الكتاب: الاستذكار
المؤلف: ابن عبد البر
الجزء: ٤
الوفاة: ٤٦٣
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ القسم العام
تحقيق: سالم محمد عطا-محمد علي معوض
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ٢٠٠٠م
المطبعة: بيروت - دار الكتب العلمية
الناشر: دار الكتب العلمية
ردمك:
ملاحظات:

((20 كتاب الحج))
((القسم الأول))
((1 - باب الغسل للإهلال))
666 - مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن أسماء بنت عميس أنها ولدت محمد بن أبي بكر بالبيداء فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال مرها فلتغتسل ثم لتهل
667 - مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن أسماء بنت عميس ولدت محمد بن أبي بكر بذي الحليفة فأمرها أبو بكر أن تغتسل ثم تهل
668 - مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يغتسل لإحرامه قبل أن يحرم ولدخوله مكة ولوقوفه عشية عرفة
قال أبو عمر حديث عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن أسماء مرسل لأنه لم يسمع القاسم من أسماء بنت عميس
وقد رواه سليمان بن بلال قال حدثنا يحيى بن سعيد قال سمعت القاسم بن محمد يحدث عن أبيه عن أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) أنه خرج
3

حاجا بامرأته أسماء بنت عميس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فولدت محمد بن أبي بكر بالشجرة فأتى أبو بكر النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمرها أن تغتسل ثم تهل بالحج ثم تصنع ما يصنعه الحاج إلا أنها لا تطوف بالبيت
حدثناه سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم قال حدثنا بن وضاح قال حدثنا أبو بكر قال حدثنا خالد بن مخلد قال حدثنا سليمان بن بلال فذكره مسندا
ورواه إسحاق بن محمد الفروي أيضا مسندا عن عبد الله بن عمر العمري عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة وعن نافع عن بن عمر _ أن أبا بكر خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أسماء بنت عميس حتى إذا كانت بذي الحليفة ولدت أسماء محمد بن أبي بكر فاستفتى أبو بكر لها النبي صلى الله عليه وسلم فقال مرها فلتغتسل ثم تهل
قال أبو عمر مرسل مالك أقوى وأثبت من مسانيد هؤلاء لما ترى من اختلافهم في إسناده والفروي ضعيف وسليمان بن بلال أحد ثقات أهل المدينة
وأما حديث مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب فاختلفوا فيه عن سعيد
فرواه بن وهب عن الليث ويونس وعمرو بن الحارث عن بن شهاب عن سعيد بن المسيب مرفوعا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أسماء بنت عميس أم عبد الله بن جعفر وكانت عاركا أن تغتسل ثم تهل بالحج
قال بن شهاب فلتفعل المرأة في العمرة ما تفعل في الحج
ورواه بن عيينة عن عبد الكريم الجزري وعن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب موقوفا على أبي بكر كما رواه مالك
والمعنى فيه صحيح عند جماعة العلماء في أن الحائض والنفساء تغتسلان وتهلان بالحج وإن شاءتا بالعمرة ثم تحرمان وإن شاءتا فلتعملا عمل الحج كله إلا الطواف بالبيت
أخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن عيسى وإسماعيل بن إبراهيم أبو معمر قالا حدثنا مروان بن شجاع عن خصيف عن عكرمة ومجاهد وعطاء عن بن عباس أن النبي
4

