الكتاب: دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه
المؤلف: أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي الحنبلي
الجزء:
الوفاة: ٥٩٧
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ القسم العام
تحقيق: تحقيق وتقديم : حسن السقاف
الطبعة: الثالثة ، مزيدة ومنقحة
سنة الطبع: ١٤١٣ - ١٩٩٢ م
المطبعة:
الناشر: دار الإمام النووي - عمان - الأردن
ردمك:
ملاحظات:

دفع شبه التشبيه
بأكف التنزيه
تأليف الإمام الحافظ
أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي الحنبلي
المتوفى سنة 597 ه‍
حققه وقدم له
حسن السقاف
دار الإمام النووي
1

حقوق الطبع محفوظة
للمحقق
الطبعة الثالثة
مزيدة ومنقحة
1413 ه‍ - 1992 م
دار الإمام النووي
عمان - الأردن - ص. ب 925393
هاتف 172011
2

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي دفع شبه التشبيه والتجسيم، بأكف التنزيه بالعلم
والتعليم، وكشف لنا من النصوص خفيات المعاني، وأوقفنا على المراد
من تلك المباني، وجعل آلاءه على ذوي الإخلاص دائمة مستمرة، وبشائر
رضاه متجددة على أوليائه بإعطائهم ابتهاج العلم ودره، فأضحت قلوبهم
وأرواحهم بمدده مشرقة الأوضاح متهللة الأسرة، فسبحان من أطلع أنجمهم
بأفق التقريب مرة بعد مرة، وجعلهم يجدلون المحجوبين بالأغيار من أهل
التجسيم والتشبيه كرة بعد كره.
ونحمد الله تعالى أن جبل سجايانا في مقام الإحسان والمبره،
وسخرنا لنشر عقيدة الإسلام الصحيحة والذب عنها بحجج وبراهين دامغة
ولا زلنا نعرف خيره، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تشرح
للمؤمن صدره، وتصلح للموقن بها أمره، ونشهد أن سيدنا ومولانا محمدا
عبده ورسوله الذي أسمى سبحانه على الخلائق قدره، وتولى في المضايق
نصره، وأعلى في المشارق والمغارب ذكره، صلى الله وسلم عليه وعلى
آله الذين أذهب عنهم الرجس أعز عترة، ورضي الله عن أصحابه الذين
أسدوا المنة ولم يخالفوا أمره، صلاة ورضوانا متواصلين في كل أصيل
ومكررين في كل بكره، ما وهب فضل الله مستحقا فسر بالعواطف والعوارف
سره، وجعل عالما خلفا لعالم فحل محله وقر مقره.
3

أما بعد:
فلا نريد الإطالة والإسهاب، وإنما نريد الإيضاح وخدمة أهل العلم
والطلاب، وإفادة المسلمين عامة والأحباب، بتقديم مقدمة نفيسة لكتاب
الحافظ عبد الرحمن بن الجوزي القرشي رحمه الله تعالى نذكر فيها الأبواب
التالية:
الباب الأول: في التعريف بالحافظ ابن الجوزي رحمه الله
تعالى.
الباب الثاني: إثبات التأويل عند السلف.
الباب الثالث: في بيان أن خبر الواحد يفيد الظن ولا يوجب العلم
وإنما يوجب العمل فلا تبنى عليه أصول الدين.
الباب الرابع: ذكر الحديث الصحيح وما يتعلق به وبيان أن كثيرا
من الحفاظ لم ينظروا إلى الشذوذ والعلة اللذين قد يوجدان فيه، وهو بحث
مهم جدا.
الباب الخامس: إبطال استدلالات المشبهة على العلو الحسي
وبيان بعض تمويهاتهم في ذلك.
وذكر أهم أسماء الكتب التي يتكئ عليها المجسمة في موضوع
التوحيد والصفات والتنفير منها، والحض على كتب معتمدة في
التوحيد.
فنقول وبالله تعالى التوفيق:
4

الباب الأول
التعريف بالحافظ ابن الجوزي رحمه الله تعالى
قال الحافظ الذهبي في " سير أعلام النبلاء " (21 / 365):
" أبو الفرج ابن الجوزي: الشيخ الإمام العلامة، الحافظ المفسر، شيخ
الإسلام (1)، مفخر العراق، جمال الدين، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن
محمد بن علي ابن عبيد الله بن عبد الله بن حمادي بن أحمد بن محمد بن
جعفر بن عبد الله بن القاسم بن النضر بن القاسم بن عبد الله ابن الفقيه
عبد الرحمن ابن الفقيه القاسم بن محمد ابن خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر
الصديق القرشي التيمي البكري البغدادي الحنبلي الواعظ صاحب
التصانيف ولد سنة تسع أو عشر وخمس مائة " ا ه‍.
" وجد بخطه قبل موته أن تواليفه بلغت مئتين وخمسين تأليفا ".
قلت: وقد ذكر الحافظ الذهبي في " سير أعلام النبلاء " (21 / 374)
أن من جملة تصانيفه: هذا الكتاب وسماه: " كف التشبيه بأكف أهل
التنزيه " مجيليد.
يقول حسن السقاف: وهذا سند اتصالنا بالكتاب:

(1) لا نجيز إطلاق هذه اللفظة على عالم، لأن دين الإسلام لا يملك أحد أن يكون
شيخه دون الباقين، لا سيما وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسم بذلك فكيف يطلق
على غيره؟!!
5

أرويه عن سيدي المحدث المفيد أبا الفضل عبد الله بن الصديق
الغماري عن الشيخ المعمر محمد دويدار الكفراوي التلاوي عن الشيخ
إبراهيم الباجوري عن الأمير الكبير عن البدر الحفني عن العلامة البديري
عن إبراهيم الكردي عن صفي الدين القشاشي عن الشمس الرملي عن
العلامة زكريا الأنصاري عن مسند الديار المصرية في وقته عبد الرحيم ابن
الفرات عن أبي حفص عمر المراغي عن الفخر أبي الحسن علي بن أحمد
المعروف بابن البخاري الحنبلي عن الحافظ ابن الجوزي به.
وأرويه عن السيد سالم بن عمر بن عبد الرحمن السقاف عن العلامة
السيد محمد بن هادي السقاف عن عوض بن محمد العفري الزبيدي عن
السيد إسماعيل ابن زين العابدين البرزنجي المدني عن صالح الفلاني
المدني عن محمد سعيد بن سفر المدني عن الشيخ محمد بن عبد الله
المغري المدني عن عبد الله بن سالم البصري المكي عن علي الطبري
المكي عن عبد الواحد الحصاري عن عبد الحق السنباطي عن الحافظ ابن
حجر العسقلاني عن الحافظين أبي الفضل العراقي وأبي الحسن الهيثمي
قالا أخبرنا أبو الفضل محمد بن إسماعيل بن عمر الحموي قال أخبرنا الفخر
ابن البخاري عن الحافظ ابن الجوزي به.
ولنا إليه أسانيد أخرى تركتها خوف الإطالة.
6

الباب الثاني
إثبات التأويل عند السلف
السبب في عقد هذا الباب أنه قد نشرت كتب كثيرة في زماننا هذا من
قبل من يميل إلى التشبيه والتجسيم ومن على شاكلتهم من " تجار الكتب "
الذين لا هم لهم إلا تحقيق الربح المادي وإرضاء من تنفق بضاعتهم في
بلادهم، فاستمرأوا طبع بعض الكتب التي تبحث في موضوع العقائد
والتوحيد، والتي نص مؤلفوها وهم من الخلف على الأخذ بظواهر النصوص
المتعلقة في التوحيد والصفات مما هي في الحقيقة إضافات لا يراد منها
إثبات صفات كما سيمر في صلب كتابنا هذا، كما نصوا على عدم القول
بالتأويل وأنه من شعار الجهمية والمعطلة بزعمهم، وقد راج هذا الأمر على
كثير من طلبة العلم الذين لم يدركوا حقيقة الأمر بعد، بل تعدى ذلك إلى
نسبة كبيرة من المدرسين في كليات الشريعة والمعاهد الشرعية فظنوا أن
ما يقوله بعض المشبهة من أن التأويل ضلال وبدعة وتعطيل وتجهم وأنه
لم يكن عند السلف حقا، وليس الأمر كذلك على الحقيقة، بل من قرأ
ودرس وفتش وبحث وطالع ونقب فإنه سيجد لا محالة أن العدول من الأئمة
الثقات في القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية المسماة عند بعض العلماء
بقرون السلف قد أولوا كثيرا من النصوص المتعلقة بموضوع الصفات
والتوحيد وبينوا أن الظاهر منها غير مراد، وحسبي في مثل هذا المقام أن
أسرد بعض تأويلاتهم وأن أبين قبل ذلك أنهم تعلموا التأويل من كتاب الله
تعالى وسنة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الصحيحة وإليك ذلك (1):

(1) وإنني أنصح كل من لم يتفكر في مآله وآخرته وانقلابه إلى ربه ودخوله في قبره
من تجار الكتب وأرقائهم الذين يحققون!! الكتب لهم أن يبتغوا طاعة الله ورضاه
قبل أن يفكروا في الربح المادي وطرق ترويج الكتب، وخصوصا الكتب التي
تحوي عقائد تالفة، وأمورا مفروغا من بطلانها، وليعلم جميع المسلمين أن هناك
من يقوم على ترويج كتب فيها مخالفة عقيدة الإسلام الصحيحة باسم الإسلام
وإلى ترجمتها إلى لغات عديدة لقاء دراهم معدودة، وإنني أعرف أشخاصا طعنت
أسنانهم، ودنا وقت حصادهم للقاء رب العالمين، وهم أبعد الناس عن الرجوع
والتفكر في إصلاح قلوبهم وتعميرها بذكر الله تعالى، وتربية نفوسهم وسياستها
بل إنهم منهمكون في جمع حطام الدنيا، راغبون في هذه الدنيا، يقولون
للناس: كفوا ألسنتكم وقد أجازوا لأنفسهم الولوغ في أعراض الناس وشتمهم
بأحقر الكلمات، وأسقط العبارات، والرجل منهم ذو وجهين، يكونون أمام كل
إنسان بوجه يلائمه حتى يحصلوا الرضى من الجميع كما يتوهمون، والله أحق
أن يخشوه ويرضوه، وقد بلغ الأمر ببعضهم أنهم يدونون في تلك الكتب التي
ينشرونها ما لا يعتقدون، ويقولون ما لا يفعلون وأخص منهم من يضعف حديث
الذبابة ويدين بذلك ثم يكتب في تعليقاته المنقولة من كتب غيره أنه صحيح
(تجاريا)!! وهو يعرف نفسه تماما.
اللهم إني قد بلغت، فلتكونوا على علم ومعرفة أيها المسلمون بهذه الطائفة،
وأسال الله تعالى أن يهدي " تجار الكتب " وأجراءهم الذين يمتصون لهم ويقللون
أجور الموظفين ليرضوهم ويسخطوا الله تعالى إلى التوبة من تلك الحوبة إنه
سميع مجيب.
7

1) لقد علمنا الله تعالى (التأويل) في كتابه العزيز، أي عدم إرادة ظاهر
النص الوارد (1) في قوله تعالى:

1) ولا نطالب من اعتقد أن التأويل ضلال مبين أن يسمي ما سنذكره له من الأدلة
الواردة في الكتاب والسنة والأقوال المنقولة عن السلف تأويلا، إذ لا مشاحة في
التسمية، وإنما نريد بيان روح المعنى المراد من ذلك وهو عدم إرادة ظاهر تلك
النصوص وإنما المراد من ذلك معنى آخر بلاغي في لغة العرب التي نزل بها
القرآن وهو ما يسمى بالمجاز أو بأي شئ آخر فتأمل.
8

(نسوا الله فنسيهم) التوبة: 67 وقوله تعالى (إنا نسيناكم) السجدة: 14
فبهذه الآيات لا نثبت لله تعالى صفة النسيان وإن ورد لفظ النسيان في القرآن
الكريم، ولا يجوز لنا أن نقول: إن لله نسيانا ولكنه ليس كنسياننا، وذلك
لأن الله عز وجل قال: (وما كان ربك نسيا) مريم: 64.
ولا يحل لرجل عاقل بعد هذا أن يقول: " ينسى لا كنسياننا، ويجلس
لا كجلوسنا، وهو في السماء ليس كمثله شئ، كما نقول: هو سميع ليس
كسمعنا، وهو بصير ليس كبصرنا.... ".
والجواب على هذا أننا نقول له: قولك لا كنسياننا، ولا كجلوسنا،
وليس كمثله شئ بعد قولك هو في السماء، لن يفيدك البتة، ولن ينفي
عنك التشبيه والتجسيم، لأنه ليس كل ما ورد يصح أن يوصف الله عز وجل
به، وإيراد جملة: (سميع لا كسمعنا وبصير لا كبصرنا) لن يجدي المموه
شيئا، وذلك لأن المراد بأنه يسمع لا كسمعنا: أن نثبت لله تعالى صفة
السمع ثم ننزهه عن آلة السمع وهي الأذن، فيتصور وجود صفة السمع بلا
آله ثم يفوض علم ذلك لله تعالى بعد الإيمان بصفة السمع لأن صفة الخالق
لا يمكن للمخلوق أن يدركها، لكن الجلوس والحركة لا يتصور فيهما شئ
يمكن نفيه ثم تفويض الحقيقة الباقية إلى الله تعالى، فالحركة مثلا التي
يصف الشيخ الحراني بها المولى سبحانه وتعالى عما يقول لا يفهم منها
ولا تعقل إلا بأنها انتقال من مكان إلى مكان، فإذا نفيت بعد إثباتها الانتقال
لم تعد حركة فيبطل الكلام ويقع التناقض لأنه لم يبق شئ يمكن إثباته
خلافا للسمع والبصر فتأمل جيدا.
ويتضح هذا أكثر في المثال الثاني:
9

2) ثبت في صحيح مسلم (4 / 1990 برقم 2569) عن سيدنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يقول:
" يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب
العالمين، قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما علمت أنك
لو عدته لوجدتني عنده.. " الحديث
فهل يا قوم يجوز لنا أن نقول: نثبت لله صفة المرض ولكن ليس
كمرضنا؟!! وهل يجوز أن نعتقد أن العبد إذا مرض مرض الله تعالى أيضا
وكان عند المريض على ظاهره وحقيقته؟!!.
كلا، ثم كلا، بل نقول إن من وصف الله تعالى بأنه يمرض أو قال
إن له صفة المرض كفر بلا مثنوية، مع كون تاء مرضت مضمومة وهي تدل
عربية على أن المرض يتعلق بالمتكلم، لأنه مع كل هذا نقول: الظاهر
غير مراد وهو مصروف ومؤول عند جميع المسلمين العقلاء، فيكون هذا
دليلا واضحا كالشمس من السنة في تعليمنا التأويل.
ومعنى الحديث كما قال الإمام الحافظ النووي في " شرح صحيح
مسلم " (16 / 126):
" قال العلماء إنما أضاف المرض إليه سبحانه وتعالى والمراد العبد،
تشريفا للعبد وتقريبا له، قالوا: ومعنى: وجدتني عنده أي: وجدت ثوابي
وكرامتي...... " ا ه‍ فتأمل.
وعلى هذه القاعدة الواضحة للتأويل المبنية على نصوص الكتاب
والسنة سار الصحابة والتابعون وأتباعهم وأئمة الاجتهاد والحفاظ المحدثون
ولننقل لكم بعض تأويلاتهم حتى يزداد القلب طمأنينة وانشراحا فنقول:
10

3) ممن أول سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي
دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: " اللهم علمه الكتاب " (1) فقد نقلت عنه تأويلات
كثيرة فيما يتعلق بمسألة الصفات بأسانيد صحيحة نذكر بعضها:
أ - أول ابن عباس قوله تعالى: (يوم يكشف عن ساق) القلم: 42، فقال:
" يكشف عن شدة " فأول الساق بالشدة. ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في
" فتح الباري " (13 / 428) والحافظ ابن جرير الطبري في تفسيره (29 / 38)
حيث قال في صدر كلامه على هذه الآية:
" قال جماعة من الصحابة والتابعين من أهل التأويل: يبدو عن أمر
شديد " ا ه‍.
قلت: ومنه يتضح أن التأويل كان عند الصحابة والتابعين وهم سلفنا
الصالح.
قلت: ونقل ذلك الحافظ ابن جرير أيضا عن: مجاهد، وسعيد بن
جبير، وقتادة وغيرهم.
ب - وأول سيدنا ابن عباس رضي الله عنه أيضا قوله تعالى: (والسماء
بنيناها بأيد وإنا لموسعون) الذاريات: 47، " قال: بقوة " كما في تفسير
الحافظ ابن جرير الطبري (7 / 27)، ولفظة (أيد) هي جمع يد وهي الكف
كما في " القاموس المحيط " في مادة (يدي) حيث جاء فيه:
" اليد: الكف، أو من أطراف الأصابع إلى الكتف، أصلها يدي
جمعها: أيد ويدي " وانظر " تاج العروس شرح القاموس " (10 / 417 -
418). ومنه قوله تعالى: (ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها)

(1) رواه البخاري (الفتح 1 / 169)
11

الأعراف: 7. وتستعمل لفظة (أيد) مجازا وتؤول في عدة معان منها: " القوة "
كقوله تعالى: (والسماء بنيناها بأيد) أي: بقوة، ومنها: " الإنعام والتفضل) "
ومنه قوله تعالى: (واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب) ص: 17. فتأمل.
وقد نقل الحافظ ابن جرير في تفسيره (27 / 7) تأويل لفظة (أيد)
الواردة في قوله تعالى: (والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون) بالقوة أيضا
عن جماعة من أئمة السلف منهم: مجاهد وقتادة ومنصور وابن زيد وسفيان.
ج‍ - وأول أيضا سيدنا ابن عباس النسيان الوارد في قوله تعالى: (فاليوم
ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا) بالترك، كما في تفسير الحافظ الطبري
(مجلد 5 / جزء 8 / ص 201) حيث قال ابن جرير: " أي ففي هذا اليوم،
وذلك يوم القيامة ننساهم، يقول نتركهم في العذاب... " ا ه‍.
فقد أول ابن جرير النسيان بالترك، وهو صرف لهذا اللفظ عن ظاهره
لمعنى جديد مجازي، ونقل الحافظ ابن جرير هذا التأويل الصارف عن
الظاهر ونقل ذلك ورواه بأسانيده عن ابن عباس ومجاهد... وغيرهم.
وابن عباس صحابي ومجاهد تابعي وابن جرير من أئمة السلف
المحدثين، إذن ثبت التأويل في ما يتعلق بالصفات عن السلف بلا شك
ولا ريب، وعلى ذلك سار الأشاعرة فهم مصيبون، وقد أخطأ خطأ فادحا
وغلط غلطا لائحا من تطاول على الأشاعرة وضللهم لأنهم يؤولون!!،
والحق أنهم على هدي الكتاب والسنة سائرون، والحمد لله رب العالمين.
4) الإمام أحمد بن حنبل يؤول أيضا:
روى الحافظ البيهقي في كتابه " مناقب الإمام أحمد " وهو كتاب
مخطوط ومنه نقل الحافظ ابن كثير في " البداية والنهاية " (10 / 327) فقال:
" روى البيهقي عن الحاكم عن أبي عمرو بن السماك عن حنبل أن أحمد
12

بن حنبل تأول قول الله تعالى: (وجاء ربك) أنه: جاء ثوابه.. ثم قال
البيهقي: وهذا إسناد لا غبار عليه ". انتهى كلام ابن كثير. وقال ابن كثير
أيضا في " البداية " (10 / 327):
" وكلامه - أحمد - في نفي التشبيه وترك الخوض في الكلام والتمسك
بما ورد في الكتاب والسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه " ا ه‍.
5) تأويل آخر للإمام أحمد:
قال الحافظ ابن كثير أيضا في " البداية والنهاية " (10 / 327):
" ومن طريق أبي الحسن الميموني عن أحمد بن حنبل أنه أجاب
الجهمية حين احتجوا عليه بقوله تعالى: (ما يأتيهم من ذكر من ربهم
محدث إلا استمعوه وهم يلعبون) قال: يحتمل أن يكون تنزيله إلينا هو
المحدث، لا الذكر نفسه هو المحدث. وعن حنبل عن أحمد أنه قال:
يحتمل أن يكون ذكر آخر غير القرآن " ا ه‍.
قلت: وهذا تأويل محض، ظاهر واضح، وهو صرف اللفظ عن ظاهره
وعدم إرادته حقيقة ظاهرة.
6) تأويل آخر عن الإمام أحمد:
قال الحافظ الذهبي في " سير أعلام النبلاء " (10 / 578):
(قال أبو الحسن عبد الملك الميموني: قال رجل لأبي عبد الله -
أحمد بن حنبل -:
ذهبت إلى خلف البزار أعظه، بلغني أنه حدث بحديث عن الأحوص
عن عبد الله - بن مسعود - قال: " ما خلق الله شيئا أعظم من آية
الكرسي... " وذكر الحديث، فقال أبو عبد الله - أحمد بن حنبل -: ما كان
13

ينبغي أن يحدث بهذا في هذه الأيام - يريد زمن المحنة - والمتن: " ما
خلق الله من سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي " وقد قال أحمد بن
حنبل لما أوردوا عليه هذا يوم المحنة: إن الخلق واقع ههنا على السماء
والأرض وهذه الأشياء، لا على القرآن). ا ه‍
7) تأويل آخر عن الإمام أحمد يتعلق بمسألة الصفات:
روى الخلال بسنده عن حنبل عن عمه الإمام أحمد بن حنبل (1) أنه
سمعه يقول:
(احتجوا علي يوم المناظرة، فقالوا: " تجئ يوم القيامة سورة
البقرة.... " الحديث، قال: فقلت لهم: إنما هو الثواب) ا ه‍. فتأمل في
هذا التأويل الصريح.
8) تأويل الإمام البخاري صاحب الصحيح رحمه الله تعالى:
نقل الحافظ البيهقي في " الأسماء والصفات " ص (470) عن البخاري
أنه قال: " معنى الضحك الرحمة " ا ه‍. وقال الحافظ البيهقي ص (298):
" روى الفربري عن محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى أنه
قال: معنى الضحك فيه - أي الحديث - الرحمة " ا ه‍ فتأمل.
وقد نقل هذا التأويل أيضا الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " كما
سيأتي في حديث الضحك في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

(1) أي أن حنبل سمع الإمام أحمد يقول، وقد نقل هذا لنا عن الخلال المحدث
الإمام محمد زاهد الكوثري رحمه الله تعالى في تعليقه على " دفع شبه التشبيه "
ص (28).
14

9) تأويل النضر بن شميل وهو الإمام الحافظ اللغوي من رجال الستة ولد
سنة (122) ه‍:
ذكر الحافظ البيهقي في " الأسماء والصفات " ص (352) والحافظ ابن
الجوزي في هذا الكتاب " دفع شبه التشبيه " أن النضر بن شميل الحافظ
السلفي قال: إن معنى حديث: " حتى يضع الجبار فيها قدمه " أي من سبق
في علمه أنه من أهل النار.
وكذا قال ذلك الإمام أبو منصور الأزهري كما نقله الحافظ ابن الجوزي
في " دفع شبه التشبيه " عنه.
وقال الحافظ ابن الجوزي أيضا:
" وقد حكى أبو عبيد الهروي - صاحب كتاب غريب القرآن والحديث
- عن الحسن البصري أنه قال: القدم: هم الذين قدمهم الله تعالى من
شرار خلقه وأثبتهم لها ".
10) تأويل الإمام هشام بن عبيد الله:
قال الحافظ الذهبي في " سير أعلام النبلاء " (10 / 446) في ترجمته:
" هو الرازي السني الفقيه، أحد أئمة السنة " توفي سنة (221) ه‍.
ثم قال الذهبي:
" قال محمد بن خلف الخراز: سمعت هشاما بن عبيد الله الرازي
يقول:
القرآن كلام الله غير مخلوق، فقال له رجل: أليس الله يقول: (ما
يأتيهم من ذكر من ربهم محدث) فقال: محدث إلينا، وليس عند الله
بمحدث.
15

قلت: لأنه من علم الله، وعلم الله لا يوصف بالحدوث " انتهى كلام
الحافظ الذهبي.
1) تأويل سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى:
ذكر الحافظ ابن الجوزي أثناء كلامه على الحديث الحادي والثلاثين
في " دفع شبه التشبيه " في تأويل حديث: " آخر وطأة وطئها الرحمن بوج "
أي: آخر غزاة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطائف. فانظره هناك.
12) تأويل من جملة تأويلات الحافظ ابن جرير الطبري السلفي ت
(311) ه‍:
ذكر الحافظ ابن جرير في " تفسيره " (1 / 192) عند تأويل قوله تعالى:
(ثم استوى إلى السماء) ما نصه:
" والعجب ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل قول
الله: (ثم استوى إلى السماء) الذي هو بمعنى: العلو والارتفاع. هربا
عند نفسه من أن يلزمه بزعمه إذا تأوله بمعناه المفهوم، كذلك أن يكون
إنما علا وارتفع بعد أن كان تحتها إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله
المستنكر، ثم لم ينج مما هرب منه، فيقال له: زعمت أن تأويل قوله:
(استوى): أقبل، أفكان مدبرا عن السماء فأقبل إليها؟ فإن زعم أن
ذلك ليس بإقبال فعل ولكنه إقبال تدبير، قيل له: فكذلك فقل: علا
عليها علو ملك وسلطان لا علو انتقال وزوال " ا ه‍.
فاتضح بهذا أن السلف كانوا يفسرون الاستواء بالملك والقهر والسلطان
والجلال والرفعة والكبرياء والعظمة، لا بالعلو الحسي، كما صرح بذلك
الإمام الحافظ ابن جرير عنهم، وهذا هو الموافق للشرع والعقل، وهو الذي
16

قاله أهل الحديث من بعدهم كالحافظ ابن حبان والحافظ البيهقي وبعدهما
مثل الحافظ النووي والحافظ ابن حجر الذي يقول في " فتح
الباري " (6 / 136) موضحا هذه المسألة:
" ولا يلزم من كون جهتي العلو والسفل محال على الله أن لا يوصف
بالعلو لأن وصفه بالعلو من جهة المعنى، والمستحيل كون ذلك من جهة
الحس " ا ه‍.
قلت: وهذا تأويل صريح للعلو من الحافظ بن حجر بأنه علو معنوي
لا حسي كما تتوهم المجسمة والمشبهة، ولا يحصى كم للإمام الحافظ
ابن حجر وللإمام الحافظ النووي من تأويل في شرحهما على الصحيحين
البخاري ومسلم.
13) ابن حبان المتوفى سنة (354) ه‍ يؤول أيضا في صحيحه:
أول الحافظ ابن حبان في صحيحه (1 / 502) حديث: " حتى يضع
الرب قدمه فيها - أي جهنم - " فقال:
" هذا الخبر من الأخبار التي أطلقت بتمثيل المجاورة، وذلك أن يوم
القيامة يلقى في النار من الأمم والأمكنة التي يعصى الله عليها، فلا تزال
تستزيد حتى يضع الرب جل وعلا موضعا من الكفار والأمكنة في النار
فتمتلئ، فتقول: قط قط، تريد: حسبي حسبي، لأن العرب تطلق في
لغتها اسم القدم على الموضع. قال الله جل وعلا: (لهم قدم صدق عند
ربهم) يريد: موضع صدق، لا أن الله جل وعلا يضع قدمه في النار، جل
ربنا وتعالى عن مثل هذا وأشباهه " ا ه‍.
قلت: وقد نقلت هذا الكلام في التعليق رقم (101) على " دفع شبه
التشبيه ".
17

14) تأويل الإمام مالك رحمه الله تعالى:
روى الحافظ ابن عبد البر في التمهيد (7 / 143) وذكر الحافظ الذهبي
في " سير أعلام النبلاء " (8 / 105) أن الإمام مالكا رحمه الله تعالى أول
النزول الوارد في الحديث بنزول أمره سبحانه وهذا نص الكلام من " السير ":
" قال ابن عدي: حدثنا محمد بن هارون بن حسان، حدثنا صالح بن أيوب
حدثنا حبيب بن أبي حبيب حدثني مالك قال:
" يتنزل ربنا تبارك وتعالى أمره، فأما هو فدائم لا يزول "
قال صالح: فذكرت ذلك ليحيى بن بكير، فقال حسن والله، ولم
أسمعه من مالك ".
قلت: ورواية ابن عبد البر من طريق أخرى فتنبه. وقد ذكرنا هذا عن
الإمام مالك في التعليق رقم (129).
15) تأويل الحافظ الترمذي رحمه الله تعالى:
ذكر الحافظ الترمذي في سننه (4 / 692) بعد حديث الرؤية الطويل
الذي فيه لفظة " فيعرفهم نفسه " فقال: " ومعنى قوله في الحديث:
فيعرفهم نفسه يعني يتجلى لهم " ا ه‍ وله تأويل آخر في سننه (5 / 160)
16) تأويل الإمام سفيان الثوري رحمه الله تعالى:
ذكر الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء (7 / 274) في ترجمة سيد
الحفاظ في زمانه الإمام الثوري أن معدان سأل الإمام الثوري عن قوله
تعالى: (وهو معكم أينما كنتم) فقال: بعلمه.
18

قلت: وهذا تأويل ظاهر وصرف للفظ عن ظاهره، لا سيما وأن لفظة
هو الواردة في قوله تعالى: (وهو معكم أينما كنتم) تعود على الذات لا
على الصفات أصلا، ومع ذلك لما كان ظاهرها مستحيلا صرفت إلى
المجاز فأولت، والله الموفق.
17) الإمام أبو الحسن الأشعري يؤول في كتابه " الإبانة " وفي كتابه " رسالة
أهل الثغر " اللذين تتظاهر المجسمة والمتمسلفة الاحتجاج بما فيهما:
قال الإمام أبو الحسن الأشعري في كتابه " الإبانة " المحقق على أربع
نسخ خطية (دار الأنصار تحقيق الدكتورة فوقية) ص (21) ما نصه:
" وأن الله تعالى استوى على العرش على الوجه الذي قاله وبالمعنى
الذي أراده، استواء منزها عن المماسة والاستقرار والتمكن والحلول
والانتقال، لا يحمله العرش بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته،
ومقهورون في قبضته، وهو فوق العرش وفوق كل شئ إلى تخوم الثرى،
فوقية لا تزيده قربا إلى العرش والسماء، بل هو رفيع الدرجات عن العرش
كما أنه رفيع الدرجات عن الثرى وهو مع ذلك قريب من كل موجود وهو
أقرب إلى العبد من حبل الوريد وهو على كل شئ شهيد " ا ه‍.
وتنبهوا: إلى أن هذه القطعة من " الإبانة " محذوفة من أكثر نسخ الإبانة
التي طبعها سلفية العصر والموجودة في الأسواق وبأيدي الناس، وابحثوا
عن النسخة المشار إليها وهي متوفرة ومطبوعة.
وقال الإمام أبو الحسن الأشعري في " رسالة أهل الثغر " وهي من آخر
مؤلفاته ص (73):
19

" وأجمعوا على أنه عز وجل يرضى عن الطائعين له، وأن رضاه عنهم
إرادته لنعيمهم، وأنه يحب التوابين ويسخط على الكافرين ويغضب عليهم،
وأن غضبه إرادته لعذابهم " ا ه‍ فالأشعري هنا يؤول الرضا والغضب بصراحة
فأين ما يدعيه المتمسلفون؟!!
18) الحافظ ابن الجوزي رحمه الله تعالى مؤول أيضا:
كتابنا هذا " دفع شبه التشبيه " يثبت ذلك عنه بلا شك، والله الموفق.
فهذه ثماني عشرة نقطة فيها أكثر من عشرين تأويلا عن الصحابة وأهل
القرون الثلاثة من أئمة العلماء والمحدثين كلها تثبت مع الأدلة التي سقناها
في صدر الكلام أن التأويل حق وأنه من قواعد الشريعة وأنه من نهج السلف
الصالح والله الموفق.
20

التفويض أيضا كان مذهب السلف الصالح
لقد بينا فيما تقدم بما لا يدع مجالا للشك أن التأويل ثابت في الكتاب
والسنة، وهو من نهج السلف الصالح، ونقلنا في ذلك ما يبرهن إثبات هذا
الأمر بوضوح تام، وبقيت مسألة التفويض، ولا شك أن السلف كانوا
يفوضون الكيف والمعنى وهو المراد بالتفويض عند إطلاقه بلا شك.
ومن ذلك قول الإمام أحمد رحمه الله تعالى عندما سئل عن أحاديث
الصفات:
" نؤمن بها ونصدق بها ولا كيف ولا معنى " رواه عنه الخلال بسند
صحيح. ونصوص أئمة السلف في قولهم أمروها كما جاءت مع عدم
الخوض في بيان معناها أكثر من أن تحصر، من ذلك ما قاله الإمام الحافظ
الترمذي في سننه (4 / 692):
" والمذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة مثل سفيان الثوري
ومالك بن أنس، وابن المبارك، وابن عيينة، ووكيع وغيرهم أنهم رووا هذه
الأشياء، ثم قالوا: تروى هذه الأحاديث ونؤمن بها ولا يقال كيف. وهذا
الذي اختاره أهل الحديث أن تروى هذه الأشياء كما جاءت
(1) (2) (3) (4)
ويؤمن بها، ولا تفسر، ولا تتوهم، ولا يقال كيف، وهذا أمر أهل العلم
الذي اختاروه وذهبوا إليه " ا ه‍.
قلت: وقوله (ولا تفسر هي نفس قول بعض أئمة السلف (قراءتها
تفسيرها)، وقوله (ولا تتوهم) معناه: يصرف ظاهرها الذي يوهم مشابهة الله
21

لخلقه مع تفويض المعنى الحقيقي لله تعالى، وأما الكيف فلا نحتاج
لتفويضه لأن الكيف محال على الله تعالى، كما قال الإمام مالك رحمه الله
تعالى: (ولا يقال كيف، وكيف عنه مرفوع) أي أنه لا كيف لله تعالى وهذا
الذي قررناه هنا ونقلناه عن السلف هو عين قول صاحب الجوهرة اللقاني
الأشعري رحمه الله تعالى:
وكل نص أوهم التشبيها * أوله أو فوض ورم تنزيها
لمن تدبر ذلك.
ونقل الحافظ الذهبي في " سير أعلام النبلاء " (8 / 105) عن الإمام
مالك أنه قال في أحاديث الصفات:
" أمرها كما جاءت بلا تفسير ".
وقال الحافظ الذهبي هناك قبل ذلك بأسطر:
فقولنا في ذلك وبابه: الاقرار، والامرار، وتفويض معناه إلى قائله
الصادق المعصوم " ا ه‍.
قلت: وقد أجاد الحافظ الذهبي هنا عندما قرر أن الواجب هنا هو
تفويض المعنى، وهذا يوافق ما قاله الإمام أحمد " ولا كيف ولا معنى ".
وهو يثبت بلا شك أن مذهب السلف والإمام أحمد والحفاظ أهل الحديث
كالذهبي وغيره أن التفويض في المعنى هو العقيدة التي كان عليها خيار
هذه الأمة من السلف والخلف وأنها هي الموافقة لقول الله عز وجل:
(وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل
من عند ربنا " آل عمران: 7.
22

قال الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " (13 / 390) في مسألة
الصفات إن فيها ثلاثة مذاهب نقلا عن ابن المنير وذكر المذهب الثالث
فقال:
" والثالث: إمرارها على ما جاءت مفوضا معناها إلى الله
تعالى..... ".
ثم قال بعد ذلك مباشرة:
" قال الطيبي: هذا هو المذهب المعتمد وبه يقول السلف الصالح ".
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (13 / 383) أيضا مائلا للتفويض:
" والصواب الامساك عن أمثال هذه المباحث والتفويض إلى الله في
جميعها والاكتفاء بالإيمان بكل ما أوجب الله في كتابه أو على لسان
نبيه... " ا ه‍.
وقال الحافظ قبل ذلك بأسطر في الفتح (13 / 383) ناقلا عن الحافظ
ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى في تقرير التأويل والتفويض:
" وقال ابن دقيق العيد في العقيدة: نقول في الصفات المشكلة إنها
حق وصدق على المعنى الذي أراده الله، ومن تأولها نظرنا فإن كان تأويله
قريبا على مقتضى لسان العرب لم ننكر عليه، وإن كان بعيدا توقفنا عنه
ورجعنا إلى التصديق مع التنزيه ". ا ه‍
قلت: وهو كلام في غاية الدقة والروعة والحمد لله رب العالمين، وقد
تبين مما سبق أن التأويل والتفويض كانا عند السلف ولهما أدلة في الكتاب
والسنة الصحيحة بلا شك ولا ريب، وقد أخطأ من قال: " التفويض مذهب
السلف والتأويل مذهب الخلف "، وقد تبين بالبحث والتمحيص أن السلف
23

كانوا يؤولون أحيانا ويفوضون أحيانا فإذا فهمت وعلمت وتأملت ما ذكرناه
في إثبات التأويل والتفويض عن السلف فاعلم الآن هذه المسألة المهمة:
(مسألة مهمة جدا):
ادعى الشيخ الحراني في كتابه " الموافقة " (1 / 180) بهامش منهاج
سنته) أن التفويض من شر أقوال أهل البدع والإلحاد فقال هناك ما نصه:
" فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة
والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد " (1)!! ا ه‍
فعلى ذلك يكون أئمة السلف الذين نقلنا أقوالهم في التفويض من
" سنن الترمذي " وغير ذلك، والحافظ الذهبي الذي يقول بالتفويض من شر
المبتدعين والملاحدة، فيكونون كفارا ملحدين بنظر الشيخ الحراني الذي
يقلب الموازين كيفما يريد ويهوى، وقد قلده في ذلك ذيله المتناقض!!
فقال في تعليقه على سنة ابن أبي عاصم ص (212 من الطبعة الثانية) معلقا
على قول سيدنا ابن عباس:
(ما بال هؤلاء يحيدون عن محكمه ويهلكون عند متشابهه) ما نصه:
" أي يجتهدون ويهتمون لفهم المعنى المراد من القرآن، عند محكمه،
ويهلكون عند متشابهه لأنهم لا يهتمون لفهم معناه الحقيقي مع التنزيه
(ليس كمثله شئ وهو السميع البصير) يصرفهم عن ذلك التأويل أو
التفويض " ا ه‍.

(1) وما ذكره بعد ذلك من ترهات فارغة ليدلل على ما يريد من أن الصحابة فسروا
القرآن لا يصلح أن يكون دليلا له، لأنا نقول: إنهم فسروا القرآن وأما حقائق صفات
الله فقد فوضوها إلى الله سبحانه وتعالى وهذا هو المطلوب.
24

وهذا كلام يضحك منه صغار الطلبة المبتدئون في تعلم العقائد
والتوحيد والذي جعله يقول هذا أنه انحصرت قراءته للعقائد في كتب الشيخ
الحراني فظن أن ما يقوله حق، ولا غرو فهو لم يتلق العلم على أهله بل
أخذه من بطون الكتب وصفحات الدفاتر، وقد قال أحد أئمة السلف: " لا
يؤخذ العلم من صحفي " (1).

(1) قاله الإمام القدوة سعيد بن عبد العزيز التنوخي كما في ترجمته من " سير أعلام
النبلاء " (8 / 34). ويقول أحد مريدي!! الشيخ المتناقض!! الصحفي!! " من
البلية تشيخ الصحفية "!! فتأمل.
25

الدليل
على أن حديث الآحاد
يفيد - الظن ولا يفيد العلم
26

الباب الثالث
إثبات أن خبر الواحد يفيد الظن ولا يفيد العلم
عند السلف وأئمة المحدثين
وأنه لا يبنى عليه أصول الاعتقاد
إعلم يرحمك الله تعالى أن العلماء الحفاظ المتقنين نصوا على أن
حديث الآحاد يفيد الظن وأن الحديث المتواتر يفيد العلم، وعلى ذلك فلو
عارض حديث الآحاد نص القرآن أو حديث متواتر أو إجماع أو الدليل
العقلي المبني على قواعد الكتاب والسنة أسقط الاحتجاج بخبر الآحاد
لمعارضته لما يفيد القطع والعلم وإنني أفتتح بذكر كلام شيخ المحدثين
في وقته وهو الحافظ الخطيب البغدادي لأنه استوعب ما ذكرته هنا، ثم
أردف ذلك بدليل من السنة الصحيحة على هذه المسألة ثم أذكر أن ما قلته
هو مذهب الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من السلف وأئمة
المحدثين، فأقول وبالله تعالى التوفيق:
قال الحافظ الخطيب البغدادي في " الفقيه والمتفقه " (1 / 132):
" باب القول فيما يرد به خبر الواحد:
.... وإذا روى الثقة المأمون خبرا متصل الإسناد رد بأمور:
أحدها: أن يخالف موجبات العقول فيعلم بطلانه، لأن الشرع إنما
يرد بمجوزات العقول وأما بخلاف العقول فلا.
27

والثاني: أن يخالف نص الكتاب أو السنة المتواترة فيعلم أنه لا أصل
له أو منسوخ.
والثالث: يخالف الاجماع فيستدل على أنه منسوخ أو لا أصل له...
والرابع: أن ينفرد الواحد برواية ما يجب على كافة الخلق علمه فيدل
ذلك على أنه لا أصل له لأنه لا يجوز أن يكون له أصل وينفرد هو بعلمه
من بين الخلق العظيم.
الخامس: أن ينفرد برواية ما جرت العادة بأن ينقله أهل التواتر فلا يقبل
لأنه لا يجوز أن ينفرد في مثل هذا بالرواية " ا ه‍ كلام الحافظ البغدادي
وينبغي أن يعرف القاصي والداني أن خبر الآحاد مقبول عندنا، معمول
به في جميع الأبواب إلا في باب أصول العقائد لأن المطلوب في هذا الباب
عقد القلب على الثابت الذي لا يطرأ عليه خطأ ولا وهم (1) كما سيأتي بعد
قليل إن شاء الله تعالى مفصلا، فإياك أن تمزج بين هاتين القضيتين:
(الأولى): حديث الآحاد مقبول غير مردود يفيد العمل في جميع
الأبواب الفقهية وفي فروع الاعتقاد.
(الثاني): أن دلالة حديث الآحاد ظنية وليست قطعية، وبذلك يفارق
القرآن والحديث المتواتر والإجماع.
ومن نظر في قضايا الاعتقاد الأصلية كوجود الله تعالى وقدمه وعدم
مشابهته لخلقه وقدرته وسمعه وبصره وإثبات اليوم الآخر والحساب والعذاب
والثواب والمعاد والجنة والنار وأشباه هذه الأشياء وجدها قد ثبتت بأدلة قطعية

(1) وبالاستقراء لمسائل أصول الاعتقاد تجد أن جميعها ثبت بغير الآحاد.
28

الدلالة والثبوت، وهي أصول الاعتقاد وليست محتاجة لأحاديث آحاد وهذه
هي أصل الدعوة التي كانت تصل إلى البلدان والنواحي بطريق الاستفاضة
والتواتر، وكان رسول الله إذا بعث رسله إلى النواحي والأقطار بعثهم ليشرحوا
لهم أحكام الإسلام التي وصلت إليهم بطريق التواتر والاستفاضة مجملة،
على أننا لا نسلم البتة بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل إلى النواحي رجلا واحدا
فتصل إلى أهل تلك النواحي الأحكام والعقائد بطريق هذا الواحد وبذلك
لا يصح لهذا القائل الاستدلال على أن العقائد يؤخذ بها بخبر الواحد.
ونوضح فنقول: إعلم إن أحكام الإسلام كانت تصل إليهم بطريق
التواتر وإليك بعض ذلك، أول ما بعث صلى الله عليه وسلم واستفاض أمره استفاض أيضا
أصل ما يدعو إليه، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلتقي في الموسم عند
حج العرب إلى مكة مع أفراد كل قبيلة تحج فيدعوهم إلى ما أمره الله تعالى
به من أصول التوحيد الذي بعث به، وبقي صلى الله عليه وسلم يبلغهم مدة إقامته في مكة
وهي الثلاث عشرة سنة قبل أن يهاجر، وهذا مما يجعل أصول دعوته في
التوحيد تنتشر عنه إلى النواحي وقبائل العرب بعدد التواتر لا محالة، لأن
كل قبيلة من قبائل العرب لا يتصور أن يفد ويحج منها أقل من عشرة أنفس.
ثم لما هاجر عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم استفاض الأمر أكثر
وانتشر بين القبائل وفي البلدان وذاع أصل ما يدعو إليه أكثر وأكثر، وأوسع
وأبلغ وأشهر، وكانت الوفود من قبائل العرب ترد عليه وفيهم أهل التواتر بلا
مثنوية وإليك أمثله على بعض ذلك معزوة موثقة:
1) قوم مسيلمة الكذاب قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا وفدا كبيرا واجتمعوا
به صلى الله عليه وسلم ونقلوا ما أخذوه عنه صلى الله عليه وسلم إلى قومهم نقل أهل التواتر، روى البخاري
29

في صحيحه (فتح 8 / 89) وغيره من حديث سيدنا ابن عباس رضي الله
عنهما قال:
" قدم مسيلمة الكذاب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: إن جعل
لي محمد الأمر من بعده تبعته. وقدمها في بشر كثير من قومه (1)، فأقبل
إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ثابت بن قيس بن شماس، وفي يد رسول الله صلى الله عليه وسلم
قطعة جريد، حتى وقف على مسيلمة في أصحابه فقال: لو سألتني هذه
القطعة ما أعطيتكها ولن تعدو أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله، وإني
لأراك الذي أريت فيه ما رأيت وهذا ثابت يجيبك عني. ثم انصرف عنه
صلى الله عليه وسلم " هذا لفظ البخاري في صحيحه.
فهذا مثال على من كان يرد من الوفود على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2) وأما مثال من كان يرسلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القبائل والبلدان ليعلموهم
فأمام أعيننا قصة قراء بئر معونة رضي الله عنهم الذين غدر بهم وكانوا سبعين
رجلا أرسلهم صلى الله عليه وسلم ليعلموا إحدى القبائل وهم يزيدون على عدد التواتر بكثير
وقصتهم في البخاري (7 / 385 فتح).
وهذا سيدنا معاذ الذي بعثه صلى الله عليه وسلم إلى اليمن لم يبعثه صلى الله عليه وسلم على جمل
لوحده كما يتخيل، بعضهم، بل ذهب في جماعة من الصحابة كما هو
المعروف والمألوف وكان هو على رأسهم، ففي تاريخ ابن جرير الطبري
(2 / 247):
" عن عبيد بن صخر بن لوذان الأنصاري السلمي وكان فيمن بعث النبي

(1) تدبر قوله فيه: " وقدمها في بشر كثير من قومه " وأن بالتقاء هؤلاء البشر بالنبي صلى الله عليه وسلم
يحصل نقل أصل التوحيد إلى أهل اليمامة بواسطتهم بالتواتر.
30

صلى الله عليه وسلم مع عمال اليمن في سنة عشر بعدما حج حجة التمام: وقد مات باذام،
فلذلك فرق عملها بين شهر بن باذام، وعامر بن شهر الهمداني، وعبد الله
بن قيس أبي موسى الأشعري، وخالد بن سعيد بن العاص، والطاهر بن
أبي هالة، ويعلي بن أمية، وعمرو بن حزم، وعلى بلاد حضرموت زياد بن
لبيد البياضي وعكاشة بن ثور بن أصغر الغوثي.. ومعاوية بن كندة، وبعث
معاذ بن جبل معلما لأهل البلدين: اليمن وحضرموت " ا ه‍.
قلت: فهؤلاء بعض من كان مع سيدنا معاذ حين بعثه صلى الله عليه وسلم إلى اليمن
من المسؤولين ما عدا الآخرين الذين كانوا أيضا بصحبته، والمترددين من
أهل اليمن بين بلادهم والمدينة ممن نقل أصل الدعوة وأصول التوحيد
والعقيدة إلى تلك البلاد كالأشعريين الذين منهم أبو موسى الأشعري
وأصحابه، فأين هذا عن عقل من يتخيل أن سيدنا معاذا ركب جملا وحده
وذهب مبعوثا فريدا إلى اليمن من علمه بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سفر الرجل
وحده، وهل بعد هذا البيان والإيضاح يصح لعاقل أن يستدل على أن خبر
الواحد يفيد العلم أو نحو هذه التخليطات بقصة سيدنا معاذ رضي الله عنه (1)؟!
عافاكم الله أيها المتحذلقون استيقظوا!!
وإذا وصلنا إلى مثل هذا المقام وانتسف عمدة أدلة من يجعل خبر
الواحد دليلا في أصول الاعتقاد ويزعم أنه يفيد العلم فلا بد أن نذكر أدلتنا
في ذلك فنقول وبالله تعالى التوفيق:

(1) وأزيد مؤكدا على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبعث إلى ناحية من النواحي رجلا واحدا وإنما كان
يبعث بعثا - عددا من الصحابة - وإنما كان يسمى الرجل الواحد لأنه أمير ذلك البعث
بدليل ما رواه الإمام أحمد في مسنده (5 / 356) أثناء قصة عن بريدة قال:
" بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثين إلى اليمن، على أحدهما علي بن أبي طالب... " وإسناده
حسن، وفيه تأكيد أيضا على أن سيدنا معاذ كان في بعث - جماعة - لما ذهب ولم
يكن وحده، فبطل استدلال من يستدل بقصته في خبر الآحاد والحمد لله.
31

1) ثبت في صحيح البخاري (فتح 1 / 566) ومسلم (1 / 403 برقم 573)
أن ذا اليدين قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما صلى الظهر أو العصر ركعتين:
" يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة؟! فقال له: لم أنس ولم تقصر
ثم قال للناس: أكما يقول ذو اليدين؟ فقالوا: نعم. فتقدم فصلى ما ترك
ثم سلم....) ا ه‍
قلت: لما قال ذو اليدين لرسول الله صلى الله عليه وسلم (أنسيت أم قصرت الصلاة)
أفاد ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الظن لاحتمال الوهم والخطأ على ذي اليدين
مع كونه راويا عدلا ضابطا ثقة وهو صحابي، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس
وفيهم أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فلما صدقوا خبر ذي اليدين وهم
عدد التواتر وأكثر تحقق عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر وأفاد العلم.
فاستفدنا من ذلك أن خبر الواحد وهو ذو اليدين لم يفد عند رسول
الله إلا الظن لا أنه لا يعمل به، بدليل أن أحاديث أخرى من أخبار الآحاد
عمل بها الصحابة بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لهم، كحديث انحراف أهل قباء أثناء
صلاة الجماعة لما أتاهم آت فشهد أن النبي صلى الله عليه وسلم توجه نحو القبلة كما في
البخاري (فتح 1 / 502) وفي رواية ذكرها الحافظ هناك في صحيح
البخاري بدل (رجل) (رجال) في رواية المستملي والحموي لصحيح
البخاري أنظر الفتح (1 / 503) وهذا مما يعكر الاستدلال بهذا الحديث
بخبر الواحد جزما.
والبخاري رحمه الله تعالى في صحيحه أورد حديث ذي اليدين في
كتاب أخبار الآحاد مما فيه رفض لخبر الواحد إذا ارتيب فيه وأورد غيره مما
يجعل خبره في العمليات دون الاعتقاديات حجة، وهذا يدلنا دلالة أكيدة
على أن البخاري يرى أن من أخبار الآحاد الصحيح ما هو مقبول ومنه ما
32

هو غير ذلك، ويشهد لهذا ويعضده أن السلف من أئمة الحفاظ
والمجتهدين والمحدثين ردوا أخبارا صحاحا ولم يقبلوها ومنها ما هو في
الصحيحين كما سيأتي في الفصل الذي بعد هذا عن الإمام أحمد بن حنبل
وغيره، ولم يعهد عن أحد منهم أنه رد آية في كتاب الله تعالى مما يدل
ويؤكد أن القرآن يفيد العلم ولا يجوز رده بحال وأن الحديث الصحيح يفيد
الظن فيجوز رده بما هو أقوى منه إن عارضه ولم يمكن الجمع وسيأتي في
ذلك أمثلة عديدة لا تجعل في ما قررناه أدنى شك وبالله تعالى التوفيق.
رد الصحابة بعض أحاديث الآحاد الثابتة واستيثاقهم منها
أحيانا أخرى
2) رد السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها على سيدنا عمر رضوان
الله عليه في حديث " تعذيب الميت ببكاء أهله عليه ".
روى البخاري (فتح 3 / 151 - 152) ومسلم (2 / 638 - 642) أن
سيدنا عمر وابنه سيدنا عبد الله رويا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الميت
يعذب ببكاء أهله عليه " فردت ذلك السيدة عائشة وقالت كما في صحيح
مسلم (برقم 27 في الجنائز) عن عمرة أنها سمعت السيدة عائشة وذكر لها
أن عبد الله بن عمر يقول: إن الميت ليعذب ببكاء الحي. فقالت السيدة
عائشة: يغفر الله لأبي عبد الرحمن. أما إنه لم يكذب، ولكنه نسي أو
أخطأ. إنما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهودية يبكى عليها فقال: " إنهم ليبكون
عليها، وإنها لتعذب في قبرها ".
33

قال الإمام الحافظ النووي رحمه الله تعالى في " شرح صحيح مسلم "
(5 / 228):
" وهذه الروايات من رواية عمر بن الخطاب وابنه عبد الله رضي الله
عنهما، وأنكرت عائشة، ونسبتهما إلى النسيان والاشتباه عليهما، وأنكرت
أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك واحتجت بقوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر
أخرى) قالت: وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم في يهودية أنها تعذب وهم يبكون عليها
يعني تعذب بكفرها في حال بكاء أهلها لا بسبب البكاء " ا ه‍.
قلت: وجاء في عدة أحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم بكى على الميت، وسكت
عمن بكى على الميت أيضا.
فمن تأمل هذا الحديث " الميت يعذب ببكاء أهله عليه " الثابت في
الصحيحين وهو من أخبار الآحاد ورد السيدة عائشة له بالنص القطعي في
القرآن (ولا تزر وازرة وزر أخرى) عرف أن حديث الآحاد ولو رواه عن
النبي صلى الله عليه وسلم اثنان فإنه لا يفيد إلا الظن، وما لا يفيد إلا الظن أي يحتمل فيه
الخطأ كيف تبنى عليه العقائد؟!!
وهل يجوز أن يعتقد المسلم في ذات الله تعالى بأشياء يحتمل أن يظهر
له بعد ذلك أنها خطأ؟!!
ولماذا سميت عقيدة إذن إذا لم تكن مبنية على الثوابت التي لا يمكن
أن يطرأ عليها ما يزيلها؟!!
3) ردت السيدة عائشة على من قال أو روى أن سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم رأى
ربه وهو ابن عباس رضي الله عنه وغيره، ففي صحيح مسلم (1 / 158 برقم
284 و 285) عن عطاء عن ابن عباس قال: " رآه بقلبه " وقال: " رآه بفؤاده
مرتين " قلت: وقد قال الحافظ في " الفتح " (8 / 608) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
34

" رأيت ربي "، وذكر قبل ذلك بتسعة أسطر أن ابن خزيمة روى بإسناد قوي
عن سيدنا أنس أنه قال: " رأى محمد ربه ".
قلت: ردت السيدة عائشة رضي الله عنها جميع ذلك كما في البخاري
(فتح 8 / 606) ومسلم (1 / 159 برقم 287) عن مسروق قال: قلت لعائشة
رضي الله عنها: يا أمتاه، هل رأى محمد ربه؟ فقالت: " لقد قف شعري
مما قلت، أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب: من حدثك أن
محمدا رأى ربه فقد كذب، ثم قرأت (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار
وهو اللطيف الخبير) (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء
حجاب)... ".
قلت: فانظر كيف ردت السيدة عائشة التي تفقهت على رسول الله صلى الله عليه وسلم
الظني بالقطعي.
فهذا فكر مدرسة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
4) وردت السيدة عائشة رضي الله عنها من قال: " بال رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما "
لأنها لم تره صلى الله عليه وسلم يبول إلا قاعدا أو أنه أخبرها بذلك فكان ذلك من اليقينات
عندها، ومن حدث أنه بال قائما مظنون عندها. فرؤياها له أو تحديثه لها
يقيني عندها ورواية من قال: " بال قائما " ظني عندها فردته.
روى البيهقي (1 / 101) عن السيدة عائشة قالت:
" ما بال رسول الله قائما مذ أنزل عليه القرآن " (1) وعند النسائي (1 / 26)
والترمذي (1 / 17 شاكر) وابن ماجة (1 / 112 برقم 307) بلفظ: " من
حدثكم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول قائما فلا تصدقوه ".

(1) رواه أيضا الحاكم في المستدرك (1 / 181) وصححه ووافقه الذهبي وهو على
شرط مسلم.
35

5) وأنكرت السيدة عائشة على أبي هريرة في حديث آخر أيضا:
روى أبو داود الطيالسي في مسنده (ص 199) بسند صحيح على شرط
مسلم عن علقمة قال كنا عند عائشة فدخل عليها أبو هريرة فقالت يا أبا
هريرة أنت الذي تحدث أن امرأة عذبت في هرة لها ربطتها لم تطعمها ولم
تسقها فقال أبو هريرة سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم فقالت عائشة:
أتدري ما كانت المرأة؟! قال: لا، قالت: إن المرأة مع ما فعلت كانت
كافرة، إن المؤمن أكرم على الله من أن يعذبه في هرة، فإذا حدثت عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم فانظر كيف تحدث.
وفي هذا الانكار بيان صريح بأن خبر الواحد يحتمل الخطأ فكيف يبنى
عليه أصل الدين؟!
6) وأنكرت السيدة عائشة أيضا على أبي هريرة رضي الله عنه في حديث
آخر:
روى أبو داود الطيالسي (ص 215) عن مكحول قيل لعائشة إن أبا
هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الشؤم في ثلاث في الدار والمرأة والفرس "
فقالت عائشة: لم يحفظ أبو هريرة لأنه دخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قاتل
الله اليهود يقولون إن الشؤم في ثلاث في الدار والمرأة والفرس سمع آخر
الحديث ولم يسمع أوله.
قلت: مكحول لم يسمع من السيدة عائشة كما في " الفتح " (6 / 61)
إلا أن لهذا الأثر أو الحديث متابع قال الحافظ هناك:
روى أحمد وابن خزيمة والحاكم من طريق قتادة عن أبي حسان: أن
رجلين من بني عامر دخلا على عائشة فقالا: إن أبا هريرة قال: إن رسول
36

الله صلى الله عليه وسلم قال: " الطيرة في الفرس والمرأة والدار " فغضبت غضبا شديدا
وقالت: ما قاله! وإنما قال: " إن أهل الجاهلية كانوا يتطيرون من ذلك ".
قلت: والأصل لا طيرة في الإسلام من شئ وإنما المشؤوم العمل
السئ الطالح الذي يجر صاحبه إلى النار والعياذ بالله تعالى، قال الله
تعالى: (قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب
أليم قالوا طائركم معكم أإن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون) يس: 18 و 19،
وجاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الطيرة شرك " قال الحافظ المنذري
في الترغيب (4 / 64): " رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح " لذلك
ردت السيدة عائشة رضي الله عنها ذلك، وظهر لنا بردها أن الراوي لخبر
الآحاد ولو كان في أعلى مراتب التوثيق كأبي هريرة الصحابي رضي الله عنه
فإن خبره يفيد الظن ولا يفيد العلم ولذلك جاز رده خلافا للآية والخبر
المتواتر.
6) خبر الواحد يفيد الظن ولا يفيد العلم عند سيدنا أبي بكر الصديق رضي
الله عنه:
قال الحافظ الذهبي في " تذكرة الحفاظ " (1 / 2):
" وكان - أبو بكر - أول من احتاط في قبول الأخبار، فروى ابن شهاب
عن قبيصة بن ذويب أن الجدة جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تورث فقال:
ما أجد لك في كتاب الله شيئا وما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لك شيئا،
ثم سأل الناس فقام المغيرة فقال: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيها السدس،
فقال له: هل معك أحد؟! فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك فأنفذه أبو
بكر رضي الله عنه " (1) ا ه‍.

(1) رواه أحمد في المسند (4 / 225) وابن الجارود في المنتقى (959) وعبد الرزاق
في المصنف (10 / 274) والبيهقي في سننه (6 / 234 / 6) والحاكم (4 / 338)
وصححه وأقره الذهبي، وابن حبان في صحيحه (موارد 1224) ومالك في الموطأ
(2 / 513) وأبو داود (3 / 121) والترمذي (4 / 419) وهو صحيح.
37

7) خبر الواحد يفيد الظن دون العلم عند سيدنا عمر رضي الله عنه أيضا:
قال الحافظ الذهبي في ترجمة سيدنا عمر رضي الله عنه في تذكرة
الحفاظ (1 / 6) ما نصه:
" وهو الذي سن للمحدثين التثبت في النقل وربما كان يتوقف في خبر
الواحد إذا ارتاب (1)، فروى الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن أبا
موسى سلم على عمر من وراء الباب ثلاث مرات فلم يؤذن له فرجع فأرسل
عمر في أثره فقال: لم رجعت؟! قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا
سلم أحدكم ثلاثا فلم يجب فليرجع ".
قال: لتأتيني على ذلك ببينة أو لأفعلن بك، فجاءنا أبو موسى منتقعا
لونه ونحن جلوس، فقلنا: ما شأنك؟ فأخبرنا وقال: فهل سمع أحد منكم؟
فقلنا: نعم كلنا سمعه فأرسلوا معه رجلا منهم حتى أتى عمر فأخبره (2).
أحب عمر أن يتأكد عنده خبر أبي موسى بقول صاحب آخر، ففي هذا
دليل على أن الخبر إذا رواه ثقتان كان أقوى وأرجح مما انفرد به واحد،
وفي ذلك حض على تكثير طرق الحديث لكي يرتقي عن درجة الظن إلى

(1) ونحن وكل عاقل إن ارتبنا في حديث من أحاديث الصفات لم نقبله لاختلاف
ألفاظه في كل موضع ولمعارضته للقطعي عندنا كما يتبين ذلك تفصيله في
التعليق على أحاديث " دفع شبه التشبيه ".
(2) رواه البخاري (فتح 11 / 27) ومسلم وغيرهما.
38

درجة العلم، إذ الواحد يجوز عليه النسيان والوهم ولا يكاد يجوز ذلك على
ثقتين لم يخالفهما أحد " ا ه‍ كلام الحافظ الذهبي.
فالحافظ الذهبي أيضا ممن يقول أن خبر الواحد يفيد الظن وأن الخبر
كلما ازداد رواته ارتقى إلى درجة العلم أكثر وقرب منها.
8) خبر الواحد ينبغي التثبت منه ولو كان راويه صحابيا ويفيد الظن عند
الإمام علي رضي الله عنه:
روى الإمام أحمد في المسند (1 / 10) بإسناد صحيح عن أسماء بن
الحكم الفزاري قال: سمعت عليا قال: كنت إذا سمعت من رسول الله
صلى الله عليه وسلم حديثا نفعني الله به بما شاء أن ينفعني منه، وإذا حدثني غيري عنه
استحلفته، فإذا حلف لي صدقته، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر قال: قال
رسول الله: " ما من عبد مؤمن يذنب ذنبا فيتوضأ فيحسن الطهور ثم
يصلي ركعتين فيستغفر الله تعالى إلا غفر الله له " ثم تلا: (والذين إذا فعلوا
فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب
إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون) الآيات آل عمران: 136.
أقول: لو كان خبر الواحد يفيد العلم ولا يفيد الظن لاكتفى سيدنا علي
عليه السلام ورضي الله عنه بسماع خبر الواحد ولما استحلفه لأنه باستحلافه
يؤكد خبره، أو يصرح الراوي بأنه غير متأكد من الخبر، هذا وليس في السند
بالنسبة لسيدنا علي كرم الله وجهه إلا رجل واحد وهو صحابي، فكيف بسند
فيه خمسة رجال مثلا، ليس جميعهم صحابة:؟! ألا يفيد ذلك الظن؟!
39

خبر الواحد يفيد العمل والظن دون العلم عند أئمة السلف
أيضا
9) قال الحافظ ابن عبد البر في " التمهيد " (1 / 7):
" واختلف أصحابنا وغيرهم في خبر الواحد العدل هل يوجب العلم
والعمل جميعا، أم يوجب العمل دون العلم؟ والذي عليه كثر أهل العلم
منهم - أي المالكية - أنه يوجب العمل دون العلم، وهو قول الشافعي
وجمهور أهل الفقه والنظر ولا يوجب العلم عندهم إلا ما شهد به على الله
وقطع العذر بمجيئه قطعا ولا خلاف فيه.
وقال قوم من أهل الأثر وبعض أهل النظر إنه يوجب العلم الظاهر (1)
والعمل جميعا، منهم الحسين الكرابيسي وغيره، وذكر ابن خوازمنداد أن
هذا القول يخرج على مذهب مالك، قال أبو عمر - ابن عبد البر -:
الذي نقول به إنه يوجب العمل دون العلم كشهادة الشاهدين والأربعة
سواء وعلى ذلك أكثر أهل الفقه والأثر " انتهى كلامه.
10) والإمام الشافعي يصرح بذلك أيضا:
قال سيدنا الإمام الشافعي رحمة الله عليه ورضوانه:
" الأصل القرآن والسنة وقياس عليهما، والإجماع أكبر من الحديث
المنفرد " ا ه‍ رواه عنه: أبو نعيم في " الحلية " (9 / 105) وأبو حاتم في " آداب
الشافعي " (231 و 233) والحافظ البيهقي في " مناقب الشافعي " (2 / 30).

