التفسير، لأن هذه الآية هي أول سورة العنكبوت وهي عندهم بالاتفاق مكية
ويوم أحد كان بالمدينة، وينبغي أن يقال في هذا: إن هذه الآية خاصة أنزلت بالمدينة
وأضيفت إلى السورة المكية فصارتا واحدة، وغلب عليها نسب المكي، لان الأكثر
كان بمكة، وفى القرآن مثل هذا كثير، كسورة النحل، فإنها مكية بالاجماع، وآخرها ثلاث
آيات أنزلت بالمدينة بعد يوم أحد، وهي قوله تعالى: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل
ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين * واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن
عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون * إن الله مع الذين اتقوا والذين هم
محسنون) (1).
فإن قلت: فلم قال: (علمت أن الفتنة لا تنزل بنا ورسول الله بين أظهرنا "؟
قلت: لقوله تعالى: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) (2).
وقوله: " حيزت عنى الشهادة " أي منعت.
قوله: " ليس هذا من مواطن الصبر " كلام عال جدا يدل على يقين عظيم
وعرفان تام، ونحوه قوله - وقد ضربه ابن ملجم: فزت ورب الكعبة.

(1) سورة النحل 126 - 128
(2) سورة الأنفال 33.
207

قوله: " سيفتنون بعدي بأموالهم " من قوله تعالى: (إنما أموالكم وأولادكم
فتنة) (1).
قوله: " ويمنون بدينهم على ربهم " من قوله تعالى: (يمنون عليك أن أسلموا
قل لا تمنوا على إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للايمان) (2).
قوله: " ويتمنون رحمته " من قوله: " أحمق الحمقى من أتبع نفسه هواها وتمنى
على الله ".
قوله: " ويأمنون سطوته " من قوله تعالى: (أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر
الله إلا القوم الخاسرون) (3).
والأهواء الساهية: الغافلة والسحت: الحرام ويجوز ضم الحاء، وقد أسحت الرجل في
تجارته، إذا اكتسب السحت.
وفى قوله: " بل بمنزلة فتنة " تصديق لمذهبنا في أهل البغي وأنهم لم يدخلوا في
الفكر بالكلية، بل هم فساق، والفاسق عندنا في منزلة بين المنزلتين، خرج من
الايمان، ولم يدخل في الكفر.

(1) سورة الأنفال 28.
(2) سورة الحجرات 17.
(3) سورة الأعراف 99.
208

(158)
الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام:
الحمد لله الذي جعل الحمد مفتاحا لذكره، وسببا للمزيد من فضله، ودليلا
على آلائه وعظمته.
عباد الله، إن الدهر يجرى بالباقين كجريه بالماضين، لا يعود ما قد ولى منه
ولا يبقى سرمدا ما فيه. آخر فعاله (1) كأوله، متشابهة أموره، متظاهرة أعلامه.
فكأنكم بالساعة تحدوكم حدو الزاجر بشوله، فمن شغل نفسه بغير نفسه
تحير
في الظلمات، وارتبك في الهلكات، ومدت به شياطينه في طغيانه، وزينت له
سيئ أعماله. فالجنة غاية السابقين، والنار غاية المفرطين.
اعلموا عباد الله، أن التقوى دار حصن عزيز، والفجور دار حصن ذليل
لا يمنع أهله، ولا يحرز من لجأ إليه. ألا وبالتقوى تقطع حمة الخطايا، وباليقين
تدرك الغاية القصوى.
عباد الله، الله الله في أعز الأنفس عليكم، وأحبها إليكم، فإن الله قد أوضح
لكم سبيل الحق وأنار طرقه، فشقوة لازمة أو سعادة دائمة. فتزودوا في أيام
الفناء، لأيام البقاء. قد دللتم على الزاد، وأمرتم بالظعن، وحثثتم على المسير
فإنما أنتم كركب وقوف لا يدرون متى يؤمرون بالسير. ألا فما يصنع بالدنيا من

(1) د: " أفعاله ".
209

خلق للآخرة! وما يصنع بالمال من عما قليل يسلبه، وتبقى عليه تبعته وحسابه!
عباد الله، إنه ليس لما وعد الله من الخير مترك، ولا فيما نهى عنه من
الشر مرغب.
عباد الله، احذروا يوما تفحص فيه الأعمال، ويكثر فيه الزلزال، وتشيب
فيه الأطفال.
اعلموا عباد الله أن عليكم رصدا من نفسكم، وعيونا من جوارحكم
وحفاظ صدق يحفظون أعمالكم وعدد أنفاسكم، لا تستركم منهم ظلمة ليل داج
ولا يكنكم منهم باب ذو رتاج، وإن غدا من اليوم قريب، يذهب اليوم بما فيه
ويجئ الغد لاحقا به، فكأن كل امرئ منكم قد بلغ من الأرض منزل
وحدته، ومخط حفرته. فياله من بيت وحدة، ومنزل وحشة، ومفرد غربة!
وكان الصيحة قد أتتكم، والساعة قد غشيتكم، وبرزتم لفصل القضاء
قد زاحت عنكم الأباطيل، واضمحلت عنكم العلل، واستحقت بكم الحقائق
وصدرت بكم الأمور مصادرها، فاتعظوا بالعبر، واعتبروا بالغير، وانتفعوا بالنذر.
* * *
الشرح:
جعل الحمد مفتاحا لذكره، لان أول الكتاب العزيز: (الحمد لله رب العالمين)
والقرآن هو الذكر، قال سبحانه: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (1)

(1) سورة الحجر 9
210

وسببا للمزيد، لأنه تعالى قال: (لئن شكرتم لأزيدنكم) (1) والحمد هاهنا هو
الشكر، ومعنى جعله الحمد دليلا على عظمته وآلائه أنه إذا كان سببا للمزيد، فقد دل
ذلك على عظمة الصانع وآلائه، أما دلالته على عظمته. فلأنه دال على أن قدرته لا تتناهى
أبدا بل كلما ازداد الشكر ازدادت النعمة. وأما دلالته على آلائه، فلأنه لا جود
أعظم من جود من يعطى من يحمده، لا حمدا متطوعا، بل حمدا واجبا عليه.
قوله: " يجرى بالباقين كجريه بالماضين " من هذا أخذ الشعراء وغيرهم ما نظموه
في هذا المعنى، قال بعضهم:
مات من مات والثريا الثريا * والسماك السماك والنسر نسر
ونجوم السماء تضحك منا * كيف تبقى من بعدنا ونمر!
وقال آخر:
فما الدهر إلا كالزمان الذي مضى * ولا نحن إلا كالقرون الأوائل
قوله: " لا يعود ما قد ولى منه " كقول الشاعر:
ما أحسن الأيام إلا أنها * يا صاحبي إذا مضت لم ترجع (2)
قوله: " ولا يبقى سرمدا ما فيه " كلام مطروق المعنى، قال عدى:
ليس شئ على المنون بباق * غير وجه المهيمن الخلاق
قوله: " آخر أفعاله كأوله " يروى: " كأولها " ومن رواه: " كأوله " أعاد
الضمير إلى الدهر، أي آخر أفعال الدهر كأول الدهر، فحذف المضاف.
متشابهة أموره، لأنه كما كان من قبل يرفع ويضع، ويغني ويفقر، ويوجد ويعدم

(1) سورة إبراهيم 7.
(2) للبحتري، ديوانه 2: 100.
211

فكذلك هو الان أفعاله متشابهة. وروى: " متسابقة " أي شئ منها قبل شئ، كأنها
خيل تتسابق في مضمار.
متظاهرة أعلامه، أي دلالاته على سجيته التي عامل الناس بها قديما وحديثا.
متظاهرة: يقوى بعضها بعضا. وهذا الكلام جار منه عليه السلام على عادة العرب في
ذكر الدهر، وإنما الفاعل على الحقيقة رب الدهر.
والشول: النوق التي خف لبنها وارتفع ضرعها، وأتى عليها من نتاجها سبعة أشهر
أو ثمانية، الواحدة شائلة، وهي جمع على غير القياس. وشولت الناقة، أي صارت شائلة
فأما الشائل بغيرها فهي الناقة تشول بذنبها للقاح ولا لبن لها أصلا، والجمع شول
مثل راكع وركع قال أبو النجم.
* كأن في أذنابهن الشول (1) *
والزاجر: الذي يزجر الإبل بسوقها، ويقال: حدوت إبلي وحدوت بإبلي، والحدو
سوقها، والغناء لها، وكذلك الحداء ويقال للشمال: حدواء، لأنها تحدو السحاب
أي تسوقه، قال العجاج:
* حدواء جاءت من بلاد الطور (2)
ولا يقال للمذكر: " أحدى " وربما قيل للحمار إذا قدم أتنه: حاد
قال ذو الرمة:
* حادي ثلاث من الحقب السماحيج (3) *
والمعنى أن سائق الشول يعسف بها، ولا يتقى سوقها ولا يدارك كما يسوق العشار (4).

(1) اللسان 18: 183.
(2) ديوانه 38.
(3) ديوانه 78، وصدره:
* كأنه حين يرمى خلفهن به *
(4) العشار من الإبل: التي قد أتى عليها عشرة أشهر.
212

ثم قال عليه السلام: " من شغل نفسه بغير نفسه هلك " وذلك أن من لا يوفى
النظر حقه، ويميل إلى الأهواء ونصرة الأسلاف. والحجاج عما ربى عليه بين الأهل
والأستاذين الذين زرعوا في قلبه العقائد، يكون قد شغل نفسه بغير نفسه، لأنه لم ينظر لها
ولا قصد الحق من حيث هو حق، وإنما قصد نصرة مذهب معين يشق عليه فراقه
ويصعب عنده الانتقال منه، ويسوءه أن يرد عليه حجة تبطله، فيسهر عينه، ويتعب
قلبه في تهويس (1) تلك الحجة والقدح فيها بالغث والسمين، لا لأنه يقصد الحق، بل
يقصد نصرة المذهب المعين وتشييد دليله، لا جرم أنه متحير في ظلمات لا نهاية لها!
والارتباك: الاختلاط، ربكت الشئ أربكه ربكا، خلطته فارتبك، أي اختلط،
وارتبك الرجل في الامر، أي نشب فيه ولم يكد يتخلص منه.
قوله: " ومدت به شياطينه في طغيانه " مأخوذ من قوله تعالى: (وإخوانهم
يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون) (2).
وروى: " ومدت له شياطينه " باللام، ومعناه الامهال، مد له في الغي، أي طول له
وقال تعالى: (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا) (3).
قوله: " وزينت له سيئ أعماله " مأخوذ من قوله تعالى: (أفمن زين له سوء
عمله فرآه حسنا) (4).
قوله: " التقوى دار حصن عزيز " معناه دار حصانة عزيزة، فأقام الاسم مقام
المصدر، وكذلك في الفجور.
ويحرز من لجأ إليه، يحفظ من اعتصم به.

(1) تهويس الحجة: إفسادها.
(2) سورة الأعراف 202.
(3) سورة مريم 75.
(4) سورة فاطر 8.
213

وحمة الخطايا: سمها وتقطع الحمة، كما تقول: قطعت سريان السم في بدن الملسوع
بالبادزهرات والترياقات، فكأنه جعل سم الخطايا ساريا في الأبدان، والتقوى
تقطع سريانه.
قوله: " وباليقين تدرك الغاية القصوى " وذلك لان أقصى درجات العرفان
الكشف، وهو المراد هاهنا بلفظ اليقين.
وانتصب " الله، الله " على الاغراء. و " في " متعلقة بالفعل المقدر، وتقديره: راقبوا.
وأعز الأنفس عليهم، أنفسهم.
قوله: " فشقوة لازمة " مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، تقديره: فغايتكم
أو فجزاؤكم، أو فشأنكم وهذا يدل على مذهبنا في الوعيد، لأنه قسم الجزاء إلى قسمين
إما العذاب أبدا، أو النعيم أبدا، وفى هذا بطلان قول المرجئة: إن ناسا يخرجون من النار
فيدخلون الجنة، لان هذا لو صح لكان قسما ثالثا.
قوله: " فقد دللتم على الزاد " أي الطاعة.
وأمرتم بالظعن، أي أمرتم بهجر الدنيا، وأن تظعنوا عنها بقلوبكم. ويجوز:
" الظعن " بالتسكين.
وحثثتم على المسير، لان الليل والنهار سائقان عنيفان.
قوله: " وإنما أنتم كركب وقوف لا يدرون متى يؤمرون بالسير " السير هاهنا، هو
الخروج من الدنيا إلى الآخرة، بالموت، جعل الناس ومقامهم في الدنيا كركب وقوف
لا يدرون متى يقال لهم: سيروا فيسيرون، لان الناس لا يعلمون الوقت الذي يموتون فيه.
فإن قلت: كيف سمى الموت والمفارقة سيرا؟
قلت: لان الأرواح يعرج بها إما إلى عالمها وهم السعداء، أو تهوى إلى أسفل
214

السافلين وهم الأشقياء، وهذا هو السير الحقيقي، لا حركة الرجل بالمشي، ومن أثبت
الأنفس المجردة، قال: سيرها خلوصها من عالم الحس، واتصالها المعنوي لا الأبدي
ببارئها، فهو سير في المعنى لا في الصورة، ومن لم يقل بهذا ولا بهذا قال: إن الأبدان
منذ الموت تأخذ في التحلل والتزايل، فيعود كل شئ منها إلى عنصره، فذاك
هو السير.
و " ما " في " عما قليل " زائدة. وتبعته: إثمه وعقوبته.
قوله: " إنه ليس لما وعد الله من الخير مترك " أي ليس الثواب فيما ينبغي للمرء أن
يتركه، ولا الشر فيما ينبغي أن يرغب المرء فيه.
وتفحص فيه الأعمال: تكشف. والزلزال، بالفتح: اسم للحركة الشديدة
والاضطراب، والزلزال، بالكسر المصدر، قال تعالى: (وزلزلوا زلزالا شديدا) (1)
قوله: " ويشيب فيه الأطفال " كلام جار مجرى المثل، يقال في اليوم الشديد: إنه
ليشيب نواصي الأطفال، وقال تعالى: (فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل
الولدان شيبا) (2)، وليس ذلك على حقيقته، لان الأمة مجمعة على أن الأطفال لا تتغير
حالهم في الآخرة إلى الشيب، والأصل في هذا أن الهموم والأحزان إذا توالت على الانسان
شاب سريعا، قال أبو الطيب:
والهم يخترم الجسيم نحافة * ويشيب ناصية الصبي ويهرم (3)
قوله: " إن عليكم رصدا من أنفسكم، وعيونا من جوارحكم " لان الأعضاء
تنطق في القيامة بأعمال المكلفين، وتشهد عليهم.

(1) سورة الأحزاب 11.
(2) سورة المزمل 17.
(3) ديوانه 4: 124.
215

والرصد: جمع راصد، كالحرس جمع حارس.
قوله ": " وحفاظ صدق " يعنى الملائكة الكاتبين لا يعتصم منهم بسترة
ولا ظلام ليل، ومن هذا المعنى قول الشاعر:
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل * خلوت ولكن قل على رقيب
قوله: " وإن غدا من اليوم قريب "، ومنه قول القائل:
* فإن غدا لناظره قريب (1) *
ومنه قوله:
* غد ما غد ما أقرب اليوم من غد *
ومنه قول الله تعالى: " إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب) (2)
والصيحة: نفخة الصور.
وزاحت الأباطيل: بعدت. واضمحلت: تلاشت وذهبت.
قوله: " واستحقت " أي حقت ووقعت، استفعل بمعنى " فعل "، كقولك: استمر
على باطله أي مر عليه.
وصدرت بكم الأمور مصادرها، كل وارد فله صدر عن مورده، وصدر الانسان عن
موارد الدنيا: الموت ثم البعث.

(1) صدره:
* فإن يك صدر هذا اليوم ولى *
(2) سورة هود 81.
216

(159) الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام:
أرسله على حين فترة من الرسل، وطول هجعة من الأمم، وانتقاض من المبرم
فجاءهم بتصديق الذي بين يديه، والنور المقتدى به، ذلك القرآن فاستنطقوه
ولن ينطق، ولكن أخبركم عنه...
ألا إن فيه علم ما يأتي والحديث عن الماضي، ودواء دائكم، ونظم
ما بينكم.
* * *
الشرح:
الهجعة: النومة الخفيفة، وقد تستعمل في النوم المستغرق أيضا. والمبرم: الحبل المفتول.
والذي بين يديه: التوراة والإنجيل.
فإن قلت: التوراة والإنجيل قبله، فكيف جعلهما بين يديه؟
قلت: أحد جزأي الصلة محذوف وهو المبتدأ، والتقدير: بتصديق الذي هو بين يديه
وهو ضمير القرآن، أي بتصديق الذي القرآن بين يديه، وحذف أحد جزأي الصلة هاهنا
ثم حذفه في قوله تعالى: (تماما على الذي أحسن وتفصيلا) (1) في قراءة من جعله اسما

(1) سورة الأنعام 145.
217

مرفوعا، وأيضا فإن العرب تستعمل " بين يديه " بمعنى " قبل "، قال تعالى: " بين يدي
عذاب شديد) (1)، أي قبله.
* * *
الأصل:
منها:
فعند ذلك لا يبقى بيت مدر ولا ولا وبر إلا وأدخله الظلمة ترحه، وأولجوا فيه
نقمة، فيومئذ لا يبقى لهم في السماء عاذر، ولا في الأرض ناصر.
أصفيتم بالامر غير أهله، وأوردتموه غير مورده، وسينتقم الله ممن ظلم
مأكلا بمأكل، ومشربا بمشرب، من مطاعم العلقم ومشارب الصبر والمقر، ولباس
شعار الخوف، ودثار السيف، وإنما هم مطايا الخطيئات، وزوامل الآثام.
فأقسم ثم أقسم، لتنخمنها أمية من بعدي كما تلفظ النخامة، ثم لا تذوقها
ولا تطعم بطعمها أبدا، ما كر الجديدان!
* * *
الشرح:
الترحة: الحزن، قال: فحينئذ لا يبقى لهم، أي يحيق بهم العذاب، ويبعث الله
عليهم من ينتقم، وهذا إخبار عن ملك بنى أمية بعده وزوال أمرهم عند تفاقم فسادهم
في الأرض.
ثم خاطب أولياء هؤلاء الظلمة، ومن كان يؤثر ملكهم، فقال: " أصفيتم بالامر

(1) سورة سبأ 46.
218

غير أهله، أصفيت فلانا بكذا: خصصته به، وصفية المغنم: شئ كان يصطفيه الرئيس
لنفسه من الغنيمة.
وأوردتموه غير ورده: أنزلتموه عند غير مستحقه.
ثم قال: سيبدل الله مآكلهم اللذيذة الشهية بمأكل مريرة علقمية. والمقر
المر. ومأكلا منصوب بفعل مقدر أي يأكلون مأكلا، والباء هاهنا للمجازاة الدالة على
الصلة، كقوله تعالى: (فبما نقضهم ميثاقهم) (1) وكقول أبى تمام:
فبما قد أراه ريان مكسو * المعاني من كل حسن وطيب (2)
وقال سبحانه: (قال رب بما أنعمت على فلن أكون ظهيرا للمجرمين) (3)
وجعل شعارهم الخوف، لأنه باطن في القلوب، ودثارهم السيف لأنه ظاهر في البدن، كما أن
الشعار ما كان إلى الجسد والدثار ما كان فوقه.
ومطايا الخطيات: حوامل الذنوب. وزوامل الآثام: جمع زاملة، وهي بعير يستظهر به
الانسان يحمل متاعه عليه، قال الشاعر:
زوامل أشعار ولا علم عندهم * بجيدها إلا كعلم الأباعر (4)
وتنخمت النخامة: إذا تنخعتها، والنخامة: النخاعة.
والجديدان: الليل والنهار، وقد جاء في الاخبار الشائعة المستفيضة في كتب المحدثين
أن رسول الله صلى الله عليه وآله أخبر أن بنى أمية تملك الخلافة بعده، مع ذم منه عليه

(1) سورة النساء 155.
(2) ديوانه 1: 124.
(3) سورة القصص 17.
(4) بعده:
لعمرك ما يدرى البعير إذا غدا * بأوساقه أو راح ما في الغرائز
والبيتان لمروان بن سليمان بن أبي حفصة، يهجو قوما من رواة الشعر (اللسان - زمل).
219

والسلام لهم، نحو ما روى عنه في تفسير، قوله تعالى: (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة
للناس والشجرة الملعونة في القرآن) (1) فإن المفسرين قالوا: إنه رأى بنى أمية ينزون على
منبره نزو القردة، هذا لفظ رسول الله صلى الله عليه وآله الذي فسر لهم الآية به، فساءه
ذلك ثم قال: الشجرة الملعونة بنو أمية وبنو المغيرة ونحو قوله صلى الله عليه وآله: " إذا بلغ
بنو أبى العاص ثلاثين رجلا اتخذوا مال الله دولا وعباده خولا " ونحو قوله صلى الله عليه
وآله في تفسير قوله تعالى: (ليلة القدر خير من ألف شهر) (2) قال: ألف شهر يملك
فيها بنو أمية. وورد عنه صلى الله عليه وآله من ذمهم الكثير المشهور نحو قوله:
" أبغض الأسماء إلى الله الحكم وهشام والوليد " وفى خبر آخر: " اسمان يبغضهما الله:
مروان والمغيرة "، ونحو قوله: " إن ربكم يحب ويبغض، كما يحب أحدكم ويبغض
وإنه يبغض بنى أمية ويحب بنى عبد المطلب ".
فإن قلت: كيف قال: " ثم لا تذوقها أبدا " وقد ملكوا بعد قيام الدولة الهاشمية
بالمغرب مدة طويلة؟
قلت: الاعتبار بملك العراق والحجاز، وما عداهما من الأقاليم النائية لا اعتداد به.

(1) سورة الإسراء 60.
(2) سورة القدر 3.
220

(160)
الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام:
ولقد أحسنت جواركم، وأحطت بجهدي من ورائكم، وأعتقتكم من ربق
الذل وحلق الضيم، شكرا منى للبر القليل، وإطراقا عما أدركه البصر، وشهده
البدن من المنكر الكثير.
* * *
الشرح:
أحطت بجهدي من ورائكم: حميتكم وحضنتكم. والجهد، بالضم الطاقة. الربق
جمع ربقة، وهي الحبل يربق به إليهم.
وحلق الضيم: جمع حلقة، بالتسكين، ويجوز: " حلق " بكسر الحاء وحلاق
فإن قلت: كيف يجوز له أن يطرق ويغضي عن المنكر؟
قلت: يجوز له ذلك إذا علم أو غلب على ظنه أنه إن نهاهم عنه لم يرتدعوا، وأضافوا
إليه منكرا آخر، فحينئذ يخرج الإطراق والاغضاء عن حد الجواز إلى حد الوجوب
لان النهى عن المنكر يكون والحالة هذه مفسدة.
221

(161)
الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام:
أمره قضاء وحكمة، ورضاه أمان ورحمة يقضى بعلم، ويعفو بحلم.
اللهم لك الحمد على ما تأخذ وتعطى، وعلى ما تعافى وتبتلي، حمدا يكون أرضى
الحمد لك، وأحب الحمد إليك، وأفضل الحمد عندك، حمدا يملأ ما خلقت، ويبلغ
ما أردت، حمدا لا يحجب عنك، ولا يقصر دونك، حمدا لا ينقطع عدده
ولا يفنى مدده، فلسنا نعلم كنه عظمتك، إلا أنا نعلم أنك حي قيوم، لا تأخذك
سنة ولا نوم، لم ينته إليك نظر، ولم يدركك بصر أدركت الابصار، وأحصيت
الأعمال، وأخذت بالنواصي والاقدام.
وما الذي نرى من خلقك، ونعجب له من قدرتك، ونصفه من عظيم سلطانك،
وما تغيب عنا منه، وقصرت أبصارنا عنه، وانتهت عقولنا دونه، وحالت ستور
الغيوب بيننا وبينه، أعظم. فمن فرغ قلبه، وأعمل فكره، ليعلم كيف أقمت
عرشك، وكيف ذرأت خلقك، وكيف علقت في الهواء سمواتك، وكيف مددت
على مور الماء أرضك، رجع طرفه حسيرا، وعقله مبهورا، وسمعه والها، وفكره
حائرا.
* * *
222

الشرح:
يجوز أن يكون أمره هاهنا هو الامر الفعلي، لا الامر القولي، كما يقال: أمر فلان
مستقيم، وما أمر كذا، وقال تعالى: (وما أمرنا إلا واحدة كملح بالبصر) (1)،
(وما أمر الساعة إلا كملح البصر أو هو أقرب) فيكون المعنى أن شأنه تعالى
ليس إلا أحد شيئين وهما " أن يقول " و " أن يفعل " فعبر عن " أن يقول " بقوله:
" قضاء " لان القضاء الحكم، وعبر عن " أن يفعل " بقوله: " وحكمة " لان أفعاله
كلها تتبع دواعي الحكمة. ويجوز أن يكون " أمره " هو الامر القولي، وهو المصدر من
" أمر له بكذا أمرا " فيكون المعنى أن أوامره إيجاب وإلزام بما فيه حكمة ومصلحة، وقد
جاء القضاء بمعنى الالزام والايجاب في القرآن العزيز في (2) قوله: (وقضى ربك ألا تعبدوا
إلا إياه) (3) أي أوجب وألزم.
قوله: " ورضاه أمان ورحمة " لان من فاز بدرجة الرضا فقد أمن وحصلت له
الرحمة، لان الرضا رحمة وزيادة.
قوله: " يقضى بعلم " أي يحكم وبما يحكم به لأنه عالم بحسن ذلك القضاء، أو وجوبه
في العدل.
قوله: " ويعفو بحلم " أي لا يعفو عن عجز وذل، كما يعفو الضعيف عن القوى
بل هو قادر على الانتقام ولكنه يحلم.
ثم حمد الله تعالى على الاعطاء والاخذ، والعافية والبلاء، لان ذلك كله من عند الله
لمصالح للمكلف، يعلمها وما (4) يعلمها المكلف، والحمد على المصالح واجب.