صلى الله عليه وسلم قال النفساء والحائض إذا أتتا على الوقت تغتسلان وتحرمان وتقضيان المناسك كلها غير الطواف بالبيت
لم يذكر بن عيسى عن عكرمة ومجاهد وإنما قال عن خصيف عن عطاء عن بن عباس عن بن عمر
قال أبو عمر في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الحائض والنفساء بالغسل عند الإهلال دليل على تأكيد الإحرام بالغسل بالحج أو العمرة
إلا أن جمهور العلماء يستحبونه ولا يوجبونه وما أعلم أحدا من المتقدمين أوجبه إلا الحسن البصري فإنه قال في الحائض والنفساء إذا لم تغتسل عند الإهلال اغتسلت إذا ذكرت
وبه قال أهل الظاهر قالوا الغسل واجب عند الإهلال على كل من أراد أن يهل وعلى كل من أراد الحج طاهرا كان أو غير طاهر
وقد روي عن عطاء إيجابه وروي عنه أن الوضوء يكفي منه
قال أبو عمر الغسل عند الإهلال بالحج أو العمرة سنة مؤكدة عند مالك وأصحابه لا يرخصون في تركها إلا من عذر ولا يجوز عندهم ترك السنن اختيارا
روى بن نافع عن مالك أنه استحب الأخذ بقول بن عمر في الاغتسال والإهلال بذي الحليفة وبذي طوى لدخول مكة وعند الرواح إلى عرفة ولو تركه تارك من عذر لم أر عليه شيئا
وقال بن القاسم لا يترك الرجل والمرأة الغسل عند الإحرام إلا من ضرورة
وقال مالك إن اغتسل بالمدينة وهو يريد الإحرام ثم مضى من فوره إلى ذي الحليفة فأحرم فإن غسله يجزئ عنه
قال وإن اغتسل بالمدينة غدوة ثم أقام إلى العشي ثم راح إلى ذي الحليفة فأحرم قال لا يجزئه غسله إلا أن يغتسل ويركب من فوره إلا أن يأتي ذا الحليفة إذا أراد الإحرام
وقال أحمد بن المعذل عن عبد الملك [بن الماجشون] الغسل عند الإحرام لازم إلا أنه ليس في تركه ناسيا ولا عامدا دم ولا فدية
قال وإن ذكره بعد الإهلال فلا أرى عليه غسلا
5

قال ولم أسمع أحدا قاله يعني أوجبه بعد الإهلال
وقال بن نافع عن مالك لا تغتسل الحائض بذي طوى لأنها لا تطوف بالبيت
وقد روي عن مالك أنها تغتسل كما تغتسل غير الحائض
وقال بن خويز منداد الغسل عند الإهلال عند مالك أوكد من غسل الجمعة
وقال أبو حنيفة والأوزاعي والثوري يجزئه الوضوء
وهو قول إبراهيم
وقال الشافعي لا أحب لأحد أن يدع الاغتسال عند الإهلال فإن لم يفعل فقد أساء إن تعمد ذلك وأجزأه
((2 - باب غسل رأس المحرم ذكر فيه))
669 - مالك عن زيد بن أسلم عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين عن أبيه أن عبد الله بن عباس والمسور بن مخرمة اختلفا بالأبواء فقال عبد الله يغسل المحرم رأسه وقال المسور بن مخرمة لا يغسل المحرم رأسه قال فأرسلني عبد الله بن عباس إلى أبي أيوب الأنصاري قال فوجدته يغتسل بين القرنين وهو يستر بثوب فسلمت عليه فقال من هذا فقلت أنا عبد الله بن حنين أرسلني إليك عبد الله بن عباس أسألك كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه وهو محرم قال فوضع أبو أيوب يده على الثوب فطأطأه حتى بدا لي رأسه ثم قال لإنسان يصب عليه أصبب فصب على رأسه ثم حرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر ثم قال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل
قال أبو عمر روى هذا الحديث يحيى بن يحيى عن مالك عن زيد بن أسلم عن نافع عن إبراهيم عن عبد الله بن حنين عن أبيه فذكره ولم
6

يتابعه على إدخال نافع بين زيد بن أسلم وبين إبراهيم بن عبد الله أحد من رواة الموطأ وذكر نافع هنا خطأ من خطأ اليد والله أعلم لا شك فيه ولذلك طرحته من الإسناد كما طرحه بن وضاح
وقد روى عن إبراهيم هذا بن شهاب ونافع مولى عبد الله بن عمر وزيد بن أسلم ومحمد بن عمرو بن علقمة ومحمد بن إسحاق والحارث بن أبي ذباب ويزيد بن أبي حبيب وأبو الأسود محمد بن عبد الرحمن وموسى بن عبيدة وغيرهم
وحنين جد إبراهيم هذا يقال إنه مولى العباس بن عبد المطلب وقيل مولى علي بن أبي طالب والله أعلم
وفيه من الفقه أن الصحابة إذا اختلفوا لم تكن في قول واحد منهم حجة على غيره إلا بدليل يجب التسليم له من الكتاب أو السنة ألا ترى أن بن عباس والمسور لما اختلفا لم يكن لواحد منهما حجة على صاحبه حتى أدلى بن عباس بالحجة بالسنة ففلج
وهذا يبين لك أن قوله (عليه السلام) أصحابي كالنجوم هو على ما فسره المزني وغيره وأن ذلك في النقل لأن جميعهم ثقات عدول فواجب قبول ما نقل كل واحد منهم ولو كانوا كالنجوم في آرائهم واجتهادهم إذا اختلفوا لقال بن عباس للمسور أنت نجم وأنا نجم فلا عليك وبأينا اقتدى المقتدي فقد اهتدى ولما احتاج لطلب البينة والبرهان من السنة على صحة قوله
وكذلك سائر الصحابة (رضوان الله عليهم) إذا اختلفوا حكمهم كحكم بن عباس والمسور وهم أول من تلا " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول " [النساء 59]
قال العلماء إلى كتاب الله وإلى نبيه (عليه السلام) ما كان حيا فإن قبض فإلى سنته
ألا ترى أن بن مسعود قيل له إن أبا موسى الأشعري قال في أخت وابنة وابنة بن إن للابنة النصف وللأخت النصف ولا شيء لبنت الابن وأنه قال للسائل أئت بن مسعود فإنه سيتابعنا فقال بن مسعود " قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين
7