(1) أي علم الفروع دون الأصول - العقيدة -.
40

قلت: إنما قال الإمام الشافعي " الاجماع أكبر من الحديث المنفرد "
لأن الاجماع يفيد العلم والقطع والحديث المنفرد الذي هو الآحاد يفيد
الظن، فتأمل وتدبر.
11) وعلى ذلك الإمام البخاري رحمه الله تعالى:
قال الإمام الحافظ البخاري رحمه الله تعالى في كتاب أخبار الآحاد
من صحيحه (فتح 13 / 231) ما نصه:
" باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة والصوم
والفرائض والأحكام " ا ه‍.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرحه عليه:
" وقوله والفرائض بعد قوله: في الأذان والصلاة والصوم من عطف العام
على الخاص، وأفرد الثلاثة بالذكر للاهتمام بها، قال الكرماني: ليعلم إنما
هو في العمليات لا في الاعتقاديات " ا ه‍ من الفتح.
12) الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى لا يفيد خبر الواحد عنده إلا
الظن ومتى عارضه شئ من القطعي أو نحوه ضرب عليه، ولو كان يفيد
العلم لما ضرب عليه، وهذا مذهبه الذي كان عليه في مرضه الأخير الذي
توفي فيه:
روى البخاري (فتح 6 / 612) ومسلم (2917) وأحمد في المسند
(2 / 301) حديث:
" يهلك أمتي هذا الحي من قريش قالوا ما تأمرنا يا رسول الله؟ قال:
لو أن الناس اعتزلوهم ".
41

قال عبد الله بن الإمام أحمد هناك في المسند عقب هذا الحديث
مباشرة: " قال أبي في مرضه الذي مات فيه اضرب على هذا الحديث فإنه
خلاف الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يعني قوله: " اسمعوا وأطيعوا واصبروا ".
قلت: الأحاديث التي فيها " اسمعوا وأطيعوا واصبروا " أفادت عند الإمام
أحمد القطع أو ما قارب العلم، وحديث " لو أن الناس اعتزلوهم " ظني
عارض الثابت فأسقطه الإمام أحمد، وفي ذلك دلالة واضحة على أن الخبر
الذي صح إسناده يفيد الظن عنده ولا يفيد العلم، ولو أفاد العلم أو غلب
على ظنه أنه صح لأوله كما أول حديث مسلم: " تأتي البقرة وآل عمران
كأنهما غمامتان " فقال: " إنما هو الثواب " كما تقدم في نقل تأويلاته ولم
يأمر بالضرب عليه! فنستطيع أن نقول: أحاديث الصحيحين لا تفيد إلا
الظن عند أحمد ويمكن الضرب على بعضها إذا تبين فيها خلل كما فعل
هو في مسنده المتواتر عنه.
الأئمة وكبار الحفاظ والمحدثين على ذلك أيضا
13) قال شيخ المحدثين في وقته الحافظ الخطيب البغدادي في كتابه:
" الكفاية في علم الرواية " ص (432):
" باب ذكر ما يقبل فيه خبر الواحد وما لا يقبل فيه:
خبر الواحد لا يقبل في شئ من أبواب الدين المأخوذ على المكلفين
العلم بها والقطع عليها، والعلة في ذلك أنه إذا لم يعلم أن الخبر قول رسول
الله صلى الله عليه وسلم كان أبعد من العلم بمضمونه فأما ما عدا ذلك من الأحكام التي
42

لم يوجب علينا العلم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قررها وأخبر عن الله عز وجل بها فإن
خبر الواحد فيها مقبول والعمل واجب ".
وقال مثله ص (25) في الكفاية وعقد بابا سماه:
" ذكر شبهة من زعم أن خبر الواحد يوجب العلم وإبطالها ".
14) الإمام الحافظ البيهقي رحمه الله تعالى يقول ذلك أيضا:
قال الحافظ البيهقي في كتابه " الأسماء والصفات " ص (357):
" ولهذا الوجه من الاحتمال، ترك أهل النظر من أصحابنا الاحتجاج
بأخبار الآحاد في صفات الله تعالى، إذا لم يكن لما انفرد منها أصل في
الكتاب أو الاجماع واشتغلوا بتأويله " ا ه‍.
15) الإمام الحافظ النووي رحمه الله تعالى يصرح بذلك أيضا:
قال الإمام الحافظ النووي في " شرح مسلم " (1 / 131):
" وأما خبر الواحد فهو ما لم يوجد فيه شروط المتواتر سواء كان الراوي
له واحدا أو أكثر، واختلف في حكمه فالذي عليه جماهير المسلمين من
الصحابة والتابعين فمن بعدهم من المحدثين والفقهاء وأصحاب الأصول
أن خبر الواحد الثقة حجة من حجج الشرع يلزم العمل بها ويفيد الظن
ولا يفيد العلم..... " ا ه‍.
16) الحافظ ابن حجر العسقلاني يرى أيضا أن حديث الآحاد يفيد الظن
ولا يفيد العلم وكذلك علي القاري في شرح النخبة:
قال الحافظ ابن حجر الشافعي في شرح نخبة الفكر وعلي القاري
43

الحنفي في شرحه عليها ص (37) ما نصه وما بين الأقواس وبالأسود
الواضح كلام الحافظ ابن حجر:
((وفيها أي في الآحاد) أي في جملتها خاصة... (المقبول وهو ما
يوجب العمل به عند الجمهور) احتراز عن المعتزلة فإنهم أنكروا وجوب
العمل بالآحاد بدليل ما نقل عنهم من استدلال بخبر الواحد (وفيها) أي
أحاديث الآحاد (المردود وهو الذي لم يرجح صدق المخبر به لتوقف
الاستدلال بها على البحث عن أحوال رواتها دون الأول) أي القسم الأول
وهو المتواتر (فكله) ضميره راجع إلى المتواتر (مقبول) أي قبولا قطعيا لا
ظنيا (لإفادته) أي الخبر المتواتر (القطع بصدق مخبره بخلاف غيره من
أخبار الآحاد)) ا ه‍ من شرح القاري على شرح النخبة لابن حجر، وانظر
نزهة النظر شرح النخبة للحافظ أيضا ص (25 - 26) طبع دار الكتب
العلمية بيروت 1401 ا ه‍.
17) الإمام الأستاذ أبو منصور عبد القاهر البغدادي (1) المتوفى (429) ه‍
يرى ذلك أيضا:
قال الأستاذ البغدادي في كتابه " أصول الدين " ص (12) ما نصه:
" وأخبار الآحاد متى صح إسنادها وكانت متونها غير مستحيلة في العقل
كانت موجبة للعمل بها دون العلم " ا ه‍
18) اعتراف ابن تيمية الحراني في " منهاج سنته " إن خبر الآحاد لا يبنى
عليه أصل الاعتقاد:

(1) وقد وصفه بالأستاذ الحافظ ابن حجر العسقلاني في " فتح الباري " (13 / 345).
44

لقد اعترف الشيخ!! الحراني!! في " منهاج سنته " (2 / 133) بذلك
فقال:
" الثاني: أن هذا من أخبار الآحاد فكيف يثبت به أصل الدين الذي
لا يصح الإيمان إلا به؟! " ا ه‍
قلت: وأستطيع أن أقول بعد هذا البيان المفصل أن حديث الآحاد
لا يفيد إلا الظن ولا يجوز أن نبني عليه أصول الاعتقاد وخصوصا إذا كان
في رواته من هو متكلم فيه، أو كان معارضا بما هو أقوى منه، ومن شاء
الزيادة في ذلك فليقرأ وليتدبر ما كتبناه من تعليقات على هذا الكتاب " دفع
شبه التشبيه " فإنه سيخرج بنتيجة قطعية في هذه المسألة والله الموفق (1).

(1) وأما ما يستدل به بعض المبتدئين والسطحيين في التفكير الذين لا غور لهم في فهم أدلة
الشرع على حجية خبر الواحد في العقائد بقوله تعالى (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا
نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم
يحذرون) فلا علاقة لها بموضوعنا هذا. وذلك لأن هذه الطائفة مؤمنة بنص الآية وقد
حصل لديها وللفرقة التي نفرت منها الإيمان بأصول الدين والعقائد قبل ذلك. والمطلوب
منها هو التفقه في دقائق الشرع ليعرفوا فرقتهم بالأحكام التفصيلية التي لا يشترط فيها
التواتر بل يكفي فيها خبر الواحد، فإذا علم ذلك فلا ضير في اعتبار الطائفة واحدا أو أكثر،
على أننا لا نسلم البتة بأن الطائفة هي واحد، وقوله في الآية (لينذروا) دليل واضح على
أنهم جماعة مع كون هذا النفر يتعلق في غير أصول الدين التي يتناقلها المسلمون جيلا عن
جيل.
ونحن نعتقد أن أخبار الآحاد في العقيدة مقبولة لأنها تؤيد ما ثبت بالقطعي لكننا نقول إن
خبر الواحد المعارض بقواعد الشرع الثابتة مرفوض وغير مقبول حتى في الطهارة فما بالك في
أصول الدين؟!
45

الباب الرابع
الحديث الصحيح سندا الشاذ متنا
إعلم يرحمك الله تعالى أن أهل الحديث ذكروا أن للحديث الصحيح
خمسة شروط وهي:
1 - اتصال السند.
2 - عدالة الراوي.
3 - ضبطه.
4 - عدم الشذوذ.
5 - عدم العلة القادحة.
والحق أنهم في غالب أحوالهم لم يراعوا الشرط الرابع والخامس وهما
سلامة الحديث من الشذوذ والعلة القادحة، ولم يدرك شذوذ الحديث أو
وجود العلة فيه إلا النقاد الذين جمعوا بين الفقه والحديث، فأما من اقتصر
علمهم على الحديث فقط، فلم يدركوا ذلك إلا في الشئ اليسير وذلك
فضل الله يؤتيه من يشاء.
وقد نص على هذا الأمر جماعة من حذاق أهل العلم، والذي نبهني
على هذا الأمر شيخنا المحدث المفيد السيد أبو الفضل الغماري أعلى الله
درجته وقد كنت أمر على بعض أحاديث نص الحفاظ على صحتها إلا أنه
يخالج قلبي أنها غير صحيحة وأن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نطق بها حتى
عرفت قاعدة الشذوذ من السيد الإمام.
46

ومما يقرر هذا الأمر ما رواه الإمام أحمد (5 / 425) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إذا سمعتم الحديث عني، تعرفه قلوبكم، وتلين له أشعاركم
وأبشاركم، وترون أنه منكم قريب، فأنا أولاكم به، وإذا سمعتم الحديث
عني تنكره قلوبكم، وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم بعيد،
فأنا أبعدكم منه ".
وهو حديث صحيح أو حسن وأخرجه ابن سعد في " الطبقات "
(1 / 387 - 388) وصححه أبو حاتم ابن حبان (92). أنظر سير أعلام
النبلاء (7 / 438 - 439).
ومن أقوال الحفاظ في هذا الأمر:
قول الحاكم في كتابه " معرفة علوم الحديث " (1) ص (112):
" وإنما يعلل الحديث من أوجه ليس للجرح فيها مدخل فإن حديث
المجروح ساقط واه، وعلة الحديث تكثر في أحاديث الثقات أن يحدثوا
بحديث له علة فيخفى عليهم علمه فيصير الحديث معلولا، والحجة فيه
عندنا الحفظ والفهم والمعرفة لا غير... " ا ه‍.
وقال الحافظ ابن الجوزي في " دفع شبه التشبيه " ص (143):
" إعلم أن للأحاديث دقائق وآفات لا يعرفها إلا العلماء الفقهاء، تارة
في نظمها وتارة في كشف معناها... " ا ه‍.
وقال الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى في " تدريب الراوي " (1 / 233)
أثناء كلامه على الحديث الشاذ:

(1) " معرفة علوم الحديث " طبع دار الكتب العلمية سنة 1977 م، النوع السابع
والعشرون.
47

" قال شيخ الإسلام (1): وبقي من كلام الحاكم: وينقدح في نفس
الناقد أنه غلط ولا يقدر على إقامة الدليل على هذا، قال: وهذا القيد لا
بد منه، قال: وإنما يغاير المعلل من هذه الجهة، قال: وهذا على هذا
أدق من المعلل بكثير فلا يتمكن من الحكم به إلا من مارس الفن غاية
الممارسة، وكان في الذروة من الفهم الثاقب ورسوخ القدم في الصناعة.
قلت: ولعسره لم يفرده أحد بالتصنيف، ومن أوضح أمثلته ما أخرجه
في المستدرك من طريق عبيد بن غنام النخعي عن علي بن حكيم عن
شريك، عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى عن ابن عباس قال؟ " في
كل أرض نبي كنبيكم، وآدم كآدم ونوح كنوح وإبراهيم كإبراهيم وعيسى
كعيسى " وقال صحيح الإسناد، ولم أزل أتعجب من تصحيح الحاكم له
حتى رأيت البيهقي قال: إسناده صحيح، ولكنه شاذ بمرة " (2) ا ه‍ كلام
الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى.
قلت: وفي قوله (ولعسره لم يفرده أحد بالتصنيف) أكبر دلالة على أن
الحفاظ الذين كانوا حفاظا على طريقة المحدثين ولم يكن لهم تمرس في
الفقه وباع طويل فيه لا يمكن أن يكتشفوا مثل هذا النوع، وما أعلم في
القديم أحدا أفرد مثل هذا النوع بكتاب، إلا إذا اعتبرنا كتاب الحافظ ابن
الجوزي " مشكل الصحاح " (3) من هذا النوع، وإلا فما رأينا أحدا جمع في

(1) يعني الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى.
(2) ذكر هذا الحديث وحكم البيهقي عليه بأنه شاذ بمرة الحافظ أيضا في الفتح
(6 / 293) فتنبه.
(3) كما ذكر ذلك الحافظ الذهبي في " سير أعلام النبلاء " (21 / 368) وبعضهم
يسميه " مشكل الصحيحين ". وهو بعد ما يزال مخطوطا ويقع في أربع مجلدات.
48

ذلك كتابا إلا شيخنا السيد الإمام أبو الفضل الغماري أعلى الله درجته، فإنه
صنف كتابا في هذه المسألة سماه: " الفوائد المقصودة في بيان الأحاديث
الشاذة المردودة " فهو أول من حرر في هذه المسألة تصنيفا مستقلا فيما
علمنا.
وإذا كان الحفاظ قد عرفوا الشاذ في كتب المصطلح بأنه: ما خالف
الثقة به الثقات، فنقول: إذا خالف الثقة الثقات في رواية اعتبر حديثه شاذا
مقدوحا فيه، فما بالك إذا خالف الثقة القرآن؟! حيث أتى برواية تخالف
المقطوع به؟! لا شك أنه يطرح ما جاء به وهو شاذ بمرة، وإنما يدرك ذلك
من كان فهمه ثاقبا وكان فقيها صاحب استنباط دقيق وعقل كبير فطن، وذلك
فضل الله يؤتيه من يشاء والذي يعنينا هنا الآن في هذا المقام مسألتان:
الأولى: أن نبين أن هناك أحاديث حكم عليها بعض الحفاظ بالصحة
بالنظر لأسانيدها دون متونها التي فيها ما ينكر فيجعلها من الشاذ متنا، منها
في الصحيحين ومنها ما ليس فيهما.
والثانية: أن أحاديث الصحيحين لا تفيد إلا الظن شأنها شأن باقي
الأحاديث الصحيحة الأخرى خارج الصحيحين، إلا ما تواتر منها، وقد
صرح بذلك جماعة من حذاق الأئمة الجامعين بين الفقه والحديث.
أما المسألة الأولى:
أحاديث حكم عليها بعض الحفاظ بالصحة بالنظر لأسانيدها وهي
معلولة أو شاذة متنا:
1 - روى مسلم في صحيحه (4 / 2149 برقم 2789) عن أبي هريرة
مرفوعا:
49

" خلق الله عز وجل التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد،
وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم
الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم عليه السلام بعد العصر
من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين
العصر إلى الليل ".
ففي هذا الحديث إثبات أن الله خلق السماوات والأرض في سبعة أيام،
وهذا مخالف للقرآن وذلك لأن الله تعالى أخبر أنه خلق السماوات والأرض
في ستة أيام، قال الله تعالى: (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض
في ستة أيام) الأعراف: 53.
فإن قال قائل: هذا الحديث لا يعارض الآية السابقة، وإنما يفصل
كيفية تطور الأرض وما خلق فيها وحدها، وأن ذلك كان في سبعة أيام وهي
غير الأيام الستة المذكورة في الآية أو نحو هذا الكلام كما صرح به
متناقض!! عصرنا.
قلنا في جوابه: لا، ليس كذلك وكلامك باطل من وجوه عديدة أذكر
لك ثلاثة منها:
الأول: أن سيدنا آدم المذكور في الحديث لم يخلق على الأرض
إنما خلقه الله في الجنة ثم أهبط بعد مدة إلى الأرض، فهذا الحديث لا
يتكلم إذن بما حصل على الأرض خاصة، ثم قوله فيه: (وخلق النور يوم
الأربعاء) ليس خاصا أيضا بالأرض لأن النور الموجود على الأرض بشكل
عام مصدره من الشمس التي هي في السماء، فهذا الحديث فيه ذكر ما
في الأرض وما في السماء.
وكذلك قوله المكروه في الحديث لا يفهم معناه!! والمكروه يعم أشياء
50

كثيرة، والمعروف أن المكروه أو الشر يخلقه الله عز وجل في وقته الذي
يحصل فيه، وهذا الحديث فيه هذه الجمل الركيكة التي تدل على أن سيدنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نطق به.
الثاني: أن القرآن يرد ذلك أيضا بصراحة قال تعالى: (قل أئنكم
لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب
العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في
أربعة أيام سواء للسائلين) فصلت: 9 - 10.
فهذا صريح في أن الله خلق الأرض في يومين وقدر فيها أقواتها في
أربعة أيام ومجموع ذلك ستة أيام، فأين الأيام السبعة من ذلك؟!
الثالث: أن بعض أئمة المحدثين الذين أدركوا هذا الشذوذ في متن
الحديث طعنوا فيه.
قال ابن كثير في تفسيره (1 / 99 طبعة الشعب):
" هذا الحديث من غرائب صحيح مسلم، وقد تكلم عليه ابن المديني
والبخاري وغير واحد من الحفاظ وجعلوه من كلام كعب الأحبار، وأن أبا
هريرة إنما سمعه من كلام كعب الأحبار، وقد اشتبه على بعض الرواة فجعله
مرفوعا ".
قلت: وقد ذكر ذلك البخاري في كتابه " التاريخ الكبير " وغيره، حتى
أن الشيخ!! الحراني!! نقل طعن الحفاظ فيه في " فتاواه " (1) (17 / 236).

(1) وكذلك في كتاب " دقائق التفسير " (6 / 366) المنسوب إليه، وإنما قلت
المنسوب إليه لأنه لم يصنف كتابا بهذا الاسم وإنما هو من فعل مقلديه وتجار
الكتب في هذا الزمان، حيث استلوا نصوصا تتعلق بالتفسير من فتاواه فطبعوها
في كتاب خاص وسموه بهذا الاسم تكثيرا لمصنفات الشيخ الحراني لينخدع
بذلك بسطاء الطلبة والعوام والمتعلمين، ولله في خلقه شؤون!!
51

2 - وروى مسلم في صحيحه (برقم 2501) في فضائل الصحابة: باب
من فضائل أبي سفيان، من طريق عكرمة بن عمار عن أبي زميل عن ابن
عباس قال: كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه، فقال
للنبي صلى الله عليه وسلم: يا نبي الله! ثلاث أعطينهن؟ قال " نعم ".
قال: عندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان،
أزوجكها؟
قال: " نعم ".
قال: ومعاوية تجعله كاتبا بين يديك؟ قال: " نعم " (1).
قال: وتؤمرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين؟ قال:
" نعم ".
قال أبو زميل؟ ولولا أنه طلب ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم ما أعطاه ذلك، لأنه
لم يكن يسأل شيئا إلا قال: " نعم ".
قلت: هذا حديث موضوع وهو أحد الأحاديث الثلاثة الموضوعة التي
في صحيح الإمام مسلم.
ومن دلائل وضعه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد تزوج أم حبيبة بنت أبي
سفيان قبل فتح مكة بدهر، ولما زارها أبو سفيان في المدينة وهو مشرك نحته
عن فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه مشرك نجس ساعتئذ وهذا مشهور ومعلوم.

(1) من هذا الحديث استدل النواصب على أن معاوية كان كاتبا للوحي وليس كذلك
كما بين ذلك الحافظ في ترجمته في " الإصابة " والذهبي في " سير أعلام النبلاء "
ووضحناه في التعليق على هذا الكتاب " دفع شبه التشبيه " رقم (181) فانظره
هناك.
52

قال الحافظ الذهبي في " سير أعلام النبلاء " (7 / 137) عن هذا
الحديث في ترجمة أحد رواته (عكرمة بن عمار) ما نصه:
" قلت: قد ساق له مسلم في الأصول حديثا منكرا، وهو الذي يرويه
عن سماك الحنفي عن ابن عباس، في الأمور الثلاثة التي التمسها أبو سفيان
من النبي صلى الله عليه وسلم ".
وقد نقل الإمام الحافظ النووي رحمه الله تعالى في " شرح مسلم "
(16 / 63) عند شرح هذا الحديث أن ابن حزم حكم عليه بالوضع.
قلت: وهو حكم صحيح لا غبار عليه.
وقال الحافظ ابن الجوزي في هذا الحديث:
" هو وهم من بعض الرواة لا شك فيه ولا تردد، وقد اتهموا به عكرمة بن
عمار راوي الحديث، وإنما قلنا: إن هذا وهم لأن أهل التاريخ أجمعوا
على أن أم حبيبة كانت تحت عبيد الله بن جحش، وولدت له، وهاجر بها
وهما مسلمان إلى أرض الحبشة، ثم تنصر وثبتت أم حبيبة على دينها،
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي يخطبها عليه، فزوجه إياها، وأصدقها
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة آلاف درهم، وذلك في سنة سبع من الهجرة وجاء
أبو سفيان في زمن الهدنة وهي التي كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش في
صلح الحديبية فدخل عليها، فثنت بساط رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يجلس
عليه، ولا خلاف في أن أبا سفيان ومعاوية أسلما في فتح مكة سنة ثمان،
ولا يعرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أبا سفيان " ا ه‍.
وهناك أمثلة أخرى على الأحاديث التي عللها الحفاظ المتقنون والتي
حكموا بوضعها أو نكارتها لشذوذ متونها، وعدم انتظامها مع المتواتر
والمعروف المشهور، وهذا مما يؤكد لنا أن خبر الواحد يجوز عليه الخطأ
53

والوهم ولا يفيد العلم وإن كان في الصحيحين، فلا يجوز أن تبنى عليه
أصول العقائد التي لا يجوز للخطأ أن يكون له فيها مجال ونصيب.
وما ذكرناه من إنكار السيدة عائشة على سيدنا عمر وابنه رضي الله
عنهم أجمعين في حديث تعذيب الميت ببكاء أهله عليه يثبت ذلك ويؤكده
وهو ثابت في الصحيحين لأنه معارض لقوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر
أخرى) مع أن حديث سيدنا عمر بالنسبة للسيدة عائشة أصح من حديث
الصحيحين بكثير لأنه ليس في سنده إلا سيدنا عمر الثقة العدل الضابط
أو ابنه سيدنا عبد الله وسند حديث الصحيحين فيه نحو خمسة رجال:
وكل ما قلت رجاله علا * وضده ذاك الذي قد نزلا
وما سقناه من أمثلة في باب الظن في خبر الآحاد المتقدم يؤيد ما نريده
ونقرره هنا، وخصوصا حديث الصحيحين " لو أن الناس اعتزلوهم " الذي
رده الإمام أحمد رحمه الله تعالى وأمر بالضرب عليه وقد مر معزوا مفصلا.
وقد استنكر الإمام أحمد أيضا حديث " من مات وعليه صوم، صام عنه وليه "
وهو في الصحيحين أنظر " سير أعلام النبلاء " (6 / 10).
وهذا حديث سيدنا أنس في البسملة الذي في " صحيح مسلم " والذي
فيه: " صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يفتتحون القراءة
بالحمد لله رب العالمين، لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم أو القراءة
ولا آخرها " حديث معلول، لأن جملة: " لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم
أول القراءة ولا آخرها " ليست من حديث أنس رضي الله عنه ولا من كلامه،
وقد مثل جميع الحفاظ للحديث المعلول في كتب المصطلح بحديث أنس
هذا، لا سيما وقد ثبت في صحيح البخاري أن سيدنا أنسا سئل عن قراءة
النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
54

" كانت مدا يمد ببسم الله ويمد بالرحمن ويمد بالرحيم ". والله الموفق.
وأما المسألة الثانية وهي:
أن الحديث الصحيح سواء كان في الصحيحين أو في غيرهما لا يفيد
إلا الظن.
فجميع ما قدمناه ودللنا عليه مع الأمثلة العملية الواقعية يثبت ذلك بلا
شك، وما ذهب إليه بعضهم من أن أحاديث الصحيحين تفيد العلم قول
ضعيف لا يؤيده الواقع البتة، وقد أطال الحافظ ابن حجر في " النكت على
ابن الصلاح " محاولا إثبات ذلك، ولكنه لم يقنع ولم يأت هنالك بجديد
أو دليل يبت ويقطع في المسألة والأدلة التي سقناها تنفي ذلك، ثم رجع
واستثنى الأحاديث المنتقدة ولا طائل وراء ذلك وكلامه في باقي كتبه
المحررة يفيد خلاف ذلك، والحق ما قاله الإمام الحافظ النووي في هذه
المسألة في " شرح صحيح مسلم " (1 / 131) حيث قال:
" وذهب بعض المحدثين إلى أن الآحاد التي في صحيح البخاري أو
صحيح مسلم تفيد العلم دون غيرها من الآحاد، وقد قدمنا هذا القول
وإبطاله في الفصول.. ".
ثم قال بعد ذلك بأسطر:
" وأما من قال يوجب العلم - خبر الواحد - فهو مكابر للحس، وكيف
يحصل العلم واحتمال الغلط والوهم والكذب وغير ذلك متطرق إليه؟! والله أعلم
" ا ه‍ وبهذا يتم هذا الفصل.
55

الباب الخامس
في ذكر تمويهات المجسمة في إقناعهم العوام وأشباههم
على العلو الحسي وإبطال ذلك
إعلم يرحمك الله تعالى أن المشبهة والمجسمة في كل عصر يوردون
أحاديث يوهم ظاهرها العلو الحسي يفتنون بها العوام وأشباههم ويموهون
عليهم لإثبات عقيدتهم الفاسدة، وقد تكفل كتاب الحافظ ابن الجوزي
" دفع شبه التشبيه " وما علقناه عليه من حواش وتقييدات وإيضاحات بنسف
ما تتشبث به المجسمة والمشبهة وتتعلق به في استدلالها.
غير أن هناك بعض الأحاديث التي لم يذكرها الحافظ ابن الجوزي
رحمه الله تعالى والتي لم يتسن الكلام عليها في التعليق على كتابه ولا بد
من ذكرها هنا في هذه المقدمة والإجابة عليها وتوضيح معناها، وكذلك لا
بد من ذكر بعض الكلمات التي يتناقلها حشوية المشبهة عن الأئمة الأربعة
رحمهم الله تعالى ويزعمون أنهم يقولون بعقيدتهم الفاسدة ويغررون بذلك
العامة والمبتدئين من طلاب العلم وإبطالها.
فنقول وبالله تعالى وحده التوفيق:
أبدأ بذكر الذي يحتاج لجواب من تلك الأحاديث التي أوردها بعضهم
في كتاب سماه " الرحمن على العرش استوى " كما أن باقي من على شاكلته
يذكرها مستدلا بها أيضا، فنقول:
56

1 - أورد ص (22) حديث سيدنا أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان إذا أمطرت السماء حسر عن منكبيه حتى يصيبه المطر ويقول:
" إنه حديث عهد بربه ". أخرجه مسلم في الاستسقاء.
جوابه: نعم أخرجه مسلم في الاستسقاء، وقال الإمام النووي رحمه
الله تعالى في " شرح مسلم " (6 / 195):
" ومعنى (حديث عهد بربه) أي: بتكوين ربه إياه، ومعناه: أن المطر
رحمة وهي قريبة العهد بخلق الله تعالى لها فيتبرك بها " ا ه‍.
قلت: وجميع العقلاء الآن يعرفون أن المطر هو البخار الذي يتصاعد
من الأرض فيصبح سحابا فيسوقه الله تبارك وتعالى إلى البلدة التي يشاء أن
ينزل عليها رحمته هذه، فعندما يتكاثف هذا البخار بخلق الله تعالى بجعله
ماء، وينزل، استحب رسول الله أن يصيبه شئ منه لما حسر عن منكبيه
إظهارا للافتقار لرحمة الله التي هي حديثة الخلق، والخالق هو الله تعالى،
وجميع العقلاء يعرفون أن الله سبحانه وتعالى غير موجود في السحاب ولا
عليه، لأن السحاب في السماء الدنيا بل قريب منا وأحيانا إذا صعدنا لجبل
شاهق مرتفع فإننا نصل إلى السحاب الذي يكون قد غطى أو عم رأس
الجبل، بل لو ركب أحدنا الطائرة لوجد أنها تصعد به فوق السحاب ويرى
السحاب تحته بمسافة شاسعة، وهذا المجسم صاحب كتاب " الرحمن على
العرش استوى " وهو من المعاصرين ما زال يعيش كباقي إخوانه من المشبهة
بعقلية العصر الحجري الفرعوني فيظن أن قول النبي صلى الله عليه وسلم في المطر إنه:
" حديث عهد بربه " يؤيد عقيدته الفاسدة التي تقول: إن المطر كان عند الله
الذي يسكن في السماء وفي السحاب، وأن المطر إذا نزل فإنه يكون قد
فارق الرب من وقت قصير جدا فهو حديث العهد بربه، ومتى ركب هذا
57

المجسم في الطائرة وصار فوق السحاب صار فوق ربه!! ويلزم من ذلك
أن يكون هو الأعلى لا معبوده الذي يتخيله ويتصوره، وعقيدته هذه نفس
عقيدة فرعون المجسم المشبه الذي أمر أن يصنع له صرح أي برج عال
ليصل إلى ربه فقال عندما ظن أن رب سيدنا موسى عليه السلام في السماء
كما تعتقد المجسمة اليوم: (يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب،
أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا وكذلك زين
لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل " غافر: 36 - 37. فبين الله لنا وأعلمنا
أن من ظن حلول الله تعالى في السماء قد صد عن سبيل معرفة ربه،
والمفسرون متفقون على أن معنى قوله: (وإني لأظنه كاذبا) أي: في أن
له إلها غيري بدليل قوله: (ما علمت لكم من إله غيري) ويؤكد ذلك أن
سيدنا موسى لم يقل لفرعون ولا في آية واحدة، الله موجود في السماء،
إنما قال له كما جاء في القرآن الكريم: (قال فرعون وما رب العالمين)
الشعراء: 23، فلم يقل له سيدنا موسى هو الذي في السماء بل قال له: (قال
رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين * قال لمن حوله ألا
تستمعون * قال ربكم ورب آبائكم الأولين * قال إن رسولكم الذي أرسل
إليكم لمجنون) الشعراء 24 - 27.
فسيدنا موسى أخبر فرعون والملأ أن الله تعالى ليس في السماء وليس
في الأرض بل هو رب السماوات والأرض، فأين عقيدة المتمسلفين من
ذلك؟!!
2 - ذكر المشبه المجسم ص (19) حديث سيدنا أنس رضي الله عنه
أن السيدة زينب أم المؤمنين رضي الله عنها كانت تفخر على أزواج النبي
صلى الله عليه وسلم وتقول: " زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات " وفي لفظ
كانت تقول: " إن الله أنكحني في السماء " وفي لفظ: " أنها قالت للنبي
58

صلى الله عليه وسلم: " زوجنيك الرحمن من فوق عرشه " وهذا حديث صحيح أخرجه
البخاري.
جوابه:
أقول أما اللفظين الأوليين فهما في صحيح البخاري حقا وسيأتي الآن
الجواب عليهما كما سيأتي أثناء التعليقات على " دفع شبه التشيبه ".
وأما اللفظ الثالث: وهو قول السيدة زينب: " زوجنيك الرحمن من فوق
عرشه " فليس في البخاري وقد كذب في ذلك عبد الله السبت صاحب كتاب
" الرحمن على العرش استوى " كذبا بينا مثل المتمسلف المتناقض!! الذي
قال في " مختصر العلو " ص 84 (1) عن هذا اللفظ الثالث:
" وأما اللفظ الثالث، فهو في توحيد البخاري من حديث أنس أيضا ذكره
الحافظ في " الفتح " (13 / 348) من مرسل الشعبي وقال: أخرجه الطبري
وأبو القاسم الطحاوي في كتاب الحجة والتبيان له " ا ه‍.
أقول:
* أما قوله (وأما اللفظ الثالث فهو في توحيد البخاري من حديث أنس
أيضا) فكذب محض!! وليس هو في توحيد البخاري البتة!!.
* وأما قوله (ذكر الحافظ في الفتح (13 / 348) من مرسل الشعبي وقال
أخرجه الطبري وأبو القاسم الطحاوي في كتاب الحجة والتبيان له " (2) فلا
قيمة له لأنه مرسل والمرسل من أقسام الضعيف كما يعرفه المبتدئون من
الطلبة في هذا الفن.

(1) من الطبعة الأولى المكتب الإسلامي 1. 14 ه‍ في الرقم (6).
(2) ثم ذكر ذاك المتناقض!! أن ابن جرير رواه في الجزء 22 ص (11) والصحيح
أنه ص (14) وقد فعل ذلك للتعمية عن قول السيدة زينب هناك: " أنا التي نزل
تزويجي ".
59

ومعنى قول السيدة زينب: " زوجني الله من فوق سبع سماوات " أي أنزله
في القرآن الكريم الذي جاء به سيدنا جبريل من فوق السماء السابعة من
اللوح المحفوظ، وليس المعنى إلا ذلك فليس المراد بذلك: قضى الله
تزويجي وأراده من فوق سبع سماوات، وذلك لأن جميع الخلق قضى الله
زواجهم وأراده من فوق سبع سماوات أي في اللوح المحفوظ الذي أمر القلم
أن يجري فيكتب فيه ما سيكون إلى قيام الساعة.
فالمزية التي حصلت للسيدة زينب أن نكاحها يتلى في القرآن النازل
من فوق السماء السابعة أي من اللوح المحفوظ والله تعالى منزه عن ذلك
المكان وعن غيره لأنه موجود بلا مكان، فلا علاقة لهذا القول بوجود الله
في السماء أو فوق السماوات كما يتخيل هؤلاء المشبهة الذين يضللون
العوام!!
ويؤيد ما قررناه ما رواه ابن جرير الطبري في تفسيره (22 / 14) عن
محمد بن عبد الله بن جحش قال: تفاخرت عائشة وزينب، فقالت زينب:
" أنا الذي (1) نزل تزويجي ". فتأمل.
(تنبيه مهم جدا):
ومما يجدر التنبيه إليه أو عليه هنا أن الذهبي لما صنف كتاب " العلو "
كان في أول الطلب وريعان الشباب وكان قد تأثر بالشيخ الحراني!! ابن
تيمية وفتن به!! ولم يكن بعد متمكنا في علم الحديث لأنه ينسب فيه
أحاديث لكتب مثل الصحيحين وهي غير موجودة فيها ثم لما مرت عليه
السنون أدرك خطر الشيخ الحراني، فانتقده كما في عدة من مؤلفاته منها

(1) والصحيح (التي) بدل (الذي).
60

رسالته " زغل العلم " ومنها كتابه " سير أعلام النبلاء " ومنها الرسالة المشهورة
الثابتة في نصيحته لابن تيمية المسماة: " بالنصيحة الذهبية "، ورجع عما
كان يعتقده سابقا فتجده في " سير أعلام النبلاء " يفوض أحيانا ويؤول أحيانا
أخرى ويقول: إن الدعاء يستجاب عند قبور الصالحين في عدة مواضع منها
عند ترجمة السيدة نفيسة رحمها الله تعالى وينزه الله عن الحد في ترجمة
" ابن حبان " ويزيد على ما قاله في " الميزان " من أن نفي الحد وإثباته من
فضول الكلام فيقول متراجعا زائدا: " وتعالى الله أن يحد أو يوصف إلا بما
وصف به نفسه أو علمه رسله بالمعنى الذي أراد (1) بلا مثل ولا كيف (ليس
كمثله شئ وهو السميع البصير) (2) " ا ه‍.
فرجوع الذهبي عن عقيدة الشيخ الحراني المخالفة لكتاب الله تعالى
وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة وتركه لترهات الحراني وتعدل مزاجه وطبعه
وعلو منزلته هو الواقع وهو الذي ندعيه ونستطيع أن نبرهن عليه، فالحمد
لله الذي من على الحافظ الذهبي بذلك، فنحن لا نرضى كل ما يقول لأنه
قال سابقا ما رجع عنه لاحقا ونورد كلامه وأقواله في " سير أعلام النبلاء "
لأنها آخر كلامه واختياره الأخير ورجوعه للحق، وخصوصا بعد تأملي في
" سير أعلام النبلاء " ومطالعتي له كاملا، ولا سيما أن الجزء الأخير منه الذي
لم يطبع ويقال إنه مفقود فيه ذم الشيخ الحراني كما نتوقع وكما يفيده كلام
ابن الوزير المنحرف المجسم الذي ينقل عنه، فتدبروا ذلك وتأملوا فهذا
الذي نعتقده هنا.

(1) قوله (بالمعنى الذي أراد) فيه تصريح واضح بتفويض المعنى، خلافا للشيخ
الحراني وأذنابه المعاصرين الذين منهم متناقض!! زماننا، والحمد لله.
(2) أنظر " سير أعلام النبلاء " (16 / 97 - 98).
61

3 - ذكر المجسم ص (18): حديث سيدنا جابر بن عبد الله رضي الله
عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم عرفة: " ألا هل بلغت؟ " فقالوا:
نعم - يرفع إصبعه إلى السماء وينكتها إليهم - ويقول " اللهم اشهد " أخرجه
مسلم.
جوابه: ليس في رفعها إلى السماء أي دلالة على أن الله حال في
السماء أو أنه في جهتها ولا علاقة لهذه الإشارة بهذا الموضوع البتة، وإنما
جرت العادة عند الناس في مخاطباتهم حتى فيما بينهم عندما يقول في
خطابه: أيها الناس اشهدوا على كذا فإنه يشير بإصبعه رافعا إياها والإشارة
بالإصبع في عرف البشر علامة على الإشهاد لا غير (1)، وأين هذا من عقيدة
التجسيم الناصة على أن الله في السماء!!!
4 - وذكر المجسم ص (19) حديث: عبد الله بن عمرو بن العاص أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الراحمون يرحمهم الله، إرحموا من في الأرض
يرحمكم من في السماء " أخرجه أبو داود والترمذي وصححه الحاكم، وهو
صحيح ا ه‍.
جوابه: هذا حديث ضعيف في سنده عند هؤلاء الذين ذكرهم أبو قابوس
لم يرو عنه إلا مالك بن دينار وقال الذهبي في " الميزان ": لا يعرف، وقال
الحافظ ابن حجر في " تهذيب التهذيب " (12 / 223): " ذكره البخاري في
الضعفاء من الكبير له.. " ا ه‍.
قلت: ومنه تعلم أن المتناقض!! قد أخطأ عندما صححه فأورده في
" صحيحته " (2 / 631) ونقل هناك عن بعض الأوراق المشوشة من ظاهرية
دمشق قول ابن ناصر الدين الدمشقي:

(1) ولذلك سميت السبابة شاهدا، والمصلي في التشهد يرفع إصبعه عند التشهد ثم ينكتها للأسفل ولم يخطر ببال
أحد قط أن معنى ذلك أن الله في السماء لا سيما وهو يشير بها إلى جهة الكعبة فيكون معنى ذلك كما قال الإمام
النووي وغيره من الأئمة إعلان التوحيد باليد وباللسان وبالقلب.
62

" ولأبي قابوس متابع، رويناه في مسندي أحمد وعبد بن حميد من
حديث أبي خداش حبان بن زيد الشرعبي الحمصي أحد الثقات عن
عبد الله بن عمرو بمعناه، وللحديث شاهد عن نيف وعشرين
صحابيا.... " ا ه‍.
ولرد هذا الكلام نقول:
أ - هذا المتناقض!! غير مؤتمن في النقل فلا ندري هل هذا كلام ابن
ناصر الدين الدمشقي أم لا!!
ب - وعلى فرض أن هذا كلام ابن ناصر الدين فهو باطل وغير صحيح،
ومنذ متى يعول هذا المتناقض!! على كلام الرجال؟! أليس هو
القائل في مقدمة " آداب زفافه " إنه لا يقلد في دينه أحدا؟!!
ولإبطال الكلام الذي زعم أن ابن ناصر الدين يقوله نقول:
* قوله (ولأبي قابوس متابع، رويناه في مسندي أحمد وعبد بن حميد من
حديث أبي خداش حبان بن زيد الشرعبي الحمصي أحد الثقات عن
عبد الله بن عمرو بمعناه) كلام متهافت، وكان الأجدر به أن يقول (ولأبي
قابوس ناسف وهادم لما يقول رويناه...) وذلك لأن أبا قابوس مجهول لا
عبرة بروايته، ورواية من ظنها أنها متابعة له هي مخالفة له حقيقة، ولو أنه
ذكرها في " صحيحته " أو بين في أي مكان رواها أحمد لظهر خطؤه، وأنا
أبينها والله المستعان على من يتلاعب بالروايات والطرق، وإليك ذلك:
روى الإمام أحمد في مسنده (2 / 165) عن يزيد أخبرنا حريز حدثنا
حبان الشرعبي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال وهو على المنبر:
" إرحموا ترحموا واغفروا يغفر الله لكم، ويل لأقماع القول للمصرين الذين
يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون ".
63

فهذا ليس متابع لحديث أبي قابوس وإنما هو حديث آخر، فتبين على
فرض أنه متابع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: " ارحموا من في الأرض يرحمكم
من في السماء " وإنما قال: " ارحموا ترحموا " هذا هو الثابت عنه، واللفظ
الأول باطل، ولو قيل جدلا إنه غير باطل وسلمنا فالصحيح ساعتئذ أنه
ضعيف محتمل مخالف، وما طرأه الاحتمال سقط به الاستدلال، فاستيقظوا
معاشر المنخدعين، وتنبهوا إلى المتناقضين!! وعلى فرض صحته وهو
محال فهو مؤول كما في " فيض القدير " (1 / 473).
* وقوله (وللحديث شاهد عن نيف وعشرين صحابيا...)!! هراء لا قيمة
له، لأنه يمكننا الآن أن نورد كثيرا من الأحاديث الموضوعة والتالفة ولها
عشرات الشواهد ولا يمكننا تصحيحها.
وأما قول المتناقض!! في " صحيحته " التالفة هناك إن من شواهده
أيضا:
(حديث أبي إسحاق عن أبي ظبيان عن جرير مرفوعا بلفظ: " من لا
يرحم من في الأرض، لا يرحمه من في السماء ". أخرجه الطبراني في
المعجم الكبير (1 / 118 / 2) (1)...) ا ه‍.
ثم اعترف بعد ذلك بضعفه ص (632) من صحيحته حيث قال:
" أبا إسحاق وهو السبيعي كان اختلط، ثم هو مدلس " ا ه‍.
وأزيد فأقول:

(1) هو في الطبراني الكبير (2 / 355).
64

حديث جرير ثبت في البخاري برقم (6013 و 7376) ومسلم
(2319) وغيرهما بلفظ:
" من لا يرحم الناس لا يرحمه الله ".
فانتسفت شواهد هذا المتناقض!! الذي يتكئ على المهزول المهدوم
من الشواهد والمتابعات إذ لا ذكر للأرض ولا للسماء في اللفظ الثابت
الصحيح، والحمد لله.
ولفظ البخاري ومسلم هذا يثبت تأويل " من في السماء " أي صاحب
العظمة والرفعة والكبرياء وهو الله تعالى، وينسف عقيدة حلول الله في
السماء أو فوق السماء التي يعتقدها ذاك المتناقض!! الذي يتخيل من كل
نص ولو لم يكن ثابتا أنه يؤيد ما يقول!! ولله في خلقه شؤون!!
5 - وذكر المجسم في كتابه " الرحمن على العرش استوى) (1) حديث: " ألا
تأمنوني وأنا أمين من في السماء " متفق عليه.
جوابه: كل ما ورد فيه لفظ " من في السماء " فالمراد به في لغة العرب
التي نزل بها القرآن معنى مجازي وهو العظمة والرفعة والكبرياء والعلو

(1) وقد ذكرنا في التعليق على " دفع شبه التشبيه " رقم (52) معنى هذه الآية وأنه
لا حجة فيها لمعتقدهم، وأن الاستواء يأتي بمعنى القهر والاستيلاء ومنه قول
الشاعر:
إذا ما علونا واستوينا عليهم * جعلناهم مرعى لنسر وطائر
فإن قيل هذا يقتضي المغالبة، قلنا: كلا، لأن الله لما ذكر في كتابه قوله: (والله
غالب على أمره) لم يفد ذلك المغالبة مع صراحته في معناها ومقتضاها.
65

المعنوي لا الحسي ومن ذلك قول أحد شعراء العرب:
علونا السماء مجدنا وجدودنا * وإنا لنبغي فوق ذلك مظهرا
وظاهر وواضح أنه لم يرد إلا علو الشأن، وهذا المراد بكل نص ورد
فيه لفظ " من في السماء " لو ثبت، وذلك لأن القواعد الثابتة في الكتاب
والسنة تثبت تنزيه الله عز وجل عن السماء وعن الأرض وعن أن يكون فوق
السماء أو فوق الأرض.
على أن هذا الحديث قد تصرف الرواة في متنه وقد ثبت أيضا في
الصحيحين في مواضع وليس فيه لفظ " من في السماء " ففي صحيح
البخاري (فتح 13 / 416) جاء هذا الحديث بلفظ:
(فمن يطيع الله إذا عصيته فيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني " فتأمل
وقارنه بما في البخاري (الفتح 8 / 67) وقد قال الحافظ هناك ص
(68):
" وسيأتي الكلام على قوله " من في السماء " في كتاب التوحيد ". ا ه‍
قلت: ذكر الكلام عليه في الفتح (13 / 412) فقال:
" قال الكرماني: قوله (في السماء) ظاهره غير مراد، إذ الله منزه عن
الحلول في المكان، لكن لما كانت جهة العلو أشرف من غيرها أضافها
إليه إشارة إلى علو الذات والصفات، وبنحو هذا أجاب غيره عن الألفاظ
الواردة في الفوقية ونحوها " ا ه‍.
قلت: ومن تدبر ما قلناه ووعاه تماما لم يستطع جميع المجسمين
والحشوية المشبهين أن يتلاعبوا بعد ذلك بعقله، ويحمد الله تعالى أنه قد حفظه
من فاسد عقيدتهم.
66

6 - ومن العجيب الغريب أن المجسم السبت استدل على عقيدته الفاسدة
ص (23) من كتابه الملئ بالأخطاء بحديث:
(قتادة بن النعمان سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
" لما فرغ الله من خلقه استوى على عرشه " رواه أبو بكر الخلال في
كتاب السنة له ورواته ثقات، كذا قال الذهبي في العلو) ا ه‍ كذا قال!!
قلت: وزاد عليه المتناقض!! في " مختصر العلو " ص (98) في
الحاشية بقوله:
" وذكر ابن القيم في " الجيوش الإسلامية " (ص 34) أن إسناده صحيح
على شرط البخاري "!! ا ه‍.
جوابه: هذا حديث منكر موضوع، وإليك تفصيل ذلك:
هذا الحديث رواه الخلال فقال: حدثنا أحمد بن الحسين الرقي حدثنا
إبراهيم بن المنذر الحزامي حدثنا محمد بن فليح حدثني أبي عن سعيد بن
الحارث عن عبيد بن حنين، قال: بينما أنا جالس في المسجد إذ جاءني
قتادة بن النعمان يحدث وثاب إليه الناس، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: " إن الله لما فرغ من خلقه استوى على عرشه واستلقى ووضع إحدى
رجليه على الأخرى، وقال: إنها لا تصلح لبشر " ا ه‍.
قلت: وقد ذكر الحافظ الذهبي بعدما كبر ورسخ في هذا العلم في
كتابه الميزان (3 / 365) أن هذا الحديث هو من منكرات فليح، وأما ذاك
المتمسلف فقد تناقض على عادته وحكم في موضع آخر من كتبه بأنه
حديث منكر وذلك في " ضعيفته " (2 / 177 حديث 775) وقد بينت ذلك
مفصلا في كتابي " التناقضات " الجزء الأول ص (28 - 31).
67

أقول: وهل يريد المؤلف السبت أن يستدل بهذا الحديث على أن الله
بعد خلق السماوات والأرض استلقى على العرش وهو المراد ب‍ " استوى "
كما في متن هذا الحديث التالف ليوافق اليهود في عقيدتهم التي رد الله
عز وجل عليها بقوله: (ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة
أيام وما مسنا من لغوب، فاصبر على ما يقولون) سورة ق: 38.؟!!
7 - وأما قول بعضهم: (إن من أدلة أن الله في السماء أننا نرفع أيدينا في
الدعاء لجهة السماء)!!
فجوابه كالتالي: إن العبد إذا مد يديه في الدعاء فإنه يجعلهما على
شكل وعاء، فكأنه يقول متذللا:
يا رب قد سألتك وطلبت منك وجعلت يدي وعاء لعطائك فلا تردني
خائبا، ولذلك جاء في الحديث: " إن الله حيي كريم يستحي إذا رفع الرجل
يديه أن يردهما صفرا خائبتين " رواه الترمذي (5 / 557) وغيره وهو صحيح.
فمد اليد بهذا الشكل عند الدعاء هي رمز للتذلل لله تعالى لا أكثر،
ألا ترى أن الإنسان الفقير السائل إذا طلب من إنسان آخر صدقه فإنه كذلك
يرفع يده مثل رفعها في الدعاء ولا يجعل راحتيه تلقاء وجه من يطلب منه،
وكان اللازم عليه حسب رأي من يستدل برفعهما على وجود الله في السماء
أن يجعل السائل راحتي يديه تلقاء وجه من يسأله الحسنة أو الصدقة ومنه
تعلم سخافة استدلال المجسمة المهاترين.
هذا رد ما يتعلق بالأحاديث التي استدل بظواهرها المجسمة على
عقيدتهم الفاسدة وأما:
68

رد ما اختلقوه على الأئمة الأربعة مما يؤيد عقيدة
التجسيم
فهذا بيان ما جاءوا به وزعموا أنه قول الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى
في تأييد عقيدتهم الفاسدة مع إبطاله:
1) الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى:
ذكروا أن الإمام الأعظم رحمه الله تعالى قال:
" من قال لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض فقد كفر. لأن الله
يقول: (الرحمن على العرش استوى) وعرشه فوق سبع سماوات... ".
جوابه: هذا الكلام كذب على الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن
راويه عنه هو أبو مطيع البلخي وكان كذابا وضاعا، قال في ترجمته الحافظ
الذهبي في " الميزان " (1 / 574):
قال الإمام أحمد: لا ينبغي أن يروى عنه شئ وعن يحيى بن معين:
ليس بشئ ".
وقال في ترجمته الحافظ ابن حجر في " لسان الميزان " (2 / 335 الطبعة
الهندية):
" قال أبو حاتم الرازي: كان مرجئا كذابا.... ".
وختم ابن حجر ترجمته بقوله فيه:
69

" وقد جزم الذهبي بأنه قد وضع حديثا فينظر من ترجمة عثمان بن
عبد الله الأموي " ا ه‍.
قلت: فالوضاع الكذاب الذي يقول عنه الإمام أحمد لا ينبغي أن
يروى عنه شئ كيف يعتمد ما رواه عن الإمام أبي حنيفة؟!!
ومن كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أهون عليه أن يكذب على من دونه
وعلى أبي حنيفة أليس كذلك (1)؟!!

(1) ومن عجيب التناقضات أن الشيخ المتناقض!! لا يقبل رواية أبي مطيع للفقه
الأكبر وبزعم أنها لا تصح لأن في متن " الفقه الأكبر " ما يخالف عقيدته ومشربه
وهذا مسجل عندي بصوته، ثم يقبل ما رواه عنه من أن الله في السماء أو على
العرش فتأملوا يا أولي الألباب!!
ولدي شريط يقول فيه هذا المتناقض إن أبا مطيع حجة فيما ينقله عن أبي حنيفة
دونما ينقله عن غيره أو يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم!! وهذا هراء فارغ، لأن من كذب
على رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستبعد منه الكذب على من هو دونه ولكن هذا المتناقض
عنيد لجوج!!
وكم من قول ينقل عن إمام ضعفه هذا المتناقض لأن فيه رجلا ضعيفا بنظره!!
من ذلك ما ذكره في " مختصر العلو " ص (155) من رواية كلام عن أبي يوسف
وأبي حنيفة من طريق محمد بن شجاع الثلجي، فقال عقبه ص (156) من
" مختصر العلو ":
" ولكنه إسناد هالك، الثلجي هذا متروك كما في التقريب "!! ا ه‍
فإذن لا فرق حتى عنده فيمن كان متروك الرواية في إخباره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أو عن أي واحد من الأئمة. والحمد لله.
وانظر كتابنا " إلقام الحجر " ص (6 - 7).
70

2 - الإمام مالك رحمه الله تعالى:
كلام الإمام مالك صريح في الرد على عقيدة المجسمة والمشبهة ومن
قلدهم فقد قال صريحا:
" الاستواء غير مجهول - أي أنه قد ذكر في القرآن - والكيف غير معقول
- أي بصفة يعلمها الخلق أو يدركونها (1) -... ".
وقوله أيضا: " الرحمن على العرش استوى كما وصف به نفسه ولا يقال
كيف، وكيف عنه مرفوع... " صريح في رد عقيدة المجسمة الذين يقولون
بإثبات الكيف وبيان المعنى، وما يرددونه من قولهم قال مالك: الاستواء
معلوم والكيف مجهول.. " باطل بهذا اللفظ، لأن فيه إثبات كيف لله تعالى
نجهله، والله لا كيف له، ومالك نفى هذا بقوله: " ولا يقال كيف، وكيف

(1) ومنه يظهر فساد من قال: " استقر " أي على العرش كما قال الشيخ الحراني في
" التأسيس " (1 / 568) وذيله السبت في كتابه المشار إليه ص (34) حيث قال:
" ومجمل معنى الاستواء: صعد - علا - ارتفع - استقر "!!
قلت: وقوله صعد أيضا عجيب فهل كان أسفل العرش ثم صعد أيها المجسم
الذي لا تدري ما يخرج من رأسك؟! وكل ما ذكره تأويل!! وهو من التأويل
الباطل!! والحمد لله.
وقد قال المتناقض الألباني ص (17) من " مختصر العلو ":
" فإنه - أي الأثر المنكر - يتضمن نسبة القعود على العرش لله عز وجل، وهذا
يستلزم نسبة الاستقرار عليه لله تعالى، وهذا مما لم يرد، فلا يجوز اعتقاده ونسبته
إلى الله عز وجل " ا ه‍.
وهذا يثبت لنا أمرين أما (الأول): قوله (باللوازم) أي أن لازم المذهب مذهب.
وأما (الثاني): فمخالفته لعقيدة ابن تيمية وابن القيم اللذين يقولان بالاستقرار
والجلوس صريحا، أنظر التأسيس (1 / 568) و " بدائع الفوائد " (4 / 39 - 40).
71

عن مرفوع " وانظر كتابنا " عقيدة أهل السنة والجماعة " الطبعة الأولى ص
(29 - 35).
3 - الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:
نقل المجسمة عنه أنه قال:
" القول في السنة التي أنا عليها ورأيت أصحابنا عليها أهل الحديث
الذين رأيتهم وأخذت عنهم مثل سفيان ومالك وغيرهما الاقرار بالشهادة أن
لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأن الله تعالى على عرشه في سمائه
يقرب من خلقه كيف شاء وأن الله ينزل إلى السماء الدنيا كيف شاء...
وذكر سائر الاعتقاد " ا ه‍.
قلت: هذا مذكور في " مختصر العلو " ص (176) وقال هناك:
" روى شيخ الإسلام أبو الحسن الهكاري، والحافظ أبو محمد المقدسي
بإسنادهم إلى أبي ثور وأبي شعيب كلاهما عن الإمام محمد بن إدريس
الشافعي " به.
جوابه: هذا الكلام كذب محض، وهو مدسوس على الإمام الشافعي
رحمه الله تعالى، ومختصر! العلو المتناقض!! إما أنه يعلم ذلك أو لا يعلم
وأحلاهما مر أو حنظل معصور في فمه، وإليك بيان ذلك:
أما الملقب بشيخ الإسلام أبي الحسن الهكاري فهو أحد الكذابين
الوضاعين قال عنه الحافظ الذهبي في " ميزان الاعتدال " (3 / 112) في
ترجمته:
" قال أبو القاسم بن عساكر: لم يكن موثوقا به، وقال ابن النجار: متهم
بوضع الحديث وتركيب الأسانيد " ا ه‍.
72

وقال الحافظ ابن حجر في ترجمته في " لسان الميزان " (4 / 195 من
الطبعة الهندية):
" وكان الغالب على حديثه الغرائب والمنكرات، وفي حديثه أشياء
موضوعة ورأيت بخط بعض أصحاب الحديث أنه كان يضع الحديث
بأصبهان " (1) ا ه‍.
وأما أبو محمد المقدسي: فهو ممن أباح العلماء دمه كما يجد ذلك من
طالع ترجمته لكونه مجسما صرفا أنظر كتاب " الذيل على الروضتين "
المسمى أيضا تراجم رجال القرنين للحافظ أبي شامة المقدسي الدمشقي
ص (46 - 47).
وأين إسناد أبو محمد المقدسي هذا حتى نحكم عليه أيضا؟!!
ثم اعلم أن أبا شعيب الذي زعموا أنه روى تلك العقيدة عن الشافعي
ولد بعد وفاة الشافعي بسنتين كما تجد ذلك في " تاريخ بغداد " (9 / 436).
وأما هذه العقيدة المروية عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى فهي
مدسوسة عليه كما نقل ذلك الذهبي نفسه في " الميزان " (3 / 656) في
ترجمة العشاري فلا غرو أن يتناقلها الحنابلة المجسمة ويعتنون بها!! وقال
أيضا الحافظ ابن حجر في " لسان الميزان " (5 / 301) نقلا عن الذهبي:
" أدخلوا عليه أشياء فحدث بها بسلامة باطن، منها: حديث موضوع
في فضل ليلة عاشوراء، ومنها عقيدة للشافعي..... " ا ه‍. فاستيقظوا!!

(1) قلت: وقد مجده وعظمه الشيخ الحراني في رسالته المسماة: " الوصية الكبرى
في العقيدة والدعوة " ووصفه بشيخ الإسلام!! وهو كذاب وضاع كما ترى، وقد
ستر كل ذلك غلام!! الشيخ المتناقض!! ص (26) من تعليقه عليه!!
73

قلت: ولعل هذا العشاري في سند عقيدة الشافعي التي يرويها
الهكاري الوضاع والمقدسي المجسم، وكذلك في سندها ابن كادش
الوضاع، ثم اطلعت على " تبديد الظلام المخيم " للمحدث الكوثري ص
(108) فوجدته يقول: " واعتقاد الشافعي المذكور في ثبت الكوراني كذب
موضوع مروي بطريق العشاري وابن كادش ". وبذلك يتم إسقاط ما احتج
به المجسمة من تأييد الإمام الشافعي لآرائهم الفاسدة ولله تعالى الحمد.
4 - وأما الإمام أحمد رحمه الله تعالى:
فالمجسمة يحتجون ببعض كلمات تنقل عنه مذكورة في كتاب " الرد
على الجهمية " الذي ينسب إليه، مع أنه قد ثبت عنه أشياء كثيرة نقلناها
عنه في إثبات التأويل وغير ذلك في هذه المقدمة وغيرها تنسف استدلال
المجسمة بكلامه وتخسفه خسفا والحمد لله رب العالمين.
وأما كتاب " الرد على الجهمية " فليس هو من تصنيفه إنما هو من
تصنيف من يتظاهر باتباعه من المشبهة والمجسمة، وقد نص الحافظ
الذهبي في ترجمة الإمام أحمد في " سير أعلام النبلاء " (11 / 286) على
أن كتاب " الرد على الجهمية " موضوع على الإمام أحمد إذ قال:
" لا كرسالة الإصطخري، ولا كالرد على الجهمية الموضوع على أبي
عبد الله... " ا ه‍ فتأمل.
وبذلك انهدم ما احتج به المجسمة من أن أقوال الأئمة الأربعة
تؤيدهم، والصحيح أن أقوال الأئمة الأربعة ليست في صالحهم والحمد لله
رب العالمين.
واختم هذا الفصل بسرد أسماء كتب المجسمة التي يجب التحذير منها
74

ثم أردف ذلك بذكر أسماء الكتب التي ينبغي أن يرجع إليها فأقول وبالله
تعالى التوفيق:
جميع الكتب التي أطلق عليها كتب " السنة " (1) هي في الحقيقة مليئة
بالأحاديث الموضوعة والتالفة والمنكرة والضعيفة وما أشبه ذلك ومنها:
1 - كتاب " السنة " المنسوب لابن أحمد والذي في سنده: الخضر بن
المثنى وهو: مجهول.
2 - كتاب السنة للخلال.
3 - السنة للالكائي. و " اعتقاد أهل السنة " له أيضا.
4 - كتب عثمان بن سعيد الدارمي التي منها: " الرد على بشر المريسي ".
5 - الإبانة لابن بطة الوضاع. كما في كتابنا " إلقام الحجر " ص (4).
6 - إبطال التأويل لأبي يعلى المجسم.
7 - التوحيد لابن خزيمة الذي ندم على تصنيفه كما روى عنه ذلك
الحافظ البيهقي في " الأسماء والصفات " ص (267).
8 - كتاب " الصفات " وكتاب " الرؤية " المنسوبين غلطا للدارقطني.
9 - " الإيمان " لابن منده.
10 - " شرح العقيدة الطحاوية " لابن أبي العز، وقد بينا ما فيها في عدة
كتب من كتبنا أهمها: " التنبيه والرد على معتقد قدم العالم والحد "
و " التنديد بمن عدد التوحيد " فاقرأهما فإن فيهما كشف تلك الأخطاء
الجسيمة التي في " شرح العقيدة الطحاوية ".
11 - كتب ابن تيمية، فإن جميعها لا يخلو من التشبيه.
12 - كتب ابن قيم الجوزية تلميذ ابن تيمية.

(1) وكانوا يعنون بقولهم كتاب " السنة " أي: العقيدة.
75

13 - كتاب " العلو " للذهبي الذي بينا أنه صنفه في أول حياته ثم تبين له
خطأ ما قاله فرجع عنه في كتبه الأخرى.
14 - كل كتاب في العقيدة على نسق عقيدة هؤلاء، وغالب ما فيها يدور
حول ما أبطلناه في مقدمة هذا الكتاب والتعليق عليه.
وفي نفس الوقت نرغب أن يطلع غير العوام من العلماء وطلبة العلم
على هذه الكتب ليتحققوا من التجسيم الذي فيها، ومن سخافة عقول
مصنفيها، ومن استدلالاتهم التي هي في غير محلها.
تعليق سريع على مختصر العلو
ولا بأس هنا أن أعلق على كتاب " مختصر العلو " الذي اختصره ذلك
المتناقض!! وقال عنه في " صحيحته " (2 / 632) ما نصه:
" وفي ذلك ألف الحافظ الذهبي كتابه " العلو للعلي الغفار " وقد
انتهيت من اختصاره قريبا ووضعت له مقدمة ضافية، وخرجت أحاديثه
وآثاره، ونزهته من الأخبار الواهية، يسر الله طبعه " ا ه‍.
قلت: مقدمته للكتاب يمكن الرد عليها بسهولة جدا فإنه قد ملأها
بسباب الإمام المحدث الكوثري رحمه الله تعالى، ووصف الله فيها بما لم
يرد في كتاب ولا في سنة كلفظ " الجهة " و " بذاته " (1) ونحو ذلك ولي رد عليها
يسر الله طبعه، لكن هذه المقدمة والتعليقات التي وضعتها على " دفع شبه
التشبيه " تعتبر أيضا ناسفة لذلك الكتاب.

(1) التي أنكرها الذهبي فيما بعد في " سير أعلام النبلاء " (19 / 607) كما سيمر
في التعليق رقم (53).
76

وأما قوله (ونزهته من الأخبار الواهية) فكلام غير صحيح فهو ملئ
بالأخبار المنكرة الواهية والآثار التالفة والتي أبطلنا بعضها قبل قليل، مثل
نقله عن أبي حنيفة عقائد غير صحيحة بأسانيد مظلمة تالفة من طريق أبي
مطيع الكذاب، ونوح الجامع الوضاع وقد اعترف هو بذلك، أنظر " مختصر
العلو " ص (135 - 137).
ومن ذلك حديث قتادة بن النعمان ص (98) برقم (38) من " مختصر
العلو " صححه على شرح البخاري نقلا عن ابن القيم، ثم تناقض فحكم
بنكارته في " ضعيفته " (2 / 177 حديث رقم 775) كما بينت ذلك بوضوح
في كتابي " التناقضات ". فعلى هذا وغيره مما لم أذكره يجب اجتناب كتاب
" مختصر العلو " لما فيه من عقائد فاسدة وآثار وأخبار تالفة والله الموفق (1).