(1) سورة القمر 50.
(2) ساقطة من ب.
(3) سورة النحل إ 77
(4) د: " ولا ".
223

ثم أخذ في تفخيم شأن ذلك الحمد وتعظيمه والمبالغة في وصفه، احتذاء بقول
رسول الله صلى
الله عليه وآله: " الحمد لله زنة عرشه، الحمد لله عدد خلقه، الحمد لله ملء سمائه وأرضه "
فقال عليه السلام: " حمدا يكون أرضى الحمد لك " أي يكون رضاك له أوفى وأعظم من
رضاك بغيره، وكذلك القول في: " أحب " و " أفضل ".
قوله: " ويبلغ ما أردت " أي هو غاية ما تنتهى إليه الإرادة، وهذا كقول الاعرابية
في صفة المطر: غشينا ما شئنا، وهو من فصيح الكلام.
قوله: " لا يحجب عنك " لان الاخلاص يقارنه، والرياء منتف عنه.
قوله: " ولا يقصر دونك " أي لا يحبس، أي لا مانع عن وصوله إليك، وهذا من
باب التوسع، ومعناه أنه برئ من الموانع عن إثماره الثواب واقتضائه إياه، وروى
" ولا يقصر " من القصور، وروى " ولا يقصر " من التقصير.
ثم أخذ في بيان أن العقول قاصرة عن إدراك الباري سبحانه والعلم به، وأنا إنما نعلم
منه صفات إضافية أو سلبية، كالعلم بأنه حي، ومعنى ذلك أنه لا يستحيل على ذاته أن يعلم
ويقدر، وأنه قيوم بمعنى أن ذاته لا يجوز عليها العدم، أي يقيم الأشياء ويمسكها وكل شئ
يقيم الأشياء كلها ويمسكها، فليس بمحتاج إلى من يقيمه ويمسكه، وإلا لم يكن مقيما
وممسكا لكل شئ، وكل من ليس بمحتاج إلى من يقيمه ويمسكه، فذاته لا يجوز عليها
العدم، وأنه تعالى لا تأخذه سنة ولا نوم، لان هذا من صفات الأجسام، وما لا يجوز عليه
العدم لا يكون جسما، ولا يوصف بخواص الأجسام ولوازمها، فإنه لا ينتهى إليه نظر
لان انتهاء النظر إليه، يستلزم مقابلته وهو تعالى منزه عن الجهة، وإلا لم يكن ذاته مستحيلا
عليها العدم، وأنه لا يدركه بصر، لان إبصار الأشياء بانطباع أمثلتها في الرطوبة الجليدية
كانطباع أشباح المرئيات في المرآة، والباري تعالى لا يتمثل، ولا يتشبح، وإلا لم يكن
224

قيوما، وأنه يدرك الابصار، لأنه إما عالم لذاته، أو لأنه حي لا آفة به، وأنه يحصى
الأعمال لأنه عالم لذاته، فيعلم كل شئ حاضرا وماضيا ومستقبلا، وأنه يأخذ بالنواصي
والاقدام، لأنه قادر لذاته، فهو متمكن من كل مقدور.
ثم خرج إلى فن آخر، فقال: وما الذي نعجب لأجله من قدرتك وعظيم ملكك
والغائب عنا من عظمتك، أعظم من الحاضر! مثال ذلك أن جرم الشمس أعظم من جرم
الأرض مائة وستين مرة، ولا نسبة لجرم الشمس إلى فلكها المائل، ولا نسبة لفلكها
المائل إلى فلكها المميل، وفلك تدوير المريخ الذي فوقها أعظم من مميل الشمس
ولا نسبة لفلك تدوير المريخ إلى فلكه المميل، وفلك تدوير المشترى أعظم من مميل المريخ
ولا نسبة لفلك تدوير المشترى إلى فلكه المميل، وفلك تدوير زحل أعظم من مميل المشترى
ولا نسبة لفلك تدوير زحل إلى مميل زحل، ولا نسبة لمميل زحل إلى كرة الثوابت
ولا نسبة لكرة الثوابت إلى الفلك الأطلس الأقصى فانظر أي نسبة تكون الأرض
بكليتها على هذا الترتيب إلى الفلك الأطلس، وهذا مما تقصر العقول عن فهمه، وتنتهي
دونه، وتحول سواتر الغيوب بينها وبينه، كما قال عليه السلام.
ثم ذكر أن من أعمل فكره ليعلم كيف أقام سبحانه العرش، وكيف ذرأ الخلق
وكيف علق السماوات بغير علاقة ولا عمد، وكيف مد الأرض على الماء، رجع طرفه
حسيرا، وعقله مبهورا. وهذا كله حق، ومن تأمل كتبنا العقلية واعتراضنا على الفلاسفة
الذين عللوا هذه الأمور، وزعموا أنهم استنبطوا لها أسبابا عقلية، وادعوا وقوفهم على
كنهها وحقائقها، علم صحة ما ذكره عليه السلام، من أن من حاول تقدير ملك الله تعالى
وعظيم مخلوقاته بمكيال عقله، فقد ضل ضلالا مبينا.
225

وروى " وفكره جائرا " بالجيم أي عادلا عن الصواب. والحسير: المتعب.
والمبهور: المغلوب. والواله: المتحير.
* * *
منها:
يدعى بزعمه أنه يرجو الله، كذب والعظيم! ما باله لا يتبين رجاؤه في عمله
فكل من رجا عرف رجاؤه في عمله - إلا رجاء الله - فإنه مدخول، وكل خوف
محقق - إلا خوف الله - فإنه معلول.
يرجو الله في الكبير ويرجو العباد في الصغير، فيعطى العبد مالا يعطى الرب!
فما بال الله جل ثناؤه يقصر به عما يصنع به لعباده!
أتخاف أن تكون في رجائك له كاذبا، أو تكون لا تراه للرجاء موضعا
وكذلك إن هو خاف عبدا من عبيده، أعطاه من خوفه مالا يعطى ربه، فجعل
خوفه من العباد نقدا، وخوفه من خالقه ضمارا ووعدا.
وكذلك من عظمت الدنيا في عينه، وكبر موقعها من قبله، آثرها على الله
فانقطع إليها، وصار عبدا لها.
* * *
الشرح:
يجوز " بزعمه " بالضم و " بزعمه " بالفتح و " بزعمه " بالكسر، ثلاث لغات، أي
بقوله. فأما من " زعمت " أي كفلت، فالمصدر " الزعم " بالفتح والزعامة.
226

ثم أقسم على كذب هذا الزاعم، فقال: " والعظيم " ولم يقل: والله العظيم، تأكيدا
لعظمة البارئ سبحانه، لان الموصوف إذا ألقى وترك واعتمد على الصفة حتى صارت
كالاسم، كان أدل على تحقق مفهوم الصفة، كالحارث والعباس.
ثم بين مستند هذا التكذيب فقال: ما بال هذا الزاعم! إنه يرجو ربه، ولا يظهر
رجاؤه في عمله، فإنا نرى من يرجو واحدا من البشر يلازم بابه، ويواظب على خدمته
ويتحبب إليه، ويتقرب إلى قلبه بأنواع الوسائل والقرب، ليظفر بمراده منه، ويتحقق
رجاؤه فيه، وهذا الانسان الذي يزعم أنه يرجو الله تعالى، لا يظهر من أعماله الدينية ما يدل
على صدق دعواه، ومراده عليه السلام هاهنا ليس شخصا بعينه، بل كل إنسان هذه
صفته، فالخطاب له والحديث معه.
ثم قال: " كل رجاء إلا رجاء الله فهو مدخول " أي معيب، والدخل
بالتسكين: العيب والريبة. ومن كلامهم: " ترى الفتيان كالنخل، وما يدريك
ما الدخل " (1)، وجاء " الدخل " بالتحريك أيضا، يقال: هذا الامر فيه دخل
ودغل، بمعنى قوله تعالى: (ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم) (2) أي مكرا
وخديعة، وهو من هذا الباب أيضا.
ثم قال: " وكل خوف محقق إلا خوف الله فإنه معلول " محقق، أي ثابت، أي كل
خوف حاصل حقيقة فإنه مع هذا الحصول والتحقق معلول ليس بالخوف الصريح، إلا خوف
الله وحده وتقواه، وهيبته وسطوته وسخطه، ذلك لان الامر الذي يخاف من العبد سريع
الانقضاء والزوال، والامر الذي يخاف من الباري تعالى لا غاية له ولا انقضاء لمحذوره
كما قيل في الحديث المرفوع: " فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة ".

(1) مثل، وأول من قالته عثمة بنت مطرود البجلية. وانظر الفاخر 156.
(2) سورة النحل 94.
227

ثم عاد إلى الرجاء، فقال: يرجو هذا الانسان الله في الكثير أي يرجو رحمته في
الآخرة، ولا يتعلق رجاؤه بالله تعالى إلا في هذا الموضع، فأما ما عدا ذلك من أمور الدنيا
كالمكاسب والأموال والجاه والسلطان واندفاع المضار والتوصل إلى الأغراض بالشفاعات
والتوسلات، فإنه لا يخطر له الله تعالى ببال، بل يعتمد في ذلك على السفراء والوسطاء
ويرجو حصول هذه المنافع، ودفع هذه المضار من أبناء نوعه من البشر، فقد أعطى العباد
من رجائه ما لم يعطه الخالق سبحانه، فهو مخطئ، لأنه إما أن يكون هو في نفسه صالحا لان
يرجوه سبحانه، وإما ألا يكون الباري تعالى في نفسه صالحا لان يرجى، فإن كان الثاني
فهو كفر صراح، وإن كان الأول فالعبد مخطئ حيث لم يجعل نفسه مستعدا لفعل
الصالحات، لان يصلح لرجاء الباري سبحانه.
ثم انتقل عليه السلام إلى الخوف، فقال: وكذلك إن خاف هذا الانسان عبدا
مثله، خافه أكثر من خوفه الباري سبحانه، لان كثيرا من الناس يخافون السلطان وسطوته
أكثر من خوفهم مؤاخذة الباري سبحانه، وهذا مشاهد ومعلوم من الناس، فخوفهم
بعضهم من بعض كالنقد المعجل، وخوفهم من خالقهم ضمار ووعد. والضمار: مالا يرجى
من الوعود والديون. قال الراعي:
حمدن مزاره وأصبن منه * عطاء لم يكن عدة ضمارا (1)
ثم قال: " وكذلك من عظمت الدنيا في عينه " يختارها على الله، ويستعبده حبها.
ويقال: كبر بالضم، يكبر أي عظم، فهو كبير وكبار بالتخفيف، فإذا أفرط قيل:

(1) اللسان 6: 164، وقيله:
وأنضاء أنحن إلى سعيد * طروقا ثم عجلن ابتكارا
228

" كبار " بالتشديد، فأما كبر بالكسر، فمعناه أسن، والمصدر منهما كبرا
بفتح الباء.
* * *
الأصل:
ولقد كان في رسول الله صلى الله عليه وسلم كاف لك في الأسوة، ودليل لك
على ذم الدنيا وعيبها، وكثرة مخازيها ومساويها، إذ قبضت عنه أطرافها ووطئت
لغيره أكنافها، وفطم عن رضاعها، وزوى عن زخارفها.
وإن شئت ثنيت بموسى كليم الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: (رب
إني لما أنزلت إلى من خير فقير)، والله ما سأله إلا خبزا يأكله، لأنه كان يأكل
بقلة الأرض، ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه، لهزاله
وتشذب لحمه.
وإن شئت ثلثت بداود صلى الله عليه وسلم صاحب المزامير، وقارئ أهل الجنة
فلقد كان يعمل سفائف الخوص بيده، ويقول لجلسائه: أيكم يكفيني بيعها!
ويأكل قرص الشعير من ثمنها.
وإن شئت قلت في عيسى بن مريم عليه السلام، فلقد كان يتوسد الحجر،
ويلبس الخش، ويأكل الجشب، وكان إدامه الجوع، وسراجه بالليل القمر
وظلاله في الشتاء مشارق الأرض ومغاربها، وفاكهته وريحانه ما تنبت الأرض
للبهائم، ولم تكن له زوجة تفتنه، ولا ولد يحزنه، ولا مال يلفته، ولا طمع
يذله، دابته رجلاه، وخادمه يداه.
* * *
229

الشرح:
يجوز أسوة وإسوة، وقرئ التنزيل بهما، والمساوئ: العيوب، ساءه كذا يسوءه
سوءا بالفتح ومساءة ومسائية. وسوته سواية ومساية، بالتخفيف، أي ساءه ما رآه منى
وسأل سيبويه الخليل عن " سوائية " فقال: هي " فعالية " بمنزلة علانية والذين قالوا
" سواية " حذفوا الهمزة تخفيفا، وهي في الأصل. قال: وسألته عن " مسائية " فقال:
هي مقلوبة وأصلها " مساوئة " فكرهوا الواو مع الهمزة، والذين قالوا: " مساية " حذفوا
الهمزة أيضا تخفيفا، ومن أمثالهم: " الخيل تجرى في مساويها " أي أنها وإن كانت بها
عيوب وأوصاب، فإن كرمها يحملها على الجري.
والمخازي: جمع مخزاة، وهي الامر يستحى من ذكره لقبحه.
وأكنافها: جوانبها. وزوى: قبض. وخارف: جمع زخرف وهو الذهب
روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: " عرضت على كنوز الأرض ودفعت
إلى مفاتيح خزائنها، فكرهتها واخترت الدار الآخرة " وجاء في الأخبار الصحيحة أنه
كان يجوع ويشد حجرا على بطنه. وأنه ما شبع آل محمد من لحم قط، وأن فاطمة وبعلها
وبنيها كانوا يأكلون خبز الشعير، وأنهم آثروا سائلا بأربعة أقراص منه كانوا أعدوها
لفطورهم، وباتوا جياعا. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله ملك قطعة واسعة من
الدنيا، فلم يتدنس منها بقليل ولا كثير، ولقد كانت الإبل التي غنمها يوم حنين أكثر
من عشرة آلاف بعير، فلم يأخذ منها وبرة لنفسه، وفرقها كلها على الناس، وهكذا
كانت شيمته وسيرته في جميع أحواله إلى أن توفى.
والصفاق: الجلد الباطن الذي فوقه الجلد الظاهر من البطن. وشفيفه: رقيقه الذي
يستشف ما وراءه، وبالتفسير الذي فسر عليه السلام الآية فسرها المفسرون، وقالوا: إن
230

خضرة البقل كانت ترى في بطنه من الهزال، وإنه ما سأل الله إلا أكله من الخبز. وما في
(لما أنزلت) بمعنى أي، أي إني لأي شئ أنزلت إلى، قليل أو كثير، غث
أو سمين، فقير.
فإن قلت: لم عدى " فقيرا " باللام، وإنما يقال: " فقير إلى كذا "؟
قلت: لأنه ضمن معنى " سائل " و " مطالب " ومن فسر الآية بغير ما ذكره عليه السلام
لم يحتج إلى الجواب عن هذا السؤال، فإن قوما قالوا: أراد: إني فقير من الدنيا لأجل
ما أنزلت إلى من خير، أي من خير الدين وهو النجاة من الظالمين، فإن ذلك رضا بالبدل
السني، وفرحا به وشكرا له.
وتشذب اللحم: تفرقه. والمزامير: جمع مزمار، وهو الآلة التي يزمر فيها، ويقال
زمر يزمر ويزمر، بالضم والكسر، فهو زمار، ولا يكاد يقال: زامر ويقال للمرأة
زامرة، ولا يقال زمارة، فأما الحديث أنه نهى عن كسب الزمارة، فقالوا: إنها الزانية
هاهنا. ويقال: إن داود أعطى من طيب النغم ولذة ترجيح القراءة ما كانت الطيور لأجله
تقع عليه وهو في محرابه، والوحش تسمعه فتدخل بين الناس ولا تنفر منهم لما قد استغرقها
من طيب صوته. وقال النبي صلى الله عليه وآله لأبي موسى، وقد سمعه يقرأ: " لقد أوتيت
مزمارا من مزامير داود " وكان أبو موسى شجى الصوت إذا قرأ. وورد في الخبر: " داود
قارئ أهل الجنة ".
وسفائف الخوص: جمع سفيفة، وهي النسيجة منه، سففت الخوص وأسففته بمعنى
وهذا الذي ذكره عليه السلام عن داود يجب أن يحمل على أنه شرح حاله قبل أن
يملك فإنه كان فقيرا، فأما حيث ملك فإن المعلوم من سيرته غير ذلك.
فأما عيسى فحاله كما ذكرها عليه السلام، لا ريب في ذلك، على أنه أكل اللحم وشرب
231

الخمر، وركب الحمار وخدمه التلامذة، ولكن الأغلب من حاله هي الأمور التي عددها
أمير المؤمنين عليه السلام.
ويقال: حزنني الشئ يحزنني بالضم، ويجوز: " أحزنني " بالهمز يحزنني، وقرئ بهما
وهو في كلامه عليه السلام في هذا الفصل بهما.
ويقال: لفته عن كذا، يلفته بالكسر، أي صرفه ولواه.
* * *
الأصل:
فتأس بنبيك الأطيب الأطهر، صلى الله عليه وسلم، فإن فيه أسوة لمن تأسى
وعزاء لمن تعزى. وأحب العباد إلى الله المتأسي بنبيه، والمقتص لأثره.
قضم الدنيا قضما، ولم يعرها طرفا. أهضم أهل الدنيا كشحا، وأخمصهم من
الدنيا بطنا، عرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها، وعلم أن الله تعالى أبغض شيئا
فأبغضه، وحقر شيئا فحقره، وصغر شيئا فصغره.
ولو لم يكن فينا إلا حبنا ما أبغض الله ورسوله، وتعظيمنا ما صغر الله ورسوله
لكفى به شقاقا لله تعالى ومحادة عن أمر الله تعالى! ولقد كان صلى الله عليه وسلم
يأكل على الأرض، ويجلس جلسة العبد ويخصف بيده نعله، ويرفع بيده ثوبه
ويركب الحمار العاري، ويردف خلفه، ويكون الستر على باب بيته فتكون
فيه التصاوير فيقول: يا فلانة - لإحدى أزواجه - غيبيه عنى، فإني إذا نظرت إليه
ذكرت الدنيا وزخارفها. فأعرض عن الدنيا بقلبه وأمات ذكرها من نفسه، وأحب
أن تغيب زينتها عن عينه، لكيلا يتخذ منها رياشا، ولا يعتقدها قرارا، ولا يرجو
فيها مقاما، فأخرجها من النفس، وأشخصها عن القلب، وغيبها عن البصر.
232

وكذلك من أبغض شيئا أبغض أن ينظر إليه وأن يذكر عنده، ولقد كان
في رسول الله صلى الله عليه وآله ما يدلك على مساوئ الدنيا وعيوبها، إذ جاع فيها
مع خاصته، وزويت عنه زخارفها مع عظيم زلفته، فلينظر ناظر بعقله: أكرم الله
محمدا صلى الله عليه وسلم بذلك أم أهانه! فإن قال: " أهانه " فقد كذب والله
العظيم بالإفك العظيم، وإن قال: " أكرمه " فليعلم أن الله قد أهان غيره حيث
بسط الدنيا له، وزواها عن أقرب الناس منه، فتأسى متأس بنبيه، واقتص أثره
وولج مولجه، وإلا فلا يأمن الهلكة، فإن الله جعل محمدا صلى الله عليه وسلم
علما للساعة، ومبشرا بالجنة، ومنذرا بالعقوبة، خرج من الدنيا خميصا، وورد
الآخرة سليما، لم يضع حجرا على حجر، حتى مضى لسبيله، وأجاب داعي ربه
فما أعظم منة الله عندنا حين أنعم علينا به سلفا نتبعه، وقائدا نطأ عقبه! والله لقد
رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها، ولقد قال لي قائل: ألا تنبذها
عنك! فقلت: أعزب عنى، فعند الصباح يحمد القوم السرى.
* * *
الشرح:
المقتص لأثره: المتبع له، ومنه قوله تعالى: (وقالت لأخته قصيه) (1).
وقضم الدنيا: تناول منها قدر الكفاف، وما تدعو إليه الضرورة من خشن العيشة
وقال أبو ذر رحمه الله:
" يخضمون ونقضم، والموعد الله! " وأصل القضم، أكل الشئ
اليابس بأطراف الأسنان، والخضم: أكل بكل الفم للأشياء الرطبة، وروى: " قصم "
بالصاد، أي كسر.

(1) سورة القصص 11.
233

قوله: " أهضم أهل الدنيا كشحا " الكشح: الخاصرة، ورجل أهضم بين الهضم
إذا كان خميصا لقلة الاكل.
وروى: " وحقر شيئا فحقره " بالتخفيف. والشقاق: الخلاف.
والمحادة: المعاداة: وخصف النعل: خرزها. والرياش: الزينة، والمدرعة
الدراعة.
وقوله: " عند الصباح يحمد القوم السرى " مثل يضرب لمحتمل المشقة العاجلة (1)
رجاء الراحة الأجلة.
* * *
[نبذ من الاخبار والآثار الواردة في البعد عن زينة الدنيا]
جاء في الأخبار الصحيحة أنه عليه الصلاة والسلام، قال: " إنما أنا عبد آكل
أكل العبيد، وأجلس جلسة العبيد " وكان يأكل على الأرض، ويجلس جلوس العبيد
يضع قصبتي ساقيه على الأرض، ويعتمد عليهما بباطني فخذيه، وركوبه الحمار العاري آية
التواضع وهضم النفس. وإرداف غيره خلفه آكد في الدلالة على ذلك.
وجاء في الأخبار الصحيحة النهى عن التصاوير وعن نصب الستور التي فيها التصاوير
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا رأى سترا فيه تصاوير أمر أن تقطع رأس
تلك الصورة.
وجاء في الخبر " من صور صورة كلف في القيامة أن ينفخ فيها الروح، فإذا قال:
لا أستطيع، عذب ".

(1) وأول من قاله خالد بن الوليد، وانظر مضربه ومورده في الفاخر 193.
234

قوله: " لم يضع حجرا على حجر " هو عين ما جاء في الأخبار الصحيحة. خرج
رسول الله صلى الله عليه وآله من الدنيا ولم يضع حجرا على حجر.
وجاء في أخبار علي عليه السلام التي ذكرها أبو عبد الله أحمد بن حنبل في كتاب فضائله
وهو روايتي عن قريش بن السبيع بن المهنا العلوي، عن نقيب الطالبيين أبى عبد الله أحمد بن
علي بن المعمر، عن المبارك بن عبد الجبار أحمد بن القاسم الصيرفي المعروف بابن الطيوري
عن محمد بن علي بن محمد بن يوسف العلاف المزني، عن أبي بكر أحمد بن جعفر بن حمدان
ابن مالك القطيعي، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه أبى عبد الله أحمد رحمه الله
قال: قيل لعلى عليه السلام: يا أمير المؤمنين، لم ترقع قميصك؟ قال: ليخشع القلب
ويقتدى بي المؤمنون.
وروى أحمد رحمه الله أن عليا كان يطوف الأسواق مؤتزرا بإزار، مرتديا برداء، ومعه
الدرة كأنه أعرابي بدوي، فطاف مرة حتى بلغ سوق الكرابيس، فقال لواحد: يا شيخ
بعني قميصا تكون قيمته ثلاثة دراهم، فلما عرفه الشيخ لم يشتر منه شيئا، ثم أتى آخر
فلما عرفه لم يشتر منه شيئا، فأتى غلاما حدثا، فاشترى منه قميصا بثلاثة دراهم، فلما
جاء أبو الغلام، أخبره، فأخذ درهما. ثم جاء إلى علي عليه السلام ليدفعه إليه، فقال له:
ما هذا؟ أو قال ما شابه هذا، فقال: يا مولاي، إن القميص الذي باعك ابني كان يساوى
درهمين، فلم يأخذ الدرهم، وقال: باعني رضاي وأخذ رضاه.
وروى أحمد رحمه الله عن أبي النوار بائع الخام بالكوفة. قال: جاءني علي بن أبي
طالب إلى السوق، ومعه غلام له وهو خليفة، فاشترى منى قميصين، وقال لغلامه: اختر أيهما
شئت، فأخذ أحدهما، وأخذ على الاخر، ثم لبسه ومد يده، فوجد كمه فاضلة، فقال:
اقطع الفاضل. فقطعته، ثم كفه وذهب.
235

وروى أحمد رحمه الله عن الصمال بن عمير، قال: رأيت قميص علي عليه السلام الذي
أصيب فيه، وهو كرابيس سبيلاني (1) ورأيت دمه قد سال عليه كالدردي (2).
وروى أحمد رحمه الله قال: لما أرسل عثمان إلى علي عليه السلام، وجده مؤتزرا
بعباءة، محتجزا بعقال، وهو يهنأ بعيرا له.
والاخبار في هذا المعنى كثيرة، وفيما ذكرناه كفاية.

(1) الكرابيس: ثياب فارسية من القطن، وسبيلاني: لعلها منسوبة إلى سبيلة، موضع.
(2) الدردي: ما رسب من الزيت في أسفل الاناء.
236

(162) الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام:
ابتعثه بالنور المضئ، والبرهان الجلي، والمنهاج البادي، والكتاب الهادي.
أسرته خير أسرة، وشجرته خير شجرة، أغصانها معتدلة وثمارها متهدلة
مولده بمكة، وهجرته بطيبة، علا بها ذكره، وامتد منها صوته، أرسله بحجة
كافية، وموعظة شافية، ودعوة متلافية، أظهر به الشرائع المجهولة، وقمع
به البدع المدخولة، وبين به الاحكام المفصولة. فمن يبتغ غير الاسلام دينا
تتحقق شقوته، وتنفصم عروته، وتعظم كبوته، ويكون مآبه إلى الحزن الطويل
والعذاب الوبيل، وأتوكل على الله توكل الإنابة إليه، وأسترشده السبيل المؤدية
إلى جنته، القاصدة إلى محل رغبته.
* * *
الشرح:
بالنور المضي، أي بالدين، أو بالقرآن. وأسرته: أهله. أغصانها معتدلة، كناية
عن عدم الاختلاف بينهم في الأمور الدينية. وثمارها متهدلة، أي متدلية، كناية عن
سهولة اجتناء العلم منها.
وطيبة اسم المدينة، كان اسمها يثرب، فسماها رسول الله صلى الله عليه وآله طيبة
237

ومما أكفر الناس به يزيد بن معاوية أنه سماها " خبيثة " مراغمة لرسول الله صلى
الله عليه وآله.
علا بها ذكره. لأنه صلى الله عليه وآله إنما انتصر وقهر الأعداء بعد الهجرة.
" ودعوة متلافية " أي تتلافى ما فسد في الجاهلية من أديان البشر. قوله: " وبين به الاحكام المفصولة " ليس يعنى أنها كانت مفصولة قبل أن بينها، بل
المراد: بين به الاحكام التي هي الان مفصولة عندنا وواضحة لنا لأجل بيانه لها.
والكبوة: مصدر كبا الجواد، إذا عثر فوقع إلى الأرض.
والمآب: المرجع. والعذاب الوبيل: ذو الوبال وهو الهلاك:
والإنابة: الرجوع. والسبيل: الطريق، يذكر ويؤنث. والقاصدة، ضد الجائرة
فإن قلت لم عدى القاصدة ب‍ " إلى "؟
قلت: لأنها لما كانت قاصدة، تضمنت معنى الافضاء إلى المقصد، فعداها ب‍ " إلى "
باعتبار المعنى.
* * *
الأصل:
أوصيكم عباد الله بتقوى الله وطاعته فإنها النجاة غدا، والمنجاة أبدا، رهب
فأبلغ، ورغب فأسبغ، ووصف لكم الدنيا وانقطاعها، وزوالها وانتقالها، فأعرضوا
عما يعجبكم فيها لقلة ما يصحبكم منها. أقرب دار من سخط الله، وأبعدها من
رضوان الله.
238

فغضوا عنكم عباد الله غمومها وأشغالها، لما أيقنتم به من فراقها، وتصرف
حالاتها، فاحذروها حذر الشفيق الناصح، والمجد الكادح.
واعتبروا بما قد رأيتم من مصارع القرون قبلكم، قد تزايلت أوصالهم
وزالت أبصارهم وأسماعهم، وذهب شرفهم وعزهم، وانقطع سرورهم ونعيمهم
فبدلوا بقرب الأولاد فقدها، وبصحبة الأزواج مفارقتها، لا يتفاخرون
ولا يتناسلون، ولا يتزاورون ولا يتحاورون.
فاحذروا عباد الله حذر الغالب لنفسه، المانع لشهوته، الناظر بعقله، فإن
الامر واضح، والعلم قائم، والطريق جدد، والسبيل قصد.
* * *
الشرح:
المنجاة: مصدر نجا ينجو نجاة ومنجاة. والنجاة: الناقة ينجى عليها فاستعارها هاهنا
للطاعة والتقوى، كأنها كالمطية المركوبة يخلص بها الانسان من الهلكة.
قوله: " رهب فأبلغ " الضمير يرجع إلى الله سبحانه، أي خوف المكلفين فأبلغ
في التخويف، ورغبهم فأتم الترغيب وأسبغه.
ثم أمر بالاعراض عما يسر ويروق من أمر الدنيا، لقلة، ما يصحب الناس
من ذلك.
ثم قال: إنها أقرب دار من سخط الله، وهذا نحو قول النبي صلى الله عليه وآله: " حب
الدنيا رأس كل خطيئة.
239

قوله: " فغضوا عنكم عباد الله غمومها " أي كفوا عن أنفسكم الغم لأجلها والاشتغال
بها، يقال: غضضت فلانا عن كذا أي كففته، قال تعالى: (واغضض من صوتك). (1)
قوله: " فاحذروها حذر الشفيق الناصح " أي فاحذروها على أنفسكم لأنفسكم كما
يحذر الشفيق الناصح على صاحبه، وكما يحذر المجد الكادح، أي الساعي من خيبة سعيه.
والأوصال: الأعضاء. والمحاورة: المخاطبة والمناجاة، وروى: " ولا يتجاورون " بالجيم.
والعلم: ما يستدل به في المفازة.
وطريق جدد، أي سهل واضح. والسبيل قصد، أي مستقيم.