[الأنعام 56] أقضي فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم للبنت النصف ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت
وبعضهم لم يرفع هذا الحديث وجعله موقوفا علي بن مسعود وكلهم رووا فيه و * (قد ضللت إذا) * الآية [الأنعام 56]
وفي الموطأ أن أبا موسى الأشعري أفتى بجواز رضاع الكبير ورد ذلك عليه بن مسعود فقال أبو موسى لا تسألوني ما دام هذا الحبر بين أظهركم
وروى مالك عن بن مسعود أنه رجع عن قوله في الربيبة إلى قول أصحابه في المدينة
وهذا الباب طويل إذا كان الصحابة خير أمة أخرجت للناس وهم أهل العلم والفضل لا يكون أحدهم حجة على صاحبه إلا الحجة من كتاب الله أو سنة نبيه فمن دونهم أولى أن يعضد قوله بما يجب التسليم له
قال مجاهد في قوله عز وجل * (ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق) * [سبأ 6] قال أصحاب محمد (عليه السلام)
قال مالك الحكم حكمان حكم جاء به كتاب الله وحكم أحكمته السنة
قال ومجتهد رأيه فلعله يوفق ومتكلف فطعن عليه
8

قال وذكر بن وضاح عن بن وهب قال قال لي مالك الحكمة والعلم نور يهدي به الله من يشاء ويؤتى من أحب من عبادة وليس بكثرة المسائل
قال أبو عمر وقد استوفينا هذا المعنى في كتاب العلم
وفي هذا الحديث دليل على أن بن عباس قد كان عنده في غسل المحرم رأسه والله أعلم علم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنباه ذلك أبو أيوب أو غيره
ألا ترى أن قول عبد الله بن حنين إلى أبي أيوب أرسلني إليك بن عباس أسألك كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه وهو محرم ولم يقل هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه وهو محرم فالظاهر أنه كان عنده من ذلك علم
واختلف العلماء في غسل رأسه فكان مالك لا يجيز ذلك للمحرم ويكرهه له
ومن حجته أن عبد الله بن عمر كان لا يغسل رأسه وهو محرم إلا من احتلام
قال مالك فإذا أوفى المحرم جمرة العقبة جاز له غسل رأسه وإن لم يحلق قبل الحلق لأنه إذا رمى جمرة العقبة فقد حل له قتل القمل وحلق الشعر وإلقاء التفث ولبس الثياب
قال وهذا الذي سمعت من أهل العلم
وروى جويرية عن مالك عن الزهري عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي أنه رأى قيس بن سعد بن عبادة غسل أحد شقي رأسه بالشجرة فالتفت فإذا هدية قد قلدت فقام فأهل قبل أن يغسل شق رأسه الآخر
وفي حديث سعد بن قيس من الفقه أنه كان يذهب إلى أنه من قلد هدية أو قلد عنه هدية بأمره فهو محرم وهذه مسألة ستأتي في موضعها إن شاء الله من هذا الكتاب
وفيه أن قيس بن سعد بن عبادة كان لا يرى أن يغسل المحرم رأسه
ويحمل حديث أبي أيوب عند مالك أنه كان ربما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه من الجنابة محرما فلا يكون عليه فيه حجة وعند غيره يحمله على العموم
9