(1) وانظر لزاما ما علقه المحدث الكوثري على السيف الصقيل ص (157 - 111).
77

الكتب التي نحض على قرائها ودراستها لفهم العقيدة
الإسلامية الصافية
لقد ألف العلماء جزاهم الله عنا خيرا كتبا كثيرة ذكروا فيها الاعتقاد
الصحيح، ودفعوا فيها وردوا ما أثاره المشبهة والمجسمة وأشباههم من أمور
باطلة، وقد حذونا على نسقهم واقتدينا بصالح عملهم، على أننا غير ملزمين
بقول أحد كائنا من كان، وإنما نحن متبعون للدليل حسب قواعد الأصول
ومن تلك الكتب:
1 - كتاب " الأسماء والصفات " للإمام الحافظ البيهقي، والذي علق عليه
الإمام المحدث الكوثري رحمه الله تعالى تعليقات نفيسة وتقريرات
جيدة.
2 - كتاب " أصول الدين " للإمام العلامة عبد القاهر البغدادي.
3 - خاتمة كتاب: " الفرق بين الفرق " له.
4 - كتاب قواعد العقائد من " إحياء علوم الدين " للإمام الغزالي رحمه الله
تعالى، وقد قمت بالتعليق على أوله وهو جملة أصول الاعتقاد منه
وقدمت لها، وأفردته كتابا مستقلا سميته: " عقيدة أهل السنة
والجماعة ".. وهو كتاب نافع انتفع به خلق لا أكاد أحصيهم والحمد
لله رب العالمين.
5 - شرح كتاب قواعد العقائد من شرح الإحياء للمحدث الزبيدي المسمى
" إتحاف السادة المتقين " وهو غالب المجلد الثاني منه.
6 - " مقالات الكوثري " رحمه الله تعالى، وهو كتاب مفيد جدا فيه عدة
مقالات يستفيد منها طالب العلم في أبواب العقائد، ولا يستغنى عن
هذا الكتاب طالب علم.
78

7 - تعليقات المحدث الكوثري على كتاب الإمام السبكي " السيف
الصقيل في الرد على ابن زفيل " وهي المسماة ب‍ " تبديد الظلام
المخيم من نونية ابن القيم ". وهو كتاب نفيس جدا، ينبغي أن يقرأه
طلاب العلم كرات ومرات، والمجسمة يحاولون إبعاد أتباعهم عن
هذا الكتاب لأن كل من قرأه وكان يريد الوصول للحق سيكتشف عند
قراءته بطلان مذهب التجسيم والتشبيه الذي يدعو إليه الشيخ الحراني
وتلميذه ابن زفيل.
8 - بعض شروح الجوهرة مثل: شرح الباجوري عليها الذي حققه الشيخ
أديب الكيلاني والشيخ تتان جزاهما الله خيرا، فإنه جيد على هنات
فيه.
9 - متن عقيدة الطحاوي للإمام أبي جعفر الطحاوي.
10 - كتاب " الإعتقاد " للإمام الحافظ البيهقي.
11 - شرحنا على جوهرة التوحيد المسمى " عقد الزبرجد النضيد في شرح
جوهرة التوحيد " أسأل الله أن ييسر طبعه، فإن فيه ما سيغني أهل
السنة والجماعة في هذا الباب إن شاء الله تعالى، وإنني أقول ذلك
تحدثا بنعمة الله تعالى.
12 - وهناك كثير من الكتب التي لم أذكرها والتي يضيق المقام عن سردها
كشرح كتاب " الإيمان " وكتاب " التوحيد " من " فتح الباري " ومؤلفات
سعد الدين التفتازاني وغير ذلك.
79

المحدث الكوثري يعتبر مجدد التوحيد في هذا القرن
الذي نقوله وندين الله تعالى به أن الإمام المحدث محمد زاهد الكوثري
عليه الرحمة والرضوان هو مجدد التوحيد في القرن الماضي، وهو على رأس
من أبطل ورد ما حاولت المجسمة وأذنابهم تثبيته عند عوام المسلمين من
العقائد الفاسدة.
وقد ألف الإمام الكوثري رحمه الله تعالى كتبا، وحقق وعلق على
أخرى، تعليقات نفيسة تغني عن عشرات المجلدات كشف فيها تلاعبات
وتضليلات وتمويهات قامت بها فئة المتمسلفين والشيخ الحراني وتلميذه ابن
زفيل الزرعي المسمى بابن القيم.
ولهذا الجهد العظيم الذي قام به جزاه الله به عنا خير الجزاء تجد
المجسمة والمشبهة من بعد مماته لا يتركون سبه وشتمه أينما لاحت لهم
الفرص، وخصوصا الشيخ المتناقض!! فإنه لا يخلو كتاب له تقريبا من شتم
الإمام الكوثري رحمه الله والنيل منه، أو تخطئته مع أن أكثر تلك التخطئات
والمؤاخذات غير صحيحة، وقد بينا في كتب عديدة لنا من أجلها
" التناقضات " أن ذاك المتناقض من أكثر الناس خطأ!! وخبطا!! وتناقضا!!
ولله في خلقه شؤون!! وإنني أحض طلبة العلم على قراءة كتاب
" المقالات " و " تبديد الظلام المخيم من نونية ابن القيم " للإمام الكوثري
رحمه الله تعالى وأن يعتنوا بها اعتناء كبيرا ويعرفوا ما فيها من الأدلة والمسائل
والله تعالى الموفق لذلك.
80

خاتمة هذه المقدمة
ولا بد هنا من إعطاء لمحة عن عملنا في كتاب " دفع شبه التشبيه "
وما يتعلق بذلك فنقول:
لقد طبع الكتاب قديما بتعليق المحدث الكوثري رحمه الله تعالى
وتصدير الشيخ محمد أبو زهرة، ووقفنا على نسخة من هذه الطبعة طبع
المكتبة التوقيفية / القاهرة كتب في ص (94) منها:
" رقم الايداع بدار الكتب 4774 / 1976 " وهذه النسخة فيها تحريف
وسقط والذي يظهر لي أن هذه النسخة لم يشرف على طباعتها الإمام
المحدث الكوثري رحمه الله تعالى، لأن المعهود منه دقة ما يحقق ويعلق
عليه وقلة الخطأ وندوره فيه.
وهناك نسخة أخرى مطبوعة من " دفع شبه التشبيه " طبع دار الجنان /
بيروت سنة 1407 ه‍ تحقيق محمد منير الإمام وقد سماها " الباز الأشهب
المنقض على مخالفي المذهب " وهذه التسمية خطأ محض وذلك لأن هذا
الاسم هو لكتاب في الفقه صنفه الحافظ ابن الجوزي كما ذكر في مقدمة
" دفع شبه التشبيه " ص (33) من طبعة دار الجنان، وقد انغر المحقق بنسخة
مخطوطة من الكتاب كتب ناسخها غالطا على غلافها " البازي الأشهب
المنقض على مخالفي المذهب ".
وإنني من باب النصيحة الواجبة أقول: لا يجوز الاعتماد على نسخة
دار الجنان وتحقيق الأستاذ محمد منير الإمام لكثرة ما فيها من تحريف
وسقط، وعدم ضبط، وأمثال هذه الأشياء، لأنها تغير المعنى ولا أترك ضرب
81

بعض الأمثلة على ذلك حتى لا يقال بأننا ادعينا دعوى لا دليل عليها فأقول
ساردا لبعضها مختصرا:
1 - في المتن ص (33) من طبعة دار الجنان:
" ورأيت من أصحابنا من تكلم في الأصول بما يصلح " ا ه‍.
والصحيح أن يقول: " بما لا يصلح " كما في النسخ المخطوطة ونسخة
المحدث الكوثري ص (26)، ولأن القاضي وابن حامد وابن الزاغوني
تكلموا بما لا يصلح في نظر الحافظ ابن الجوزي، فهذا فيه تغيير للمعنى
بلا شك.
2 - في المتن ص (34) في السطر (4) مذكور ما نصه:
" وفما ولهوات وأضراسا وجهة هي السبحات ويدين... " ا ه‍.
والصحيح:
" وفما ولهوات وأضراسا، وأضواء لوجهه هي السبحات، ويدين.. " ا ه‍
وعلى ذلك أمثلة كثيرة جدا يمكن تتبعها بقراءة المتن المذكور هناك
مع المتن المذكور في هذا الكتاب.
3 - وقع غلط في عزو بعض الآيات.
4 - عدم إتقان التخريج بل عدم تخريج ما يحتاج لتخريج في أكثر
الأحاديث، والتي خرجها المحقق!! خرجها بأسقم طرق العزو!! وأشهد بأنه
لا يتقن هذه الصناعة البتة!!
ويمكن مقارنة ذلك بتخريجنا وتخريجه في أحاديث كثيرة منها حديث
رقم (26) مثلا.
5 - عدم ضبط أسماء الرواة من الصحابة عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمثلا
الحديث رقم (2) قال:
82

" روى عبد الرحمن بن عياش رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال:.... ".
والصحيح عبد الرحمن بن عائش، ثم أخذ في الحاشية يترجم
عبد الرحمن بن عياش، وأقول عنه كيف يكون صحابيا يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم
وتنقل فيه قول الإمام أحمد: متروك؟!!
والحق أن المحقق خلط بين اسم صحابي وبين اسم أحد الرواة
المتروكين!!
6 - أثبت المحقق!! ص (91) في الحديث رقم (15) قوله:
" روى القاضي أبو يعلى: عن عبد الله بن عمر موقوفا... " ا ه‍.
وأخذ المحقق في الحاشية يترجم عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي
الله عنهما!! ولم يخرج الحديث الذي جاء به بزعمه!!
والصحيح أنه: عبد الله بن عمرو بن العاص، فتأملوا هذا الخطأ
الفاحش!!
7 - أثبت المحقق ص (57) في المتن في آخر سطر قوله:
" عن شريك عن أبي نمر عن... " ا ه‍.
ثم أخذ يترجم شريك النخعي بن عبد الله!!
والصحيح: " عن شريك بن أبي نمر " وليس " عن أبي نمر " فهذا رجل
واحد جعله رجلين ثم أخذ في الحاشية يترجم غيره!! وهناك أشياء كثيرة
لا أود الآن الإطالة بها والله الموفق.
83

وقد حاولنا أقصى الممكن في ضبط متن الكتاب " دفع شبه التشبيه "
وشكل ما يحتاج للحركات كما أننا زدنا لفظة المجسم في حق الثلاثة الذين
وصفهم الحافظ ابن الجوزي بالتجسيم بين قوسين للتوضيح، وكذلك جعلنا
كل عبارة أصلحناها لعدم انتظامها بين قوسين، فكل ما بين قوسين هو من
تصرفنا وإصلاحنا لكلام الحافظ الذي رأيناه غير منتظم، فهو عبارة عن
تصحيح كلمة أو نحوها في جملة غير منتظمة المعنى، وقد خرجت أحاديث
الكتاب، ونثرت فيها من الفوائد التوحيدية والحديثية والأصولية وغيرها ما لا
يستغني عنها طالب علم ولا محقق وغير ذلك، راجيا من الله تعالى
الإثابة على هذا العمل وأن يجعل أجره في صحيفتي، وأن يثيب كل
من ساعد في إخراجه وأن يختم لنا بالحسنى وبالسعادة وأختم بقولي:
يا من لا تراه العيون، ولا تخالطه الظنون، ولا يصفه الواصفون، ولا تغيره
الحوادث، ولا يخشى الدوائر، يعلم مثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، وعدد قطر
الأمطار، وعدد ورق الأشجار، وعدد ما أظلم عليه الليل وأشرق عليه النهار،
لا تواري منه سماء سماء، ولا أرض أرضا، ولا بحر ما في قعره، ولا جبل ما في
وعره، اجعل خير عمري آخره، وخير عملي خواتيمه، وخير أيامي يوم ألقاك
فيه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم، والحمد لله رب العالمين.
حسن بن علي السقاف
84

صورة غلاف " دفع شبه التشبيه " من نسخة استنبول مكتبة شهيد علي
85

صورة آخر صفحة من " دفع شبه التشبيه " من نسخة استنبول مكتبة شهيد علي
86

غلاف نسخة " دفع الشبه " المخطوطة في مكتبة كربريلي في استنبول
تحت رقم 1202 / 2 مجاميع
87

الصفحة الأولى من مخطوطة استنبول / كوبريلي
88

الصفحة الأخيرة من مخطوطة استنبول / كوبريلي
89

صورة غلاف نسخة " دفع شبه التشبيه " المخطوط في مكتبة أوقاف بغداد
تحت رقم 1377 / 1 مجاميع
90

صورة الصفحة الأولى من الكتاب من نسخة مكتبة أوقاف بغداد
91

صورة آخر صفحة من الكتاب من نسخة مكتبة أوقاف بغداد
92

دفع شبه التشبيه
بأكف التنزيه
تأليف الإمام الحافظ
أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي الحنبلي
المتوفى سنة 597 ه‍
93

بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إعلم وفقك الله تعالى أني لما تتبعت مذهب الإمام أحمد (1) رحمه
الله تعالى رأيته رجلا كبير القدر في العلوم، قد بالغ رحمة الله عليه
في النظر في علوم الفقه ومذاهب القدماء، حتى لا تأتي مسألة إلا وله
فيها نص أو تنبيه إلا أنه على طريق السلف (2)، فلم يصنف إلا
المنقول، فرأيت مذهبه خاليا من التصانيف التي كثر جنسها عند
الخصوم.
فصنفت تفاسير مطولة منها " المغني " مجلدات و " زاد المسير "،
و " تذكرة الأريب "، وغير ذلك.

(1) ولد سنة 164 ه‍ وتوفي سنة 241 ه‍ ببغداد أي أنه عاش 77 سنة تقريبا.
(2) وخصوصا في الصفات فإنه كان يؤول ما يحتاج لتأويل ويفوض الباقي، فقد ثبت
عنه أنه أول قوله تعالى: (وجاء ربك) بجاء ثوابه، رواه عنه الحافظ البيهقي
كما نقل ذلك عنه ابن كثير في البداية (10 / 327). وله تأويلات أخرى ليس
هذا مكان بسطها، وأما ما يدعيه بعض الناس اليوم من أنه هو والسلف كانوا
يثبتون المعنى أو الظاهر من اللفظ ويفوضون الكيف فليس بصحيح، وخصوصا
أن كلامه - الإمام أحمد - رحمه الله ينافي ذلك صريحا.
فقد روى الخلال بسند صحيح عن الإمام أحمد وقد سئل عن أحاديث الصفات
فقال:
" نؤمن بها ونصدق بها ولا كيف ولا معنى " وهذا هو التفويض بعينه وهو الأعلم
والأحكم والأسلم.
لا سيما وأئمة السلف ينفون عن الله تعالى الكيف كما سيأتي عن الإمام مالك،
وأما المجسمة فيثبتون الكيف فيقولون: " ونفوض الكيف " مع أن الله تعالى لا
كيف له، وهم يصرون على أن لله تعالى كيفا، وينقلون عن الإمام مالك رحمه
الله تعالى كلمة محرفة عنه ليوهموا البسطاء ويقنعوهم بإثبات الكيف فيقولون:
قال مالك: " الاستواء معلوم والكيف مجهول ".
وهذا افتراء على الإمام مالك رحمه الله تعالى لأنه لم يقل ذلك ولكنه قال كما
في الفتح (13 / 406 - 407):
" الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول ولا يقال عنه كيف وكيف عنه مرفوع "
وهذا قول السيدة أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي أول من سئل عن ذلك، وقد
ذكرنا في كتابنا - عقيدة أهل السنة والجماعة - نقلا عن " الفتح " أن البيهقي روى
بإسناد جيد عن عبد الله بن وهب قال: كنا عند مالك فدخل رجل فقال: يا أبا
عبد الله: (الرحمن على العرش استوى) كيف استوى؟ فقال مالك: " الرحمن
على العرش استوى كما وصف به نفسه ولا يقال كيف، وكيف عنه مرفوع وما
أراك إلا صاحب بدعة أخرجوه " ا ه‍.
فأنت ترى أن السيدة أم سلمة والإمام مالك ينفيان الكيف عن الله وكذلك
أحمد بن حنبل يقول: " ولا كيف ولا معنى " وقد نقل الحافظ في " الفتح " ذلك
عن ربيعة الرأي رحمه الله تعالى أيضا، وكل ذلك ينسف ما قدمناه من قول
المجسمة المتظاهرين بالتمسك بطريق السلف. والله الموفق.
95

وفي الحديث: كتبا منها " جامع المسانيد "، و " الحدائق "، و " نفي
النقل "، وكتبا كثيرة في الجرح والتعديل، وما رأيت لهم " تعليقة " في
الخلاف إلا أن القاضي أبا يعلى (3) قال: كنت أقول ما لأهل المذاهب
يذكرون الخلاف مع خصومهم ولا يذكرون أحمد؟ ثم عذرتهم، إذ
ليس لنا تعليقة في الفقه.
قال: فصنفت لهم تعليقة.

(3) هو محمد بن الحسين بن محمد بن خلف الفراء البغدادي (أبو يعلى) وابنه هو
صاحب الطبقات الحنابلة ".
قال الحافظ ابن الأثير في كامله في حوادث سنة تسع وعشرين وأربعمائة ما نصه:
" وفيها أنكر العلماء على أبي يعلى بن الفراء الحنبلي ما ضمنه كتابه من صفات
الله سبحانه وتعالى، المشعرة بأنه يعتقد التجسيم، وحضر أبو الحسن القزويني
الزاهد بجامع المنصور وتكلم في ذلك، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا
كبيرا ". ا ه‍
وقال في حوادث سنة ثمان وخمسين وأربعمائة ما نصه:
" وفيها توفي أبو يعلى الفراء الحنبلي، وهو مصنف كتاب الصفات، أتى فيه بكل
عجيبة، وترتيب أبوابه يدل على التجسيم المحض، تعالى الله عن ذلك ". ا ه‍
قلت: وقد طبع الآن الجزء الأول من كتاب أبي يعلى هذا الذي أتى فيه بكل
عجيبة ونحن نود أن يطلع أهل العلم عليه، ليدركوا حقيقة التجسيم الذي وقعت
فيه هذه الطائفة. وقد جعل ابن الجوزي رحمه الله تعالى كتابه هذا " دفع شبه
التشبيه " ردا على ذلك الكتاب خاصة وعلى كتب المجسمة عامة. وأبطل لهم
استدلالاتهم بما يسمونه بأحاديث الصفات.
96

قلت: وتعليقته لم يحقق فيها بيان الصحة والطعن في المردود،
وذكر فيها أقيسة طردية. ورأيت من يلقي الدرس من أصحابنا من يفزع
إلى تعليقة الاصطلام أو تعليقة أسعد، أو تعليقة العاملي، أو تعليقة
الشريفة ويستعير منها استعارات. فصنفت لهم تعاليق منها " كتاب
الإنصاف في مسائل الخلاف " ومنها " جنة النظر وجنة الفطر " ومنها
" عمدة الدلائل في مشهور المسائل "، ثم رأيت جمع أحاديث التعليق
التي يحتج بها أهل المذاهب، وبينت تصحيح الصحيح، وطعن
المطعون فيه وعملت كتابا في المذاهب أدخلتها فيه، وسميته " الباز
الأشهب المنقض على مخالفي المذهب " وصنفت في الفروع كتاب
" المذهب في المذهب " وكتاب " مسبوك الذهب " وكتاب " البلغة " وكتاب
" منهاج الوصول إلى علم الأصول " وقد بلغت مصنفاتي مائتين وخمسين
مصنفا.
ورأيت من أصحابنا من تكلم في الأصول (4) بما لا يصلح، وانتدب

(4) أي في علم التوحيد الذي هو أصل الدين.
97

للتصنيف ثلاثة: أبو عبد الله بن حامد (5). وصاحبه القاضي (6)، وابن

(5) قال الإمام المحدث الكوثري رحمه الله تعالى مترجما له في تعليقه على " دفع
شبه التشبيه " هو شيخ الحنابلة أبو عبد الله الحسن بن حامد بن علي البغدادي
الوراق المتوفى سنة ثلاث وأربعمائة، كان من أكبر مصنفيهم، له شرح أصول
الدين، فيه طامات سيورد المصنف بعضها، ولديه تخرج القاضي أبو يعلى
الحنبلي ا ه‍.
قلت: ترجمه الذهبي في " سير أعلام النبلاء " في المجلد (17) وذكره ابن الأثير
في الكامل (9 / 242) وغيرهما.
(6) قال الإمام المحدث الزاهد الكوثري رحمه الله تعالى في ترجمته:
هو القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن الفراء الحنبلي
المتوفى سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، وفيه يقول أبو محمد التميمي ما معناه: لقد
شان أبو يعلى الحنابلة شينا لا يغسله ماء البحار، على ما نقله ابن الأثير وأبو الفداء.
وعزا في طبقاته إلى الإمام أحمد ما يبعد أن يصح عنه كل البعد. ونقل ابن بدران
الدشتي في جزء إثبات الحد عن كتاب الأصول لأبي يعلى هذا ما هو أفظع مما
سينقله المصنف عنه في التشبيه على تضارب في أقواله بين تنزيه وتشبيه. ولا
يخفى على الناظر أنه غير الحافظ أبي يعلى أحمد بن علي الموصلي صاحب
المسند وراوي كتب أبي يوسف عن بشر بن الوليد. ا ه‍.
والعجيب الغريب وإن كان لا عجب من حشوية الحنابلة أن الحافظ أبا بكر ابن
العربي قال في العواصم (2 / 283):
" أخبرني من أثق به من مشيختي أن القاضي أبا يعلى الحنبلي كان إذا ذكر الله
سبحانه يقول فيما ورد من هذه الظواهر في صفاته تعالى: " ألزموني ما شئتم فإني
التزمه إلا اللحية والعورة " قال بعض أئمة أهل الحق وهذا كفر قبيح واستهزاء بالله
تعالى وقائله جاهل به تعالى لا يقتدى به ولا يلتفت إليه ولا متبع لإمامه الذي
ينتسب إليه ويتستر به بل هو شريك للمشركين في عبادة الأصنام فإنه ما عبد الله
ولا عرفه، وإنما صور صنما في نفسه تعالى الله عما يقول الملحدون والجاحدون
علوا كبيرا " ا ه‍.
وفي كامل ابن الأثير (10 / 52) نقلا عن العلامة أبي محمد التميمي ما معناه:
" لقد شان أبو يعلى الحنابلة شينا لا يغسله ماء البحار ". ا ه‍.
فانظرها هناك لزاما.
98

الزاغوني (7) فصنفوا كتبا شانوا بها المذهب (8)، ورأيتهم قد نزلوا إلى
مرتبة العوام، فحملوا الصفات على مقتضى الحس (9). فسمعوا أن الله
تعالى خلق آدم على صورته، فأثبتوا له صورة ووجها زائدا على الذات،
وعينين وفما ولهوات وأضراسا وأضواء لوجهه هي السبحات ويدين

(7) هو أبو الحسن علي بن عبيد الله بن نصر الزاغوني الحنبلي المتوفى سنة (527)
ه‍ وهو من مشايخ ابن الجوزي رحمه الله تعالى الذين رد عليهم كما تجده في
هذا الكتاب إن شاء الله تعالى، له كتاب " الإيضاح " فيه من غرائب التشبيه ما
يحار فيه النبيه.
قال الذهبي في ترجمته من " سير أعلام النبلاء " (19 / 607): " ورأيت لأبي
الحسن بخطه مقالة في الحرف والصوت عليه فيها مآخذا والله يغفر له، فيا ليته
سكت " ا ه‍ أي ولم ينطق بذلك التخليط.
(8) وكمثل كتب " السنة " التي صنفوها ومعناها عندهم: كتب العقائد، احتجوا فيها
لإثبات عقائدهم بالموضوعات والواهيات والإسرائيليات من الأخبار، بل احتجوا
بأقوال بعض التابعين التي لم تثبت عنهم والتي تفيد التشبيه، بل تنص على
التشبيه الصريح وجعلوا من ينكرها كافرا زنديقا جهميا، ومثال ذلك: ما يجده
من يطالع " سنة " الخلال الذي نقل في كتابه ذاك عن مجاهد أنه قال في معنى
قوله تعالى: (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) أن المقام المحمود هو
إجلاس سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بجنب ربهم على العرش الذي يزعمون أن معبودهم
عليه، وذلك في الفراغ المتبقي بعد جلوس الرب عليه بزعمهم، والبالغ أربعة
أصابع!! فلا ندري هل هي بأصابع معبودهم أم بأصابع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أم
بأصابع الخلال أم أبي يعلى!! وجعل الخلال في كتابه المذكور منكر ذلك كافرا
جهميا زنديقا!! وأعرض عن الأحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين في
تفسير المقام المحمود بالشفاعة فلا ندري ما موقف أمثال الخلال من أحاديث
الصحيحين تلك!!
(9) وهم يتخيلون معبودهم على صورة إنسان وعلى ذلك يقيسون لأن القياس لا
يدخل عندهم في العبادات وإنما يدخل في العقائد، ولا عجب فقد أظهر لنا
بعض مقلديهم في هذا الزمان كتابا سماه " عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على
صورة الرحمن " فإذا لم يكن هذا تشبيها فما ندري ما هو التشبيه!!
99

وأصابع وكفا وخنصرا وإبهاما وصدرا وفخذا وساقين ورجلين.
وقالوا: ما سمعنا بذكر الرأس.
وقالوا: يجوز أن يمس ويمس، ويدني العبد من ذاته.
وقال بعضهم: ويتنفس.
ثم يرضون العوام بقولهم: لا كما يعقل (10).
وقد أخذوا بالظاهر في الأسماء والصفات، فسموها بالصفات
تسمية مبتدعة لا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل، ولم يلتفتوا
إلى النصوص الصارفة عن الظواهر إلى المعاني الواجبة لله تعالى ولا
إلى إلغاء ما يوجبه الظاهر من سمات الحدوث، ولم يقنعوا بأن يقولوا
صفة فعل، حتى قالوا صفة ذات، ثم لما أثبتوا أنها صفات ذات قالوا:
لا نحملها على توجيه اللغة مثل يد على نعمة وقدرة (11) ومجئ وإتيان
على معنى بر ولطف (12)، وساق على شدة (13)، بل قالوا: نحملها على

(10) ومن الامعان في التيه أيضا ذكرهم لآية (ليس كمثله شئ) بعد كلامهم فيما
يريدون من إثبات التشبيه والتمثيل، وكذا قول بعضهم التشبيه هو أن تقول:
رجل كرجلي ويد كيدي وهذا كلام غمر لا يعرف أن هذا هذيان فارغ، فإذا
أثبت رجلا وقدما وذراعين وصدرا وعينين ووجها وغير ذلك إلا اللحية والعورة كما
قال أحد أئمتهم فأي معنى لقولهم بعد ذلك: بلا تشبيه ولا تمثيل؟!!.. رزقنا
الله الفهم.
(11) وقد ثبت في اللغة أن جمع يد وهي الكف أيد كما في القاموس وغيره في مادة
(يدي) وقد استعملت العرب (الأيد) بمعنى القوة، وهي جمع يد، لأن الإنسان
يستعمل قوته في أغلب أحيانه بواسطة يديه. ومنه (أم لهم أيد يبطشون بها)
(12) وقد ثبت كما قدمنا أن الإمام أحمد رحمه الله تعالى أول قول الله تعالى (وجاء
ربك) بمعنى (جاء ثوابه) كما هو ثابت عنه بالإسناد الصحيح في البداية
والنهاية (10 / 327).
(13) ثبت عن سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما كما في تفسير الطبري وغيره تأويل
قوله تعالى: (يوم يكشف عن ساق) أي يوم يشتد الأمر كما تقول العرب في
الحرب عند اشتدادها:
كشفت لهم عن ساقها وبدا من الشر الصراح
وقد بسط الكلام فيه الحافظ في " فتح الباري " (13 / 428) وحديث ابن عباس
أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات ص (437) بسند صحيح.
وأما لفظة " ساقه " بإثبات الهاء فهي لفظة غير محفوظة وهي مردودة كما نص
على ذلك الحافظ ابن حجر في الفتح (8 / 664) نقلا عن الحافظ الإسماعيلي
وأقره. هذا معنى كلامه.
100

ظواهرها المتعارفة والظاهر هو المعهود من نعوت الآدميين، والشئ إنما
يحمل على حقيقته إذا أمكن، ثم يتحرجون من التشبيه ويأنفون من
إضافته إليهم ويقولون: نحن أهل السنة (14)، وكلامهم صريح في
التشبيه وقد تبعهم خلق من العوام.
فقد نصحت التابع والمتبوع فقلت لهم: يا أصحابنا أنتم أصحاب
نقل وإمامكم الأكبر أحمد بن حنبل يقول وهو تحت السياط: " كيف
أقول ما لم يقل ".
فإياكم أن تبتدعوا في مذهبه ما ليس منه، ثم قلتم في الأحاديث،
تحمل على ظاهرها (15). وظاهر القدم الجارحة، فإنه لما قيل في عيسى

(14) ويتفلسف بعضهم فيقول: " علامة المعطلة أنهم يرمون أهل السنة بالحشوية
والمشبهة والمجسمة " وهذا كلام لا معنى له ولا قيمة له عندنا، ومن ثبت عليه
التشبيه فإنه لن ينفعه ترديد مثل هذه العبارة.
(15) وبعضهم يقول على حقيقتها، وأسخف من ذلك من أنكر المجاز في لغة العرب
وفي القرآن وفي السنة، وقد التقيت بأعمى من هذه الطائفة ينكر المجاز في
القرآن ويثبته باسم آخر فيسميه: ما يجوز في اللغة، فسألته قائلا: إذا كنت
ممن يقولون أنه لا مجاز في القرآن الكريم وأن الألفاظ على ظواهرها دائما فما
تقول في قوله تعالى: (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل
سبيلا)؟ فتلجلج لسانه ولم يدر ما يقول!!
101

روح الله اعتقدت النصارى أن لله صفة هي روح ولجت في مريم، ومن
قال: استوى بذاته فقد أجراه مجرى الحسيات، وينبغي أن لا يهمل
ما يثبت به الأصل وهو العقل (16)، فإنا به عرفنا الله تعالى، وحكمنا له
بالقدم، فلو أنكم قلتم: نقرأ الأحاديث ونسكت، ما أنكر عليكم أحد،
إنما حملكم إياها على الظاهر قبيح، فلا تدخلوا في مذهب هذا الرجل
الصالح السلفي ما ليس منه. ولقد كسيتم هذا المذهب شينا قبيحا حتى
صار لا يقال حنبلي إلا مجسم (17)، ثم زينتم مذهبكم أيضا بالعصبية
ليزيد بن معاوية (18) ولقد علمتم أن صاحب المذهب أجاز لعنته، وقد
كان أبو محمد التميمي يقول في بعض أئمتكم: لقد شان المذهب شينا
قبيحا لا يغسل إلى يوم القيامة.

(16) وقد مدح الله تعالى في كتابه أولي الألباب والذين يتفكرون في خلق السماوات
الأرض ولا يتأتى ذلك إلا بالعقل الذي هو مناط التكليف.
وقد صنف بعض أئمة المجسمة كتابا ادعى فيه الجمع بين صحيح المنقول
وصريح المعقول ليظهر أنهم يستعملون عقولهم في فهم كلام الله تعالى ورسوله
صلى الله عليه وسلم ولكن لم يوفق لذكر العقيدة السليمة في كتابه ذاك، إذ أثبت فيه قدم العالم
نوعا كما أثبت الحركة والحد لله تعالى، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
(17) قال الإمام التاج عبد الوهاب السبكي المتوفى سنة 771 في كتابه " معيد النعم
ومبيد النقم " ص (62):
" وهؤلاء الحنفية والشافعية والمالكية وفضلاء الحنابلة ولله الحمد في العقائد يد
واحدة كلهم على رأي أهل السنة والجماعة، يدينون الله تعالى بطريق شيخ
السنة أبي الحسن الأشعري رحمه الله تعالى لا يحيد عنها إلا... رعاع من
الحنابلة لحقوا بأهل التجسيم... " ا ه‍ باختصار.
(18) قال العلامة ابن الأثير في كتابه " الكامل " (3 / 487):
" قال الحسن البصري: أربع خصال كن في معاوية، لو لم تكن فيه إلا واحدة
لكانت موبقة: إنتزاؤه على هذه الأمة بالسيف حتى أخذ الأمر من غير مشورة
وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة، واستخلافه بعده ابنه - يزيد - سكيرا خميرا
يلبس الحرير ويضرب بالطنابير - أي العود وهو من آلات اللهو - وادعاؤه زيادا،
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الولد للفراش وللعاهر الحجر ". وقتله حجرا - وهو
أحد الصحابة العباد - وأصحاب حجر، فيا ويلا له من حجر! ويا ويلا له من
حجر وأصحاب حجر! " انتهى كلام ابن الأثير وما بين الشرطتين إيضاح مني.
وحجر بن عدي رضي الله عنه صحابي مترجم في " سير أعلام النبلاء "
(2 / 463) والإصابة (1 / 329 طبعة دار الكتب العلمية).
وقد فشا النصب بين الحنابلة وهو بغضهم لآل البيت أو عدم احترامهم لهم
وموالاة طائفة معاوية أو الدفاع عنها بالحجج التي هي أوهى من بيت
العنكبوت، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، ونحن نجد في هذه الأيام من يفتخر
بالانتساب لآل النبي صلى الله عليه وسلم وخصوصا لسيدنا الحسن ولسيدنا الحسين ابني سيدنا
علي والسيدة فاطمة عليهم السلام والحمد لله تعالى، ولا نجد من يفتخر
بالانتساب إلى معاوية وذريته، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وقد ثبت في صحيح مسلم (4 / 1873 برقم 2408) وغيره من حديث سيدنا
زيد بن أرقم رضي الله عنه قال:
" قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فينا خطيبا. بماء يدعى خما بين مكة والمدينة، فحمد
الله تعالى وأثنى عليه، ووعظ وذكر، ثم قال: " أما بعد. ألا أيها الناس! فإنما
أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب
الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به " فحث على كتاب الله
ورغب فيه ثم قال: " وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في
أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي ".
وفي رواية الترمذي (5 / 663 برقم 3788) " عترتي " ولفظه " إني تارك فيكم ما
إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل
ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتى يردا على
الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما ".
فقال له حصين - وهو الراوي عن سيدنا زيد بن أرقم - ومن أهل بيته يا زيد؟
أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته. ولكن. أهل بيته من حرم
الصدقة بعده. قال: ومن هم؟ قال: هم آل علي وآل عقيل، وآل جعفر، وآل
عباس، قال: كل هؤلاء حرم الصدقة؟ قال: نعم.
وارجع إلى التعليق الآتي برقم (181) فإن فيه بعض توسع في هذه المسألة،
وتفصيل ذلك في رسالة مستقلة آتية إن شاء الله تعالى.
102

فصل
قلت: وقد وقع غلط المصنفين الذين ذكرتهم في سبعة أوجه:
أحدها: أنهم سموا الأخبار أخبار صفات، وإنما هي إضافات،
وليس كل مضاف صفة، فإنه قال سبحانه وتعالى: (ونفخت فيه من
روحي " الحجر: 29.
وليس لله صفة تسمى روحا، فقد ابتدع من سمى المضاف صفة.
الثاني: أنهم قالوا: إن هذه الأحاديث من المتشابه الذي لا يعلمه
إلا الله تعالى. ثم قالوا: نحملها على ظواهرها، فواعجبا!! ما لا يعلمه
إلا الله أي ظاهر له..؟! فهل ظاهر الاستواء إلا القعود، وظاهر النزول
إلا الانتقال..
الثالث: أنهم أثبتوا لله تعالى صفات، وصفات الحق لا تثبت إلا
بما يثبت به الذات من الأدلة القطعية.
وقال ابن حامد (المجسم): من رد ما يتعلق به بالأخبار الثابتة فهل
يكفر؟ على وجهين، وقال: غالب أصحابنا على تكفير من خالف
الأخبار في الساق والقدم والأصابع والكف ونظائر ذلك وإن كانت أخبار
آحاد لأنها عندنا توجب العلم (19).
قلت: هذا قول من لا يفهم الفقه ولا العقل.

(19) خبر الآحاد - الواحد - لا يوجب العلم إنما يوجب العمل ولا يفيد إلا الظن
رغم محاولة بعض المجسمة وأتباعهم قلب الحقائق، والمقرر في الكتاب
والسنة والذي عليه عمل الصحابة وأئمة السلف والمحدثين أن خبر الآحاد يفيد
الظن ولا يفيد العلم، وأنه لا تثبت به أصول العقائد ولنذكر بعض أدلة ذلك:
ثبت في الصحيحين قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذي اليدين للناس: (أصدق
ذو اليدين ا؟!
وهو خبر واحد وهو ثقة صحابي ولم يفد ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الظن،
فلما تأكد من الناس من خبره تيقن أنه صلى ركعتين فأتم ركعتين.. وهذا شئ
مشهور وأما الصحابة: فقال الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ (1 / 2):
" وكان - أبو بكر - أول من احتاط في قبول الأخبار، فروى ابن شهاب عن قبيصة
بن ذويب أن: الجدة جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تورث، فقال: ما أجد
لك في كتاب الله شيئا وما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لك شيئا، ثم سأل
الناس، فقام المغيرة، فقال: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيها السدس، فقال
له: هل معك أحد؟ فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك فأنفذه لها أبو بكر رضي
الله عنه " رواه أحمد (4 / 225) وابن الجارود (959) والحاكم (4 / 338)
وصححه وأقره الذهبي وهو ثابت.
وكذا ثبت في البخاري (فتح 11 / 27) ومسلم وعند غيرهم أن سيدنا عمر رضي
الله عنه طلب من أبي موسى أن يأتيه ببينة على حديث " إذا سلم أحدكم ثلاثا
فلم يجب فليرجع " وصح في المسند (1 / 10) وغيره أن سيدنا علي كان
يستحلف من حدثه، وكل ذلك وغيره كثير مما بسطته في " عقد الزبرجد النضيد
في شرح جوهرة التوحيد " يثبت أن خبر الواحد كان لا يفيد العلم عند الصحابة
وإنما يفيد الظن.
وكذلك أئمة المحدثين من السلف والخلف كالبخاري (الفتح 13 / 231)
والشافعي التمهيد (1 / 7) والخطيب البغدادي (الكفاية ص 432) وابن عبد البر
التمهيد (1 / 7) والبيهقي (الأسماء والصفات ص 357) والحافظ ابن حجر
الفتح (13 / 231) والنووي والذهبي (تذكرة الحفاظ 1 / 2).
104

الرابع: أنهم لم يفرقوا في الأحاديث بين خبر مشهور كقوله: " ينزل
إلى السماء الدنيا " وبين حديث لا يصح كقوله: " رأيت ربي في أحسن
صورة " بل أثبتوا بهذا صفة وبهذا صفة.
105

الخامس: أنهم لم يفرقوا بين حديث مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين
حديث موقوف على صحابي أو تابعي، فأثبتوا بهذا ما أثبتوا بهذا.
السادس: أنهم تأولوا بعض الألفاظ في موضع ولم يتأولوها في
موضع آخر كقوله: " من أتاني يمشي أتيته هرولة ".
قالوا: هذا ضرب مثل للإنعام.
وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: " إذا كان يوم القيامة جاء
الله يمشي " (20) فقالوا: نحمله على ظاهره.
قلت: فواعجبا!! ممن تأول حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يتأول كلام
عمر بن عبد العزيز (21).
السابع: أنهم حملوا الأحاديث على مقتضى الحس فقالوا: ينزل
بذاته (22) وينتقل ويتحرك، ثم قالوا: لا كما يعقل. فغالطوا من يسمع

(20) وهذا كذب مروي عن عمر بن عبد العزيز وضعه عليه بعض أعداء الإسلام
الذين كانوا قد اندسوا بين الرواة.
(21) أي على فرض ثبوته عنه، مع أن قول التابعي ليس من حجج الشرع.
(22) وزيادة لفظة بذاته خطيرة جدا في باب التوحيد، لأنها توجب التجسيم الصريح،
لا سيما وأنها لم ترد في كتاب ولا سنة، والأصل: لا يجوز وصف الله تعالى إلا
بما وصف به نفسه، فأين وردت لفظة " بذاته " في الكتاب والسنة؟!!
وإنني أعجب جد العجب ممن يمنع إطلاق لفظة " ستار " على الله تعالى ويقول
بل: " ستير " مع أنه لا فرق بينهما تقريبا ثم يأتي بلفظة " بذاته " فيضيفها إلى
الله تعالى، ويزيد عليها الحركة والانتقال ليتم تحقيق التجسيم في أعرض
صوره، والعجب من ابن تيمية الذي يثبت الحركة والانتقال في " الموافقة "
(2 / 4) بهامش منهاج سنته وينسبه للسلف وليس الأمر كما قال، وكلام السلف
ليس من حجج الشرع!!
106

فكابروا الحس والعقل فحملوا الأحاديث على الحسيات، فرأيت الرد
عليهم لازما لئلا ينسب الإمام إلى ذلك، وإذا سكت نسبت إلى اعتقاد
ذلك، ولا يهولني أمر عظيم في النفوس لأن العمل على الدليل،
وخصوصا في معرفة الحق لا يجوز فيه التقليد (23).
فصل
فإن قال قائل: ما الذي دعى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتكلم بألفاظ موهمة
للتشبيه؟
قلنا: إن الخلق غلب عليهم الحس فلا يكادون يعرفون غيره،
وسببه المجانسة لهم في الحديث، فعبد قوم النجوم وأضافوا إليها
المنافع والمضار، وعبد قوم النور وأضافوا إليه الخير، وأضافوا الشر إلى
الظلمة، وعبد قوم الملائكة، وقوم الشمس وقوم عيسى، وقوم عزير،
وعبد قوم البقر والأكثرون الأصنام فآنست نفوسهم بالحس المقطوع
بوجوده ولذلك قال قوم (سيدنا) موسى عليه السلام: (اجعل لنا إلها)
الأعراف: 137، فلو جاءت الشرائع بالتنزيه المحض جاءت بما يطابق
النفي فلما قالوا: " صف لنا ربك " نزلت (قل هو الله أحد) الإخلاص: 1،
ولو قال لهم ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا طويل ولا عريض ولا
يشغل الأمكنة ولا يحويه مكان ولا جهة من الجهات الست وليس
بمتحرك ولا ساكن ولا يدركه الاحساس لقالوا: حد لنا النفي بأن تميز
ما تدعونا إلى عبادته عن النفي وإلا فأنت تدعو إلى عدم.

(23) فأين هذا التحقيق العلمي الدقيق الذي تعضده الأدلة من كلام من يجعل قولا
لعبد الله بن المبارك وقولا لأبي زرعة وغيرهما من الحجج التي لا تقبل الرد في
باب التوحيد وغيره؟!!
107

فلما علم الحق سبحانه ذلك جاءهم بأسماء يعقلونها من السمع
والبصر والحلم والغضب، وبنى البيت وجعل الحجر بمثابة اليمين
المصافحة، وجاء بذكر الوجه واليدين والقدم والاستواء والنزول لأن
المقصود الإثبات فهو أهم عند الشرع من التنزيه، وإن كان التنزيه
منها، ولهذا قال للجارية: أين الله (24)، وقيل له: أيضحك ربنا (25)؟
قال: نعم، فلما أثبت وجوده بذكر صور الحسيات نفى خيال التشبيه
بقوله (ليس كمثله شئ) الشورى: 11، ثم لم يذكر الرسول الأحاديث
جملة وإنما كان يذكر الكلمة في الأحيان فقد غلط من ألفها أبوابا على
ترتيب صورة غلطا قبيحا (26)، ثم هي بمجموعها يسيرة، والصحيح منها

(24) هذا لو ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا اللفظ: (أين الله) ولم يثبت مع أنه في
صحيح الإمام مسلم رحمه الله تعالى، وذلك لأنه ورد في غير صحيح مسلم
بأسانيد صحيحة أنه قال لها: " أتشهدين أن لا إله إلا الله " فتبين أن الاختلاف
من تصرف الرواة الذين رووا الحديث، فصار لفظ " أين الله " محل احتمال،
وما طرأ فيه الاحتمال سقط به الاستدلال، وفرق بين " أين الله " التي تدل على
المكان الذي يتعالى الله أن يحل فيه، وبين " أتشهدين أن لا إله إلا الله " الذي
كان النبي صلى الله عليه وسلم يطالب به الناس ويمتحنهم به.
ونحن نقطع بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لفظ " أين الله " وإنما قال: " أتشهدين أن لا
إله إلا الله " الذي رواه أحمد في مسنده (3 / 452) وعبد الرزاق في المصنف
(9 / 175) والبزار (1 / 14 كشف الأستار) والدارمي (2 / 187) والبيهقي
(10 / 57) والطبراني (12 / 27) وابن الجارود (931) وابن أبي شيبة
(11 / 20) وغيرهم بأسانيد صحيحه.
(25) لقد أول الإمام البخاري رحمه الله تعالى " الضحك " بالرحمة فيما نقله عنه
الحافظ البيهقي في كتابه العظيم " الأسماء والصفات " (ص 298 بتحقيق الإمام
المحدث الكوثري رحمه الله تعالى) ويصح تأويله أيضا بالرضى.
(26) كابن خزيمة في كتابه التوحيد الذي سماه الإمام الفخر الرازي في تفسيره
(14 / 27 / 151) كتاب الشرك، وقد ندم ابن خزيمة على تصنيفه ورجع عنه
كما جاء عنه بإسنادين في كتاب " الأسماء والصفات " للحافظ البيهقي (ص 267
بتحقيق المحدث الكوثري)، ومثل كتاب التوحيد لابن خزيمة كتاب " السنة "
المنسوب لابن أحمد وكذلك " سنة الخلال " وأمثال هذه الكتب التي تحمل في
طواياها تجسيما صريحا وروايات تالفة.
108

يسير: ثم هو عربي (27) وله التجوز (28)، أليس هو القائل: " تأتي البقرة
وآل عمران كأنهما غمامتان أو فرقان من طير صاف " (29)، " ويؤتى
بالموت في صورة كبش أملح فيذبح " (30)؟!.
فإن قيل لم سكت السلف عن تفسير الأحاديث وقالوا: أمروها كما
جاءت (31)؟

(27) يعني سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم.
(28) أي له أن يستعمل المجاز الذي ينكره بعض المبتدعة.
(29) هو حديث مسلم (1 / 553 برقم 804) عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" اقرأوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه. اقرأوا الزهراوين البقرة
وسورة آل عمران فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان. أو كأنهما غيايتان.
أو كأنهما فرقان من طير صواف، تحاجان عن أصحابهما. اقرأوا سورة البقرة.
فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة ". قال معاوية بن سلام
أحد رواة هذا الحديث: بلغني أن البطلة: السحرة. هكذا وقع في مسلم.
قلت: والغياية: كل شئ أظل الإنسان فوق رأسه، ومعنى صواف: هو جمع
صاف في الهواء، لأن الطير تصف في الهواء أجنحتها. وهذا الحديث في مسند
أحمد (5 / 249) أيضا، وتاريخ الخطيب (6 / 537) بنحوه وغيرهما.
وجاء عن أحمد أنه أول هذا الحديث فقال: " جاء ثوابهما " أنظر ص (14).
(30) رواه البخاري (فتح 8 / 428) ومسلم وغيرهما.
(31) والحق كما نقل المصنف رحمه الله تعالى في هذا الكتاب أن السلف أولوا
بعض الإضافات ولم يعتبروها صفات لله تعالى فالتأويل والتفويض قد وردا عن
السلف بطرق لا يستطيع إنكارها أحد.
ومنه يتبين فساد قول من قال: " إن التفويض من شر أقوال أهل البدع والإلحاد "
وكذلك قول من يضلل المؤولين والمفوضين، أنظر موافقة صريح المعقول
المطبوع على هامش منهاج البدعة (1 / 118) والتعليق على سنة ابن أبي
عاصم ص (212 من طبعة المكتب الإسلامي الثانية)!!.
109

قلت لثلاثة أوجه:
أحدها: أنها ذكرت للإيناس بموجود فإذا فسرت لم يحصل
الإيناس مع أن فيها ما لا بد من تأويله كقوله تعالى (وجاء ربك)
الفجر: 22، أي جاء أمره (32).
وقال أحمد بن حنبل: وإنما صرفه إلى ذلك أدلة العقل فإنه لا
يجوز عليه الانتقال.
والوجه الثاني: أنه لو تأولت اليد بمعنى القدرة جاز أن يتأول
بمعنى القوة فيحصل الخطر بالصرف عما يحتمل.
والثالث: أنهم لو أطلقوا في التأويل اتسع الخرق فخلط المتأول،
فإذا سأل العامي عن قوله تعالى: (ثم استوى على العرش)
الأعراف: 53، قيل له: الاستواء معلوم (33) والكيف غير معقول (34) والإيمان
به واجب والسؤال عنه بدعة، وإنما فعلنا هذا لأن العوام لا يدركون
الغوامض.

(32) وقد ثبت هذا التأويل عن الإمام أحمد الذي تتظاهر المجسمة بالانتساب إليه
بالإسناد الصحيح في كتاب: " مناقب أحمد " للحافظ البيهقي (مخطوط) وقد
نقله منه ابن كثير في " البداية والنهاية " (10 / 327) بسند البيهقي الصحيح عن
الإمام أحمد.
(33) أي معلوم ذكره في القرآن في قوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى).
(34) والذي يقول: " والكيف مجهول " غلط غلطا كبيرا، لأنه بذلك يثبت لله تعالى
كيفية لكنها مجهولة لنا، والإمام مالك الذي ينقلون عنه هذه العبارة ويضعون
فيها لفظ " والكيف مجهول " لم يقل ذلك وإنما قال كما هو ثابت عنه " والكيف
غير معقول " فتنبه، وقد بسطت ذلك في كتابي: " عقيدة أهل السنة والجماعة "
وقد تقدم ذلك، وانظر الفتح (13 / 406 / 13 و 407).
110

فصل
وكان الإمام أحمد يقول: أمروا الأحاديث كما جاءت وعلى هذا
كبار أصحابه كإبراهيم الحربي (35)، ومن كبار أصحابنا أبو الحسن
التميمي، وأبو محمد رزق الله بن عبد الوهاب (36)، وأبو الوفاء ابن
عقيل (37) فنبغ الثلاثة الذين ذكرناهم ابن حامد، والقاضي أبو يعلى،
والزاغوني.
وقد سئل الإمام أحمد عن مسألة فأفتى فيها فقيل له: هذا لا يقول
به ابن المبارك، فقال: ابن المبارك لم ينزل من السماء (38).
وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: استخرت الله تعالى في الرد
على الإمام مالك (39).

(35) الإمام الحافظ المشهور المتوفى سنة 285 ه‍، ترجمته في " سير أعلام النبلاء "
(13 / 356) وهو الذي قال كما في ترجمة معروف الكرخي في " سير أعلام
النبلاء " (9 / 343): " قبر معروف الترياق المجرب " كما نقلناه عنه في كتابنا
" الإغاثة " ص (34).
(36) مترجم في " السير " (18 / 609) توفي سنة 488 ه‍.
(37) مترجم في " سير أعلام النبلاء " (19 / 443) توفي سنة 513 ه‍.
(38) وذلك صحيح جدا لأن قول رجل من السلف أو أكثر ليست حجة شرعية ومن
ذلك يتبين أن ما روي عن ابن المبارك في الحد لو صح عنه ليس نازلا من
السماء كما بيناه بتوسع وتفصيل في كتابنا: " التنبيه والرد على معتقد قدم العالم
والحد ".
(39) مع كون الإمام مالك رحمه الله تعالى من أئمة السلف، فليعتبر بذلك من ينقل
عنه لفظة: " والكيف مجهول " مع أنه لم يقلها.
111

ولما صنف هؤلاء الثلاث كتبا، وانفرد القاضي أبو يعلى فصنف
الأحاديث التي ذكرتها على ترتيبه (40)، وقدم عليها الآيات التي وردت
في ذلك (رأيت أن أرد كلامه في تلك الأحاديث والآثار مقدما الآيات
الشريفة التي وردت في ذلك):

(40) في كتابه - أعني أبا يعلى - المسمى ب‍ " إبطال التأويل " وفيه من أنواع التجسيم
العجب العجاب، وعندنا نسخة خطية منه رأينا فيها طامات غريبة، وقد وقفنا
على الجزء المطبوع منه. ونرجو من طلاب العلم أن يطلعوا عليه ليعرفوا من
أين أتى الحراني بعقائده تلك.
وقد تقدم في التعليقات السابقة نقل كلام جماعة من أهل العلم كابن الأثير
وغيره في ذم أبي يعلى وكتابه المذكور. نسأل الله تعالى السلامة.
112

باب ما جاء في القرآن العظيم من ذلك
1) قال الله تعالى: (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) الرحمن: 27.
قال المفسرون: معناه يبقى ربك، وكذا قالوا في قوله: (يريدون
وجهه) الأنعام: 52 أي يريدونه.
وقال الضحاك وأبو عبيدة في قوله: (كل شئ هالك إلا وجهه)
القصص: 88، أي إلا هو، وقد ذهب الذين أنكرنا عليهم إلى أن الوجه
صفة تختص باسم زائد على الذات.
قلت: فمن أين قالوا هذا وليس لهم دليل إلا ما عرفوه من
الحسيات...؟ وذلك يوجب التبعيض، ولو كان كما قالوا: كان
المعنى: أن ذاته تهلك إلا وجهه. وقال ابن حامد (المجسم): أثبتنا
لله وجها ولا نجوز إثبات رأس (1).
قلت: ولقد اقشعر بدني من جراءته على ذكر هذا فما أعوزه في
التشبيه غير الرأس.
2) قلت: ومن ذلك قوله: (ولتصنع على عيني) طه: 39، (واصنع
الفلك بأعيننا) هود: 37.
قال المفسرون: بأمرنا، أي بمرأى منا، قال أبو بكر بن الأنباري:
أما جمع العين على مذهب العرب في إيقاعها الجمع على الواحد

(1) وإذا كان المجسمة يثبتون بهذه الآية وأمثالها صفة الوجه فهل يقولون بفناء يد
معبودهم وساقيه وجنبيه وما إلى ذلك من أعضاء أثبتوها له بقوله سبحانه (كل شئ
هالك إلا وجهه)؟!
113

يقال: خرجنا في السفر إلى البصرة. وإنما جمع لأن عادة الملك أن
يقول: أمرنا ونهينا.
وقد ذهب القاضي أبو يعلى (المجسم) إلى أن العين صفة زائدة
على الذات وقد سبقه أبو بكر بن خزيمة فقال في الآية: " لربنا عينان
ينظر بهما " (41).!!
قلت: وهذا ابتداع لا دليل لهم عليه وإنما أثبتوا عينين من دليل
الخطاب في قوله عليه الصلاة والسلام: " وإن الله ليس بأعور ".
وإنما أراد نفي النقص عنه تعالى، ومتى ثبت أنه لا يتجزأ لم يكن
لما يتخيل من الصفات وجه.
3) ومنها قوله تعالى: (لما خلقت بيدي) ص: 75.
اليد في اللغة: بمعنى النعمة والإحسان.
قال الشاعر:
متى تناخي عند باب بني هاشم
تريحي فتلقي من فواضله يدا
ومعنى قول اليهود (يد الله مغلولة) المائدة: 64، أي: محبوسة عن
النفقة، واليد: القوة، يقولون: ما لنا بهذا الأمر من يد، وقوله تعالى:

(41) وهذه من ورطات الحافظ ابن خزيمة في كتابه " التوحيد " الذي ندم على تأليفه
أخيرا، كما روى ذلك عنه الحافظ البيهقي في " الأسماء والصفات " ص (267)
وكتاب " التوحيد " لابن خزيمة يسميه الفخر الرازي في تفسيره (14 / 27 / 151)
بكتاب (الشرك) لما أتى به فيه من مستشنعات، ولله في خلقه شؤون، وقد طبع
كتاب ابن خزيمة هذا الحشوية كرات ومرات ووزعوه مجانا ليروجوا به عقائدهم
الفاسدة!!
114

(بل يداه مبسوطتان) المائدة: 64، أي نعمته وقدرته.
وقوله: " لما خلقت بيدي " أي: بقدرتي ونعمتي، وقال الحسن في
قوله تعالى: (يد الله فوق أيديهم) الفتح: 10، أي: منته وإحسانه.
قلت: هذا كلام المحققين.
وقال القاضي أبو يعلى (المجسم): " اليدان صفتان ذاتيتان تسميان
باليدين " ا ه‍.
قلت: وهذا تصرف بالرأي لا دليل عليه. وقال ابن عقيل: معنى
الآية لما خلقت أنا، فهو كقوله: (ذلك بما قدمت يداك) الحج: 10
أي بما قدمت أنت.
وقد قال بعض البله: لو لم يكن لآدم عليه السلام مزية على سائر
الحيوانات بخلقه باليد التي هي صفة لما عظمه بذكرها وأجله فقال
(بيدي). ولو كانت القدرة لما كانت له مزية، فإن قالوا القدرة لا
تثنى (42). وقد قال (بيدي).
قلنا: بلى قالت العرب: ليس لي بهذا الأمر يدان، أي ليس لي
به قدرة، وقال عروة بن حزام في شعره:
فقالا شفاك الله والله ما لنا * بما ضمنت منك الضلوع يدان
وقولهم: ميزه بذلك عن الحيوان، نفاه قوله عز وجل: (خلقنا لهم
مما عملت أيدينا أنعاما) يس: 71، ولم يدل هذا على تمييز الأنعام على

(42) قلنا مجيبين: بل تثنى: ويراد بها الذات، ومنه قوله تعالى: (تبت يدا أبي
لهب) والمراد بذلك ذاته بلا شك.
115

بقية الحيوان (43). قال الله تعالى: (والسماء بنيناها بأيد وإنا
لموسعون) الذاريات: 47 أي بقوة (44).
ثم قد أخبر أنه نفخ فيه من روحه (45)، ولم يرد إلا الوضع بالفعل
والتكوين، والمعنى: نفخت أنا، ويكفي شرف الإضافة.، إذ لا يليق
بالخالق جل جلاله سوى ذلك لأنه لا يحتاج أن يفعل بواسطة، فلا
له أعضاء وجوارح يفعل بها، لأنه الغني بذاته، فلا ينبغي أن يتشاغل
بطلب تعظيم آدم مع الغفلة عما يستحقه الباري سبحانه من التعظيم
(والتنزيه) بنفي الابعاض والآلات في الأفعال، لأن هذه الأشياء صفة
الأجسام، وقد ظن بعض البله أن الله يمس، حتى توهموا أنه مس طينة

(43) أي إذا قلتم بأن سيدنا آدم عليه السلام مخصوص بأنه مخلوق بيد الله عز وجل
بدليل قوله تعالى لإبليس: (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي) قلنا: ليس
الأمر كما تتوهمون، وإنما المراد ما منعك أن تسجد لما خلقت أنا ولم يخلقه
غيري وأنا ربك وربه، بدليل أن الأنعام من خيل وإبل وحمير وبقر وغيرها
مخلوقة بيد الله تعالى أيضا بنص القرآن وذلك في قوله تعالى: (أولم يروا أنا
خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون) يس: 71.
(44) مع أن لفظة (أيد) في اللغة هي جمع يد وهي الكف المعروفة. كما تجد ذلك
في مادة (يدي) من القاموس ثم أطلقت مجازا على القوة لأن اليد آلة للقوة
في العادة كما تجد ذلك المعنى المجازي في مادة (أيد) من القاموس وأصلها
في مادة (يدي) فتدبر. وقال بعض المبتدعة: (أيد) لا تعرف في اللغة إلا
بمعنى القوة وهذا غلط محض وخطأ فاحش يظهر عند مطالعة مادة (يدي) في
القاموس المحيط وغيره. ومنه قوله تعالى: (أم لهم أيد يبطشون بها).
(45) معنى من روحه: أي الروح التي خلقها وأضافها إلى نفسه ليشرفها كما أضاف
الكعبة إليه ليشرفها فقال: (أن طهرا بيتي للطائفين) وكل الناس يعرفون أنه
لا يسكنه وأنه تعالى عن ذلك فقولنا: بيت فلان يخالف تماما قولنا: بيت الله
وهكذا فتأمل.
116

آدم بيد هي بعض ذاته، وما فطنوا أنه من جملة مخلوقاته جسما يقابل
جسما فيتحد به ويفعل فيه، ومن السحر من يعقد عقدا فيتغير به الشئ
حالا وصفة!! أفتراه سبحانه جعل أفعال الأشخاص والأجسام تتعدى
إلى الأجسام البعيدة، ثم يحتاج هو في أفعاله إلى معاناة الطين.
وقد رد قول من قال هذا بقوله تعالى:
(إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن
فيكون) آل عمران: 59.
4) ومنها قوله تعالى: (ويحذركم الله نفسه) آل عمران: 28 وقوله تعالى
على لسان عيسى: (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) المائدة:
116.
قال المفسرون: ويحذركم الله إياه.
وقالوا: " تعلم ما عندي ولا أعلم ما عندك ".
قال المحققون: المراد بالنفس هاهنا الذات، ونفس الشئ ذاته،
وقد ذهب القاضي أبو يعلى (المجسم) إلى أن لله نفسا، وهي صفة
زائدة على ذاته.
قلت: وقوله هذا لا يستند إلا إلى التشبيه، لأنه يوجب أن الذات
شئ والنفس غيرها، وحكى ابن حامد (المجسم) أعظم من هذا
فقال: ذهبت طائفة في قوله تعالى: (ونفخت فيه من روحي) الحجر:
29، إلى إن تلك الروح صفة من ذاته وأنها إذا خرجت رجعت إلى الله
تعالى.
قلت: وهذا أقبح من كلام النصارى فما أبقى هذا من التشبيه
بقية.
117

5) ومنها قوله تعالى: (ليس كمثله شئ) الشورى 11.
ظاهر الكلام أن له مثلا، فليس كمثله شئ، وليس كذلك، وإنما
معناه عند أهل اللغة: أن يقام المثل مقام الشئ نفسه.
يقول الرجل: مثلي لا يكلم مثلك، وإنما المعنى: ليس كهو
شئ.
6) ومنها قوله تعالى: (يوم يكشف عن ساق) القلم: 42.
قال ابن عباس ومجاهد وإبراهيم النخعي وقتادة وجمهور العلماء:
يكشف عن شدة (46)، وأنشدوا:
" وقامت الحرب بنا على ساق ".
وقال آخرون: إذا شمرت عن ساقها الحرب شمرا (47).
قال ابن قتيبة: وأصل هذا أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج

(46) وقد ثبت ذلك عن ابن عباس بثلاثة أسانيد صحيحة. أنظر فتح الباري
(13 / 428) والأسماء والصفات للإمام البيهقي (ص 437). فهكذا أول هذه
الآية الصحابة والسلف. وأما الحديث الذي وردت فيه لفظة (ساقه) فقد قال
الحفاظ في شرحه أن لفظة (ساقه) غير محفوظة والمحفوظ لفظة (ساق)
الموافقة للآية القرآنية، وأما لفظة (ساقه) فتسوق إلى التجسيم هذا معنى كلام
الحافظ في الفتح (8 / 664) ولذا نقطع أن هذه اللفظة لم يقلها صلى الله عليه وسلم ومتى طرأ
الاحتمال سقط الاستدلال وقد أفاد غالب ما ذكرته هنا الحافظ ابن حجر في
فتح الباري ونقله عن الحافظ الإسماعيلي فليراجع.
(47) هذا شطر بيت لجرير وهو:
ألا رب سام الطرف من آل مازن * إذا شمرت عن ساقها الحرب شمرا
118

إلى معاناة الجد (48) فيه، شمر عن ساقه، فاستعيرت الساق في موضع
الشدة.
وبهذا قال الفراء وأبو عبيد، وثعلب واللغويون.
وروى البخاري ومسلم في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم: " إن الله
عز وجل يكشف عن ساقه " (49).
هذه إضافة إليه معناها: يكشف عن شدته وأفعاله المضافة إليه
ومعنى يكشف عنها: " يزيلها ".
وقال عاصم بن كليب: رأيت سعيد بن جبير غضب وقال: يقولون
يكشف عن ساقه، وإنما ذلك عن أمر شديد، وقد ذكر أبو عمر الزاهد

(48) قال ابن مالك:
والجد والد الأب * والجد ضد اللعب
والجد عند العرب * البئر ذات الخرب
وقال قطرب وابن زريق:
سام رفيع الجد * أعماله بالجد
لقيته بالجد * كالمعطل المخرب
بالفتح والد الأب * والكسر ضد اللعب
والضم بعض القلب * كان لبعض العرب
(49) وقد تقدم عن الحافظ ابن حجر والإسماعيلي أن لفظة (ساقه) غير محفوظة
وذلك مذكور في الفتح (8 / 664) وهذا نص كلامه:
" وقع في هذا الموضع " يكشف ربنا عن ساقه " وهو من رواية سعيد بن أبي هلال
عن زيد بن أسلم فأخرجها الإسماعيلي كذلك ثم قال: في قوله " عن ساقه "
نكرة ثم أخرجه من طريق حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم بلفظ: " يكشف
عن ساق " قال الإسماعيلي: هذه أصح لموافقتها لفظ القرآن في الجملة، لا
يظن أن الله ذو أعضاء وجوارح لما في ذلك من مشابهة المخلوقين، تعالى
الله عن ذلك ليس كمثله شئ " ا ه‍ كلام الحافظ من الفتح ولفظ سعيد بن هلال
هذا شاذ.
119

إن الساق بمعنى " النفس " وقال: ومنه قول علي رضي الله عنه لما قالت
البغاة: لا حكم إلا لله فقال: لا بد من محاربتهم ولو تلفت ساقي...
فعلى هذا يكون المعنى يتجلى لهم، وفي حديث أبي موسى عن النبي
- صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
" يكشف لهم الحجاب فينظرون إلى الله تعالى فيخرون لله
سجدا، ويبقى أقوام في ظهورهم مثل صياصي البقر، يريدون السجود
فلا يستطيعون " *.
فذلك قوله تعالى: (يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود
فلا يستطيعون) القلم: 42، وقد ذهب القاضي أبو يعلى (المجسم) إلى
أن الساق صفة ذاتية. وقال مثله في " يضع قدمه في النار ": وحكى عن
ابن مسعود: ويكشف عن ساقه اليمنى فتضئ من نور ساقه
الأرض (50).
قلت: وذكر الساق مع القدم تشبيه محض، وما ذكر عن ابن
مسعود محال، ولا تثبت لله صفة بمثل هذه الخرافات، ولا توصف ذاته
سبحانه بنور شعاع تضئ به الأرض، واحتجاجه بالإضافة ليس بشئ
لأنه إذا كشف عن شدته، فقد كشف عن ساقه، وهؤلاء وقع لهم أن
معنى يكشف " يظهر " وإنما المعنى " يزيل ويرفع ".
قال ابن حامد (المجسم): يجب الإيمان بأن لله تعالى ساقا صفة
لذاته، فمن جحد ذلك كفر.

* لم أجده بهذا اللفظ للآن.
(50) وهذا كلام مكذوب على سيدنا عبد الله بن مسعود ولم يثبت عنه.
120

قلت: ولو تكلم بهذا عامي جلف كان قبيحا، فكيف بمن ينسب
إلى العلم؟! فإن المتأولين أعذر منهم لأنهم ردوا الأمر إلى اللغة،
وهؤلاء أثبتوا ساقا للذات، وقدما حتى يتحقق التجسيم والصورة.
7) ومنها قوله تعالى: (ثم استوى على العرش) الأعراف: 54.
قال الخليل بن أحمد: العرش: السرير، فكل سرير ملك يسمى
عرشا، والعرش مشهور عند العرب في الجاهلية والإسلام قال الله
تعالى:
(ورفع أبويه على العرش) يوسف: 100. وقال تعالى: (أيكم يأتيني
بعرشها) النحل: 38.
واعلم أن الاستواء في اللغة على وجوه منها: الاعتدال. قال بعض
بني تميم فاستوى ظالم العشيرة والمظلوم. أي اعتدلا، والاستواء: تمام
الشئ قال الله تعالى: (ولما بلغ أشده واستوى) القصص: 14، أي تم.
والاستواء: القصد إلى الشئ قال تعالى: (ثم استوى إلى
السماء) البقرة: 29. أي قصد خلقها، والاستواء الاستيلاء على الشئ
قال الشاعر:
قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق (51)
وقال الآخر:
إذا ما غزى قوما أباح حريمهم
وأضحى على ما ملكوه قد استوى

(51) وبعض المبتدعة يقولون: هذا البيت هو للأخطل وكان نصرانيا فهل تبنون
عقائدكم على قول نصراني؟!
ونجيبهم فنقول: نحن نستدل أيضا في فهم لغة العرب من أقوال عبدة الأصنام
الجاهليين فضلا عن الأخطل النصراني، وإن السؤال المبني على نوع من التبله
لن يجديكم أيها المبتدعة، وذلك لأن الله تعالى أنزل هذا القرآن الكريم بلغة
العرب الأقحاح الذين كانوا يعبدون الأوثان والأصنام فنحن إذا أتينا بأشعارهم
وأرجازهم فإنما نأتي بها لنفهم المعنى المراد من الآية الكريمة التي نزلت بلغة
أولئك، وقدوتنا في ذلك سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يستنشد بعض الصحابة
أبياتا لبعض الجاهليين ويقول كلما فرغ القائل من بيت: (هيه) حتى يأتي
بالذي بعده وقد ثبت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم. رواه أبو داود الطيالسي ص (179).
وأصحابه رضي الله تعالى عنهم قدوتنا في ذلك أيضا وهذا ابن عباس رضي
الله عنهما يقول فيما روى عنه البيهقي في " الأسماء والصفات ":
" إذا خفي عليكم شئ من القرآن فاتبعوه من الشعر.. "
وإذا كانت المبتدعة قد سئمت قول الأخطل هذا فقد أورد لهم ابن الجوزي
بيتا آخر بعده وأزيدهم بيتا ثالثا لبعض العرب فأقول:
إذا ما علونا واستوينا عليهم * جعلناهم مرعى لنسر وطائر
121

وروى إسماعيل بن أبي خالد الطائي قال: العرش ياقوتة حمراء.
قلت: وجميع السلف على إمرار هذه الآية كما جاءت من غير
تفسير ولا تأويل (52).
قال عبد الله بن وهب: كنا عند مالك بن أنس فدخل رجل فقال:
يا أبا عبد الله (الرحمن على العرش استوى) كيف استوى؟ فأطرق
مالك وأخذته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال: الرحمن على العرش استوى
كما وصف نفسه ولا يقال له كيف، وكيف عنه مرفوع وأنت رجل سوء
صاحب بدعة فأخرجوه فأخرج.