(1) سورة لقمان 190.
240

(163)
الأصل:
ومنه كلام له عليه السلام لبعض أصحابه، وقد سأله: كيف دفعكم قومكم
عن هذا المقام وأنتم أحق به؟ فقال عليه السلام:
يا أخا بنى أسد، إنك لقلق الوضين، ترسل في غير سدد، ولك بعد ذمامة
الصهر وحق المسألة، وقد استعلمت فاعلم.
أما الاستبداد علينا بهذا المقام ونحن الأعلون نسبا، والأشدون بالرسول
صلى الله عليه وسلم نوطا، فإنها كانت أثرة شحت عليها نفوس قوم، وسخت عنها
نفوس آخرين، والحكم الله، والمعود (1) إليه
يوم القيامة.
ودع عنك نهبا صيح في حجراته * ولكن حديثا ما حديث الرواحل
وهلم الخطب في ابن أبي سفيان، فلقد أضحكني الدهر بعد إبكائه، ولا غرو
والله، فياله خطبا يستفرغ العجب، ويكثر الأود!
حاول القوم إطفاء نور الله من مصباحه، وسد فواره من ينبوعه، وجدحوا
بيني وبينهم شربا وبيئا، فإن ترتفع عنا وعنهم محن البلوى، أحملهم من الحق
على محضه، وإن تكن الأخرى (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم
بما يصنعون) (2).

(1) المعود، بسكون العين وفتح الواو، كذا ضبطت في اللسان. وفى النهاية لابن الأثير:
هكذا جاء " المعود " على الأصل، وهو " مفعل " من عاد يعود، ومن حق أمثاله أن تقلب واوه
ألفا، كالمقام والمراح، ولكنه استعمله على الأصل.
(2) سورة فاطر 8.
241

الشرح:
الوضين: بطان القتب (1) وحزام السرج، ويقال للرجل المضطرب في أموره: إنه لقلق
الوضين، وذلك أن الوضين إذا قلق، اضطرب القتب أو الهودج أو السرج ومن عليه.
ويرسل في غير سدد، أي يتكلم في غير قصد وفى غير صواب، والسدد والاستداد:
الاستقامة والصواب، والسديد: الذي يصيب السدد، وكذلك المسد. واستد الشئ
أي استقام.
وذمامة الصهر، بالكسر، أي حرمته، هو الذمام، قال ذو الرمة
تكن عوجة يجزيكها الله عنده * بها الاجر أو تقضى ذمامة صاحب (2)
ويروى: " ماتة الصهر " أي حرمته ووسيلته، مت إليه بكذا، وإنما قال
عليه السلام له: " ولك بعد ذمامة الصهر " لان زينب بنت جحش زوج رسول الله صلى الله
عليه وآله كانت أسدية، وهي زينب بنت جحش بن رباب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن
كثير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة. وأمها أمية بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف
فهي بنت عمة رسول الله صلى الله عليه وآله، والمصاهرة المشار إليها، هي هذه.
ولم يفهم القطب الراوندي ذلك، فقال في الشرح: " كان أمير المؤمنين عليه السلام قد
تزوج في بنى أسد " ولم يصب، فإن عليا عليه السلام لم يتزوج في بنى أسد البتة ونحن نذكر
أولاده: أما الحسن والحسين وزينب الكبرى وأم كلثوم الكبرى، فأمهم فاطمة بنت
سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله (3). وأما محمد فأمه خولة بنت إياس (4) بن جعفر، من بنى
حنيفة، وأما أبو بكر وعبد الله، فأمهما ليلى بنت مسعود النهشلية، من تميم. وأما عمر ورقية

(1) البطان: حزام القتب، وهو الذي يجعل تحت بطن الدابة، والقتب: رحل صغير على قدر السنام.
(2) ديوانه 54.
(3) في تاريخ الطبري: " ويذكر أنه كان لها منه ابن آخر يسمى محسنا، توفى صغيرا ".
(4) في نسب قريش: " خولة بنت جعفر بن قيس ".
242

فأمهما سبية من بنى تغلب، يقال لها: الصهباء، سبيت في خلافة أبى بكر وإمارة
خالد بن الوليد بعين التمر. وأما يحيى وعون فأمهما أسماء بنت عميس الخثعمية (1) وأما جعفر
والعباس وعبد الله وعبد الرحمن (2) فأمهم أم البنين بنت حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد
من بنى كلاب. وأما رملة وأم الحسن فأمهما أم سعيد بنت عروة بن مسعود الثقفي
وأما أم كلثوم الصغرى وزينب الصغرى وجمانة وميمونة وخديجة وفاطمة وأم الكرام
ونفيسة وأم سلمة وأم أبيها (3) وأمامة بنت علي عليه السلام فهن لأمهات أولاد شتى، فهؤلاء
أولاده، وليس فيهم أحد من أسدية، ولا بلغنا أنه تزوج في بنى أسد، ولم يولد له، ولكن
الراوندي يقول ما يخطر له ولا يحقق.
وأما حق المسألة، فلان للسائل على المسؤول حقا حيث أهله لان يستفيد منه.
والاستبداد بالشئ: التفرد به. والنوط: الالتصاق. وكانت أثرة، أي استئثارا بالامر
واستبدادا به، قال النبي صلى الله عليه وآله للأنصار: " ستلقون بعدي أثرة ".
وشحت: بخلت. وسخت: جادت، ويعنى بالنفوس التي سخت نفسه وبالنفوس
التي شحت، أما على قولنا فإنه يعنى نفوس أهل الشورى بعد مقتل عمر، وأما على قول الإمامية
، فنفوس أهل السقيفة. وليس في الخبر ما يقتضى صرف ذلك إليهم، فالأولى
أن يحمل على ما ظهر عنه من تألمه من عبد الرحمن بن عوف وميله إلى عثمان.
ثم قال: إن الحكم هو الله، وإن الوقت الذي يعود الناس كلهم إليه هو يوم القيامة
وروى: " يوم " بالنصب على أنه ظرف والعامل فيه " المعود " على أن يكون مصدرا.
وأما البيت فهو لامرئ القيس بن حجر الكندي، وروى أن أمير المؤمنين عليه السلام
لم يستشهد إلا بصدره فقط وأتمه الرواة.

(1) في إحدى روايات الطبري أنه أعقب منها يحيى ومحمدا الأصغر.
(2) في الطبري ونسب قريش: " وعثمان ".
(3) كذا في الأصول، ولم تذكر في الطبري، وزاد: " أم هانئ ورملة الصغرى ".
243

[حديث عن امرئ القيس]
وكان من قصة هذا الشعر أن امرأ القيس، لما تنقل في أحياء العرب بعد قتل أبيه
نزل على رجل من جديلة طيئ، يقال له طريف (1) بن ملء، فأجاره وأكرمه، وأحسن
إليه، فمدحه وأقام عنده. ثم إنه لم يوله نصيبا في الجبلين: أجأ وسلمى، فخاف ألا يكون
له منعة، فتحول ونزل على خالد بن سدوس بن أصمع النبهاني، فأغارت بنو جديلة على
امرئ القيس وهو في جوار خالد بن سدوس، فذهبوا بإبله، وكان الذي أغار عليه منهم
باعث بن حويص، فلما أتى امرئ القيس الخبر، ذكر ذلك لجاره، فقال له: أعطني
رواحلك ألحق عليها القوم، فأرد عليك إبلك، ففعل فركب خالد في إثر القوم حتى
أدركهم، فقال: يا بنى جديلة، أغرتم على إبل جارى! فقالوا: ما هو لك بحار، قال:
بلى والله وهذه رواحله، قالوا: كذلك! قال نعم: فرجعوا إليه فأنزلوه عنهن، وذهبوا
بهن وبالإبل. وقيل: بل انطوى خالد على الإبل فذهب بها، فقال امرؤ القيس:
دع عنك نهبا صيح في حجراته * ولكن حديثا ما حديث الرواحل (2)
كأن دثارا حلقت بلبونه * عقاب تنوفي لا عقاب القواعل (3)
تلعب باعث بجيران خالد * وأودى دثار في الخطوب الأوائل (4)
وأعجبني مشى الحزقة خالد * كمشي أتان حلئت بالمناهل
أبت أجأ أن تسلم العام جارها * فمن شاء فلينهض لها من مقاتل
تبيت لبوني بالقرية أمنا * وأسرحها غبا بأكناف حائل

(1) في الديوان 142: " طريف بن مالك ".
(2) الشعر والخبر في الديوان 94 - 96. والحجرات: النواحي.
(3) اللبون: التي لها ألبان.
(4) باعث: رجل من طئ، وهو ممن أغار عليه.
244

بنو ثعل جيرانها وحماتها * وتمنع من رجال سعد ونائل
تلاعب أولاد الوعول رباعها * دوين السماء في رؤوس المجادل
مكللة حمراء ذات أسرة * لها حبك كأنها من وصائل
دثار: اسم راع كان لامرئ القيس. وتنوفي والقواعل جبال. والحزقة: القصير
الضخم البطن، واللبون: الإبل ذوات الألبان. والقرية: موضع معروف بين الجبلين. وحائل
اسم موضع أيضا وسعد ونائل حيان من طيئ. والرباع: جمع ربع، وهو ما نتج في الربيع
والمجادل: القصور. ومكللة، يرجع إلى المجادل مكللة بالصخر. والأسرة: الطريق وكذلك
الحبك. والوصائل: جمع وصيلة، وهو ثوب أمغر (1) الغزل، فيه خطوط. والنهب: الغنيمة
والجمع النهاب، والانتهاب مصدر انتهبت المال، إذا أبحته يأخذه من شاء، والنهبى: اسم
ما أنهب. وحجراته: نواحيه، الواحدة حجرة، مثل جمرات وجمرة، وصيح في حجراته
صياح الغارة. والرواحل: جمع راحلة، وهي الناقة التي تصلح أن ترحل، أي يشد الرحل
على ظهرها، ويقال للبعير: راحلة. وانتصب " حديثا " بإضمار فعل، أي هات حديثا
أو حدثني حديثا. ويروى: " ولكن حديث " أي ولكن مرادي أو غرضي حديث
فحذف المبتدأ، وما هاهنا، يحتمل أن تكون إبهامية، وهي التي إذا اقترنت باسم نكرة
زادته إبهاما وشياعا، كقولك: أعطني كتابا ما، تريد أي كتاب كان، ويحتمل أن تكون
صلة مؤكدة كالتي في قوله تعالى: (فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله) (2)
فأما " حديث " الثاني فقد ينصب وقد يرفع، فمن نصب أبدله من " حديث " الأول
ومن رفع جاز أن يجعل " ما " موصولة بمعنى " الذي " وصلتها الجملة، أي الذي هو
حديث الرواحل، ثم حذف صدر الجملة كما حذف في (تماما على الذي أحسن) (3)
ويجوز أن تجعل " ما " استفهامية بمعنى " أي ".

(1) المغره: لون يضرب إلى الحمرة.
(2) سورة النساء 155.
(3) سورة الأنعام 154.
245

ثم قال: " وهلم الخطب " هذا يقوى رواية من روى عنه أنه عليه السلام لم يستشهد
إلا بصدر البيت، كأنه قال: دع عنك ما مضى وهلم ما نحن الان فيه من أمر معاوية
فجعل " هلم ما نحن فيه من أمر معاوية " قائما مقام قول امرئ القيس
* ولكن حديثا ما حديث الرواحل *
وهلم، لفظ يستعمل لازما ومتعديا، فاللازم بمعنى " تعال " قال الخليل: أصله
" لم " من قولهم: " لم الله شعثه " أي جمعه كأنه أراد " لم نفسك إلينا " أي اجمعها
وأقرب منا، وجاءت " ها " للتنبيه قبلها، وحذفت الألف لكثرة الاستعمال، وجعلت
الكلمتان كلمة واحدة، يستوي فيها الواحد والاثنان والجمع والمؤنث والمذكر في لغة أهل الحجاز
قال سبحانه: (والقائلين لإخوانهم هلم إلينا) (1) وأهل نجد يصرفونها فيقولون
للاثنين: " هلما " وللجمع: " هلموا " وعلى ذلك. وقد يوصل إذا كان لازما باللام، فيقال:
هلم لك، وهلم لكما، كما قالوا: هيت لك، وإذا قيل لك: هلم إلى كذا أي تعال إليه
قلت: لا أهلم مفتوحة الألف والهاء مضمومة الميم، فأما المتعدية فهي بمعنى " هات "
تقول: هلم كذا وكذا، قال الله تعالى: (هلم شهداءكم) (2) وتقول لمن قال لك
ذلك: لا أهلمه، أي لا أعطيكه، يأتي بالهاء ضمير المفعول ليتميز من الأولى.
يقول عليه السلام: ولكن هات ذكر الخطب، فحذف المضاف، والخطب: الحادث
الجليل، يعنى الأحوال التي أدت إلى أن صار معاوية منازعا في الرياسة، قائما عند كثير
من الناس مقامه، صالحا لأن يقع في مقابلته، وأن يكون ندا له.
ثم قال: " فلقد أضحكني الدهر بعد إبكائه " يشير إلى ما كان عنده من الكآبة
لتقدم من سلف عليه، فلم يقنع الدهر له بذلك، حتى جعل معاوية نظيرا له، فضحك عليه

(1) سورة الأحزاب 18.
(2) سورة الأنعام 150.
246

السلام مما تحكم به الأوقات، ويقتضيه تصرف الدهر وتقلبه، وذلك ضحك
تعجب واعتبار.
ثم قال: " ولا غرو والله " أي ولا عجب والله.
ثم فسر ذلك فقال: يا له خطبا يستفرغ العجب! أي يستنفده ويفنيه، يقول: قد صار
العجب لا عجب، لان هذا الخطب استغرق التعجب، فلم يبق منه ما يطلق عليه لفظ
التعجب، وهذا من باب الإغراق والمبالغة في المبالغة، كما قال أبو الطيب:
أسفى على أسفى الذي دلهتني * عن علمه فبه على خفاء (1)
وشكيتي فقد السقام لأنه * قد كان لما كان لي أعضاء
وقال ابن هانئ المغربي:
قد سرت في الميدان يوم طرادهم * فعجبت حتى كدت ألا أعجبا (2)
والأود: العوج.
ثم ذكر تمالؤ قريش عليه، فقال: حاول القوم إطفاء نور الله من مصباحه، يعنى
ما تقدم من منابذة طلحة والزبير وأصحابهما له، وما شفع ذلك من معاوية وعمرو وشيعتهما.
وفوار الينبوع: ثقب البئر.
قوله: " وجدحوا بيني وبينهم شربا (3) " أي خلطوه ومزجوه وأفسدوه.
والوبئ: ذو الوباء والمرض، وهذا استعارة كأنه جعل الحال التي كانت بينه وبينهم
قد أفسدها القوم وجعلوها مظنة الوباء والسقم كالشرب الذي يخلط بالسم أو بالصبر
فيفسد ويوبئ.

(1) ديوانه 1: 14.
(2) ديوانه 81 (طبعة المعارف).
(3) الشرب: النصيب من الماء.
247

ثم قال: فإن كشف الله تعالى هذه المحن التي يحصل منها ابتلاء الصابرين والمجاهدين
وحصل لي التمكن من الامر، حملتهم على الحق المحض الذي لا يمازجه باطل، كاللبن
المحض الذي لا يخالطه شئ من الماء، وإن تكن الأخرى، أي وإن لم يكشف الله
تعالى هذه الغمة ومت أو قتلت - والأمور على ما هي عليه من الفتنة ودولة الضلال -
فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، والآية من القرآن العزيز (1).
وسألت أبا جعفر يحيى بن محمد العلوي نقيب البصرة وقت قراءتي عليه، عن هذا
الكلام، وكان رحمه الله على ما يذهب إليه من مذهب العلوية منصفا وافر العقل
فقلت له: من يعنى عليه السلام بقوله: " كانت أثرة شحت عليها نفوس قوم، وسخت عنها
نفوس آخرين؟ " ومن القوم الذين عناهم الأسدي بقوله: " كيف دفعكم قومكم عن هذا
المقام وأنتم أحق به "؟ هل المراد يوم السقيفة أو يوم الشورى؟ فقال: يوم السقيفة، فقلت:
إن نفسي لا تسامحني أن أنسب إلى الصحابة عصيان رسول الله صلى الله عليه وآله ودفع
النص. فقال: وأنا فلا تسامحني أيضا نفسي أن أنسب الرسول صلى الله عليه وآله إلى إهمال
أمر الإمامة، وإن يترك الناس فوضى سدى مهملين، وقد كان لا يغيب عن المدينة إلا
ويؤمر عليها أميرا وهو حي ليس بالبعيد عنها، فكيف لا يؤمر وهو ميت لا يقدر على
استدراك ما يحدث!
ثم قال: ليس يشك أحد من الناس أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان عاقلا
كامل العقل، أما المسلمون فاعتقادهم فيه معلوم، وأما اليهود والنصارى والفلاسفة فيزعمون
أنه حكيم تام الحكمة، سديد الرأي، أقام ملة، وشرع شريعة، فاستجد ملكا عظيما
بعقله وتدبيره، وهذا الرجل العاقل الكامل يعرف طباع العرب وغرائزهم وطلبهم بالثارات
والذحول، ولو بعد الأزمان المتطاولة. ويقتل الرجل من القبيلة رجلا من بيت آخر،

(1) سورة فاطر 8.
248

فلا يزال أهل ذلك المقتول وأقاربه يتطلبون القاتل ليقتلوه، حتى يدركوا ثأرهم منه، فإن
لم يظفروا به قتلوا بعض أقاربه وأهله، فإن لم يظفروا بأحدهم قتلوا واحدا أو جماعة من
تلك القبيلة به وإن لم يكونوا رهطه الأدنين. والاسلام لم يحل طبائعهم، ولا غير هذه
السجية المركوزة في أخلاقهم، والغرائز بحالها، فكيف يتوهم لبيب أن هذا العاقل الكامل
وتر العرب، وعلى الخصوص قريشا، وساعده على سفك الدماء وإزهاق الأنفس وتقلد
الضغائن ابن عمه الأدنى وصهره، وهو يعلم أنه سيموت كما يموت الناس، ويتركه بعده
وعنده ابنته، وله منها ابنان يجريان عنده مجرى ابنين من ظهره حنوا عليهما، ومحبة لهما،
ويعدل عنه في الامر بعده، ولا ينص عليه ولا يستخلفه، فيحقن دمه ودم بنيه وأهله
باستخلافه! ألا يعلم هذا العاقل الكامل، إنه إذا تركه وترك بنيه وأهله سوقة ورعية،
فقد عرض دماءهم للإراقة بعده، بل يكون هو عليه السلام هو الذي قتله، وأشاط (1)
بدمائهم، لأنهم لا يعتصمون بعده بأمر يحميهم، وإنما يكونون مضغة للاكل
وفريسة للمفترس، يتخطفهم الناس، وتبلغ فيهم الأغراض! فأما إذا جعل السلطان فيهم
والامر إليهم، فإنه يكون قد عصمهم وحقن دماءهم بالرياسة التي يصولون بها، ويرتدع
الناس عنهم لأجلها. ومثل هذا معلوم بالتجربة. ألا ترى أن ملك بغداد أو غيرها من
البلاد لو قتل الناس ووترهم، وأبقى في نفوسهم الأحقاد العظيمة عليه، ثم أهمل أمر ولده
وذريته من بعده، وفسح للناس أن يقيموا ملكا من عرضهم، وواحدا منهم، وجعل
بنيه سوقة كبعض العامة، لكان بنوه بعده قليلا بقاؤهم، سريعا هلاكهم، ولوثب
عليهم الناس ذوو الأحقاد والترات من كل جهة، يقتلونهم ويشردونهم كل مشرد.
ولو أنه عين ولدا من أولاده للملك، وقام خواصه وخدمه وخوله بأمره بعده، لحقنت دماء أهل

(1) أشاط بدمائهم: أهدرها أو عمل على هلاكها.
249

بيته، ولم تطل يد أحد من الناس إليهم لناموس الملك، وأبهة السلطنة، وقوة الرياسة
وحرمة الامارة.
أفترى ذهب عن رسول الله صلى الله عليه وآله هذا المعنى، أم أحب أن يستأصل
أهله وذريته من بعده وأين موضع الشفقة على فاطمة العزيزة عنده، الحبيبة
إلى قلبه!
أتقول: إنه أحب أن يجعلها كواحدة من فقراء المدينة تتكفف الناس، وأن يجعل
عليا، المكرم المعظم عنده، الذي كانت حاله معه معلومة، كأبي هريرة الدوسي وأنس
ابن مالك الأنصاري، يحكم الامراء في دمه وعرضه ونفسه وولده، فلا يستطيع الامتناع
وعلى رأسه مائة ألف سيف مسلول، تتلظى أكباد أصحابها عليه، ويودون أن يشربوا دمه
بأفواههم، ويأكلوا لحمه بأسنانهم، قد قتل أبناءهم وإخوانهم وآباءهم وأعمامهم، والعهد
لم يطل، والقروح لم تتقرف (1) والجروح لم تندمل!
فقلت له: لقد أحسنت فيما قلت ة إلا أن لفظه عليه السلام يدل على أنه لم يكن
نص عليه، ألا تراه يقول: " ونحن الأعلون نسبا، والأشدون بالرسول نوطا " فجعل
الاحتجاج بالنسب وشدة القرب، فلو كان عليه نص، لقال عوض ذلك: " وأنا المنصوص
على، المخطوب باسمي ".
فقال رحمه الله: إنما أتاه من حيث يعلم، لا من حيث يجهل، ألا ترى أنه سأله،
فقال: كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام، وأنتم أحق به؟ فهو إنما سأل عن دفعهم عنه، وهم
أحق به من جهة اللحمة والعترة، ولم يكن الأسدي يتصور النص ولا يعتقده، ولا يخطر
بباله، لأنه لو كان هذا في نفسه، لقال له: لم دفعك الناس عن هذا المقام، وقد نص عليك
رسول الله صلى الله عليه وآله؟ ولم يقل له هذا، وإنما قال كلاما عاما لبني هاشم كافة:

(1) تقرف الجرح: طلعت فوقه قشرة، أي شارف البرء.
250

كيف دفعكم قومكم عن هذا وأنتم أحق به! أي باعتبار الهاشمية والقربى. فأجابه بجواب
أعاد قبله المعنى الذي تعلق به الأسدي بعينه، تمهيدا للجواب، فقال: إنما فعلوا ذلك مع
أنا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله من غيرنا لأنهم استأثروا علينا، ولو قال له:
أنا المنصوص على، والمخطوب باسمي في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله، لما كان
قد أجابه، لأنه ما سأله: هل أنت منصوص عليك أم لا؟ ولا هل نص رسول الله صلى الله عليه
وآله بالخلافة على أحد أم لا؟ وإنما قال: لم دفعكم قومكم عن الامر وأنتم أقرب إلى
ينبوعه ومعدنه منهم؟ فأجابه جوابا ينطبق على السؤال ويلائمه أيضا، فلو أخذ يصرح له
بالنص، ويعرفه تفاصيل باطن الامر لنفر عنه، واتهمه ولم يقبل قوله، ولم ينجذب إلى
تصديقه، فكان أولى الأمور في حكم السياسة وتدبير الناس، أن يجيب بما لا نفرة منه
ولا مطعن عليه فيه.
251

(164) الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام:
الحمد لله خالق العباد، وساطح المهاد، ومسيل الوهاد، مخصب النجاد
ليس لأوليته ابتداء، ولا لأزليته انقضاء، هو الأول ولم يزل، والباقي بلا أجل
خرت له الجباه، ووحدته الشفاه. حد الأشياء عند خلقه لها إبانة له من شبهها
لا تقدره الأوهام بالحدود والحركات، ولا بالجوارح والأدوات، لا يقال له: " متى "؟
ولا يضرب له أمد ب‍ " حتى " الظاهر لا يقال: " مم "؟ والباطن لا يقال: " فيم "؟
لا شبح فيتقصى، ولا محجوب فيحوى. لم يقرب من الأشياء بالتصاق، ولم
يبعد عنها بافتراق، ولا يخفى عليه من عباده شخوص لحظة، ولا كرور لفظة
ولا ازدلاف ربوة، ولا انبساط خطوة. في ليل داج، ولا غسق ساج، يتفيأ
عليه القمر المنير، وتعقبه الشمس ذات النور في الأفول والكرور، وتقليب الأزمنة
والدهور، من إقبال ليل مقبل، وإدبار نهار مدبر.
قبل كل غاية ومدة، وكل إحصاء وعدة، تعالى عما ينحله المحددون من
صفات الاقدار، ونهايات الأقطار، وتأثل المساكن، وتمكن الأماكن. فالحد لخلقه
مضروب، وإلى غيره منسوب.
لم يخلق الأشياء من أصول أزلية، ولا من أوائل أبدية، بل خلق ما خلق فأقام
252

حده، وصور ما صور فأحسن صورته.
ليس لشئ منه امتناع، ولا له بطاعة شئ انتفاع. علمه بالأموات الماضين
كعلمه بالاحياء الباقين، وعلمه بما في السماوات العلا كعلمه بما في الأرضين السفلى.
* * *
الشرح:
المهاد هنا: هو الأرض، وأصله الفراش: وساطحه: باسطه، ومنه تسطيح القبور خلاف
تسنيمها، ومنه أيضا المسطح، للموضع الذي يبسط فيه التمر ليجفف.
والوهاد: جمع وهدة، وهي المكان المطمئن. ومسيلها: مجرى السيل فيها. والنجاد:
جمع نجد، وهو ما ارتفع من الأرض. ومخصبها: مروضها وجاعلها ذوات خصب.
* * *
[مباحث كلامية]
واعلم أنه عليه السلام أورد في هذه الخطبة ضروبا من علم التوحيد، وكلها مبنية على
ثلاثة أصول:
الأصل الأول: أنه تعالى واجب الوجود لذاته، ويتفرع على هذا الأصل فروع:
أولها: أنه ليس لأوليته ابتداء، لأنه لو كان لأوليته ابتداء، لكان محدثا، ولا شئ من
المحدث بواجب الوجود، لان معنى واجب الوجود، أن ذاته لا تقبل العدم، ويستحيل
الجمع بين قولنا: هذه الذات محدثة، أي كانت معدومة من قبل، وهي في حقيقتها
لا تقبل العدم.
253

وثانيها: أنه ليس لأزليته انقضاء، لأنه لو صح عليه العدم لكان لعدمه سبب،
فكان وجوده موقوفا على انتفاء سبب عدمه، والمتوقف على غيره، يكون ممكن الذات،
فلا يكون واجب الوجود. وقوله عليه السلام: " هو الأول لم يزل، والباقي بلا أجل "
تكرار لهذين المعنيين السابقين على سبيل التأكيد، ويدخل فيه أيضا قوله: " لا يقال له
متى، ولا يضرب له أمد بحتى "، لان " متى " للزمان وواجب الوجود يرتفع عن الزمان،
و " حتى " للغاية وواجب الوجود لا غاية له: ويدخل أيضا فيه قوله: " قبل كل غاية ومدة
وكل إحصاء وعدة ".
وثالثها: أنه لا يشبه الأشياء البتة، لان ما عداه إما جسم أو عرض أو مجرد، فلو أشبه
الجسم أو العرض لكان إما جسما أو عرضا، ضرورة تساوى المتشابهين المتماثلين في حقائقهما.
ولو شابه غيره من المجردات - مع أن كل مجرد غيره ممكن - لكان ممكنا، وليس
واجب الوجود بممكن، فيدخل في هذا المعنى قوله عليه السلام: " حد الأشياء عند خلقه
لها، إبانة له من شبهها " أي جعل المخلوقات ذوات حدود ليتميز هو سبحانه عنها،
إذ لأحد له، فبطل أن يشبهه شئ منها. ودخل فيه قوله عليه السلام: " لا تقدره الأوهام
بالحدود والحركات، ولا بالجوارح ". والأدوات: جمع أداة وهي ما يعتمد به ودخل فيه
قوله: " الظاهر فلا يقال: مم "؟ أي لا يقال: من أي شئ ظهر، و " الباطن فلا يقال: " فيم "
أي لا يقال فيما ذا بطن؟ ويدخل فيه قوله: " لا شبح فيقتضى " والشبح: الشخص
ويتقصى يطلب أقصاه. ويدخل فيه قوله: " ولا محجوب فيحوى "، وقوله: " لم يقرب
من الأشياء بالتصاق، ولم يبعد عنها بافتراق " لأن هذه الأمور كلها من خصائص الأجسام
وواجب الوجود لا يشبه الأجسام ولا يماثلها. ويدخل فيه قوله عليه السلام: " تعالى عما ينحله
المحددون من صفات الاقدار " أي ما ينسبه إليه المشبهة والمجسمة من صفات المقادير
وذوات المقادير.
254

ونهايات الأقطار، أي الجوانب. وتأثل المساكن، مجد مؤثل، أي أصيل وبيت
مؤثل، أي معمور، وكان أصل الكلمة أن تبنى الدار بالأثل، وهو شجر معروف
وتمكن الأماكن: ثبوتها واستقرارها. وقوله: " فالحمد لخلقه مضروب، وإلى غيره
منسوب " وقوله: " ولا بطاعة شئ انتفاع " لأنه إنما ينتفع الجسم الذي يصح عليه
الشهوة والنفرة، كل هذا داخل تحت هذا الوجه.
* * *
الأصل الثاني: أنه تعالى عالم لذاته، فيعلم كل معلوم، ويدخل تحت هذا الأصل
قوله عليه السلام: " لا تخفى عليه من عباده شخوص لحظة " أن تسكن العين
فلا تتحرك. ولا كرور لفظة، أي رجوعها. ولا ازدلاف ربوة، صعود إنسان أو حيوان
ربوة من الأرض، وهي الموضع المرتفع. ولا انبساط خطوة. في ليل داج. أي مظلم.
ولا غسق ساج، أي ساكن.
ثم قال: " يتفيأ عليه القمر المنير " هذا من صفات الغسق ومن تتمة نعته،
ومعنى: " يتفيأ عليه " يتقلب ذاهبا وجائيا في حالتي أخذه في الضوء إلى التبدر، وأخذه في
النقص إلى المحاق.
وقوله: " وتعقبه " أي وتتعقبه، فحذف إحدى التاءين، كما قال سبحانه: (الذين
توفاهم الملائكة) (1) أي " تتوفاهم " والهاء في " وتعقبه " ترجع إلى القمر، أي
وتسير الشمس عقبه في كروره. وأفوله، أي غيبوبته، وفى تقليب الأزمنة والدهور، من
إقبال لليل وإدبار نهار.