والظاهر لأنه لم يجر في الحديث لواحد منهم ذكر الجنابة ومحال أن يختلف عالمان في غسل المحرم وغير المحرم رأسه من الجنابة
وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي والأوزاعي وأحمد بن حنبل وأبو ثور وداود لا بأس أن يغسل المحرم رأسه بالماء وهو محرم
وكان عمر بن الخطاب يغسل رأسه بالماء وهو محرم ويقول لا يزيده الماء إلا شعثا
وروي في الرخصة في ذلك عن بن عباس وجابر وعليه جماعة التابعين وجمهور الفقهاء وقد أجمعوا أن المحرم يغسل رأسه من الجنابة
وأتباع مالك في كراهته للمحرم غسل رأسه بالماء قليل
وقد كان بن وهب وأشهب يتغاطسان في الماء وهما محرمان مخالفة لابن القاسم في إبايته من ذلك وكان بن القاسم يقول إن من غمس رأسه في الماء أطعم شيئا خوفا من قتل الدواب
قال أبو عمر لا يجب الفداء في ذمة المحرم إلا بيقين الحكم وغير ذلك استحباب ولا بأس عند جميع أصحاب مالك أن يصب الماء على رأسه لحر يجده
وكان أشهب يقول لا أكره للمحرم غمس رأسه في الماء
قال وما يخاف في الغمس ينبغي أن يخاف مثله في صب الماء على الرأس من الحر
وأما غسل المحرم رأسه بالخطمي أو السدر فالفقهاء على كراهية ذلك
هذا مذهب مالك والشافعي والأوزاعي وأبي حنيفة
وكان مالك وأبو حنيفة يريان الفدية على المحرم إذا غسل رأسه بالخطمي
وقال أبو ثور لا شيء عليه إن فعل
وكان عطاء وطاوس ومجاهد يرخصون للمحرم إذا كان قد لبد رأسه في الخطم ليلين
وروي عن بن عمر أنه كان يفعل ذلك
10

ويحتمل أن يكون هذا من فعل بن عمر بعد رمي جمرة العقبة وكان إذا لبد حلق وإنما كان فعله ذلك عونا على الحلق
واحتج بعض المتأخرين على جواز غسل المحرم رأسه بالخطمي بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالمحرم الميت أن يغسلوه بماء وسدر وأمرهم أن يجنبوه ما يجتنب المحرم فدل ذلك على إباحة غسل ر أس المحرم بالسدر قال والخطمي في معناه
وهذه مسألة اختلف فيها الفقهاء تأتي في موضعها من هذا الكتاب إن شاء الله
واختلفوا في دخول المحرم الحمام فتدلك وإن نقى الوسخ فعليه الفدية
وكان الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وأبو يوسف والشافعي وأحمد وإسحاق وداود لا يرون بدخول المحرم بأسا
وروي عن بن عباس من وجه ثابت أنه كان يدخل الحمام وهو محرم
وفيه استتار الغاسل بالثوب معلوم
وفيه أن الذي كان يستره بالثوب لا يطلع منه على ما يتستر به من مثله فالسترة واجبة عن القريب والبعيد
وأما قوله يغتسل بين القرنين فقال بن وهب هما العمودان المبنيان اللذان فيهما الساقية على رأس الجحفة
وقال غيره هما حجران مشرفان أو عمودان على الحوض يقوم عليهما السقاة وفي هذا الباب عن مالك
670 - عن حميد بن قيس عن عطاء بن أبي رباح أن عمر بن الخطاب قال ليعلى بن منية وهو يصب على عمر بن الخطاب ماء وهو يغتسل أصبب على رأسي فقال يعلى أتريد أن تجعلها بي إن أمرتني صببت فقال له عمر بن الخطاب اصبب فلن يزيده الماء إلا شعثا
ومعنى هذا الحديث كله قد تقدم في الحديث الذي قبله
وقول يعلى أتريد أن تجعلها بي يريد الفدية يقول إن صببت على رأسه ماء يكاد يموت شيء من دواب رأسه من ذلك أوليس الشعر وزوال شعثه لزمني الفدية
11