(52) ذكر الحافظ أبو حيان رحمه الله تعالى في تفسيره " النهر الماد " (1 / 254)
المطبوع في ثلاثة مجلدات مستقلة عند تفسير قوله تعالى: (وسع كرسيه
السماوات والأرض) أن ابن تيمية قال في رسالة له كما قرأها الحافظ أبو حيان
وهي بخط ابن تيمية معاصره: " إن الله يجلس على العرش وقد أخلى مكانا
يقعد فيه معه رسول الله صلى الله عليه وسلم " عياذا بالله تعالى وهذا الكلام محذوف من الطبعة
التي بهامش " البحر المحيط " لأن مصححه بدار السعادة حذفها لاستشناعها
وطلب من الإمام المحدث الكوثري والإمام المحدث سيدي عبد الله بن
الصديق الغماري أن يسجلا ذلك عليه عندما راجعاه وقد نبها على ذلك في
بعض كتبهما. وكلام ابن تيمية هذا ثابت في كتاب تلميذه ابن القيم " بدائع
الفوائد " (4 / 39) ونقله عن بعض السلف وهو مردود على قائله لو ثبت عنه،
كما نقله عن الدارقطني في أبيات ذكرها هنالك ولا تصح نسبتها للدارقطني
لأن في سندها إليه كذابان حنبليان مجسمان وهما ابن كادش والعشاري وكان
على ابن القيم لو كان يعرف الجرح والتعديل والرجال أن يرد تلك الأبيات ويبين
أنها منحولة زورا على الدارقطني لكنه إما أنه لا يعلم ذلك وإما أنه تغاضى
عنه وأحلاهما مر.
وأعود فأقول: لقد ثبت تأويل الاستواء عن السلف، ففي تفسير الحافظ ابن
جرير السلفي (1 / 192) تأويل الاستواء بعلو الملك والسلطان وهو تأويل
مقبول، وفي البخاري تأويل أبي العالية الاستواء بالارتفاع فإن كان يريد ارتفاع
الربوبية على رتبة العبودية بعلو الملك والسلطان والقهر والعظمة كما يقول
الحافظ ابن جرير السلفي فتأويل مقبول لا ترفضه قواعد الشريعة ولا لغة
العرب، وأما إن كان مراده ارتفاع الذات المتخيلة فهو تأويل مردود، وما أظن
أن أبا العالية أراد ذلك ولا قصده. ونحن نقول: معنى (الرحمن على العرش
استوى) أي: الرحمن صاحب الملك والإرادة والقهر في هذا العالم من عرشه
إلى فرشه، وذكر العرش هنا دون غيره لأنه أعظم المخلوقات وأكبرها فإذا كان
مستو عليه بالقهر والربوبية اقتضى أنه مستو على كافة خلقه بهذا المعنى من
باب أولى، فالاستواء عندنا هنا هو الاستيلاء والقهر أو تفويض معناه إلى الله
وتنزيهه عن كل ما يخطر في الذهن وعن ما تزعمه المجسمة كالحراني وأضرابه
من القعود والأربع أصابع، وهذا الذي تقتضيه لغة العرب مع نصوص الكتاب
والسنة، أما لغة العرب: ففي " مفردات " الراغب في مادة (سوا) ص (251)
" الاستواء - متى عدي بعلى اقتضى معنى الاستيلاء كقوله تعالى: (الرحمن
على العرش استوى) "، وأما في الكتاب الكريم: فقوله - تعالى: (وهو القاهر
فوق عباده) فبين أن فوقيته واستواءه بالقهر لا بالمكان، وأما السنة: فثبت في
صحيح مسلم (4 / 61) وغيره: " اللهم أنت الظاهر فليس فوقك شئ وأنت
الباطن فليس دونك شئ " قال الحافظ البيهقي في " الأسماء والصفات "
(400):
" استدل بعض أصحابنا بهذا الحديث على نفي المكان عن الله تعالى، فإذا
لم يكن فوقه شئ ولا دونه - أي تحته - شئ لم يكن في مكان، ا ه‍ وما بين
الشرطتين من توضيحي، وكل هذه النصوص تنفي وتبطل لفظة " بذاته " التي
يوردها بعض المجسمة في قولهم: " الله على عرشه استوى بذاته "!! وتثبت
معنى الاستيلاء والقهر والعلو المعنوي كما قدمنا، وقد قال الحافظ ابن حجر
في الفتح (6 / 136) أيضا:
" ولا يلزم من كون جهتي العلو والسفل محال على الله أن لا يوصف بالعلو،
لأن وصفه بالعلو من جهة المعنى، والمستحيل كون ذلك من جهة الحس " ا ه‍
وقد ذكر الحافظ في الفتح (1 / 508) عند شرح حديث: " إن أحدكم إذا قام
في صلاته فإنه يناجي ربه أو إن ربه بينه وبين القبلة فلا يبزقن أحدكم قبل
قبلته... " الحديث قال ابن حجر:
" وفيه الرد على من زعم أنه على العرش بذاته ".
فإن قال قائل:
" إن قولكم: معنى استوى قهر واستولى وملك يقتضي المغالبة، أي أنه لم يكن
قاهرا للعرش ثم غلب على الأمر فقهر واستولى أليس كذلك؟ "!!
قلنا: لا وإنما هذا خيال فاسد وتصور باطل قام بذهنك وسمعته أو قرأته من
بعض كتب المجسمة فظننته حقا، وهذا الخيال والتصور باطل بصريح العقل
والنقل ونحن نضرب لك مثالا لبيان بطلانه حتى تتحقق من ذلك فنقول لك:
ألم تعلم أن الله تعالى يخبرنا عن يوم القيامة فيقول لنا في كتابه العزيز: (لمن
الملك اليوم؟!) فنقول لك: هل كان الملك قبل ذلك اليوم لغير الله تعالى؟!!
الجواب: لا قطعا.
إذن لم يلزم من قول الله تعالى: (لمن الملك اليوم) أن الملك قبل ذلك
اليوم كان لغيره سبحانه، وكذلك قولنا: استوى معناه: قهر واستولى، ولا يلزم
منه أنه لم يكن مستوليا أو قاهرا قبل ذلك والله الموفق والهادي للصواب.
ونستأنس فنقول لقد وردت أقوال عن الصحابة وأبي الحسن الأشعري تؤيد ما
ذهبنا إليه ودللنا عليه وتعضده منها: ما روى الإمام الربيع بن حبيب الأزدي
البصري في " جامعه الصحيح " وهو كتاب محفوظ منقول بالاعتناء عند أهل
مذهبه ككتب الفقه المنقولة عن الأئمة المقتدى بهم ففيه (3 / 35) ما نصه:
وأخبرنا أبو ربيعة زيد بن عوف العامري البصري قال أخبرنا حماد بن سلمة عن
122



ثابت البناني عن أبي عثمان النهدي إن أبا موسى الأشعري قال كنا مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم في سفر لما دنونا من المدينة كبر الناس ورفعوا أصواتهم فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: " يا أيها الناس إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إن الذي تدعونه بينكم وبين
أعناق ركابكم " ثم قال صلى الله عليه وسلم: " يا أبا موسى هل أدلك على كنز من كنوز الجنة "
قال قلت وما هو يا رسول الله قال " لا حول ولا قوة إلا بالله " قال جابر ومعنى
قول النبي صلى الله عليه وسلم عندنا " إن الذي تدعونه بينكم وبين أعناق ركابكم " وذلك أن
الله تعالى يقول: (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو
سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا) وقال (ونحن
أقرب إليه من حبل الوريد) والتشبيه والتحديد لا يكون إلا لمخلوق لأن
المخلوق إذا قرب من موضع تباعد من غيره وإذا كان في مكان عدم من غيره
لأن التحديد يستوجب الزوال والانتقال والله تعالى عز عن ذلك.
قال جابر بن زيد حدثنا أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يوشك الشرك
أن ينتقل من ربع إلى ربع ومن قبيلة إلى قبيلة " قيل يا رسول الله وما ذلك الشرك
قال " قوم يأتون بعدكم يحدون الله حدا بالصفة ".
قال جابر بن زيد سئل ابن عباس عن قوله تعالى (الرحمن على العرش
أستوى) فقال ارتفع ذكره وثناؤه على خلقه لا على ما قال المنددون أن له
أشباها وأندادا تعالى الله عن ذلك.
قال وحدثنا إسماعيل ابن إبراهيم قال حدثنا ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن
عبد الله بن عمر إنه سئل عن الصخرة التي كانت في بيت المقدس فقال له إن
ناسا يقولون فذكر قولهم سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا فارتعد ابن عمر
فرقا وشفقا حين وصفوه بالحدود والانتقال فقال ابن عمر إن الله أعظم وأجل
أن يوصف بصفات المخلوقين هذا كلام اليهود أعداء الله إنما يقولون (الرحمن
على العرش أستوى) أي استوى أمره وقدرته فوق بريته.
قال ليث قال محمد بن الحنفية: قاتل الله أهل الشام ما أكفرهم أو قال ما
أضلهم يقولون وضع الله قدمه على صخرة بيت المقدس وقد وضع عبد من
عباده يعني إبراهيم عليه السلام قدمه على حجر فجعله قبلة للناس تكذيبا
لقولهم وردا لباطلهم وقال الحسن ارتفع ذكره وثناؤه ومجده على خلقه ولا
يوصف الله تبارك وتعالى بزوال من مكان إلى مكان. قال: وسئل هشيم عن
ذلك وقال كان أصحابنا يقولون قهر العرش. وقال الحسن في قوله (ثم استوى
إلى السماء وهي دخان) أي استوى أمره وقدرته إلى السماء وقوله (ثم أستوى
على العرش) يعني استوى أمره وقدرته ولطفه فوق خلقه ولا يوصف الله بصفات
الخلق ولا يقع عليه الوصف كما يقع على الخلق. وكان عبد الله بن مسعود
وعائشة وابن عمر وابن الحنفية وعروة بن الزبير ينكرون ما يقول أهل الشام في
الصخرة وينهون عنه ويشددون فيه. ا ه‍.
ومنها: ما في كتاب " الإبانة " لأبي الحسن الأشعري وهو من أول مؤلفاته خلافا
لما تزعمه المجسمة أنه آخر مؤلفاته في النسخة المحققة على أربع نسخ خطية
ما نصه:
" وأن الله تعالى استوى على العرش على الوجه الذي قاله، وبالمعنى الذي
أراده، استواء منزها عن المماسة والاستقرار، والتمكن والحلول والانتقال، لا
يحمله العرش، بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته ومقهورون في
قبضته، وهو فوق العرش وفوق كل شئ إلى تخوم الثرى، فوقية لا تزيده قربا
إلى العرش والسماء، بل هو رفيع الدرجات عن العرش، كما أنه رفيع الدرجات
عن الثرى، وهو مع ذلك قريب من كل موجود، وهو أقرب إلى العبد من حبل
الوريد، وهو على كل شئ شهيد " انتهى كلام أبي الحسن الأشعري من
" الإبانة ".
وهذا النص من الإبانة ليس موجودا في النسخ المطبوعة المتداولة بأيدي
الناس، وأنما هو ثابت في مخطوطة نسخة بلدية الإسكندرية وهو منقول ثابت
في النسخة المطبوعة التي حققتها الدكتورة فوقية حسين محمود طبع دار
الأنصار بالقاهرة الطبعة الأولى 1397 ه‍ فتنبه.
وينبغي التنبيه أيضا ههنا على: أن كتاب " الإبانة " يعتبر من الكتب الهادمة
لعقائد المجسمة والمشبهة، ويدل على ذلك أشياء كثيرة فيه موجودة ومسطرة
حتى في جميع النسخ المتداولة المطبوعة التي بأيدي الناس ونذكر بعضها
فنقول: ذكر أبو الحسن الأشعري في مقدمة الإبانة ما نصه: " ليست له صورة
تقال ولا حد يضرب له مثال " ا ه‍ وهذا يهدم ما تزعمه المجسمة من أن لله تعالى
صورة وحد، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، وفي كتابنا (إلقام الحجر) ص
(17 - 20) ذكر باقي المسائل ببعض توسع فليراجعها من شاء.
وأما رد الإمام أبي الحسن الأشعري تفسير الاستواء بالاستيلاء فنحن لا نوافقه
في ذلك أبدا، ونقول إنه قال ذلك: بسبب ردة فعل حصلت عنده من
المعتزلة، وهم وإن لم نوافقهم في كثير من مسائلهم إلا أننا هنا نوافقهم ونعتقد
أنهم مصيبون في هذه المسألة، لما دللنا عليه وأوضحناه.
وهنا أمر مهم جدا وهو: أننا لا نقول بأن الله تعالى موجود في كل مكان البتة
بل نكفر من يقول ذلك ونعتقد أن الله سبحانه موجود بلا مكان، لأنه خالق
المكان.
122

وقد حمل قوم من المتأخرين هذه الصفة على مقتضى الحس
فقالوا: " استوى على العرش بذاته "، وهي زيادة لم تنقل (53)، إنما
فهموها من إحساسهم، وهو أن المستوي على الشئ إنما تستوي عليه

(53) الغريب أن المبتدعة يقولون: لا نصف الله تعالى إلا بما وصف به نفسه، ثم
يقولون: استوى على العرش بذاته، فمن أين جاءوا بلفظة " بذاته " هذه؟! وأين
وردت في الكتاب والسنة؟! وهي لفظة تفيد التجسيم صراحة وتؤيد قول أئمتهم
" بجلوس معبودهم على العرش حتى يفضل منه مقدار أربع أصابع "!!
وقد وقع بذلك الخلال فنقل في كتابه " السنة " وما أحراه بأن يسمى كتاب البدعة
عن مجاهد بسند ضعيف أكثر من خمسين مرة تفسير المقام المحمود الوارد
في قوله تعالى: (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) بجلوس الرب تعالى
عما يقولون على العرش وإجلاسه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بجنبه في الفراغ المقدر
عندهم بأربع أصابع، وهذه هي عقيدة الشيخ الحراني كما نقلها الحافظ أبو
حيان من خطه في تفسيره (النهر الماد) كما ذكرنا ذلك قريبا، كما أنها عقيدة
تلميذ الحراني: ابن القيم كما ذكرها في " بدائع فوائده " (4 / 39 - 40) وهما
بعد ذكر هذه العقيدة لن يبرءا من التجسيم مهما نقلا من نصوص في ذم
التشبيه، وخصوصا أن الشيخ الحراني يقول في " تأسيسه " (1 / 109): " وإذا
كان كذلك فاسم المشبهة ليس له ذكر بذم في الكتاب والسنة ولا كلام أحد
من الصحابة والتابعين " اه‍ ويقول في تأسيسه (1 / 101) أيضا: " وليس في
كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قول أحد من سلف الأمة وأئمتها أنه ليس بجسم
وأن صفاته ليست أجساما وأعراضا؟! فنفي المعاني الثابتة بالشرع والعقل بنفي
ألفاظ لم ينف معناها شرع ولا عقل جهل وضلال "!!! وقوله أيضا في تأسيسه
(1 / 111): " والباري سبحانه وتعالى فوق العالم فوقية حقيقة ليست فوقية
الرتبة " قلت: وقد بين لنا فيما نقله من خطه الحافظ أبو حيان ما هي الفوقية
الحقيقة عنده وعند تلميذه ابن زفيل صاحب بدائع الفوائد وأنها قصة الأصابع
الأربع، فهذا الذي نقلناه في شرح وبيان لفظة " بذاته " التي يزيدونها بعد
الاستواء أو العلو من كيسهم وبيان المراد بها عند الخلال الذي يفسرها خلاف
تفسير النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين للمقام المحمود بالشفاعة ومقلديه كالشيخ
الحراني وتلميذه ابن زفيل ومقلدهما المحدث!! المتناقض!! وأضرابهم إن لم
يكن تجسيما صريحا فما هو التجسيم إذن؟!
وخصوصا أن الحراني بتشديد الراء!! يقول في تأسيسه (1 / 568): " ولو قد
شاء - الله - لاستقر على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته ولطف ربوبيته فكيف
على عرش عظيم " ا ه‍ وهو وإن كان قد نقله عن بعض أسلافه الذين يوصي
بكتبهم أشد الوصية لما حوت بزعمه من خالص التوحيد كرد الدارمي على بشر
المريسي فهو مقر لذلك الهذيان غير منكر له، وناقل الكفر المقر له والذي لم
ينكره وإنما يودعه في كتبه ومصنفاته لترويجه كافر أيضا عند جميع العقلاء،
على أننا قد بينا في غير هذا الموضع أنه يقول أيضا مثل هذا الذي ينقله فهو
كلامه الأصلي بلا مرية ولا شك.
وقد أنكر الحافظ الذهبي - الذي تعدل مزاجه فيما بعد شبابه ورجع عما أسلف
- في كتابه " سير أعلام النبلاء " على من زاد لفظة " بذاته " بعد العلو أو الاستواء
ونحوهما فقال هنالك (19 / 607) ما نصه:
" قد ذكرنا أن لفظة بذاته لا حاجة إليها وهي تشغب النفوس.. " ا ه‍ وأزيد
فأقول: وتقود إلى الكفر وترمي صاحبها في النار نسأل الله تعالى السلامة والوفاة
على الإيمان الكامل والعقيدة الصافية الصحيحة. آمين.
127

ذاته، قال أبو حامد (المجسم): الاستواء مماسته وصفة لذاته، والمراد
به القعود، قال: وقد ذهبت طائفة من أصحابنا إلى أن الله سبحانه
وتعالى على عرشه قد ملأه، وأنه يقعد، ويقعد نبيه صلى الله عليه وسلم معه على
128

العرش (54) يوم القيامة.
قال أبو حامد: والنزول هو انتقال.
قلت: وعلى ما حكى تكون ذاته أصغر من العرش (55) فالعجب
من قول هذا، ما نحن مجسمة..؟؟!!
وقيل لابن الزاغوني (المجسم): هل تجددت له صفة لم تكن له
بعد خلق العرش..؟ قال: لا إنما خلق العالم بصفة التحت، فصار
العالم بالإضافة إليه أسفل فإذا ثبت لإحدى الذاتين صفة التحت تثبت
للأخرى صفة استحقاق الفوق قال: وقد ثبت أن الأماكن ليست في
ذاته، ولا ذاته فيها، فثبت انفصاله عنها، ولا بد من شئ يحصل به
الفصل، فلما قال: (ثم استوى) علمنا اختصاصه بتلك الجهة.
قال ابن الزاغوني (المجسم): ولا بد أن تكون لذاته نهاية وغاية
يعلمها.
قلت: وهذا رجل لا يدري ما يقول لأنه إذا قدر غاية وفصلا بين
الخالق والمخلوق فقد حدده، وأقر بأنه جسم، وهو يقول في كتابه:
إنه ليس بجوهر، لأن الجوهر ما تحيز ثم يثبت له مكانا يتحيز فيه.
قلت: وهذا كلام جهل من قائله، وتشبيه محض، فما عرف هذا
الشيخ ما يجب للخالق، وما يستحيل عليه. فإن وجوده تعالى ليس
كوجود الجواهر والأجسام التي لا بد لها من حيز، والتحت والفوق إنما

(54) فإذا لم يكفر من يقول بهذا ومثله فمن يكفر إذن؟!!
(55) وهؤلاء كان اللازم في حقهم أن يقولوا: (العرش أكبر)!!! بدل قولهم: (الله
أكبر) تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
129

يكون فيما يقابل ويحاذي، ومن ضرورة المحاذي أن يكون أكبر من
المحاذي أو أصغر أو مثله، وإن هذا ومثله إنما يكون في الأجسام،
وكل ما يحاذي الأجسام يجوز أن يمسها، وما جاز عليه مماسة الأجسام
ومباينتها فهو حادث، إذ قد ثبت أن الدليل على حدوث الجواهر قبولها
للمباينة والمماسة. فإذا أجازوا هذا عليه، قالوا بجواز حدوثه، وإن
منعوا جواز هذا عليه، لم يبق لنا طريق لإثبات حدوث الجواهر، ومتى
قدرناه مستغنيا عن المحل والحيز ومحتاجا إلى الحيز، ثم قلنا، إما أن
يكونا متجاورين أو متباينين، كان ذلك محالا.
فإن التجاور والتباين من لوازم التحيز في المتحيزات، وقد ثبت أن
الاجتماع والافتراق من لوازم المتحيز، والحق سبحانه وتعالى لا يوصف
بالتحيز، لأنه إن كان متحيزا لم يخل إما أن يكون ساكنا في حيزه،
أو متحركا عنه، ولا يجوز أن يوصف بحركة ولا سكون، ولا اجتماع
ولا افتراق، وما جاور أو باين فقد تناهى ذاتا، والمتناهي إذا خص
بمقدار، استدعى مخصصا، وكذا ينبغي أن يقال، ليس بداخل في
العالم وليس بخارج منه، لأن الدخول والخروج من لوازم المتحيزات
وهما كالحركة والسكون وسائر الأعراض التي تختص بالأجرام. وأما
قولهم: خلق الأماكن لا في ذاته، فثبت انفصاله عنها.
قلنا: ذاته تعالى لا تقبل أن يخلق فيها شئ، ولا أن يحل فيها
شئ، والفصل من حيث الحس يوجب عليه ما يوجب على الجواهر،
ومعنى الحيز أن الذي يختص به يمنع مثله أن يوجد، وكلام هؤلاء كله
مبني على الحس، وقد حملهم الحس على التشبيه والتخليط حتى قال
بعضهم:
إنما ذكر الاستواء على العرش لأنه أقرب الموجودات إليه!!
130

وهذا جهل أيضا. لأن قرب المسافة لا يتصور إلا في حق الجسم.
وقال بعضهم: جهة العرش تحاذي ما يقابله من الذات ولا تحاذي
جميع الذات، وهذا صريح في التجسيم والتبعيض، ويعز علينا كيف
ينسب هذا القائل إلى مذهبنا؟
واحتج بعضهم بأنه على العرش بقوله تعالى: (إليه يصعد الكلم
الطيب والعمل الصالح يرفعه) * فاطر: 10. وبقوله: (وهو القاهر فوق

* والصحيح في معنى قوله تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح
يرفعه) هو ما قاله الحافظ المتقن أبو حيان في تفسيره " البحر المحيط " (7 / 303)
حيث قال:
" وصعود الكلام إليه تعالى مجاز في الفاعل وفي المسمى إليه لأنه تعالى ليس
في جهة، ولأن الكلم ألفاظ لا توصف بالصعود، لأن الصعود يكون من الأجرام،
وإنما ذلك - أي معنى الآية -: كناية عن القبول، ووصفه بالكمال، كما يقال:
علا كعبه وارتفع شأنه، ومنه: ترافعوا إلى الحاكم ورفع الأمر إليه، وليس هناك
علو في الجهة " ا ه‍ وما بين الشرطتين من إيضاحي.
وقد ظنت المجسمة من ظاهر هذه الآية أنها دليل على أن معبودهم في السماء
أو فوق السماء على العرش وأن الأعمال تصعد إليه!! ولم ينظروا إلى أساليب
العربية، ولا إلى كلام العرب الذين نزل القرآن الكريم بلغتهم، ولم يلحظوا أن
هؤلاء العرب كانوا يستعملون الاستعارات والمجاز والتفنن في التعبير حتى أنهم
تميزوا بهذه الفصاحة عن سائر الأمم.
ونحن في مثل هذا المقام لا بد لنا أن نذكر بعض الآيات التي أخذت المجسمة
بظواهرها لتستدل بها على العلو الحسي الذي تعتقده، ثم نردف ذلك بذكر بعض
الآيات والأحاديث التي تبطل لهم استدلالهم والتي يشير ظاهرها على أنه سبحانه
موجود في كل مكان، وهذه عقيدة باطلة أيضا، ليدرك أهل العلم وطلابه أن أولئك
المجسمة يؤولون الآيات التي لا تدل على عقيدتهم الفاسدة التي تنص على أنه
سبحانه في السماء أو على العرش حقيقة، ولا يؤولون الآيات الأخرى التي يؤخذ
من ظاهرها أنه سبحانه عما يقولون حال في السماء أو فوق العرش، والحق في
الجميع أي في هذين القسمين أن الظاهر غير مراد وأن الله سبحانه موجود بلا
مكان لأنه خالق المكان ولا يجوز أن يحل فيه، وأنه منزه عن أن يكون في كل
مكان أو على العرش أو في السماء، وإن جاز أن تطلق هذه الظواهر مجازا ويراد
منها غير ظاهرها وذلك حسب سياق النصوص التي وردت فيها، فهي إطلاقات
عربية صحيحة غير مراد ظاهرها عند من تذوق هذه اللغة الفصيحة.
ومن تلك الآيات التي يستدل بها المجسمة أيضا قوله تعالى: (تعرج الملائكة
والروح إليه) أي: تعرج الملائكة إلى المكان الذي هو محلهم وهو في السماء،
لأن السماء محل بره وكرامته، وهذا تماما كقول الله تعالى حكاية عن سيدنا
إبراهيم عليه السلام (إني ذاهب إلى ربي) أي إلى الموضع الذي أمرني به،
أو إلى مفارقتكم للتفرغ لعبادة ربي وطاعته، وبمثل الذي قلناه قال القرطبي في
تفسيره (18 / 281). قال الحافظ ابن حجر في الفتح (13 / 416):
" قال البيهقي: صعود الكلام الطيب والصدقة الطيبة عبارة عن القبول، وعروج
الملائكة هو إلى منازلهم في السماء.. ".
ومن تلك الآيات أيضا قوله تعالى: (إني متوفيك ورافعك إلي) ومعناها ورافعك
إلى السماء الثانية، كما جاء في الصحيحين في حديث الإسراء أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم وجد سيدنا عيسى في السماء الثانية. فيكون معنى الآية إني رافعك إلى مكان
لا يستطيعون أن يصلوا إليك فيه، ولا يعني أن سيدنا عيسى عليه السلام رفع
إلى مكان فيه رب العالمين عند جميع العقلاء، كما لا يعني أنه الآن عند الله
حقيقة أو جالس مثلا بجنبه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وهذا تماما كقوله تعالى
في الظل في سورة الفرقان: (ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا) فقوله (إلينا) لا يعني
أن الظل في الليل يذهب عند الله وأن الله في مكان فليتيقظ أولوا الألباب،
وليبتعدوا عمن يفهم القرآن بالعجمية والظواهر، وليفهمه بالعربية الفصحى
وبأساليبها في المجازات الاستعارية، والدقائق البلاغية.
ومن تلك الآيات أيضا قوله تعالى: (أأمنتم من في السماء) ومعناها أأمنتم من
شأنه عظيم، لأن العرب إذا أرادت أن تعظم شيئا وصفته بالعلو فتقول: فلان اليوم
في السماء، وفي المقارنة تقول: أين الثرى من الثريا، والثريا نجم عال في
السماء.
فيكون معنى الآية أأمنتم من العظيم الجليل صاحب الرفعة والربوبية والبطش أن
يخسف بكم الأرض، أو يكون المراد بقوله تعالى: (من في السماء) سيدنا
جبريل أو أي ملك يرسله الله ليخسف أي قرية أو أي موضع من الأرض، كما
أرسل الملك الذي خسف الأرض بقوم سيدنا لوط عليه السلام، والملائكة
مسكنها السماء. بصريح أدلة كثيرة منها ما رواه البخاري (فتح 2 / 33) ومسلم
(برقم 632) مرفوعا: " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون
في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم - وهو أعلم
بهم -: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم
يصلون " هذا مع قول الله تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض
خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) فالعربي يفهم من هذا
أن الملائكة ليسوا في الأرض.
وأما الآيات التي فيها ذكر النزول كقوله تعالى: (نزل به الروح الأمين) الشعراء:
192 وقوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) فلا دلالة فيها لما تريده المجسمة
البتة، وإنما فيها أن الملائكة تنزل من السماء إلى الأرض، وأن القرآن نقله سيدنا
جبريل عليه السلام من السماء أو من اللوح المحفوظ الذي هو فوق السماء
السابعة إلى الأرض بأمر الله تعالى.
وكل ما أنعم الله به علينا من نعم ورزق أمدنا به يقال: أتانا من الله أو أنزله الله
تعالى إلينا، ومنه قوله تعالى (وأنزل الحديد) مع أن الحديد يستخرج من باطن
الأرض، ويقال: نزل الأمر بهم، ومنه قوله تعالى: (فإذا نزل بساحتهم فساء
صباح المنذرين) ومنه قوله تعالى: (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج)
الزمر: 6، وهذه الأنعام لم تمطر السماء بها قط، ومعنى أنزل هنا جعل كما في
تفسير الحافظ السلفي ابن جرير (23 / 194).
ثم لنعلم جميعا أن هناك نصوص كثيرة في الكتاب والسنة الصحيحة يوهم ظاهرها
أن الله في الأرض وفي كل مكان منها:
قوله تعالى: (والله معكم) محمد: 35، وقوله: (وهو معكم أين ما كنتم)
الحديد: 4 والضمائر مثل (هو) تعود على الذوات لا على الصفات أصلا كما
هو مقرر في العربية والآية التي قبلها (والله معكم) تثبت ذلك قطعيا، وقوله
تعالى: (ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض، ما يكون من نجوى
ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا
هو معهم أين ما كانوا) المجادلة: 7
فلقائل أن يقول: قول من قال (إلا هو رابعهم): بالعلم، باطل، وهو تأويل
ركيك، وقول الله بعد ذلك: (إلا هو معهم أين ما كانوا) ينسف هذا التأويل
بالعلم نسفا، وله أن يقول: إن الصفات لا تفارق الموصوفات.
فإن قال قائل: إن قلتم أنه في كل مكان لزم منه أن يكون في الأماكن النجسة
والمستقذرة!! قال له خصمه: كلا بل هو متجاف عنها كما أن أحدنا يمكن أن
يكون في أي مكان أو كل مكان إلا أنه لا يكون ما دام عالما مختارا في القذر
أو النجس. وهذا افتراض لجدل باطل وتعالى الله عن ذلك.
وقوله تعالى: (ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون) أي ولو كشف الحجاب
لأبصرتم، فهذا ينفي التأويل للآية السابقة بالعلم، وكذلك ينفيه قوله تعالى:
(إنني معكما أسمع وأرى) والأصل في العربية في لفظة (إنني) أنها تعود على
الذات الموصوفة بالسمع والرؤية.
ويؤكد ذلك كله من القرآن قوله تعالى في شأن سيدنا موسى: (فلما أتاها نودي
من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله
رب العالمين، وأن ألق عصاك، فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب،
يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين) القصص (30 - 31).
فماذا تقول المجسمة في (نداء سيدنا موسى من شاطئ الوادي)؟!! (ومن
الشجرة)؟!! والمنادي سبحانه يقول: (أنا الله رب العالمين) ويقول لسيدنا
موسى: (أقبل ولا تخف)؟!!
ألا يدل ظاهر قوله: (أقبل ولا تخف) بعد قوله: (إني أنا الله رب العالمين)
على أن الله سبحانه كان في الأرض في تلك الناحية؟!!!
وبماذا يمكن أن يعدل عن ظاهر هذه الألفاظ؟!
ثم إن هناك أحاديث صحيحة تؤيد ظواهر مثل هذه الآية منها:
حديث البخاري (الفتح 1 / 509) عن عبد الله بن عمر مرفوعا:
" إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قبل وجهه فإن الله قبل وجهه إذا صلى ".
وفي رواية أخرى للبخاري من حديث سيدنا أنس مرفوعا:
" إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه أو إن ربه بينه وبين القبلة فلا يبزقن
أحدكم قبل قبلته.. " (الفتح 1 / 508) قال الحافظ ابن حجر هناك: " فيه الرد
على من أثبت أنه على العرش بذاته ".
وفي صحيح مسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) فتأمل.
ونحن لا نقول بهذه الظواهر الصريحة كما لا نقول بتلك الظواهر الصريحة لأن
الله سبحانه (ليس كمثله شئ) فليعلم أهل الحق أن لكل من الطرفين أشباه
أدلة وأن الحق سبحانه وتعالى منزه عن ذلك فهو موجود بلا مكان لأنه خالق
المكان ومجري الزمان فكل ما خطر ببالك فالله تعالى بخلاف ذلك (سبحان ربك
رب العزة عما يصفون) فتنبه وتيقظ ولا تغفل عن هذا التعليق وأمثاله، والله يقول
الحق وهو يهدي السبيل.
131

عباده) الأنعام: 18 وجعلوا ذلك فوقية حسية، ونسوا أن الفوقية الحسية
إنما تكون لجسم أو جوهر وأن الفوقية قد تطلق لعلو المرتبة فيقال:
فلان فوق فلان، ثم إنه كما قال " فوق عباده " قال: " وهو معكم ".
فمن حملها على العلم، حمل خصمه الاستواء على القهر. أخبرنا
علي بن محمد بن عمر الدباس، قال أنبأنا رزق الله بن عبد الوهاب
التميمي قال: كان أحمد بن حنبل يقول: الاستواء صفة مسلمة وليست
بمعنى القصد ولا الاستعلاء. قال: وكان أحمد لا يقول بالجهة للباري
لأن الجهات تخلى عما سواها. وقال ابن حامد: الحق يختص بمكان
دون مكان، ومكانه الذي هو فيه وجود ذاته على عرشه.
وقال: وذهبت طائفة إلى أن الله تعالى على عرشه: قد ملأه،
والأشبه أنه مماس للعرش والكرسي موضع قدميه.
قلت: المماسة إنما تقع بين جسمين، وما أبقى هذا في التجسيم
بقية..؟!!
135

فصل
واعلم أن كل من يتصور وجود الحق سبحانه وجودا مكانيا طلب
له جهة كما أن من تخيل أن وجوده وجودا زمانيا طلب له مدة في تقدمه
على العالم بأزمنة وكلا التخيلين باطل. وقد ثبت أن جميع الجهات
تتساوى بالإضافة إلى القائل بالجهة فاختصاصه ببعضها ليس بواجب
لذاته بل هو جائز فيحتاج إلى مخصص يخصصه ويكون الاختصاص
بذلك المعنى زائدا على ذاته وما تطرق الجواز إليه استحال قدمه لأن
القديم هو الواجب الوجود من جميع الجهات. ثم إن كل من هو في
جهة يكون مقدرا محدودا وهو يتعالى عن ذلك وإنما الجهات للجواهر
والأجسام لأنها أجرام تحتاج إلى جهة والجهة ليست في جهة وإذا ثبت
بطلان الجهة ثبت بطلان المكان ويوضحه أن المكان يحيط بمن فيه
والخالق لا يحويه شئ ولا تحدث له صفة.
فإن قيل: فقد أخرج في الصحيحين عن شريك بن عبد الله بن أبي
نمر عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أنه ذكر المعراج فقال فيه:
" فعلا به إلى الجبار تعالى " فقال: " وهو في مكانه يا رب خفف
عنا " (56).
فالجواب: إن أبا سليمان الخطابي قال: هذه لفظة تفرد بها

(56) هذه ألفاظ من حديث انفرد به البخاري في صحيحه (الفتح 13 / 478) وقد
أطال الحافظ ابن حجر في نقل أقوال الأئمة الحفاظ الذين ردوا هذه الألفاظ
وشنعوا عليها، وفي هذه المرة قل تعويمه للمسألة نسبيا إلا أنه لم يترك إظهار
تعصبه لعصمة " صحيح البخاري " رغم أنه أنصف في موضع هناك (الفتح
13 / 483) فقال: " قال الخطابي ليس في هذا الكتاب يعني صحيح البخاري
حديث أشنع ظاهرا ولا أشنع مذاقا من هذا الفصل... " ا ه‍ وذكر أن شريكا
راوي هذا الحديث وهو " شريك بن عبد الله بن أبي نمر القرشي " ترجمته في
" تهذيب التهذيب " (4 / 296 دار الفكر) وقد ذكر الحافظ في الفتح (13 / 485)
أيضا بعدما ذكر من وثق شريكا هذا أقوال الطاعنين فيه فقال:
" وقد سبق إلى التنبيه على ما في رواية شريك من المخالفة مسلم في صحيحه،
فإنه قال بعد أن ساق سنده وبعض المتن ثم قال: فقدم وأخر وزاد ونقص،
وسبق ابن حزم أيضا إلى الكلام في شريك أبو سليمان الخطابي كما قدمته،
وقال فيه النسائي وأبو محمد بن الجارود: ليس بالقوي، وكان يحيى بن سعيد
القطان لا يحدث عنه، نعم قال محمد بن سعد وأبو داود: ثقة فهو مختلف فيه
فإذا تفرد عد ما ينفرد به شاذا، وكذا منكرا على رأي من يقول المنكر والشاذ
شئ واحدا " ا ه‍ كلام الحافظ من الفتح.
قلت: وقد روى مسلم هذا الحديث دون منكرات شريك هذه ومخالفاته التي
خالف فيها الحفاظ وهي عشرة ذكرها الحافظ في الفتح (13 / 485) فليراجعها
من شاء.
136

شريك، ولم يذكرها غيره وهو كثير التفرد بمناكير الألفاظ، والمكان لا
يضاف إلى الله عز وجل، إنما هو مكان النبي صلى الله عليه وسلم ومعناه: مقامه الأول
الذي أقيم فيه ".
قال الخطابي: وفي هذا الحديث " فاستأذنت على ربي وهو في
داره " (57).
يوهم مكانا، وإنما المعنى، في داره التي دورها لأوليائه، وقد قال
القاضي أبو يعلى في كتابه " المعتمد ": إن الله عز وجل لا يوصف

(57) رواه البخاري (الفتح 13 / 422).
137

بالمكان. فإن قيل: نفي الجهات يحيل وجوده (58) قلنا: إن كان الموجود
يقبل الاتصال والانفصال فقد صدقت، فأما إذا لم يقبلهما فليس خلوه
من طرف النقيض بمحال.
فإن قيل: أنتم تلزموننا أن نقر بما لا يدخل تحت الفهم.
قلنا: إن أردت بالفهم التخيل والتصور فإن الخالق لا يدخل تحت
ذلك إذ ليس يحس ولا يدخل تحت ذلك إلا جسم له لون وقدر فإن
الخيال قد أنس بالمبصرات فهو لا يتوهم شيئا إلا على وفق ما رآه لأن
الوهم من نتائج الحس، وإن أردت أنه لا يعلم بالعقل فقد دللنا أنه
ثابت بالعقل لأن العقل مضطر إلى التصديق بموجب الدليل.
واعلم أنك لما لم تجد إلا حسا أو عرضا وعلمت تنزيه الخالق
عن ذلك بدليل العقل الذي صرفك عن ذلك فينبغي أن يصرفك عن
كونه متحيزا أو متحركا أو منتقلا، ولما كان مثل هذا الكلام لا يفهمه

(58) وقد أجاب على هذا أيضا الحافظ بن حجر في " لسان الميزان " (5 / 114
الهندية) فقال:
" وقوله: قال النافي: ساويت ربك بالشئ المعدوم إذ المعدوم لا حد له:
نازل، فإنا لا نسلم أن القول بعدم الحد يفضي إلى مساواته بالمعدوم بعد
تحقق وجوده " ا ه‍.
ومعنى قوله نازل: أي باطل وساقط.
وقول من قال: نفي الجهات يحيل وجوده.
فجوابه: نعم إن كان جسما وأنت قد تخيلته كذلك فإذا عرفت أنه سبحانه ليس
بجسم ولا عرض وآمنت بذلك صدقت وأيقنت أنه ليس كالمخلوقات فليس له
جهة سبحانه. وخصوصا إن علمت أيضا أن الأرض كروية فجهة فوق لشخص
في موضع من الأرض هي جهة تحت في الجانب المقابل من الكرة الأرضية
لشخص آخر فالعلو نسبي، وبهذا يسقط كلام من يتمسك بالجهة!!
138

العامي قلنا: لا تسمعوه ما لا يفهمه ودعوا اعتقاده لا تحركوه، ويقال
إن الله تعالى استوى على عرشه كما يليق به.
8) ومن الآيات قوله تعالى: (أأمنتم من في السماء) الملك 16.
قلت: وقد ثبت قطعا أنها ليست على ظاهرها (59)، لأن لفظة " في "
للظرفية والحق سبحانه غير مظروف، وإذا منع الحس أن يتصرف في
مثل هذا، بقي وصف العظيم بما هو عظيم عند الخلق.
9) ومنها قوله تعالى: (يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله) الزمر:
56.

(59) ومعنى قوله تعالى (أأمنتم من في السماء) إما أن يقال أن " من " عائد على
الله تعالى فيكون المراد: أأمنتم العظيم الجليل أن يخسف بكم الأرض، لأن
العرب تصف من أرادت تعظيمه وإجلاله وبيان سامي قدره ورفيع مكانته بأنه
في السماء، فتقول: فلان في السماء، وأين الثرى من الثريا ونحو ذلك، وهذا
مشهور ومعلوم وإما أن يراد ب‍ (من) الملك الذي يرسله الله عز وجل فيخسف
الأرض بالظالمين الفجار، والملائكة مسكنها السماء.
وقوله تعالى (أأمنتم من في السماء) مؤول عند المجسمة ب‍ (من على السماء)
بدليل قوله تعالى: (لأصلبنكم في جذوع النخل) أي عليها، لكنهم لم ينتبهوا
إلى أن التعبير ب‍ (في جذوع النخل) يقتضي المبالغة في الانتقام الشديد
في البلاغة ولذلك عبر عنها " بفي جذوع النخل " مجازا بدل " على جذوع
النخل، وهو الأصل، لأن ظاهر " في " في اللغة الظرفية، والله تعالى غير مظروف
كما قال المصنف، ومثل ما قلنا هنا من تأويل وتفسير قوله تعالى: (أأمنتم
من في السماء) قال الحافظ أبو حيان في تفسيره " البحر المحيط " (8 / 302)
والله الهادي.
فظاهر قوله (من في السماء) غير مراد كما أن ظاهر (وهو معكم) و (ونحن
أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون " غير مراد، وكذا ظاهر (وليعلم الله الذين
جاهدوا منكم ويعلم الصابرين " غير مراد أيضا لأنه يفيد حدوث علم جديد
لم يكن عند الله عز شأنه قبل الجهاد والصبر، والله الموفق.
139

أي في طاعته وأمره، أي لأن التفريط لا يقع إلا في ذلك، وأما
الجنب المعهود من ذي الجوارح، فلا يقع فيه تفريط (60).
وقال ابن حامد (المجسم): نؤمن بأن لله تعالى جنبا بهذه الآية.
قلت: واعجبا من عدم العقول!! إذا لم يتهيأ التفريط في جنب
مخلوق كيف يتهيأ في صفة الخالق؟!
وأنشد ثعلب وفسره:
" خليلي كفا فاذكرا الله في جنبي " أي في أمري...
10) ومنها قوله تعالى: (فنفخنا فيه من روحنا) التحريم: 12.
قال المفسرون: أي من رحمتنا (61).
وإنما نسب الروح إليه، لأنه بأمره كان.
11) ومنها قوله تعالى: (يؤذون الله) الأحزاب 57.
قلت: أي يؤذون أولياءه كقوله تعالى: (واسأل القرية) يوسف: 81،

(60) ومن الغريب العجيب أن ترى ابن القيم يثبت لله جنبين بهذه الآية التي لم
يذكر فيها إلا لفظ جنب، ويستعمل القياس في العقيدة فيقيس الخالق عن
المخلوق. وذلك في كتابه الصواعق المرسلة، (1 / 250) وانظر أيضا مختصر
الصواعق (1 / 33).
وقد روى الحافظ البيهقي في " الأسماء والصفات " ص (361) بإسناده عن
مجاهد في قوله عز وجل: (يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله) قال:
يعني ما ضيعت من أمر الله.
(61) وأوضح من ذلك أن يقال: (من روحنا) أي من الروح المخلوقة لنا التي شرفناها
بالإضافة لنا، وذلك كقوله تعالى: (أن طهرا بيتي للطائفين) فأضاف البيت
إلى نفسه تشريفا مع أنه لا يسكنه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.
140

أي: أهلها.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: " أحد جبل يحبنا ونحبه " (62).
قال الشاعر:
أنبئت أن النار بعدك أوقدت
واستب بعدك يا كليب المجلس
12) ومنها قوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من
الغمام) البقرة 210، أي بظلل.
وكذلك قوله تعالى: (وجاء ربك) الفجر: 22.
قلت: قال القاضي أبو يعلى عن أحمد بن حنبل إنه قال: في قوله
تعالى: (يأتيهم) قال المراد به: قدرته وأمره (63)، قال: وقد بينه في
قوله تعالى: (أو يأتي أمر ربك)، ومثل هذا في القرآن: (وجاء
ربك) قال: إنما هو قدرته.
قال ابن حامد (المجسم): هذا خطأ، إنما ينزل بذاته بانتقال (64).
قلت: وهذا الكلام في ذاته تعالى بمقتضى الحس، كما يتكلم
في الأجسام، قال ابن عقيل في قوله تعالى: (قل الروح من أمر
ربي) الإسراء: 85.

(62) رواه الإمام مالك في الموطأ وأحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة.
(63) رواه عنه الحافظ البيهقي بإسناد صحيح كما في " البداية والنهاية " (10 / 327).
(64) ما أبشع هذا الكلام الذي جاء به هذا المجسم!! وهذا القائل هو إمام الشيخ
الحراني بتشديد الراء!! الذي يثبت الحركة لله تعالى عما يقول ويدعي أنها
مذهب السلف في " موافقته " التي بهامش " منهاجه " (2 / 4) فتأمل!!
141

قال: الله كف خلقه عن السؤال عن مخلوق، فكفهم عن الخالق
وصفاته أولى. وأنشدوا:
(حقيقة المرء ليس المرء يدركها
فكيف يدرك كنه الخالق الأزلي)
142

فصل
ذكر الأحاديث التي سموها أخبار الصفات
إعلم أن للأحاديث دقائق وآفات لا يعرفهما إلا العلماء
الفقهاء (65)، تارة في نظمها، وتارة في كشف معناها، وسنوضح بعض
ذلك إن شاء الله تعالى.

(65) ذلك أن الحفاظ عرفوا الحديث الصحيح وحدوه بخمسة أشياء أو شروط وهي:
1) اتصال السند 2) عدالة الراوي 3) ضبطه 4) عدم الشذوذ 5) عدم العلة.
ولأن أكثر الحفاظ لم يجمعوا بين الفقه والحديث فلم يراعوا حقيقة الشرط الرابع
والخامس الذي وضعوه غالبا لأننا لا ننفي أنهم يحكمون أحيانا على الحديث
بالشذوذ أو بأنه معلول إلا أن ذلك قليل في الواقع.
وها هم يأتون في كلامهم على الحديث المعلل بحديث سيدنا أنس الذي في
صحيح مسلم: " صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يفتتحون
القراءة بالحمد لله رب العالمين. لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم أول
القراءة ولا آخرها " ويقولون:
إن عبارة " لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم أول القراءة ولا آخرها " ليست
من كلام سيدنا أنس وإنما هي من كلام الراوي عنه، لأنه فهم من كلام سيدنا
أنس في قوله: " يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين " أنه يعني أنهم ما
كانوا يقرأون البسملة، وليس مراد سيدنا أنس ذلك، وإنما مراده أنهم كانوا
يبدأون القراءة بسورة الحمد لله رب العالمين لا بالسورة الصغيرة.
وهكذا فإن هذه العلل أو الشذوذات الدقيقة لا يستطيع الحافظ الذي لم يشتغل
بالفقه أن يدركها ويحكم بشذوذ الحديث أو عليته، وإنما هذا من اختصاص
الحافظ الفقيه، وسأعقد إن شاء الله تعالى ملحقا آخر هذا الكتاب في هذه
المسألة.
143

الحديث الأول
روى البخاري (فتح 11 / 3) ومسلم (4 / 2017 برقم 115) في
الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم:
" خلق الله آدم على صورته " (66).
قلت: للناس في هذا مذهبان. أحدهما: السكوت عن تفسيره،
والثاني: الكلام في معناه، واختلف أرباب هذا المذهب في الهاء على
من تعود..؟ على ثلاثة أقوال:
أحدها: تعود على بعض بني آدم (67)، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم مر برجل
يضرب رجلا وهو يقول:
قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك. فقال:
" إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه فإن الله تعالى خلق آدم على
صورته " (68).

(66) المراد بقوله: (على صورته) أي على صورة المضروب، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم
مر على رجل يضرب غلامه أو يزجره ويقول له: " قبح الله وجهك ووجه من
أشبهك " فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم فأنكر ذلك لأن وجوه البشر كلها على صورة أبيهم
سيدنا آدم عليه السلام وهو نبي مرسل فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:
" لا تقبح الوجه فإن الله خلق آدم على صورته " أي على صورة هذا الوجه الذي
تقبحه وتضربه: أي مثله في الصورة، فليس شئ من ذلك يتعلق أو يعود على
الله تعالى، فتنبه، وسيأتي تخريج هذا الحديث بعد قليل وضبط ألفاظه الواردة
والله الموفق.
(67) وهذا هو الوجه الصحيح كما قدمنا ولا محيد عنه.
(68) رواه الإمام أحمد في مسنده (2 / 434) والبخاري بنحوه في الأدب المفرد ص
144

قالوا: وإنما اقتصر بعض الرواة على بعض الحديث فيحمل
المقتصر على المفسر قالوا: فوجه من أشبه وجهك يتضمن سب الأنبياء
والمؤمنين.
وإنما خص آدم بالذكر، لأنه هو الذي ابتدأت خلقة وجهه على
هذه الصورة التي احتذي عليها من بعده، وكأنه نبه على أنك سببت
آدم وأنت من أولاده وذلك مبالغة في زجره، فعلى هذا تكون الهاء كناية
عن المضروب، ومن الخطأ الفاحش أن ترجع إلى الله عز وجل بقوله:
ووجه من أشبه وجهك فإنه إذا نسب إليه شبه سبحانه وتعالى كان تشبيها
صريحا.
وفي صحيح مسلم (4 / 2017) من حديث أبي هريرة - رضي
الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
" إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه، فإن الله تعالى خلق آدم على
صورته ".
القول الثاني (69): " إن الهاء كناية عن اسمين ظاهرين، فلا يصح
أن يضاف إلى الله عز وجل لقيام الدليل على أنه ليس بذي صورة،
فعادت إلى آدم، ومعنى الحديث: إن الله خلق آدم على صورته التي

(73) وابن أبي عاصم في " سنته " (228 برقم 516 - 521) والبيهقي في
" الأسماء والصفات " ص (291 بتحقيق المحدث الكوثري رحمه الله تعالى)
وذكر ذلك الحافظ ابن حجر في الفتح (5 / 183).
قلت: وروايات هؤلاء جميعا تفيد ما ذكره الحافظ ابن الجوزي من أن النبي
صلى الله عليه وسلم مر برجل يضرب رجلا أو غلاما والله الموفق.
(69) وهذا ما ذهب إليه المحدث المفيد شيخنا عبد الله بن الصديق في كتابه " فتح
المعين " ص (34 طبعة دار الإمام النووي بتحقيقنا).
145

خلقه عليها تاما لم ينقله من نطفة إلى علقة كبنيه هذا مذهب أبي
سليمان الخطابي، وقد ذكره ثعلب في أماليه.
القول الثالث: " إنها تعود إلى الله تعالى " وفي معنى ذلك قولان:
أحدهما: أن تكون صورة ملك، لأنها فعله، فتكون إضافتها إليه
من وجهين:
أحدهما: التشريف بالإضافة كقوله تعالى: (أن طهرا بيتي
للطائفين) الحج: 26.
والثاني: لأنه ابتدعها على غير مثال سابق. وقد روي هذا الحديث
من طريق ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تقبح الوجه فإن آدم
خلق على صورة الرحمن " (70).
قلت: هذا الحديث فيه ثلاثة علل:
أحدها: إن الثوري والأعمش اختلفا فيه فأرسله الثوري ورفعه
الأعمش.
والثاني: أن الأعمش كان يدلس فلم يذكر أنه سمعه من حبيب بن
أبي ثابت.
والثالثة: أن حبيبا كان يدلس فلم يعلم أنه سمعه من عطاء.
قلت: وهذه أدلة توجب وهنا في الحديث ثم هو محمول على

(70) رواه الطبراني في معجمه الكبير (12 / 430 برقم 13580) وابن أبي عاصم
في " سنته " ص (229) وهو حديث ضعيف بل باطل بإثبات لفظة: " الرحمن "
فيه. وقد بين ذلك الحفاظ منهم الحافظ البيهقي في " الأسماء والصفات " ص
(291 بتحقيق الإمام المحدث الكوثري رحمه الله تعالى) وقد بينت ذلك أيضا
في تعليقي على كتاب شيخنا إمام العصر أبي الفضل الغماري " فتح المعين "
ص (35) فراجعه إن شئت.
146

إضافة الصورة إليه ملكا.
والقول الثاني: أن تكون صورة بمعنى الصفة. تقول: هذا صورة
هذا الأمر: أي صفته، ويكون المعنى خلق آدم على صفته من الحياة
والعلم والقدرة والسمع والبصر والإرادة والكلام فميزه بذلك على جميع
الحيوانات (71)، ثم ميزه على الملائكة بصفة التعالي حين أسجدهم له.
وقال ابن عقيل: إنما خص آدم بإضافة صورته إليه لتخصيصه وهي
السلطنة التي تشاكلها الربوبية استعبادا وسجودا وأمرا نافذا وسياسات
تعمر بها البلاد ويصلح به العباد وليس في الملائكة والجن من تجمع
على طاعة نوعه وقبيلته سوى الآدمي.
وإن الصورة ها هنا معنوية لا صورة تخاطيط، وقد ذهب
أبو محمد بن قتيبة في هذا الحديث إلى مذهب قبيح فقال: لله صورة
لا كالصور فخلق آدم عليها..؟؟ وهذا تخليط وتهافت لأن معنى
كلامه: إن صورة آدم كصورة الحق.
وقال القاضي أبو يعلى (المجسم): " يطلق على الحق تسمية
الصورة لا كالصور كما أطلقنا اسم ذاته ".
قلت: وهذا تخليط، لأن الذات بمعنى الشئ، وأما الصورة فهي
هيئة وتخاطيط وتأليف، وتفتقر إلى مصور ومؤلف وقول القائل لا
كالصور، نقض لما قاله، وصار بمثابة من يقول: جسم لا كالأجسام،
فإن الجسم ما كان مؤلفا، فإذا قال: لا كالأجسام نقض ما قال.

(71) فيكون في ذلك رد وإبطال لنظرية دارون الفاسدة التي يقول فيها: (إن الإنسان
أصله قرد " فأفاد الحديث أن آدم عليه السلام خلق من أول مرة إنسانا لا أصل
له غير ذلك، وهذه معجزة عظيمة تؤخذ من الحديث.
أفاده شيخنا أبو الفضل الغماري في " فتح المعين " ص (36).
147

الحديث الثاني
روى عبد الرحمن بن عائش - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم
- أنه قال:
" رأيت ربي في أحسن صورة، فقال لي: فيم يختصم الملأ
الأعلى يا محمد قلت: أنت أعلم يا رب، فوضع كفه بين كتفي، حتى
وجدت بردها بين ثدي، فعلمت ما في السماوات والأرض (72).

(72) قلت هذا حديث موضوع بلا شك ولا ريب ولي فيه رسالة سميتها: " عبارات
الحفاظ المنثورة في بيان حديث رأيت ربي في أحسن صورة " والحديث رواه
الترمذي في سننه (5 / 369) وحسنه مرة وصححه أخرى، والخطيب البغدادي
في تاريخه (8 / 152) وابن الجوزي في الموضوعات (1 / 125) والطبراني في
الكبير (1 / 317) وأورده السيوطي في كتابه " اللآلي المصنوعة في الأحاديث
الموضوعة " (1 / 31) وذكره الذهبي في " سير أعلام النبلاء " (10 / 113 - 114)
وقال:
" وهو بتمامه في تأليف البيهقي، وهو خبر منكر، نسأل الله السلامة في
الدين.... " ا ه‍.
ورواه البيهقي في " الأسماء والصفات " ص (300 بتحقيق الإمام الكوثري) وقال
عقبه:
" وقد روي من وجه آخر وكلها ضعيف " ا ه‍ وقال عنه الحافظ ابن حجر في
" النكت الظراف " (4 / 382) المطبوع بهامش تحفة الأشراف:
" قلت: قال محمد بن نصر المروزي في كتاب: " تعظيم قدر الصلاة " هذا
حديث اضطرب الرواة في إسناده وليس يثبت عند أهل المعرفة " ا ه‍ وقال الإمام
أحمد عنه كما في تهذيب التهذيب (6 / 185): " هذا ليس بشئ " ا ه‍
وقال الدارقطني كما في " العلل المتناهية " (1 / 34) لابن الجوزي:
" كل أسانيده مضطربة ليس فيها صحيح " ا ه‍
قلت: والحديث باطل أيضا من جهة متنه لوجوه عديدة ذكرتها في رسالتي
المشار إليها وهي ملحقة بآخر هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
148

قال أحمد رضي الله عنه: أصل هذا الحديث وطرقه مضطربة
يرويه معاذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل أسانيده مضطربة ليس فيها صحيح،
ورواه قتادة عن أنس واختلف على قتادة فرواه يوسف بن عطية عن قتادة
ووهم فيه، ورواه هشام عن قتادة عن أبي قلابة عن خالد بن اللجلاج
عن ابن عباس ووهم في قوله عن ابن عباس وإنما رواه خالد عن
عبد الرحمن بن عائش وعبد الرحمن لم يسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما
رواه عن مالك بن يخامر عن معاذ.
قلت: قد ذكرنا إنه لا يصح، وقال أبو بكر البيهقي (73): فقد روي
من أوجه كلها ضعيفة وأحسن طرقه تدل على أن ذلك كان في النوم.
وقد روي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -: " أتاني آت في أحسن صورة.
فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى..؟ فقلت: لا أدري، فوضع
كفه بين كتفي، فوجدت بردها بين ثدي، فعرفت كل شئ يسألني
عنه ".
وروي من حديث ثوبان قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلاة
الصبح، فقال: " إن ربي أتاني الليلة في أحسن صورة فقال لي: يا
محمد: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري يا رب، فوضع كفه
بين كتفي، حتى وجدت برد أنامله في صدري، فتجلى لي ما بين
السماء والأرض " (74).

(73) في " الأسماء والصفات " ص (300).
(74) رواه البزار كما في " كشف الأستار " (3 / 13 برقم 2128) وقال عنه الحافظ
الهيثمي بعدما ذكره في " مجمع الزوائد " (7 / 177 - 178): " رواه البزار من
طريق أبي يحيى عن أبي أسماء الرحبي وأبو يحيى لم أعرفه وبقية رجاله ثقات " ا ه‍.
قلت: وعزاه الحافظ ابن حجر في " المطالب العالية " (3 / 363) لأحمد بن
منيع، قال شيخنا المحدث حبيب الرحمن الأعظمي في التعليق عليه:
" قلت: في إسناد ابن منيع أيضا أبو يحيى، لكنه رواه هنا عن أبي يزيد عن
أبي سلام الأسود عن ثوبان، وأول إسناد البزار نحو أول إسناد ابن منيع " ا ه‍
قلت: ثم نظرت في سنة ابن أبي عاصم ص (204) فإذا الحديث هناك. وقد
أخطأ المعلق أو المخرج له! المتناقض! حيث صححه مع اعترافه هناك بضعف
عبد الله بن صالح، وجهالة أبي يحيى، وعدم توثيق غيلان ابن أنس أبو يزيد
الكلبي عند أي حافظ، مع قوله عنه في " صحيحته " (1 / 40) المليئة بالأخطاء
والتخبطات -: " مجهول الحال... ".
وأما باقي رجاله فنقول: أبو سلام ممطور الأسود لم يسمع من ثوبان كما قال
ابن معين وابن المديني، وقال أحمد: ما أراه سمع منه وكذا قال أبو حاتم أن
روايته عن ثوبان مرسلة. كذا في تهذيب التهذيب (10 / 263 دار الفكر)
فالحديث مسلسل بالعلل وهو موضوع عندي والحمد لله.
149

وروي عن أبي عبيدة بن الجراح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لما كنت
ليلة أسري بي رأيت ربي في أحسن صورة " (75).
قلت: وهذه أحاديث مختلفة، وليس فيها ما يثبت وفي بعضها
أتاني آت وذلك يرفع الإشكال، وأحسن طرقها يدل على أن ذلك كان
في النوم ورؤيا المنام وهم والأوهام لا تكون حقائق وأن الإنسان يرى
كأنه يطير أو كأنه قد صار بهيمة وقد رأى أقوام في منامهم الحق سبحانه
على ما ذكرنا وإن قلنا إنه رآه في اليقظة فالصورة إن قلنا ترجع إلى
الله تعالى، فالمعنى رأيته على أحسن صفاته من الإقبال علي والرضى
عني، وإن قلنا ترجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمعنى رأيته وأنا على أحسن
صورة.

(75) رواه الخطيب البغدادي في " تاريخ بغداد " (8 / 151 - 152) وابن الجوزي
في " العلل المتناهية " (1 / 30). قلت: وهو بالموضوع أشبه.
150

قلت: والعجب مع اضطراب هذه الأحاديث وكون مثلها لا يثبت
به حكم في الوضوء (كيف يحتجون بها في أصول الدين والعقائد؟!!)
وروى ابن حامد (المجسم) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
" ولما أسري بي رأيت الرحمن تعالى في صورة شاب أمرد، له نور
يتلألأ، وقد نهيت عن وصفه لكم، فسألت ربي أن يكرمني برؤيته،
وإذا هو كأنه عروس حين كشف عن حجابه مستو على عرشه " (76).
قلت: هذا الحديث كذب قبيح. ما روي قط لا في صحيح ولا
في كذب. فأبعد الله من عمله، فقد كنا نقول: ذلك في المنام، فذكر
(الوضاع) هذا في ليلة الإسراء كافأهم الله وجزاهم النار، يشبهون الله
سبحانه بعروس..! لا يقول هذا مسلم..!!
وأما ذكر البرد في الحديث الماضي، فإن البرد عرض، لا يجوز
أن ينسب إلى الله تعالى. وقد ذكر القاضي أبو يعلى في كتاب الكفاية
عن أحمد: " رأيت ربي في أحسن صورة "، أي: في أحسن موضع.

(76) حديث موضوع مكذوب أنظر " اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة "
للحافظ السيوطي (1 / 28 - 31).
151

الحديث الثالث
روت أم طفيل امرأة أبي بن كعب رضي الله عنهما، أنها سمعت
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر أنه: " رأى ربه عز وجل في المنام في أحسن
صورة، شابا موفرا، رجلاه في خضرة، عليه نعلان من ذهب، على
وجهه فراش من ذهب " (77).
قلت: هذا الحديث يرويه نعيم بن حماد بن معاوية المروزي،
قال ابن عدي (78): كان يضع الحديث. وقال يحيى بن معين: ليس
نعيم بشئ في الحديث. وفي إسناده مروان بن عثمان عن عمارة بن
عامر، قال أبو عبد الرحمن النسائي: ومن مروان حتى يصدق على الله
عز وجل؟ وقال مهنى بن يحيى، سألت أحمد عن هذا الحديث،
فأعرض بوجهه وقال: هذا حديث منكر مجهول يعني مروان بن عثمان
قال ولا يعرف أيضا عمارة (79).

(77) هذا حديث موضوع منكر، رواه الطبراني في الكبير (25 / 143) والحافظ
البيهقي في الأسماء والصفات (446 - 447) وابن الجوزي في " الموضوعات "
(1 / 125) وغيرهم. وقد طعن في هذا الحديث أئمة هذا الشأن كالبخاري في
تاريخه (6 / 500) وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين، والنسائي (تاريخ بغداد
3 / 311) وابن حبان في الثقات (5 / 245) وابن حجر العسقلاني كما في
" تهذيب التهذيب " (10 / 95) حيث قال: وهو متن منكر.
(78) في كتابه " الكامل في ضعفاء الرجال " (7 / 2482)
(79) وبعد هذا البيان السريع الموجز في بيان حديث أم الطفيل هذا، وأنه حديث
موضوع منكر نقول:
لا تتعجب إن علمت أن الشيخ المتناقض! قد صححه في تعليقه السقيم على
" سنة ابن أبي عاصم " برقم (471) بالشواهد، ولم يتنبه إلى متن الحديث
المنكر الذي طواه ابن أبي عاصم ولم يذكره هناك فقال هناك: " حديث صحيح
بما قبله وإسناده ضعيف مظلم "!! فتأملوا أيها العقلاء في أفانين خبطه!!
152

وقد روى عبيد الله بن أبي سلمة قال: بعث ابن عمر إلى عبد الله بن
عباس يسأله هل رأى محمد ربه؟ فأرسل إليه أن نعم قد رآه. فرد الرسول
إليه كيف رآه؟ قال: رآه على كرسي من ذهب يحمله أربعة من الملائكة
في صورة رجل (80).
قلت: وهذا الحديث تفرد به ابن إسحاق وكذبه جماعة من العلماء

(80) قلت هذا الحديث المكذوب الموضوع على ابن عمر وابن عباس رضي الله
عنهما مما سود به صاحب كتاب " السنة " المنسوب لابن الإمام أحمد كتابه،
وشأنه به، وإليك الحديث من صحيفة (42) من طبعة دار الكتب العلمية -
بيروت ورقمه (208) قال:
حدثنا يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال فحدثني عبد الرحمن بن الحارث بن
عبد الله بن عياش عن عبد الله بن أبي سلمة قال:
بعث عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن العباس يسأله هل رأى محمد ربه؟ فبعث
إليه: أن نعم قد رآه. فرد رسوله إليه وكيف رآه؟
فقال: رآه على كرسي من ذهب يحمله أربعة: ملك في صورة رجل، وملك
في صورة أسد، وملك في صورة ثور، وملك في صورة نسر، في روضة خضراء
دونه فراش من ذهب.
علل هذا الإسناد:
(1) يونس بن بكير قال عنه أبو داود: ليس هو عندي بحجة كان يأخذ كلام
ابن إسحاق فيوصله بالأحاديث. كذا في " تهذيب التهذيب " (11 / 383) وفي
" الميزان " (4 / 477).
قلت: وهذا الحديث قال فيه كما في كتاب " السنة " المنسوب لابن أحمد (عن
ابن إسحاق قال فحدثني) مع أن الرواية المضبوطة عند الحافظ البيهقي في
" الأسماء والصفات " ص (443): (عن ابن إسحاق عن عبد الرحمن بن
الحارث) فابن إسحاق معنعن فيها، وما في " السنة " تحريف للتضليل، فتنبه.
وقال النسائي عن يونس هذا: " ضعيف " وقال قرة: " ليس بالقوي ".
قلت: فجرح من جرحه مفسر وهو مقدم على توثيق من وثقه لا سيما في هذا
الحديث المنكر.
(2) ابن إسحاق مدلس وقد عنعنه على الصحيح.
(3) عبد الرحمن بن الحارث: قال أحمد عنه: متروك، وضعفه علي بن
المديني، وقال أبو حاتم: شيخ، وقال النسائي: ليس بالقوي، هذا قول من
جرحه كما في التهذيب (6 / 142).
قال الحافظ البيهقي في " الأسماء والصفات " ص (443):
" وفي هذه الرواية انقطاع بين ابن عباس رضي الله عنهما وبين الراوي عنه "
ا ه‍ قلت: ومع نكارته ووهاء إسناده فهو حديث موضوع كذب يجل ابن عباس
وابن عمر أن يتكلموا بمثل هذا الهراء. والحمد لله.
قلت: وقد أورد هذا الحديث شيخنا إمام العصر أبو الفضل الغماري في كتابه
" الفوائد المقصودة في بيان الأحاديث الشاذة المردودة " وهو الحديث رقم
(24).
153

وفي رواية عن ابن عباس " رآه كأن قدميه على خضرة دونه ستر من
لؤلؤ " (81).
قلت: وهذا يرويه إبراهيم بن الحكم بن أبان وقد ضعفه يحيى بن
معين وغيره وفي رواية ابن عباس - رضي الله عنه - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
- قال: " رأيت ربي أجعد أمرد عليه حلة خضراء " (82).