(1) سورة النساء 97.
255

فإن قلت: إذا كان قوله: " يتفيأ عليه القمر المنير " في موضع جر، لأنه صفة
" غسق "، فكيف تتعقب الشمس والقمر مع وجود الغسق؟ وهل يمكن اجتماع
الشمس والغسق.
قلت: لا يلزم من تعقب الشمس للقمر ثبوت الغسق. بل قد يصدق تعقبها له
ويكون الغسق معدوما، كأنه عليه السلام قال: " لا يخفى على الله حركة في نهار
ولا ليل، يتفيأ عليه القمر، وتعقبه الشمس " أي تظهر عقيبه، فيزول الغسق بظهورها.
وهذا التفسير الذي فسرناه يقتضى أن يكون حرف الجر وهو " في " التي في قوله:
" في الكرور " متعلقا بمحذوف، ويكون موضعه نصبا على الحال، أي وتعقبه كارا
وآفلا. ويدخل تحته أيضا قوله عليه السلام: " علمه بالأموات الماضين، كعلمه بالاحياء
الباقين، وعلمه بما في السماوات العلا، كعلمه بما في الأرضين السفلى ".
* * *
الأصل الثالث: أنه تعالى قادر لذاته، فكان قادرا على كل الممكنات، ويدخل تحته
قوله: " لم يخلق الأشياء من أصول أزلية، ولا من أوائل أبدية، بل خلق ما خلق فأقام
حده، وصور ما صور فأحسن صورته " والرد في هذا على أصحاب الهيولي والطينة التي
يزعمون قدمها. ويدخل تحته قوله: " ليس لشئ امتناع " لأنه متى أراد إيجاد شئ
أوجده، ويدخل تحته قوله: " خرت له نحباه " أي سجدت. و " وحدته الشفاه " يعنى
الأفواه، فعبر بالجزء عن الكل مجازا، وذلك لان القادر لذاته هو المستحق للعبادة
لخلقه أصول النعم. كالحياة والقدرة والشهوة.
* * *
واعلم أن هذا الفن هو الذي بان به أمير المؤمنين عليه السلام عن العرب في زمانه قاطبة
256

واستحق به التقدم والفضل عليهم أجمعين، وذلك لان الخاصة التي يتميز بها الانسان
عن البهائم هي العقل والعلم، ألا ترى أنه يشاركه غيره من الحيوانات في اللحمية والدموية
والقوة والقدرة، والحركة الكائنة على سبيل الإرادة والاختيار، فليس الامتياز إلا بالقوة
الناطقة، أي العاقلة العالمة، فكلما كان الانسان أكثر حظا منها، كانت إنسانيته أتم
ومعلوم أن هذا الرجل انفرد بهذا الفن، وهو أشرف العلوم، لان معلومه أشرف المعلومات،
ولم ينقل عن أحد من العرب غيره في هذا الفن حرف واحد، ولا كانت أذهانهم تصل
إلى هذا، ولا يفهمونه بهذا الفن فهو (1) منفرد فيه، وبغيره من الفنون - وهي العلوم الشرعية -
مشارك لهم، وراجح (2) عليهم، فكان أكمل منهم، لأنا قد بينا أن الأعلم أدخل في صورة
الانسانية، وهذا هو معنى الأفضلية.
* * *
الأصل:
منها:
أيها المخلوق السوي، والمنشأ المرعى في ظلمات الأرحام ومضاعفات الأستار.
بدئت من سلالة من طين، ووضعت في قرار مكين، إلى قدر معلوم، وأجل
مقسوم، تمور في بطن أمك جنينا لا تحير دعاء، ولا تسمع نداء. ثم أخرجت من
مقرك إلى دار لم تشهدها، ولم تعرف سبل منافعها، فمن هداك لاجترار الغذاء من
ثدي أمك، وحرك عند الحاجة مواضع طلبك وإرادتك!
هيهات! إن من يعجز عن صفات ذي الهيئة والأدوات، فهو عن صفات خالقه
أعجز، ومن تناوله بحدود المخلوقين أبعد.
* * *

(1) ساقطة من ب.
(2) ا، ب: " وأرجح " وما أثبته من ج، د
257

الشرح:
السوي: المستوى الخلقة غير ناقص، قال سبحانه: (فتمثل لها بشرا سويا) (1)
والمنشأ، مفعول من " أنشأ " أي خلق ووجد. والمرعى: المحوط المحفوظ.
وظلمات الأرحام، ومضاعفات الأستار: مستقر النطف، والرحم موضوعة فيما بين
المثانة والمعى المستقيم، وهي مربوطة برباطات على هيئة السلسة، وجسمها عصبي، ليمكن
امتدادها واتساعها وقت الحاجة إلى ذلك عند الولادة، وتنضم وتتقلص إذا استغنى عن
ذلك، ولها بطنان ينتهيان إلى فم واحد، وزائدتان يسميان قريني الرحم، وخلف هاتين
الزائدتين بيضتا المرأة، وهما أصغر من بيضتي الرجل، وأشد تفرطحا، ومنهما ينصب منى
المرأة إلى تجويف الرحم، وللرحم رقبة منتهية إلى فرج المرأة، وتلك الرقبة من المرأة
بمنزلة الذكر من الرجل، فإذا امتزج منى الرجل بمنى المرأة في تجويف الرحم كان العلوق
ثم ينمى ويزيد من دم الطمث، ويتصل بالجنين عروق تأتى إلى الرحم فتغذوه، حتى يتم
ويكمل، فإذا تم لم يكتف بما تحته من تلك العروق فيتحرك حركات قوية، طلبا للغذاء
فتنهتك أربطة الرحم التي قلنا إنها على هيئة السلسلة، وتكون منها الولادة.
قوله: " بدئت من سلالة من طين " أي كان ابتداء خلقك من سلالة، وهي
خلاصة الطين، لأنها سلت من بين الكدر، و " فعالة " بناء للقلة، كالقلامة والقمامة.
وقال الحسن: هي ما بين ظهراني الطين.
ثم قال: " ووضعت في قرار مكين " الكلام الأول لآدم الذي هو أصل البشر
والثاني لذريته، والقرار المكين: الرحم متمكنة في موضعها برباطاتها، لأنها لو كانت متحركة
لتعذر العلوق.

(1) سورة مريم 19.
258

ثم قال: " إلى قدر معلوم، وأجل مقسوم " إلى متعلقة بمحذوف، كأنه
قال: " منتهيا إلى قدر معلوم " أي مقدارا طوله وشكله إلى أجل مقسوم
مدة حياته.
ثم قال: " تمور في بطن أمك " أي تتحرك. لا تحير، أي لا ترجع جوابا
أحار يحير.
إلى دار لم تشهدها، يعنى الدنيا، ويقال: أشبه شئ بحال الانتقال من الدنيا إلى
الأحوال التي بعد الموت، انتقال الجنين من ظلمة الرحم إلى فضاء الدنيا، فلو كان الجنين
يعقل ويتصور كان يظن أنه لا دار له إلا الدار التي هو فيها، ولا يشعر بما وراءها
ولا يحس بنفسه إلا وقد حصل في دار لم يعرفها، ولا تخطر بباله، فبقي هو كالحائر المبهوت
وهكذا حالنا في الدنيا إذا شاهدنا ما بعد الموت.
ولقد أحسن ابن الرومي في صفة خطوب الدنيا وصروفها بقوله:
لما تؤذن الدنيا به من صروفها * يكون بكاء الطفل ساعة يولد (1)
وإلا فما يبكيه منها وإنها * لأوسع مما كان فيه وأرغد!
إذا أبصر الدنيا استهل كأنه * بما سوف يلقى من أذاها يهدد
قال: " فمن هداك إلى اجترار الغذاء من ثدي أمك؟ "، اجترار: امتصاص اللبن من
الثدي، وذلك بالإلهام الإلهي.
قال: " وعرفك عند الحاجة "، أي أعلمك بموضع الحلمة عند طلبك الرضاع
فالتقمتها بفمك.

(1) ديوانه الورقة 65 (مخطوطة دار الكتب المصرية - 139 أدب.
259

ثم قال: " هيهات " أي بعد أن يحيط علما بالخالق من عجز عن معرفة المخلوق!
قال الشاعر:
رأيت الورى يدعون الهدى * وكم يدعى الحق خلق كثير
وما في البرايا امرؤ عنده * من العلم بالحق إلا اليسير
خفى فما ناله ناظر * وما إن أشار إليه مشير
ولا شئ أظهر من ذاته * وكيف يرى الشمس أعمى ضرير!
260

(165)
الأصل:
ومن كلام له عليه السلام لعثمان بن عفان قالوا: لما اجتمع الناس إلى أمير
المؤمنين عليه السلام، وشكوا إليه ما نقموه على عثمان، وسألوه مخاطبته عنهم واستعتابه
لهم، فدخل عليه السلام على عثمان فقال:
إن الناس ورائي وقد استسفروني بينك وبينهم، ووالله ما أدرى ما أقول لك!
ما أعرف شيئا تجهله، ولا أدلك على أمر لا تعرفه!
إنك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك إلى شئ فنخبرك عنه، ولا خلونا بشئ
فنبلغكه، وقد رأيت كما رأينا، وسمعت كما سمعنا، وصحبت رسول الله صلى الله
عليه وسلم كما صحبنا. وما ابن أبي قحافة ولا ابن الخطاب بأولى بعمل الخير (1) منك
وأنت أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشيجة رحم منهما، وقد نلت من
صهره ما لم ينالا، فالله الله في نفسك فإنك والله ما تبصر من عمى، ولا تعلم من
جهل، وإن الطرق لواضحة، وإن أعلام الدين لقائمة.
فاعلم أن أفضل عباد الله عند الله إمام عادل، هدى وهدى، فأقام سنة معلومة
وأمات بدعة مجهولة، وإن السنن لنيرة لها أعلام، وإن البدع لظاهرة لها أعلام
وإن شر الناس عند الله إمام جائر ضل وضل به، فأمات سنة مأخوذة، وأحيا
بدعة متروكة، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يؤتى يوم القيامة
بالامام الجائر، وليس معه نصير ولا عاذر، فيلقى في نار جهنم، فيدور فيها كما
تدور الرحى، ثم يرتبط في قعرها.

(1) د: " الحق "
261

وإني أنشدك الله أن تكون إمام هذه الأمة المقتول! فإنه كان يقال: يقتل
في هذه الأمة إمام يفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة، ويلبس أمورها عليها
ويبث الفتن فيها، فلا يبصرون الحق من الباطل، يموجون فيها موجا، ويمرجون
فيها مرجا. فلا تكونن لمروان سيقة يسوقك حيث شاء بعد جلال السنن،
وتقضى العمر.
فقال له عثمان رضي الله عنه:
كلم الناس في أن يؤجلوني، حتى أخرج إليهم من مظالمهم.
فقال عليه السلام:
ما كان بالمدينة فلا أجل فيه، وما غاب فأجله وصول أمرك إليه.
* * *
الشرح:
نقمت على زيد بالفتح، أنقم فأنا ناقم، إذا عتبت عليه. وقال الكسائي: نقمت
بالكسر أيضا، أنقم لغة، وهذه اللفظة تجئ لازمة ومتعدية، قالوا: نقمت الامر
أي كرهته.
واستعتبت فلانا، طلبت منه العتبى وهي الرضا، واستعتابهم عثمان طلبهم منه
ما يرضيهم عنه.
واستسفروني: جعلوني سفيرا ووسيطا بينك وبينهم.
ثم قال له وأقسم على ذلك: إنه لا يعلم ماذا يقول له! لأنه لا يعرف أمرا يجهله
أي من هذه الاحداث خاصة. وهذا حق، لان عليا عليه السلام لم يكن يعلم منها ما يجهله
262

عثمان، بل كان أحداث الصبيان، فضلا عن العقلاء المميزين، يعلمون وجهي الصواب
والخطأ فيها.
ثم شرع معه في مسلك الملاطفة والقول اللين، فقال: ما سبقنا إلى الصحبة
ولا انفردنا بالرسول دونك، وأنت مثلنا ونحن مثلك.
ثم خرج إلى ذكر الشيخين، فقال قولا معناه أنهما ليسا خيرا منك، فإنك مخصوص
دونهما بقرب النسب، يعنى المنافية وبالصهر، وهذا كلام هو موضع المثل: " يسرحسوا
في ارتغاء " ومراده تفضيل نفسه عليه السلام، لان العلة التي باعتبارها فضل
عثمان عليهما محققة فيه وزيادة، لان له مع المنافية الهاشمية، فهو أقرب.
والوشيجة: عروق الشجرة. ثم حذره جانب الله تعالى ونبهه على أن الطريق واضحة
وأعلام الهدى قائمة، وأن الإمام العادل أفضل الناس عند الله، وأن الامام الجائر شر الناس
عند الله.
ثم روى له الخبر المذكور، وروى: " ثم يرتبك في قعرها " أي ينشب.
وخوفه أن يكون الامام المقتول الذي يفتح الفتن بقتله، وقد كان رسول الله صلى الله
عليه وآله قال كلاما هو هذا، أو يشبه هذا.
ومرج الدين، أي فسد. والسيقة: ما استاقه العدو من الدواب، مثل الوسيقة
قال الشاعر:
فما أنا إلا مثل سيقة العدا * إن استقدمت بحر وإن جبأت عقر (1)
والجلال، بالضم: الجليل كالطوال والطويل، أي بعد السن الجليل، أي
العمر الطويل.

(1) اللسان 12: 33 من غير نسبة.
263

وقوله: " ما كان بالمدينة فلا أجل فيه، وما غاب فأجله وصول أمرك إليه " كلام شريف
فصيح، لان الحاضر أي معنى لتأجيله! والغائب فلا عذر بعد وصول الامر في تأخيره، لان
السلطان لا يؤخر أمره.
وقد ذكرنا من الاحداث التي نقمت على عثمان فيما تقدم ما فيه كفاية، وقد ذكر
أبو جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله في التاريخ الكبير (1) هذا الكلام، فقال:
أن نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله تكاتبوا، فكتب بعضهم إلى بعض:
أن اقدموا، فإن الجهاد بالمدينة لا بالروم، واستطال الناس على عثمان، ونالوا منه، وذلك
في سنة أربع وثلاثين، ولم يكن أحد من الصحابة يذب عنه ولا ينهى، إلا نفر، منهم
زيد بن ثابت، وأبو أسيد الساعدي، وكعب بن مالك، وحسان بن ثابت، فاجتمع
الناس، فكلموا علي بن أبي طالب عليه السلام وسألوه أن يكلم عثمان، فدخل عليه
وقال له: إن الناس... وروى الكلام إلى آخره بألفاظه، فقال عثمان: وقد (2 علمت أنك
لتقولن 2) ما قلت! أما والله لو كنت مكاني ما عنفتك، ولا عتبت عليك (3) ولم آت
منكرا، إنما وصلت رحما، وسددت خلة، وآويت ضائعا، ووليت شبيها بمن كان
عمر يوليه، أنشدك الله يا علي، ألا تعلم (4) أن المغيرة بن شعبة ليس هناك! قال: بلى قال:
أفلا تعلم أن عمر ولاه! قال: بلى، قال فلم تلومني أن وليت ابن عامر في رحمه وقرابته!
فقال علي عليه السلام: إن عمر كان يطأ على صماخ من يوليه، ثم يبلغ منه إن
أنكر منه أمرا أقصى العقوبة وأنت فلا تفعل، ضعفت ورققت على أقربائك.

(1) تاريخ الطبري 5: 96، 97 (الحسينية).
(2 - 2) الطبري: " قدو الله علمت ليقولن الذي قلت ".
(3) الطبري: " ما عنفتك. لا أسلمتك ".
(4) الطبري: " هل تعلم ".
264

[قال عثمان: هم أقرباؤك أيضا، فقال على: لعمري إن رحمهم منى لقريبة ولكن
الفضل في غيرهم] (1).
فقال عثمان: أفلا تعلم أن عمر ولى معاوية! فقد وليته. قال على: أنشدك الله ألا تعلم
أن معاوية كان أخوف لعمر من يرفأ غلامه له؟ قال: بلى، قال: فأن معاوية يقطع الأمور
دونك ويقول للناس: هذا بأمر عثمان وأنت تعلم ذلك فلا تغير عليه!
ثم قام على، فخرج عثمان على أثره، فجلس على المنبر، فخطب الناس، وقال: أما بعد
فأن لكل شئ آفة، ولكل أمر عاهة، وإن آفة هذه الأمة، وعاهة هذه النعمة عيابون طعانون
يرونكم ما تحبون، ويسرون عنكم ما تكرهون، يقولون لكم وتقولون، أمثال النعام يتبع
أول ناعق أحب مواردها إليها البعيد، لا يشربون إلا نغصا ولا يردون إلا عكرا.
أما والله لقد عبتم على ما أقررتم لابن الخطاب بمثله، ولكنه وطأكم برجله، وضربكم
بيده، وقمعكم بلسانه، فدنتم له على ما أحببتم وكرهتم، ولنت لكم، وأوطأتكم كتفي
وكففت يدي ولساني عنكم، فاجترأتم على. أما والله لأنا أقرب ناصرا وأعز نفرا
وأكثر عددا، وأحرى إن قلت: هلم أن يجاب صوتي. ولقد أعددت لكم أقرانا
وكشرت لكم عن نابي، وأخرجتم منى خلقا لم أكن أحسنه، ومنطقا لم أكن أنطق به.
فكفوا عنى ألسنتكم وطعنكم وعيبكم على ولاتكم، فما الذي تفقدون من حقكم!
والله ما قصرت عن بلوغ من كان قبلي [يبلغ (1)] وما وجدتكم تختلفون عليه، فما بالكم!
فقام مروان بن الحكم فقال: وإن شئتم حكمنا بيننا وبينكم السيف.
فقال عثمان: اسكت لا سكت! دعني وأصحابي، ما منطقك في هذا! ألم أتقدم (2)
إليك ألا تنطق!
فسكت مروان، ونزل عثمان.

(1) من الطبري.
(2) تقدم إليه: أمره.
265

(166)
الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام يذكر فيها عجيب خلقة الطاوس:
ابتدعهم خلقا عجيبا من حيوان وموات، وساكن وذي حركات. وأقام من
شواهد البينات على لطيف صنعته، وعظيم قدرته، ما انقادت له العقول معترفة به
ومسلمة له، ونعقت في أسماعنا دلائله على وحدانيته، وما ذرأ من مختلف صور.
الأطيار التي أسكنها أخاديد الأرض، وخروق فجاجها. ورواسي أعلامها، من ذات
أجنحة مختلفة، وهيئات متباينة، مصرفة في زمام التسخير، ومرفرفة بأجنحتها في
مخارق الجو المنفسح، والقضاء المنفرج.
كونها بعد أذلم تكن، في عجائب صور ظاهرة وركبها في حقاق مفاصل
محتجبة، ومنع بعضها بعبالة خلقه أن يسمو في الهواء خفوفا، وجعله يدف دفيفا
ونسقها على اختلافها في الأصابيغ بلطيف قدرته، ودقيق صنعته، فمنها مغموس في
قالب لون لا يشوبه غير لون ما غمس فيه، ومنها مغموس في لون صبغ قد طوق
بخلاف ما صبغ به.
* * *
الشرح:
الموات، بالفتح: مالا حياة فيه. وأرض موات، أي قفر، والساكن هاهنا، كالأرض
والجبال. وذو الحركات: كالنار والماء الجاري والحيوان.
266

ونعقت في أسماعنا دلائله، أي صاحت دلائله، لظهورها كالأصوات المسموعة
التي تعلم يقينا.
وأخاديد الأرض: شقوقها، جمع أخدود. وفجاجها: جمع فج، وهو الطريق بين الجبلين.
ورواسي أعلامها: أثقال جبالها.
مصرفة في زمام التسخير، أي هي مسخرة تحت القدرة الإلهية.
وحقاق المفاصل: جمع حق، وهو مجمع المفصلين من الأعضاء كالركبة، وجعلها محتجبة
لأنها مستورة بالجلد واللحم.
وعبالة الحيوان: كثافة جسده. والخفوف: سرعة الحركة. والدفيف للطائر: طيرانه
فويق الأرض، يقال: عقاب دفوف. قال امرؤ القيس يصف فرسه ويشبهها بالعقاب
كأني بفتخاء الجناحين لقوة * دفوف من العقبان طأطأت شملالي (1)
ونسقها: رتبها. والأصابيغ: جمع أصباغ، وأصباغ جمع صبغ.
والمغموس الأول: هو ذو اللون الواحد كالأسود والأحمر. والمغموس الثاني: ذو اللونين
نحو أن يكون أحمر وعنقه خضراء.
وروى: " قد طورق لون " أي لون على لون، كما تقول: طارقت بين الثوبين.
فإن قلت: ما هذه الطيور التي يسكن بعضها الأخاديد وبعضها الفجاج، وبعضها
رؤوس الجبال؟
قلت: أما الأول فكالقطا والصدا (2) والثاني كالقبج (3) والطيهوج (4) والثالث
كالصقر والعقاب.
* * *

(1) ديوانه 38. الفتخاء: اللينة الجناحين. واللقوة: السريعة من العقيان. وطأطأت: دانيت.
وخفضت. والشملال: الخفيفة السريعة.
(2) الصدا: ذكر البوم.
(3) القبج، واحده القبجة، وهي أنثى الحجل.
(4) الطيهوج: طائر شبيه بالحجل الصغير، غير أن عنقه أحمر ومنقاره ورجلاه حمر.
267

الأصل:
ومن أعجبها خلقا الطاوس، الذي أقامه في أحسن تعديل، ونضد ألوانه في
أحسن تنضيد، بجناح أشرج قصبه، وذنب أطال مسحبه، إذا درج إلى الأنثى
نشره من طيه، وسما به مطلا على رأسه، كأنه قلع داري عنجه نؤتيه. يختال
بألوانه، ويميس بزيفانه. يفضي كإفضاء الديكة ويؤر بملاقحه أر الفحول
المغتلمة للضراب. أحيلك من ذلك على معاينة، لا كمن يحيل على ضعيف إسناده.
ولو كان كزعم من يزعم أنه يلقح بدمعة تسفحها مدامعه، فتقف في ضفتي جفونه
وأن أنثاه تطعم ذلك، ثم تبيض لا من لقاح فحل سوى الدمع المنبجس، لما كان
ذلك بأعجب من مطاعمة الغراب!
* * *
الشرح:
الطاوس: فاعول، كالهاضوم والكابوس، وترخيمه " طويس ": ونضد: رتب.
قوله: " أشرج قصبه " القصب هاهنا: عروق الجناح. وغضاريفه: عظامه الصغار
وأشرجها: ركب بعضها في بعض كما تشرج العيبة، أي يداخل بين أشراجها وهي عراها
واحدها، شرج بالتحريك.
ثم ذكر ذنب الطاوس، وأنه طويل المسحب، وأن الطاوس إذا درج إلى الأنثى
للسفاد نشر ذنبه من طيه، وعلا به مرتفعا على رأسه. والقلع: شراع السفينة، وجمعه
قلاع. والداري: جالب العطر في البحر من دارين، وهي فرضة بالبحرين، فيها
سوق يحمل إليها المسك من الهند، وفى الحديث: " الجليس الصالح كالداري، إن لم يحذك
من عطره علقك من ريحه " (1). قال الشاعر:

(1) نهاية ابن الأثير 1: 211. لم يحذك: لم يعطك.
268

إذا التاجر الداري جاء بفأرة * من المسك راحت في مفارقهم تجرى
والنوتي: الملاح، وجمعه نواتي.
وعنجه: عطفه، وعنجت خطام البعير، رددته على رجليه، أعنجه بالضم، والاسم
العنج، بالتحريك، وفى المثل " عود يعلم العنج (1) " يضرب مثلا لتعليم الحاذق.
ويختال، من الخيلاء وهي العجب. ويميس: يتبختر.
وزيفانه: تبختره، زاف يزيف، ومنه ناقة زيافة، أي مختالة، قال عنترة:
* زيافة مثل الفنيق المكدم (2)
وكذلك ذكر الحمام عند الحمامة إذا جر الذنابى، ودفع مقدمه بمؤخره واستدار عليها.
ويفضي: يسفد، والديكة جمع ديك، كالقرطة والجحرة جمع قرط وجحر.
ويؤر: يسفد، والأر الجماع، ورجل آر كثير الجماع، وملاقحه: أدوات اللقاح
وأعضاؤه، وهي آلات التناسل.
قوله: " أر الفحول " أي أزا مثل أر الفحول ذات الغلمة والشبق.
ثم ذكر أنه لم يقل ذلك عن إسناد قد يضعف ويتداخله الطعن، بل قال ذلك عن
عيان ومشاهدة.