فإن أمرتني كانت عليك فأخبره عمر أنه لا فدية في ذلك الفعل على فاعله ولا على الآمر به
هذا معنى قوله والله أعلم
ومنية أم يعلى بن أمية وقد ذكرنا أباه وأمه ونسبيهما في كتاب الصحابة
وروى بن جريج عن عطاء عن صفوان بن أمية عن أبيه قال سترت على عمر وهو يغتسل وهو محرم فقال يا يعلى أفض على رأسي فقلت أمير المؤمنين أعلم فقال والله إن الماء لا يزيده إلا شعثا ثم أفاض على رأسه
وروى سفيان بن عيينة عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة عن بن عباس قال ربما قال لي عمر بن الخطاب ونحن محرمون تعال أطاولك في أينا أطول نفسا
671 - أما حديثه في هذا الباب عن نافع عن بن عمر أنه كان إذا دنا من مكة دخلها من الثنية التي بأعلى مكة ولا يغتسل ويأمر من معه أن يغتسلوا قبل أن يدخلوا
672 - وأنه كان لا يغسل رأسه وهو محرم إلا من احتلام
فقد مضت معاني الغسل كلها وأن أهل العلم يستحبون الغسل ولا يرونه واجبا إلا الحسن وقوما من أهل الظاهر على ما وصفنا والوضوء يجزئ عند الجماعة غيرهم
وذكر عبد الرزاق عن بن جريج قال فمن أهل بغير وضوء أهدى هديا
قال أبو عمر كان بن عمر كثير الاتباع والامتثال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكل ما يندب إليه
وروى أيوب عن نافع عن بن عمر أنه كان إذا قدم مكة بات بذي طوى حتى يصبح فيغتسل ثم يدخل مكة نهارا ويذكر عن النبي (عليه السلام) أنه فعله
12

وروى عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل مكة من الثنية العليا ويخرج من الثنية السفلي يعني ثنيتي مكة
وأنه كان أيضا يخرج من طريق الشجرة ويدخل من طريق المعرس
وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي (عليه السلام) كان إذا دخل مكة دخل من أعلاها وخرج من أسفلها وأنه دخلها عام الفتح من كداء من أعلى مكة ودخل في العمرة من كداء
هكذا يروون فيهما الأولى بالفتحة والثانية بالضمة
قال هشام وكان عروة يدخل منهما جميعا وكان أكثر ما يدخل من كداء وكان أقربهما إلى منزله
ذكر ذلك كله أبو داود وغيره
وذكر عبد الرزاق قال أخبرنا معمر والزهري عن منصور عن مالك بن الحارث عن أبي نصر أن عليا قال إذا أردت أن تحرم فامض إذا ويمم ثم أحرم
وعن طاوس عن عطاء عن إبراهيم أنهم كانوا يغتسلون ويقولون من توضأ أجزأه
وأما قوله سمعت أهل العلم يقولون لا بأس أن يغسل الرجل المحرم رأسه بالغسول بعد أن يرمي جمرة العقبة وقبل أن يحلق رأسه وذلك أنه إذا رمى جمرة العقبة فقد حل له قتل القمل وحلق الشعر وإلقاء التفث ولبس الثياب
قال أبو عمر قد احتج مالك لما حكاه عن أهل العلم بحجة صحيحة لأن عمر بن الخطاب خطب بهذا المعنى على رؤوس الناس بمنى فلم ينكر أحد قال إذا رميتم جمرة العقبة فقد حل لكم كل ما حرم عليكم إلا النساء والطيب
وستأتي هذه المسألة وغيرها في موضعها إن شاء الله
((3 - باب ما ينهى عنه من لبس الثياب في الإحرام))
673 - مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم
13

ما يلبس المحرم من الثياب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران ولا الورس
سئل مالك عما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ومن لم يجد إزارا فليلبس سراويل فقال لم أسمع بهذا ولا أرى أن يلبس المحرم سراويل لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس السراويلات فيما نهى عنه من لبس الثياب التي لا ينبغي للمحرم أن يلبسها ولم يستثن فيها كما استثنى في الخفين
قال أبو عمر كل ما في هذا الحديث مجتمع عليه من أهل العلم أنه لا يلبسه المحرم ما دام محرما وفي معنى ما ذكرنا من القمص والسراويلات والبرانس يدخل المخيط كله فلا يجوز لباس شيء للمحرم عند جميع أهل العلم إلا من شذ عنه ممن لا يجد خلافا عنهم بل هو محجوج بهم
وأجمعوا أن المراد بهذا الخطاب في اللباس المذكور الرجال دون النساء وأنه لا بأس للمرأة بلباس القميص والدرع والسراويل والخمر والخفاف
وأجمعوا أن إحرام الرجل في رأسه وأنه ليس له أن يغطي رأسه بنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس البرانس والعمائم
وأجمعوا أن إحرام المرأة في وجهها وأن لها أن تغطي رأسها وتستر شعرها وهي محرمة وأن لها أن تسدل الثوب على وجهها من فوق رأسها سدلا خفيفا تستتر به عن نظر الرجل إليها
14