(81) وهو حديث منكر موضوع أيضا، رواه البيهقي في " الأسماء والصفات " ص
(445) وابن الجوزي في " العلل المتناهية " (1 / 36) وقال: " هذا حديث لا
يثبت، وطرقه كلها عن حماد بن سلمة، قال ابن عدي: قد قيل إن ابن أبي
العوجاء كان ربيب حماد فكان يدس في كتبه هذه الأحاديث " ا ه‍.
قلت: وفيه أيضا عنعنة قتادة وهي غير مقبولة عند أهل الحديث. وقد أورد
الحديث الذهبي في " سير أعلام النبلاء " (10 / 113) وقال: " وهو بتمامه في
تأليف البيهقي، وهو خبر منكر، نسأل الله السلامة في الدين " ا ه‍.
(82) هو حديث منكر موضوع كالذي قبله ومراجعه كالذي قبله. وراويه إبراهيم بن
الحكم بن أبان، ذكر الحافظ في ترجمته في " تهذيب التهذيب " (1 / 100)
أن ابن معين قال فيه: لا شئ، وقال مرة: ضعيف ليس بشئ. وقال
البخاري: سكتوا عنه، وقال النسائي: ليس بثقة ولا يكتب حديثه. وقال
أبو زرعة: ليس بالقوي وهو ضعيف، وقال الجوزجاني والأزدي: ساقط. وقال
الدارقطني: ضعيف، وقال الآجري: سألت أبا داود عنه فقال: لا أحدث عنه،
وذكره الفسوي في باب من يرغب عن الرواية عنهم، وقال أيضا: لا يختلفون
في ضعفه، وقال العقيلي: ليس بشئ ولا بثقة. فتأمل.
154

قلت: وهذا يروى من طريق حماد بن سلمة وكان ابن أبي العوجاء
الزنديق ربيب حماد يدس في كتبه هذه الأحاديث، على أن هذا كان
مناما والمنام خيال.
ومثل هذه الأحاديث لا ثبوت لها، ولا يحسن أن يحتج بمثلها في
الوضوء، وقد أثبت بها القاضي أبو يعلى (المجسم) لله تعالى صفات
فقال: قوله: شاب، وأمرد، وجعد، وقطط، والفراش والنعلان والتاج.
قال: ثبت ذلك تسمية لا يعقل معناها، وليس في إثباتها أكثر من تقريب
المحدث من القديم وذلك جائز كما روي " يدني عبده إليه " (83) يعني
يقربه إلى ذاته.
قلت: ومن يثبت بالمنام وبما لا يصح نقله صفات؟!
وقد عرفنا معنى الشاب والأمرد ما هو (84)!!
ثم يقول: ما هو كما نعلم، كمن يقول: قام فلان وما هو قائم،
وقعد وليس بقاعد.
قال ابن عقيل: هذا الحديث مقطوع بأنه كذب.
ثم لا تنفع ثقة الرواة إذا كان المتن مستحيلا، وصار هذا كما لو

(83) رواه البخاري في صحيحه (فتح 13 / 475) وانظر شرحه في الفتح
(13 / 477).
(84) أي في اللغة.
155

أخبرنا جماعة من المعدلين: بأن جمل البزاز دخل في خرم إبرة
الخياط. فإنه لا حكم لصدق الرواة مع استحالة خبرهم (85).
الحديث الرابع
روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - " انتهيت ليلة أسري بي إلى السماء فرأيت ربي، فرأيت كل شئ
من ربي، حتى لقد رأيت تاجا مخوصا من لؤلؤ " (86).
قلت: هذا يرويه أبو القاسم عبد الله بن محمد بن اليسع عن
القاسم بن إبراهيم. قال الأزهري: كنت أقعد مع ابن اليسع ساعة
فيقول:
" قد ختمت الختمة منذ قعدت وقاسم ليس بشئ ".
قال الدارقطني: هو كذاب.
قلت: كافأ الله من عمل مثل هذا الحديث.

(85) ومثل هذا الكلام القيم النفيس للمصنف - ابن الجوزي - أيضا في كتابه
" الموضوعات " (1 / 160) فارجع إليه.
(86) رواه ابن الجوزي في الموضوعات (1 / 115) وهو حديث موضوع، وقال هناك:
" ومثل هذا الحديث لا يخفى أنه موضوع، وأنه يثبت البعضية، ويشير إلى
التشبيه، فكافأ الله من عمله " ا ه‍.
156

الحديث الخامس
روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي
الله تعالى عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
" يجمع الله الناس فيقول: من كان يعبد شيئا فليتبعه، فيتبعون ما
كانوا يعبدون، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله عز وجل في
غير الصورة التي كانوا يعرفون فيقول: أنا ربكم.
فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا. فإذا جاء ربنا
عرفناه فيأتيهم في الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم.
فيقولون: أنت ربنا..؟ " (87).

(87) رواه البخاري (فتح 2 / 293 و 11 / 445) من حديث أبي هريرة. و (فتح
8 / 249 - 250) من حديث أبي سعيد، ومسلم (1 / 164 برقم 299) من
حديث أبي هريرة و (1 / 198 برقم 302) من حديث أبي سعيد، وأحمد في
المسند (3 / 17) والترمذي في سننه (4 / 691 برقم 2557 شاكر).
وهذا الحديث شاذ عندنا بمرة. لأن فيه إشكالات تعارض القرآن والسنة
الصحيحة المتواترة والمشهورة وغيرها والقواعد الثابتة في الكتاب والسنة، وقد
ذكرت له ستة عشر إشكالا في كتابي: " الأدلة المقومة لاعوجاجات المجسمة "
أذكر بعضها:
(1) فيه أن الله يتشكل فيأتي أحيانا بصورته الحقيقية المزعومة وأحيانا بغير
صورته!!
(2) فيه إثبات الصورة لله تعالى وذلك محال.
(3) فيه أن المنافقين يرون الله تعالى، وهذا معارض لقوله سبحانه: (كلا
إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون).
(4) فيه أنهم يرونه سبحانه في أرض المحشر مع أن الأحاديث الصحيحة تثبت
أن الرؤيا هي الزيادة الواردة في قوله تعالى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة)
وذلك يتم لهم في الجنة. وفي هذا الحديث أن الرؤيا قبل الصراط وهذا باطل
بلا شك.
(5) إن لفظ الصورة لم يثبت في جميع روايات الصحيحين، ففي رواية
البخاري في الأذان (فتح 2 / 293): ليس فيها ذكر للصورة البتة.
(6) أين رأوه سبحانه قبل ذلك حتى يصح ما ورد في هذا الحديث قوله:
" فيأتيهم بغير الصورة التي يعرفون "؟!!
وقد أبدع الإمام المحدث الكوثري وأجاد وأفاد عندما قال ملخصا الأمر في هذا
الحديث في تعليقه على كتاب " الأسماء والصفات " ص (292) حيث قال:
" اضطربت الروايات في ذكر الصورة والإتيان كما يظهر من استعراض طرق هذا
الحديث ومتونه في الصحيحين وجامع الترمذي، وتوحيد ابن خزيمة وسنن
الدارمي وغيرها، ولم يسبق أن عرفوه على صورة، فعلم أنه قد فعلت الرواية
بالمعنى في الحديث ما فعلت، على أن المنافقين محجوبون عن ربهم يوم
القيامة، فيكون هذا الحديث مخالفا لنص القرآن، إلا عند من يؤوله تأويلا
بعيدا، فالقول الفصل هنا هو الإعراض عن ألفاظ انفرد بها هذا الراوي، أو
ذاك الراوي، باختلافهم فيها، والأخذ بالقدر المشترك من المعنى الذي اتفقوا
عليه، فلعلك لا تجد في ذلك ما يوقعك في ريبة أو شبهة.. ويقول ابن العربي
في عارضة الأحوذي: إن الناس في هذه الحال لا يرونه سبحانه في قول
العلماء، وإنما محل الرؤية الجنة.. بإجماع العلماء... " ا ه‍.
157

وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
" فيأتيهم الجبار في غير الصورة التي رأوه فيها أول مرة.
فيقول أنا ربكم، فيقولون أنت ربنا، فلا يكلمه إلا الأنبياء. فيقال:
هل بينكم وبينه آية تعرفونها...؟
فيقولون: الساق. فيكشف عن ساقه (88) فيسجد له كل

(88) وقع في موضع في البخاري (فتح 8 / 664) بهذا اللفظ (ساقه) وهي رواية شاذة
غير محفوظة كما قدمنا عند قوله تعالى: (يوم يكشف عن ساق) وقد رد هذه
اللفظة الحافظ الإسماعيلي كما نقله عنه الحافظ في الفتح (8 / 664) وأقره،
فتنبه.
158

مؤمن... ".
قلت: إعلم أنه يجب على كل مسلم أن يعتقد أن الله سبحانه
وتعالى، لا تجوز عليه الصورة التي هي هيئة وتأليف (89).
قال أبو سليمان الخطابي: معنى " فيأتيهم الله " أي يكشف الحجاب
لهم حتى يرونه عيانا كما كانوا عرفوه في الدنيا استدلالا فرؤيته بعد أن
لم يكونوا رأوه بمنزلة إتيان الآتي ولم يكن شوهد من قبل.
وأما الصورة فتتأول على وجهين أحدهما: أنها بمعنى الصفة،
يقال صورة الأمر كذا.
والثاني: أن المذكورات من المعبودات في أول الحديث صور
يخرج الكلام على نوعين من المطابقة، وقوله " في غير الصورة التي رأوه
فيها " دليل على أن المراد بالصورة الصفة لأنهم ما رأوه قبلها فعلم أن
المراد الصفة التي عرفوه فيها.
وقال غيره من العلماء يأتيهم بأهوال القيامة، وصور الملائكة، مما
لم يعهدوا مثله في الدنيا، فيستعيذون من تلك الحال، ويقولون: إذا
جاء ربنا عرفناه، أي أتى بما يعرفونه من لطفه، وهي الصورة التي
يعرفون فيكشف عن ساق: أي عن شدة كأنه يرفع تلك الشدائد
المهولة، فيسجدون شكرا، وقال بعضهم: صورة يمتحن إيمانهم بها،
كما يبعث الدجال فيقولون: نعوذ بالله منك.

(89) وقال ابن بطال كما في الفتح (13 / 427):
" تمسك بهذا الحديث المجسمة فأثبتوا لله صورة ولا حجة لهم فيه... " ا ه‍.
159

وفي حديث أبي موسى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
" أن الناس يقولون: إن لنا ربا كنا نعبده في الدنيا فيقال: أو تعرفونه
إذا رأيتموه...؟
فيقولون: نعم.
فيقال: كيف تعرفونه ولم تروه...؟
فيقولون: إنه لا شبيه له، فيكشف الحجاب فينظرون إلى الله عز
وجل فيخرون سجدا " *.
قال ابن عقيل: الصورة على الحقيقة تقع على الأشكال
والتخاطيط، وذلك من صفات الأجسام، والذي صرفنا عن كونه جسما.
الأدلة القطعية كقوله: (ليس كمثله شئ) الشورى: 11.
ومن الأدلة العقلية: أنه لو كان جسما لكان صورة وعرضا، ولو كان
حاملا الأعراض، جاز عليه ما يجوز على الأجسام، وافتقر إلى صانع،
ولو كان جسما مع قدمه، جاز قدم أحدنا، فأحوجتنا الأدلة إلى تأويل
صورة تليق أضافتها إليه، وما ذاك إلا الحال الذي يوقع عليه أهل اللغة
اسم صورة فيقولون كيف صورتك مع فلان؟ وفلان... على صورة من
الفقر. والحال التي أنكروها الغضب، والتي يعرفونها اللطف. فيكشف
عن الشدة، والتغيرات أليق بفعله، فأما ذاته فتعالى عن التغير نعوذ بالله
أن يحمل الحديث على ما قالته المجسمة إن الصورة ترجع إلى ذاته،
فإن في ذلك تجويز التغير على صفاته. فخرجوه في صورة إن كانت
حقيقية، فذلك استحالة. وإن كانت تخيلا فليس ذلك هو، إنما يريهم
غيره.

* لم أقف عليه للآن من حديث أبي موسى بهذا اللفظ كما تقدم ص (120) في
التعليق رقم
* ونحو من حديث أبي موسى في مسند الإمام أحمد (4 / 407).
160

الحديث السادس
روى مسلم في صحيحه (2 / 1136 برقم 17) من حديث المغيرة
عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا شخص أغير من الله، ولا شخص
أحب إليه العذر من الله، ولا شخص أحب إليه المدحة من الله " (90).
قلت: لفظة " الشخص " يرويها بعض الرواة، ويروي بعضهم " لا
شئ أغير من الله ".
والرواة يروون بما يظنون به المعنى فيكون لفظ شخص من تغيير
الرواة، والشخص لا يكون إلا جسما مؤلفا، وسمي شخصا لأن له
شخوصا وارتفاعا والصواب أنه يرجع ذكر الشخص إلى المخلوقين لا
أن الخالق يقال له شخص، ويكون المعنى: " ليس منكم أيها
الأشخاص أغير من الله "، لأنه لما اجتمع الكل بالذكر، سمى
بأسمائهم. ومثل هذا قول ابن مسعود: " ما خلق الله من جنة ولا نار
أعظم من آية الكرسي " (91).
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: الخلق يرجع إلى

(90) وذكره البخاري في صحيحه معلقا (الفتح 13 / 399) وعقد عليه بابا في التوحيد
هناك. وقد ورد هذا الحديث أيضا بلفظ: " لا أحد... " بدل لا شخص أنظر
البخاري (الفتح 8 / 296) حيث ورد هناك حديث بلفظ: " لا أحد أغير من
الله ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا شئ أحب إليه المدح
من الله... " وارجع إلى شرح الحديث في الفتح، وفي كتاب المحدث أبي
الفضل الغماري: " فتح المعين " ص (24 - 25).
(91) ذكره الترمذي في سننه (5 / 161) وانظر " سير أعلام النبلاء " (10 / 578).
161

الجنة، والنار لا إلى القرآن ومن هذا الجنس قوله تعالى: (الجنة يومئذ
خير مستقرا وأحسن مقيلا) الفرقان: 24، ومعلوم أن أهل النار لا مستقر
لهم ولا مقيل. ويمكن أن يكون هذا من باب المستثنى من غير الجنس
كقوله تعالى: (ما لهم به من علم إلا اتباع الظن) النساء: 157. وقد أجاز
بعضهم إطلاق الشخص على الله تعالى وذلك غلط لما بيناه.
وأما الغيرة: فقد قال العلماء: كل من غار من شئ اشتدت
كراهيته له، فلما حرم الفواحش وتوعد عليها وصفه رسوله صلى الله عليه وسلم بالغيرة.
162

الحديث السابع
روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض) (92). المعنى
مقدار قبضته وليست على ما يتصور من قبضات المخلوقين فإن الحق
منزه عن ذلك.
وإنما أضيفت القبضة إليه لأن أفعال المملوك تنسب إلى المالك،
وذلك أنه بعث من قبض كقوله تعالى: (فطمسنا أعينهم) القمر: 37.
وقد روى محمد بن سعد (93) في كتاب الطبقات: إن الله تعالى
بعث إبليس فأخذ من أديم الأرض فخلق منه آدم فمن ثم قال (أأسجد
لمن خلقت طينا) الإسراء: 61.

(92) حديث صحيح رواه أحمد (4 / 400 و 406) وابن سعد (1 / 26) والترمذي
(5 / 204) وقال: حسن صحيح. وأبو داود (4 / 222 برقم 4693) والحاكم
(2 / 261) وصححه وأقره الذهبي هناك. والبيهقي (3 / 9) وأبو نعيم في الحلية
(3 / 104) وغيرهم.
والظاهر أن لفظة " قبضة " التي فيه من تصرف الرواة حينما رووه بالمعنى بدليل
أن رواية الحاكم (2 / 261) وغيره بلفظ:
" خلق الله آدم من أديم الأرض كلها فخرجت ذريته على حسب ذلك، منهم
الأبيض والأسود، والأسمر والأحمر، ومنهم بين ذلك، ومنهم السهل والخبيث
والطيب. ".
فتبين من هذا أن لفظة " قبضة " ونحوها يحتمل أنها من تصرف الرواة فلا يجوز
بهذا إثبات صفة بهذه الإضافة، فلا تغفل عن هذا. ثم لا تغفل أيضا عن أننا
لا نثبت لله عز وجل صفة بخبر الواحد لمثل هذا السبب الذي وضحناه هنا.
(93) رواه ابن سعد (1 / 26) مطولا من حديث عبد الله بن مسعود موقوفا عليه بسند
حسن في غير العقائد.
163

قال القاضي أبو يعلى (المجسم): لا يمتنع إطلاق اسم القبض
إليه وإضافة القبضة لا على معنى الجارحة ولا على المعالجة
والممارسة.
قلت: فيقال له: أطلقت وما تدري.
الحديث الثامن
روى سليمان (94) قال: " إن الله تعالى لما خمر طينة آدم ضرب بيده
فيه، فخرج كل طيب في يمينه، وكل خبيث في يده الأخرى، ثم خلط
بينهما، فمن ثم يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ".
قلت: وهذا مرسل وقد ثبت بالدليل أن الله سبحانه وتعالى لا
يوصف بمس شئ، فإن صح فضرب مثل لما جرت به الأقدار.
وقال القاضي أبو يعلى (المجسم): تخمير الطين وخلط بعضه
ببعض مضاف إلى اليد التي خلق بها آدم.
قلت: وهذا التشبيه المحض..؟

(94) هذا أثر رواه ابن سعد في طبقاته (1 / 27) عن ابن مسعود موقوفا عليه وهذا
إسناده ومتنه:
أخبرنا معاذ بن معاذ العنبري، أخبرنا سليمان التيمي، أخبرنا أبو عثمان النهدي
عن سلمان الفارسي أن ابن مسعود قال:
" خمر الله طينة آدم أربعين ليلة، أو قال أربعين يوما، ثم ضرب بيده فيه فخرج
كل طيب في يمينه.. " الأثر كما ذكره المصنف.
وإسناد هذا الأثر صحيح ومتنه منكر، ولا تثبت بمثل هذا الأثر عقائد المسلمين،
والظاهر أن الضارب هو إبليس الذي بعثه الله فأخذ من أديم الأرض كما مر في
الأثر قبل هذا بسند حسن.
164

الحديث التاسع
روى عبيد بن حنين قال: بينما أنا جالس في المسجد، إذ جاء
قتادة بن النعمان فجلس يتحدث ثم قال:
" انطلق بنا إلى أبي سعيد الخدري، فإني قد أخبرت أنه قد
اشتكى، فانطلقنا حتى دخلنا على أبي سعيد فوجدناه مستلقيا واضعا
رجله اليمنى على اليسرى، فسلمنا عليه وجلسنا، فرفع قتادة يده إلى
رجل أبي سعيد، فقرصها قرصة شديدة فقال أبو سعيد: سبحان الله يا
ابن أم أوجعتني ".
فقال: ذلك أردت، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
" إن الله لما قضى خلقه، استلقى ثم وضع إحدى رجليه على
الأخرى، ثم قال: لا ينبغي لأحد من خلقي أن يفعل هذا ".
قال أبو سعيد: لا جرم لا أفعله أبدا (95).

(95) هذا حديث موضوع لأنه منكر جدا، ولأن البيهقي ذكر أبطاله في كتابه " الأسماء
والصفات " ص (357) بعدما رواه فقال ما نصه:
أخبرنا أبو جعفر الغرابي أنا أبو العباس الصبغي نا الحسن بن علي بن زياد
نا أبو أويس حدثني ابن أبي الزناد عبد الرحمن عن هشام بن عروة عن عروة
أن الزبير بن العوام سمع رجلا يحدث حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم فاستمع الزبير له
حتى إذا قضى الرجل حديثه قال له الزبير:
أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال الرجل: نعم، قال هذا وأشباهه مما
يمنعنا أن نحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم، قد لعمري سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأنا يومئذ حاضر ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدأ هذا الحديث فحدثناه عن رجل من
أهل الكتاب حدثه إياه، فجئت أنت يومئذ بعد أن قضى صدر الحديث وذكر
الرجل الذي من أهل الكتاب فظننت أنه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الشيخ - البيهقي -:
" ولهذا الوجه من الاحتمال ترك أهل النظر من أصحابنا الاحتجاج بأخبار الآحاد
في صفات الله تعالى، إذا لم يكن لما انفرد منها أصل في الكتاب أو الاجماع
واشتغلوا بتأويله " ا ه‍.
قلت: وهذا الحديث مخالف لقوله تعالى: (ولقد خلقنا السماوات والأرض وما
بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب فاصبر على ما يقولون " والحديث أيضا
رواه الخلال في " السنة " وفي سند الحديث فليح بن سليمان وفيه ضعف،
والحديث منكر وموضوع، وقد عده الحافظ الذهبي في " الميزان " (3 / 365)
من منكرات فليح.
ثم قد ذكر البيهقي في " الأسماء والصفات " ص (358 - 359) أنه ثبت في
البخاري ومسلم أن: " النبي صلى الله عليه وسلم كان يستلقي في المسجد وإحدى رجليه على
الأخرى " وأن سيدنا أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كانوا يفعلون ذلك
أيضا.
قلت: فثبت بذلك وضع هذا الحديث قطعا بلا مثنوية.
165

قلت: وقد رواه عبد الله بن أحمد عن أبي بكر محمد بن إسحاق
الصاغاني قال: حدثني إبراهيم بن المنذر، قال: حدثنا محمد بن فليح
عن سعيد بن الحارث عن عبيد الله بن حنين.
قلت: قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: ما رأيت هذا الحديث
في ديوان من دواوين الشريعة المعتمد عليها. وكان أحمد بن حنبل يذم
إبراهيم بن المنذر ويتكلم فيه، وقال زكريا الساجي عنده مناكير، وقال
يحيى بن معين: فليح ليس حديثه بالجائز. وقال مرة: هو ضعيف وقال
النسائي: ليس بالقوي.
وأما عبيد بن حنين فقال البخاري: لا يصح حديثه في أهل
المدينة، وقال أبو بكر البيهقي: إذا كان فليح مختلفا في جواز
166

الاحتجاج عند الحفاظ به لم يثبت بروايته مثل هذا الأمر العظيم.
قال: وفي الحديث علة أخرى، وهي أن قتادة بن النعمان مات
في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعبيد بن حنين مات سنة
خمس ومائة. وله خمس وسبعون سنة، في قول الواقدي، فتكون روايته
عن قتادة بن النعمان منقطعة. وقول الراوي: فانطلقنا حتى دخلنا على
أبي سعيد لا يرجع إلى عبيد بن حنين وإنما يرجع إلى من أرسله عنه
ونحن لا نعرفه قال: ولا نقبل المراسيل في الأحكام فكيف في هذا
الأمر العظيم.
قال الإمام أحمد: ثم لو صح طريقه احتمل أن يكون رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - حدث به عن بعض أهل الكتاب على طريق الانكار عليهم،
فلم يفهم قتادة إنكاره عليهم.
قلت: ومن هذا الفن حديث رويناه، أن الزبير سمع رجلا يحدث
عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستمع له الزبير حتى إذا قضى الرجل حديثه،
قال له الزبير:
" أنت سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -..؟ قال: نعم، قال:
هذا وأشباهه يمنعنا أن نحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: لعمري سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا يومئذ حاضر
ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابتدأ بهذا الحديث، فحدثناه عن رجل من
أهل الكتاب حدثه إياه، فجئت أنت يومئذ بعد انقضاء صدر الحديث،
وذكر الرجل الذي من أهل الكتاب فظننت أنه من حديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
167

قلت: وغالب الظن أن الإشارة في حديث الزبير إلى حديث
قتادة، فإن أهل الكتاب قالوا: إن الله تعالى لما خلق السماوات والأرض
استراح فنزل قوله تعالى: (وما مسنا من لغوب) ق: 38.
فيمكن أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكى ذلك عنهم، ولم يسمع
قتادة أول الكلام.
وقد روى أبو عبد الرحمن ابن أحمد في كتاب " السنة " عن أبي
سفيان قال:
" رأيت الحسن قد وضع رجله اليمنى على شماله وهو قاعد،
فقلت: يا أبا سعيد تكره هذه القعدة.؟
فقال: قاتل الله اليهود ثم قرأ:
(ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا
من لغوب) ق 38. فعرفت ما عنى فأمسكت (96).
قلت: إنما أشار الحسن إلى ما ذكرناه عن اليهود.
وروينا عن العوام بن حوشب قال: سألت أبا مجلز عن رجل
يجلس فوضع إحدى رجليه على الأخرى قال: لا بأس وإنما ذكر ذاك
اليهود زعموا أن الله عز وجل خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة
أيام.
قلت: وقد تأول بعض العلماء الحديث الذي نحن فيه على تقدير
الصحة فقال: معنى استلقى أتم خلقه، وفرغ يقال فلان بنى لفلان

(96) هذا الأثر عن الحسن البصري رواه الطحاوي أيضا في " شرح معاني الآثار "
(2 / 361) بسند صحيح.
168

داره واستلقى على ظهره أي لم يبق له فيها عمل. وقوله: وضع رجلا
على رجل أي وضع بعض المخلوقات على بعض.
وذهب القاضي أبو يعلى (المجسم) إلى جعل الاستلقاء صفة وأنه
وضع رجلا على رجل ثم قال: لا على وجه يعقل معنا. قال: ويفيد
الحديث إثبات رجلين.
قلت: ولو لم يعقله ما أثبت رجلين ولا نثبت صفات بمثل هذا
الحديث المعلول، ولو لم يكن معلولا لم نثبت صفة بأخبار آحاد.
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر (97)، أنهم كانوا
يستلقون ويضعون رجلا على رجل وإنما يكره هذا لمن لا سراويل له.
الحديث العاشر
روى القاضي أبو يعلى (المجسم) عن ابن عطية إن رجلا من
المشركين سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمل عليه رجل من المسلمين فقاتله
وقتل الرجل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما تعجبون من نصر الله ورسوله لقي الله
متكئا فقعد له " (98).
قلت: هذا حديث مقطوع بعيد الصحة، ولو كان له وجه كان
المعنى: فأقبل عليه وأنعم.

(97) وذلك في البخاري ومسلم كما مر في التعليق رقم - 95 -
(98) قلت: لم أقف عليه للآن، وقد قال المصنف فيه كما ترى مقطوع بعيد عن
الصحة.
169

الحديث الحادي عشر
روى البخاري ومسلم في الصحيحين (99) من حديث أنس بن مالك
رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول: هل من مزيد..؟ حتى يضع
رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض فتمتلئ ".
قلت: الواجب علينا أن نعتقد أن ذات الله تعالى لا تتبعض ولا
يحويها مكان ولا توصف بالتغير ولا بالانتقال (100).
وقد حكى أبو عبيد الهروي عن الحسن البصري أنه قال: القدم:
هم الذين قدمهم الله تعالى من شرار خلقه وأثبتهم لها.

(99) رواه البخاري في مواضع منها (الفتح 8 / 594) ومسلم (4 / 2188) وغيرهما.
وقد أورد هذا الحديث سيدنا الإمام أبو الفضل الغماري في كتابه: " الفوائد
المقصودة في بيان الأحاديث الشاذة المردودة " وهو مصيب فيه جدا لأن الله عز
وجل متنزه عن القدم وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى، وقد نص الإمام
الغماري هنالك على أن " الحديث صحيح " لكن لفظ وضع القدم لا يجوز
أن ينسب صفة لله تعالى.
(100) قلت: وهذه اللفظة " حتى يضع قدمه " الزائدة عما في القرآن الكريم فيها
إثبات التبعيض، أي أن الله يضع بعض جسمه الذي تتخيله المجسمة وهو
قدمه في النار حتى تسكت، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا (ليس كمثله شئ)
وفيها إثبات أن بعض أجزائه سبحانه تحل في خلقه إذ أن النار بعض خلقه.
وفيه أن الله أو بعضه ينتقل من مكان إلى مكان وهذا محال جدا، لأن المكان
مخلوق لله تعالى، فهذه الأشياء مما يحكم بها على شذوذ ونكارة لفظة " حتى
يضع فيها قدمه " الواردة في هذا الحديث الصحيح الأسناد.
170

وقال الإمام ابن الأعرابي: القدم المتقدم، وروى أبو بكر
البيهقي (101) عن النضر بن شميل أنه قال: القدم ههنا الكفار الذين سبق
في علم الله أنهم من أهل النار.
وقال: أبو منصور الأزهري، القدم هم الذين قدم الله بتخليدهم في
النار فعلى هذا يكون في المعنى وجهين أحدهما: كل شئ قدمه.
يقال: لما قدم قدم، ولما هدم هدم، ويؤيد هذا قوله في تمام
الحديث " وأما الجنة فينشئ لها خلقا " (102).
ووجه ثان: إن كل قادم عليها سمي قادما، فالقدم جمع قادم.
فبعض الرواة رواه بما يظنه المعنى من أن المقدم " الرجل "، وقد
رواه الطبراني من طرق، فقال: " لقدمه ورجله " قلت: وهذا دليل على
تغير الرواة بما يظنونه على أن الرجل في اللغة جماعة.

(101) حكاه عنه في " الأسماء والصفات " ص 352 بتحقيق العلم المحدث الكوثري
رحمة الله عليه ورضوانه.
قلت: وقد أول هذا الحديث أيضا الحافظ الجن حبان السلفي في " صحيحه "
(1 / 502 مؤسسة الرسالة) فقال:
" هذا الخبر من الأخبار التي أطلقت بتمثيل المجاورة، وذلك أن يوم القيامة
يلقى في النار من الأمم والأمكنة التي عصي الله فيها، فلا تزال تستزيد حتى
يضع الرب جل وعلا موضعا من الكفار والأمكنة في النار، فتمتلئ، فتقول:
قط قط، تريد: حسبي حسبي، لأن العرب تطلق في لغتها اسم القدم على
الموضع. قال الله جل وعلا: (لهم قدم صدق عند ربهم) يريد موضع
صدق، لا أن الله جل وعلا يضع قدمه في النار، جل ربنا وتعالى عن مثل
هذا وأشباهه ".
فتمعن رحمك الله في كلام هذا الإمام المحدث الحافظ السلفي.
(102) وهذا التمام ثابت في الصحيحين في الموضع الذي أشرنا إليه في التعليق
رقم - 99 -.
171

ومن يرويه بلفظ " الرجل " (103) فإنه يقول: رجل من جراد. فيكون
المراد: يدخلها جماعة يشبهون في كثرتهم الجراد، فيسرعون التهافت
فيها.
قال القاضي أبو يعلى (المجسم): القدم صفة ذاتية.
وقال ابن الزاغوني (المجسم): نقول إنما وضع قدمه في النار
ليخبرهم أن أصنافهم تحترق وأنا لا أحترق (104).
قلت: وهذا إثبات تبعيض، وهو من أقبح الاعتقادات.
قلت: ورأيت أبا بكر بن خزيمة قد جمع كتابا في الصفات
وبوبه (105) فقال: باب إثبات اليد، باب إمساك السماوات على أصابعه،

(103) وقد وقعت بلفظ " برجله " في الصحيح، أنظر الفتح (8 / 595 رقم 4850)
ووقعت في الحديث الذي قبله (رقم 4849) بلفظ " قدمه " واللفظتان عندي
منكرتان ليستا بشئ.
(104) وهذا تخريف!! كأنه لا يدري ما يخرج من رأسه.
(105) وهو كتاب فيه أغلاط فاضحة، إلا أنه - أعني ابن خزيمة - اعترف أخيرا بعد
تصنيفه بخطئه في تأليف ذلك الكتاب كما جاء في " الأسماء والصفات " ص
(267 - 269) للإمام الحافظ البيهقي من طريقين، وقال الحافظ البيهقي
هناك ص (269): " وقد رجع محمد بن إسحاق - ابن خزيمة - إلى طريقة
السلف وتلهف على ما قال " ا ه‍
قلت: فتبين من كلام البيهقي أن طريقة ابن خزيمة في كتابه " التوحيد " ومن كان
على شاكلته ليس على طريقة السلف، وأما متناقض زماننا فخاض في علم
الكلام في مقدمة " مختصر العلو " فوقع في طاقات شنيعة فأثبت الجهة والمكان
العدمي لله تعالى عما يقول.... وخالف طريقة السلف ولو سكت عما لا
يعلمه ولم يدرسه ويفهمه لكان به أولى، لكن أراد الله أن يكشف حقيقته.
وقال الإمام المحدث الكوثري رحمه الله تعالى معلقا في كتاب " الأسماء
والصفات " ص (267) على رجوع ابن خزيمة عن تصنيف كتابه ذاك:
" وقد أنصف من نفسه حيث اعترف أنه يجهل علم الكلام، وكان الواجب
على مثله أن لا يخوض في علم الكلام فتزل له قدم، ومع هذا الجهل ألف
كتاب التوحيد فأساء إلى نفسه. ومن أهل العلم من قال عنه: إنه كتاب الشرك
(قلت: هو الفخر الرازي في تفسيره 14 / 151). ومن جملة مخازيه فيه
استدلاله على إثبات الرجل له تعالى بقوله سبحانه (ألهم أرجل يمشون بها)
وهذا غاية في السقوط، وأسقط منه من يسعى في إذاعة كتابه هذا. ولله في
خلقه شؤون، وجلالة قدر ابن خزيمة في الفقه والحديث لم تحل دون سقوطه
حينما خاض فيما لا يحسنه، ولعل ذلك جزاء معنوي بمساعدته لمحمد بن
عبد الحكم في تأليفه ذلك الرد القاسي ضد الإمام المطلبي القرشي الشافعي
رضي الله عنه " ا ه‍.
فتأمل جيدا في هذه التعليقة النفيسة الذهبية التي كتبها المحدث الكوثري
عليه الرحمة والرضوان.
172

باب إثبات الرجل وإن رغمت أنوف المعتزلة (106)، ثم قال: قال الله
تعالى: (ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها) الأعراف: 69.
فأعلمنا أن من لا يد له ولا رجل فهو كالأنعام.
قلت: وإني لأعجب من هذا الرجل مع علو قدره في علم النقل،

(106) ما لك يا ابن خزيمة والمعتزلة؟! فهناك من هم أخطر وهم المجسمة فعليك بهم.
وليعلم أن مكايدة المعتزلة أدت ببعض أئمتنا - أهل السنة والجماعة - أن
يرفضوا بعض الحق الذي جاء به المعتزلة!! فهذا أبو بكر بن خزيمة يريد أن
يعاند المعتزلة!! ويرغم أنوفهم بزعمه لأنهم ينفون أن لله رجلا وقدما وكلامهم
صحيح جدا فيقوده عناده لأن يقع هو في الخطأ لا هم!!
وهذا الإمام أبو الحسن الأشعري يقوده بغضه للمعتزلة وإرادته لمعاندتهم أن
ينكر أن معنى الاستواء: الاستيلاء لأن المعتزلة تقول به، مع أنه قال معناه،
وقولهم في تأويله صحيح لا غبار عليه، فتأملوا!!
173

يقول هذا ويثبت لله ما ذم الأصنام بعدمه من اليد الباطشة والرجل
الماشية، ويلزمه أن يثبت الأذن، ولو رزق الفهم ما تكلم بهذا، ولفهم
أن الله تعالى عاب الأصنام عند عابديها، والمعنى: لكم أيد وأرجل
فكيف عبدتم ناقصا لا يد له يبطش ولا رجل يمشي بها.
قال ابن عقيل: تعالى الله أن يكون له صفة تشغل الأمكنة، هذا
عين التجسيم، وليس الحق بذي أجزاء وأبعاض يعالج بها، ثم أليس
يعمل في النار أمره وتكوينه؟ فكيف يستعين بشئ من ذاته ويعالجها
بصفة من صفاته وهو القائل: (كوني بردا وسلاما) الأنبياء: 69.؟!!
فما أسخف هذا الاعتقاد وأبعده عن مكون الأملاك والأفلاك فقد
كذبهم الله تعالى في كتابه إذ قال: (لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها)
الأنبياء: 99.
فكيف يظن بالخالق أنه يردها..؟!! تعالى الله عن تجاهل
المجسمة.
174

الحديث الثاني عشر
روى أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ضرس
الكافر مثل أحد، وكثافة جلده اثنان وأربعون ذراعا بذراع الجبار " (107).

(107) رواه بهذا اللفظ أحمد في مسنده (2 / 334 و 537) والحاكم في المستدرك
(4 / 595) وقال عقبه:
" قال الشيخ أبو بكر رضي الله عنه: معنى قوله " بذراع الجبار: أي جبار من
جبابرة الآدميين ممن كان في القرون الأولى ممن كان أعظم خلقا وأطول
أعضاء وذراعا من الناس " ا ه‍.
قلت: وأبو بكر هذا هو: الصبغي، وهو الإمام العلامة المفتي المحدث كما
وصفه الحافظ الذهبي في " سير أعلام النبلاء " (15 / 483) عندما ترجمه وقال
الذهبي ص (484):
" جمع وصنف وبرع في الفقه وتميز في علم الحديث ". ا ه‍
قلت: وقد توفي الصبغي هذا سنة (342) وقد حج كما في " السير "
(15 / 484) سنة (283) فهو من أئمة السلف ومن المحدثين، وقد أول هذا
الحديث على فرض ثبوت لفظة " بذراع الجبار " فيه وما أراها تثبت ولا نطق
بها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
والدليل على عدم ثبوتها أن هذا الحديث قد روي في مواضع أخرى أيضا
فلم يرد لفظ " ذراع الجبار " كما وقع في " الترمذي " (4 / 703 برقم 2577
و 2578 و 2579) والدليل متى طرأه الاحتمال سقط به الاستدلال أعني " اللفظ
المحتمل المتصرف فيه من قبل الرواة " كما هو مقرر في علم الأصول.
وهذا لفظ الترمذي من حديث أبي هريرة:
" إن غلظ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعا وإن ضرسه مثل أحد وإن مجلسه
من جهنم كما بين مكة والمدينة " وقال: حسن صحيح غريب من حديث
الأعمش.
قلت: ووقع في مسلم (4 / 2189 برقم 2851) أيضا دون لفظة: " ذراع
الجبار " وهذا لفظه من حديث أبي هريرة:
" ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد وغلظ جلده مسيرة ثلاث ".
175

قال أبو عمر الزاهد (108): الجبار ها هنا الطويل، يقال: نخلة
جبارة.
قال ابن قتيبة: الجبار ههنا الملك، والجبابرة الملوك.
قال القاضي أبو يعلى (المجسم): نحمله على ظاهره. والجبار
هو الله تعالى.
قلت: واعجبا أذهبت العقول إلى هذا الحد؟ أيجوز أن يقال: إن
ذراع الله سبحانه اثنان وأربعون مرة تبلغ جلد الكافر، ويضاف الذراع
إلى ذات القديم سبحانه، ثم قال: ليس بجارحة، فإذا لم يكن جارحة
كيف ينشئ اثنين وأربعين مرة؟! تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

(108) هو الإمام الأوحد العلامة اللغوي المحدث أبو عمر محمد بن عبد الواحد
بن أبي هاشم البغدادي الزاهد المعروف بغلام ثعلب، هكذا وصفه الحافظ
الذهبي في ترجمته في " سير أعلام النبلاء " (15 / 508).
وقد توفي سنة (345) ه‍ فهذا تأويل أيضا لهذا الحديث عن إمام لغوي
محدث سلفي والحمد لله على توفيقه، وظهر بهذا وبما قبله من التعليق أن
التأويل ثابت عن السلف والمحدثين خلافا لما يزعمه الشيخ الحراني وذيله
المتعالم!! المتناقض!!
176

الحديث الثالث عشر
روى القاضي أبو يعلى (المجسم): عن مجاهد أنه قال: إذا كان
يوم القيامة يذكر داود عليه السلام ذنبه فيقول الله: " كن أمامي، فيقول:
يا رب ذنبي، فيقول: كن خلفي، فيقول: يا رب ذنبي، فيقول: خذ
بقدمي " (109).
قال: وفي لفظ عن ابن سيرين أن الله تعالى: ليقرب داود حتى
يضع يده على فخذه.
قلت: والعجب من إثبات صفات الحق سبحانه وتعالى بأقوال
التابعين، وما تصح عنهم، ولو صحت فإنما يذكرونها عن أهل
الكتاب، كما يذكر وهب بن منبه.
قال القاضي أبو يعلى (المجسم): نحمله على ظاهره، لأنا لا
نثبت قدما ولا فخذا هو جارحة وكذلك لا نثبت الإمام.
قلت: واعجبا لقد كملوا هيئة البدن بإثبات فخذ وساق، وقدم،
ووجه، ويدين وأصابع، وخنصر وإبهام وجنب، وحقو (110) وصعود

(109) هذا الكلام مكذوب على مجاهد ولم يذكر القاضي أبو يعلى في كتابه " إبطال
التأويل " (ص 115 مخطوط) له سندا، وقد صرح الحافظ ابن الجوزي رحمه
الله هنا أن هذا لا يصح عن مجاهد. وكيف يثبت مجسمة الحنابلة لله سبحانه
وتعالى عما يصفون صفات بآثار عن مجاهد وابن سيرين؟!!
(سبحان ربك رب العزة عما يصفون).
(110) الحقو: هو كشح البطن أي جلدته. وسيأتي ما يتعلق بالحقو في الكلام على
الحديث " الرابع والثلاثين " من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
177

ونزول، ويقولون تحمل على ظاهرها وليست جوارح، وهل يجوز لعاقل
أن يثبت لله تعالى خلفا وإماما وفخذا..؟ ما ينبغي أن يحدث هؤلاء.
ولأنا قد عرفنا الفخذ فيقال: ليس بفخذ، والخلف ليس بخلف،
ومثل هؤلاء لا يحدثون، فإنهم يكابرون العقول، وكأنهم يحدثون
الأطفال.
الحديث الرابع عشر
روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة -
رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يضحك الله من رجلين يقتل
أحدهما الآخر يدخلان الجنة " (111).
وفي أفراد مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أخبر عن آخر من يدخل الجنة وضحك، فقيل: مم تضحك؟
فقال: من ضحك رب العالمين حين قال: أتستهزئ مني " (112).

(111) رواه البخاري (فتح 6 / 39) ومسلم (3 / 1504 برقم 1890) ومالك في
الموطأ (ص 285 في الجهاد باب 14) والنسائي (6 / 38 برقم 3166)
وغيرهم وسيأتي الكلام عليه مفصلا إن شاء الله تعالى بعد قليل بما يزيل
اللبس فيه.
(112) روى هذه القطعة مسلم في " صحيحه " (1 / 175 حديث رقم 310) إذ قال
بعد الحديث المذكور في الباب:
" فضحك ابن مسعود فقال: ألا تسألوني مم أضحك؟ فقالوا: مم تضحك؟
قال: هكذا ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: مم تضحك يا رسول الله؟ قال:
من ضحك رب العالمين حين قال: أتستهزئ مني وأنت رب العالمين؟
فيقول: إني لا أستهزئ منك، ولكني على ما أشاء قادر ".
وهي عندنا لا تثبت، لأن راويها " حماد بن سلمة " ضعفه مشهور وإن كان
من رجال مسلم وقد تحايده البخاري كما في " الميزان " (1 / 594) في
ترجمته، وقد صح حديثه هذا في مسلم دون الزيادة التي ذكرناها هنا لمتابعة
غيره له في الحديثين اللذين قبله في مسلم.
لا سيما والرواة قد اختلفوا في هذا اللفظ أو شكوا هل قال: " أتسخر بي أو
أتضحك بي " كما في مسلم، وقد قال الإمام الحافظ النووي في شرحه
(3 / 39):
" هذا شك من الراوي هل قال: أتسخر بي، أو قال: أتضحك بي... " ا ه‍.
178

قلت: اعلم أن الضحك (113) له معان ترجع إلى معنى البيان
والظهور، وكل من أبدى عن أمر كان مستورا قيل قد ضحك. يقال:
ضحكت الأرض بالنبات إذا ظهر ما فيها، وانفتق عن زهره، كما يقال:
بكت السماء.

(113) إعلم أن هذا الحديث الذي نحن بصدد الكلام عليه: " يضحك الله من
رجلين.. " ورد عند النسائي (6 / 38 برقم 3165) بلفظ:
" إن الله عز وجل يعجب من رجلين يقتل أحدهما صاحبه.. " وإسنادها
صحيح، ورواه ابن خزيمة كما في " الجامع الكبير " برقم (28615) للحافظ
السيوطي.
ومنه يتبين أننا لا نستطيع الجزم بواحدة من اللفظتين، وقد أول الإمام البخاري
رحمه الله تعالى الضحك بالرحمة، وقد نقل ذلك التأويل عنه الحافظ " فتح
الباري " (6 / 40) بواسطة الخطابي، وكذلك الحافظ البيهقي نقل هذا التأويل
عن البخاري في موضعين من كتابه " الأسماء والصفات " ص (298) و ص
(470).
قال البيهقي هناك:
" روى الفربري عن محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى أنه قال:
معنى الضحك في الحديث الرحمة " ا ه‍ فتأمل.
وقال الإمام الحافظ النووي في شرح مسلم (3 / 43):
" قد قدمنا معنى الضحك من الله تعالى وهو الرضى والرحمة وإرادة الخير لمن
يشاء رحمته عن عباده " ا ه‍.
وانظر لزاما " فتح الباري " (6 / 40).
179

قال الشاعر:
كل يوم بالأقحوان جديد
تضحك الأرض من بكاء السماء (114)
وكذلك الضحك الذي يعتري البشر إنما هو انفتاح الفم عند
الإنسان، وهذا يستحيل على الله تعالى فوجب حمله على ابداء كرم
الله، وإبانة فضله.
ومعنى: ضحكت لضحك ربي: أبديت عن أسناني بفتح فمي،
لإظهار فضله وكرمه، وقول الآخر: " لن نعدم من رب يضحك
خيرا " (115)، أي: يكشف الكرب، فرق بينه وبين الأجسام التي لا يرجى
خيرها.
قلت: وهذا تأويل جماعة من العلماء، وقال الخطابي: معنى
ضحك الجبار عز وجل (المراد به) الرضى وحسن المجازاة.

(114) قلت: الأقحوان هو نبات البابونج كما في " القاموس المحيط ". والشاهد من
هذا البيت كلمة الضحك، والعرب تستعمله في معان أخرى منها قول
الكميت:
وأضحكت الضباع سيوف سعد * لقتلى ما دفن وما ودينا
(115) هذه الألفاظ هي من حديث رواه ابن ماجة في سننه: (1 / 64 برقم 181)
والطبراني في الكبير (19 / 207 - 208) وأحمد (4 / 11).
قال الحافظ البوصيري عنه في " مصباح الزجاجة " (1 / 85 برقم 68): " هذا
إسناد فيه مقال: وكيع - بن عدس - ذكره ابن حبان في الثقات وذكره الذهبي في
الميزان، وباقي رجال الإسناد احتج بهم مسلم.
رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده من هذا الوجه " ا ه‍.
قلت: هو في مسند أحمد (4 / 11) وهذا نص الحديث هناك:
" ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره " قال، قلت: يا رسول الله! أو يضحك
الرب؟ قال: " نعم "، قلت: لن نعدم من رب يضحك خيرا ".
180

وقد روي في حديث موقوف: " فضحك حتى بدت لهواته
وأضراسه " (116) ذكره الخلال في كتاب السنة. وقال المروزي: قلت
لأبي عبد الله - أحمد بن جنبل -: ما تقول في هذا الحديث..؟ قال
هذا بشع.

(116) هذه قطعة من حديث منكر لا أقول إلا أنه مكذوب، رواه أبو عوانة (1 / 139)
قلت: وقد أعله ابن منده في كتابه الإيمان (804) بأن مسلما أخرج هذا
الحديث في صحيحه (1 / 178 برقم 316) دون تلك الزيادة المنكرة البشعة.
قلت: وهذه الزيادة المنكرة الظاهر أنها من دس الحنابلة المجسمة لأنهم
وخاصة رؤساؤهم متخصصون في الدس والوضع حتى في مسند الإمام أحمد بن
حنبل الذي ينتسبون إليه كما سأذكر أحد براهين ذلك في فائدة خاصة آخر هذا التعليق
وهذه الزيادة موجودة في كتاب " الرؤية " المنسوب غلطا للدارقطني وهو مطبوع!!
ص (163) حديث رقم (50) والكتاب برمته لا يثبت أنه من تصنيف
الدارقطني. ولنا رسالة في تحقيق إبطال نسبة الكتاب للدار قطني أسميناها:
" البيان الكافي بغلط نسبة كتاب الرؤية للدارقطني بالدليل الوافي " لأن في سند
إثباته للدارقطني كذابان حنبليان مخلطان وهما ابن كادش وترجمته في " لسان
الميزان " (1 / 218 الهندية) وفيه أنه كان: " مخلطا كذابا لا يحتج بمثله "،
والثاني: العشاري، وترجمته في " اللسان " أيضا (5 / 301 - 303) وفيه: " كانوا
يدسون في كتبه الموضوعات فيرويها وهو لا يدري لأنه كان مغفلا " وختم
الذهبي ترجمته في " الميزان " (3 / 657) بقوله: " ليس بحجة ".
وفي البخاري (فتح 8 / 578) عن السيدة عائشة قالت: " ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
ضاحكا حتى أرى منه لهواته إنما كان يتبسم ".
(فائدة خاصة مهمة):
ذكر الحافظ الذهبي في " الميزان " (2 / 624) والحافظ ابن حجر في لسان
الميزان (4 / 26 الهندية) و (4 / 32 دار الفكر) ترجمة: " عبد العزيز بن
الحارث أبو الحسن التميمي الحنبلي " وقالا فيها:
" من رؤساء الحنابلة، وأكابر البغاددة، إلا أنه آذى نفسه ووضع حديثا أو
حديثين في مسند الإمام أحمد.
قال ابن زرقويه الحافظ: كتبوا عليه محضرا بما فعل، كتب فيه الدارقطني
وغيره، نسأل الله العافية والسلامة ". ا ه‍.
قلت: ثم ذكر الذهبي له بعد ذلك حديثا وقال عقبه:
" المتهم به أبو الحسن ".
قلت: ومثله ابن كادش المتقدم ذكره قبل قليل من أئمة الحنابلة ورؤسائهم
قال عنه الحافظ ابن عساكر:
" قال لي أبو العز بن كادش وسمع رجلا قد وضع في حق علي حديثا، ووضعت
أنا في حق أبي بكر حديثا بالله أليس فعلت جيد؟! " ا ه‍. قال الذهبي معقبا
على كلمة - ابن كادش - هذه:
" هذا يدل على جهله يفتخر بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم "!! أنظر " سير أعلام
النبلاء " (19 / 559) و " لسان الميزان " (1 / 218). فأنعم!! برؤوساء كهؤلاء
لطائفة تدعي التمسك بالسنة والأثر!!
181

قال: ثم على تقدير الصحة يحتمل أمرين:
أحدها: أن يكون ذلك راجعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كأنه ضحك حين
أخبر بضحك الرب، حتى بدت لهواته وأضراسه صلى الله عليه وسلم، كما روي أنه
ضحك حتى بدت نواجذه (117)، وهذا هو الصحيح لو ثبت الحديث.
وإنما هو مقطوع (118).
الثاني: أن يكون تجوزا عن كثرة الكرم وسعة الرضا، كما جوز

(117) قلت: هناك أحاديث كثيرة فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه منها
في سنن أبي داود برقم (1173) وغير ذلك لكن هذا الضحك بلا قهقهة،
أي خلافا لكثير من الفجرة الذين يجتمعون ويذكرون قصصا ودعابات
فيقهقهون بلا أدب ولا حياء.
وقد صنف شيخ شيوخنا الحافظ السيد حمد بن الصديق الغماري رحمه الله
تعالى رسالة قيمة في هذا الموضوع سماها: " شوارق الأنوار المنيفة بظهور
النواجذ الشريفة " جمع فيها الأحاديث التي ورد فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحك حتى
بدت نواجذه، فليراجعها من شاء، وهي مطبوعة بدار البصائر بدمشق.
(118) قلت: هو متصل في " مسند أبي عوانة " (1 / 139) إلا أننا نجزم بوضعه أو
أن الضمير يعود على النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه بعيد.
182

بقوله: " ومن أتاني يمشي أتيته هرولة " (119).
قال القاضي أبو يعلى (المجسم): لا يمتنع الأخذ بظاهر
الأحاديث في إمرارها على ظواهرها من غير تأويل.
قلت: واعجبا قد أثبت لله صفات بأحاديث وألفاظ لا تصح.
وإذا لم يثبت ضحكا معقولا فقد تأول ولا يدري، وواعجبا قد عرف
إن الضحك يشار به إلى الفضل والإنعام. فالأضراس ما وجهها؟!! والله
لو رويت في الصحيحين وجب ردها، فكيف وما ثبتت أصلا وقد روى
أحمد: " لو أن الناس اعتزلوهم " (120) يعني الأمراء فقال: اضرب على
هذا، وهذا الحديث في الصحيحين فكيف بحديث لا يثبت يخالف

(119) رواه البخاري (13 / 384) ومسلم (4 / 2102) وغيرهما. قال الحافظ ابن
حجر في الفتح (13 / 513) نقلا عن ابن بطال:
" يكون قوله أتيته هرولة أي أتاه ثوابي مسرعا " ا ه‍
قلت: ابن بطال اسمه: علي بن خلف بن بطال البكري القرطبي، ترجمته
في " سير أعلام النبلاء " (18 / 47) وفيها:
" قال ابن بشكوال: كان من أهل العلم والمعرفة، عني بالحديث العناية
التامة، شرح " الصحيح " - يعني البخاري - في عدة أسفار توفي سنة
449 ه‍... " ا ه‍ فتأمل.
(120) رواه البخاري (فتح 6 / 612) ومسلم (4 / 2236 برقم 2917) وأحمد في
المسند (2 / 301) قال ابن الإمام أحمد هناك:
" قال أبي في مرضه الذي مات فيه اضرب على هذا الحديث فإنه خلاف
الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يعني: قوله: اسمعوا وأطيعوا واصبروا " ا ه‍ وفي هذا
الكلام من الإمام أحمد الثابت عنه التصريح البليغ برد الحديث الشاذ ولو
كان في الصحيحين وهذا ظاهر جدا.
" تنبيه ": ومنه يعلم أن الحافظ ابن الجوزي لا يذكر شيئا إلا وهو موثق عنده،
ويجده الباحث بعد التنقير والتمحيص.
183

المنقول والمعقول.
قلت: ومن أثبت الأضراس صفة فما عنده من الإسلام خبر.
الحديث الخامس عشر
روى القاضي أبو يعلى (المجسم): عن عبد الله بن عمرو موقوفا
أنه قال: " خلق الله الملائكة من نور الذراعين والصدر " (121).
قلت: وقد أثبت به القاضي أبو يعلى (المجسم) ذراعين وصدرا
لله عز وجل.
قلت: وهذا قبيح، لأنه حديث ليس بمرفوع ولا يصح، وهل يجوز
أن يخلق مخلوق من ذات الله القديم..؟ هذا أقبح مما ادعاه
النصارى..!!!

(121) قلت: هذا الحديث مروي في كتاب " السنة " المنسوب لابن الإمام أحمد
والذي فيه أنواع من البلايا والطامات، وقد ورد الحديث فيه في موضعين وذلك
ص (171) و (190) وهذا سنده هناك:
حدثني أبي حدثنا أبو أسامة حماد بن أسامة عن هشام عن أبيه عن عبد الله
ابن عمرو به. قلت: وهذا إسناد ظاهره الصحة، إلا أنني أجزم بأن هذا الأثر
إن صح عن عبد الله بن عمرو فهو من الإسرائيليات التي حدث بها عن كعب
الأحبار: (مجمع الكوارث والتخليطات) لأنه قد ورد في ترجمة كعب الأحبار
في " تهذيب التهذيب " (18 / 394 دار الفكر) رواية عطاء عنه وعن عبد الله
بن عمرو، وفي " سير أعلام النبلاء " (3 / 489) أن كعبا: جالس أصحاب
محمد صلى الله عليه وسلم فكان يحدثهم عن الكتب الإسرائيلية.
وقال له سيدنا عمر كما في تاريخ أبي زرعة (1 / 544): " لتتركن الأحاديث
أو لألحقنك بأرض القردة ".
قلت: وفي هذا الأثر المنكر زيادة على ما ورد في الحديث الصحيح الثابت
في مسلم (4 / 2294) من حديث السيدة عائشة مرفوعا:
" خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف
لكم ".
قلت: ثم رجعت إلى " الأسماء والصفات " للحافظ البيهقي ص (343)
فوجدت أن ما كتبته هنا هو مطابق أيضا لما نص عليه الحافظ البيهقي
والمحدث الكوثري رحمهما الله تعالى، إلا أن كلامهما أصرح مما قلت
وأقوى بلا شك وفيه فوائد أذكر بعضها:
(الأولى): قال البيهقي هناك: " عبد الله بن عمرو كان ينظر في كتب الأوائل،
فما لا يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون مما رآه فيما وقع بيده من تلك
الكتب ". يعني الإسرائيلية.
(الثاني): أن البيهقي وصف هذا الأثر بالانقطاع كابن الجوزي، وهذا مما
يؤكد لي أن سند كتاب " السنة " المنسوب لابن أحمد مركب مفتعل كما أننا
على شك من نسبة كتاب " السنة " لابن أحمد وخصوصا أن في سنده - أعني
الكتاب - لابن أحمد مجهول. فتأمل.
184

الحديث السادس عشر
روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي
الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله يدني عبده المؤمن فيضع عليه
كنفه ويقول: أتعرف ذنب كذا؟ " (122).
قال العلماء: يدنيه من رحمته ولطفه. وقال ابن الأنباري: وكنفه:
حياطته وستره، يقال قد كنف فلان فلانا: إذا أحاطه وستره، وكل شئ

(122) رواه البخاري (10 / 486) ومسلم (4 / 2120 برقم 2768) قال الحافظ ابن
حجر في شرحه (10 / 488):
" قوله (حتى يضع كنفه) بفتح الكاف والنون بعدها فاء أي جانبه، والكنف
أيضا؟ الستر وهو المراد هنا، والأول مجاز في حق الله تعالى كما يقال: فلان
في كنف فلان أي في حمايته وكلاءته ". اه‍.
185

ستر شيئا فقد كنفه، ويقال للترس كنيف لأنه يستر صاحبه.
قال القاضي أبو يعلى (المجسم): يدنيه من ذاته.
وهذا قول من لم يعرف الله عز وجل، ولا يعلم أنه لا يجوز عليه
الدنو الذي هو بالمسافة وكذلك قوله: إنه ليدنو به يوم عرفة: أي يقرب
بلطفه وعفوه.
الحديث السابع عشر
روى مسلم في أفراده (123) من حديث معاوية بن الحكم قال:
" كانت لي جارية ترعى غنما لي، فانطلقت ذات يوم، فإذا الذئب قد
ذهب بشاة، وأنا من بني آدم آسف كما يأسفون فصككتها صكة، فأتيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم ذلك علي. فقلت: ألا أعتقها..؟
قال: " أئتني بها ".
فأتيته بها، فقال لها: " أين الله..؟ ".
قالت: في السماء.
قال: " من أنا " قالت: أنت رسول الله.
قال: " أعتقها فإنها مؤمنة ".

(123) أي في صحيحه (1 / 382 برقم 537) دون البخاري. وقد خالف كثير من
الحفاظ في مصنفاتهم هذا اللفظ الذي جاء في " صحيح مسلم " فرووه بلفظ
" أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ فقالت: نعم. قال: أتشهدين أني رسول الله؟
قالت نعم، قال: أتؤمنين بالبعث بعد الموت؟ قالت نعم، قال: فاعتقها " رواه
أحمد في مسنده (3 / 452 / 3) وقال الهيثمي في المجمع (4 / 244): رجاله
رجال الصحيح. وعبد الرزاق في " المصنف " (9 / 175) والبزار (1 / 14 كشف)
والدارمي (2 / 187) والبيهقي (10 / 57) والطبراني (12 / 27) وسنده صحيح
وليس فيه سعيد بن المرزبان كما قال الهيثمي، وابن الجارود في المنتقى
(931) وابن أبي شيبة (11 / 20).
ومن ذلك يتضح ويتبين أن رواية مسلم بالمعنى أو على الأقل فيها احتمال
ومتى طرأ الاحتمال سقط الاستدلال فكيف يبنى على شئ محتمل أصل في
العقيدة؟!
ومن العجيب الغريب أننا نرى المجسمة يرددون هذا اللفظ " أين الله " على
ألسنتهم دائما ولا يدركون أن هذا تصرف رواة وحكاية لكلام النبي صلى الله عليه وسلم
بالمعنى المخطئ، وخصوصا بعد ثبوت هذا الحديث عند غير مسلم بلفظ:
" أتشهدين أن لا إله لا الله.. " المخالف " لأين الله " مخالفة تامة، أو على
الأقل مخالفة لا تفيد معنى " أين الله ".
وإنني جازم تماما وعلى ثقة كبيرة من أن النبي عليه أفضل الصلاة والسلام
لم يقل: " أين الله " لما قدمناه ولأدلة أخرى ذكر بعضها السيد المحدث
أبو الفضل الغماري في " فتح المعين " ص (27) منها:
1) مخالفة هذا الحديث لما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا أتاه شخص
يريد الإسلام، سأله عن الشهادتين، فإذا قبلهما حكم بإسلامه.
2) أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أركان الإيمان في حديث سؤال جبريل، ولم يذكر فيه
عقيدة أن الله في السماء التي تعتقدها المجسمة.
3) أن عقيدة (" أين الله " في السماء) لا تثبت توحيدا ولا تنفي شركا، فكيف
يصف النبي صلى الله عليه وسلم صاحبها بأنه مسلم وقد كان المشركون يعتقدون أن الله في
السماء، ويشركون معه آلهة في الأرض؟! كما هو مشهور عنهم، وقد حكى
الله عز شأنه عن إمام المجسمة فرعون أنه ظن أن رب سيدنا موسى عليه
الصلاة والسلام في السماء فقال: (يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ
الأسباب، أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا وكذلك
زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل) غافر: 36 - 37 فبين الله تعالى
في كتابه أن من ظن حلول الله في السماء فقد صد عن سبيل المعرفة،
والمفسرون متفقون على أن معنى قوله (وإني لأظنه كاذبا) أي: في أن له
إلها غيري بدليل قوله: (ما علمت لكم من إله غيري) فداء التجسيم هو
الداء العضال نسأل الله السلامة.
4) إن ظواهر بعض النصوص التي فيها أن الله في السماء ليس مرادا - أعني
هذا الظاهر - عند العلماء وإنما هو مؤول لأن الله لا يسأل عنه بأين، ولم
يثبت هذا اللفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قدمنا، ومن أخذ بظاهر هذه النصوص
فإنه يكون بذلك معتقدا حلول معبوده في خلقه، لأن السماء خلق من خلق
الله تعالى فإذا كان الله فيها كما تزعم المجسمة أو ينزل في الثلث الأخير
من الليل إلى الطبقة السفلى منها فمعناه كما هو واضح أنه حال بها وأنها
أوسع وأكبر منه وهذا باطل من القول بداهة، وأين ذهب قوله تعالى عن بعض
خلقه وهو الكرسي (وسع كرسيه السماوات والأرض) وكذلك أين ذهب قوله
صلى الله عليه وسلم: " يا أبا ذر: ما السماوات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة،
وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة " رواه ابن حبان
وسعيد بن منصور بإسناد صحيح كما قال الحافظ في الفتح (13 / 411).
ولما قدمناه قال الحافظ في الفتح (1 / 220):
" إن إدراك العقول لأسرار الربوبية قاصر فلا يتوجه على حكمه لم ولا كيف،
كما لا يتوجه عليه في وجوده أين وحيث " ا ه‍.
ولا عبرة بكلام المعلق عليه - الفتح - البتة لأنه لا يعرف التوحيد!! فليخجل
بعد هذا من يدعو الناس إلى عقيدة " الله في السماء " وليتب.
وقد روي حديث الجارية في حادثة أخرى وليس فيه ذاك اللفظ المستشنع
الشاذ: " أين الله "، وإنما فيه: " من ربك؟ " وهذا يؤكد شذوذ رواية " أين الله "
ففي " صحيح ابن حبان " (1 / 419 برقم 189) عن الشريد بن سويد الثقفي،
قال: قلت: يا رسول الله، إن أمي أوصت أن نعتق عنها رقبة وعندي جارية
سوداء، قال: " ادع بها " فجاءت، فقال: " من ربك؟ " قالت: الله، قال: " من
أنا؟ " قالت: رسول الله، قال: " أعتقها فإنها مؤمنة ".
قلت: روى هذا اللفظ " من ربك " في هذه القصة وفي غيرها جماعة من
الحفاظ بأسانيد صحيحة منهم: الإمام أحمد في المسند (4 / 222 و 388
و 389) والنسائي في السنن الصغرى (6 / 252) وأبو داود (4 / 230 برقم
3283) إلا أنه لم يذكر المتن، والربيع بن حبيب في مسنده (2 / 62)
والطبراني في الكبير (7 / 320 برقم 7257) و (17 / 167 برقم 338)
والحاكم في " المستدرك " (3 / 258) والبيهقي في سننه (7 / 388 و 389)
وانظر " مجمع الزوائد " (1 / 23) و (4 / 244 و 245).
والله تعالى لا يوصف بأنه بذاته فوق العرش ولا تحته بعد تحقق وجوده، لأنه
سبحانه ليس جسما ولا يمكن للعقول أن تدركه، مع التنبيه ههنا بأنه لا يجوز
أن يعتقد أي مسلم بأنه في كل مكان، بل إن جواب من سألنا أين الله؟ هو:
موجود بلا مكان والله الموفق.
186

قلت: قد ثبت عند العلماء أن الله تعالى لا يحويه السماء والأرض
ولا تضمه الأقطار، وإنما عرف بإشارتها تعظيم الخالق عندها (124).
الحديث الثامن عشر
رواه أبو رزين العقيلي قال: قلت يا رسول الله: أين كان ربنا قبل
أن يخلق الخلق..؟ قال: " كان في عماء، ما تحته هواء، وما فوقه
هواء، ثم خلق عرشه على الماء " (125).
قلت: هذا حديث تفرد به يعلى بن عطاء عن وكيع بن عدس،
وليس لوكيع راو غير يعلى والعماء السحاب.