(1) العود: البعير المسن، وانظر مجمع الأمثال 1: 12.
(2) من المعلقة - بشرح التبريزي، وصدره: * ينباع من ذفري غضوب جسرة *
ينباع: ينفعل من باع يبوع، إذا مرمرا لينا. والذفربان: الحيدان الناتئان بين الاذن ومنتهى الشعر.
والجسرة: الضخمة. والزيافة: المسرعة. والفنيق: الفحل، والمكدم، من الكدم وهو العض. (من
شرح التبريزي).
269

فإن قلت: من أين للمدينة طواويس؟ وأين العرب وهذا الطائر حتى يقول
أمير المؤمنين عليه السلام: " أحيلك من ذلك على معاينة " لا سيما وهو يعنى السفاد، ورؤية
ذلك لمن تكثر الطواويس في داره ويطول مكثها عنده نادرة!
قلت: لم يشاهد أمير المؤمنين عليه السلام الطواويس بالمدينة بل بالكوفة، وكانت
يومئذ تجبى إليها ثمرات كل شئ، وتأتي إليها هدايا الملوك من الآفاق، ورؤية المسافدة مع
وجود الذكر والأنثى غير مستبعدة.
* * *
واعلم أن قوما زعموا أن الذكر تدمع عينه، فتقف الدمعة بين أجفانه، فتأتي الأنثى
فتطعمها فتلقح من تلك الدمعة، وأمير المؤمنين عليه السلام لم يحل ذلك، ولكنه قال:
ليس بأعجب من مطاعمة الغراب، والعرب تزعم أن الغراب لا يسفد ومن أمثالهم: " أخفى
من سفاد الغراب " فيزعمون أن اللقاح من مطاعمة الذكر والأنثى منهما، وانتقال جزء من
الماء الذي في قانصته إليها من منقاره. وأما الحكماء فقل أن يصدقوا بذلك، على أنهم
قد قالوا في كتبهم ما يقرب من هذا، قالوا في السمك البياض: إن سفاده خفى جدا، وإنه لم
يظهر ظهورا يعتد به ويحكم بسببه.
هذا لفظ ابن سينا في كتاب " الشفاء " ثم قال: والناس يقولون: إن الإناث تأخذ
زرع الذكور في أفواهها إلى بطونها، ثم قال: وقد شوهدت الإناث منها تتبع الذكور مبتلعة
للزرع، وأما عند الولادة فإن الذكور تتبع الإناث مبتلعة بيضها.
قال ابن سينا: والقبجة تحبلها ريح تهب من ناحية الحجل الذكر، ومن سماع صوته.
قال: والنوع المسمى مالاقيا، تتلاصق بأفواهها، ثم تتشابك، فذاك سفادها، وسمعت
270

أنا أن الغراب يسفد وأنه قد شوهد سفاده، ويقول الناس: إن من شاهد سفاد الغراب
يثري ولا يموت إلا وهو كثير المال موسر.
والضفتان، بفتح الضاد: الجنابان، وهما ضفتا النهر، وقد جاء ذلك بالكسر أيضا
والفتح أفصح.
والمنبجس: المنفجر: ويسفحها: يصبها، وروى: " تنشجها مدامعه " من النشيج، وهو
صوت الماء وغليانه من زق أو حب أو قدر.
الأصل:
تخال قصبه مداري من فضة، وما أنبت عليها من عجيب داراته وشموسه خالص
العقيان وفلذ الزبرجد. فإن شبهته بما أنبتت الأرض قلت: جنى جنى من زهرة
كل ربيع، وإن ضاهيته بالملابس فهو كموشي الحلل، أو كمونق عصب اليمن.
وإن شاكلته بالحلي فهو كفصوص ذات ألوان قد نطقت باللجين المكلل.
يمشى مشى المرح المختال، ويتصفح ذنبه وجناحه، فيقهقه ضاحكا لجمال سرباله
وأصابيغ وشاحه، فإذا رمى ببصره إلى قوائمه زقا معولا بصوت يكاد يبين عن
استغاثته، ويشهد بصادق توجعه، لان قوائمه حمش كقوائم الديكة الخلاسية.
* * *
الشرح:
قصبه: عظام أجنحته، والمداري جمع مدري، وهو في الأصل القرن، قال النابغة
يصف الثور والكلاب:
شك الفريصة بالمدري فأنفذها * شك المبيطر إذ يشفى من العضد (1)

(1) ديوانه 20. شك: أنفذ. الفريصة: بضعة في مرجع الكتف إلى الخاصرة. والمبيطر: البيطار
والعضد: داء يأخذ في العضد.
271

وكذلك المدراة، ويقال المدري لشئ كالمسلة تصلح بها الماشطة شعور النساء
قال الشاعر:
تهلك المدراة في أكنافه * وإذا ما أرسلته يعتفر (1)
وتمدرت المرأة أي سرحت شعرها. شبه عظام أجنحة الطاوس بمداري من فضة
لبياضها، وشبه ما أنبت الله عليها من تلك الدارات والشموس التي في الريش بخالص
العقيان، وهو الذهب.
وفلذ الزبرجد: جمع فلذة، وهي القطعة. والزبرجد: هذا الجوهر الذي تسميه
الناس البلخش.
ثم قال: إن شبهته بنبات الأرض قلت: إنه قد جنى من زهرة كل ربيع في الأرض،
لاختلاف ألوانه وأصباغه.
وإن ضاهيته بالملابس، المضاهاة: المشاكلة، يهمز ولا يهمز، وقرئ:
(يضاهون قول الذين كفروا) (2) (ويضاهئون) وهذا ضهي هذا على " فعيل "
أي شبيهه.
وموشى الحلل: ما دبج بالوشي، وهو الأرقم الملون. والعصب: برود اليمن.
والحلي: جمع حلى، وهو ما تلبسه المرأة من الذهب والفضة، مثل ثدي وثدي، ووزنه
" فعول " وقد تكسر الحاء لمكان الياء، مثل " عصى ". وقرئ: (من حليهم) (3)
بالضم والكسر.
ونطقت باللجين، جعلت الفضة كالنطاق لها. والمكلل: ذو الإكليل.

(1) اللسان 18: 280 (من غير نسبة).
(2) سورة التوبة 30.
(3) سورة الأعراف 148.
272

وزقا: صوت، يزقو زقوا وزقيا وزقاء، وكل صائح زاق. والزقية: الصيحة
وهو أثقل من الزواقي، أي الديكة، لأنهم كانوا يسمرون، فإذا صاحت
الديكة تفرقوا.
ومعولا: صارخا، أعولت الفرس صوتت، ومنه العويل والعولة.
وقوائمه حمش: دقاق، وهو أحمش الساقين، وحمش الساقين بالتسكين، وقد
حمشت قوائمه، أي دقت. وتقول العرب للغلام إذا كانت أمه بيضاء وأبوه عربيا: آدم
فجاء لونه بين لونيهما.
خلاسي، بالكسر والأنثى خلاسية. وقال الليث: الديكة الخلاسية، هي المتولدة
من الدجاج الهندي والفارسي.
يقول عليه السلام: إن الطاوس يزهى بنفسه، ويتيه إذا نظر في أعطافه، ورأي ألوانه
المختلفة، فإذا نظر إلى ساقيه وجم لذلك وانكسر نشاطه وزهوه، فصاح صياح العويل
لحزنه، وذلك لدقة ساقيه ونتوء عرقوبيه.
* * *
الأصل:
وقد نجمت من ظنبوب ساقه صيصية خفية، وله في موضع العرف قنزعة
خضراء موشاة، ومخرج عنقه كالإبريق، ومغرزها إلى حيث بطنه كصبغ الوسمة
اليمانية، أو كحريرة ملبسة مرآة ذات صقال، وكأنه متلفع بمعجر أسحم
إلا أنه يخيل لكثرة مائه، وشدة بريقه، أن الخضرة الناضرة ممتزجة به، ومع فتق
سمعه خط كمستدق القلم في لون الأقحوان، أبيض يقق، فهو ببياضه في سواد
273

ما هنالك يأتلق، وقل صبغ إلا وقد أخذ منه بقسط، وعلاه بكثرة صقاله وبريقه
وبصيص ديباجه ورونقه، فهو كالأزاهير المبثوثة، لم تربها أمطار ربيع
ولا شموس قيظ.
* * *
الشرح:
نجمت: ظهرت. والظنبوت: حرف الساق، وهو هذا العظم اليابس.
والصيصية في الأصل: شوكة الحائك التي يسوى بها السداة واللحمة
ومنه قوله (1):
* كوقع الصياصي في النسيج الممدد *
ونقل إلى صيصية الديك لتلك الهيئة التي في رجله.
والعرف: الشعر المرتفع من عنقه على رأسه. والقنزعة، واحدة القنازع، وهي الشعر
حوالي الرأس، وفى الحديث: " غطى عنا قنازعك يا أم أيمن " (2).
وموشاة: ذات وشى.
والوسمة، بكسر السين: العظلم الذي يخضب به، ويجوز تسكين السين.
والأسحم: الأسود. والمتلفع: الملتحف، ويروى: " متقنع بمعجر " وهو ما تشده
المرأة على رأسها كالرداء.
والأقحوان: البابونج الأبيض، وجمعه أقاح.

(1) لدريد بن الصمة، وصدره: * فجئت إليه والرماح تنوشه *
من كلمة له في ديوان الحماسة 2: 304 - 309 بشرح التبريزي.
(2) النهاية لابن الأثير 3: 279، ولفظه هناك: " أنه قال لام سليم: خضلي قنازعك ".
274

وأبيض يقق: خالص البياض، وجاء: " يقق " بالكسر. ويأتلق: يلمع.
والبصيص: البريق، وبص الشئ: لمع.
وتربها الأمطار: تربيها وتجمعها.
يقول عليه السلام: كأن هذا الطائر ملتحف بملحفة سوداء، إلا أنها لكثرة رونقها
يتوهم أنه قد امتزج بها خضرة ناضرة، وقل أن يكون لون إلا وقد أخذ هذا الطائر منه
بنصيب، فهو كأزاهير الربيع، إلا أن الأزهار تربيها الأمطار والشموس، وهذا مستغن
عن ذلك.
* * *
الأصل:
وقد ينحسر من ريشه، ويعرى من لباسه، فيسقط تترى، وينبت تباعا
فينحت من قصبه انحتات أوراق الأغصان، ثم يتلاحق ناميا حتى يعود كهيئته قبل
سقوطه. لا يخالف سالف ألوانه، ولا يقع لون في غير مكانه، وإذا تصفحت
شعرة من شعرات قصبه، أرتك حمرة وردية، وتارة خضرة زبرجدية، وأحيانا
صفرة عسجدية، فكيف تصل إلى صفة هذا عمائق الفطن أو تبلغه قرائح
العقول، أو تستنظم وصفه أقوال الواصفين، وأقل أجزائه قد أعجز الأوهام أن
تدركه، والألسنة أن تصفه!
فسبحان الذي بهر العقول عن وصف خلق جلاه للعيون، فأدركته محدودا
مكونا، ومؤلفا ملونا، وأعجز الألسن عن تلخيص صفته، وقعد بها عن
تأدية نعته!
وسبحان من أدمج قوائم الذرة والهمجة إلى ما فوقهما من خلق الحيتان والفيلة!
275

ووأى على نفسه ألا يضطرب شبح مما أولج فيه الروح، إلا وجعل الحمام موعده
والفناء غايته.
* * *
الشرح:
ينحسر من ريشه: ينكشف فيسقط، ويروى: " يتحسر ".
تترى، أي شيئا بعد شئ وبينهما فترة، قال الله تعالى: (ثم أرسلنا رسلنا
تترى) (1) لأنه لم يرسلهم على تراسل، بل بعد فترات، وهذا مما يغلط فيه قوم
فيعتقدون أن " تترى " للمواصلة والالتصاق. وأصلها الواو من " الوتر " وهو الفرد. وفيها
لغتان، تنون ولا تنون، فمن ترك صرفها للمعرفة جعل ألفها ألف تأنيث، ومن نونها
جعل ألفها للإلحاق.
قال عليه السلام: " وينبت تباعا " أي لا فترات بينهما، وكذلك حال الريش
الساقط، يسقط شيئا بعد شئ، وينبت جميعا.
وينحت: يتساقط، وانحتات الورق: تناثرها. وناميا: زائدا. يقول عليه السلام:
إذا عاد ريشه عاد مكان كل ريشة ريشة ملونة بلون الريشة الأولى، فلا يتخالف الأوائل
والأواخر.
والخضرة الزبرجدية: منسوبة إلى الزمرذ (2)، ولفظة " الزبرجد " تارة تستعمل له،
وتارة لهذا الحجر الأحمر المسمى " بلخش ". والعسجد: الذهب. وعمائق الفطن:

(1) سورة المؤمنين 44.
(2) في اللسان: " الزبرجد والزبردج: الزمرذ ".
276

البعيدة القعر. والقريحة: الخاطر والذهن. وبهر: غلب، وجلاه: أظهره، ويروى
بالتخفيف. وأدمج القوائم: أحكمها، كالحبل المدمج الشديد الفتل.
والذرة: النملة الصغيرة. والهمجة، واحدة الهمج، وهو ذباب صغير كالبعوض يسقط
على وجوه الغنم والحمر وأعينها.
ووأى: وعد، والوأى: الوعد.
* * *
واعلم أن الحكماء ذكروا في الطاوس أمورا قالوا: إنه يعيش خمسا وعشرين سنة (1)
وهي أقصى عمره، ويبيض في السنة الثالثة من عمره عندما ينتقش لونه، ويتم ريشه.
ويبيض في السنة مرة واحدة اثنتي عشرة بيضة في ثلاثة أيام، ويحضنها ثلاثين يوما
فيفرخ ويلقى ريشه مع سقوط ورق الشجر، وينبته مع ابتداء نبات الورق.
والدجاج قد يحضن بيض الطاوس، وإنما يختار الدجاج لحضانته، وإن وجدت
الطاووسة، لان الطاووس الذكر يعبث بالأنثى، ويشغلها عن الحضانة، وربما انتقص البيض
من تحتها، ولهذه العلة يخبأ كثير من الإناث محاضنها عن ذكرانها، ولا تقوى الدجاجة
على أكثر من بيضتي طاوس. وينبغي أن يتعهد الدجاجة حينئذ بتقريب العلف منها.
وقال شيخنا أبو عثمان الجاحظ رحمه الله في كتاب " الحيوان ": إن الطاووسة قد
تبيض من الريح، بأن يكون في سفالة الريح وفوقها طاوس ذكر، فيحمل ريحه فتبيض
منه، وكذلك القبجة.
قال: وبيض الريح قل أن يفرخ.
* * *

(1) ساقطة من ب.
277

الأصل:
منها في صفة الجنة: فلو رميت ببصر قلبك نحو ما يوصف لك منها، لعزفت نفسك عن بدائع
ما أخرج إلى الدنيا من شهواتها ولذاتها وزخارف مناظرها، ولذهلت بالفكر في
اصطفاف أشجار غيبت عروقها في كثبان المسك على سواحل أنهارها، وفى تعليق
كبائس اللؤلؤ الرطب في عساليجها وأفنانها، وطلوع تلك الثمار مختلفة في غلف
أكمامها، تجنى من غير تكلف فتأتي على منية مجتنيها، ويطاف على نزالها في
أفنية قصورها بالأعسال المصفقة، والخمور المروقة.
قوم لم تزل الكرامة تتمادى بهم حتى حلوا دار القرار، وأمنوا نقلة الاسفار
فلو شغلت قلبك أيها المستمع بالوصول إلى ما يهجم عليك من تلك المناظر المونقة
لزهقت نفسك شوقا إليها، ولتحملت من مجلسي هذا إلى مجاورة أهل القبور استعجالا
بها، جعلنا الله وإياكم ممن يسعى بقلبه إلى منازل الأبرار برحمته!
قال الرضى رحمه الله تعالى:
تفسير بعض ما في هذه الخطبة من الغريب
قوله عليه السلام: " يؤر بملاقحه " الأر: كناية عن النكاح، يقال
أر الرجل المرأة يؤرها، إذا نكحها.
وقوله عليه السلام: " كأنه قلع داري عنجه نؤتيه " القلع: شراع السفينة
وداري: منسوب إلى دارين، وهي بلدة على البحر يجلب منها الطيب. وعنجه، أي
عطفه، يقال: عنجت الناقة، كنصرت، أعنجها عنجا إذا عطفتها. والنوتي: الملاح.
278

وقوله عليه السلام: " ضفتي جفونه " أراد جانبي جفونه، والضفتان:
الجانبان.
وقوله: " وفلذ الزبرجد " الفلذ: جمع فلذة وهي القطعة.
وقوله عليه السلام: " كبائس اللؤلؤ الرطب " الكباسة: العذق. والعساليج:
الغصون، واحدها عسلوج.
* * *
الشرح:
رميت ببصر قلبك، أي أفكرت وتأملت. وعزفت نفسك: كرهت وزهدت
والزخارف: جمع زخرف، وهو الذهب وكل مموه.
واصطفاف الأشجار: انتظامها صفا، ويروى: " في اصطفاق أغصان "
أي اضطرابها.
ويأتي على منية مجتنيها: لا يترك له منية أصلا، لأنه يكون قد بلغ
نهاية الأماني.
والعسل المصفق: المصفى تحويلا من إناء إلى إناء. والمونقة: المعجبة. وزهقت
نفسه مات.
* * *
واعلم أنه لا مزيد في التشويق إلى الجنة على ما ذكره الله تعالى في كتابه، فكل
الصيد في جانب الفرا (1).

(1) الفرا: حمار الوحش، وأصل المثل: " كل الصيد في جوف الفرا، وفى القاموس بغير همز لأنه
مثل، والأمثال موضوعة على الوقف "
279

وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله في ذلك أخبار صحيحة، فروى أسامة بن
زيد، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه يذكر الجنة فقال: " ألا مشتر لها! هي
ورب الكعبة ريحانة تهتز، ونور يتلألأ، ونهر يطرد، وزوجة لا تموت، مع حبور ونعيم
ومقام الأبد ".
وروى أبو سعيد الخدري عنه صلى الله عليه وآله: " إن الله سبحانه لما حوط حائط
الجنة، لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وغرس غرسها، قال لها: تكلمي، فقالت: قد
أفلح المؤمنون: فقال: طوبى لك منزل الملوك!
وروى جابر بن عبد الله عنه عليه الصلاة والسلام: " إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال
لهم ربهم تعالى: أتحبون أن أزيدكم؟ فيقولون: وهل خير مما أعطيتنا؟ فيقول: نعم
رضواني أكبر ".
وعنه عليه الصلاة والسلام: " إن أحدهم ليعطى قوة مائة رجل في الأكل والشرب
"، فقيل له: فهل يكون منهم حدث - أو قيل خبث؟ قال: " عرق يفيض من
أعراضهم كريح المسك، يضمر منه البطن ".
وروى الزمخشري في " ربيع الأبرار " ومذهبه في الاعتزال ونصرة أصحابنا معلوم
وكذلك في انحرافه عن الشيعة وتسخيفه لمقالاتهم - أن رسول الله محمدا صلى الله عليه وآله
قال: " لما أسرى بي، أخذني جبرئيل، فأقعدني على درنوك من درانيك الجنة، ثم ناولني
سفرجلة، فبينا أنا أقلبها انفلقت، فخرجت منها جارية لم أر أحسن منها، فسلمت فقلت:
من أنت، قالت: أنا الراضية المرضية، خلقني الجبار من ثلاثة أصناف: أعلاي من عنبر،
280

وأوسطي من كافور، وأسفلي من مسك. ثم عجنني بماء الحيوان، وقال لي: كوني كذا
فكنت. خلقني لأخيك وابن عمك علي بن أبي طالب ".
قلت: الدرنوك: ضرب من البسط ذو خمل، ويشبه به فروة البعير، قال الراجز: * جعد الدرانيك رفل الا
جلاد (1) *

(1) اللسان 12: 306، ونسبه إلى رؤبة، وبعده:
* كأنه مختضب في أجساد *
281

(167) الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام:
ليتأس صغيركم بكبيركم، وليرأف كبيركم بصغيركم، ولا تكونوا
كجفاة الجاهلية، لا في الدين يتفقهون، ولا عن الله يعقلون، كقيض بيض في
أداح، يكون كسرها وزرا، ويخرج حضانها شرا.
* * *
الشرح:
أمرهم عليه السلام أن يتأسى الصغير منهم بالكبير في أخلاقه وآدابه، فإن الكبير
لكثرة التجربة أحزم وأكيس، وأن يرأف الكبير بالصغير. والرأفة: الرحمة، لان الصغير
مظنة الضعف والرقة.
ثم نهاهم عن خلق الجاهلية في الجفاء والقسوة، وقال: إنهم لا يتفقهون في دين،
ولا يعقلون عن الله ما يأمرهم به، وهذا من قول الله سبحانه: (صم بكم عمى فهم
لا يعقلون ((1). وروى: " تتفقهون " بتاء الخطاب.
ثم شبههم ببيض الأفاعي في الأعشاش، يظن بيض القطا، فلا يحل لمن رآه أن يكسره
لأنه يظنه بيض القطا، وحضانه يخرج شرا، لأنه يفقص عن أفعى.

(1) سورة البقرة 171.
282

واستعار لفظة " الأداحي " للأعشاش مجازا، لان الأداحي لا تكون إلا للنعام تدحوها
بأرجلها وتبيض فيها، ودحوها: توسيعها، من دحوت الأرض.
والقيض: الكسر والفلق، قضت القارورة والبيضة، وانقاضت هي، وانقاض الجدار
انقياضا أي تصدع من غير أن يسقط، فإن سقط قيل: تقيض تقيضا، وتقوض تقوضا
وقوضته أنا. وتقول للبيضة إذا تكسرت فلقا: تقيضت تفيضا فإن تصدعت ولم تنفلق
قلت: انقاضت، فهي مناقضة والقارورة مثله.
* * *
الأصل:
منها:
افترقوا بعد ألفتهم، وتشتتوا عن أصلهم، فمنهم آخذ بغصن، أينما مال مال
معه. على أن الله تعالى سيجمعهم لشر يوم لبني أمية، كما يجتمع قزع الخريف
يؤلف الله بينهم ثم يجمعهم ركاما كركام السحاب، ثم يفتح الله لهم أبوابا.
يسيلون من مستثارهم كسيل الجنتين، حيث لم تسلم عليه قارة، ولم تثبت عليه
أكمة، ولم يرد سننه رص طود، ولا حداب أرض، يذعذعهم الله في بطون
أوديته، ثم يسلكهم ينابيع في الأرض، يأخذ بهم من قوم، حقوق قوم، ويمكن
لقوم في ديار قوم.
وأيم الله ليذوبن ما في أيديهم بعد العلو والتمكين، كما تذوب الألية
على النار.
أيها الناس، لو لم تتخاذلوا عن نصر الحق، ولم تهنوا عن توهين الباطل، لم
283

يطمع فيكم من ليس مثلكم ولم يقومن قوى عليكم، لكنكم تهتم متاه
بني إسرائيل.
ولعمري ليضعفن لكم التيه من بعدي أضعافا، بما خلفتم الحق وراء ظهوركم
وقطعتم الأدنى، ووصلتم الأبعد.
واعلموا أنكم إن اتبعتم الداعي لكم، سلك بكم منهاج الرسول، وكفيتم مؤنة
الاعتساف، ونبذتم الثقل الفادح عن الأعناق.
* * *
الشرح: هو عليه السلام: يذكر حال أصحابه وشيعته بعده، فيقول: افترقوا بعد ألفتهم أي
بعد اجتماعهم.
وتشتتوا عن أصلهم، أي عنى بعد مفارقتي، فمنهم آخذ بغصن، أي يكون منهم من
يتمسك بمن أخلفه بعدي من ذرية الرسول، أينما سلكوا سلكوا معهم، وتقدير الكلام:
ومنهم من لا يكون هذه حاله. لكنه لم يذكره عليه السلام، اكتفاء بذكر القسم الأول
لأنه دال على القسم الثاني.
ثم قال: على أن هؤلاء القوم: من ثبت منهم على عقيدته فينا ومن لم يثبت، لابد أن
يجمعهم الله تعالى لشر يوم لبني (1) أمية، وكذا كان، فإن الشيعة الهاشمية اجتمعت على إزالة
ملك بنى مروان: من كان منهم ثابتا على ولاء علي بن أبي طالب عليه السلام، ومن
حاد منهم عن ذلك، وذلك في أواخر أيام مروان الحمار، عند ظهور الدعوة
الهاشمية.
وقزع الخريف: جمع قزعة، وهي سحب صغار تجتمع فتصير ركاما، وهو ما كثف

(1) ج: " بنى ".
284

من السحاب. وركمت الشئ أركمه، إذا جمعته وألقيت بعضه على بعض.
ومستثارهم: موضع ثورتهم.
والجنتان: هما اللتان قال الله تعالى فيهما: (لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان
عن يمين وشمال) (1). وسلط الله عليهما السيل، قال الله تعالى: (فأعرضوا فأرسلنا
عليهم سيل العرم) (2) فشبه عليه السلام سيلان الجيوش إلى بنى أمية بالسيل المسلط
على تينك الجنتين.
فإنه لم تسلم عليه قارة، وهي الجبيل الصغير. ولم تثبت له أكمة، وهي التلعة
من الأرض.
ولم يرد سننه أي طريقه. طود مرصوص أي جبل شديد التصاق الاجزاء
بعضها ببعض. ولا حداب أرض. جمع حدبة (3) وهي الروابي والنجاد.
ثم قال: (يذعذعهم الله) أي يفرقهم الله، الذعذعة بالذال المعجمة مرتين: التفريق
وذعذعة الشر: إذاعته.
ثم يسلكهم ينابيع في الأرض، من ألفاظ القرآن (4) والمراد أنه كما أن الله تعالى
ينزل من السماء ماء فيستكن في أعماق الأرض، ثم يظهر منها ينابيع إلى ظاهرها،
كذلك هؤلاء القوم، يفرقهم الله تعالى في بطون الأودية وغوامض الأغوار، ثم

(1) سورة سبأ 15.
(2) سورة سبأ 16.
(3) في اللسان: الحدبة، بفتحتين: ما أشرف من الأرض وغلط وارتفع. ولا تكون الحدبة
إلا في قف أو غلظ من الأرض.
(4) وهو قوله تعالى في سورة الزمر 21: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه
ينابيع في الأرض).
285