ولم يجوز لها تغطية رأسها وهي محرمة إلا ما ذكرنا عن أسماء
روى مالك عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر قالت كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر الصديق
قال أبو عمر قد يحتمل هذا أن يكون كنحو ما روي عن عائشة أنها قالت كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن محرمون فإذا مر بنا راكب سدلنا الثوب من قبل رؤوسنا وإذا جاوزنا الراكب رفعناه
قال أبو عمر قد روي عن النبي (عليه السلام) أنه نهى المرأة الحرام عن النقاب والقفازين
روى الليث بن سعد عن نافع عن بن عمر قال قام رجل فقال يا رسول الله ماذا تأمرنا أن نلبس من الثياب فذكر الحديث وقال في آخره ولا تنتقب المرأة الحرام ولا تلبس القفازين
قال أبو داود روى هذا الحديث حاتم بن إسماعيل ويحيى بن أيوب عن موسى بن عقبة عن نافع عن بن عمر عن النبي (عليه السلام) كما رواه الليث ورواه أبو قرة وموسى بن طارق عن موسى بن عقبة عن نافع موقوفا علي بن عمر قال أبو عمر رفعه صحيح رواه بن إسحاق عن نافع عن بن عمر مرفوعا
ورواه بن المبارك عن موسى بن عقبة عن نافع عن بن عمر مرفوعا أيضا
وعلى كراهة النقاب للمرأة جمهور علماء المسلمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من فقهاء الأمصار لم يختلفوا في كراهة التبرقع والنقاب للمرأة المحرمة إلا شيء روي عن أسماء بنت أبي بكر أنها كانت تغطي وجهها وهي محرمة
وروي عن عائشة أنها قالت تغطي المرأة المحرمة وجهها إن شاءت
وروي عنها أنها لا تفعل وعليه الناس
وأما القفازان فاختلفوا فيهما أيضا
وروي عن سعد بن أبي وقاص أنه كان يلبس بناته وهن محرمات القفازين
15

ورخصت فيهما عائشة أيضا
وبه قال عطاء والثوري ومحمد بن الحسن
وهو أحد قولي الشافعي
وقد يشبه أن يكون مذهب بن عمر لأنه كان يقول إحرام المرأة في وجهها
وقال مالك إن لبست المرأة قفازين افتدت
وللشافعي قولان في ذلك أحدهما تفتدي والآخر لا شيء عليها
قال أبو عمر الصواب عندي قول من نهى المرأة عن القفازين وأوجب عليها الفدية لثبوته عن النبي (عليه السلام)
وأما الرجل فأجمع العلماء على أن المحرم لا يخمر رأسه على ما قدمنا ذكره واختلفوا في تخمير وجهه وسنذكره في بابه بعد هذا إن شاء الله
وأما قول مالك أنه لا يجوز للمحرم لبس السراويل فقد أوضح وجه قوله وحجته في ذلك
وأجمع العلماء أن المحرم إذا وجد إزارا لم يجز له لبس السراويل واختلفوا فيه إذا لم يجد إزارا هل له أن يلبس السراويل وإن لبسها على ذلك هل عليه فدية أم لا
فقول مالك على ما ذكره في موطئه على حسب ما ذكرناه في هذا الباب عنه
وهو قول أبي حنيفة وأصحابه
واتفق مالك وأبو حنيفة في إيجاب الفدية على من لبس السراويل فقالا عليه الفدية وجد الإزار أو لم يجد الإزار إلا أن يشق السراويل ويفتقه ويتزر به
وقال عطاء بن أبي رباح والشافعي والثوري وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو ثور وداود إذا لم يجد المحرم إزار لبس السراويل ولا شيء عليه
وحجة من ذهب إلى هذا حديث عمرو بن دينار عن جابر بن زيد عن بن عباس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول السراويل لمن لم يجد الإزار والخفان لمن لم يجد النعلين
وقد ذكرنا طرق هذا الحديث في التمهيد
واختلفوا فيمن لم يجد نعلين هل يلبس الخفين ولا يقطعهما
16