(124) هذا على فرض ثبوت لفظة " أين الله " ولم تثبت، مع كونها في مسلم.
(125) رواه الترمذي (5 / 288 برقم 3109) وابن ماجة (1 / 64 برقم 182) والإمام
أحمد (4 / 11) والطبراني في الكبير (19 / 207 برقم 468) وابن حبان في
صحيحه (8 / 4 برقم 6108 دار الفكر) وابن أبي عاصم في سنته (272).
قلت: هذا حديث ضعيف لأجل حماد بن سلمة ولا تقبل أخباره في الصفات
البتة، وكذلك يضعف هذا الحديث بوكيع بن عدس لأنه مجهول لم يرو عنه
إلا يعلى بن عطاء، قال الحافظ في " تهذيب التهذيب " (11 / 115):
" قال: ابن قتيبة في اختلاف الحديث: غير معروف، وقال ابن القطان:
مجهول الحال " ا ه‍
قلت: فبمثل حديثه لا يثبت في الطهارة حكم فكيف في أصول الدين؟!!
" تنبيه ": من العجيب الغريب المضحك ما قاله أحد المتمسلفين في رده على
إمام العصر أبي الفضل الغماري في كتاب يرد فيه على كتاب " فتح المعين "
ص (49) ما نصه:
" إن وقيعته في حماد بن سلمة: يخشى عليه من قول ابن المديني: من
سمعتموه يتكلم في حماد فاتهموه " ا ه‍.
قلت: وكأن هذا القائل تخيل أن كلام ابن المديني نص كتاب الله أو سنة
رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه! وهو معذور في ذلك لأن عقله لا يستوعب أكثر
من ذلك، فلم يرتق إلا لقول ابن المديني رحمه الله وأمثاله فهو بعد لم يصل
إلى التمييز بينه وبين نصوص الكتاب والسنة، ونقول لأمثاله: ونحن نزيدك
ونعلمك بأن ابن المديني لم ينفرد بما نقلته عنه وإنما تابعه على ذلك
أحمد بن حنبل ويحيى بن معين كما في " سير أعلام النبلاء " في المجلد
السابع في ترجمة حماد ص (444) وبعد هذا نقول للطائفة المتعصبة لأقوال
الرجال المخطئة: نحن نغمز حماد بن سلمة أشد الغمز وخصوصا في أحاديثه
في الصفات وعلى ذلك أهل العلم من المحدثين وغيرهم، فهذا البخاري
يتحايد حمادا في صحيحه وهذا مسلم لم يخرج له في الأصول إلا من حديثه
عن ثابت كما قال الحافظ الذهبي في " سير أعلام النبلاء " (7 / 446) وقال
ص (452):
قال أحمد بن حنبل: إذا رأيت من يغمزه - يعني حمادا - فاتهمه، فإنه كان
شديدا على أهل البدع، إلا أنه لما طعن في السن ساء حفظه، فلذلك لم
يحتج به البخاري، وأما مسلم فاجتهد فيه، وأخرج من حديثه عن ثابت مما
سمع منه قبل تغيره... فالاحتياط أن لا يحتج به فيما يخالف
الثقات... " ا ه‍
قلت: وقول من قال: إذا رأيت من يغمزه فاتهمه، فمعناه: من يغمزه لكونه
يرد على أهل البدع لا من حيث ضعفه في الحديث، كما يتبين من سبر كلام
الأئمة، فلم يفهم ذلك المتمسلف، ولم يتدبر أو يعرف أن شيخه ومرجعه
في الحديث المحدث!! المتناقض قال عن حماد هذا في " ضعيفته "
(2 / 333): " إن حماد له أوهاما " ا ه‍ وهذا كلام منقوض عند شيخه!!!
المتناقض!! بالإضافة إلى كونه خطأ في العربية فلو تحرى الصواب لقال:
" إن حمادا له أوهام " فتدبروا يا قوم في هذه الطائفة الأثرية!!
ثم إن هذا الحديث مؤول عند أئمة المحدثين السلفيين الذين أخطأوا
وصححوه ولننقل ذلك:
1) قال الترمذي رحمه الله تعالى في سننه (5 / 228) بعدما رواه: " قال
يزيد بن هارون: العماء أي ليس معه شئ " وأقره وبذلك يكون مؤولا عند
يزيد بن هارون والترمذي.
2) وقال الحافظ ابن حبان في صحيحه (8 / 4) عقب روايته له:
" وهم في هذه اللفظة حماد بن سلمة... يريد به أن الخلق لا يعرفون
خالقهم من حيث هم إذ كان ولا زمان ولا مكان، ومن لم يعرف له زمان
ولا مكان ولا شئ معه لأنه خالقها كان معرفة الخلق إياه كأنه كان في عماء
عن علم الخلق لا أن الله كان في عماء، إذ هذا الوصف شبيه بأوصاف
المخلوقين ". ا ه‍
189

إعلم أن الفوق والتحت يرجعان إلى السحاب لا إلى الله تعالى،
وفي معنى فوق، فالمعنى: كان فوق السحاب بالتدبير والقهر، ولما كان
القوم يأنسون بالمخلوقات، سألوا عنها، والسحاب من جملة خلقه،
ولو سئل عما قبل السحاب، لأخبر أن الله تعالى كان ولا شئ معه،
كذلك روي عن عمران بن حصين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" كان الله ولا شئ معه " (126).

(126) صحيح ولم أقف عليه للآن بلفظ: " ولا شئ معه " وقد ذكره الحافظ ابن حجر
في الفتح (8 / 289) فقال: وفي رواية غير البخاري: " ولم يكن شئ معه "
وكذلك ذكر الحافظ ابن كثير في " البداية والنهاية " (1 / 9) وانظر الفتح أيضا
(13 / 410). وفي معناه: " كان الله ولا شئ غيره " رواه البخاري (8 / 286
الفتح) والطبراني (18 / 204) وابن جرير في تفسيره (12 / 4) والحاكم
(2 / 341) والبيهقي (9 / 3) وهو صحيح الإسناد بلا شك، وفيه رد على من
يقول بقدم العالم بالفرد أو بالنوع، وراجع في ذلك رسالتنا (التنبيه والرد على
معتقد قدم العالم والحد).
191

وقال أبو الحسين ابن المنادى (127) ونقلته من خطه:
" وصف الهواء بالفوقية والتحتية مكروه عند أهل العلم لما في ذلك
من الجعل كالوعاء لمن ليس كالأشياء جل وتعالى، قال: ولسنا نختلف
أن الجبار لا يعلوه شئ من خلقه بحال، وأنه لا يحل بالأشياء بنفسه،
ولا يزول عنها، لأنه لو حل بها لكان منها، ولو زال عنها لنأى عنها
فاتفاقنا على هذا أكثر من هذا الخبر على المعنى المكروه، والتأويل
المألوف ".
الحديث التاسع عشر
روى البخاري (3 / 29 فتح) ومسلم (1 / 522) في الصحيحين
من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ينزل ربنا
كل ليلة إلى السماء الدنيا حتى يبقى ثلث الليل الأخير يقول: " من
يدعوني فاستجيب له " (128).

(127) هو الإمام الحافظ أحمد بن جعفر المنادي البغدادي، مترجم في " سير أعلام
النبلاء " (15 / 361) قال الداني: مقرئ جليل غاية في الإتقان، فصيح
اللسان، عالم بالآثار، نهاية في علم العربية، صاحب سنة، ثقة مأمون.
قلت: ولد سنة (257) ه‍ وتوفي سنة (336) ه‍.
(128) هذا الحديث ضبطه بعض المشايخ كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح
(3 / 30) بضم الياء في ينزل، وعلى تقدير الفتح فيها فإن المراد بذلك أنه
ينزل سبحانه وتعالى ملكا أي يأمره بالنزول إلى السماء الدنيا فينادي، يثبت
ذلك ما رواه النسائي في الكبرى (6 / 124 برقم 10316) وعمل اليوم والليلة
(ص 340 برقم 482 بتحقيق فاروق حماده) من حديث أبي سعيد وأبي هريرة
مرفوعا:
" إن الله عز وجل يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ثم يأمر مناديا ينادي
يقول: هل من داع يستجاب له؟ هل من مستغفر يغفر له؟ هل من سائل
يعطى؟ " وما رواه الإمام أحمد (4 / 22 و 217) والبزار (4 / 44 كشف الأستار)
والطبراني (9 / 51) عن سيدنا عثمان بن أبي العاص الثقفي مرفوعا: " تفتح
أبواب السماء نصف الليل، فينادي مناد: هل من داع فيستجاب له، هل من
سائل فيعطى، هل من مكروب فيفرج عنه، فلا يبقى مسلم يدعو بدعوة إلا
استجاب الله عز وجل له إلا زانية تسعى بفرجها أو عشارا " وهو صحيح الإسناد
وانظر " مجمع الزوائد " (10 / 209) وفيه: رواه الطبراني: ورجاله رجال
الصحيح.
قلت: وقد ضعف حديث النسائي المحدث!! المتناقض! في " ضعيفته " برقم
(3897) كما نقل ذلك عنه الشيخ شعيب في تعليقه على كتاب " أقاويل
الثقات " لمرعي الكرمي ص (205) من الطبعة الأولى وتابعه على تضعيفه
فأخطأ كل منهما!!
وقد زعما أن حفص بن غياث تغير حفظه قليلا بأخرة، وأقول: إن هذا
تضعيف مردود لأن رواية حفص عن الأعمش كما في إسناد هذا الحديث كانت
في كتاب عند ابن حفص - عمر - كما في ترجمة حفص في " تهذيب الكمال "
(7 / 60) و " تهذيب التهذيب " (2 / 358) فلا يضرها اختلاط حفص بأخرة
على تسليم وقوعه.
وقوله - المعل ق على " أقاويل الثقات " عن حديث النسائي منكر بهذا السياق.
غريب!! بل منكر من القول، ويصح ذلك لو كان حفص ضعيفا وليس هو
كذلك، ثم لا نكارة في المتن البتة، فلو كان ما ادعاه الألباني ومتابعه حقا
لكان شاذا لا منكرا لقول أهل الحديث:
وما يخالف ثقة به الملا * فالشاذ والمقلوب قسمان تلا
ثم إن الحديث لم يقل فيه أي حافظ فيما علمنا: " إنه منكر " بل صححوه
ونقل: صاحب " كتاب الثقات " الذي حققه!! الشيخ شعيب عن القرطبي في
تفسيره (4 / 39) تصحيحه حيث قال:
" صححه أبو محمد عبد الحق. قال: وهذا يرفع الإشكال ويزيل كل احتمال،
والسنة يفسر بعضها بعضا، وكذلك الآيات، ولا سبيل إلى حمله على صفات
الذات المقدسة، فإن الحديث فيه التصريح بتجدد النزول، واختصاصه
ببعض الأوقات والساعات، وصفات الرب - سبحانه - يجب اتصافها بالقدم،
وتنزيهها عن الحدوث والتجدد بالزمان " ا ه‍.
أقول: وأما حديث عثمان بن أبي العاص الذي فيه " فيناد مناد " - الذي
صححه المحدث!! المتناقض!! في " صحيحته " برقم (1073) وانظر كتابنا
(التناقضات) ص (189) - ففيه أيضا إثبات أن النازل هو ملك من ملائكة
الله سبحانه بأمره، ولا يحتمل أن المراد ب‍ " مناد " هو الله سبحانه البتة، لأن
النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول عن ربه سبحانه " مناد " ولأن الله سبحانه لا يمكن أن ينزل
بذاته كما تتخيل المجسمة إلى السماء الدنيا لأن في ذلك حلول الخالق في
المخلوق وهو كفر بواح، وقول من قال: " ينزل لا كنزولنا " كلام فلسفي
متناقض لا معنى له، لأننا نقول له: إما أن تقول ينزل بذاته فتكون مجسما
حلوليا وإما أن تنزه الله عن ذلك وتقول بما في هذه الأحاديث الصحيحة
المفسرة المبينة لمعنى قوله في الحديث الآخر " ينزل الله " مع أن بعض
المشايخ ضبط هذه اللفظة بضم الياء فقال: " ينزل " كما أثبتناها في المتن
الذي أورده الحافظ ابن الجوزي وكما جاء ذلك في كلام الحافظ ابن حجر
في " فتح الباري " (3 / 30) فاستيقظ وتنبه.
" ملاحظة ": وهناك ثمة ملاحظة مهمة جدا، وهي أن عقيدة " نزول الله بذاته
إلى السماء الدنيا في شطر الليل الآخر " باطلة بصريح المعقول عند جميع
العقول السليمة، وذلك لأن شطر الليل الآخر مستمر على وجه الكرة الأرضية
طوال الأربع والعشرين ساعة، وهو منتقل من جزء من الأرض إلى الجزء الذي
يليه، فعلى هذا متى يجلس معبود المجسمة على عرشه؟!!
نسأل الله التوفيق والسلامة في المعتقد والدين.
192

قلت: وقد روى حديث النزول عشرون صحابيا، وقد سبق القول
إنه يستحيل على الله عز وجل الحركة والنقلة والتغير. فيبقى الناس
رجلين، أحدهما: المتأول له بمعنى: أنه يقرب رحمته (129). وقد ذكر
أشياء بالنزول فقال تعالى: (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد)
الحديد: 25.

(129) وممن أول حديث النزول بنزول رحمته سبحانه الإمام مالك بن أنس - رحمه الله تعالى - وهو من أئمة السلف، فيما رواه عنه الحافظ ابن عبد البر في كتابه
" التمهيد " (7 / 143)، وفي " سير أعلام النبلاء " (8 / 105):
" قال ابن عدي: حدثنا محمد بن هارون بن حسان، حدثنا صالح بن أيوب،
حدثنا حبيب بن أبي حبيب، حدثني مالك قال: يتنزل ربنا تبارك وتعالى أمره،
فأما هو فدائم لا يزول. قال صالح: فذكرت ذلك ليحيى بن بكير، فقال:
حسن والله، ولم أسمعه من مالك ".
قلت: وفي هذا أن مالكا ينزه الله عن الحركة، ولا نقول إنه: ساكن. سبحان
ربي العظيم الأعلى.
194

وإن كان معدنه بالأرض وقال: (وأنزلنا لكم من الأنعام ثمانية
أزواج) الزمر: 6.
ومن لم يعرف كيف نزول الجمل كيف يتكلم في تفصيل هذه
الجمل..؟!
والثاني: الساكت عن الكلام في ذلك مع اعتقاد التنزيه (130). روى
أبو عيسى الترمذي عن مالك بن أنس وسفيان بن عيينة وابن المبارك إنهم

(130) وهم السلف الذين يثبتون النزول ويقولون: " أمروها كما جاءت " مع اعتقادهم
تنزيه الله من الحلول في السماء وبذلك يفارقهم المجسمة الذين يقولون ينزل
بذاته.
قال الحافظ ابن حبان في صحيحه (2 / 136) عقب روايته لحديث النزول:
" ينزل بلا آلة ولا تحرك ولا انتقال من مكان إلى مكان " ا ه‍
فهذا مذهب السلف وهو خلاف مذهب الحراني بتشديد الراء الذي يثبت
الحركة للمولى سبحانه، عما يقول في موافقته (2 / 4) وينسبها للسلف زورا
والله المستعان عليه وعلى مقلديه.
وهذا الحراني ينقل في مواضع أخرى عن السلف!! زورا أنهم اختلفوا عند
نزول معبوده هل يخلو منه العرش أم لا؟! وهذا مع أنه هذيان فارغ يدل على
أن الرجل غارق في التجسيم إلى شحمتي أذنيه معتقد بحديث " الأصابع
الأربعة " فتنبهوا حفظكم الله.
195

قالوا: أمروا هذه الأحاديث بلا كيف (131).
قلت: والواجب على الخلق اعتقاد التنزيه وامتناع تجويز
النقلة (132)، وأن النزول الذي هو انتقال من مكان إلى مكان يفتقر إلى
ثلاثة أجسام: جسم عالي، وهو مكان الساكن، وجسم سافل، وجسم
ينتقل من علو إلى أسفل، وهذا لا يجوز على الله تعالى قطعا.
فإن قال العامي: فما الذي أراد بالنزول؟ قيل: أراد به معنى يليق
بجلاله لا يلزمك التفتيش عنه (133)، فإن قال: كيف حدث بما لا
أفهمه؟ قلنا: قد علمت أن النازل إليك قريب منك، فاقتنع بالقرب
ولا تظنه كقرب الأجسام.

(131) ذكر ذلك الترمذي في سننه (4 / 692) وقال بعده:
" وهذا الذي اختاره أهل الحديث أن تروى هذه الأشياء كما جاءت ويؤمن
بها ولا تفسر ولا تتوهم ولا يقال كيف.. " ا ه‍
قلت: والمجسمة توهموا لها كيفا وهو الحركة فاعتقدوا أن الله يتحرك فخالفوا
السلف ونسبوا عقيدتهم إلى السلف كما فعل الحراني في موافقته (2 / 4)
فلا حياهم الله ولا بياهم.
(132) قال الحافظ البيهقي في سننه الكبرى (3 / 3):
" والنزول والمجئ صفتان منفيتان عن الله تعالى من طريق الحركة والانتقال
من حال إلى حال... " ا ه‍.
قلت: ومن أثبت لله تعالى صفة النزول ونفى عنه الحركة مصيب بلا شك،
لكن ما ذهبنا إليه من أن المراد بذلك نزول الملك بأمره كما جاء في الحديث
الصحيح هو الأصوب والأحسن والأتبع للسنة على أنه يمكن أن يكون قد
أراد أولئك الأئمة ما ذهبنا إليه من المعنى، وخصوصا أن لغة العرب تقتضي
أو تقبل هذا كما يقال غزا الملك البلدة الفلانية وهو لم يبرح قصره فيكون
هو الآمر بذلك.
(133) قلت: الأصوب أن يقال له: معناه ينزل ملكا وتسرد له الرواية الصحيحة في
نزول الملك حتى لا يبقى في حيرة.
196

قال ابن حامد (المجسم): هو على العرش بذاته، مماس له،
وينزل من مكانه الذي هو فيه فيزول وينتقل.
قلت: وهذا رجل لا يعرف ما يجوز على الله تعالى.
وقال القاضي أبو يعلى (المجسم): النزول صفة ذاتية، ولا نقول
نزوله انتقال.
قلت: وهذه مغالطة. ومنهم من قال: " يتحرك إذا نزل ". ولا يدري
أن الحركة لا تجوز على الخالق.
وقد حكوا عن أحمد ذلك وهو كذب عليه (134). ولو كان النزول
صفة لذاته، لكانت صفاته كل ليلة تتجدد وصفاته قديمة كذاته.

(134) وقد كذب الحنابلة على الإمام أحمد كثيرا وافتروا على لسانه أشياء هو برئ
منها كما أنهم نسبوا إليه مصنفات لم يصنفها!! فلا يقبل منهم ما ينقلونه عنه
وخصوصا الشيخ الحراني، وقد مر في تعليق سابق أنهم دسوا في " مسنده "
أحاديث كما في " لسان الميزان " (4 / 32 دار الفكر) وهذا الذهبي يثبت ذلك
في " سير أعلام النبلاء " (11 / 286) ويطعن في رسالة الإصطخري التي
وضعها الحنابلة ونسبوها للإمام أحمد، ورسالة الإصطخري هذه مذكورة
بتمامها في طبقات الحنابلة (1 / 24) وفيها من العبارات ما يخالف ما عليه
السلف.
197

الحديث العشرون
روى البخاري (7 / 119 فتح) ومسلم (3 / 1624) في الصحيحين
من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. أن رجلا أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: " إني مجهود. فقال: من يضيف هذا هذه الليلة..؟ ".
فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله، فانطلق به فقال
لامرأته: هل عندك شئ...؟
قالت: لا إلا قوت صبياني.
قال: فعلليهم بشئ وإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم. فإذا دخل
ضيفنا فأطفئي السراج، وأريه أنا نأكل. فقعدوا وأكل الضيف، فلما
أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
" لقد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة " (135).
وفي أفراد البخاري (6 / 145 فتح) من حديث أبي هريرة رضي
الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم قال: " عجب ربك من قوم جئ بهم في
السلاسل حتى يدخلهم الجنة ".

(135) وانظر الترمذي (5 / 409 حديث 3304 شاكر) وشرح مسلم للإمام النووي
(14 / 12) وفتح الباري (7 / 119 - 120) وعارضه الأحوذي (12 / 190 -
191) وليس في الحديث أي دليل على جواز الاختلاط كما بينت ذلك في
بعض كتبي التي رددت بها على من أجاز الاختلاط بحجج أوهى من بيت
العنكبوت.
198

قال العلماء: العجب إنما يكون من شئ يدهم الإنسان مما لا
يعلمه فيستعظمه وهذا لا يليق بالخالق سبحانه، لكن معناه: عظم قدر
ذلك الشئ عند الله لأن المتعجب من شئ يعظم قدره عنده، ومعنى
في السلاسل: أكرهوا على الطاعة التي بها يدخلون الجنة. وقال ابن
الأنباري: معنى عجب ربك: زادهم إنعاما وإحسانا، فعبر بعجب عن
هذا.
وقال ابن عقيل: العجب. في الأصل استغراب الشئ وذلك يكون
من علم ما لم يعلم، وإلا فكل شئ أنس به لا يتصور العجب منه،
فإن الإنسان إذا رأى حجر المغناطيس يجذب الحديد ولم يكن رآه قبل
ذلك عجب، والباري سبحانه لا يعزب عنه شئ، فأين العجب
منه؟! فلم يبق للحديث معنى إلا أن يكون فعل شئ أعجبه فعله
وكذلك الضحك لا يصدر إلا عن راض ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " لله أفرح
بتوبة عبده " (136) أي رضي، ومنه قوله تعالى: (كل حزب بما لديهم
فرحون) المؤمنون: 54، أي راضون.
وقال القاضي أبو يعلى (المجسم): لا نثبت عجبا هو تعظيم الأمر
بل نثبت ذلك صفة.
قلت: وهذا ليس بشئ.

(136) رواه البخاري (11 / 102 فتح) ومسلم (4 / 2102 برقم 2 و 3).
199

الحديث الحادي والعشرون
روى البخاري (11 / 102 فتح) ومسلم (4 / 2102 / 4) من حديث
أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" لله أشد فرحا بتوبة عبده إذا تاب، من أحدكم براحلته إذا
وجدها ".
قلت: من كان مسرورا بشئ راضيا به قيل له فرح،
والمراد الرضا بتوبة التائب، ولا يجوز أن يعتقد في الله تعالى التأثر
الذي يوجد في المخلوقين، فإن صفات الحق قديمة فلا تحدث له
صفة.
الحديث الثاني والعشرون
روى مسلم (1 / 162) في أفراده من حديث أبي موسى قال: قام
فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال:
" إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه..
إلى قوله: حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات (137) وجهه ما انتهى
إلى بصره من خلقه ".
قلت: معنى يخفض القسط ويرفعه: أي يخفض بعدل ويرفع
بعدل.

(137) قلت: السبحات كما في " تاج العروس " (2 / 157): أنواره وجلاله وعظمته،
وهذا الحديث من مشكل صحيح مسلم، لما فيه من الألفاظ والمعاني
الغربية، وقد أشار مسلم إلى عنعنة الأعمش عن عمرو بن مرة وكان مدلسا
كما هو معلوم، فهذه رواية شاذة لا سيما وقد أشار مسلم بعدها إلى علة فيها
ثم روى الحديث بعد ذلك بلفظ معقول شرعا من طريق شعبة عن عمرو بن
مرة بلفظ:
" إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام. يرفع القسط ويخفضه، يرفع إليه عمل
النهار بالليل. وعمل الليل بالنهار ".
فلفظ السبحات: لا يثبت ولا يجوز أن يجزم به صفة لله تعالى، وخصوصا
أن الحافظ ابن الجوزي حكى عن أبي عبيدة: أنه لا يعرف السبحات في
لغة العرب أي لم يسمعها إلا في هذا الحديث.
200

وقوله: حجابه النور: ينبغي أن يعلم أن هذا الحجاب للخلق عنه،
لأنه لا يجوز أن يكون محجوبا لأن الحجاب يكون أكبر مما يستره،
ويستحيل أن يكون جسما أو جوهرا أو متناهيا محاذيا إذ جميع ذلك
من أمارات الحدث، وإنما عرف الناس حدوث الأجسام من حيث
وجودها متناهية محدودة محلا للحوادث.
وكما أنه لا يجوز أن يكون لوجوده ابتداء ولا انتهاء لا يصح أن
يكون لذاته انتهاء، وإنما المراد: أن الخلق محجوبون عنه كما قال
سبحانه وتعالى: (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) المطففين:
15.
وقد روى سهل بن سعد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " دون الله سبعون
ألف حجاب من نور وظلمة " (138).

(138) حديث موضوع رواه ابن أبي عاصم في سنته (ص 353) وأبو يعلى والطبراني
في الكبير كما في مجمع الزوائد (1 / 79) وابن الجوزي في الموضوعات
(1 / 116) والعقيلي في الضعفاء الكبير (3 / 152) وهو في " اللآلي
المصنوعة في الأحاديث الموضوعة " (1 / 14).
201

قلت: وهذا حديث لا يصح ولو كان صحيحا كانت الحجب
للخلق لا للحق. وأما السبحات فجمع سبحة، قال أبو عبيدة: لم نسمع
هذا إلا في هذا الحديث، قال: ويقول إن السبحة جلال وجهه. ومنه
قوله: سبحان الله وإنما هو تعظيم له وتنزيه.
وقال ابن خزيمة (139): " باب صفة وجه ربنا "، ثم ذكر حديث
السبحات متوهما النور المعروف، والخالق منزه عن النور الجسماني.
وروى أبو بكر الخلال في كتاب " السنة " قال: سألت أحمد بن يحيى
عن قوله: لأحرقت سبحات وجهه فقال: السبحات الموضع الذي
يسجد عليه.
قلت: فعلى هذا يكون الخطاب بما يعرفون كما قال: " قلوب
العباد بين إصبعين ".
وقال القاضي أبو يعلى (المجسم): لا يمنع إطلاق حجاب من
دون الله تعالى، لا على وجه الحد والمحاذاة.
قلت: وهذا كلام مختلط لا ترضى به العوام.

(139) الذي ندم على ما قال، كما في " الأسماء والصفات " للحافظ البيهقي
ص (267).
202

الحديث الثالث والعشرون
روى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " أهل
الجنة يرون ربهم تعالى في كل جمعة، في رمال الكافور، وأقربهم منه
مجلسا أسرعهم إليه يوم الجمعة " (140).
قوله: في رمال الكافور: إشارة إلى الحاضرين. ثم في رمال
الكافور وأقربهم منه أي أحظاهم عنده.
وفي حديث آخر: المقسطون يوم القيامة على منابر من نور على
يمين الرحمن " (141).
وقال بعضهم: " يمين العرش ".

(140) هذا حديث موضوع تالف رواه الآجري في كتابه " الشريعة " ص (265)
وإسناد هذا الحديث ظلمات بعضها فوق بعض حيث قال فيه:
حدثنا أبو بكر بن أبي داود (وهو كذاب كما وصفه أبوه صاحب السنن بذلك
أنظر " لسان الميزان " 3 / 364) حدثنا عمي محمد بن الأشعث (مجهول كما
في ثقات ابن حبان 9 / 149) حدثنا حسن بن حسن (مجهول) قال حدثني
أبي حسن (مجهول) عن الحسن عن ابن عباس به.
(141) رواه ابن حبان في صحيحه كما في " موارد الظمآن " برقم (1538) بهذا
اللفظ، والحديث رواه مسلم (3 / 1458 برقم 1827) بلفظ:
" إن المقسطين عند الله على منابر من نور، عن يمين الرحمن عز وجل. وكلتا
يديه يمين، الذي يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا " ورواه النسائي في
سننه الصغرى (8 / 221 رقم 5379) وقال عقبه: " قال محمد في حديثه وكلتا
يديه يمين " وروايته لم يذكر فيها هذه اللفظة، وهذه منه إشارة إلى تصرف
الرواة في متن الحديث، والذي يؤكد ذلك رواية الحاكم في " المستدرك "
(4 / 88) بإسناد صحيح بلفظ:
" إن المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ يوم القيامة بين يدي الرحمن عز
وجل بما أقسطوا في الدنيا " ورواه الإمام أحمد في المسند (9 / 200 رقم
6485 شاكر) بمثل لفظ الحاكم، وكذلك رواه في المسند (2 / 203)
و (11 / 121 برقم 6897 شاكر).
203

وفي حديث " سوق الجنة " فلا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا
حاضره الله محاضرة (142). ويروى " خاصرة " (143) بالخاء المعجمة، ومثل
هذا لا يثبت، والمخاصرة: المصافحة.
وقال القاضي أبو يعلى (المجسم): لا يمتنع أن يكون الحق في
رمال الكافور.
قلت: فقد أقر بالحصر. ثم قال: لا على وجه الانتقال، وهذا
تلاعب. ثم قال: ولا يمتنع قربهم من الذات وهذا يضيع معه
الحديث، واستدل بقوله:
" ما منكم من أحد إلا سيخلو به ربه ".
وقال: الخلوة عبارة عن القرب، ويجوز القرب من الذات.
قلت: وقد سبق رد هذا.

(142) رواه ابن ماجة في سننه برقم (4336) بلفظ " محاضرة " وهو حديث ضعيف.
(143) رواه بلفظ " خاصره " الترمذي واسناده ضعيف، وهو نفس اسناد ابن ماجة وقال
عقبة في سننه (4 / 686): حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
204

الحديث الرابع والعشرون
روى البخاري (13 / 438 فتح) ومسلم (4 / 2148) في
الصحيحين من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: جاء رجل
من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يا محمد إن الله يضع السماوات على
إصبع والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر والأنهار
على إصبع.. وفي لفظ الماء والثرى على إصبع، ثم يهزهن ".
فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (وما قدروا الله حق قدره) (144) الزمر: 67.
وفي بعض الألفاظ: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبا وتصديقا
له (145).

(144) وهذا إنكار صريح منه صلى الله عليه وسلم على هذا اليهودي في قوله له: (وما قدروا الله
حق قدره) ولو لم يكن منكرا عليه لما تلا هذه الآية. وأما ما زاده بعض الرواة
من قوله (تعجبا وتصديقا له) فهو وهم باطل بصريح الآية التي ذكرها صلى الله عليه وسلم.
وقد أسهب الحافظ ابن حجر في الفتح (13 / 397 - 398) في سرد أقوال
من أول الأصابع ولا حاجة لذلك مع إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك اليهودي وتلاوة
الآية وإن كان صلى الله عليه وسلم قد ضحك مع ذلك، لأن ضحكه كان بسبب استسخاف
عقل اليهودي بدليل ذكره للآية.
وانظر لزاما كتاب " فتح المعين " للإمام المحدث أبي الفضل الغماري وتعليقنا
عليه ص (43 - 45).
(145) هذا اللفظ ثابت في البخاري (13 / 393 فتح) وهو من قول أحد الرواة مع
كونه مردودا.
قال ابن حجر في الفتح (13 / 398) نقلا عن القرطبي:
" وأما من زاد " وتصديقا له " فليست بشئ فإنها من قول الراوي وهي باطلة
لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يصدق المحال، وهذه الأوصاف في حق الله
محال... " ا ه‍.
205

قال أبو سليمان الخطابي (146): لا تثبت لله صفة إلا بالكتاب أو خبر
مقطوع بصحته يستند إلى أصل في الكتاب أو في السنة المقطوع على
صحتها، وما بخلاف ذلك فالواجب التوقف عن إطلاق ذلك ويتأول
على ما يليق بمعاني الأصول المتفق عليها من أقوال أهل العلم من
نفي التشبيه.
قال: وذكر الأصابع لم يوجد في الكتاب ولا في السنة التي شرطها
في الثبوت ما وصفنا، فليس معنى اليد في الصفات معنى اليد حتى
يتوهم بثبوتها ثبوت الأصابع بل هو توقيف شرعي أطلقنا الاسم فيه على
ما جاء به الكتاب من غير تكييف ولا تشبيه.
قلت: ظاهر ضحك النبي صلى الله عليه وسلم الانكار، واليهود مشبهة ونزول الآية
دليل على إنكار الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن عقيل: ما قدروا الله حق قدره حيث جعلوا صفاته تتساعد
وتتعاضد على حمل مخلوقاته وإنما ذكر الشرك في الآية ردا عليهم.
وفي معنى هذا الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: " إن قلوب بني
آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء " (147).
ولما كان القلب بين إصبعين ذليلا مقهورا، دل بهذا على أن
القلوب مقهورة لمقلبها.

(146) - هو الإمام العلامة الحافظ اللغوي حمد بن محمد إبراهيم بن خطاب البستي
صاحب التصانيف، مترجم في " سير أعلام النبلاء " (17 / 23) ولد سنة
بضع عشرة وثلاث مائة، وتوفي سنة (388) ه‍. رحمه الله تعالى.
(147) - رواه مسلم (4 / 2045 برقم 17) والإمام أحمد (2 / 168) والترمذي
(4 / 449 برقم 2141 شاكر) والحاكم (2 / 288) وغيرهم.
206

وقال القاضي أبو يعلى (المجسم): غير ممتنع حمل الخبر على
ظاهره في الإثبات، والإصبع صفة راجعة إلى الذات، لأنا لا نثبت
أصابعا هي جارحة ولا أبعاضا.
قلت: وهذا كلام مخبط لأنه إما أن يثبت جوارحا وإما أن يتأولها،
فأما حملها على ظواهرها، فظواهرها الجوارح.!!
ثم يقول: ليست أبعاضا، فهذا كلام قائم قاعد، ويضيع الخطاب
لمن يقول هذا.
الحديث الخامس والعشرون
روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي
الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة بيده ثم يأخذهن بيده
اليمنى ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون أين المتكبرون..؟ ثم
يطوي الأرض بشماله ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين
المتكبرون؟.. " (148).
هكذا رواه مسلم وهي أتم الروايات.

(148) رواه البخاري في أربعة مواضع من صحيحه (8 / 551) و (11 / 372)
و (13 / 367 و 393 فتح) دون ذكر للفظة " بشماله " وهذا لفظه من حديث أبي
هريرة: " يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا
الملك أين ملوك الأرض؟ " ومسلم برقم (2787).
ورواه مسلم (4 / 2148 برقم 2788) من حديث ابن عمر بإثبات لفظة
" بشماله " ويعارض هذا اللفظ ما رواه مسلم في صحيحه (3 / 1458 برقم
1827) من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا:
" إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا
يديه يمين... " الحديث.
فهاتان الروايتان تساقط كل منهما الأخرى لأنهما من تصرف الرواة.
والمعول عليه ههنا هو اللفظ الموافق لقوله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره
والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى
عما يشركون) الزمر: 67.
والمراد بهذه الآية الكريمة الرد على من شبه وجسم وتنزيه الله عن الجوارح
والأعضاء لأنها نزلت كما ثبت في تفسير ابن جرير (24 / 26) عندما قال
يهودي مشبة مجسم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أبا القاسم أبلغك أن الله يحمل
الخلائق على إصبع والسماوات على إصبع والشجر على إصبع والثرى على
إصبع) وفي لفظ: (يجعل الله السماء على ذه، والأرض على ذه، والجبال
على ذه وسائر الخلق على ذه، فأنزل الله: (وما قدروا الله حق قدره)
فمعنى (قبضته) و (يمينه) اللتان جاءتا في الآية هو في لغة العرب التعبير عن
الملك والقهر للمخلوقات والعظمة لله تعالى والقدرة على السماوات والأرض
ومن فيهن، ومنه قول الله تعالى: (أو ما ملكت أيمانهم) فالمراد كونه مملوكا
لهم، والعرب تقول: " هذه الدار في يد فلان " و " قبض فلان كذا " و " صار
في قبضته " يريدون خلوص ملكه، كما قال الحافظ أبو حيان في " البحر
المحيط) (7 / 440) وهذا كله مجاز مستفيض مستعمل، وقال ابن عطية كما
في " البحر المحيط ": " اليمين هنا والقبضة عبارة عن القدرة، وما اختلج في
الصدر من غير ذلك فباطل " ا ه‍.
قلت: والواجب تفسير الآية على ما تقتضيه لغة العرب، لأنه بها نزل هذا القرآن
(إنا أنزلناه قرآنا عربيا " لا سيما والعرب تستعمل اليمين والشمال في معنى
القهر والضبط، ومن ذلك قول زياد بن أبيه لمعاوية: " إني قد ضبطت العراق
بشمالي ويميني فارغة فأشغلها بالحجاز " أنظر " الكامل " لابن الأثير (3 / 493).
فلا يجوز تفسيرها بظواهر أحاديث مضطربة تصرف بها رواتها فزادوا ونقصوا،
ومنه يتبين خطأ ابن جرير في تفسيره حيث قال:
" وقال بعض أهل العربية من أهل البصرة (والأرض جميعا قبضته يوم القيامة
والسماوات مطويات بيمينه) يقول في قدرته نحو قوله: (وما ملكت أيمانكم)
أي: وما كانت لكم عليه قدرة وليس الملك لليمين دون سائر الجسد، قال:
وقوله (قبضته) نحو قولك للرجل هذا في يدك وفي قبضتك والأخبار التي
ذكرناها عن رسول الله وعن أصحابه وغيرهم، تشهد على بطول - أي بطلان
- هذا القول " ا ه‍.
قلت: كلا والذي نفسي بيده، لأن خير ما يفسر القرآن القرآن، وكذا لغة
العرب التي نزل بها هذا القرآن العظيم، وأما الأخبار التي سقتها يا ابن جرير
فهي أخبار متضاربة كما بينا قد تصرف بها رواتها فتارة يقولون: " بشماله "
فيثبتون لله تعالى شمالا وفي موضع آخر يقولون: " وكلتا يديه يمين " وتارة
يقولون كما في تفسيرك (24 / 26): " يأخذ السماوات والأرضين السبع
فيجعلها في كفه، ثم يقول بهما كما يقول الغلام بالكرة أنا الله الواحد " ولا
يسعني هنا إلا أن أقول وأنا منكر لهذه الروايات المتصرف بها:
" تبا لمن شبه ربه بصبي يلعب بكرة، و (سبحان ربك رب العزة عما
يصفون) ويجل سيدنا رسول الله وهو أعلم الخلق بالله أن يقول ذلك، ونسأل
الله التوفيق والهداية " وفي إسناده أسامة بن زيد وهو ضعيف.
(تنبيه): ومن حديث الكرة الوارد في تفسير ابن جرير الذي ألفه قبل نحو
1200 سنة، يتبين أن الكرة التي يلعب بها الصبيان اليوم ويتنزه عنها الرجال
العقلاء كانت موجودة قبل أن تكتشف أمريكا ويكتشف المطاط كما يزعم
بعض المحللين والمتكلمين اليوم.
207

وفي لفظ أخرجه مسلم (4 / 2648 برقم 25) حديث عبيد الله بن
مقسم أنه نظر إلى عبد الله بن عمر كيف يحكي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" يأخذ الله عز وجل سماواته وأرضه بيديه فيقوله: أنا الله (ويقبض أصابعه
ويبسطها) (149) أنا الملك ".

(149) قوله (ويقبض أصابعه ويبسطها) المعني به في هذا الخبر هو النبي صلى الله عليه وسلم، فإن
كان ذلك ثابتا عنه وما أخاله، فمعناه أنه صلى الله عليه وسلم أشار بيده فقبضها كناية عما
قدمناه من قهر الله سبحانه للسماوات والأرض لا غير، وأظن أن هذا اللفظ
هو من زيادات أحد الرواة، وآفة الأخبار رواتها.
209

قلت: وقد ثب بالدليل القاطع أن يد الحق سبحانه وتعالى ليست
بجارحة وإن قبضه للأشياء ليس مباشرة، ولا له كف (150).
وإنما قرب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأفهام ما يدركه الحس فقبض
رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه وبسطها.. فوقوع الشبه بين القبضتين من حيث
ملكه المقبوض كما وقع الشبه في رؤية الحق سبحانه برؤية القمر في
إيضاح الرؤية لا في تشبيه المرئي (151). فأما لفظ " الشمال " فهي في
رواية مسلم وهي مما انفرد به عن عمر بن حمزة عن سالم عن ابن عمر،
وقد روى الحديث نافع وغيره عن ابن عمر فلم يذكروا لفظة الشمال،
ورواه أبو هريرة وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم فلم يذكر أحد منهم فيه الشمال،
وقد روي ذكر الشمال في حديث آخر في غير هذه القصة إلا أنه
ضعيف بالمرة، ورواه بعض المتروكين.
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " وكلتا يديه يمين
مباركة " (152).

(150) قلت: نقل الإمام عبد القاهر البغدادي (ت 429 ه‍) في كتابه " الفرق بين
الفرق " إجماع أهل السنة على ذلك فقال ص 332:
" وأجمعوا على إحالة وصفه بالصورة والأعضاء " ا ه‍.
(151) أي عندما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: " إنكم سترون ربكم كما ترون
هذا القمر لا تضامون في رؤيته " كان معنى كلامه: أي أنكم سترون ربكم
وسوف لا تشكون هل الذي رأيتموه هو ربكم أم لا كما أنكم إذا رأيتم القمر
فإنكم لا تشكون أن الذي تروه هو القمر ليلة البدر، وليس معنى ذلك أن
الله يشبه البدر حاشا وكلا.
(152) تقدم تخريجه وهو في مسلم برقم (1827). وزيادة لفظة " مباركة " في الترمذي
(5 / 453 برقم 3368 شاكر).
210

وهذا يوهن ذكر الشمال، وقال أبو بكر البيهقي: وكأن الذي ذكر
الشمال رواه على العادة في أن الشمال يقابل اليمين.
قال القاضي أبو يعلى (المجسم): غير مستحيل إضافة القبض
والبسط إلى ذاته.
قلت: وقد سبق إنكار هذا.
الحديث السادس والعشرون
روى أحمد في مسنده (3 / 125) من حديث أنس - رضي الله
عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: (فلما تجلى ربه للجبل) الأعراف:
143.
قال: قال هكذا، يعني أنه أخرج طرف الخنصر، فقال حميد
الطويل لثابت: ما تريد إلى هذا يا أبا محمد، قال فضرب صدره ضربة
شديدة. فقال: من أنت يا حميد، وما أنت يا حميد. فحدثني به أنس بن
مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي لفظ: " فأومأ بخنصره فساخ الجبل وخر
موسى صعقا " (153).

(153) هذا الحديث رواه الترمذي في سننه (5 / 265 برقم 3074) وقال: حديث
حسن غريب صحيح لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة. ا ه‍ قلت: وأظن
أن لفظة " صحيح " لم يقلها الترمذي وإنما هي زيادة من ناسخ، أو أنه قال:
" حسن صحيح غريب " ثم رجعت إلى " تحفة الأشراف " للمزي (1 / 129)
فوجدتها هناك: " حسن صحيح غريب ".
قلت: وقد تقدم في هذه الحواشي أن الحافظ الذهبي قال في شأن حماد
هذا في " سير أعلام النبلاء " (7 / 452): " فالاحتياط أن لا يحتج به فيما
يخالف الثقات، وهذا الحديث من جملتها ".
قلت: وثابت قد تغير بأخرة وفي سند هذا الحديث ومتنه ما يدل على أن ثابتا
حدث به حال اختلاطه من ذلك قوله فيه:
" فضرب صدره ضربة شديدة فقال: من أنت يا حميد وما أنت يا حميد... "
فتأملوا في إنكار حميد لهذا الحديث وفي ضرب ثابت صدره. لا سيما وابن
القطان يقول: " ثابت اختلط وحميد أثبت في أنس منه " كذا في " التهذيب "
(2 / 4).
ثم إن هذا الحديث أورده ابن عدي في " الكامل في الضعفاء " (2 / 677)
في ترجمة حماد، وقد أورده ابن الجوزي في الموضوعات (1 / 122) وقال:
" لا يثبت ". ورواه ابن جرير في تفسيره (9 / 53) ورواه من طريق آخر عن
الأعمش عن رجل عن أنس، وما إخال هذا الرجل إلا ثابتا البناني الذي روى
عنه حماد أيضا وقد دلسه الأعمش ولم يذكر اسمه فتأكد بذلك عندنا أنه مما
رواه ثابتا في اختلاطه وأنكره حميد، ورواه الحاكم في المستدرك (1 / 25)
و (2 / 320 - 321) وابن خزيمة في كتاب التوحيد ص (113) من طريق
حماد عن ثابت عن أنس رضي الله عنه.
والظاهر أن ثابتا سمعه من قتادة وهو أحد أقرانه فخلط فيه حال تغيره وذلك
لأن هذا الحديث هو من تفسير قتادة للآية كما روى ذلك ابن جرير في تفسيره
(9 / 53) حيث قال:
حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد عن قتادة قوله (فلما
تجلى ربه للجبل جعله دكا) انقعر بعضه على بعض (وخر موسى صعقا) أي
ميتا. وقد روى هذا الأثر عن قتادة ابن أبي عاصم ص (211) برقم (482
و 483) لكنه زاد عن قتادة عن أنس من طريق: أزهر بن مروان ثنا عبد الأعلى
عن سعيد عن قتادة عن أنس، ومن طريق محمد بن ثعلبة حدثنا عمي عن
سعيد عن قتادة عن أنس، قلت: لكن خالفهما يزيد بن زريع فرواه من قول
قتادة وهو من رجال الستة ثقة ثبت، قال عنه الإمام أحمد: إليه المنتهى في
التثبت، فهذا الأثر من قول قتادة وقد خلط فيه ثابت البناني ولا يصح وقد
أصاب ابن الجوزي في إيراده في الموضوعات.
وقد سرق هذا الحديث بعض الضعفاء وهو حسين بن علي الأسود العجلي
فركب له إسنادا جديدا فرواه عن عمرو بن محمد ثنا أسباط عن السدي عن
عكرمة عن ابن عباس موقوفا عليه، وحسين بن علي هذا، قال الحافظ في
ترجمته في " التهذيب " (2 / 298):
" قال ابن عدي يسرق الحديث، وأحاديثه لا يتابع عليها، وقال الأزدي ضعيف
جدا... " ا ه‍
قلت: إذن فحديثنا هذا (السادس والعشرون) مما لا تقوم له قائمة والحمد
لله رب العالمين.
(تنبيه مهم جدا):
وقع المعلق على كتاب سنة ابن أبي عاصم وهو المعروف بالتناقض!! بعدة
أخطاء ومغالطات لا بد من ذكر بعضها:
(1) قوله ص (210) عن حديث حماد عن ثابت عن أنس مرفوعا ما نصه:
(ورواه الحافظ أبو القاسم الطبري وأبو بكر بن مردويه من طريقين عن سعيد بن
أبي عروبة، عن قتادة عن أنس مرفوعا بنحوه، والطريقين المشار إليهما
أخرجهما المصنف - يعني ابن أبي عاصم - أيضا كما يأتي بعده، ففيه رد
لقول الترمذي: لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة، فقد عرفه غيره من
حديث غير حماد فتنبه " ا ه‍
قلت؟: بل عليك أنت أن تتنبه جيدا، وذلك لأن ما زعمته عن أنس مرفوعا
ليس كذلك بل هو موقوف عليه، فتمعن في رواية ابن أبي عاصم وغيره
واستيقظ.
وبذا يكون كلام الترمذي صحيحا لا اعتراض عليه.
وأما رواية الأعمش عن رجل والتي قدمنا الكلام عليها وفي طريقها إليه
أحمد بن سهيل الواسطي، قال عنه أبو أحمد الحاكم كما في اللسان
(1 / 196): في حديثه بعض المناكير، وكذا قرة بن عيسى فإنه مجهول ذكره
ابن سعد في الطبقات 7 / 314، فطريق الأعمش وجودها كعدمها، وكلام
الترمذي صحيح جدا ههنا.
211

وروى ابن حامد (المجسم): " فلما تجلى ربه للجبل " قال: خرج
منه أول مفصل من خنصره.

(2) قوله ص (211): " إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين غير
محمد بن ثعلبة وهو السدوسي البصري، روى عنه جمع من الحفاظ
والثقات، ومنهم أبو زرعة الرازي وهو لا يروي إلا عن ثقة، ولذلك قال
الحافظ: صدوق " ا ه‍
قلت: كلا ليس هذا الإسناد صحيحا وعلى كلامه مؤاخذات:
أ - محمد ابن ثعلبة: جرحه أبو حاتم فقال عنه: " أدركته ولم أكتب عنه " أنظر
" الجرح والتعديل " (7 / 218) و " التهذيب " (9 / 75).
فكيف يصح بعد ذلك إسناده؟!!
ب - وقوله عن ابن ثعلبة هذا: (روى عنه جمع من الحفاظ والثقات) في
سبيل توثيقه غلط فاحش وخطأ فاضح!! وكأنه نسي أنه قال في " ضعيفته "
(2 / 283):
" من أجل ذلك قالوا في علم المصطلح: وإذا روى العدل عمن سماه لم
يكن تعديلا عند الأكثرين، وهو الصحيح... " ا ه‍ كلام حاطب الليل
بحروفه.
ج‍ - وقوله بعد ذلك (ومنهم أبو زرعة الرازي وهو لا يروي إلا عن ثقة)
فجوابه: هذا باطل من القول!! فقد روى أبو زرعة عن رجال ضعفهم هذا
الحاطب!! المتناقض!!
فممن روى عنهم أبو زرعة عبد العزيز بن عبد الله الأويسي كما في ترجمته في
" سير أعلام النبلاء " (13 / 66) وقد قال عنه هذا المتناقض!! في " ضعيفته "
(2 / 87) بعدما أقر البيهقي على تضعيفه:
" قلت: وشيخ الأويسي ابن لهيعة ضعيف أيضا " ا ه‍
وكذلك ممن روى عنهم أبو زرعة الرازي صفوان بن صالح، وقد وصفه هذا
المتناقض!! في " صحيحته " (4 / 502) بأنه: مدلس!!
وإنني أترك ههنا غير ما ذكرت من تناقضات المتناقض!! المشار إليه خوف
الإطالة ولعلي أن أذكرها في موضع آخر وبالله تعالى التوفيق.
214

قلت: هذا الحديث تكلم فيه علماء الحديث وقالوا: لم يروه عن
ثابت غير حماد بن سلمة وكان ابن أبي العوجاء الزنديق قد أدخل على
حماد أشياء، فرواها في آخر عمره ولذلك تجافى أصحاب الصحيح
الإخراج عنه، ومخرج الحديث سهل، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرب
إلى الأفهام بذكر الحسيات، فوضع يده على خنصره إشارة إلى أن الله
تعالى أظهر اليسير من آياته.
قال ابن عقيل: كشف من أنواره التي يملكها بقدر طرف الخنصر
وهذا تقدير لنا بحسب ما نفهم من القلة لا نحكم أنه يتقدر. فإن قيل:
كيف أنكر حميد على ثابت؟ قلنا: يحتمل أن يكون توهم أن هذا يرجع
إلى الصفات.
وقد أثبت القاضي أبو يعلى (المجسم) لله سبحانه خنصرا بهذا
الحديث المعلول.
الحديث السابع والعشرون
روى القاضي أبو يعلى (المجسم) عن عكرمة أنه قال: " إذا أراد
الله عز وجل أن يخوف عباده أبدى عن بعضه إلى الأرض فعند ذلك
تتزلزل، وإذا أراد أن يدمدم على قوم تجلى لها " (154).
قال القاضي أبو يعلى (المجسم): أبدى عن بعضه، هو على

(154) هذا الأثر رواه الديلمي عن ابن عباس، ورواه الطبراني في " السنة " عنه موقوفا
نحوه كما في الجامع الكبير للسيوطي (جامع الأحاديث 1 / 387).
قلت: وهو أثر منكر جدا ولا يثبت بمثله حكم في الوضوء فضلا عن العقائد
فقبح الله من يستدل لعقيدته بمثل هذه الطامات.
215

ظاهره، وهو راجع إلى الذات على وجه لا يفضي إلى التبعيض.
قلت: ومن يقول أبدى عن بعض ذاته، وما هو بعض لا يكلم.
ثم إثبات البعض بكلام تابعي لو صح يخالف إجماع المسلمين فإنهم
أجمعوا أن الخالق لا يتبعض وإنما المراد أبدى عن آياته.
الحديث الثامن والعشرون
روى أبو الأحوص الجشمي رضي الله عنه عن أبيه، أن رسول الله
صلى الله تعليه وسلم قال له: لعلك تأخذ موساك فتقطع أذن بعضها فتقول هذه بحر،
وتشق الأذن الأخرى وتقول: حرم..؟
قال: نعم. قال: فلا تفعل فإن موسى الله أحد من موساك، وساعد
الله أشد من ساعدك (155).
قال القاضي أبو يعلى (المجسم): لا يمتنع حمل الخبر على
ظاهره في إثبات الساعد صفة لذاته.

(155) ونص الحديث هو أن مالك بن النضر والد أبي الأحوص قال:
أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قشف الهيئة، فقال: " هل لك من مال؟ ".
قلت: نعم، قال: " من أي المال؟ " قلت: من كل من الإبل والخيل والرقيق
والغنم. قال: " فإذا آتاك الله مالا فلير عليك " وقال:
" هل تنتج إبل قومك صحاحا آذانها فتعمد إلى الموسى فتقطع آذانها وتقول
هي بحر - أي بحيرة - وتشقها أو تشق جلودها وتقول هي حرم، فتحرمها عليك
وعلى أهلك؟ " قال: قلت: نعم. قال:
" فكل ما آتاك الله لك حل، وساعد الله أشد من ساعدك وموسى الله أحد
من موساك ".
وهذا حديث إسناده صحيح رواه الإمام أحمد في مسنده (3 / 473)
والحميدي (883) والطبراني (19 / 282) وعبد الرزاق (11 / 269 برقم
20513) والبيهقي في سننه (10 / 10) وفي " الأسماء والصفات " (ص 342)
وشيخه الحاكم في " مستدركه " (1 / 25) و (4 / 181) والطحاوي في المشكل
(4 / 153) وأبو داود الطيالسي ص (184 برقم 1303) وذكر فيه عن شعبة أنه
تارة يروى بزيادة وتارة لا يروى.
قلت: ورواه دون زيادة الموسى والساعد أحمد في مسنده (4 / 137)
والطبراني (19 / 283 وما قبلها وبعدها) وابن حبان في صحيحه (7 / 390
دار الفكر) وابن سعد (6 / 28) وأبو داود (4 / 51 برقم 4063) وابن جرير في
" تفسيره " (7 / 87 - 88).
ورواه البغوي في " شرح السنة " (12 / 48) بزيادة الموسى والساعد ومشى فلم
يبين المعنى ولم يوضح وهو أمر غريب منه، وعلى كل حال فكتابه " شرح
السنة " لا فائدة منه لطالب العلم البتة، ولا يحتاجه العالم إطلاقا، ولا قيمة
له حقيقة ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ونحن في شك من هذه الزيادة التي فيها ذكر الموسى والساعد ونعتقد أن
من لم يوردها من الحفاظ الذين في ذكرناهم قد أصابوا وإن كان سندها صحيحا
فقد يصح السند وفي المتن ما ينكر.
وعلى كل حال فلا أظن أن عاقلا يعتقد أن لله عز شأنه موسى وساعد، وقد
بين ذلك الإمام الحافظ البيهقي والإمام الحافظ ابن الجوزي هنا، قال الإمام
البيهقي في " الأسماء والصفات " ص (342):
" قال بعض أهل النظر في قوله " ساعد الله أشد من ساعدك "
معناه: أمره أنفذ من أمرك، وقدرته أتم من قدرتك، كقولهم: جمعت هذا
المال بقوة ساعدي، يعني به: رأيه وتدبيره وقدرته، فإنما عبر عنه بالساعد
للتمثيل لأنه محل القوة، يوضح ذلك قوله: " وموساه أحد من موساك " يعني
قطعه أسرع من قطعك، فعبر عن القطع بالموسى لما كان سببا على مذهب
العرب في تسمية الشئ باسم ما يجاوره، ويقرب منه، ويتعلق به.. " ا ه‍
قلت: ومثله قول الله تعالى: (ناقة الله) و (بيتي) وقوله عز شأنه: (ومكروا
ومكر الله) ولا نصف الله تعالى ب‍ (ماكر) وكذلك: (نسوا الله فنسيهم) لا
نثبت لله تعالى صفة النسيان جل ربنا وتعالى عن ذلك وهو القائل: (وما كان
ربك نسيا) وإنما هذا من باب المشكلة وهو أسلوب عربي معروف ومشهور،
ومنه ما جاء في هذا الحديث: ساعده وموساه.
وقد كان الإمام مالك رحمه الله تعالى ينكر مثل هذه الأحاديث الموهمة إنكارا
شديدا لئلا تتوهم العامة منها أنها صفات لله تعالى فيقع في القلوب التشبيه
والتجسيم، قال الحافظ الذهبي في " سير أعلام النبلاء " (8 / 103):
(قال ابن القاسم: سألت مالكا عمن حدث بالحديث الذين قالوا: " إن الله
خلق آدم على صورته " والحديث الذي جاء: " إن الله يكشف عن ساقه " وأنه
يدخل يده في جهنم حتى يخرج من أراد ". فأنكر مالك ذلك إنكارا شديدا،
ونهى أن يحدث بها أحد...).
والمأخوذ على الحفاظ في الحديث الذي نحن بصدده أنهم لم يشرحوه ويبينوا
معناه ما خلا البيهقي وابن الجوزي، أو لفهمهم بالعربية كان ذلك غير مشكل
والله أعلم.
216

قلت: وهذا منه غفلة عامية وخروج عن مقتضى الفهم. وكان
ينبغي أن يثبت الموسى...!!!
قلت: إثبات صفة الله بهذا الخبر الذي لا يكاد يثبت مع الإعراض
عن فهم خطاب العرب وأنها تريد بمثل هذا التجوز والاستعارة قبيح
جدا!!
والمراد بالساعد: القوة، لأن قوة الإنسان في ساعده.
218

الحديث التاسع والعشرون
روى أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن العبد
إذا قام إلى الصلاة فإنه بين عيني الرحمن " (156).
قلت: قذ ذكرنا صفة العين في الآيات المذكورة قبل الأحاديث
والمراد بالحديث أن الله تعالى يشاهد المصلي فليتأدب. وكذلك قوله:
" فإن الله قبل وجهه " (157) أي أنه يراه.

(156) هذا الحديث مروي بلفظ: " بين يدي الرحمن " بدل " بين عيني الرحمن " وقد
حرفه حنابلة الرواة، رواه البزار (1 / 268 برقم 553 كشف الأستار) قال البزار
عقبه:
(رواه طلحة بن عمرو عن عطاء عن أبي هريرة موقوفا " ا ه‍
قلت: وقد رفعه بعض الضعفاء كما في رواية البزار السابقة، وهو: إبراهيم بن
يزيد الخوزي، قال عنه الحافظ الهيثمي في المجمع (2 / 80): " وهو
ضعيف ".
قلت: وهو متروك ومتهم بالكذب ومنكر الحديث كما في ترجمته في
" التهذيب " (1 / 157 دار الفكر).
(157) رواه البخاري في الصحيح (1 / 509 فتح) من حديث عبد الله بن عمر
مرفوعا: " إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قبل وجهه، فإن الله قبل وجهه
إذا صلى ".
قال الحافظ في الفتح (1 / 508):
" وفيه الرد على من زعم أنه على العرش بذاته " ا ه‍
219

الحديث الثلاثون
روى البخاري (1 / 101 فتح) ومسلم (1 / 542 برقم 221) في
الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل
عليها وعندها امرأة. فقال: من هذه..؟ ".
قالت: فلانة تذكر من صلاتها.
فقال: " مه عليكم ما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا ".
وفي لفظ: " لا يسأم الله حتى تسأموا.. " (مسلم 1 / 542 برقم
220) قال العلماء: معنى الحديث لا يمل الله تعالى وإن مللتم.
كما قال الشاعر:
صليت منى هذيل بخرق * لا يمل الشر حتى يملوا
المعنى: لا يمل وإن ملوا، وإلا لم يكن له فضل عليهم، وقال
قوم: من مل من شئ تركه. والمعنى. لا يترك الثواب ما لم يتركوا
العمل، وأما الملل الذي هو كراهة الشئ والاستثقال له، ونفور النفس
عنه والسامة منه، فمحال في حقه تعالى، لأنه يقتضي تغيره وحلول
الحوادث.
وقال القاضي أبو يعلى (المجسم): لا يمتنع إطلاق الملل عليه
لا بمعنى السامة.
قلت: وهذا بعيد عن معرفة اللغة وما يجوز عليه وما لا يجوز عليه.
220

الحديث الحادي والثلاثون
روت خولة بنت حكيم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " آخر وطأة وطئها
الرحمن بوج " (158) ووج واد بالطائف، وهي آخر وقعة أوقعها الله
بالمشركين على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(58 ا) هذا حديث ضعيف وسنده منقطع، ومتنه بالموضوع أشبه وهو منكر بلا ريب.
رواه الطبراني في " معجمه الكبير " (24 / 241 برقم 614 و 609) من طريق
سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة قال سمعت ابن أبي سويد يقول سمعت
عمر بن عبد العزيز يقول: زعمت المرأة الصالحة خولة بنت حكيم أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: " الولد محزنة مجبنة مجهلة مبخلة، وإن آخر وطأة وطأها الله
عز وجل بوج ".
ورواه من هذا الطريق عن خولة البيهقي في " الأسماء والصفات " ص (461)
والإمام أحمد في " مسنده " (6 / 409).
قلت: وهذا إسناد ضعيف منقطع لأن ابن أبي سويد واسمه محمد مجهول
كما في التقريب " والصحيح أنه لم يرو عنه إلا إبراهيم بن ميسرة.
وسيدنا عمر بن عبد العزيز لم يدرك خوله، فهذا إسناد لا ينفع حتى في
الشواهد والمتابعات.
وروي هذا الحديث من طريق آخر دون ذكر لفظة: " وإن آخر وطأة وطأها الله
عز وجل بوج " المستبشعة.
فقد روى الإمام أحمد (4 / 172) وابن ماجة (2 / 1209 برقم 3666) وابن
أبي شيبة (7 / 512 برقم 6 دار الفكر) من طريق سعيد بن أبي راشد عن يعلى
العامري بلفظ:
" جاء حسن وحسين رضي الله عنهما يستبقان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فضمهما
إليه وقال إن الولد مبخلة مجبنة ".
زاد أحمد في روايته: " وإن آخر وطأة وطئها الرحمن عز وجل بوج "
قلت: سعيد بن أبي راشد مجهول، ولم يرو عنه غير عبد الله بن عثمان، ولم
يرو عن يعلى العامري وإنما روى عن رجل آخر وهو يعلى بن مرة الثقفي كما
في ترجمته من " تهذيب التهذيب " (4 / 24 دار الفكر) ويعلى العامري ليس
صحابيا حتى يحكي رؤيته لسيدنا الحسن وسيدنا الحسين وهما يستبقان
لرسول الله صلى الله عليه وسلم...!!
وقد حصل اضطراب في هذا السند أيضا، فتارة يرويه سعيد بن أبي راشد
عن يعلى العامري وتارة عن يعلى بن مرة وتارة عن يعلى بن أمية، فقد رواه
البيهقي في سننه (10 / 202) وفي " الأسماء والصفات " ص (461) والحاكم
في " المستدرك " (3 / 164) عن يعلى بن مرة الثقفي، ويعلى الثقفي صحابي
كما في " تهذيب التهذيب " (11 / 355) لكن وقع في سند البيهقي والحاكم
يعلى بن منبه الثقفي وأظنه تصحيف. وقد كتب المصحح لسنن البيهقي: " بن
أمية " وبذلك لا يصح الحديث البتة، وخصوصا بالزيادة المنكرة التي فيها ذكر
الوطأة ووادي وج.
قلت: ورواه الحاكم أيضا في المستدرك (3 / 296) من طريق آخر دون
الزيادة المنكرة فقال:
" أخبرنا معمر عن ابن خثيم عن محمد بن الأسود بن خلف عن أبيه رضي
الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخذ حسينا فقبله ثم أقبل عليهم فقال: إن الولد
مبخلة مجبنة مجهلة محزنة ".
قال الذهبي في " الميزان " (3 / 485):
" محمد بن أسود بن خلف، عن أبيه... لا يعرف هو ولا أبوه. تفرد عنه
عبد الله بن عثمان بن خثيم " ا ه‍
وذكر البخاري في " تاريخه " (1 / 29) راو آخر عنه وهو أبو الزبير بالعنعنة وهو
مدلس، فلا ينفع هذا، وذكره ابن حبان في الثقات، ولا ينفع ذلك أيضا.
قلت: ومنه تعلم أن المحدث!! المتناقض!! قد أخطأ حين صحح الحديث
في " صحيح ابن ماجة " (2 / 295 برقم 2957) وفي " صحيح الجامع وزيادته "
برقم (1985 و 1986) لأنه قلد في ذلك المناوي في " فيض القدير "
(2 / 403) والله الهادي.
وملخص الكلام في هذا الحديث أن شطره الأول: " إن الولد مبخلة مجبنة
مجهلة محزنة " قد يحسن لغيره لبعض شواهد ضعيفة أيضا كحديث السيدة
عائشة رضي الله عنها في " شرح السنة للبغوي " (13 / 35) وحديث أبي سعيد
الخدري عند البزار (برقم 1891 و 1892). وأما شطره الثاني: " آخر وطأة
وطئها الرحمن بوج " فمنكر تالف وهو بالموضوع أشبه.
221

ومنه قوله: " اللهم اشدد وطأتك على مضر " (159).
والوطأة مأخوذة من القدم، وإلى هذا ذهب ابن قتيبة وغيره وقال
سفيان بن عيينة في تفسير هذا الحديث: آخر غزاة غزاها رسول الله
صلى الله عليه وسلم بالطائف *.
وقال القاضي أبو يعلى (المجسم): غير ممتنع على أصولنا،
حمل هذا الخبر على ظاهره، وإن ذلك المعنى بالذات دون الفعل،
لأنا حملنا قوله: " ينزل ويضع قدمه في النار " على الذات.
قلت: وهذا الرجل يشير بأصولهم إلى ما يوجب التجسيم والانتقال
والحركة، وهذا مع التشبيه بعيد عن اللغة ومعرفة التواريخ وأدلة
العقول، وإنما اغتر بحديث روي عن كعب أنه قال: " ووج مقدس،
منه عرج الرب إلى السماء، ثم قضى خلق الأرض " (160).
وهذا لو صح عن كعب احتمل أن يكون حاكيا عن أهل الكتاب،
وكان يحكي عنهم كثيرا، ولو قدرناه من قوله كان معناه: أن ذلك المكان
آخر ما استوى من الأرض لما خلقت، ثم عرج الرب، أي عمد إلى
خلق السماء وهو قوله: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان) فصلت:
11.
ويروى عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لما
أسري بي.، مر بي جبريل - عليه السلام - حتى أتى بي إلى الصخرة،

(159) رواه البخاري (فتح 2 / 492) ومسلم (1 / 466 برقم 675) كلاهما في
مواضع وغيرهما.
* وهذا تأويل من سفيان بن عيينة للحديث وهو من أئمة السلف.
(160) ولعل هذا هو أصل الحديث الأول وهو مما جاء به كعب الأحبار من
الإسرائيليات التي كان يسردها للناس.
223

فقال: يا محمد من هاهنا عرج ربك إلى السماء " (161).
قلت: وهذا يرويه بكر بن زياد، وكان يضع الحديث على الثقات،
فإن قيل: قال ابن عباس: استوى إلى السماء: صعد، قلنا: صعد
أمره، إذ لا يجوز عليه الانتقال والتغير.
واعلم أن الناس في أخبار الصفات على ثلاث مراتب:
إحداها: إمرارها على ما جاءت من غير تفسير ولا تأويل، إلا أن
تقع ضرورة كقوله: (جاء ربك) أي جاء أمره وهذا مذهب السلف.
المرتبة الثانية: التأويل وهو مقام خطر على ما سبق بيانه.
والمرتبة الثالثة: القول فيها بمقتضى الحس، وقد عم جهلة
الناقلين، إذ ليس لهم حظ من علوم المعقولات التي بها يعرف ما يجوز
على الله وما يستحيل، فإن علم المعقولات يصرف ظواهر المنقولات
عن التشبيه، فإذا عدموها تصرفوا في النقل بمقتضى الحس. وإليه أشار
القاضي أبو يعلى (المجسم) بقوله:
" لا يمتنع أن تحمل الوطأة التي وطئها الحق على أصولنا وأنه معنى
يتعلق بالذات ".
قلت: وأصولهم على زعمه ترجع إلى الحس، ولو فهموا أن الله

(161) هذا الحديث ذكره ابن الجوزي بإسناده في الموضوعات (1 / 113) ثم قال
عقبه:
" قال أبو حاتم: هذا حديث لا يشك عوام أصحاب الحديث أنه موضوع فكيف
بالبزل في هذا الشأن " ا ه‍ قلت: أبو حاتم هو ابن حبان لأن هذا الحديث أورده
ابن حبان في كتابه " المجروحين " (1 / 197) وقال عن أحد رواته وهو: بكر بن
زياد الباهلي: " شيخ دجال يضع الحديث على الثقات ".
224

تعالى لا يوصف بحركة ولا انتقال ولا تغير، ما بنوا على الحسيات.
والعجب أن يقر بهذا القول ثم يقول:
" من غير نقلة ولا حركة " فينقض ما يبني.
ومن أعجب ما رأيت لهم ما أنبأنا أبو العز أحمد بن عبيد الله بن
كادش (162)، قال: أنبأنا أبو طالب العشاري (163) قال: أنبأنا البنا، قال:
أنبأنا أبو الفتح ابن أبي الفوارس قال: أنبأنا أبو علي بن الصواف، قال:
أنبأنا أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة (164) أنه قال في كتاب
" العرش " (165):

(162) قال في ترجمته الحافظ ابن حجر العسقلاني في " لسان الميزان " (1 / 234
دار الفكر): " وكان مخلطا كذابا لا يحتج بمثله وللأئمة فيه مقال ". وفي
" الميزان " (1 / 118): " أقر بوضع حديث ".
(163) مطعون فيه وقد ختم الحافظ الذهبي ترجمته في " " الميزان " (3 / 656) بقوله
فيه: " ليس بحجة ".
وابن كادش والعشاري كانا يضعان كتبا على الأئمة، وأقوالا ينسبونها لأهل
الحديث، ومن شاء الاستزاده من ذلك فعليه برسالتنا: " البيان الكافي بعدم
صحة نسبة كتاب الرؤية للدارقطني بالدليل الوافي ".
وهي ملحقة بآخر هذا الكتاب.
(164) هو أحد الكذابين، قال في ترجمته الحافظ الذهبي في " سير أعلام النبلاء "
(14 / 21):
" وأما عبد الله بن أحمد بن حنبل فقال: كذاب، وقال عبد الرحمن بن خراش:
كان يضع الحديث... "
قلت: وفي ترجمته في " لسان الميزان " (5 / 280 هندية) أيضا أن آخرين من
أهل هذا الشأن قد كذبوه.
(165) وبئس الكتاب هو، فإن هذه اللفظة التي نقلها منه ابن الجوزي كفرية بلا
مرية، ومخرجة لصاحبها إن ثبتت عنه من الملة.
وكتاب العرش هذا مطبوع (سنة 1406 ه‍ مكتبة المعلا الكويت، بتحقيق
محمد بن حمد الحمود) ولم يعلق على تلك العبارة الكفرية ص (50)
بشئ!! فلا حول ولا قوة إلا بالله.
225

إن الله تعالى قد أخبرنا أنه صار من الأرض إلى السماء، ومن
السماء إلى العرش فاستوى على العرش ".
قلت: ونحن نحمد الله إذ لم يبخس حظنا من المنقولات، ولا
من المعقولات ونبرأ من أقوام شانوا مذهبنا، فعاب الناس كلامهم.
الحديث الثاني والثلاثون
روى أبو إمامة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما تقرب
العباد إلى الله تعالى، بمثل ما خرج منه وهو القرآن " (166).