يظهرهم بعد الاختفاء فيأخذ بهم من قوم حقوق آخرين، ويمكن منهم قوما من
ملك قوم وديارهم.
ثم أقسم ليذوبن ما في أيدي بنى أمية بعد علوهم وتمكينهم، كما تذوب
الألية على النار، وهمزة " الألية " مفتوحة، وجمعها أليات، بالتحريك، والتثنية أليان بغير
تاء، قال الراجز:
* ترتج ألياه ارتجاج الوطب (1) *
وجمع الألية آلاء على " فعال (1) " وكبش آلى على " أفعل " ونعجة " ألياء " والجمع إلى علي
" فعل " ويقال أيضا: كبش أليان بالتحريك، وكباش أليانات ورجل أليا أي
عظيم الألية، وامرأة عجزاء ولا تقل: " ألياء " وقد قاله بعضهم. وقد إلى الرجل، بالكسر
يألى: عظمت أليته.
ثم قال: لولا تخاذلكم لم يطمع فيكم من هو دونكم.
وتهنوا، مضارع وهن، أي ضعف، وهو من ألفاظ القرآن (2) أيضا.
وتهتم متاه بني إسرائيل: حرتم وضللتم الطريق، وقد جاء في المسانيد
الصحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وآله، قال: " لتركبن سنن من كان قبلكم
حذو النعل بالنعل، والقذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " فقيل: يا رسول
الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن إذا ومن الأخبار الصحيحة أيضا: " أمتهوكون أنتم كما
تهوكت اليهود والنصارى! ". (3)
وفى صحيحي البخاري ومسلم رحمهما الله أنه سيجاء يوم القيامة بأناس من أمتي،

(1) الصحاح (إلى) من غير نسبة.
(2) وهو قوله تعالى في سورة آل عمران: (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون)
(3) النهاية لابن الأثير 4: 258، قال: " التهوك كالتهور، وهو الوقع في الامر بغير روية.
أو الذي يقع كل أمر، وقيل: هو التحير.
286

فيؤخذ بهم ذات الشمال، فإذا رأيتهم اختلجوا دوني، قلت: أي رب، أصحابي!
فيقال لي: إنك لا تدرى ما عملوا بعدك؟ فأقول ما قال العبد الصالح: (وكنت عليهم
شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل
شئ شهيد). الاسناد في هذا الحديث عن ابن عباس رضي الله عنه.
وفى الصحيحين أيضا، عن زينب بنت جحش قالت: استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم
يوما من نومه محمرا، وجهه، وهو يقول: " لا إله إلا الله. ويل للعرب من شر قد اقترب! "
فقلت: يا رسول الله، أنهلك، وفينا الصالحون؟ فقال: " نعم إذا كثر الخبث ".
وفى الصحيحين أيضا: " يهلك أمتي هذا الحي من قريش، قالوا: يا رسول الله فما
تأمرنا؟ قال: " لو أن الناس اعتزلوهم "، رواه أبو هريرة عنه صلى الله عليه وآله.
ثم قال عليه السلام: " ليضعفن لكم التيه من بعدي ". يعنى الضلال، يضعفه
لكم الشيطان وأنفسكم بما خلفتم الحق وراء ظهوركم، أي لأجل ترككم الحق.
وقطعكم الأدنى، يعنى نفسه. ووصلكم الأبعد، يعنى معاوية. ويروى: " إن اتبعتم الراعي
لكم " بالراء.
والاعتساف: سلوك غير الطريق. والفادح: الثقل، فدحه الدين: أثقله.
287

(168)
الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام في أول خلافته:
إن الله تعالى سبحانه أنزل كتابا هاديا بين فيه الخير والشر، فخذوا نهج الخير
تهتدوا، واصدفوا عن سمت الشر تقصدوا.
الفرائض الفرائض! أدوها إلى الله تؤدكم إلى الجنة. إن الله حرم حراما غير
مجهول، وأحل حلالا غير مدخول، وفضل حرمة المسلم على الحرم كلها، وشد
بالاخلاص والتوحيد حقوق المسلمين في معاقدها. فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه
ويده إلا بالحق، ولا يحل أذى المسلم إلا بما يجب.
بادروا أمر العامة وخاصة أحدكم وهو الموت، فإن الناس أمامكم، وإن
الساعة تحدوكم من خلفكم.
تخففوا تلحقوا فإنما ينتظر بأولكم آخركم.
اتقوا الله في عباده وبلاده، فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم
وأطيعوا الله ولا تعصوه، وإذا رأيتم الخير فخذوا به، وإذا رأيتم الشر
فأعرضوا عنه.
* * *
288

الشرح:
واصدفوا عن سمت الشر، أي أعرضوا عن طريقه. تقصدوا أي تعدلوا
والقصد: العدل.
ثم أمر بلزوم الفرائض من العبادات والمحافظة عليها، كالصلاة والزكاة، وانتصب
ذلك على الاغراء.
ثم ذكر أن الحرام غير مجهول للمكلف بل معلوم، والحلال غير مدخول، أي لا عيب
ولا نقص فيه، وأن حرمة المسلم أفضل من جميع الحرمات. وهذا لفظ الخبر النبوي: " حرمة
المسلم فوق كل حرمة، دمه وعرضه وماله ".
قال عليه السلام: " وشد بالاخلاص والتوحيد حقوق المسلمين في معاقدها " لان
الاخلاص والتوحيد داعيان إلى المحافظة على حقوق المسلمين صارفان عن انتهاك محارمهم.
قال: " فالمسلم من سلم الناس "، هذا لفظ الخبر النبوي بعينه.
قوله: " ولا يحل أذى المسلم إلا بما يجب " أي إلا بحق وهو الكلام الأول
وإنما أعاده تأكيدا.
ثم أمر بمبادرة الموت، وسماه الواقعة العامة، لأنه يعم الحيوان كله، ثم سماه خاصة أحدكم
لأنه وإن كان عاما إلا أن له مع كل إنسان بعينه خصوصية زائدة على ذلك العموم.
قوله: " فإن الناس أمامكم " أي قد سبقوكم والساعة تسوقكم من خلفكم.
ثم أمر بالتخفف (1) وهو القناعة من الدنيا باليسير وترك الحرص عليها، فإن المسافر
الخفيف أحرى بالنجاة ولحاق أصحابه وبلوغ المنزل من الثقيل.

(1) أ، ب " بالتخفيف " وما أثبته من د.
289

وقوله: " فإنما ينتظر بأولكم آخركم " أي إنما ينتظر ببعث الموتى المتقدمين أن يموت
الأواخر أيضا، فيبعث الكل جميعا في وقت واحد.
ثم ذكر أنهم مسؤولون عن كل شئ حتى عن البقاع: لم استوطنتم هذه، وزهدتم في
هذه؟ ولم أخربتم هذه الدار وعمرتم هذه الدار؟ وحتى عن البهائم، لم ضربتموها؟
لم أجعتموها؟
وروى: " فإن البأس (1) أمامكم " يعنى الفتنة، والرواية الأولى أظهر. وقد ورد في
الاخبار النبوية " لينتصفن للجماء من القرناء " وجاء في الخبر الصحيح: " إن الله تعالى
عذب إنسانا بهر، حبسه في بيت وأجاعه حتى هلك ".

(1) ب: " الناس " تحريف، وما أثبته من باقي الأصول.
290

(169) الأصل:
ومن كلام له عليه السلام بعد ما بويع له بالخلافة وقد قال له قوم من الصحابة:
لو عاقبت قوما ممن أجلب على عثمان! فقال عليه السلام:
يا إخوتاه إني لست أجهل ما تعلمون ولكن كيف لي بقوة والقوم المجلبون
على حد شوكتهم يملكوننا ولا نملكهم وهاهم هؤلاء قد ثارت معهم
عبدانكم، والتفت إليهم أعرابكم، وهم خلالكم يسومونكم ما شاءوا، وهل
ترون موضعا لقدرة على شئ تريدونه!
إن هذا الامر أمر جاهلية وإن لهؤلاء القوم مادة. إن الناس من هذا
الامر إذا حرك على أمور: فرقة ترى ما ترون، وفرقة ترى مالا ترون، وفرقة لا ترى
هذا ولا هذا. فاصبروا حتى يهدأ الناس وتقع القلوب مواقعها، وتؤخذ الحقوق
مسمحة.
فاهدأوا عنى وانظروا ماذا يأتيكم به أمري، ولا تفعلوا فعلة تضعضع قوة
وتسقط منة، وتورث وهنا وذلة. وسأمسك الامر ما استمسك، وإذا لم أجد
بدا، فآخر الدواء الكي.
* * *
الشرح:
أجلب عليه: أعان عليه، وأجلبه: أعانه. والألف في " يا إخوتاه " بدل من ياء الإضافة
والهاء للسكت.
291

وعلى حد شوكتهم: شدتهم، أي تنكسر سورتهم.
والعبدان جمع عبد، بالكسر: مثل جحش وجحشان، وجاء عبدان بالضم، مثل تمر
وتمران، وجاء عبيد، مثل كلب وكليب، وهو جمع عزيز، وجاء أعبد وعباد وعبدان
مشددة الدال، وعبداء بالمد، وعبدي بالقصر، ومعبوداء بالمد، وعبد بالضم، مثل سقف
وسقف، وأنشدوا.
انسب العبد إلى آبائه * أسود الجلدة من قوم عبد (1)
ومنه قرأ بعضهم: (وعبد الطاغوت) (2) وأضافه.
قوله: " والتفت إليهم أعرابكم ". انضمت واختلطت بهم.
وهم حلالكم، أي بينكم يسومونكم ما شاءوا: يكلفونكم، قال تعالى: (يسومونكم
سوء العذاب) (3).
وتؤخذ الحقوق مسمحة، من أسمح، أي ذل وانقاد.
فاهدأوا عنى، أي فاسكنوا (4) هدأ الرجل هدءا وهدوءا: أي سكن، وأهدأه غيره.
وتضعضع قوة: تضعف وتهد: ضعضعت البناء: هددته. والمنة: القوة. والوهن: الضعف.
وآخر الدواء الكي، مثل مشهور، ويقال: " آخر الطب " ويغلط فيه العامة فتقول: " آخر
الداء " والكي ليس من الداء ليكون آخره.
* * *

(1) اللسان 4: 260.
(2) سورة المائدة 60، وهي قراءة عن ابن عباس، وانظر تفسير القرطبي 6: 235.
(3) سورة البقرة 49.
(4) في الأصول: " فاسكتوا ".
292

[موقف على من قتله عثمان]
واعلم أن هذا الكلام يدل على أنه عليه السلام كان في نفسه عقاب الذين حصروا
عثمان والاقتصاص ممن قتله، إن كان بقي ممن باشر قتله أحد، ولهذا قال: إني لست أجهل
ما تعلمون، فاعترف بأنه عالم بوجوب ذلك، واعتذر بعدم التمكن كما ينبغي، وصدق
عليه السلام، فإن أكثر أهل المدينة أجلبوا عليه، وكان من أهل مصر ومن الكوفة
عالم عظيم حضروا من بلادهم، وطووا المسالك البعيدة لذلك، وانضم إليهم أعراب أجلاف
من البادية، وكان الامر أمر جاهلية، كما قال عليه السلام، ولو حرك ساكنا لاختلف
الناس واضطربوا، فقوم يقولون: أصاب، وقوم يقولون: أخطأ، وقوم لا يحكمون
بصواب ولا خطأ. بل يتوقفون، ولا يأمن - لو شرع في عقوبة الناس والقبض عليهم - من
تجدد فتنة أخرى كالأولى وأعظم، فكان الأصوب في التدبير، والذي يوجبه الشرع والعقل
الامساك إلى حين سكون الفتنة، وتفرق تلك الشعوب وعود كل قوم إلى بلادهم، وكان
عليه السلام يؤمل أن يطيعه معاوية وغيره، وأن يحضر بنو عثمان عنده يطالبون بدم أبيهم
ويعينون قوما بأعيانهم، بعضهم للقتل، وبعضهم للحصار، وبعضهم للتسور، كما جرت
عادة المتظلمين إلى الامام والقاضي، فحينئذ يتمكن من العمل بحكم الله تعالى. فلم يقع الامر
بموجب ذلك، وعصى معاوية وأهل الشام، والتجأ ورثة عثمان إليه، وفارقوا حوزة
أمير المؤمنين عليه السلام، ولم يطلبوا القصاص طلبا شرعيا، وإنما طلبوه مغالبة، وجعلها
معاوية عصبية الجاهلية، ولم يأت أحد منهم الامر من بابه، وقبل ذلك ما كان من
أمر طلحة والزبير، ونقضهما البيعة، ونهبهما أموال المسلمين بالبصرة وقتلهما الصالحين
من أهلها، وجرت أمور كلها تمنع الامام عن التصدي للقصاص، واعتماد ما يجب اعتماده
لو كان الامر وقع على القاعدة الصحيحة من المطالبة بذلك على وجه السكون والحكومة،
293

وقد قال هو عليه السلام لمعاوية: " فأما طلبك قتلة عثمان، فادخل في الطاعة، وحاكم القوم
إلى، أحملك وإياهم على كتاب الله وسنة رسوله ".
قال أصحابنا المعتزلة رحمهم الله: وهذا عين الحق، ومحض الصواب، لأنه يجب دخول
الناس في طاعة الامام، ثم تقع المحاكمة إليه، فإن حكم بالحق استديمت إمامته، وإن
حكم بالجور انتقض أمره، وتعين خلعه.
فإن قلت: فما معنى قوله: " وسأمسك الامر ما استمسك، فإذا لم أجد بدا فآخر
الدواء الكي ".
قلت: ليس معناه: وسأصبر عن معاقبة هؤلاء ما أمكن الصبر، فإذا لم أجد بدا
عاقبتهم، ولكنه كلام قاله أول مسير طلحة والزبير إلى البصرة، فإنه حينئذ أشار عليه
قوم بمعاقبة المجلبين، فاعتذر بما قد ذكر، ثم قال: " وسأمسك الامر ما استمسك "
أي أمسك نفسي عن محاربة هؤلاء الناكثين للبيعة ما أمكنني، وأدفع الأيام بمراسلتهم
وتخويفهم وإنذارهم، وأجتهد في ردهم إلى الطاعة بالترغيب والترهيب، فإذا لم أجد بدا
من الحرب، فآخر الدواء الكي، أي الحرب، لأنها الغاية التي ينتهى أمر
العصاة إليها.
294

(170)
الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام عند مسير أصحاب الجمل إلى البصرة:
إن الله بعث رسولا هاديا بكتاب ناطق، وأمر قائم، لا يهلك عنه إلا هالك.
وإن المبتدعات المشبهات هن المهلكات، إلا ما حفظ الله منها، وإن في سلطان
الله عصمة لامركم، فأعطوه طاعتكم غير ملومة ولا مستكره بها.
والله لتفعلن أو لينقلن الله عنكم سلطان (1) الاسلام، ثم لا ينقله إليكم
أبدا. حتى يأرز الامر إلى غيركم.
إن هؤلاء قد تمالأ على سخطة إمارتي، وسأصبر ما لم أخف على جماعتكم،
فإنهم إن تمموا على فيالة هذا الرأي، انقطع نظام المسلمين، وإنما طلبوا هذه
الدنيا حسدا لمن أفاءها الله عليه، فأرادوا رد الأمور على أدبارها، ولكم علينا
العمل بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والقيام بحقه
والنعش لسنته.
* * *
الشرح:
وأمر قائم، أي مستقيم ليس بذي عوج. لا يهلك عنه إلا هالك، تقديره: لا يهلك
عادلا عنه إلا هالك، وهذا كما تقول: لا يعلم هذا الفن إلا عالم، أي من قد بلغ الغاية

(1) ساقطة من ب.
295

في العلم واستحق أن يوصف بذلك ويشار إليه فيه، كذلك لا يهلك بعدوله عنه إلا من
هو أعظم الهالكين، ومن يشار إليه بالهلاك، وقد بلغ الغاية في الهلاك.
ثم قال: " إن المبتدعات المشبهات هن المهلكات " المبتدعات: ما أحدث
ولم يكنى على عهد الرسول. والمشبهات: التي تشبه السنن وليست منها، أي المشبهات
بالسنن. وروى: " المشبهات " بالكسر، أي المشبهات على الناس، يقال: قد شبه
عليه الامر، أي ألبس عليه، ويروى: " المشتبهات " أي الملتبسات، لا يعرف حقها
من باطلها.
قال: " إلا من حفظ الله " أي من عصمه الله بألطاف يمتنع لأجلها عن الخطأ.
ثم أمرهم بلزوم الطاعة، واتباع السلطان، وقال: إن فيه عصمة لامركم. فأعطوه طاعتكم
غير ملومة، أي مخلصين ذوي طاعة محضة لا يلام باذلها، أي لا ينسب إلى النفاق.
ولا مستكره بها أي ليست عن استكراه، بل يبذلونها اختيارا ومحبة ويروى:
" غير ملوية " أي معوجة، من لويت العود.
ثم أقسم إنهم إن لم يفعلوا وإلا نقل الله عنهم سلطان الاسلام - يعنى الخلافة -
ثم لا يعيده إليهم أبدا، حتى يأرز الامر إلى غيرهم، أي حتى ينقبض وينضم ويجتمع،
وفى الحديث: " إن الاسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها " (1).
فإن قلت: كيف قال: إنه لا يعيده إليهم أبدا، وقد عاد إليهم بالخلافة العباسية؟
قلت: لان الشرط لم يقع، وهو عدم الطاعة، فإن أكثرهم أطاعوه طاعة غير ملومة
ولا مستكره بها، وإذا لم يتحقق الشرط لم يتحقق المشروط.

(1) النهاية لابن الأثير 1: 14.
296

وقد أجاب قوم عن هذا، فقالوا: خاطب الشيعة الطالبية، فقال: إن لم تعطوني الطاعة
المحضة نقل الله الخلافة عن هذا البيت حتى يأرز وينضم إلى بيت آخر، وهكذا وقع،
فإنها انضمت إلى بيت آخر من بني هاشم.
وأجاب قوم آخرون، فقالوا: أراد بقوله: " أبدا " المبالغة، كما تقول: احبس هذا
الغريم أبدا، والمراد بالقوم الذين يأرز الامر إليهم بنو أمية، كأنه قال: إن لم تفعلوا نقل
الله الخلافة عنكم حتى يجعلها في قوم آخرين وهم أعداؤكم من أهل الشام وبنى أمية
ولا يعيده إليكم إلى مدة طويلة، وهكذا وقع.
وقد تمالا وا: قد اجتمعوا. وتساعدوا على سخطة إمارتي: على كراهيتها وبغضها.
ثم وعد بالصبر عليهم ما لم يخف من فرقة الجماعة، وانتشار حبل الاسلام.
وفيالة الرأي: ضعفه، وكذلك فيولته، ورجل فيل الرأي: أي ضعيفه، قال:
بنى رب الجواد فلا تفيلوا * فما أنتم فنعذركم لفيل (1)
أي لستم على رجل ضعيف الرأي. والجمع أفيال، ويقال أيضا: رجل فال، قال:
رأيتك يا أخيطل إذ جرينا * وجربت الفراسة كنت فالا (2)
قال: إن تموا على هذا الرأي الضعيف قطعوا نظام المسلمين وفرقوا جماعتهم.
ثم ذكر أن الحسد دعاهم إلى ذلك. وأفاءها عليه: ردها عليه، فاء يفئ: رجع. وفلان
سريع الفئ من غضبه، أي سريع الرجوع. وإنه لحسن الفيئة بالكسر، مثال " الفيعة "
أي حسن الرجوع، وهذا الكلام لا يشعر بأنه عليه السلام كان يعتقد أن الامر له، وأنه
غلب عليه ثم رجع إليه، ولكنه محمول على أنه من رسول الله صلى الله عليه وآله بمنزلة
الجزء من الكل، وأنهما من جوهر واحد، فلما كان الوالي قديما هو رسول الله صلى الله

(1) اللسان 14: 50 ونسبه إلى الكميت.
(2) اللسان 14: 50، ونسبه إلى جرير.
297

عليه وآله، ثم تخلل بين ولايته صلى الله عليه وآله وولاية أمير المؤمنين عليه السلام ولايات
غريبة، سمى ولايته فيئا ورجوعا، لأنها رجعت إلى الدوحة الهاشمية، وبهذا يجب أن
يتأول قوله: " فأرادوا رد الأمور على أدبارها " أي أرادوا انتزاع الخلافة من بني هاشم
، كما انتزعت أولا، وإقرارها في بيوت بعيدة عن هذا البيت، أسوة بما وقع
من قبل.
والنعش: مصدر نعش، أي رفع، ولا يجوز: " أنعش ".
298

(171) الأصل:
ومن كلام له عليه السلام: كلم به بعض العرب، وقد أرسله قوم من أهل البصرة، لما قرب عليه السلام منها
ليعلم لهم منه حقيقة حاله مع أصحاب الجمل لتزول الشبهة من نفوسهم، فبين له عليه السلام
من أمره معهم ما علم به أنه على الحق، ثم قال له: بايع، فقال: إني رسول قوم، ولا أحدث
حدثا حتى أرجع إليهم. فقال عليه السلام:
أرأيت لو أن الذين وراءك بعثوك رائدا، تبتغى لهم مساقط الغيث، فرجعت
إليهم وأخبرتهم عن الكلأ والماء، فخالفوا إلى المعاطش والمجادب ما كنت صانعا؟
قال: كنت تاركهم ومخالفهم إلى الكلأ والماء.
فقال عليه السلام: فامدد إذا يدك.
فقال الرجل: فوالله ما استطعت أن أمتنع عند قيام الحجة على فبايعته
عليه السلام.
والرجل يعرف بكليب الجرمي.
* * *
الشرح:
الجرمي: منسوب إلى بنى جرم بن ربان بن حلوان بن عمران بن الحاف
ابن قضاعة، من حمير. وكان هذا الرجل بعثه قوم من أهل البصرة إليه عليه السلام
299

يستعلم حاله: أهو على حجة (1) أم على شبهة؟ فلما رآه عليه السلام، وسمع لفظه، علم صدقه
وبرهانه، فكان بينهما ما قد شرحه عليه السلام.
ولا شئ ألطف ولا أوقع ولا أوضح من المثال الذي ضربه عليه السلام، وهو حجة
لازمة لا مدفع لها.
قوله: " ولا أحدث حدثا " أي لا أفعل ما لم يأمرونني به، إنما أمرت باستعلام
حالك فقط، فأما المبايعة لك فأن أحدثتها كنت فاعلا ما لم أندب له.
ومساقط الغيث: المواضع التي يسقط الغيث فيها. والكلأ: النبت إذا طال وأمكن
أن يرعى، وأول ما يظهر يسمى الرطب، فإذا طال قليلا فهو الخلا، فإذا طال شيئا آخر
فهو الكلأ، فإذا يبس فهو الحشيش.
والمعاطش والمجادب: مواضع العطش والجدب، وهو المحل.

(1) ب: " حجتهم ".
300

(172) الأصل:
ومن كلام له عليه السلام لما عزم على لقاء القوم بصفين:
اللهم رب السقف المرفوع، والجو المكفوف، الذي جعلته مغيضا لليل والنهار
ومجرى للشمس والقمر، ومختلفا للنجوم السيارة، وجعلت سكانه سبطا من
ملائكتك، لا يسأمون من عبادتك.
ورب هذه الأرض التي جعلتها قرارا للأنام، ومدرجا للهوام والانعام
وما لا يحصى مما يرى وما لا يرى.
ورب الجبال الرواسي التي جعلتها للأرض أوتادا، وللخلق اعتمادا إن أظهرتنا
على عدونا، فجنبنا البغي، وسددنا للحق، وإن أظهرتم علينا فارزقنا الشهادة
واعصمنا من الفتنة.
أين المانع للذمار، والغائر عند نزول الحقائق من أهل الحفاظ!
العار وراءكم، والجنة أمامكم!
* * *
الشرح:
السقف المرفوع: السماء. والجو المكفوف: السماء أيضا، كفه، أي جمعه وضم
بعضه إلى بعض، ويمر في كلامه نحو هذا، وأن السماء هواء جامد أو ماء جامد.
وجعلته مغيضا لليل والنهار، أي غيضة لهما، وهي في الأصل الأجمة يجتمع إليها الماء
301

فتسمى غيضة ومغيضا، وينبت فيها الشجر، كأنه جعل الفلك كالغيضة، والليل والنهار
كالشجر النابت فيها.
ووجه المشاركة أن المغيض أو الغيضة يتولد منهما الشجر، وكذلك الليل والنهار
يتولدان من جريان الفلك.
ثم عاد فقال: " ومجرى للشمس والقمر " أي موضعا لجريانهما.
ومختلفا للنجوم السيارة أي موضعا لاختلافها واللام مفتوحة.
ثم قال: " جعلت سكانه سبطا من ملائكتك " أي قبيلة، قال تعالى: (اثنتي
عشرة أسباطا أمما) (1).
لا يسأمون: لا يملون. وقرارا للأنام أي موضع استقرارهم وسكونهم. ومدرجا
للهوام، أي موضع دروجهم وسيرهم وحركاتهم، والهوام: الحشرات والمخوف
من الأحناش.
ومالا يحصى، أي لا يضبط بالإحصاء والعد، مما نراه ونعرفه ومالا نراه ولا نعرفه.
وقال بعض العلماء: إن أردت أن تعرف حقيقة قوله: " مما يرى وما لا يرى "
فأوقد نارا صغيرة في فلاة في ليلة صيفية، وانظر ما يجتمع عليها من الأنواع الغريبة العجيبة
الخلق، التي لم تشاهدها أنت ولا غيرك قط.
قوله: " وللخلق اعتمادا " لأنهم يجعلونها كالمساكن لهم، فينتفعون بها ويبنون منازل
إلى جانبها، فيقوم مقام جدار قد استغنوا عن بنيانه، ولأنها أمهات العيون ومنابع المياه
باعتماد الخلق على مرافقهم ومنافعهم ومصالحهم عليها.

(1) سورة الأعراف 160.
302

قوله: " وسددنا للحق " أي صوبنا إليه، من قولك: " سهم سديد " أي مصيب
وسدد السنان إلى القرن، أي صوبه نحوه.
والذمار: ما يحامى عنه. والغائر: ذو الغيرة. ونزول الحقائق: نزول الأمور الشديدة
كالحرب ونحوها.
ثم قال: " العار وراءكم " أي إن رجعتم القهقرى هاربين.
والجنة أمامكم، أي إن أقدمتم على العدو مجاهدين. وهذا الكلام شريف جدا.
303

(173)
الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام:
الحمد لله الذي لا توارى عنه سماء سماء، ولا أرض أرضا.
* * *
الشرح:
هذا الكلام يدل على إثبات أرضين بعضها فوق بعض. كما أن السماوات كذلك
ولم يأت في الكتاب العزيز ما يدل على هذا إلا قوله تعالى: (الله الذي خلق سبع
سماوات ومن الأرض مثلهن) (1)، وهو قول كثير من المسلمين.
وقد تأول ذلك أرباب المذهب الاخر القائلون بأنها أرض واحدة، فقالوا:
إنها سبعة
أقاليم، فالمثلية هي من هذا الوجه، لا من تعدد الأرضين في ذاتها.
ويمكن أن يتأول مثل ذلك كلام أمير المؤمنين عليه السلام، فيقال: إنها وإن كانت
أرضا واحدة، لكنها أقاليم وأقطار مختلفة، وهي كرية الشكل، فمن على حدبة الكرة
لا يرى من تحته، ومن تحته لا يراه، ومن على أحد جانبيها لا يرى من على الجانب الآخر
والله تعالى يدرك ذلك كله أجمع، ولا يحجب عنه شئ منها بشئ منها.
فأما قوله عليه السلام: " لا توارى عنه سماء سماء " فلقائل أن يقول: ولا يتوارى
شئ من السماوات عن المدركين منا، لأنها شفافة، فأي خصيصة للباري تعالى في ذلك؟
فينبغي أن يقال هذا الكلام على قاعدة غير القاعدة الفلسفية، بل هو على قاعدة الشريعة (2)

(1) سورة الطلاق 12.
(2) ب: " على قاعدته الشريعة الاسلامية ".
304

الاسلامية التي تقتضي أن السماوات تحجب ما وراءها عن المدركين بالحاسة، وإنها ليست
طباقا متراصة، بل بينها خلق من خلق الله تعالى لا يعلمهم غيره. واتباع هذا القول
واعتقاده أولى.
* * *
الأصل:
منها:
وقد قال قائل: إنك على هذا الامر يا بن أبي طالب لحريص، فقلت: بل أنتم
والله لأحرص وأبعد، وأنا أخص وأقرب، وإنما طلبت حقا لي وأنتم تحولون بيني
وبينه، وتضربون وجهي دونه، فلما قرعته بالحجة في الملاء الحاضرين، هب كأنه
بهت لا يدرى ما يجيبني به!
اللهم إني أستعديك على قريش ومن أعانهم! فإنهم قطعوا رحمي، وصغروا
عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي أمرا هو لي، ثم قالوا: ألا إن في الحق أن تأخذه
وفى الحق أن تتركه.
الشرح:
هذا من خطبة يذكر فيها عليه السلام ما جرى يوم الشورى بعد مقتل عمر. والذي قال
له: " إنك على هذا الامر لحريص " سعد بن أبي وقاص، مع روايته فيه: " أنت منى بمنزلة
هارون من موسى " وهذا عجب، فقال لهم: بل أنتم والله أحرص وأبعد... الكلام
المذكور. وقد رواه الناس كافة.
وقالت الامامية: هذا الكلام يوم السقيفة، والذي قال له: إنك على هذا الامر
لحريص، أبو عبيدة بن الجراح، والرواية الأولى أظهر وأشهر.
305

وروى: " فلما قرعته " بالتخفيف أي صدمته بها.
وروى: " هب لا يدرى ما يجيبني " كما تقول استيقظ وانتبه، كأنه كان غافلا ذاهلا
عن الحجة فهب لما ذكرتها.
أستعديك: أطلب أن تعديني عليهم وأن تنتصف لي منهم.
قطعوا رحمي: لم يرعوا قربه من رسول الله صلى الله عليه وآله.
وصغروا عظيم منزلتي: لم يقفوا مع النصوص الواردة فيه.
وأجمعوا على منازعتي أمرا هو لي، أي بالأفضلية أنا أحق به منهم، هكذا ينبغي
أن يتأول كلامه.
وكذلك قوله: " إنما أطلب حقا لي وأنتم تحولون بيني وبينه، وتضربون
وجهي دونه.
قال: " ثم قالوا: ألا إن في الحق أن تأخذه وفى الحق أن تتركه " قال: لم يقتصروا
على أخذ حقي ساكتين عن الدعوى، ولكنهم أخذوه وادعوا أن الحق لهم. وأنه يجب
على أن أترك المنازعة فيه، فليتهم أخذوه معترفين بأنه حقي، فكانت المصيبة به
أخف وأهون.
واعلم أنه قد تواترت الاخبار عنه عليه السلام بنحو من هذا القول، نحو قوله: " ما زلت
مظلوما منذ قبض الله رسوله حتى يوم الناس هذا ".
وقوله: " اللهم أخز قريشا فإنها منعتني حقي، وغصبتني أمري ".
وقوله: " فجزى قريشا عنى الجوازي، فإنهم ظلموني حقي، واغتصبوني سلطان
ابن أمي ".
306

وقوله، وقد سمع صارخا ينادى: أنا مظلوم فقال: " هلم فلنصرخ معا، فإني
ما زلت مظلوما ".
وقوله: " وإنه ليعلم أن محلى منها محل القطب من الرحى ".
وقوله: " أرى تراثي نهبا ".
وقوله: " أصغيا بإنائنا، وحملا الناس على رقابنا ".
وقوله: " إن لنا حقا إن نعطه نأخذه، وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل، وإن
طال السرى ".
وقوله: " ما زلت مستأثرا على، مدفوعا عما أستحقه وأستوجبه ".
وأصحابنا يحملون ذلك كله على ادعائه الامر بالأفضلية والأحقية، وهو الحق والصواب
فإن حمله على الاستحقاق بالنص تكفير أو تفسيق لوجوه المهاجرين والأنصار، ولكن
الامامية والزيدية حملوا هذه الأقوال على ظواهرها، وارتكبوا بها مركبا صعبا. ولعمري
إن هذه الألفاظ موهمة مغلبة على الظن ما يقوله القوم، ولكن تصفح الأحوال يبطل ذلك
الظن، ويدرأ ذلك الوهم، فوجب أن يجرى مجرى الآيات المتشابهات الموهمة مالا يجوز على
الباري، فإنه لا نعمل بها، ولا نعول على ظواهرها، لأنا لما تصفحنا أدلة العقول اقتضت
العدول عن ظاهر اللفظ، وأن تحمل على التأويلات المذكورة في الكتب.
وحدثني يحيى بن سعيد بن علي الحنبلي المعروف بابن عالية من ساكني قطفتا (1)
بالجانب الغربي من بغداد، وأحد الشهود المعدلين بها، قال: كنت حاضرا الفخر إسماعيل
ابن علي الحنبلي الفقيه المعروف بغلام بن ابن المنى، وكان الفخر إسماعيل بن علي هذا، مقدم

(1) قطفنا، بالفتح ثم الضم والفاء ساكنة وتاء مثناة والقصر: محلة بالجانب الغربي من بغداد بينها
وبين دجلة أقل من ميل (مراصد الاطلاع).
307

الحنابلة ببغداد في الفقه والخلاف، ويشتغل بشئ في علم المنطق، وكان حلو العبارة وقد رأيته
أنا وحضرت عنده، وسمعت كلامه، وتوفى سنة عشر وستمائة.
قال ابن عالية: ونحن عنده نتحدث، إذ دخل شخص من الحنابلة، قد كان له دين
على بعض أهل الكوفة، فانحدر إليه يطالبه به، واتفق أن حضرت زيارة يوم الغدير
والحنبلي المذكور بالكوفة، وهذه الزيارة هي اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، ويجتمع
بمشهد أمير المؤمنين عليه السلام من الخلائق جموع عظيمة، تتجاوز حد الإحصاء.
قال ابن عالية: فجعل الشيخ الفخر يسائل ذلك الشخص: ما فعلت؟ ما رأيت؟ هل وصل
مالك إليك؟ هل بقي لك منه بقية عند غريمك؟ وذلك يجاوبه، حتى قال له: يا سيدي
لو شاهدت يوم الزيارة يوم الغدير، وما يجرى عند قبر علي بن أبي طالب من الفضائح والأقوال
الشنيعة وسب الصحابة جهارا بأصوات مرتفعة من غير مراقبة ولا خيفة! فقال إسماعيل: أي
ذنب لهم! والله ما جرأهم على ذلك، ولا فتح لهم هذا الباب إلا صاحب ذلك القبر! فقال
ذلك الشخص: ومن صاحب القبر؟ قال: علي بن أبي طالب! قال: يا سيدي، هو الذي
سن لهم ذلك، وعلمهم إياه وطرقهم إليه! قال: نعم والله، قال: يا سيدي فإن كان محقا فما لنا
أن نتولى فلانا وفلانا! وإن كان مبطلا فما لنا نتولاه! ينبغي أن نبرأ إما منه أو منهما.
قال ابن عالية: فقام إسماعيل مسرعا، فلبس نعليه، وقال: لعن الله إسماعيل الفاعل
إن كان يعرف جواب هذه المسألة، ودخل دار حرمه، وقمنا نحن وانصرفنا.
* * *
الأصل:
منها في ذكر أصحاب الجمل:
فخرجوا يجرون حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تجر الأمة عند شرائها
308

متوجهين بها إلى البصرة. فحبسا نساءهما في بيوتهما، وأبرز حبيس رسول الله صلى
الله عليه وسلم لهما ولغيرهما، في جيش ما منهم رجل إلا وقد أعطاني الطاعة، وسمح لي
بالبيعة، طائعا غير مكره فقدموا على عاملي بها، وخزان بيت مال المسلمين
وغيرهم من أهلها، فقتلوا طائفة صبرا، وطائفة غدرا.
فوالله إن لو لم يصيبوا من المسلمين إلا رجلا واحدا معتمدين لقتله، بلا جرم
جره، لحل لي قتل ذلك الجيش كله، إذ حضروه فلم ينكروا، ولم يدفعوا عنه
بلسان ولا بيد، دع ما إنهم قد قتلوا من المسلمين مثل العدة التي دخلوا
بها عليهم!
* * *
الشرح:
حرمة رسول الله صلى الله عليه وآله كناية عن الزوجة، وأصله الأهل والحرم
وكذلك حبيس رسول الله صلى الله عليه وآله كناية عنها.
وقتلوهم صبرا أي بعد الأسر. وقوله: " فوالله إن لو لم يصيبوا " إن هاهنا زائدة
ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة.
ويسأل عن قوله عليه السلام: " لو لم يصيبوا إلا رجلا واحدا لحل لي قتل ذلك الجيش
بأسره، لأنهم حضروه فلم ينكروا " فيقال: أيجوز قتل من لم ينكر المنكر مع تمكنه
من إنكاره؟
والجواب أنه يجوز قتلهم، لأنهم اعتقدوا ذلك القتل مباحا، فإنهم إذا اعتقدوا إباحته
فقد اعتقدوا إباحة ما حرم الله إ فيكون حالهم حال من اعتقد أن الزنا مباح أو أن شرب
الخمر مباح.
309

وقال القطب الراوندي: يريد أنهم داخلون في عموم قوله تعالى: (إنما جزاء الذين
يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا (1).
ولقائل أن يقول: الاشكال إنما وقع في قوله: " لو لم يصيبوا من المسلمين إلا رجلا
واحدا لحل لي قتل ذلك الجيش بأسره " لأنهم حضروا المنكر ولم يدفعوه بلسان ولا يد، فهو
علل استحلاله قتلهم بأنهم لم ينكروا المنكر، ولم يعلل ذلك بعموم الآية.
وأما معنى قوله: " دع ما إنهم قد قتلوا من المسلمين مثل العدة التي دخلوا بها عليهم "
فهو أنه لو كان المقتول واحدا لحل لي قتلهم كلهم، فكيف وقد قتلوا من المسلمين عدة مثل
عدتهم التي دخلوا بها البصرة! وما هاهنا زائدة.
وصدق عليه السلام، فإنهم قتلوا من أوليائه وخزان بيت المال بالبصرة خلقا كثيرا،
بعضهم غدرا، وبعضهم صبرا، كما خطب به عليه السلام.
* * *
[ذكر يوم الجمل ومسير عائشة إلى القتال] (2)
وروى أبو مخنف قال: حدثنا إسماعيل بن خالد، عن قيس بن أبي حازم. وروى
الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس. وروى جرين بن يزيد، عن عامر الشعبي، وروى
محمد بن إسحاق، عن حبيب بن عمير، قالوا جميعا: لما خرجت عائشة وطلحة والزبير من
مكة إلى البصرة، طرقت ماء الحوأب، وهو ماء لبني عامر بن صعصعة، فنبحتهم الكلاب
فنفرت صعاب إبلهم، فقال قائل منهم: لعن الله الحوأب فما أكثر كلابها فلما سمعت
عائشة ذكر الحوأب، قالت: أهذا ماء الحوأب؟ قالوا: نعم، فقالت: ردوني ردوني. فسألوها
ما شأنها؟ ما بدا لها؟ فقالت: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: " كأني بكلاب

(1) سورة المائدة 33.
(2) انظر ص 111 وما بعدها من هذا الجزء.
310

ماء يدعى الحوأب، قد نبحت بعض نسائي " ثم قال لي: " إياك يا حميراء أن تكونيها " فقال لها الزبير: مهلا يرحمك الله، فإنا قد جزنا ماء الحوأب بفراسخ كثيرة، فقالت: أعندك
من يشهد بأن هذه الكلاب النابحة ليست على ماء الحوأب؟ فلفق لها الزبير وطلحة خمسين
أعرابيا جعلا لهم جعلا، فحلفوا لها، وشهدوا أن هذا الماء ليس بماء الحوأب، فكانت
هذه أول شهادة زور في الاسلام.
فسارت عائشة لوجهها.
* * *
قال أبو مخنف: وحدثنا عصام بن قدامة، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول
الله صلى الله عليه وآله قال يوما لنسائه، وهن عنده جميعا: " ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل
الأدبب (1)، تنبحها كلاب الحوأب يقتل عن يمينها وشمالها قتلى كثيرة، كلهم في النار
وتنجو بعد ما كادت!
قلت: وأصحابنا المعتزلة رحمهم الله، يحملون قوله عليه السلام: " وتنجو " على نجاتها
من النار، والامامية يحملون ذلك على نجاتها من القتل، ومحملنا أرجح، لان لفظة " في النار "
أقرب إليه من لفظة " القتلى " والقرب معتبر في هذا الباب، ألا ترى أن نحاة البصريين
أعملوا أقرب العاملين، نظرا إلى القرب!
* * *
قال أبو مخنف: وحدثني الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، أن الزبير وطلحة
أغذا (2) السير بعائشة، حتى انتهوا إلى حفر أبى موسى الأشعري، وهو قريب من البصرة
وكتبا إلى عثمان بن حنيف الأنصاري، وهو عامل علي عليه السلام على البصرة: أن أخل
لنا دار الامارة، فلما وصل كتابهما إليه بعث الأحنف بن قيس، فقال له: إن هؤلاء
القوم قدموا علينا ومعهم زوجة رسول الله، والناس إليها سراع كما ترى، فقال الأحنف:

(1) الأديب: الكثير الشعر.
(2) الإغذاذ: الاسراع.
311

إنهم جاءوك بها للطلب بدم عثمان، وهم الذين ألبوا على عثمان الناس، وسفكوا دمه
وأراهم والله لا يزايلون حتى يلقوا العداوة بيننا، ويسفكوا دماءنا، وأظنهم والله سيركبون
منك خاصة مالا قبل لك به، إن لم تتأهب لهم بالنهوض إليهم فيمن معك من أهل البصرة
فإنك اليوم الوالي عليهم، وأنت فيهم مطاع، فسر إليهم بالناس، وبادرهم قبل أن يكونوا
معك في دار واحدة، فيكون الناس لهم أطوع منهم لك!
فقال عثمان بن حنيف: الرأي ما رأيت، لكنني أكره الشر، وأن أبدأهم به
وأرجو العافية والسلامة إلى أن يأتيني كتاب أمير المؤمنين ورأيه فأعمل به. ثم أتاه بعد
الأحنف حكيم بن جبلة العبدي من بنى عمرو بن وديعة، فأقرأه كتاب طلحة والزبير
فقال له مثل قول الأحنف، وأجابه عثمان بمثل جوابه للأحنف، فقال له حكيم: فأذن
لي حتى أسير إليهم بالناس فإن دخلوا في طاعة أمير المؤمنين، وإلا نابذتهم
على سواء.
فقال عثمان: لو كان ذلك رأيي لسرت إليهم نفسي قال حكيم: أما والله إن دخلوا
عليك هذا المصر لينتقلن قلوب كثير من الناس إليهم وليزيلنك عن مجلسك هذا
وأنت أعلم. فأبى عليه عثمان.
قال: وكتب على إلى عثمان لما بلغه مشارفة القوم البصرة.
من عبد الله على أمير المؤمنين إلى عثمان بن حنيف أما بعد:
فإن البغاة عاهدوا الله ثم نكثوا، وتوجهوا إلى مصرك، وساقهم الشيطان لطلب
ما لا يرضى الله به. والله أشد بأسا، وأشد تنكيلا فإذا قدموا عليك فادعهم إلى الطاعة
والرجوع إلى الوفاء بالعهد والميثاق الذي فارقونا عليه، فإن أجابوا فأحسن جوارهم ما داموا
312

عندك، وإن أبوا إلا التمسك بحبل النكث والخلاف، فناجزهم القتال حتى يحكم الله
بينك، وبينهم وهو خير الحاكمين، وكتبت كتابي هذا إليك من الربذة، وأنا معجل
المسير إليك إن شاء الله.
وكتبه عبيد الله بن أبي رافع في سنة ست وثلاثين.
قال: فلما وصل كتاب علي عليه السلام إلى عثمان، أرسل إلى أبى الأسود الدؤلي
وعمران بن الحصين الخزاعي، فأمرهما أن يسيرا حتى يأتياه بعلم القوم، وما الذي أقدمهم!
فانطلقا حتى إذا أتيا حفر أبى موسى، وبه معسكر القوم، فدخلا على عائشة، فنالاها
ووعظاها، وأذكراها وناشداها الله، فقالت لهما: القيا طلحة والزبير. فقاما من عندها
ولقيا الزبير فكلماه، فقال لهما: إنا جئنا للطلب بدم عثمان، وندعو الناس إلى أن يردوا
أمر الخلافة شورى، ليختار الناس لأنفسهم. فقالا له: إن عثمان لم يقتل بالبصرة ليطلب
دمه فيها، وأنت تعلم قتلة عثمان من هم، وأين هم! وإنك وصاحبك وعائشة كنتم أشد
الناس عليه، وأعظمهم إغراء بدمه، فأقيدوا من أنفسكم. وأما إعادة أمر الخلافة شورى
فكيف وقد بايعتم عليا طائعين غير مكرهين! وأنت يا أبا عبد الله لم يبعد العهد بقيامك
دون هذا الرجل يوم مات رسول الله صلى الله عليه وآله، وأنت آخذ قائم سيفك، تقول:
ما أحد أحق بالخلافة منه ولا أولى بها منه! وامتنعت من بيعة أبى بكر فأين ذلك الفعل
من هذا القول!
فقال لهما: اذهبا فالقيا طلحة، فقاما إلى طلحة فوجداه أخشن الملمس، شديد العريكة
قوى العزم في إثارة الفتنة وإضرام نار الحرب، فانصرفا إلى عثمان بن حنيف، فأخبراه
وقال له أبو الأسود:
يا بن حنيف قد أتيت فانفر * وطاعن القوم وجالد واصبر (1)

(1) تاريخ الطبري 6: 174.
313

* وابرز لها مستلئما وشمر *
فقال ابن حنيف: أي والحرمين لأفعلن، وأمر مناديه فنادى في الناس: السلاح
السلاح! فاجتمعوا إليه، وقال أبو الأسود:
أتينا الزبير فداني الكلام * وطلحة كالنجم أو أبعد
وأحسن قوليهما فادح * يضيق به الخطب مستنكد
وقد أو عدونا بجهد الوعيد * فأهون علينا بما أو عدوا
فقلنا ركضتم ولم ترملوا * وأصدرتم قبل أن توردوا
فإن تلقحوا الحرب بين الرجال * فملقحها حده الأنكد
وإن عليا لكم مصحر * ألا إنه الأسد الأسود
أما إنه ثالث العابدين * بمكة والله لا يعبد
فرخوا الخناق ولا تعجلوا * فإن غدا لكم موعد
قال: وأقبل القوم، فلما انتهوا إلى المربد، قام رجل من بنى جشم، فقال: أيها الناس
أنا فلان الجشمي، وقد أتاكم هؤلاء القوم، فإن كانوا أتوكم من المكان الذي يأمن فيه
الطير والوحش والسباع، وإن كانوا إنما أتوكم بطلب دم عثمان، فغيرنا ولى قتله. فأطيعوني
أيها الناس وردوهم من حيث أقبلوا، فإنكم إن لم تفعلوا لم تسلموا من الحرب الضروس
والفتنة الصماء التي لا تبقى ولا تذر.
قال: فحصبه ناس من أهل البصرة، فأمسك.
قال: واجتمع أهل البصرة إلى المربد حتى ملئوه مشاة وركبانا، فقام طلحة فأشار
إلى الناس بالسكون ليخطب، فسكتوا بعد جهد. فقال: أما بعد، فإن عثمان بن عفان
كان من أهل السابقة والفضيلة، ومن المهاجرين الأولين الذي رضي الله عنهم ورضوا عنه،
314

ونزل القرآن ناطقا بفضلهم، وأحد أئمة المسلمين الوالين عليكم بعد أبي بكر وعمر صاحبي
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان أحدث أحداثا نقمناها عليه، فأتيناه فاستعتبناه
فأعتبنا، فعدا عليه امرؤ ابتز هذه الأمة أمرها غصبا بغير رضا منها ولا مشورة، فقتله
وساعده على ذلك قوم غير أتقياء والا أبرا، فقتل محرما بريئا تائبا. وقد جئناكم أيها
الناس نطلب بدم عثمان. وندعوكم إلى الطب بدمه، فإن نحن أمكننا الله من قتلته
قتلناهم به، وجعلنا هذا الامر شورى بين المسلمين، وكانت خلافة رحمة للأمة جميعا، فإن
كل من أخذ الامر من غير رضا من العامة ولا مشورة منها ابتزازا، كان ملكه ملكا
عضوضا، وحدثا كثيرا.
ثم قام الزبير، فتكلم بمثل كلام طلحة.
فقام إليهما ناس من أهل البصرة فقالوا لهما: ألم تبايعا عليا فيمن بايعه؟ ففيم بايعتما
ثم نكثتما! فقالا: ما بايعنا، وما لأحد في أعناقنا بيعة، وإنما استكرهنا على بيعة.
فقال ناس: قد صدقا وأحسنا القول، وقطعا بالثواب. وقال ناس: ما صدقا ولا أصابا في
القول، حتى ارتفعت الأصوات.
قال: ثم أقبلت عائشة على جملها، فنادت بصوت مرتفع: أيها الناس، أقلوا الكلام
واسكتوا، فأسكت الناس لها، فقالت:
إن أمير المؤمنين عثمان قد كان غير وبدل ثم لم يزل يغسل ذلك بالتوبة، حتى قتل
مظلوما تائبا، وإنما نقموا عليه ضربه بالسوط، وتأميره الشبان، وحمايته موضع الغمامة،
فقتلوه محرما في حرمة الشهر وحرمة البلد، ذبحا كما يذبح الجمل. ألا وإن قريشا رمت
غرضها بنبالها، وأدمت أفواهها بأيديها، وما نالت بقتلها إياه شيئا، ولا سلكت به سبيلا
315

قاصدا، أما والله ليرونها بلايا عقيمة تنتبه النائم، وتقيم الجالس، وليسلطن عليهم قوم
لا يرحمونهم، ويسومونهم سوء العذاب.
أيها الناس، إنه ما بلغ من ذنب عثمان ما يستحل به دمه! مصتموه (1) كما يماص الثوب
الرحيض (2) ثم عدوتم عليه فقتلتموه بعده توبته وخروجه من ذنبه، وبايعتم ابن أبي
طالب بغير مشورة من الجماعة ابتزازا وغصبا. تراني أغضب لكم من سوط عثمان
ولسانه، ولا أغضب لعثمان من سيوفكم ألا إن عثمان قتل مظلوما فاطلبوا قتلته، فإذا
ظفرتم بهم فاقتلوهم، ثم اجعلوا الامر شورى بين الرهط الذين اختارهم أمير المؤمنين
عمر بن الخطاب، ولا يدخل فيهم من شرك في دم عثمان.
قال: فماج الناس واختلطوا، فمن قائل: القول ما قالت، ومن قائل يقول:
وما هي وهذا الامر، إنما هي امرأة مأمورة بلزوم بيتها! وارتفعت الأصوات، وكثر اللغط
حتى تضاربوا بالنعال، وتراموا بالحصى.
ثم إن الناس تمايزوا فصاروا فريقين: فريق مع عثمان بن حنيف، وفريق مع
عائشة وأصحابها.
* * *
قال: وحدثنا الأشعث بن سوار، عن محمد بن سيرين، عن أبي الخليل، قال:
لما نزل طلحة والزبير المربد. أتيتهما فوجدتهما مجتمعين، فقلت لهما: ناشدتكما الله وصحبة
رسول الله صلى الله عليه وسلم! ما الذي أقدمكما أرضنا هذه؟ فلم يتكلما، فأعدت عليهما
فقالا: بلغنا أن بأرضكم هذه دنيا، فجئنا نطلبها.
* * *

(1) الموص: الغسل بالأصابع، وفى النهاية لابن الأثير 4: 114 " يقال: مصته أموصه موصا،
أرادت أنهم استتابوه عما نقموا منه، فلما أعطاهم ما طلبوا قتلوه ".
(2) الرحيض: المغسول.
316

قال: وقد روى محمد بن سيرين، عن الأحنف بن قيس أنه لقيهما، فقالا له مثل
مقالتهما الأولى: إنما جئنا لطلب الدنيا.
وقد روى المدائني أيضا نحوا مما روى أبو مخنف، قال: بعث علي عليه السلام
ابن عباس يوم الجمل إلى الزبير قبل الحرب، فقال له: إن أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام
ويقول لكم: ألم تبايعني طائعا غير مكره، فما الذي رابك منى، فاستحللت به قتالي!
قال: فلم يكن له جواب إلا أنه قال لي: أنا مع الخوف الشديد لنطمع. لم يقل
غير ذلك.
قال أبو إسحاق: فسألت محمد بن علي بن الحسين عليه السلام ما تراه يعنى بقوله هذا
فقال: أما والله ما تركت ابن عباس حتى سألته، عن هذا فقال: يقول: إنا مع الخوف
الشديد مما نحن عليه، نطمع أن نلي مثل الذي وليتم.
* * *
وقال محمد بن إسحاق: حدثني جعفر بن محمد عليه السلام، عن أبيه عن ابن عباس
قال: بعثني علي عليه السلام يوم الجمل إلى طلحة والزبير، وبعث معي بمصحف منشور
وإن الريح لتصفق ورقه، فقال لي: قل لهما: هذا كتاب الله بيننا وبينكم، فما تريدان؟
فلم يكن لهما جواب إلا أن قالا: نريد ما أراد، كأنهما يقولان: الملك.
فرجعت إلى علي فأخبرته.
* * *
وقد روى قاضى القضاة رحمه الله في كتاب " المغني " عن وهب بن جرير، قال:
قال رجل من أهل البصرة لطلحة والزبير: إن لكما فضلا وصحبة، فأخبراني عن مسيركما
317

هذا وقتالكما، أشئ أمركما به رسول الله صلى الله عليه وآله، أم رأى رأيتماه؟ فأما طلحة
فسكت وجعل ينكت في الأرض، وأما الزبير فقال: ويحك! حدثنا أن هاهنا دراهم
كثيرة فجئنا لنأخذ منها.
وجعل قاضى القضاة هذا الخبر حجة في أن طلحة تاب، وأن الزبير لم يكن مصرا
على الحرب، والاحتجاج بهذا الخبر على هذا المعنى ضعيف، وإن صح هو وما قبله، إنه
لدليل على حمق شديد، وضعف عظيم، ونقص ظاهر. وليت شعري ما الذي أحوجهما إلى
هذا القول! وإذا كان هذا في أنفسهما، فهلا كتماه!
* * *
ثم نعود إلى خبرهما: قال أبو مخنف: فلما أقبل طلحة والزبير من المربد، يريدان
عثمان بن حنيف، فوجداه وأصحابه قد أخذوا بأفواه السكك، فمضوا حتى انتهوا إلى موضع
الدباغين، فاستقبلهم أصحاب ابن حنيف، فشجرهم (1) طلحة والزبير وأصحابهما بالرماح
فحمل عليهم حكيم بن جبلة، فلم يزل هو وأصحابه يقاتلونهم حتى أخرجوهم من جميع السكك
ورماهم النساء من فوق البيوت بالحجارة، فأخذوا إلى مقبرة بنى مازن، فوقفوا بها مليا
حتى ثابت إليهم خيلهم ثم أخذوا على مسناة البصرة، حتى انتهوا إلى الرابوقة
ثم أتوا سبخة دار الرزق، فنزلوها.
قال: وأتاهما عبد الله بن حكيم التميمي لما نزلا السبخة بكتب كانا كتباها إليه، فقال
لطلحة: يا أبا محمد، أما هذا كتبك إلينا؟ قال: بلى، قال: فكتبت أمس تدعونا إلى
خلع عثمان وقتله، حتى إذا قتلته، أتيتنا ثائرا بدمه! فلعمري ما هذا رأيك، لا تريد إلا
هذه الدنيا. مهلا! إذا كان هذا رأيك فلم قبلت من على ما عرض عليك من البيعة،