(166) حديث ضعيف جدا ومنكر رواه الترمذي (5 / 176) وضعفه، والطبراني في
الكبير (8 / 177 برقم 7657) والخطيب في " تاريخ بغداد " (7 / 88)
و (12 / 263) من طريق بكر بن خنيس عن ليث بن أبي سليم عن زيد بن
أرطاة عن أبي أمامة مرفوعا به.
قلت: بكر بن خنيس متروك، قال الحافظ في التهذيب (1 / 422):
" قال أحمد بن صالح المصري وابن خراش والدارقطني: متروك "
ثم نقل عن أبي زرعة أنه قال فيه:
" ذاهب الحديث... وقال ابن حبان: روى عن البصريين والكوفيين أشياء
موضوعة "
وقال الذهبي في الكاشف: " واه ".
وليث بن أبي سليم - كوفي قال عنه الحافظ في " التقريب ":
" صدوق اختلط جدا ولم يتميز حديثه فترك ".
قلت: وزيد بن أرطأة لم يرو عن أبي أمامة كما في " التهذيب " (3 / 340)
حيث قال:
" وعن أبي أمامة وأبي الدرداء مرسل، بينهما جبير بن نفير " ا ه‍ ورواه الطبراني
أيضا في " الكبير " (2 / 146 برقم 1614) من طريق أبي بكر بن عياش عن
ليث عن عيسى عن زيد بن أرطأة عن جبير بن نوفل مرفوعا به.
قلت: وهذا سند مشوش والصواب في آخره زيد بن أرطأة عن جبير بن
نفير...
ولا يثبت بمثل هذا حكم في الوضوء، فكيف في مثل هذا الباب؟!!
226

وفي حديث عثمان - رضي الله عنه -: إن النبي صلى الله عليه وسلم، قال " فضيلة
القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه إن القرآن منه خرج وإليه
يعود " (167).
قلت: والمعنى إنه وصل إلينا من عنده وإليه يعود فيرفع.

(167) لم أقف على حديث سيدنا عثمان هذا، وقريب منه ما روى الترمذي في سننه
(5 / 184 برقم 2926) من حديث أبي سعيد مرفوعا: " يقول الرب عز وجل:
من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، وفضل
كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه " قال الترمذي: " حسن
غريب " قلت: قال الذهبي في " ميزان الاعتدال " (3 / 515): " حسنه الترمذي
فلم يحسن " والحق أن قول الترمذي: " حسن غريب " يعني: ضعيف، كما
قال الحافظ ابن حجر في " النكت على ابن الصلاح ".
227

الحديث الثالث والثلاثون
روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله قرأ طه ويس
قبل أن يخلق آدم بألف سنة، فلما سمعت الملائكة القرآن قالوا: طوبى
لأمة ينزل عليهم، وطوبى لأجواف تحمل هذا، وطوبى لألسن تتكلم
بهذا " (168).
وهذا حديث موضوع يرويه إبراهيم بن مهاجر عن عمر بن حفص،
وأما عمر بن حفص فقال أحمد بن حنبل: حرقنا حديثه وقال يحيى بن
معين: ليس بشئ، وقال أبو حاتم بن حبان الحافظ: وهذا متن
موضوع.

(168) هذا حديث موضوع أورده الحافظ ابن الجوزي في " الموضوعات " والحافظ
ابن حبان في المجروحين (1 / 108) وقال:
" وهذا متن موضوع ".
وتعقب الحافظ السيوطي لابن الجوزي وكذا نقله تعقب ابن حجر له بأن
الحديث ليس بموضوع وإنما ضعيف فقط ليس بشئ، وذلك لأن سند
الحديث ضعيف جدا ومتنه منكر فتحققنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول مثل هذا
الكلام فحكمنا عليه بالوضع بلا شك ولا مثنوية.
قلت: والحديث رواه الدارمي في سننه (2 / 456) وغيره وقد سكت عليه
المعلق على " مشكاة المصابيح " (1 / 662 برقم 2148) فلا حول ولا قوة إلا
بالله!!.
228

الحديث الرابع والثلاثون
روى البخاري (فتح 8 / 579) ومسلم (4 / 1981 برقم 2554)
في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: " إن الله عز وجل خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم
فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة.
قال: نعم: أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من
قطعك " (169).
وفي لفظ أخرجه البخاري (فتح 15 / 417) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن
الرحم شجنة من الرحمن " (170).
قال أبو عبيدة: الشجنة كالغصن من الشجرة، ومعنى شجنة أي:
قرابة مشتبكة كاشتباك العروق، والشجر تشجن إذا التف بعضها
ببعض.

(169) قال الحافظ في الفتح (8 / 0
" وقد يطلق الحقو على الإزار نفسه كما في حديث أم عطيه " فأعطاها حقوه
فقال: أشعرنها إياه " يعني إزاره وهو المراد هنا، وهو الذي جرت العادة
بالتمسك به عند الالحاح في الاستجارة والطلب، والمعنى على هذا صحيح
مع اعتقاد تنزيه الله عن الجارحة " ا ه‍.
(170) قال الحافظ في الفتح (10 / 418):
" وقوله: (من الرحمن) أي أخذ اسمها من هذا الاسم كما في حديث
عبد الرحمن بن عوف في السنن مرفوعا: " أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت
لها اسما من اسمي " والمعنى أنها أثر من آثار الرحمة مشتبكة بها، فالقاطع
لها منقطع من رحمة الله " ا ه‍.
229

قلت: ولا يخلو هذا الحديث من أحد أمرين.
إما أن يراد أن الله تعالى يراعي الرحم فيصل من وصلها ويقطع
من قطعها ويأخذ لها حقا كما يراعي القريب قرابته، كأنه يزيد في
المراعاة على الأجانب. أو أن يراد أن الرحم بعض حروف الرحمن،
فكأنه عظم قدرها بهذا الاسم، ويؤيد هذا حديث عبد الرحمن بن عوف
- رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم:
قال: قال الله تعالى: " أنا الله وأنا الرحمن خلقت الرحم وشققت
لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته " (171).
أو قال: " بتته ".
وقد روي هذا الحديث بلفظ لم يخرج في الصحاح: " الرحم
شجنة من الرحمن تعلقت بحقوي الرحمن تقول:
اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني " (172).
وفي لفظ: " الرحم شجنة آخذة بحقو الرحمن " (173)، وفي لفظ:

(171) رواه البيهقي في سننه (7 / 26)، ورواه أحمد (1 / 191) والحاكم (1 / 157)
ورواه أبو داود (2 / 133 برقم 1694) والترمذي (4 / 315 برقم 1907 شاكر)
وقال: " صحيح " وقال الحافظ ابن حجر في " " تهذيب التهذيب " (3 / 234).
" رواه أبو يعلى بسند صحيح... " ا ه‍:
(172) رواه بلفظ: " حقويه " ابن أبي عاصم في " السنة " (1 / 238) وسنده واه. وهذه
الألفاظ من تصرف الرواة.
(173) رواه الحافظ البيهقي في " الأسماء والصفات " ص (368) بلفظ: " إن الله عز
وجل خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فأخذت بحقو الرحمن.
فقال: مه، فقالت: هذا مكان العائذ من القطيعة... ". ومعنى فرغ: قضاه
وأتمه، كما في الفتح (8 / 580).
قال الحافظ البيهقي: " فأخذت بحقو الرحمن " معناه عند أهل النظر: أنها
استجارت واعتصمت بالله عز وجل، كما تقول العرب: تعلقت بظل جناحه
أي: اعتصمت به " ا ه‍
وانظر إلى تعليق الإمام المحدث الكوثري رحمة الله تعالى عليه.
230

" لما خلق الله الخلق قامت الرحم فأخذت بحقو الرحمن فقالت: هذا
مقام العائذ بك من القطيعة " (174).
قلت: وهذه أمثال كلها ترجع إلى ما بينا، ومعنى تعلقها بحقو
الرحمن: الاستجارة والاعتصام.
وفي (صحيح مسلم) (175) من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه
الله ".
قال أبو بكر البيهقي: الحقو الإزار، والمعنى: يتعلق بعزه.
قال ابن حامد (المجسم): يجب التصديق بأن لله تعالى حقوا،
فتأخذ الرحم بحقوه.
قال: وكذلك نؤمن بأن لله جنبا لقوله تعالى: (على ما فرطت في
جنب الله) الزمر: 56.
قلت: وهذا لا فهم له أصلا، كيف يقع التفريط في جنب
الذات..؟!!

(174) رواه البخاري في صحيحه (فتح 13 / 465) بلفظ:
" خلق الله الخلق فلما فرغ منه قامت الرحم فقال: مه، قالت: هذا مقام
العائذ بك من القطيعة... " وهذا اللفظ هو الذي عليه التعويل، ومنه يتبين
تصرف الرواة في المتون.
(175) أنظر صحيح الإمام مسلم (4 / 1981 برقم 2555).
231

قال ابن حامد (المجسم): والمراد بالتعلق القرب والمماسة بالحقو
كما روي أن الله تعالى يدني إليه داود حتى يمس بعضه.
قلت: قد طم القاضي أبو يعلى (المجسم) على هذا فقال: لا
على وجه الجارحة والتبعيض، والرحم أخذه بها لا على وجه الجارحة
والتبعيض، والرحم أخذه بها لا على وجه الاتصال والمماسة، ثم نقض
هذا التخليط وقال: في الخبر إضمار تقديره ذو الرحم يأخذ بحقو
الرحمن فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، قال: لأن الرحم
لا يصح عليها التعلق فالمراد ذو الرحم يتعلق بالحقو.
قلت: فقد زاد على التشبيه التجسيم، والكلام مع هؤلاء ضائع
كما يقال لا عقل ولا قرآن، وإذا تعلق ذو الرحم وهو جسم فبماذا
يتعلق؟. نعوذ بالله من سوء الفهم.
الحديث الخامس والثلاثون
روى مسلم في صحيحه (4 / 2023 برقم 136) أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: يقول الله عز وجل: " الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني
في شئ منهما عذبته ".
قال أبو سليمان الخطابي معنى الكلام: إن الكبرياء والعظمة
صفتان لله تعالى: اختص بهما لا يشاركه فيهما أحد، ولا ينبغي
لمخلوق أن يتعاطاهما، لأن صفة المخلوق التواضع والتذلل وضرب
الإزار والرداء مثلا يقول - والله أعلم - كما لا يشارك الإنسان في إزاره
وردائه أحد، كذلك لا يشاركني في الكبرياء والعظمة مخلوق.
232

الحديث السادس والثلاثون
روى البخاري (13 / 384 فتح) ومسلم (4 / 2102 رقم 1) في
الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي وأنا معه حيث يذكرني فإن
ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي (176)، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في
ملأ خير منهم (177)، وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب
إلي ذراعا اقتربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة " (178).
قلت: ذهب القاضي أبو يعلى (المجسم) إلى أن لله نفسا هي
صفة زائدة على الذات، وهذا قول مبتدع بنوع التشبيه لأنه لا يفرق
بين الذات والنفس، وما المانع أن يكون المعنى: ذكرته أنا وقد سبق
هذا في الكلام على الآيات، والتقرب والهرولة، توسع في الكلام كقوله
تعالى (سعوا في آياتنا) الحج: 50. لا يراد به المشي.

(176) معنى فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي هو كما قال الحافظ في الفتح
(13 / 386):
" أي إن ذكرني بالتنزيه والتقديس سرا ذكرته بالثواب والرحمة سرا ".
(177) قال الحافظ في الفتح:
" والتقدير إن ذكرني في نفسه ذكرته بثواب لا أطلع عليه أحدا، وإن ذكرني
جهرا ذكرته بثواب أطلع عليه الملأ الأعلى " ا ه‍.
(178) قال الحافظ في " شرح البخاري " (13 / 513):
" قال ابن بطال: وصف سبحانه نفسه بأنه يتقرب إلى عبده ووصف العبد
بالتقرب إليه ووصفه بالإتيان والهرولة، كل ذلك يحتمل الحقيقة والمجاز،
فحملها على الحقيقة يقتضي قطع المسافات وتداني الأجسام وذلك في حقه
تعالى محال، فلما استحالت الحقيقة تعين المجاز لشهرته في كلام العرب،
فيكون وصف العبد بالتقرب إليه شبرا وذراعا له وإتيانه ومشيه معناه التقرب إليه
بطاعته وأداء مفترضاته ونوافله، ويكون تقربه سبحانه من عبده وإتيانه والمشي
عبارة عن إثابته على طاعته وتقربه من رحمته، ويكون قوله أتيته هرولة أي
أتاه ثوابي مسرعا، ونقل عن الطبري أنه إنما مثل القليل من الطاعة بالشبر
منه والضعف من الكرامة والثواب بالذراع فجعل ذلك دليلا على مبلغ كرامته
لمن أدمن على طاعته، أن ثواب عمله له على عمله الضعف وإن الكرامة
مجاوزة حده إلى ما يثيبه الله تعالى.
وقال ابن التين: القرب هنا نظير ما تقدم في قوله تعالى: (فكان قاب قوسين
أو أدنى) فإن المراد به قرب الرتبة وتوفر الكرامة، والهرولة كناية عن سرعة
الرحمة إليه ورضا الله عن العبد وتضعيف الأجر " ا ه‍.
قلت: وللنفس في لغة العرب عدة معان منها: الدم ومن ذلك قول الفقهاء:
(ما لا نفس له سائلة) أي: دم، ومنها: الروح، تقول: خرجت نفس فلان
أو زهقت نفسه أي روحه ومنه قوله تعالى: (الله يتوفى الأنفس حين موتها)
أي يتوفى الأرواح حين موت الأجساد، ومنها مجمل الإنسان من الروح
والجسد، كما نقول: لا تظلم هذه الأنفس، ومنها: العين، نقول هذا أمر
رأيته بنفسي أي بعيني، ومنها: الشئ والذات، تقول: هذا نفس الأمر، والله
أعلم.
233

الحديث السابع والثلاثون
روى أبو سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله جميل
يحب الجمال " (179).
قال العلماء: الجميل المجمل بتحسين الصور والأخلاق
والإحسان، والذي أراه أن الجميل الذي أوصافه تامة مستحسنة.

(179) هذا الحديث رواه مسلم في صحيحه (1 / 93 برقم 147) من حديث أبي
هريرة، ورواه البيهقي في " شعب الإيمان " (5 / 163 برقم 6201) من حديث
أبي سعيد بسند ضعيف، وكذا رواه أبو يعلى في مسنده، والحديث صحيح.
234

وقد فسره القاضي أبو يعلى (المجسم) بما لا يليق بالحق سبحانه
فقال: غير ممتنع وصفه بالجمال وإن ذلك صفة راجعة إلى الذات،
لأن الجمال في معنى الحسن.
قال: وقد تقدم قوله... " رأيت ربي في أحسن صورة " (180).
قلت: وهذا تشبيه محض.
الحديث الثامن والثلاثون
روى القاضي أبو يعلى (المجسم) عن عمر بن عبد العزيز: " إذا
فرغ الله من أهل الجنة والنار أقبل يمشي في ظلل من الغمام والملائكة
فيقف على أول درجة فيسلم عليهم، فيردون عليه السلام فيقول:
سلوني.
فيقولون: وماذا نسألك..؟ وعزتك وجلالك وارتفاعك في مكانك
لو أنك قسمت علينا رزق الثقلين لأطعمناهم وأسقيناهم ولم ينقص ما
عندنا.
فيقول: بلى سلوني.
فيقولون؟ نسألك رضاك. فيقول: رضاي، أحللكم دار كرامتي،
فيفعل هذا بأهل كل درجة حتى ينتهي إلى مجلسه ".
قلت: هذا حديث مكذوب به على عمر بن عبد العزيز (181).
وبعد كيف يثبت لله صفة بقول عمر بن عبد العزيز؟!!

(180) وهو حديث موضوع كما قدمناه في التعليق رقم - 72 -.
(181) توفي هذا الخليفة الراشد والإمام المجتهد العدل الأموي رحمه الله تعالى سنة
(101) ه، قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى كما في " سير أعلام النبلاء "
(5 / 130):
" الخلفاء الراشدون خمسة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز ".
قلت: وقد أبطل عمر بن عبد العزيز ظلم بني أمية وشتمهم ولعنهم لأمير
المؤمنين سيدنا علي (بن أبي طالب عليه السلام زوج بنت رسول الله سيدة
نساء أهل الجنة ووالد سيدي شباب أهل الجنة الحسن والحسين عليهما
السلام).
قال الحافظ الذهبي في " سير أعلام النبلاء " (5 / 147):
" قال ابن سعد: أخبرنا علي بن محمد، عن لوط بن يحيى قال: كان الولاة
من بني أمية قبل عمر بن عبد العزيز يشتمون رجلا رضي الله عنه، فلما ولي
هو - عمر بن عبد العزيز - أمسك عن ذلك، فقال كثير عزة الخزاعي:
وليت فلم تشتم عليا ولم تخف بريا ولم تتبع مقالة مجرم
تكلمت بالحق المبين وإنما تبين آيات الهدى بالتكلم
فصدقت معروف الذي قلت بالذي فعلت فأضحى راضيا كل مسلم "
وكان معاوية بن أبي سفيان هو الذي سن للناس لعن الخليفة الراشد ابن عم
رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنابر يوم الجمعة، فجعل لعنه كأنه أحد أركان الخطبة،
ففي صحيح مسلم (4 / 1874 برقم 2409) عن سيدنا سهل بن سعد رضي
الله عنه قال:
" استعمل على المدينة رجل من آل مروان. قال فدعا سهل بن سعد. فأمره
أن يشتم عليا. قال فأبى سهل. فقال له: أما إذا أبيت فقل: لعن الله
أبا تراب... " ولم يمتثل لأمره سهل رضي الله عنه.
قلت: ولما ولى معاوية المغيرة بن شعبة على الكوفة قال له:
" ولست تاركا إيصاءك بخصلة: لا تترك شتم علي وذمه " انتهى من الكامل
(3 / 472).
وقد قتل معاوية الصحابي الجليل حجر بن عدي عندما أنكر على عمال
معاوية وولاته سب سيدنا علي رضي الله عنه، وهذا شئ مشهور، قال
الحافظ ابن حجر في " الإصابة " (1 / 314) في ترجمته:
" وقتل بمرج عذراء بأمر معاوية "!!!
قلت: وقد قتل معاوية أناسا من الصالحين من الصحابة والفضلاء من أجل
السلطة ومن أولئك أيضا عبد الرحمن بن خالد بن الوليد قال ابن جرير في
" تاريخه " (3 / 202) وابن الأثير في الكامل (3 / 453) واللفظ له:
" وكان سبب موته - عبد الرحمن بن خالد بن الوليد - أنه كان قد عظم شأنه
عند أهل الشام ومالوا إليه لما عنده من آثار أبيه ولغنائه في بلاد الروم ولشدة
بأسه، فخافه معاوية وخشي منه وأمر ابن أثال النصراني أن يحتال في قتله
وضمن له أن يضع عنه خراجه ما عاش وأن يوليه جباية خراج حمص، فلما
قدم عبد الرحمن من الروم دس إليه ابن أثال شربة مسمومة مع بعض مماليكه،
فشربها، فمات بحمص، فوفى له معاوية بما ضمن له " ا ه‍
قلت: فهل يجوز قتل المسلم والله تعالى يقول في كتابه العزيز:
(ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد
له عذابا عظيما) النساء: 93؟! وهل معاوية مستثنى من مثل هذه الآية؟!!!
ولذلك قال في حقه الحسن البصري رحمه الله تعالى كما في " الكامل "
(3 / 487):
" أربع خصال كن في معاوية، لو لم تكن فيه إلا واحدة لكانت موبقة: انتزاؤه
على هذه الأمة بالسيف حتى أخذ الأمر من غير مشورة وفيهم بقايا الصحابة
وذوو الفضيلة، واستخلافه بعده ابنه سكيرا خميرا يلبس الحرير ويضرب
بالطنابير، وادعاؤه زيادا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الولد للفراش وللعاهر
الحجر " وقتله حجرا وأصحاب حجر، فيا ويلا له من حجر! ويا ويلا له من
أصحاب حجر! " ا ه‍
قلت: ولما كانت سيرة معاوية هكذا!! لم ترد له فضائل عن النبي صلى الله عليه وسلم، نقل
الحافظ الذهبي في " سير أعلام النبلاء " (3 / 132) عن إسحاق بن راهويه أنه
قال:
" لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل معاوية شئ " ا ه‍
وقد ثبت في صحيح مسلم (0 / 2014 برقم 2604) عن ابن عباس أن النبي
صلى الله عليه وسلم. قال له: " إذهب وادع لي معاوية " قال: فجئت فقلت: هو يأكل فقال
صلى الله عليه وسلم: " لا أشبع الله بطنه ". وثبت في صحيح مسلم (2 / 1114 برقم 1480)
أن النبي قال عنه لما شاورته في الزواج منه فاطمة بنت قيس: " صعلوك لا
مال له ".
قلت: وفي مسند الإمام أحمد (5 / 347) بسند رجاله رجال مسلم عن
عبد الله بن بريدة قال: " دخلت أنا وأبي على معاوية فأجلسنا على الفرش ثم
أتينا بالطعام فأكلنا ثم أتينا بالشراب فشرب معاوية، ثم ناول أبي ثم قال:
ما شربته منذ حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم... "!!!
قلت: وأما حديث الترمذي (3842) من طريق سعيد بن عبد العزيز عن
ربيعة بن يزيد عن عبد الرحمن بن أبي عميرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاوية:
" اللهم اجعله هاديا مهديا واهد به " فحديث ضعيف ومضطرب لا تقوم به
حجة، لا سيما وإسحاق بن راهويه يقول:
" لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل معاوية شئ "
قلت: سعيد بن عبد العزيز اختلط كما قال أبو مسهر الراوي عنه في هذا
الحديث، وكذا قال أبو داود ويحيى بن معين كذا في " التهذيب " (4 / 54)
للحافظ ابن حجر.
وكذا عبد الرحمن ابن أبي عميرة، لم يسمع هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم كما
في " علل الحديث " للحافظ ابن أبي حاتم (2 / 362 - 363) نقلا عن أبيه
الحافظ أبي حاتم الرازي. فهذا حديث معلول بنص الحافظ السلفي أبي حاتم.
قلت: ولو ثبت لابن أبي عميرة صحبة فهذا الحديث بالذات نص أهل الشأن
على أنه لم يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، كما في " علل الحديث " لابن أبي حاتم.
وقد نص ابن عبد البر أن عبد الرحمن هذا: " لا تصح صحبته، ولا يثبت إسناد
حديثه " كما في " تهذيب التهذيب " (6 / 220 دار الفكر).
وأما قول الترمذي فيه " حسن غريب " فقد قدمنا أن الحافظ ابن حجر قال في
" النكت على ابن الصلاح " إن الترمذي يعني بالحسن الغريب: الضعيف.
قلت: ومن الغريب العجيب أن محدث الصحف والأوراق!!! المتناقض
ادعى في " صحيحته " (4 / 615 - 618) أن هذا الحديث صحيح لأن
سعيد بن عبد العزيز متابع فيه، ولم يصدق!! فقد أورده من أربعة طرق كلها
فيها سعيد بن عبد العزيز، فهي لا تغني ولا تسمن من جوع، لأنها عادت
طريقا واحدا لا غير تنصب فيها العلل التي قدمناها، ثم زاد في نغمة طنبوره!!
فقال ذاك المتناقض!!! بعد أن ذكر طريقا أخرى يرويها عمرو بن واقد،
وسكت عن عمرو واقتصر على قول الترمذي فيه: " يضعف " ثم قال ذاك
المتناقض!! عقب ذلك:
" وبالجملة فالحديث صحيح، وهذه الطرق تزيده قوة على قوة "!! ا ه‍.
قلت: كيف تزيده قوة على قوة وفيه ظلمات بعضها فوق بعض منها:
أولا: كيف تقول طرق وماله إلا طريق سعيد بن عبد العزيز التي قدمنا ضعفها
وانقطاعها؟!!
ثانيا: كيف تقول " تزيده قوة على قوة " وتسكت عن عمرو بن واقد الذي
استشهدت بطريقه لتصحيح هذا الحديث الموضوع وهو كذاب وإليك أقوال
الحفاظ فيه كما هي في " تهذيب التهذيب " (8 / 102):
" قال أبو مسهر: كان يكذب....
وقال البخاري وأبو حاتم ودحيم ويعقوب بن سفيان: ليس بشئ... وكان
مروان يقول: عمرو بن واقد: كذاب...
وقال النسائي والدارقطني والبرقاني: متروك الحديث...
وقال ابن حبان: يقلب الأسانيد ويروي المناكير عن المشاهير واستحق
الترك... " ا ه‍.
فهل طرق مثل هذا الكذاب مما تقوي الحديث عندك أيها المتناقض؟!!
فعليك أن تنقل هذا الحديث إن كنت تعي إلى " الموضوعة "!!
235



ولذلك أورد الحديث الحافظ ابن الجوزي رحمه الله تعالى في " العلل
المتناهية " (1 / 275).
وأزيد بأنه موضوع.
وأما حديث: " اللهم علم معاوية الكتاب، وقه العذاب " فلا يصح حتى يلج
الجمل في سم الخياط، وهذا الدعاء: " اللهم علمه الكتاب " هو دعاء النبي
صلى الله عليه وسلم لابن عباس كما في البخاري في مواضع منها (الفتح 1 / 169) فقلبه
النواصب لمعاوية، ومعاوية لا يؤثر أنه كان عالما بالكتاب البتة، وإنما العالم
بالكتاب هو ابن عباس، كما امتلأت كتب التفسير من أقواله في فهم الكتاب.
وهذا الحديث المقلوب الموضوع " اللهم علم معاوية الكتاب وقه العذاب "
رواه أحمد في المسند (4 / 127) والطبراني (18 / 252) وابن عدي في
الكامل في الضعفاء (6 / 2402).
قلت: وفي سنده: الحارث بن زياد وهو شامي ناصبي لا تقبل روايته لمثل
هذا الحديث الذي يؤيد بدعته ولم يرو عنه إلا يونس بن سيف الكلاعي
قال الحافظ في ترجمته في " التهذيب " (2 / 123):
" قال الذهبي في الميزان (1 / 433): مجهول، وشرطه أن لا يطلق هذه
اللفظة إلا إذا كان أبو حاتم الرازي قالها "
ثم قال:
" نعم قال أبو عمرو بن عبد البر فيه مجهول: وحديثه منكر "
قلت: وفي سنده: يونس بن سيف: حمصي ومعاوية بن صالح: حمصي
ناصبي: قال عنه الحافظ في " التقريب " صدوق له أوهام، قلت: وفي ترجمته
في " التهذيب " (10 / 189): ما ملخصه في أقوال من جرحه:
كان يحيى بن سعيد القطان لا يرضاه، وفي رواية عن ابن معين ليس بمرضى،
وقال أبو إسحاق الفزاري: ما كان بأهل أن يروى عنه، وقال ابن أبي خيثمة:
يغرب بحديث أهل الشام جدا.
وحكم الذهبي على المتن من بعض طرقه في " الميزان " (1 / 388) بأنه:
" منكر بمرة " وفي الطريق مجهول ورجل لا يعرف.
وفي طريق أخرى ذكرها الذهبي في الميزان (3 / 47): من طريق إسحاق بن
كعب، حدثنا عثمان بن عبد الرحمن عن عطاء عن ابن عباس به.
وعثمان بن عبد الرحمن هو الوقاصي كما قال الذهبي في " الميزان " (3 / 47)
في ترجمة الجمحي، وهو متروك كما قال البخاري وكذبه ابن معين كما في
الميزان (3 / 43).
وضعفه المبتدع المتناقض في تعليقه على " صحيح ابن خزيمة " (3 / 214)
فأنى تقوم لهذا الحديث قائمة؟!!
ولذلك أورده ابن الجوزي في " العلل المتناهية في الأحاديث الواهية "
(1 / 272).
قلت: فكيف يقول بعض النواصب الذين يظهرون الاعتدال: لعلي أجران
ولمعاوية أجر لأنه مجتهد؟!!
فهل يصح الاجتهاد في قتل المسلمين الموحدين و.....؟!!
وهل هناك اجتهاد في مورد النص؟! وقد تواتر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في سيدنا عمار
الذي قاتل مع أمير المؤمنين سيدنا علي: " تقتله الفئة الباغية " كما ثبت في
البخاري ومسلم؟!!
وهل يصح الاجتهاد مع ورود نصوص كثيرة متواترة وصحيحة منها قوله صلى الله عليه وسلم
في حق سيدنا علي رضي الله عنه:
" من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه "
قال الحافظ الذهبي في " سير أعلام النبلاء " (8 / 335) عن هذا الحديث:
" متواتر ".
وفي صحيح مسلم (برقم 78 في الإيمان) عن سيدنا علي رضي الله عنه
قال: إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إلي: " إنه لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك
إلا منافق ".
قلت: فما حكم هذا الذي يأمر بسب ولعن مولى المؤمنين بشهادة رسول رب
العالمين على المنابر؟!!
وما حكم من يمتحن رعيته بلعن سيدنا علي رضي الله عنه والتبري منه وقتل
من لم يسبه ويلعنه؟!!
ومن الغريب المضحك حقا بعد هذا أن تجد ابن كثير يقول في باب عقدة
في " تاريخه " (8 / 20) في فضل معاوية ما نصه:
" هو معاوية بن أبي سفيان.... خال المؤمنين، وكاتب وحي رب العالمين
أسلم هو وأبوه وأمه هند... يوم الفتح " ا ه‍ ثم قال بعد ذلك:
" والمقصود أن معاوية كان يكتب الوحي لرسول صلى الله عليه وسلم مع غيره من كتاب
الوحي... " ا ه‍
قلت: كلا والله الذي لا إله إلا هو، لم يصح كلامك يا ابن كثير ولا ما
اعتمدته وزعمته، فأما قولك:
(خال المؤمنين) فليس بصحيح البتة، وذلك لأنه لم يرد ذلك في سنة
صحيحة أو أثر، وعلى قولك هذا في الخؤولة يكون حيي بن أخطب اليهودي
جد المؤمنين لأنه والد السيدة صفية زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، وليس كذلك.
ولم أرك تقول عن سيدنا أبي بكر أو عن سيدنا عمر أنه جد المؤمنين لأن
بنتيهما زوجتا رسول الله صلى الله عليه وسلم!!
ولا أريد الاسهاب في إبطال هذه الخؤولة المزعومة إنما أذكرها في موضع
آخر تختص به إن شاء الله تعالى.
وأما قولك (وكاتب وحي رب العالمين) فليس بصحيح أيضا، وذلك لأن معاوية
أسلم عام الفتح، وهو وأبوه من الطلقاء وقد أسلم في أوقات قد فرغ فيها
نزول الوحي ووصل عند قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت
عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) فماذا سيكتب معاوية بعد هذا؟!!
وقد ذكر الحافظ الذهبي في " السير " (3 / 123) عن أبي الحسن الكوفي قال:
" كان زيد بن ثابت كاتب الوحي، وكان معاوية كاتبا فيما بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين
العرب " وكذا قال الحافظ ابن حجر في ترجمته في الإصابة.
وليكن معلوما أنه أيضا ما كتب للنبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاث رسائل.
ثم ليعلم علما أكيدا أن كتابة معاوية للوحي على فرض أنها صحيحة كما
يزعم ابن كثير ليست عاصمة له مما وقع فيه مما قدمنا بعضه وسنذكر تمامه
في بحث علمي مستقل إن شاء الله تعالى، بدليل أن عبد الله بن أبي سرح
الذي كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم الوحي في مكة أول ما نزل الوحي ارتد وخرج
من الإسلام بعد ذلك كما في ترجمته في كتب الحفاظ والمحدثين ومنها كتاب
" سير أعلام النبلاء " (3 / 33) والإصابة لابن حجر وغير ذلك، وروى أبو داود
في سننه (4 / 128 برقم 4358) بسند حسن عن ابن عباس قال:
" كان عبد الله بن سعد ابن أبي سرح يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأزله الشيطان فلحق
بالكفار، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتل يوم الفتح.... " ا ه‍
فهذه ثلاثة براهين تبطل قول ابن كثير في تفضيل معاوية بكتابة الوحي وتجتث
هذه الفضيلة من جذورها.
قلت: وأما من احتج بحديث: " الله الله في أصحابي لو أنفق أحدكم مثل
أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " فنقول له:
جاءت في صحيح مسلم وغيره من طرق مناسبة هذا الحديث حتى يعرف معناه
وهو ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال:
كان بين خالد وعبد الرحمن بن عوف خصومة فسب خالد عبد الرحمن فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه ذلك:
" دعوا لي أصحابي أو أصيحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا لم يدرك.
مد أحدهم ولا نصيفه ". قال عنه الهيثمي في المجمع (10 / 15) " رجاله
رجال الصحيح غير عاصم بن أبي النجود وقد وثق " ا ه‍.
قلت: وأخرجه مسلم برقم (2540).
فاصطلاح الصحابي عند الصحابة والسلف كان لمن له سابقة في الإسلام.
ولنا رسالة طويلة الذيل في هذه المسألة استقصينا فيها البحوث المتعلقة بها
بأدلتها سنطبعها بعون الله تعالى قريبا.
ولنعد إلى سيدنا عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى فإنه ثبت عنه أنه قال
كما في " تهذيب التهذيب " (2 / 185 الفكر):
" لو جاءت كل أمة بخبيثها وجئنا بالحجاج لغلبناهم ".
قلت: ثم قال الحافظ ابن حجر هناك عن الحجاج:
" وكفره جماعة منهم سعيد بن جبير والنخعي ومجاهد وعاصم بن أبي النجود
والشعبي وغيرهم " وارجع إلى ترجمته في " التهذيب " وأقرأها فإن فيها فوائد.
235

قال ابن حامد (المجسم): يأتي يوم القيامة إلى المحشر لقوله
تعالى: (يأتي ربك) وقت نزوله إلى السماء.
وقال القاضي أبو يعلى (المجسم): الآية تشهد لحديث عمر وهي
قوله تعالى: (يأتيهم الله في ظلل من الغمام) البقرة: 210.
قلت: ولا يدري أن المعنى: يأتيهم الله بظلل.
قال - أبو حامد المجسم - ولا يمتنع إمراره على ظاهره لأنه لا بد
من مشيه وانتهائه إلى مجلسه لا عن انتقال.
قلت: من يقول يحمل هذا على ظاهره كيف يقول بلا انتقال،
وإنما يقول هذا إرضاء للجهال وهل المشي إلا انتقال.
243

الحديث التاسع والثلاثون
روي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن المقام المحمود قال: " وعدني ربي بالقعود على العرش " (182).
قلت: هذا حديث مكذوب لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(182) هذا كذب صريح على السيدة عائشة رضي الله عنها وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وقد ذكر الخلال هذا الاقعاد على العرش في " سنته " من ص (209 - 268)
ونقل نحو (85) نصا لإثبات ذلك، غالبها أثر مروي عن مجاهد التابعي بسند
ضعيف واه يرويه عنه ليث بن أبي سليم في تفسير قوله تعالى: (عسى أن
يبعثك ربك مقاما محمودا " قال - أي مجاهد - يقعده معه على العرش.
قلت: تعالى الله عن ذلك التخريف علوا كبيرا.
والعجيب الغريب كما قدمنا أن هذا الخلال يقول إن من لم يؤمن بأن معنى
المقام المحمود إجلاس سيدنا محمد بجنب الله على العرش فهو كافر زنديق
جهمي وذلك ص (215) و (216) من " سنته " التالفة!!
وبذلك يكون قد قلب الكفر إيمانا، والإيمان كفرا، فتأملوا أيها المسلمون
في دعاة السنة هؤلاء!!
وتفسير المقام المحمود بجلوس النبي بجنب الله كما يتخيلون وتعالى الله عن
ذلك علوا كبيرا مضاد للأحاديث المشهورة في الصحيحين وغيرهما من تفسير
المقام المحمود بالشفاعة.
أنظر البخاري تفسير سورة (17) الإسراء باب (11) حيث فسر المقام
المحمود بالشفاعة.
وفي الترمذي (3137) بإسناد صحيح عن سيدنا أبي هريرة قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم في قوله (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) سئل عنها قال:
" هي الشفاعة " فالحمد لله رب العالمين.
244

قال ابن حامد (المجسم): يجب الإيمان بما ورد من المماسة
والقرب من الحق لنبيه في إقعاده على العرش. قال: وقال ابن عمر:
(وإن له عندنا لزلفى) ص: 40. قال: ذكر الله الدنو منه حتى يمس
بعضه (183).
قلت: وهذا كذب على ابن عمر ومن ذكر تبعيض الذات كفر
بالإجماع (184).

(183) رواه الخلال في " سنته " ص (263) عن عبيد بن عمير قال: (وإن له عندنا
لزلفى) قال: ذكر الدنو حتى يمس بعضه.
وأعجبني محقق الكتاب حيث قال: " إسناده صحيح، ومع صحة إسناده فإنه
لا يجوز أن يعتقد بما دلت عليه، لأنها تخالف الأحاديث في تنزيه الخالق،
وليس لها شاهد صحيح مرفوع ولا من أقوال الصحابة الكرام ".
قلت: فلما لم يكن لها ما يشهد لها - أعني هذه العبارة - دل على أن هذا
السند الصحيح ظاهرا موضوع حقيقة والله المستعان، ومن قال بمثل هذه
العقيدة من السلف أو من الخلف فإنه يسقط ولا يعتد به، ولينتبه كل مسلم
إلى أن الفرق الضالة جميعها نشأت في قرون السلف فلا تغترن بكلمة سلف
البتة.
(184) ومن هذا الكلام تعرف أنه لا يجوز أن نتهاون مع المجسمة فالمجسمة كفار
بلا مثنوية، والمجسم يعبد صنما، وقد جزم بذلك الإمام الحافظ النووي
رحمه الله تعالى فإنه قال في باب صفات الأئمة من المجموع (4 / 253):
" فممن يكفر من يجسم تجسيما صريحا " ا ه‍
فيدخل في ذلك الحراني بتشديد الراء وتقديم المهملة!! الذي يقول في غير
ما كتاب من كتبه بالجسمية، ومن ذلك قوله في " تأسيسه " (1 / 101):
" وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قول أحد من سلف الأمة وأئمتها أنه
ليس بجسم وأن صفاته ليست أجساما ولا أعراضا! فنفي المعاني الثابتة
بالشرع والعقل بنفي ألفاظ لم ينف معناها شرع ولا عقل، جهل وضلال " ا ه‍
قلت: بل قولك هذا والذي فطر السماوات والأرض جهل وضلال، أليس قول
الله تعالى (ليس كمثله شئ) كاف في نفي معنى التجسيم وحقيقته عن
خالق الأجسام أيها الحراني؟!!
وأما أئمة الأمة وسلفها أيها الحراني فقد ذموا التشبيه فهذا الإمام أبو حنيفة
رحمه الله تعالى السلفي المتوفى سنة (150) ه‍ يقول كما في " سير أعلام
النبلاء " (7 / 202):
" أتانا من المشرق رأيان خبيثان: جهم معطل، ومقاتل مشبه " ا ه‍.
فتأمل وتدبر!!
245

قال القاضي أبو يعلى (المجسم): يقعد نبيه على عرشه بمعنى:
يدنيه من ذاته ويقربه منها ويشهد له قوله (فكان قاب قوسين أو أدنى)
وقال ابن عباس: كان بينه وبينه مقدار قوسين.
قلت: هذا عن جبريل لا عن الله سبحانه، ومن أجاز القرب من
الذات أجاز الملاصقة وما ذهب إليه القاضي أبو يعلى صريح في
التجسيم.
246

الحديث الأربعون
روى الدارقطني من حديث أبي إسحاق عن عبد الله بن خليفة عن
عمر: أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ادع الله أن يدخلني
الجنة فعظم الرب عز وجل فقال:
" إن كرسيه وسع السماوات والأرض، وإن له أطيطا كأطيط الرحل
الجديد إذا ركب من ثقله " (185).
هذا حديث مختلف جدا، فتارة يروى عن عبد الله بن خليفة عن
عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتارة عن عمر موقوفا عليه. وقد رواه أبو إسحاق
عن ابن خليفة عن ابن عمر قال: " إذا جلس تبارك وتعالى على الكرسي
سمع له أطيط كأطيط الرحل " (186). ورواه ابن جرير (187) عن عبد الله بن
خليفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كرسيه وسع السماوات والأرض وإنه

(185) رواه البزار (1 / 29 برقم 39 كشف الأستار) والطبري في تفسيره (3 / 10)
وأبو يعلى في مسنده كما قال الهيثمي في " المجمع " (10 / 159) من طريق
أبي إسحاق السبيعي عن عبد الله بن خليفة عن سيدنا عمر مرفوعا.
قلت: وفي السند علتان:
الأولى: أن أبا إسحاق السبيعي اختلط بأخرة كما في " التقريب " وغيره.
والثانية: عبد الله بن خليفة قال عنه الذهبي في " الميزان " لا يكاد يعرف، وقال
عنه ابن كثير في " البداية " (1 / 11):
" في سماعه من عمر نظر " ا ه‍.
قلت: ومتن الحديث منكر جدا، وعندنا هو موضوع كذب.
قال ابن كثير: " ثم منهم من يرويه موقوفا ومرسلا، ومنهم من يزيد فيه زيادة
غريبة والله أعلم " ا ه‍ من " البداية والنهاية ".
(186) كذب موضوع وتعالى الله عز وجل عن هذا التخريف.
(187) في تفسيره (3 / 10).
247

ليقعد عليه فما يفضل منه مقدار أربع أصابع ثم قال بأصبعه فجمعها..
وإن له أطيطا كأطيط الرحل إذا ركب من ثقله " (188).
وروى أبو بكر المروزي أن ابن خليفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" الكرسي الذي يجلس عليه الرب ما يفضل منه إلا مقدار أربعة
أصابع ".
قلت: هذا على ضد اللفظ الأول، وكل ذلك من تخليط الرواة
وسوء الحفظ، والأليق فما يفضل منه مقدار أربع أصابع: والمعنى أنه
قد ملأه بهيبته وعظمته، ويكون هذا ضرب مثل يقرب عظمة الخالق،
وقول الرواة: إذا قعد وإذا جلس من تغييرهم أو من تعبيرهم بما يظنونه
من المعنى، كما قال القائل: ثم استوى على العرش قعد، وإنما قلنا
هذا لأن الخالق سبحانه وتعالى لا يجوز أن يوصف بالجلوس على شئ
فيفضل من ذلك الشئ، لأن هذه صفة الأجسام.
وقال الزاغوني (المجسم): معنى الحديث خرج عن صفة الاستواء
أربعة أصابع.

(188) تقدم أنه موضوع كذب، ومع ذلك نقل الشيخ!! الحراني!! تقويته عن
مجهولين في " منهاج سنته " (1 / 260) رغم أنه نقل أولا طعن الحافظ
الإسماعيلي والحافظ ابن الجوزي بهذا الحديث ثم قال:
" ومن الناس من ذكر له شواهد وقواه " ا ه‍
قلت: من هم هؤلاء الناس؟!! أليسوا هم بعض مجسمة الحنابلة أمثال أبي
يعلى وأبي حامد وابن الزاغوني الذين لا يعرفون هذه الصناعة، فواعجبا منك
أيها الحافظ!! الحراني!!
قلت: وقد صنف الحافظ العلامة ابن عساكر كتابا سماه: " تبيان الوهم
والتخليط من حديث الأطيط " فتنبه.
248

قلت: وهذا قد قصد به مغالطة العوام!! وهل لما قاله معنى؟!!
إلا أن يقال إن هذه الأربعة لم تحاذ ولم تماس وكل هذا صريح في
التشبيه ظاهر في التجسيم ثم هو إثبات صفات بما لا يحسن إثباته من
الأحاديث المعلولة. وقد روينا عن أبي بكر بن مسلم العائدي قال: هذا
الموضع الذي يفضل لمحمد ليجلس عليه قال: وقد كان الأليق بهذا
المتعبد أن يتشاغل بعبادته عن الكلام في هذا الفن.
وقد روى القاضي أبو يعلى (المجسم) عن الشعبي أنه قال: إن
الله تعالى قد ملأ العرش حتى أن له أطيطا كأطيط الرحل.
قلت: هذا كذب على الشعبي.
قال القاضي أبو يعلى (المجسم): وغير ممتنع حمل الخبر على
ظاهره، في أن ذاته تملأ العرش، ثم قال: لا على شغل مكان.
قلت: ومن يخلط هذا التخليط لا يكلم، واعجبا من يملأ مكانا
يشغله!!
روى القاضي أبو يعلى (المجسم) عن خالد بن معدان أنه قال؟
إن الرحمن ليثقل على حملة العرش (189)، وقال: غير ممتنع حمل هذا
على ظاهره، وإن ثقله يحصل على وجه المماسة.

(189) وقد رد الإمام المحدث الكوثري عليه الرحمة والرضوان في " مقالاته " وتعليقاته
على " السيف الصقيل " المسماة ب‍ " تبديد الظلام المخيم من نونية ابن القيم "
هذه العقيدة الفاسدة وهدمها هدما ونقضها نقضا، أنظر مقالاته ص (281).
وإنني أنصح طلاب العلم وأهله أن يقتنوا كتب الإمام الكوثري وخصوصا
كتاب " المقالات " وتعليقاته على " السيف الصقيل " لما حوت من الفوائد
العلمية والتحقيق الدقيق.
249

الحديث الحادي والأربعون
روى البخاري (فتح 13 / 453) ومسلم (1 / 201 برقم 379) في
الصحيحين من حديث أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يقول الله
عز وجل يوم القيامة: يا آدم فيقول: لبيك وسعديك. فينادي
بصوت (190): إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار ".
قلت: انفرد بلفظ " الصوت " حفص بن غياث وخالفه وكيع وجرير
وغيرهما، من أصحاب الأعمش، فلم يذكروا الصوت.

(190) لم يقع في مسلم ذكر للفظ " الصوت " وهي من تصرف الرواة، إنما وقع في
البخاري، قال الحافظ ابن حجر في شرحه في " فتح الباري " (13 / 460):
(ووقع " فينادي " مضبوطا للأكثر بكسر الدال، وفي رواية أبي ذر بفتحها على
البناء للمجهول، ولا محذور في رواية الجمهور، فإن قرينة قوله " إن الله
يأمرك " تدل ظاهرا على أن المنادي ملك يأمره الله بأن ينادي بذلك) ا ه‍.
قلت: وعمدة استدلال المجسمة على إثبات الصوت لله تعالى عما يقولون:
ثلاثة أحاديث، هذا أولها وقد أجبنا عنه، وملخصه أن استدلالهم به باطل
من ثلاثة أوجه:
(الأول): أنه من تصرف الرواة فبعضهم يذكر فيه لفظة الصوت وبعضهم لا
يذكر.
(والثاني): ما قاله الحافظ من أن قوله فيه " إن الله يأمرك " تثبت أن صاحب
الصوت هو ملك من الملائكة والله تعالى لا صوت له لأنه (ليس كمثله
شئ) فكلامه ليس ككلام خلقه.
(والثالث): أنه حديث آحاد ولا تثبت العقائد بمثله.
وأما الحديثان الآخران اللذان يستدل بهما المجسمة:
(فأحدهما): حديث جابر الذي علقه البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد
(13 / 453) بصيغة تمريض فقال:
" ويذكر عن جابر عن عبد الله بن أنيس قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " يحشر
الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك
أنا الديان ".
قلت: هذا حديث ضعيف الإسناد، في سنده عبد الله بن محمد بن عقيل
ضعيف جدا كما يعلم ذلك من يطالع ترجمته في " تهذيب التهذيب " (6 / 13
- 14 دار الفكر) كما أن في سنده أيضا القاسم بن عبد الواحد وهو صاحب
مناكير كما في ترجمته في " الميزان " (3 / 375 / 3) وفي " الجرح والتعديل "
(7 / 114) ما معناه: " لا يحتج بحديثه " فحديثه هذا لا نقبله في الوضوء فضلا
عن أصول الدين، وقد أوضحت هذا بإسهاب في كتابي " الأدلة المقومة
لاعوجاجات المجسمة " وأبطلت قول من قال: " إن له طرق تقويه ".
وقد بت الأمر فيه الحافظ ابن حجر فقال في " الفتح " (1 / 174):
" لأن لفظ الصوت مما يتوقف في إطلاق نسبته إلى الرب ويحتاج إلى تأويل،
فلا يكفي فيه مجئ الحديث من طريق مختلف فيها ولو اعتضدت " ا ه‍ وانظر
كتابنا: " إلقام الحجر " ص (21 - 41) ففيه ما يشفي الغليل.
(وثانيهما): حديث ابن مسعود الموقوف المعلق أيضا في صحيح البخاري
(13 / 452 - 453) وفيه:
" إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات شيئا فإذا فزع عن قلوبهم وسكن
الصوت عرفوا أنه الحق ونادوا ماذا قال ربكم قالوا الحق " ا ه‍
قلت: هذا الصوت هو للسماء وليس لله تعالى، والدليل على ذلك ما رواه
أبو داود (4 / 235 برقم 4738) عن عبد الله بن مسعود مرفوعا:
" إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على
الصفا، فيصعقون... " الحديث وإسناده صحيح على شرط الشيخين،
فالصوت كما هو صريح في هذا الحديث للسماء لا لله تعالى.
والله الموفق.
250

وسئل أحمد عن حفص قال: كان يخلط في حديثه. وفي الحديث
الصحيح: " إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة
كجر السلسلة على الصفا " (191). فرواه بعضهم بالمعنى الذي يظنه
فقال: " سمع صوته أهل السماء ".
وفي حديث ابن مسعود: " إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء
صلصلة كجر السلسلة على الصفا ".
وهذا مع اللفظ الأول أليق وليس في الصحيح: سمع صوته أهل
السماء.

(191) رواه أبو داود (4 / 235 برقم 7438) والحافظ البيهقي في " الأسماء والصفات "
(200 - 201) وغيرهما.
251

الحديث الثاني والأربعون
روى جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لما كلم الله
موسى عليه السلام يوم الطور، كلمه بغير الكلام الذي به ناداه، فقال
له: يا موسى إني كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان ولي قوة الألسنة كلها،
وأنا أقوى من ذلك فلما سمع رجع إلى بني إسرائيل قالوا: صف لنا
كلام الرحمن..؟ قال: لا أستطيع قالوا: قربه لنا قال: ألم تسمعوا
صوت الصواعق التي تقبل بأجلى كلام سمعتموه قط (192).
قلت: هذا حديث لا يصح يرويه علي بن عاصم عن الفضل بن
عيسى قال يحيى: كذاب ليس بشئ (193).
وقال النسائي: علي بن عاصم متروك الحديث. وقال يزيد بن

(192) هذا حديث موضوع، أورده الحافظ ابن الجوزي في كتابه " الموضوعات "
(1 / 112 - 113). ومن الغريب العجيب أن يحتج به الشيخ الحراني لإثبات
عقيدته في " الموافقة " (2 / 151) المطبوعة بهامش " منهاج البدعة "!!
(193) يعني علي بن عاصم لما في ترجمته في التهذيب (7 / 304 الفكر).
252

هارون: ما زلنا نعرفه بالكذب.
وأما الفضل بن عيسى (194) فقال أيوب السختياني: لو خلق أخرس
كان خيرا له، وقال ابن عيينة: الفضل بن عيسى لا شئ، وقال يحيى:
هو رجل سوء.
الحديث الثالث والأربعون
روى القاضي أبو يعلى (المجسم) عن حسان بن عطية أنه قال:
" الساجد يسجد على قدم الرحمن ".
قلت: هذا قول تابعي، وهو مثل المقرب من فضل الله تعالى،
وأثبت القاضي أبو يعلى (المجسم) بهذا وصف قدم، وإنه يسجد على
قدم حقيقة لا على وجه المماسة.
الحديث الرابع والأربعون
روى البخاري (فتح 13 / 423) ومسلم (1 / 163 برقم 296) في
الصحيحين من حديث أبي موسى - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال: " جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما
وما فيهما، وليس بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء
على وجهه في جنة عدن " (195).

(194) أنظر الميزان (3 / 356).
(195) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (13 / 432):
" قال عياض كانت العرب تستعمل الاستعارة كثيرا، وهو أرفع أدوات بديع
فصاحتها وإيجازها، ومنه قوله تعالى (جناح الذل) فمخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم برداء
الكبرياء على وجهه ونحو ذلك من هذا المعنى، ومن لم يفهم ذلك تاه فمن
أجرى الكلام على ظاهره أفضى به الأمر إلى التجسيم ومن لم يتضح له،
وعلم أن الله تعالى منزه عن الذي يقتضيه ظاهرها إما أن يكذب نقلتها وإما
أن يؤولها، كأن يقول استعار لعظم سلطان الله وكبريائه وعظمته وهيبته وجلاله
المانع إدراك أبصار البشر مع ضعفها لذلك رداء الكبرياء، فإذا شاء تقوية
أبصارهم وقلوبهم كشف عنهم حجاب هيبته وموانع عظمته انتهى
ملخصا " ا ه‍.
ثم قال الحافظ بعد ذلك بأسطر:
" ثم وجدت في حديث صهيب في تفسير قوله تعالى (للذين أحسنوا الحسنى
وزيادة) ما يدل على أن المراد برداء الكبرياء في حديث أبي موسى الحجاب
المذكور في حديث صهيب، وأنه سبحانه يكشف لأهل الجنة إكراما لهم،
والحديث عند مسلم والترمذي والنسائي وابن خزيمة وابن حبان ولفظ مسلم:
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا دخل أهل الجنة الجنة، يقول الله عز وجل: تريدون
شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا وتدخلنا الجنة؟ قال: فيكشف لهم
الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم منه ". ثم تلا هذه الآية (للذين أحسنوا
الحسنى وزيادة) أخرجه مسلم عقب حديث أبي موسى، ولعله أشار إلى
تأويله به " ا ه‍.
وقال ابن بطال كما في الفتح (13 / 433):
" لا تعلق للمجسمة في إثبات المكان لما ثبت من استحالة أن يكون سبحانه
جسما أو حالا في مكان، فيكون تأويل الرداء: الآفة الموجودة لأبصارهم
المانعة لهم من رؤيته... " ا ه‍.
253

قلت: الرائي (هو الذي) في جنة عدن لا المرئي لأنه لا تحيط
به الأمكنة (سبحانه).
قال القاضي أبو يعلى (المجسم): ظاهر الحديث أنه المرئي في
جنة عدن.
254

قلت: وهذا هو التجسيم المحض، ورداء الكبرياء ما له من
الكبرياء والعظمة، فكأنه إن منعهم فلعظمته، وإن شاء كشف لهم.
وقد تكلمنا على الوجه في الآيات وقلنا المراد بالوجه: هو (ذات
الله) سبحانه.
الحديث الخامس والأربعون
روى البخاري (فتح 13 / 404) ومسلم (4 / 2107) في
الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم:
" لما قضى الله الخلق كتب في كتابه - فهو عنده فوق العرش -
إن رحمتي غلبت غضبي " وفي لفظ: " سبقت " (196).

(916) قال الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " (13 / 413) نقلا عن الخطابي:
(ويكون معنى " فهو عنده فوق العرش " أي ذكره وعلمه وكل ذلك جائز في
التخريج، على أن العرش خلق مخلوق تحمله الملائكة، فلا يستحيل أن
يماسوا العرش إذا حملوه، وإن كان حامل العرش وحامل حملته هو الله،
وليس قولنا أن الله على العرش أي مماس له أو متمكن فيه أو متحيز في جهة
من جهاته...) ا ه‍
قلت: وهناك حديث رواه البخاري في صحيحه قبل هذا الحديث الذي نحن
بصدده وفيه أن السيدة زينب رضي الله عنها كانت تفخر على نساء النبي
صلى الله عليه وسلم وكانت تقول: " إن الله أنكحني في السماء " وفي لفظ آخر: " زوجني الله
تعالى من فوق سبع سماوات " ومرادها بذلك أي أنكحني الله بأن ذكر نكاحي
في القرآن الذي نزل من فوق سبع سماوات واللفظ الأول يثبته. قال الحافظ
في شرحه هناك في الفتح (13 / 412):
" قال الكرماني: قوله: " في السماء " ظاهره غير مراد، إذ الله منزه عن الحلول
في المكان، لكن لما كانت جهة العلو أشرف من غيرها أضافها إليه إشارة
إلى علو الذات والصفات " ا ه‍
قلت: يعني علو الذات والصفات المعنوي كما قال الحافظ ابن حجر في
الفتح (6 / 136):
" ولا يلزم من كون جهتي العلو والسفل محال على الله تعالى أن لا يوصف
بالعلو لأن وصفه بالعلو من جهة المعنى، والمستحيل كون ذلك من جهة
الحس " ا ه‍.
255

قال القاضي أبو يعلى (المجسم): ظاهر قوله عنده القرب من
الذات. واعلم أن القرب من الحق لا يكون بمسافة وإنما ذلك من صفة
الأجسام، وقد قال سبحانه وتعالى: (مسومة عند ربك) هود: 83.
256

الحديث السادس والأربعون
روي عن بعض التابعين أنه قال: " خلق الله آدم بيده، وكتب
التوراة بيده وغرس الفردوس بيده " (197).
قلت: هذا حديث لا يثبت عن قائله وقد تكلمنا عليه عند قوله
تعالى (لما خلقت بيدي) ص: 75.

(917) ذكر المحدث الزبيدي هذا الحديث في " إتحاف السادة المتقين "
(10 / 550) فقال وما بين الأقواس كلام الإمام الغزالي:
" (وقال كعب) الأحبار رحمه الله تعالى (خلق الله تعالى آدم بيده وكتب التوراة
بيده وغرس الجنة بيده ثم قال لها تكلمي فقالت: قد أفلح المؤمنون) رواه
عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة قال: قال كعب...، وقد روي ذلك مرفوعا
من حديث أنس: خلق الله جنة عدن وغرس أشجارها بيده وقال لها تكلمي
فقالت: قد أفلح المؤمنون. رواه ابن عدي والحاكم والبيهقي في الأسماء
والصفات ورواه الطبراني في السنة وابن مردويه من حديث ابن عباس مثله،
وروى الديلمي من حديث الحارث بن نوفل خلق الله ثلاثة أشياء بيده خلق
آدم بيده وكتب التوراة بيده وغرس الفردوس بيده... " ا ه‍.
قلت: هذا حديث مسلسل بالعلل، وهو إسرائيلي من كلام كعب الأحبار
لأجل ذكر التوراة فيه وهو موضوع لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم زيادة على أنه خطأ لأنه
معارض لقوله تعالى: (أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما)
وقوله تعالى: (والسماء بنيناها بأيد) وأيد هنا جمع يد وهي الكف بدليل
قوله تعالى: (أم لهم أيد يبطشون بها)؟ والله الموفق.
257

الحديث السابع والأربعون
روى ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى
(وسع كرسيه السماوات والأرض) البقرة: 255، قال: " كرسيه موضع
قدميه، والعرش لا يقدر قدره " (198).
قلت: رواه جماعة من الأثبات فوقفوه على ابن عباس، ورفعه
منهم شجاع بن مخلد فعلم بمخالفته الكبار المتقنين أنه قد غلط.
ومعنى الحديث: أن الكرسي صغير بالإضافة إلى العرش كمقدار
كرسي يكون عنده سرير قد وضع لقدمي القاعد على السرير.
قال الضحاك: الكرسي الذي تجعل الملوك أرجلهم عليه، وقال
القاضي أبو يعلى (المجسم): القدم قدم الذات، وهي التي يضعها
في النار.

(198) حديث نجزم بوضعه رواه ابن الجوزي في " العلل المتناهية " (1 / 22).
والخطيب البغدادي في تاريخه (9 / 251).
ورواه الحاكم (2 / 282) موقوفا وقال:
على شرط الشيخين!!
ووافقه الذهبي!!
وذكر الهيثمي في " مجمع الزوائد " (6 / 323) وقال:
" رجاله رجال الصحيح "!!
قلت: وهو منكر ضعيف، اقتضى الحكم عليه بالوضع، ولا يبعد أن يكون
منقولا عن أهل الكتاب.
258

الحديث الثامن والأربعون
حديث العباس رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " فوق
السماء السابعة بحر بين أعلاه وأسفله كما بين السماء والأرض، والله
تعالى فوق ذلك " (199).
هذا حديث لا يصح تفرد به يحيى بن العلاء.
قال أحمد: هو كذاب يضع الحديث، وقال يحيى بن معين: ليس
بثقة، وقال ابن عدي: أحاديثه موضوعة وقد تكلمنا على الفوقية عند
قوله تعالى (وهو القاهر فوق عباده) الأنعام: 18.

(199) هذه قطعة من حديث موضوع رواه أحمد في مسنده (1 / 206) من طريق
عبد الرزاق عن يحيى بن العلاء عن شعيب بن خالد عن سماك بن حرب عن
عبد الله بن عميره عن العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا، ورواه أبو داود (4 / 231
برقم 4723) وابن ماجة (1 / 69 برقم 193) وغيرهما، ويحيى بن العلاء
الذي في سند أحمد قال عنه أحمد: كذاب يضع الحديث، وأما سند أبي داود
وابن ماجة فمن طريق سماك عن ابن عميره عن الأحنف بن قيس عن
العباس، قال البخاري في تاريخه الكبير (5 / 159): " لا يعلم سماع لابن
عميرة من الأحنف " ا ه‍.
قلت: وهذا نص الحديث من مسند الإمام أحمد بن حنبل:
عن سيدنا العباس قال: كنا جلوسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبطحاء، فمرت
سحابة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتدرون ما هذا؟ " قال: قلنا: السحاب، قال:
" والمزن "، قلنا والمزن، قال: والعنان، قال فسكتنا، فقال: " هل تدرون كم
بين السماء والأرض " قال: قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: " بينهما مسيرة
خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة، وكثف كل
سماء مسيرة خمسمائة سنة، وفوق السماء السابعة بحر بين أسفله وأعلاه كما
بين السماء والأرض، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال، بين ركبهن وأظلافهن كما
بين السماء والأرض، ثم فوق ذلك العرش، بين أسفله وأعلاه كما بين السماء
والأرض، والله تبارك وتعالى فوق ذلك، وليس يخفى عليه من أعمال بني آدم
شئ ".
قلت: وقد بين بطلان هذا الحديث الإمام المحدث الكوثري في مقالة خاصة
مطبوعة ضمن كتابه " المقالات " ص (308) سماها: " أسطورة الأوعال "
فلتراجع فإنها مهمة جدا.
وكذا أبطله الإمام المحدث عبد الله بن الصديق الغماري وذكر بطلان متنه في
كتابه " سبيل التوفيق " فقال:
" وبينت بطلان حديث الأوعال بأن إسناده ضعيف ومعناه منكر من وجوه:
1 - أن القرآن يفيد أن حملة العرش يوم القيامة ثمانية لا اليوم.
2 - أن القرآن نعى على الكفار تسميتهم الملائكة إناثا، والحديث يفيد أنهم
أوعال، والإناث أشرف من الوعل.
3 - أن الوعل هو التيس الجبلي، والوصف به يدل على الذم، فقد سمى
النبي صلى الله عليه وسلم المحلل تيسا مستعارا، ووصف الذين يتخلفون في نساء
المجاهدين بالفاحشة بأنهم ينبون نبيب التيس.
4 - أن القرآن والسنة يصفان الملائكة بأنهم ذوو أجنحة، وهذا الحديث
جعلهم أوعالا... " ا ه‍
259

قال القاضي أبو يعلى (المجسم): المراد من الفوقية: استواء
الذات على العرش، وقال: هو على العرش ما حاذى العرش من ذاته
فهو حد له وما عدا الجهة المحاذية للعرش وهو الفوق والخلف والأمام
واليسرة لا يحد.
قلت: هذا الكلام أصل التجسيم لأن المحاذي يكون أكبر أو
أصغر والمقادير لا تكون إلا في الأجسام.
قال القاضي أبو يعلى (المجسم): إذا ثبت أنه مستو على العرش
فهل يجوز أن نطلق عليه الجلوس والقيام، وما وجدت عن إمامنا في
هذا شيئا.
260

قلت: وكلا الشيئين لا يصح. أما لفظة القعود فقد رواها عن ابن
عباس ولا يصح، وأما القيام فيرويها عيسى عن جابر عن عمر بن
الصبح.
قال البخاري: قال عمر بن الصبح أنا وضعت خطبة رسول الله.
وقال ابن حبان: وكان يضع الحديث على الثقات لا يصح كتب حديثه
إلا على التعجب، وقال الدارقطني: متروك. وقال الأزدي: كذاب
ذاهل.
قلت: وبمثل هذه يثبت لله صفة أين العقول؟! تعالى الحق أن
يوصف بقيام وهو انتصاب القامة إنما هو قائم بالقسط، ولا يوصف
بقعود ولأنها حالة الجسماني.
الحديث التاسع والأربعون
روي في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل
الله إلا طيبا.، فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم
فلوه حتى تكون مثل الجبل.. " (200).

(200) رواه البخاري في الزكاة ورواه في التوحيد (13 / 415 فتح) بلفظ:
" من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يصعد إلى الله إلا الطيب، فإن
الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل
الجبل ".
قلت: معنى: ولا يصعد إلى الله أي: ولا يتقبل عند الله تعالى يثبت ذلك
رواية مسلم في صحيحه (2 / 702 برقم 63 و 64...) بلفظ:
" ما تصدق أحد بصدقة من طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمن
بيمينه وإن كانت تمرة، فتربوا في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل،
كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله ".
فتنبه لتصرف الرواة.
261

وفي لفظ أخرجه مسلم: " فتربوا في كف الرحمن حتى تكون أعظم
من الجبل ".
قال العلماء هذا خطاب للناس بما يعلمونه ويفهمونه من الأخذ
والتربية والنمو، لما كان التناول باليد والقبض بالكف خاطبهم بما
يعقلون، وإنما جرى ذكر اليمين لأنها مرصدة لما عز من الأمور، ومعنى
التربية: المضاعفة.
الحديث الخمسون
روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أنس بن مالك
رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر الدجال فقال: " إلا أنه أعور
وإن ربكم ليس بأعور " (201).

(201) رواه البخاري (فتح 13 / 389) ومسلم (4 / 2248 برقم 101) وقال الحافظ
ابن حجر في شرحه:
" ولم أر في كلام أحد من الشراح في حمل هذا الحديث على معنى خطر
لي فيه التنزيه وحسم مادة التشبيه عنه، وهو أن الإشارة إلى عينه صلى الله عليه وسلم إنما
هي بالنسبة إلى عين الدجال فإنها كانت صحيحة مثل هذه ثم طرأ عليها العور
لزيادة كذبه في دعوى الإلهية، وهو أنه كان صحيح العين مثل هذه فطرأ عليها
النقص ولم يستطع دفع ذلك عن نفسه " ا ه‍.
وقال الإمام المحدث سيدي أبو الفضل الغماري في " فتح المعين " ص (37)
ما نصه:
" والحديث ليس فيه إثبات العينين لله، فمن أين أتى بها الهروي؟! إن كان
فهم من قوله: إن ربكم ليس بأعور أنه يستلزم أن تكون له عينان فهذا غلط
واضح، فإن الصفات لله تعالى لا تثبت إلا بلفظ صريح في حديث صحيح.
وقد جاء في القرآن إثبات (أي إضافة) العين لله مفردة كقوله تعالى: (ولتصنع)
على عيني " ومجموعة كقوله سبحان: (فإنك بأعيننا...) (واصنع الفلك
بأعيننا) (تجري بأعيننا) وهذا يدل على أن نسبة العين إلى الله معناه صفة
البصر أو الحفظ والكلاءة، وقال ابن حزم: لا يجوز لأحد أن يصف الله عز
وجل بأن له عينين لأن النص لم يأت بذلك " ا ه‍.
قلت: ابن حزم توفي سنة (548) ه‍ والذي يظهر لنا أنه سليم العقيدة وأنه
في هذا الأمر صاحب فهم ومعرفة إلا في مسألة واحدة وهي مسألة الولد،
فإنه قال: إن الله قادر على أن يتخذ ولدا وهذه المسألة قالها فرارا من قولهم
المحال لا يتعلق بالقدرة مع قولنا (والله على كل شئ قدير) وهي مسألة خطيرة
فاضحة قاصمة وقد رد عليه فيها المحدث عبد الله بن الصديق في رسالة خاصة
سماها (رفع الإشكال عن مسألة المحال) أجاد فيها وأفاد في هذه المسألة
جزاه الله عنا خيرا.
وأما في الفروع الفقهية فلا يعول على ما يقوله ابن حزم البتة إلا ما وافق الدليل
بعد التمحيص، وأما ثناء بعضهم على كتابه " المحلى " كالعز وغيره فليس
بشئ والله الهادي.
والمتمسلفة من وقت الحراني إلى الآن تأخذ بشذوذاته - ابن حزم - الفقهية
وتعرض عن عقيدته المستقيمة التي نعرفها منه للآن لأنه لا يوافقهم في
المعتقد، وهو وإن عاب على الأشاعرة إلا أنه موافق لهم في الجملة.
وقال بعضهم:
واجزم على التحريم أي جزم * والرأي ألا يتبع ابن حزم
فقد أبيحت عنده الأوتار * والعود والطنبور والمزمار
262

قال العلماء: إنما أراد تحقيق وصفه بأنه لا يجوز عليه النقص،
والعور نقص ولم يرد إثبات جارحة، لأنه لا مدح في إثبات جارحة.
قال ابن عقيل: يحسب بعض الجهلة أنه لما نفى العور عن الله
263

عز وجل أثبت من دليل الخطاب أنه ذو عينين وهذا بعيد من الفهم إنما
نفى عنه العور من حيث نفي النقائص كأنه قال: ربكم ليس بذي
جوارح تتسلط عليه النقائص، وهذا مثل نفي الولد عنه لأنه يستحيل
عليه التجزئ، ولو كانت الإشارة إلى صورة كاملة، لم يكن في ذلك
دليل على الألوهية ولا القدم فإن الكامل في الصورة كثير. قال: ومن
قال بدليل الخطاب فأثبت عينين قيل له: دليل الخطاب مختلف في
كونه دليلا في أحكام الفقه وفروع الدين فكيف بأصوله، ثم هو عند
من اعتقده حجة يقضي عليه معنى النطق وهو القياس المظنون فكيف
يكون له حكم الدليل وقد قضى عليه دليل العقل بالرد.
الحديث الحادي والخمسون
روى البخاري في أفراده من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه
- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله عز وجل:
" ما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت
سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصره به ويده التي يبطش بها ورجله
التي يمشي بها، وما ترددت عن شئ أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن
يكره الموت وأكره مساءته " (202).

(202) رواه البخاري في صحيحه (11 / 341 فتح) قلت: والحديث فيه كلام وهذا
إسناده هناك:
حدثني محمد بن عثمان بن كرامة حدثنا خالد بن مخلد حدثنا سليمان بن
بلال حدثني شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن عطاء عن أبي هريرة مرفوعا به.
فأما خالد بن مخلد القطواني فقال الإمام أحمد: له مناكير، وقال أبو حاتم:
لا يحتج به، وشريك فيه مقال أيضا وله انفرادات بألفاظ منكرة وقد تقدم ذكر
شئ من ذلك في التعليق ص (233).
وقال الحافظ الذهبي في " الميزان " (1 / 641):
" ومما انفرد به ما رواه البخاري في صحيحه " فذكر هذا الحديث ثم قال عقبه:
" فهذا حديث غريب جدا، لولا هيبة الجامع الصحيح لعدوه في منكرات
خالد بن مخلد، وذلك لغرابة لفظه، ولأنه مما ينفرد به شريك وليس بالحافظ،
ولم يرد هذا المتن إلا بهذا الإسناد ولا خرجه من عدا البخاري، ولا أظنه
في مسند أحمد ".
وزاد الحافظ فقال: " ليس هو في مسند أحمد جزما ".
قلت: بل هو في المسند عن السيدة عائشة رضي الله عنها مرفوعا، وإنني
أعجب من الحافظ كيف يجزم بنفي وجوده من المسند (6 / 256)؟! ولم ينبه
في الفتح بعد ذكر رواية أبي هريرة والكلام عليها أنه في مسند أحمد من
حديث السيدة عائشة وإنما عزاه " للزهد " لأحمد وغيره من طريق عبد الواحد بن
ميمون عن عروة عنها، لكنه عزاه في " لسان الميزان " (4 / 99) في ترجمة
عبد الواحد بن ميمون لأحمد في المسند فالله أعلم.
قلت: وعبد الواحد هذا متروك، والخلاصة أن حديث: " من عادى لي وليا "
صحيح إلا أن لفظ " التردد " الذي فيه لا يثبت لاحتمال أن يكون من تصرف
الرواة وخصوصا أن فيه ضعفاء والله تعالى أعلم.
أنظر الفتح (11 / 341 - 342).
264

قلت: قوله: " كنت سمعه، وبصره " فهو " مثل " وله ثلاثة أوجه:
أحدها: كنت كسمعه وبصره فهو يحب طاعتي. كما يحب هذه
الجوارح.
والثاني: أن جوارحه مشغولة بي، فلا يصغي إلى غير ما يرضيني
ولا يبصر إلا عن أمري.
والثالث: أني أحصل له مقاصده كما ينالها بسمعه وبصره ويديه
اللواتي تعينه على عدوه.
265

والحق منزه عن حقيقته فهو كقوله: " ومن أتاني يمشي أتيته هرولة "
وقال بعض العلماء: لما كان المؤمن يمرض فيسأل العافية فيعافى كان
ذلك كالتردد في إماتته. وأما التردد فخطاب لنا بما نعقل (203).
الحديث الثاني والخمسون
روى جبير بن مطعم قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: يا
رسول الله: جهدت الأنفس وجاعت العيال، ونهكت الأموال، وهلكت
الأنعام فاستسق الله لنا، فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله
عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحك: أتدري ما تقول؟؟ وسبح رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجه أصحابه فقال: إنه
لا يستشفع بالله على أحد من خلقه.
شأن الله أعظم من ذلك: ويحك أتدري ما الله..؟ إن عرشه على
سماواته هكذا، وقال بأصابعه مثل القبة، وإنه ليئط به كأطيط الرحل
بالراكب (204).
قلت: هذا الحديث تفرد بروايته محمد بن إسحاق عن يعقوب بن
عتبة وكلاهما لا يحتج به أرباب الصحاح، قال أبو سليمان الخطابي:
هذا الحديث إذ أجري على ظاهره كان فيه نوع من الكيفية، وهي عن

(203) قلت: قدمنا أن لفظ التردد لا يثبت في هذا الحديث، والمصنف يؤوله على
فرض ثبوته.
(204) رواه أبو داود في سننه (4 / 232 برقم 4726) وابن أبي عاصم في " سنته "
(252) وهذا سنده في أصح الأقوال على اختلاف فيه كما في " سنن أبي
داود ":
حدثنا عبد الأعلى ومحمد بن المثنى ومحمد بن بشار وأحمد الرباطي قالوا:
حدثنا وهب بن جرير حدثنا أبي قال سمعت محمد بن إسحاق عن يعقوب بن
عتبة عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده به.
قلت: وهذا إسناد معلول لما يأتي:
أ - وهب بن جرير: قال فيه ابن حبان: كان يخطئ، وكان عفان يتكلم
فيه وغمزه أحمد فعرض به مع أنه من رجال الستة، كذا في التهذيب
(11 / 142 فكر).
ب - وأبوه جرير له أوهام واختلط.
ج‍ - محمد بن إسحاق، عنعن هذا الحديث فلا حجة بحديثه إذا عنعن عند
من يحسن حديثه، والحقيقة أنه قد كذبه وطعن فيه جماعة من كبار
الأئمة كما في ترجمته في " التهذيب) (9 / 34 فكر)، فقد طعن فيه الإمام
أحمد بن حنبل وكذبه الإمام مالك أيضا وسليمان التيمي ويحيى القطان
ووهيب بن خالد وهؤلاء من أئمة هذا الشأن.
د - وجبير بن محمد مقبول كما في التقريب، والراجح أنه لم يتابعه فيه
يعقوب بن عتبة وإنما رواه عنه.
فأنى لهذا الحديث أن تقوم له قائمة ومتنه منكر جدا؟!!
وهذا الحديث هو الذي صنف فيه الحافظ ابن عساكر كتابه: " تبيان الوهم
والتخليط فيما أخرجه أبو داود من حديث الأطيط " كما في مقدمة " تبيين كذب
المفتري " للإمام المحدث الكوثري عليه الرحمة والرضوان ص (4).
ومنه تعلم قصور المعلق!! المحقق!! المتناقض على كتاب سنة ابن أبي
عاصم حيث اكتفى بتضعيف السند وتعليله بعنعنة ابن إسحاق ومنه تدرك أيضا
خطأ ابن القيم - ابن زفيل - في محاولته في تعليقه على سنن أبي داود تقوية
الحديث، والسبب في ذلك أنه يؤيد التجسيم الذي يميلون إليه، فمثل هذا
الحديث لا يقبل في الوضوء فكيف في أصول الدين التي يطلب فيها
اليقين؟!!
وارجع إلى مقالة المحدث الكوثري في المقالات المسماة (أسطورة
الأوعال).
266

الله وصفاته منفية، فعلم أنه كلام تقريب أريد به تقرير عظمة الله من
حيث يدركه فهم السامع إذ كان أعرابيا جلفا لا علم له بمعاني ما دق
من الكلام.
ومعنى قوله: أتدري ما الله - أتدري ما عظمة الله وجلاله..؟
ومعنى يئط به: أي يعجز عن جلاله وعظمته، إذ كان معلوما أن أطيط
الرحل بالراكب معلوما لقوة ما فوقه، أو لعجزه عن احتماله، فقرب بهذا
النوع من التمثيل عنده معنى عظمة الله وجلاله ليعلمه أن الموصوف
بعلو الشأن لا يجعل شفيعا لمن هو دونه في القدر... وقد ذكرنا فيما
تقدم عن القاضي أبي يعلى (المجسم) أنه قال: " يئط من ثقل الذات "
وهذا صريح في التجسيم.
الحديث الثالث والخمسون
روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه " قرأ: (إن الله كان
سميعا بصيرا " النساء: 58. فوضع إصبع الدعاء وإبهامه على عينيه
وأذنيه " (205).
قال العلماء: أراد بهذا تحقيق السمع والبصر لله تعالى، فأشار إلى
الجارحتين اللتين هما محل السمع والبصر، لا أن لله سبحانه جارحة.

(205) رواه أبو داود في سننه (4 / 233 برقم 4728) والبيهقي في " الأسماء والصفات "
ص (179) قلت: وإسناده صحيح.
قال البيهقي في " الأسماء والصفات " بعدما رواه:
" وليس في الخبر إثبات الجارحة تعالى الله عن شبه المخلوقين علوا كبيرا ".
268

الحديث الرابع والخمسون
روى أبو الدرداء - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن
الله عز وجل ينزل في ثلاث ساعات يبقين من الليل، فيفتح الذكر في
الساعة الأولى، فيمحو ما يشاء ويثبت، ثم ينزل في الساعة الثانية إلى
جنة عدن وهي داره التي لم يسكنها غيره، وهي مسكنه، ثم يقول طوبى
لمن يسكنك ثم ينزل في الساعة الثالثة إلى السماء الدنيا بروحه
وملائكته ثم ينتفض فيقول: قومي بعزتي " (206).
قلت: هذا الحديث يرويه زيادة الأنصاري، قال البخاري، هو
منكر الحديث وذكر له أهل الحديث هذا الحديث وقال أبو حاتم بن
حبان يروي المناكير عن المشاهير، واستحق الترك (207).
وقد رواه أبو جعفر بن أبي شيبة فقال فيه: زائدة: وهو غلط إنما
هو زيادة.
ونقول على تقدير الصحة إنها مضافة إليه كما أضيف البيت إليه
يقال: هذا بيته وهذا مسكنه، وإنما قلنا هذا لأن السكنى مستحيلة في
حقه.

(206) هذا الحديث واه رواه بنحو هذه الألفاظ البزار (4 / 83 برقم 3253) وذكره
الذهبي في " الميزان " (2 / 98) في ترجمة زيادة بن محمد إلا أنه قال في آخره
بدل " ثم ينزل في الساعة الثانية... " " ثم يهبط في آخر ساعة من الليل فيقول
ألا مستغفر يستغفرني فأغفر له، ألا سائل يسألني فأعطيه، ألا داع يدعوني
فاستجيب له حتى يطلع الفجر ".
قلت: وعلى كل حال ففي سنده زيادة بن محمد الأنصاري قال عنه البخاري
والنسائي: منكر الحديث.
(207) في كتابه المجروحين (1 / 308).
269

الحديث الخامس والخمسون
روى أبو أمامة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " وعدني ربي أن
يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا وثلاث حثيات من حثياته " (208).
قلت: الحثية ملئ الكف.
والمراد التقريب بما يعقل لا حقيقة الحثية.
الحديث السادس والخمسون
روى أبو أمامة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إن الله يجلس يوم
القيامة على القنطرة الوسطى بين الجنة والنار " (209).
يرويه عثمان بن أبي عاتكة وقال يحيى: ليس بشئ.

(208) رواه الترمذي (4 / 626 برقم 2437) وقال: حسن غريب، وابن ماجة
(2 / 1433 برقم 4286) وأحمد (5 / 268) والطبراني في الكبير (8 / 130
برقم 7520) وابن أبي عاصم في سنته (261) وغيرهم.
ويحتمل أن تكون لفظة الحثيات من تصرف الرواة على العادة وعلى كل لو
ثبتت فالمراد بها الكثرة لا غير، وتعالى الله عز وجل أن تكون الحثية من
صفاته.
(209) حديث مكذوب موضوع أورده المصنف في كتابه " الموضوعات " (1 / 127)
والشوكاني في الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة (449).
270

الحديث السابع والخمسون
روى القاضي أبو يعلى (المجسم) عن محمد بن كعب
القرظي (210) قال " إن الناس إذا سمعوا القرآن من في الرحمن كأنهم
لم يسمعوه قط ".
قال القاضي أبو يعلى (المجسم): ولا يمتنع أن يطلق الفم عليه.
قلت: واعجبا يعني أن للرحمن فم، فيثبت لله صفة بقول تابعي
لا تصح الرواية عنه. هذا من أقبح الأشياء، فأما الحديث الذي سبق
عن أبي أمامه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما تقرب إلي بمثل ما خرج
مني " (211).
فالمعنى: خرج عنه، ولا يجوز أن يظن أنه كخروج جسم من
جسم لأن الله عز وجل ليس بجسم ولا كلامه جسم.

(210) من التابعين ومن رجال الستة ترجمته في " التهذيب " (9 / 373 الفكر).
وهذا الأثر لا يصح عن قائله كما قال الحافظ ابن الجوزي ولو صح لم تثبت
به صفة لله تعالى.
(211) ضعيف جدا ومنكر سبق الكلام عليه في التعليق رقم (166).
271

الحديث الثامن والخمسون
روينا عن سهل بن سعد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " دون الله سبعون
ألف حجاب من نور وظلمة وما تسمع من نفس شيئا من حس تلك
الحجب إلا زهقت " (212).
قلت: هذا حديث لا أصل له. يرويه موسى بن عبيدة، قال
أحمد: لا يحل عندي الرواية عنه، قال يحيى: ليس بشئ، وموسى
يرويه عن عمر بن الحكم قال البخاري: عمر ذاهب الحديث.
الحديث التاسع والخمسون
رواه أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " إن لله
للوحا، أحد وجهيه درة والآخر ياقوته، قلمه النور، فبه يخلق وبه يرزق
وبه يحيي وبه يميت، ويعز ويذل، ويفعل ما يشاء في يوم وليلة ".
قلت: هذا الحديث موضوع، يرويه محمد بن عثمان وهو
متروك (213).

(212) رواه البيهقي في الأسماء والصفات (402) وقال: " تفرد به موسى بن عبيدة
الربذي ".
قلت: قال عنه الإمام أحمد: لا تحل الرواية عنه، وقال ابن معين: لا يحتج
بحديثه، وقال أبو حاتم: منكر الحديث، كذا في " التهذيب " (10 / 318).
(213) أنظر " الميزان " (3 / 641).
272

الحديث الستون
روى جابر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إذا رأيتم
الريح فلا تسبوها فإنها من نفس الرحمن، تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب
فاسألوا الله خيرها واستعيذوا بالله من شرها " (214).
قلت: النفس بمعنى التنفيس عن المكروب، ومثله ما رواه
أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إني لأجد نفس
ربكم من قبل اليمن " (215).

(214) رواه بهذا اللفظ الحاكم في المستدرك (2 / 272) من حديث أبي بن كعب
موقوفا عليه ولفظ " نفس الرحمن " من تصرف الرواة، يعرف ذلك من استعرض
متن الحديث في كتب السنة، فقد رواه الترمذي (4 / 521 برقم 2252) بلفظ
لا نكارة فيه من حديث أبي أيضا وهذا نصه:
" لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا اللهم إنا نسألك من خير هذه
الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما
فيها وشر ما أمرت به ".
قال الترمذي: " وفي الباب عن عائشة وأبي هريرة وعثمان بن أبي العاصي
وأنس وابن عباس وجابر ".
ثم قال: " هذا حديث حسن صحيح ".
ورواه أحمد في مسنده (5 / 123) بلفظ آخر، وكذا ابن ماجة في سننه
(2 / 1228 برقم 3727).
(215) رواه الإمام أحمد في " مسنده " (2 / 541) من حديث أبي هريرة قال العراقي:
ورجاله ثقات كذا في " إتحاف السادة المتقين " للزبيدي (2 / 80).
وأخرجه الطبراني في الكبير (7 / 52 برقم 6358) من حديث سلمة بن نفيل
السكوني، وكذلك البيهقي في " الأسماء والصفات " ص (463) وقال عقبه:
" قلت: قوله (إني أجد نفس الرحمن من ههنا) إن كان محفوظا فإنما أراد:
إني أجد الفرج من قبل اليمن، وهو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من نفس عن مؤمن
كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة " وإنما أراد:
من فرج عن مؤمن كربة.
نسأل الله تعالى أن نكون بهذا التعليق قد فرجنا عن أهل العلم وطلابه كربة
الحيرة في هذه الأحاديث المتعلقة بمسألة الصفات ونسأله إن يفرج عنا كرب
يوم القيامة وأن يجعلنا مع الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وليكن هذا
آخر تعليقنا على كتاب " دفع شبه التشبيه " وكان الفراغ منه بعد الفجر يوم
الخميس 11 / صفر سنة 1412 ه‍ والحمد لله رب العالمين.
273

يعني تنفيسه عن المكروب بنصرة أهل المدينة إياي والمدينة من
جانب اليمن، وهذا شئ لا يختلف فيه المسلمون.
وقال ابن حامد (المجسم): رأيت بعض أصحابنا يثبتون لله وصفا
في ذاته بأنه يتنفس. قال وقالوا الرياح الهابة مثل الرياح العاصفة،
والعقيم والجنوب والشمال والصبا والدبور مخلوقة، إلا ريحا من صفاته
هي ذات نسيم حياتي، وهي من نفس الرحمن.
قلت: على من يعتقد هذا اللعنة، لأنه يثبت جسدا مخلوقا وما
هؤلاء بمسلمين.
274

خاتمة
قال المصنف: ولما علم بكتابي هذا جماعة من الجهال لم
يعجبهم، لأنهم ألفوا كلام رؤسائهم المجسمة، فقالوا: ليس هذا
المذهب.
قلت: ليس بمذهبكم ولا مذهب من قلدتم من أشياخكم، فقد
نزهت مذهب الإمام أحمد رحمه الله، ونفيت عنه كذب المنقولات،
وهذيان المقولات غير مقلد لهم فيما اعتقدوه وكيف أعتقد بهرجا وأنا
أنتقده.
قلت:
سبقت بحمد الله من كان من قبلي * فقل للذي يرجو لحاقي على مهل
وإنكم لو تنقصون عتابكم * لعز على التفتيش أن تجدوا مثلي
وقلت قصيدة مطولة وهي هذه:
حمدت إلهي كيف لا وله الفضل * كما قد تولاني فذلت لي السبيل
وأخرجني من بين أهلي مفهما * وعلمني حتى غدت قيمتي تعلو
وحركني للمكرمات أحوزها * فهمة نفسي دائما أبدا تعلو
وألهمني للعلم حتى ملكته * فصار مرير الصبر عند فمي يحلو
وشغلي كسب العلم قوتا لقوتي * وقد نسي المطعوم والشرب والأكل
وقد زاد عشقي للعلوم فأصبحت * كتمثال ليلى عند قيس فما يسلو
فما من علوم بثها الله في الورى * إلى خلقه الألى إلا ولي معها وصل
وصنفت ما قد صنف الناس جنسه * فيا قاصدي الإنصاف لي ميزوا وابلوا
ولي من بديهات الكلام عجائب * تكر عليهم كلما كررت تحلو
وقد قادني علمي إلى الزهد في الدنا * وما جمعا إلا لعبد له فضل
275

نعم وتقاة الله أشرف خلقه * ولا خير في قول إذا ضيع الفعل
قنوعي بما يكفي يقيني من الأذى * وبعد يقيني بالمقادير لا ذلوا
وأحسن من علم تراما بأهله * إلي بمخلوق يماثله الجهل
وأسكن قلبي حب كل محقق * يعشق كما قد تعشق الأعين البخل
وبغداد داري ليس يغبن أهلها * وما جهم إلا لمن ما له شكل
وكل النواحي أشحنتها فضائلي * أقر بفضلي الريف والحزن والسهل
وذكري وراء النهر بالفضل وافد * وفي المغرب الأقصى وما بلغت إبل
ولما تأملت المذاهب كلها * طلبت الأسد في الصواب وما أغلو
فألفيت عند السير قول ابن حنبل * يزيد على المذاهب بل يعلو
وكل الذي قد قاله فمشتد * بنقل صحيح والحديث هو الأصل
وكان بنقل العلم أعرف من روى * بقوم من السادات ما شأنهم عظم
ومذهبه ألا يشبه ربه * ويتبع في التسليم من قد مضى قبل
فقام له الحساد من كل جانب * فقام على رجل الثبات وهم زلوا
وكان له أتباع صدق تتابعوا * فكم أرشدوا نحو الهدى وكم دلو
وجاءك قوم يدعون تمذهبا * بمذهبه ما كل زرع له أكل
فلا في فروع يثبتون لنصرة * وعندهم من فهم ما قاله شغل
إذا ناظروا قاموا مقام مقاتل * فواعجبا والقوم كلهم عزل
قياسهم طردا إذا ما تصدروا * وهم من علوم النقل أجمعها عطل
إذا لم يكن في النقل صاحب فطنة * تشابهت الحياة وانقطع الحبل
ومالوا إلى التشبيه أخذا بصورة * لما نقلوه في الصفات وهم غفل
وقالوا الذي قلناه مذهب أحمد * فمال إلى تصديقهم من به جهل
وصار الأعادي قائلين لكلنا * مشبهة قد ضرنا الصحب والخل
فقد فضحوا ذاك الإمام بجهلهم * ومذهبه التنزيه لكن هم اختلو
لعمري لقد أدركت منهم مشايخا * وأكثر من أدركتهم ما له عقل
وما زلت أجلوا عندهم كل خصلة * من الاعتقاد الرذل كي يجمع الشمل
تسموا بألقاب ولا علم عندهم * موائدهم لا حرم فيها ولا حل
موائدهم لا يلحق الخل بقلها * وإن شئت لا خل لديهم ولا بقل
276

وأكثر حساد لنا أهل مذهبي * فلو قدروا أفتوا بأن دمي حل
تمنوا بجهل أن تزل بي الهوى * ولم تمش في مجد بمثلي لهم رجل
ومنذ مضى شيخ الجماعة أحمد * إلى الآن لم يوجد لعالمكم مثل
لقد بات عندي ألف ألف تقدموا * سحابة وغطى كلهم صيب وبل
وروضة علمي كلها ممرع الحبا * وبستانهم إذا ما تأملته أثل
وما زالت الحساد تحسد كاملا * ينقصهم والغل لو فهموا غل
وكيف ترى بر الحسود وداؤه * إذا سئل الطب الخبير به سل
تفرد بالبغض القبيح مخالف * أليس اجتماع الناس لي شاهد عدل
تم الكتاب بعون الملك الوهاب، والحمد لله رب العالمين، ولا
عدوان إلا على الظالمين. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله
وسلم تسليما كثيرا.
......
277

أقوال الحفاظ المنثورة
لبيان وضع حديث
" رأيت ربي في أحسن صوره "
تأليف
حسن السقاف
279

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين، ورضي الله عن صحابته المنتخبين.
أما بعد:
فهذا تخريج حديث: " رأيت ربي في أحسن صوره... " الذي
سئلت عنه وبيان أنه حديث موضوع حسب الموازين العلمية وأقوال
أئمة المحدثين وإيضاح ما فيه من الألفاظ المستنكرة فأقول:
حديث: " رأيت ربي تبارك وتعالى في أحسن صورة، قال فيم
يختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلت: لا أعلم أي ربي. قال: فوضع
كفه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي فعلمت ما في السماوات
والأرض، ثم قال: فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد؟ قلت: في
الكفارات، قال وما هذه؟ قلت: المشي إلى الجماعات، والجلوس في
المساجد وانتظار الصلاة وإسباغ الوضوء على المكاره، قال: فمن
يفعل ذلك يعيش بخير ويموت بخير ويكون من خطيئته كيوم ولدته
أمه ".
قلت: هذا الحديث لا يثبت من ناحية سنده ومتنه من وجوه:
الأول:
رواه الترمذي في سننه (5 / 366) وحسنه والخطيب البغدادي
281

في تاريخه (8 / 152) وابن الجوزي في الموضوعات (1 / 125)
والطبراني في الكبير (1 / 317) وأورده الحافظ السيوطي في كتابه
اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة (1 / 31) وذكر أن في سنده
حماد بن سلمة، وقد روي الحديث عن حماد بلفظ آخر كما قال
السيوطي في اللآلئ المصنوعة (1 / 31) ذكر هذا اللفظ الحافظ
الذهبي في الميزان وابن عدي في " الكامل في الضعفاء "، ففي الميزان
- أعني ميزان الاعتدال - (1 / 593) قال: رأيت ربي جعدا أمرد عليه
حلة خضراء.
قلت: أورد الذهبي صدر الحديث الذي نحن بصدده والذي
اضطرب فيه الرواة وماجوا اضطرابا عجيبا في كتابه القيم " سير أعلام
النبلاء " (10 / 113 - 114) من طريق حماد هذا وقال:
وهو بتمامه في تأليف البيهقي، وهو خبر منكر، نسأل الله
السلامة في الدين.. ا ه‍.
قلت: الإمام الحافظ البيهقي قال في كتابه الأسماء والصفات
(ص 300 بتحقيق المحدث الكوثري):
" وقد روي من وجه آخر وكلها ضعيف ". ا ه‍
قلت: وهذا تصريح من البيهقي بضعف طرق هذا الحديث،
وقول الذهبي معه بأنه منكر، مع إيراد الحافظ السيوطي وابن
الجوزي له في الموضوعات يثبت وضعه بلا شك ولا ريب. كما أن
الحافظ ابن خزيمة أطال في رد أحاديث الصورة في كتابه في
الصفات.
282

فإن قال قائل: قد حسن الترمذي الحديث بل قد صححه في
بعض الروايات عنه قلنا: هذا لا ينفع لوجوه:
منها: أن الترمذي رحمه الله تعالى متساهل في التصحيح
والتحسين، كما هو مشهور مثله مثل الحاكم رحمه الله في " المستدرك "
يصحح الموضوعات كما هو مشهور عند أهل الحديث.
ومنها: أن تضعيف هؤلاء الحفاظ الذين ذكرناهم وهم جهابذة
أهل الحديث الذين حكموا على الحديث بأنه منكر وموضوع وغير
ذلك مقدم على تحسين الترمذي أو تصحيحه.
ومنها: أن الثابت من كلام الترمذي رحمه الله من نسخ سننه
أنه قال: حسن غريب، كما نقل ذلك عنه الحافظ المزي في تحفة
الأشراف (4 / 382 / 4) والمنذري في الترغيب والترهيب، وقد فصل
القول في المسألة الحافظ ابن حجر العسقلاني حيث قال في كتابه:
" النكت الظراف " المطبوع مع تحفة الأشراف معلقا على قول الترمذي
حسن غريب ما نصه:
(حديث: " أتاني ربي في أحسن صورة... " الحديث. قلت:
قال محمد بن نصر المروزي في كتاب " تعظيم قدر الصلاة ": هذا
حديث اضطرب الرواة في إسناده، وليس يثبت عند أهل
المعرفة). ا ه‍ كلام ابن حجر العسقلاني. وقال الحافظ ابن حجر في
تهذيب التهذيب (6 / 185 طبعة دار الفكر):
" قال أبو زرعة الدمشقي قلت لأحمد: إن ابن جابر يحدث عن
ابن اللجلاج عن عبد الرحمن بن عائش حديث: رأيت ربي في أحسن
283

صورة، ويحدث به قتادة عن أبي قلابة عن خالد بن اللجلاج عن
ابن عباس قال: هذا ليس بشئ. ا ه‍
وقال ابن الجوزي في كتابه " العلل المتناهية " (1 / 34) عقب
هذا الحديث:
" أصل هذا الحديث وطرقه مضطربة، قال الدارقطني: كل
أسانيده مضطربة ليس فيها صحيح " ا ه‍.
قلت: والمضطرب من أقسام الضعيف كما هو معلوم.
(تنبيه): حصل أيضا عند الترمذي مزج بين هذا الحديث،
وحديث آخر عن سيدنا ابن عباس في إثبات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى
الله عز وجل ليلة الإسراء ولفظ الحديث: " رأيت ربي " فقط دون
قوله " في أحسن صورة ". وهذا الذي جعل الإمام الترمذي ينقل
تصحيح الحديث أو تحسينه خطأ ولذلك لم يوافقه الحفاظ.
وقد نقل بعض العلماء عن ابن صدقة عن أبي زرعة أنه قال:
حديث ابن عباس صحيح لا ينكره إلا معتزلي ا ه‍ أي حديث ابن
عباس في رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لله تعالى ليلة الإسراء وهذا موضوع
آخر، وهو مفصل في كتاب " المصنوع في معرفة الحديث الموضوع "
للمحدث علي القاري بتحقيق فضيلة العلامة الشيخ عبد الفتاح
أبو غدة. ص (102).
(تنبيه آخر): بين الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى اصطلاح
الترمذي في قوله حسن غريب في كتابه النكت على ابن الصلاح
(1 / 386 وما بعده) أنه يعني به الضعيف.
284

وهناك نقاط حديثية عديدة أعرضت عنها ولم أذكرها ههنا خوف
التطويل والملل.
الوجه الثاني: هناك ألفاظ منكرة في متن الحديث تؤكد وضعه،
منها إثبات الصورة لله تعالى، وكذلك إثبات الكف له سبحانه وتعالى
عن ذلك وأنها بقدر ما بين كتفي سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإثبات علم
ما في السماوات والأرض للنبي صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك مما لا أود الآن
الإطالة بسرده، فأقول مجيبا عن بعض هذه المسائل:
(1) أما الأولى: فالله عز وجل ليست له صورة، بلا شك، وذلك
لأنه بين أن المخلوقات ومنها الإنسان مركبة من صورة وهو سبحانه
(ليس كمثله شئ) إذ قال سبحانه: (يا أيها الإنسان ما غرك
بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء
ركبك).
وأجمع أهل السنة على استحالة الصورة على الله عز وجل، كما
نقل ذلك الاجماع الشيخ الإمام عبد القاهر البغدادي في كتابه العظيم
" الفرق بين الفرق " (ص 332) وقال الشافعي رحمه الله تعالى
ورضي عنه كما في " سير أعلام النبلاء " (10 / 20) والحلية
(9 / 105) وآداب الشافعي لابن أبي حاتم (231) وغير ذلك:
" الاجماع أكبر من الحديث المنفرد ". ا ه‍.
أي أن الاجماع إذا صادمه حديث آحاد أسقط الاحتجاج به،
بل يدل ذلك على وضعه وأنه لا أصل له كما يقول الحافظ الخطيب
البغدادي في " الفقيه والمتفقه " (1 / 132).
285

(2) إثبات الكف هنا إثبات جارحة لله تعالى، ويبعد تأويلها
بالقدرة، لأن قدرة الله عز وجل شاملة، لجسد رسول الله صلى الله عليه وسلم
الشريف، وإثبات أنه وجد برد كف الله تعالى الله عن ذلك بين ثدييه
صلى الله عليه وآله وسلم يبعد التأويل بالقدرة ويؤكد وضع
الحديث، لا سيما وإن الحفاظ كالذهبي قالوا عنه منكر لأجل هذه
الألفاظ وأشباهها.
كما أن تأويل قوله في أحسن صورة أي أحسن صورة للنبي صلى الله عليه وسلم
فيه تكلف لا يخفى، والحديث موضوع لا يثبت.
(3) وقوله فيه " فعلمت ما بين السماوات والأرض " تنقضه نصوص
صحيحة صريحة منها قوله تعالى: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها
إلا هو، ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها
ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين)
فالله عز وجل أوضح لنا وبين أن علمه بهذه الأشياء الموجودة في
ظلمات الأرض مما لا يعلمها إلا هو، وأما الملائكة فكل منهم موكل
بشئ محدود معلوم في السماء أو في الأرض أما علم جميع وظائفهم
وما في السماء والأرض فهو لله عز وجل ومنها قوله سبحانه: (إن
الله يعلم غيب السماوات والأرض والله بصير بما تعملون)
الحجرات: 18 فلو كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يعلم ذلك أيضا لقال:
(إن الله ورسوله يعلمان غيب السماوات والأرض).
وفي الحديث الصحيح سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي البقاع خير؟ فقال
لا أدري، فقال السائل: أي البقاع شر؟ فقال لا أدري، فسأل
سيدنا جبريل فقال لا أدري فسأل الله تعالى فأوحى إليه: إن خير
286

البقاع المساجد وشر البقاع الأسواق. رواه الحاكم في المستدرك
(1 / 90) وغيره وهو حديث صحيح، ومن المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم لما
ذهب إلى اليهود بقرب المدينة المنورة أرادوا أن يمكروا به ويلقوا عليه
الصخرة ليقتلوه بزعمهم فأعلمه سيدنا جبريل عليه السلام بالأمر
فانصرف وتركهم ولو كان يعلم ما في السماوات والأرض كما في
حديث: " رأيت ربي في أحسن صورة.. " لما احتاج إلى إعلام سيدنا
جبريل له بمكر اليهود، وفي الحديث الإفك الثابت في الصحيحين
أن النبي عليه أفضل الصلاة والسلام مكث شهرا لا يوحى إليه ولا
يدري كيف سيصنع في الأمر حتى نزل القرآن فعلم حقيقة الأمر،
والشواهد على هذا الأمر كثيرة، وكلها تبطل هذا الحديث نسأل الله
أن يعلمنا ويلهمنا الصواب ونسأله التوفيق.
287

البيان الكافي
بغلط نسبة
كتاب " الرؤية " للدارقطني بالدليل الوافي
تأليف
حسن السقاف
289

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين،
ورضي الله عن صحابته المنتخبين، أما بعد:
فقد وقفت على كتاب " الرؤية " المنسوب للحافظ الدارقطني والذي حققه الأخ
" إبراهيم محمد العلي " والأخ " أحمد فخري الرفاعي " هداهما الله تعالى إلى كل خير،
طبع: " مكتبة المنار - الأردن - الزرقاء، الطبعة الأولى سنة 1411 ه‍ " فرأيت من
الواجب علي ومن النصيحة المطلوبة لكل مسلم عرف الصواب أن أبين:
(أولا): أن الكتاب ليس من مصنفات الدارقطني أو بالأحرى إن نسبته للدارقطني
غير صحيحة أو غير ثابتة.
(ثانيا): أنبه على شئ يسير جدا من غلط المحققين!! المقدمين! في مقدمتهما
وتعليقهما على الكتاب المذكور، وأسأل الله تعالى أن يفرغني مستقبلا لنقد جميع
الأخطاء الواردة في المقدمة والتعليق والتخريج وأصل الكتاب بذلا للنصيحة الواجبة لكل
مسلم وتحذيرا من الوقوع في هاتيك الأخطاء والله تعالى الموفق:
(أولا): كتاب الرؤية للدارقطني لا يثبت أنه من تصنيفه، وخصوصا بالطريق التي
ساقها المحققان! والبحث في ذلك السند هو لب الموضوع فإذا فرغنا منه باختصار
تكلمنا في ما هو كالقشور مثل ذكر بعض العلماء نسبة الكتاب للدارقطني.
فأقول:
أ) قالا ص (85) السطر الثالث تحت عنوان " وصف النسخة المعتمدة في التحقيق "
ص 84 ما نصه:
291

" وهذه النسخة جاءت من رواية جماعة عن الحافظ أبي العلاء العطار بقراءته على
الشيخ أبي العز أحمد بن عبيد الله بن محمد بن كادش (العكبراوي) براويته عن أبي
طالب محمد بن علي بن الفتح عن أبي الحسن الدارقطني " ا ه‍.
أقول: وهذا سند " لا يصح، ولا تثبت به نسبه كتاب " الرؤية " للحافظ الدارقطني
وذلك:
لأن أبي العز بن كادش العكبراوي كان: " مخلطا كذابا لا يحتج بمثله " وهو حنبلي
مجسم ضال كذا قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في ترجمته من لسان الميزان
(1 / 218) نقلا عن الحافظ ابن النجار.
ولننقل ما قاله الحفاظ الذين بينوا حقيقة أمر هذا الرجل:
1 - قال الحافظ الذهبي في " الميزان " (1 / 118) عنه:
" أقر بوضع حديث وتاب وأناب " انتهى.
قلت: قال الحافظ النووي في " تقريبه " كما في " تدريب الراوي " (1 / 329) ما
نصه:
" تقبل رواية التائب من الفسق إلا الكذب في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يقبل أبدا
وإن حسنت طريقته كذا قاله: أحمد بن حنبل، والحميدي شيخ البخاري والصيرفي
الشافعي، قال الصيرفي: كل من أسقطنا خبره بكذب لم نعد لقبوله بتوبة ومن ضعفناه
لم نقوه بعده بخلاف الشهادة، وقال السمعاني: من كذب في خبر واحد وجب إسقاط
ما تقدم من حديثه " انتهى ما أردنا نقله وانظر إلى كلام الحافظ السيوطي في شرحه
والتعقب عليه في السطر (11) من حاشية " تدريب الراوي " (1 / 330) وتأمل!
2 - قال الحافظ ابن النجار عن ابن كادش كما في " لسان الميزان " (1 / 218):
" كان مخلطا كذابا لا يحتج بمثله وللأئمة فيه مقال ".
3 - وقال أبو سعد ابن السمعاني: كان ابن ناصر سئ القول فيه. كما في اللسان.
4 - وقال ابن الأنماطي: " كان مخلطا " كما في اللسان.
292

5 - قال ابن حجر في " اللسان ": " وقال ابن عساكر: قال لي أبو العز ابن كادش وسمع
رجلا قد وضع في حق علي حديثا ووضعت أنا في حق أبي بكر حديثا بالله أليس
فعلت جيدا؟ "!!!
قال الحافظ الذهبي معلقا على هذه الكلمة لابن كادش في " سير أعلام النبلاء "
(19 / 559):
" قلت: هذا يدل على جهله، يفتخر بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم " انتهى.
وأقول أنا: ومن كذب على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كذب لا محالة على الدارقطني.
فهل تصح نسبة كتاب محشو بالأحاديث الضعيفة والتالفة لحافظ متقن، في السند
إليه رجل كهذا؟! فإن ردد المحققان! ما سطراه في مقدمتهما ص (86) من قولهما:
" لم ينفرد ابن كادش برواية هذا الكتاب عن أبي طالب العشاري بل رواه معه آخرون،
فالخطيب البغدادي مثلا، روى عدة أحاديث نظن أنها من كتابنا رواها عن أبي طالب
بدون واسطة... " انتهى.
قلنا: (إن الظن لا يغني من الحق شيئا) وهذا استدلال بظن أوهى من بيت
العنكبوت.
كما نقول: إن أبا طالب العشاري - شيخ ابن كادش - كان مخلطا أيضا لا يدري
ما يخرج من رأسه وهو حنبلي مجسم ضال أيضا، كما أنه صديق المبتدع الكبير ابن
بطة الذي كان يكشط أسماء الأئمة من كتب الحديث ويضع اسمه مكان الكشط كما
في ترجمته في " لسان الميزان ". فتأمل!!
293

بيان حقيقة أبي طالب العشاري
1 - قال الحافظ الذهبي في ترجمته في " ميزان الاعتدال " (3 / 656 - 657) ما نصه:
" أدخلوا عليه أشياء فحدث بها بسلامة باطن (1)!!! منها حديث موضوع في فضل ليلة
عاشوراء ومنها عقيدة للشافعي... " انتهى.
أقول: ومنها كتاب الرؤية هذا، لأن من حدث بعقيدة مدسوسة على الإمام
الشافعي رحمه الله تعالى ليس بمستغرب عليه أن يحدث بعقيدة مدسوسة على
الدارقطني أليس كذلك يا أصحاب اليقظة؟!
2 - وقال الحافظ الذهبي في " ميزان الاعتدال " (3 / 656) بعد أن ذكر حديثا في
سنده العشاري هذا ما نصه:
" فقبح الله من وضعه، والعتب إنما هو على محدثي بغداد كيف تركوا العشاري
يروي هذه الأباطيل " انتهى.
وقد روى الخطيب في كتابه " الكفاية " عن سيدنا ابن عباس قال: لا يكتب -
العلم - عن الشيخ المغفل. فهل جهل المحققان هذه القاعدة الحديثية!!؟!!
3 - وقد ختم الذهبي ترجمته في الميزان حيث قال:
" قلت: ليس بحجة " انتهى.
فأقول ويقول كل منصف هل تثبت المصنفات ويؤخذ العلم عن مثل من هو بهذه
الصفة أيها القوم؟!!

(1) هلا شق الذهبي عن باطنه فرأى السلامة فيه! علما بأنه لم يدركه ولم يره لأنه ولد بعد وفاته
بنحو ثلاثمائة سنة.
294

وجوب أخذ العلم عن الثقات الأثبات
إعلم يرحمني الله وإياك - أيها المنصف - أن العلم لا يؤخذ عن المخلطين أو
الكذابين البتة، فقد روى الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه (1 / 14 طبعة
عبد الباقي) بإسناده عن الإمام ابن سيرين قال:
" إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم ".
وروى عن سعد بن إبراهيم أنه قال: " لا يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الثقات ".
فهل ابن كادش والعشاري منهما؟!!!
وكتب العقائد أو ما يسمى بعلم الكلام مما ينبغي أن تصان عنه الأحاديث
الموضوعة والمنكرة والضعيفة وقد عاب أهل الحديث على من نشر الأخبار المنكرة
بالأسانيد الضعاف المجهولة وقدمها إلى العوام الذين لا يعرفون عيوبها.
قال الإمام مسلم رحمه الله تعالى في مقدمة صحيحه (1 / 8) ما نصه:
" وبعد يرحمك الله، فلولا الذي رأينا من سوء صنيع كثير ممن نصب نفسه محدثا
فيما يلزمهم من طرح الأحاديث الضعيفة، والروايات المنكرة، وتركهم الاقتصار على
الأحاديث الصحيحة المشهورة، فما نقله الثقات المعروفون بالصدق والأمانة. بعد
معرفتهم وإقرارهم بألسنتهم إن كثيرا مما يقذفون به إلى الأغبياء من الناس هو مستنكر،
ومنقول عن قوم غير مرضيين (1)، ممن ذم الرواية عنهم أئمة أهل الحديث... ولكن
من أجل ما أعلمناك من نشر القوم الأخبار المنكرة، بالأسانيد الضعاف المجهولة،
وقذفهم بها إلى العوام الذين لا يعرفون عيوبها، خف على قلوبنا إجابتك إلى ما
سألت " انتهى.
فليتأمل المحققان! هذا الكلام النفيس.
وعلى كل نقول لكم بينكما وبين ثبوت نسبة الكتاب إلى الدارقطني الإسناد

(1) كابن كادش والعشاري.
295

" ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء " كما قال الإمام عبد الله بن المبارك ففي مقدمة
صحيح مسلم (1 / 15) عن الإمام عبد الله بن المبارك، قال: " الإسناد من الدين،
ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء ".
وقال - الإمام ابن المبارك - أيضا:
" بيننا وبين القوم القوائم. يعني الإسناد ".
(تنبيه):
لقد سبق الكذب من العشاري وابن كادش تلميذه على الدارقطني حيث رويا
أبياتا عنه يجل مقام ذلك الإمام أن يقولها أو يتلفظ بها والأبيات كما هي في " بدائع
الفوائد " لابن القيم (4 / 39):
حديث الشفاعة عن أحمد * إلى أحمد المصطفى نسنده
وجاء حديث بإقعاده (1) * على العرش أيضا فلا نجحده
أمروا الحديث على وجهه * ولا تدخلوا فيه ما يفسده
ولا تنكروا أنه قاعد (2) * ولا تنكروا أنه يقعده (3)
وبهذه المناسبة أقول: إن الشيخ المتناقض!! حكم في سلسلته الضعيفة الثانية
ص (256) الطبعة الثانية على سند ابن كادش عن العشاري بأنه لا يصح إذ قال
هناك:
" إن مما ينكر في هذا الباب ما رواه أبو محمد الدشتي في " إثبات الحد " (144 /
1 - 2) من طريق أبي العز أحمد بن عبيد الله بن كادش: أنشدنا أبو طالب محمد بن
علي الحربي (4)، أنشدنا الإمام أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني رحمه الله قال:

(1) ويريد أن النبي يقعد يوم القيامة بجنب الله على العرش، تعالى الله عن هذا الافتراء علوا كبيرا.
وذلك كما ذكره ابن القيم وزعم أنه فائدة في " بدائع فوائده " (4 / 39) أي قبل ذلك بصحيفة.
(2) يعني بذلك الله تعالى عما يقول.
(3) أي النبي صلى الله عليه وسلم.
(4) وهو العشاري.
296

حديث الشفاعة في أحمد * إلى أحمد المصطفى نسنده
فأما حديث بإقعاده * على العرش فلا نجحده
أمروا الحديث على وجهه * ولا تدخلوا فيه ما يفسده
ولا تنكروا أنه قاعد * ولا تجحدوا أنه يقعده
فهذا إسناده لا يصح، من أجل أبي العز هذا، فقد أورده ابن العماد في وفيات
سنة (529) من الشذرات (4 / 78) وقال: قال عبد الوهاب الأنماطي: كان مخلطا.
وأما شيخه أبو طالب وهو العشاري فقد أورده في وفيات سنة (451) وقال (3 / 289):
كان صالحا خيرا عالما زاهدا... " انتهى كلام الشيخ!! المتناقض!!.
وقد قصر المتناقض!! في تتبع هذين الرجلين من الكتب الخاصة بالجرح
والتعديل كالميزان واللسان وعمد إلى كتاب تاريخ لا يعول عليه ولا على مثله في
معرفة حال الرجال جرحا وتعديلا فنقل منه، ومنه يعلم تقصيره وقصر باعه في هذا
الفن، لأنه لو كان قد رجع إلى " اللسان " ونظر إلى ما نقلناه هنا في حق العشاري
بالأخص وابن كادش لما اقتصر على ما ذكر والتوفيق عزيز والحمد لله.
(تكميل):
وأما ما ذكره المحققان! من أنه قد ثبتت لديهما نسبة الكتاب للدارقطني ص (82)
فقد قضينا على لب ذلك الثبوت والاستدلال بإثبات بطلان سند الكتاب إلى الدارقطني
وأجهزنا عليه بما لا يدع فيه حراكا ولا يترك مجالا للشك، وبقيت قشور لا بد من
إزهاقها فنقول:
(1) قولهما (بما جاء على طرة الكتاب بالأسانيد والسماعات المثبتة في أول الكتاب
وآخره على عسر قراءتها) لا قيمة له بعد ثبوت بطلان إسناد الكتاب الذي قدمناه ولا
قيمة لتلك الأسانيد والسماعات لأنها للتسجيل لا للتعويل. زيادة على أنه لا يمكن
قراءتها.
297

(2) قولهما (بإخراج المصنف بعض أحاديثه في مصنفات أخر...) جوابه:
ليس هذا استدلالا أصلا بوجه من الوجوه.
(3) قولها! (بالنظر إلى شيوخه) أيضا ليس كذلك، لأن أي إنسان يمكنه أن يجمع
أحاديث لشيخ ما في تأليف ثم ينسب ذلك التأليف إليه وقد فعل ذلك ويمكننا في
الرد الموسع الآتي إن شاء الله تعالى التمثيل على ذلك.
(4) قولهما (وبالنقولات التي نقلها أهل العلم منه...) وقد ذكرا من أهل العلم ابن
الجوزي والحافظ ابن حجر ولا أريد تعقبهما في غير هذين الإمامين لئلا تطول
الرسالة، ولي معهما شوط آخر إذا لم يقتنعا بالذي أوردته هنا.
أما قولكما: ذكر ابن الجوزي في الموضوعات (3 / 260) أنبأنا أبو منصور
القزاز... انتهى. فليس في ذلك أي استدلال لما ادعيتما بتاتا وذلك لأن ابن الجوزي
لم يذكر هنالك في الموضوعات (3 / 260) أنه نقل الحديث من كتاب " الرؤية "
المنسوب للدارقطني، إذن لا قيمة لهذا الحدس الخاطئ! وأما قولكما: قال - الحافظ
- في الإصابة (2 / 406): " وأما رواية عمارة ابن بشر فأخرجها الدارقطني في
الرؤية... " انتهى. فليس بشئ من أوجه:
(الأول): الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى ذكر في " التخليص " (1 / 135 -
136) حديث أبي أمامة المرفوع في تلقين الميت على القبر بعد دفنه فقال:
" إسناده صالح وقد قواه الضياء في أحكام " ا ه‍.
فهل تقولان إن حديث التلقين ذاك إسناده قوي وصالح؟!! كما قال الحافظ ابن
حجر أم لا؟!
فإن قلتما: إننا لا نوافق الحافظ ابن حجر في حكمه على صلاح سند حديث
التلقين لأن في سنده فلان وفلان، نقول لكما: وكذا هنا في مسألة كتاب " الرؤية "
للدارقطني في سنده رجلان مخلطان كذابان! وهذا هو الذي تقتضيه قواعد العلم.
298

وإن قلتما: أنكما توافقان الحافظ بن حجر في حكمه على حديث التلقين ذاك
فالمطلوب أن تعلنا ذلك.
والمأخوذ عليكما: أنكما لم تثبتا جميع ما قيل في ابن كادش والعشاري بتمامه،
فلم تنقلا ما قيل فيهما من جرح رغم أنكما تعرفان بأنهما مترجمان في " الميزان "
ولسانه فعجبا لكما أيها الأخوان!! وهل هذه هي أمانة طالب العلم التي ينبغي أن
يتحلى بها ليكون نزيها في بحثه؟!! وهل يجوز لطالب العلم الباحث أن يطوي ما
يخالفه وينشر ما يوافقه؟!! ثم إن المنقول في " الإصابة " أيها المحققان! أن ابن حجر
قال: " فأخرجها الدارقطني في الرواية... " كذا في نسختين بين يدي من الإصابة،
وقد تقولان: لقد صحفت اللفظة. وأقول: وقد تكون لم تصحف، لأنه يحتمل أن
يكون هناك كتاب للدارقطني يدعى ب‍ " الرواية " يروي فيه عن شيخ أو شيوخ كما يفعل
الطبراني في معاجمه، ومتى طرأ الاحتمال سقط الاستدلال.
(تتميم): وقد نقلتما عن الذهبي في السير وغيره في ترجمة أبي طالب العشاري:
" أن رجلا قرأ عليه كتاب " الرؤية " للدارقطني، فلما وصل إلى خبر أم الطفيل وذكره،
قال له أبو طالب: إقرأ الحديث على وجهه، فهو مثل السارية " ثم قلتما: " وهذه الحكاية
تدل على أن غير واحد رواه عن أبي طالب العشاري.. "
وأقول لكما: بل إن هذه الحكاية تدل على جهل العشاري المكعب في علم
الجرح والتعديل حتى بنظركما وخصوصا أنكما حكمتما على حديثه هذا ص (358)
من كتابكما الفذ! بأنه منكر!! ولم تنقلا كذلك ما قاله الشيخ شعيب أو المعلق الآخر
في تعليقه عليه في " سير أعلام النبلاء " (18 / 50) حيث يقول:
" فقول العشاري: فهو مثل السارية (يريد أنه ثابت ثبوت السارية) قول متهافت
في غاية السقوط ينبئ عن جهله بعلم الجرح والتعديل الذي يتيح له غربلة الأخبار
وتمييز صحيحها من سقيمها ". انتهى من حاشية السير. فتأملا!!
. ثم إنكما أوهمتما أن الذهبي في السير جزم بنسبة كتاب الرؤية للدارقطني وليس
كذلك، بل قال هنالك (18 / 49) - الذهبي - ما نصه:
299

" وقيل: إن رجلا قرأ على العشاري كتاب " الرؤيا " للدارقطني... " ا ه‍ والمعلوم
المعروف عند محققي الحفاظ وأهل الحديث أن: لفظة " قيل " من صيغ التمريض
وهي دالة على عدم ثبوت ما بعدها. أنظر المجموع للإمام النووي (1 / 63).
تنبيه هام
كتاب " الرؤية " هذا فيه حسب ترقيم المحققين (287) حديثا، منها حسب ما
حكما عليها (157) حديثا ما بين ضعيف وضعيف جدا وتالف ومنكر وموضوع أي
ما نسبته 60 % تقريبا من الكتاب، فما قيمة كتاب يبحث في مسألة في العقيدة أكثر
من نصفه أحاديث ما بين ضعيف وموضوع؟!!
فنشر كتاب من هذا النوع من حيث نسبته، وغالب ما فيه ضعيف ومنكر وتالف
وموضوع بهذا النفش الطباعي ما هو إلا ابتعاد عن الصواب، وتسويد للورق فيما لا
فائدة فيه حقيقة، والرجوع إلى الحق فضيلة.
ولنا مع مثل هذا الكتاب جولات ومناقشات في مقالات آتية إن شاء الله تعالى،
نبين فيها أن هذه الكتب المسماة بالسنة أو الصفات أو مثل الشريعة للآجري والرؤية
المنسوب غلطا للحافظ المتقن الدارقطني ما هي إلا مخازن ومستودعات للأحاديث
الواهية والضعيفة والموضوعة والمنكرة، وهي مما لا يجوز التعويل عليها ولا الالتفات
لجهتها وفي كتاب الله تعالى والسنة الصحيحة الخالية عن المعارض غناء عنها،
وخصوصا أن المحققين اغترا بما فيها فجعلا يعولان عليها وعلى أمثالها (1) ككتاب " الرد
على الجهمية " للدارمي الذي كان يقول كما في كتابه " الرد على بشر المريسي "
ص (85):
" ولو قد شاء - الله - لاستقر على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته ولطف
ربوبيته... " ا ه‍.

(1) واستغرب من هذا الصنيع وأرباب هذه النحلة لا يأخذون بالحديث الضعيف في الأحكام -
الفقه - بل ولا في فضائل الأعمال كما يزعمون اليوم، ثم نراهم يحشون كتب العقائد التي
يطلب أن يكون فيها الحديث في أعلى مراتب الصحة بالموضوعات!! فالله تعالى المستعان!
300

بيان بعض أخطاء المحققين! في المقدمة والتعليقات
لا أريد إطالة هذه الرسالة بسرد أنواع ما وقع للمحققين! من أخطاء في ذلك
الكتاب وأسأل الله تعالى أن يفرغني لذلك قريبا بإذنه سبحانه وإنما أنقل ههنا نماذج
يسير جدا فأقول:
(1) قالا ص (5):
" لم ينشر في هذا المبحث شئ على طريق المحدثين...).
ثم تناقضا حيث ذكرا ص (81) ما نصه تحت عنوان - المصنفات في الرؤية -:
" 1 - فممن صنف فيه: إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله: قال
عبد الله بن أحمد في كتاب السنة ص (44)... " ا ه‍.
قلت: والأحاديث برمتها مذكورة في كتاب السنة المنسوب لابن الإمام أحمد وهو
كتاب منشور مطبوع!
ثم قالا في نفس الصحيفة:
" 6 - الآجري محمد بن... له كتاب التصديق بالنظر إلى الله تعالى في الآخرة،
وهو جزء من كتابه القيم " الشريعة " وقد طبع التصديق... سنة 1405 ه‍ "!!!
(2) قولهما ص (10): " برز الدارقطني في علوم كثيرة منها الحديث وعلله،
والقراءات أو مذاهب الفقهاء... " ا ه‍.
قلت: الصواب أن يقال: " والقراءات وقوة المشاركة في الفقه والاختلاف " كما
في سير أعلام النبلاء (16 / 450).
(3) قولهما في حاشية ص (50) ما نصه:
" وسبب الاختلاف بينهم - أي بين أهل الحديث والمتكلمين بزعمهما - أن أهل
301

الحديث ومن تبعهم يثبتون صفة الجهة وأهل المذاهب الكلامية يخالفونهم في
ذلك " ا ه‍.
قلت: كلا ليس هذا الكلام صحيحا، فالطحاوي أحد أئمة الحديث وأحد كبار
الحفاظ وهو يقول في عقيدته التي أجمعت الأمة عليها:
" وتعالى - الله - عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات لا تحويه
الجهات الست كسائر المبتدعات " وانظر ص (5) من شرح الطحاوية لابن أبي العز
الطبعة الثامنة المكتب الإسلامي - حيث ينقل عن السبكي أن جمهور الأمة يقرون
عقيدة الطحاوي التي تلقاها العلماء سلفا وخلفا بالقبول والتي فيها نفي الجهة عن
الله تعالى! وتأمل!
والحافظ ابن حجر يقول في الفتح (6 / 136):
" ولا يلزم من كون جهتي العلو والسفل محال على الله أن لا يوصف بالعلو لأن
وصفه بالعلو من جهة المعنى والمستحيل كون ذلك من جهة الحس " ا ه‍.
وهذا نفي صريح من الحافظ للجهة، وهناك نصوص كثيرة جدا عن جماعات
من الحفاظ والمحدثين في نفي الجهة عن الله تعالى، وأصلا لم يرد لفظ الجهة في
الكتاب والسنة بتاتا فإطلاقه في حق الله بدعة خلفية يتنزه عقلاء أهل الحديث أن يصفوا
الله تعالى بها، والمطلوب من المحققين أن يقولا لنا من هم أهل الحديث الذين
يقولون بإثبات الجهة لله تعالى ويصفون الله عز وجل بما لم يصف به نفسه وما كنت
أظنهما هكذا!؟! وهل هو مجرد نقل عن ابن تيمية وأضرابه؟!! وهو ممن يقول السلف
ما لم يقولوه في المسائل التي خالف فيها جمهور أهل العلم، وإنني أقول لهما: نقل
المحدث القاري في " شرح المشكاة " الاجماع على تنزيه الله عز وجل عن " الجهة "
التي لم ترد في كتاب ولا سنة صحيحة. فانظره.
وقال المحدث الزبيدي في " إتحاف السادة المتقين " (2 / 104):
" وأما إحالة كونه في جهة فإن ذلك كإحالة كونه في مكان فلذلك أحلنا إطلاق
اسم الجهة على الله تعالى " ا ه‍. فتأمل.
302

وقال محمود السبكي في كتابه " إتحاف الكائنات ":
" وقد قام إجماع السلف والخلف على أن من اعتقد أن الله تعالى في جهة فهو
كافر، كما صرح به الحافظ العراقي وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي وأبو الحسن
الأشعري والباقلاني " ا ه‍.
(4) قولهما ص (75) في الحاشية ما نصه:
" مع العلم بأن حديث الآحاد الصحيح يفيد ذلك. - أي العلم - أيضا "!!! ا ه‍.
أقول: كلا ليس كذلك وإليك أقوال أئمة أهل الحديث في ذلك مختصرا:
أ) قال الخطيب البغدادي الحافظ شيخ المحدثين في كتابه " الكفاية في علم الرواية "
ص (432):
" خبر الواحد لا يقبل في شئ من أبواب الدين المأخوذ على المكلفين العلم
بها والقطع عليها ".
وقد ذكر الخطيب البغدادي ص (25) بابا خاصا في هذا الموضوع جعل عنوانه.
" ذكر شبهة من زعم أن خبر الواحد يوجب العلم وإبطالها " ا ه‍.
فتدبروا يا قوم!
حتى أن ابن تيمية الحراني يقول في " منهاج سنته " أن خبر الآحاد لا يبنى عليه
أصل الاعتقاد.
قلت: لأنه يفيد الظن دون العلم، وهذا نصه في " منهاج سنته " (2 / 133):
" الثاني: أن هذا من أخبار الآحاد فكيف يثبت به أصل الدين الذي لا يصح
الإيمان إلا به؟! " ا ه‍.
وقد أسهبنا في هذه المسألة في كتابنا " عقد الزبرجد النضيد في شرح جوهرة
303

التوحيد " وأتينا بدلائل ذلك وبنصوص المحدثين والحفاظ بما لا مزيد عليه وكذلك
في مقدمة دفع شبه التشبيه فليراجعه من شاء.
(5) قولهم في حاشية ص (71): " وانظر الفتاوي الحديثية للهيثمي ص (10) " ا ه‍.
قلت: الصواب " الهيتمي " بالتاء المثناة الفوقية، وليس بالثاء المثلثة، كما أخذناه
من أفواه مشايخنا،؟ وهو الذي أثبته من ترجمه رحمه الله تعالى، كصاحب " الكواكب السائرة ". والله تعالى أعلم.
وليكن هذا آخر ما كتبته في ما يتعلق بكتاب " الرؤية " المنسوب غلطا للدارقطني
ومثله يقال في كتاب " الصفات " المنسوب للدارقطني أيضا، والله يقول الحق وهو يهدي
السبيل.
304