(1) شجره بالرمح: طعنه.
318

فبايعته طائعا راضيا، ثم نكثت بيعتك ثم جئت لتدخلنا في فتنتك! فقال: إن عليا
دعاني إلى بيعته بعد ما بايع الناس فعلمت لو لم أقبل ما عرضه على لم يتم لي، ثم يغري بي
من معه.
قال: ثم أصحبنا من غد فصفا للحرب، وخرج عثمان بن حنيف إليهما في أصحابه
فناشدهما الله والاسلام، وأذكرهما بيعتهما عليا عليه السلام فقالا: نطلب بدم عثمان
فقال لهما: وما أنتما وذاك أين بنوه؟ أين بنو عمه الذين هم أحق به منكم! كلا والله
ولكنكما حسدتماه، حيث اجتمع الناس عليه، وكنتما ترجوان هذا الامر، وتعملان له!
وهل كان أحد أشد على عثمان قولا منكما فشتماه شتما قبيحا، وذكر أمه، فقال
للزبير: أما والله لولا صفية ومكانها من رسول الله فإنها أدنتك إلى الظل، وأن الامر بيني
وبينك - يا بن الصعبة - يعنى طلحة - أعظم من القول - لأعلمتكما من أمركما ما يسوء كما.
اللهم إني قد أعذرت إلى هذين الرجلين!
ثم حمل عليهم، واقتتل الناس قتالا شديدا، ثم تحاجزوا واصطلحوا على أن يكتب
بينهم كتاب صلح فكتب:
هذا ما اصطلح عليه عثمان بن حنيف الأنصاري ومن معه من المؤمنين من شيعة
مير المؤمنين علي بن أبي طالب وطلحة والزبير ومن معهما من المؤمنين والمسلمين من
شيعتهما، أن لعثمان بن حنيف دار الامارة والرحبة والمسجد وبيت المال والمنبر، وأن لطلحة
والزبير ومن معهما أن ينزلوا حيث شاءوا من البصرة، ولا يضار بعضهم بعضا في طريق
ولا فرضة ولا سوق ولا شرعة ولا مرفق، حتى يقدم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
فإن أحبوا دخلوا فيما دخلت فيه الأمة، وإن أحبوا لحق كل قوم بهواهم وما أحبوا من
319

قتال أو سلم أو خروج أو إقامة وعلى الفريقين بما كتبوا عهد الله وميثاقه، وأشد ما أخذه
على نبي من أنبيائه، من عهد وذمة.
وختم الكتاب، ورجع عثمان بن حنيف حتى دخل دار الامارة وقال لأصحابه:
الحقوا رحمكم الله بأهلكم، وضعوا سلاحكم، وداووا جرحاكم، فمكثوا كذلك أياما.
ثم إن طلحة والزبير قالا: إن قدم على ونحن على هذه الحال من القلة والضعف
ليأخذن بأعناقنا فأجمعا على مراسلة القبائل واستمالة العرب، فأرسلا إلى وجوه الناس
وأهل الرياسة والشرف، يدعوانهم إلى الطلب بدم عثمان، وخلع على، وإخراج
ابن حنيف من البصرة. فبايعهم على ذلك الأزد وضبة وقيس بن عيلان كلها إلا الرجل
والرجلين من القبيلة، كرهوا أمرهم فتواروا عنهم، وأرسلوا إلى هلال بن وكيع التميمي
فلم يأتهم فجاءه طلحة والزبير إلى داره، فتوارى عنهما، فقالت له أمة: ما رأيت مثلك!
أتاك شيخا قريش فتواريت عنهما! فلم تزل به حتى ظهر لهما، وبايعهما ومعه بنو عمرو
ابن تميم كلهم وبنو حنظلة إلا بنى يربوع، فإن عامتهم كانوا شيعة علي عليه السلام
وبايعهم بنو دارم كلهم إلا نفرا من بنى مجاشع ذوي دين وفضل.
فلما استوسق لطلحة والزبير أمرهما، خرجا في ليلة مظلمة ذات ريح ومطر، ومعهما
أصحابهما، قد ألبسوهم الدروع، وظاهروا فوقها بالثياب، فانتهوا إلى المسجد وقت صلاة
الفجر، وقد سبقهم عثمان بن حنيف إليه، وأقيمت الصلاة، فتقدم عثمان ليصلي بهم
فأخره أصحاب طلحة والزبير، وقدموا الزبير فجاءت السبابجة، وهم الشرط حرس
بيت المال. فأخرجوا الزبير، وقدموا عثمان، فغلبهم أصحاب الزبير، فقدموا الزبير
وأخروا عثمان، فلم يزالوا كذلك حتى كادت الشمس تطلع، وصاح بهم أهل المسجد:
ألا تتقون أصحاب محمد وقد طلعت الشمس! فغلب الزبير فصلى بالناس، فلما انصرف من
320

صلاته، صاح بأصحابه المستسلحين: أن خذوا عثمان بن حنيف، فأخذوه بعد أن تضارب هو
ومروان بن الحكم بسيفيهما، فلما أسر ضرب ضرب الموت، ونتف حاجباه وأشفار عينيه
وكل شعرة في رأسه ووجهه، وأخذوا السبابحة وهم سبعون رجلا، فانطلقوا بهم وبعثمان
ابن حنيف إلى عائشة فقالت لأبان بن عثمان: اخرج إليه فاضرب عنقه، فإن الأنصار
قتلت أباك وأعانت على قتله. فنادى عثمان: يا عائشة، ويا طلحة ويا زبير، إن أخي سهل
ابن حنيف خليفة علي بن أبي طالب على المدينة، وأقسم بالله إن قتلتموني ليضعن السيف
في بنى أبيكم وأهليكم ورهطكم، فلا يبقى أحدا منكم. فكفوا عنه، وخافوا أن يقع
سهل بن حنيف بعيالاتهم وأهلهم بالمدينة، فتركوه.
وأرسلت عائشة إلى الزبير أن أقتل السبابجة فإنه قد بلغني الذي صنعوا بك.
قال: فذبحهم والله الزبير كما يذبح الغنم، ولى ذلك منهم عبد الله ابنه، وهم سبعون رجلا
وبقيت منهم طائفة مستمسكين ببيت المال. قالوا: لا ندفعه إليكم حتى يقدم
أمير المؤمنين، فسار إليهم الزبير في جيش ليلا، فأوقع بهم، وأخذ منهم خمسين أسيرا
فقتلهم صبرا.
* * *
قال أبو مخنف: فحدثنا الصقعب بن زهير، قال: كانت السبابجة القتلى يومئذ أربعمائة
رجل قال: فكان غدر طلحة والزبير بعثمان بن حنيف أول غدر كان في الاسلام
وكان السبابجة أول قوم ضربت أعناقهم من المسلمين صبرا. قال: وخيروا عثمان
ابن حنيف بين أن يقيم أو يلحق بعلي، فاختار الرحيل، فخلوا سبيله، فلحق بعلي عليه
السلام، فلما رآه بكى، وقال له: فارقتك شيخا، وجئتك أمرد. فقال على: إنا لله وإنا إليه
راجعون! قالها ثلاثا.
321

قلت: السبابجة لفظة معربة قد ذكرها الجوهري في كتاب " الصحاح " (1) قال:
هم قوم من السند، كانوا بالبصرة جلاوزة (2) وحراس السجن، والهاء للعجمة والنسب
قال يزيد بن مفرغ الحميري:
وطماطيم من سبابيج خزر * يلبسوني مع الصباح القيودا
قال: فلما بلغ حكيم بن جبلة ما صنع القوم بعثمان بن حنيف، خرج في ثلاثمائة من
عبد القيس مخالفا لهم ومنابذا، فخرجوا إليه، وحملوا عائشة على جمل، فسمى ذلك اليوم يوم
الجمل الأصغر، ويوم على يوم الجمل الأكبر.
وتجالد الفريقان بالسيوف، فشد رجل من الأزد من عسكر عائشة على حكيم بن جبلة
فضرب رجله فقطعها، ووقع الأزدي عن فرسه، فجثا حكيم، فأخذ رجله فرمى بها الأزدي
فصرعه، ثم دب إليه فقتله متكئا عليه، خانقا له حتى زهقت نفسه فمر بحكيم إنسان
وهو يجود بنفسه، فقال: من فعل بك؟ قال: وسادي، فنظر فإذا الأزدي تحته، وكان
حكيم شجاعا مذكورا.
قال: وقتل مع حكيم إخوة له ثلاثة، وقتل أصحابه كلهم، وهم ثلاثمائة من عبد القيس
والقليل منهم من بكر بن وائل، فلما صفت البصرة لطلحة والزبير بعد قتل حكيم وأصحابه
وطرد ابن حنيف عنهما اختلفا في الصلاة، وأراد كل منهما أن يؤم بالناس، وخاف أن
تكون صلاته خلف صاحبه تسليما له ورضا بتقدمه، فأصلحت بينهما عائشة، بأن جعلت
عبد الله بن الزبير ومحمد بن طلحة يصليان بالناس، هذا يوما وهذا يوما.
قال أبو مخنف: ثم دخلا بيت المال بالبصرة، فلما رأوا ما فيه من الأموال، قال
الزبير: (وعد كم الله مغانم كثيرة تأخذونها، فعجل لكم هذه) (1)، فنحن أحق

(1) الصحاح 1: 321.
(2) الجلواز: الشرطي.
(3) سورة الفتح 20.
322

بها من أهل البصرة فأخذا ذلك المال كله، فلما غلب علي عليه السلام رد تلك الأموال
إلى بيت المال، وقسمها في المسلمين.
وقد ذكرنا فيما تقدم كيفية الوقعة، ومقتل الزبير فارا عن الحرب خوفا أو توبة - ونحن
نقول: إنها توبة - وذكرنا مقتل طلحة والاستيلاء على أم المؤمنين وإحسان علي عليه السلام إليها وإلى من أسر في الحرب، أو ظفر به بعدها.
* * *
[منافرة بين ولدى على وطلحة]
كان القاسم بن محمد بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله التيمي - يلقب أبا بعرة، ولى شرطة
الكوفة لعيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس - كلم إسماعيل بن جعفر
ابن محمد الصادق عليه السلام بكلام خرجا فيه إلى المنافرة (1) فقال القاسم بن محمد: لم يزل فضلنا
وإحساننا سابغا عليكم يا بني هاشم وعلى بنى عبد مناف كافة، فقال إسماعيل: أي فضل
وإحسان أسديتموه إلى بنى عبد مناف؟ أغضب أبوك جدي بقوله: ليموتن محمد
ولنجولن بين خلاخيل نسائه كما جال بين خلاخيل نسائنا (2). فأنزل الله تعالى مراغمة لأبيك:
(وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا) (3)
ومنع ابن عمك أمي حقها من فدك وغيرها من ميراث أبيها، وأجلب أبوك على عثمان
وحصره حتى قتل، ونكث بيعة على وشام (4) السيف في وجهه، وأفسد قلوب المسلمين

(1) المنافرة: المفاخرة بالحسب والنسب.
(2) انظر تفسير ابن كثير 3: 506.
(3) سورة الأحزاب 53.
(4) شام بالسيف: شهره.
323

عليه، فإن كان لبني عبد مناف قوم غير هؤلاء أسديتم إليهم إحسانا، فعرفني من هم
جعلت فداك!
* * *
[منافرة عبد الله بن الزبير وعبد الله بن العباس]
وتزوج عبد الله بن الزبير أم عمرو ابنة منظور بن زبان الفزارية، فلما دخل بها
قال لها تلك الليلة: أتدرين من معك في حجلتك (1) قالت: نعم، عبد الله بن الزبير بن العوام
ابن خويلد بن أسد بن عبد العزى.
قال: ليس غير هذا! قالت: فما الذي تريد؟ قال: معك من أصبح في قريش بمنزلة
الرأس من الجسد، لا بل بمنزلة العينين من الرأس قالت: أما والله لو أن بعض بنى عبد مناف
حضرك لقال لك خلاف قولك. فغضب، وقال: الطعام والشراب على حرام حتى أحضرك
الهاشميين وغيرهم من بنى عبد مناف، فلا يستطيعون لذلك إنكارا. قالت: إن أطعتني
لم تفعل، وأنت أعلم وشأنك.
فخرج إلى المسجد فرأى حلقة فيها قوم من قريش، منهم عبد الله بن العباس
وعبد الله بن الحصين بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف، فقال لهم ابن الزبير: أحب أن تنطلقوا معي إلى منزلي، فقام القوم بأجمعهم حتى وقفوا على باب بيته، فقال
ابن الزبير: يا هذه اطرحي عليك سترك، فلما أخذوا مجالسهم دعا بالمائدة، فتغدى
القوم فلما فرغوا قال لهم: إنما جمعتكم لحديث ردته على صاحبة الستر، وزعمت أنه
لو كان بعض بنى عبد مناف حضرني لما أقر لي بما قلت، وقد حضرتم جميعا. وأنت
يا بن عباس، ما تقول؟ إني أخبرتها أن معها في خدرها من أصبح في قريش بمنزلة

(1) الحجلة، بالتحريك: بيت للعروس يزين بالثياب والأسرة والسنور.
324

الرأس من الجسد، بل بمنزلة العينين من الرأس! فردت على مقالتي فقال ابن عباس:
أراك قصدت قصدي، فإن شئت أن أقول قلت، وإن شئت أن أكف كففت
قال: بل قل، وما عسى أن تقول! ألست تعلم أنى ابن الزبير حواري رسول صلى
الله عليه وسلم وأن أمي أسماء بنت أبي بكر الصديق ذات النطاقين، وأن عمتي خديجة
سيدة نساء العالمين، وأن صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم جدتي، وأن عائشة
أم المؤمنين خالتي! فهل تستطيع لهذا إنكارا!
قال ابن عباس: لقد ذكرت شرفا شريفا، وفخرا فاخرا، غير أنك تفاخر من
بفخره فخرت، وبفضله سموت. قال: وكيف ذلك؟ قال لأنك لم تذكر فخرا إلا برسول
الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أولى بالفخر به منك. قال ابن الزبير: لو شئت لفخرت عليك
بما كان قبل النبوة قال ابن عباس:
* قد أنصف القارة من راماها (1) *
نشدتكم الله أيها الحاضرون! أعبد المطلب أشرف أم خويلد في قريش؟ قالوا:
عبد المطلب، قال: أفهاشم كان أشرف فيها أم أسد؟ قالوا: بل هاشم، قال: أفعبد مناف
أشرف أم عبد العزى؟ قالوا: عبد مناف فقال ابن عباس:
تنافرني يا بن الزبير وقد قضى * عليك رسول الله لا قول هازل
ولو غيرنا يا بن الزبير فخرته * ولكنما ساميت شمس الأصائل

(1) القارة: قوم من رماة العرب، وهم عضل والديش ابنا الهون بن خزيمة من كنانة سموا قارة
لاجتماعهم والتفافهم لما أراد ابن الشداخ أن يفرقهم في كنانة. وأصل المثل كما ذكره صاحب اللسان: أن
رجلين التقيا، أحدهما قاري والاخر أسدى، فقال القاري: إن شئت صارعتك، وإن شئت سابقتك
وإن شئت راميتك، فقال: اخترت المراماة، فقال القاري: قد أنصفني، وأنشد:
قد أنصف القارة من راماها * إنا إذا ما فئة نلقاها
* نرد أولاها على أخراها *
ثم انتزع له سهما فشك فؤاده.
325

قضى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفضل في قوله: " ما افترقت فرقتان
إلا كنت في خيرهما " فقد فارقناك من بعد قصي بن كلاب، أفنحن في فرقة الخير
أم لا؟ إن قلت: نعم خصمت (1) وإن قلت لا كفرت!
فضحك بعض القوم، فقال ابن الزبير: أما والله لولا تحرمك بطعامنا يا بن عباس
لأعرقت جبينك قبل أن تقوم من مجلسك، قال ابن عباس: ولم؟ أبباطل، فالباطل
لا يغلب الحق، أم بحق؟ فالحق لا يخشى من الباطل.
فقالت المرأة من وراء الستر: إني والله لقد نهيته عن هذا المجلس فأبى إلا
ما ترون.
فقال ابن عباس: مه أيتها المرأة! اقنعي ببعلك، فما أعظم الخطر، وما أكرم الخبر
فأخذ القوم بيد ابن عباس - وكان قد عمى - فقالوا: انهض أيها الرجل فقد أفحمته
غير مرة، فنهض وقال:
ألا يا قومنا ارتحلوا وسيروا * فلو ترك القطا لغفا وناما
فقال ابن الزبير: يا صاحب القطا، أقبل على، فما كنت لتد عنى حتى أقول
وأيم الله لقد عرف الأقوام أنى سابق غير مسبوق، وابن حواري وصديق، متبجح في
الشرف الأنيق، خير من طليق.
فقال ابن عباس: دسعت بجرتك (2) فلم تبق شيئا؟ هذا الكلام مردود، من
امرئ حسود، فإن كنت سابقا فإلى من سبقت؟ وإن كنت فاخرا فبمن فخرت؟
فإن كنت أدركت هذا الفخر بأسرتك دون أسرتنا، فالفخر لك علينا وإن كنت
إنما أدركته بأسرتنا فالفخر لنا عليك، والكثكث (3) في فمك ويديك. وأما ما ذكرت

(1) خصمت: أي غلبت.
(2) يقال: دسع البعير بجرته أي دفعها حتى أخرجها، والكلام على التمثيل.
(3) الكثكث: التراب.
326

من الطليق، فوالله لقد ابتلى فصبر، وأنعم عليه فشكر، وإن كان والله لوفيا كريما غير
ناقض بيعة بعد توكيدها، ولا مسلم كتيبة بعد التأمر عليها.
فقال ابن الزبير: أتعير الزبير بالجبن، والله إنك لتعلم منه خلاف ذلك.
قال ابن عباس: والله إني لا أعلم إلا أنه فر وما كر، وحارب فما صبر، وبايع فما تمم
وقطع الرحم، وأنكر الفضل، ورام ما ليس له بأهل.
وأدرك منها بعض ما كان يرتجى * وقصر عن جرى الكرام وبلدا
وما كان إلا كالهجين أمامه * عناق فجاراه العناق فأجهدا
فقال ابن الزبير: لم يبق يا بني هاشم غير المشاتمة (1) والمضاربة.
فقال عبد الله بن الحصين بن الحارث: أقمناه عنك يا بن الزبير، وتأبى إلا منازعته،
والله لو نازعته من ساعتك إلى انقضاء عمرك ما كنت إلا كالسغب الظمآن، يفتح فاه
يستزيد من الريح، فلا يشبع من سغب، ولا يروى من عطش، فقل إن
شئت، أو فدع.
وانصرف القوم.

(1) ب: " المشاغبة ".
327

(174) الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام:
أمين وحيه، وخاتم رسله، وبشير رحمته، ونذير نقمته.
أيها الناس، إن أحق الناس بهذا الامر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه،
فإن شغب شاغب استعتب فإن أبى قوتل.
ولعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتى تحضرها عامة الناس، ما إلى ذلك
سبيل، ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها، ثم ليس للشاهد أن يرجع
ولا للغائب أن يختار.
ألا وإني أقاتل رجلين: رجلا ادعى ما ليس له، وآخر منع الذي عليه.
* * *
الشرح:
صدر الكلام في ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله، ويتلوه فصول:
أولها: أن أحق الناس بالإمامة أقواهم عليها، وأعلمهم بحكم الله فيها، وهذا لا ينافي
مذهب أصحابنا البغداديين في صحة إمامة المفضول، لأنه ما قال: إن إمامة غير الأقوى
فاسدة، ولكنه قال: إن الأقوى أحق، وأصحابنا لا ينكرون أنه عليه السلام أحق ممن
تقدمه بالإمامة مع قولهم بصحة إمامة المتقدمين، لأنه لا منافاة بين كونه أحق، وبين صحة
إمامة غيره.
328

فإن قلت: أي فرق بين أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه؟ قلت: أقواهم أحسنهم
سياسة، وأعلمهم بأمر الله أكثرهم علما وإجراء للتدبير بمقتضى العلم، وبين الامرين فرق
واضح، فقد يكون سائسا حاذقا، ولا يكون عالما بالفقه، وقد يكون سائسا فقيها، ولا يجرى
التدبير على مقتضى علمه وفقهه.
وثانيها: أن الإمامة لا يشترط في صحة انعقادها أن يحضرها الناس كافة، لأنه لو كان
ذلك مشترطا لأدى إلى ألا تنعقد إمامة أبدا لتعذر اجتماع المسلمين من أطراف الأرض
ولكنها تنعقد بعقد العلماء وأهل الحل والعقد الحاضرين، ثم لا يجوز بعد عقدها لحاضريها أن
يرجعوا من غير سبب يقتضى رجوعهم، ولا يجوز لمن غاب عنها أن يختار غير من عقد له، بل
يكون محجوجا بعقد الحاضرين، مكلفا طاعة الامام المعقود له، وعلى هذا جرت الحال في
خلافة أبى بكر وعمر وعثمان، وانعقد إجماع المسلمين عليه. وهذا الكلام تصريح بصحة
مذهب أصحابنا في أن الاختيار طريق إلى الإمامة، ومبطل لما تقوله الامامية من دعوى
النص عليه، ومن قولهم: لا طريق إلى الإمامة سوى النص أو المعجز.
وثالثها: أن الخارج على الامام يستعتب أولا بالكلام والمراسلة، فإن أبى قوتل، وهذا
هو نص الكتاب العزيز: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما
فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغى حتى تفئ إلى أمر الله) (1).
ورابعها: أنه يقاتل أحد رجلين: إما رجلا ادعى ما ليس له نحو أن يخرج على الامام من
يدعى الخلافة لنفسه، وإما رجلا منع ما عليه، نحو أن يخرج على الامام رجل لا يدعى الخلافة
ولكنه يمتنع من الطاعة فقط.
فإن قلت: الخارج على الامام مدع الخلافة لنفسه، مانع ما عليه أيضا لأنه قد امتنع
من الطاعة، فقد دخل أحد القسمين في الاخر!

(1) سورة الحجرات 9.
329

قلت: لما كان مدعى الخلافة قد اجتمع له أمران: إيجابي وسلبي، فالإيجابي دعواه
الخلافة، والسلبي امتناعه من الطاعة، كان متميزا ممن لم يحصل له إلا القسم السلبي فقط، وهو مانع الطاعة لا غير، فكان الأحسن في فن علم البيان أن يشتمل اللفظ على التقسيم
الحاضر للايجاب والسلب، فلذلك قال: " إما مدعيا ما ليس له، أو مانعا ما هو عليه ".
* * *
الأصل:
أوصيكم عباد الله بتقوى الله فإنها خير ما تواصى العباد به، وخير عواقب
الأمور عند الله، وقد فتح باب الحرب بينكم وبين أهل القبلة، ولا يحمل هذا
العلم إلا أهل البصر والصبر والعلم بمواقع الحق، فامضوا لما تؤمرون به، وقفوا
عندما تنهون عنه، ولا تعجلوا في أمر حتى تتبينوا، فإن لنا مع كل أمر
تنكرونه غيرا.
ألا وإن هذه الدنيا التي أصبحتم تتمنونها، وترغبون فيها، وأصبحت
تغضبكم وترضيكم، ليست بداركم ولا منزلكم الذي خلقتم له، ولا الذي
دعيتم إليه.
ألا وإنها ليست بباقية لكم، ولا تبقون عليها، وهي وإن غرتكم منها فقد حذرتكم شرها فدعوا غرورها لتحذيرها، وأطماعها لتخويفها، وسابقوا فيها
إلى الدار التي دعيتم إليها، وانصرفوا بقلوبكم عنها، ولا يخنن أحدكم خنين
الأمة على ما زوى عنه منها، واستتموا نعمة الله عليكم بالصبر على طاعة الله والمحافظة
على ما استحفظكم من كتابه.
ألا وإنه لا يضركم تضييع شئ من دنياكم بعد حفظكم قائمة دينكم.
330

ألا وإنه لا ينفعكم بعد تضييع دينكم شئ حافظتم عليه من أمر دنيا كم.
أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم إلى الحق، وألهمنا وإياكم الصبر!
* * *
الشرح:
لم يكن المسلمون قبل حرب الجمل يعرفون كيفية قتال أهل القبلة، وإنما تعلموا فقه
ذلك من أمير المؤمنين عليه السلام.
وقال الشافعي: لولا على لما عرف شئ من أحكام أهل البغي.
قوله عليه السلام: " ولا يحمل هذا العلم إلا أهل البصر والصبر " وذلك لان
المسلمين عظم عندهم حرب أهل القبلة، وأكبروه، ومن أقدم عندهم عليه أقدم على خوف
وحذر، فقال عليه السلام: إن هذا العلم ليس يدركه كل أحد، وإنما له
قوم مخصوصون.
ثم أمرهم بالمضي عندما يأمرهم به، وبالانتهاء عما ينهاهم عنه، ونهاهم عن أن يعجلوا
بالحكم على أمر ملتبس حتى يتبين ويتضح.
ثم قال: إن عندنا تغييرا لكل ما تنكرونه من الأمور حتى يثبت أنه يجب
إنكارها وتغييرها، أي لست كعثمان أصر على ارتكاب ما أنهى عنه، بل أغير كل ما ينكره المسلمون، ويقتضي الحال والشرع تغييره.
ثم ذكر أن الدنيا التي تغضب الناس وترضيهم، وهي منتهى أمانيهم ورغبتهم، ليست
دراهم، وإنما هي طريق إلى الدار الآخرة، ومدة اللبث في ذلك الطريق يسيرة جدا.
وقال: إنها وإن كانت غرارة فإنها منذرة ومحذرة لأبنائها بما رأوه من آثارها في
331

سلفهم وإخوتهم وأحبائهم، ومناداتها على نفسها بأنها فاعلة بهم ما فعلت بأولئك من
الفناء، وفراق المألوف.
قال: فدعوا غرورها لتحذيرها، وذلك لان جانب تحذيرها أولى بأن يعمل عليه من جانب
غرورها، لان غرورها إنما هو بأمر سريع مع التصرم والانقضاء، وتحذيرها إنما هو لأمر جليل
عظيم، فإن الفناء المعجل محسوس، وقد دل العقل والشرائع كافة على أن بعد ذلك الفناء
سعادة وشقاوة، فينبغي للعاقل أن يحذر من تلك الشقاوة، ويرغب في تلك السعادة
ولا سبيل إلى ذلك إلا برفض غرور الدنيا، على أنه لو لم يكن ذلك لكان الواجب على
أهل اللب والبصيرة رفضها، لان الموجود منها خيال، فإنه أشبه شئ بأحلام المنام
فالتمسك به والإخلاد إليه حمق.
والخنين: صوت يخرج من الانف عند البكاء، وأضافه إلى الأمة لان الإماء كثيرا
ما يضربن فيبكين، ويسمع الخنين منهن، ولان الحرة تأنف من البكاء والخنين.
وزوى: قبض.
ثم ذكر أنه لا يضر المكلف فوات قسط من الدنيا إذا حفظ قائمة دينه، يعنى
القيام بالواجبات والانتهاء عن المحظورات، ولا ينفعه حصول الدنيا كلها بعد تضييعه
دينه، لان ابتياع لذة متناهية بلذة غير متناهية يخرج اللذة المتناهية من باب كونها
نفعا، ويدخلها في باب المضار، فكيف إذا انضاف إلى عدم اللذة غير المتناهية حصول
مضار وعقوبات غير متناهية، أعاذنا الله منها!
* * *
(تم الجزء التاسع من شرح نهج البلاغة ويليه الجزء العاشر)
332