ذهب عطاء بن أبي رباح وسعيد بن سالم القداح وطائفة من أهل العلم إلى أن من لم يجد النعلين لبس الخفين ولا يقطعهما
وبه قال أحمد بن حنبل
قال عطاء في قطعهما فساد والله لا يحب الفساد
وقال أكثر أهل العلم إذا لم يجد المحرم نعلين لبس الخفين بعد أن يقطعهما أسفل من الكعبين
وبهذا قال مالك بن أنس والشافعي والثوري وأبو حنيفة وإسحاق وأبو ثور وجماعة من التابعين
وقال الشافعي بن عمر قد زاد علي بن عباس شيئا نقصه بن عباس وحفظه بن عمر وذلك قوله وليقطعهما أسفل من الكعبين
قال والمصير إلى رواية بن عمر أولى
وروى بن وهب عن مالك والليث فيمن لبس خفين مقطوعين أو غير مقطوعين إذا كان واجدا للنعلين فعليه الفدية
وقال أبو حنيفة لا فدية عليه إذا لبسهما مقطوعين وهو واجد نعلين
قال ومن لبس السراويل افتدى على كل حال وجد إزارا أو لم يجد إلا أن يعتق السراويل
واختلف قول الشافعي فيمن لبس الخفين مقطوعين وهو واجد النعلين فمرة قال عليه الفدية
وبه قال أبو ثور
ومرة قال لا شيء عليه
قال أبو عمر كان بن عمر يقطع الخفين حتى للمرأة المحرمة وهذا لم يفعله في المرأة المحرمة أحد من أهل العلم غيره والله أعلم
وقد روي عنه أنه انصرف عن ذلك إلى ما عليه الجماعة من جواز لباس الخفين غير مقطوعين للمحرمة كما تلبس المخيط
وقد كره بن عمر أيضا أن يلقى عليه برنس أو ثوب مخيط وهو مريض محرم وقال لنافع أتلقي علي هذا وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلبسه المحرم
قال أبو عمر هذا من بن عمر ورع وأما سائر العلماء فإنما يكرهون من البرنس والثوب المخيط الدخول فيه
17

أخبرنا عبد الله قال حدثنا محمد قال حدثنا أبو داود قال حدثنا قتيبة قال حدثني بن عدي عن محمد بن إسحاق عن بن شهاب قال حدثني سالم أن عبد الله بن عمر كان يقطع الخفين للمرأة المحرمة ثم حدثته صفية بنت أبي عبيد أن عائشة حدثتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخص للنساء في لبس الخفين فترك ذلك
وقال مالك من ابتاع خفين وهو محرم فجربهما أو قاسهما في رجليه فلا شيء عليه وإن تركهما حتى منعة ذلك من حر أو برد أو مطر افتدى
في الأسدية عن أسد وسحنون وأبي ثابت وأبي زيد قلت لابن القاسم هل كان مالك يكره للمحرم أن يدخل منكبيه في القباء من غير أن يدخل يديه في كمية ولا يزره عليه قال نعم قلت فكان يكره له أن يطرح قميصه على ظهره بردائه من غير أن يدخل فيه قال لا
قال أبو عمر كره من ذلك ما كره مالك الثوري والليث والشافعي
وكان أبو حنيفة وأبو ثور يقولان لا بأس أن يدخل منكبيه في القباء
وهو قول إبراهيم
وقال عطاء لا بأس أن يتردى به
وقال مالك إذا أدخل المحرم كفيه في القباء افتدى وإن لم يدخل فيه كفيه فلا شيء عليه
وهو قول زفر والشافعي
وقال أبو حنيفة لا فدية عليه إلا أن يدخل فيه ذراعيه
وقال مالك إن عقد إزاره على عنقه افتدى
وقال الشافعي وأبو حنيفة لا شيء عليه
وبالله التوفيق
((4 - باب لبس الثياب المصبغة في الإحرام))
674 - ذكر فيه مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أنه قال
18

نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلبس المحرم ثوبا مصبوغا بزعفران أو ورس وقال من لم يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين
قال أبو عمر قد مضى القول في الباب قبل هذا في الخفين وقطعهما وما للعلماء في ذلك
675 - وذكر عن نافع أنه سمع أسلم مولى عمر بن الخطاب يحدث عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب رأى على طلحة بن عبيد الله ثوبا مصبوغا وهو محرم فقال عمر ما هذا الثوب المصبوغ يا طلحة فقال طلحة يا أمير المؤمنين إنما هو مدر فقال عمر إنكم أيها الرهط أئمة يقتدي بكم الناس فلو أن رجلا جاهلا رأى هذا الثوب لقال إن طلحة بن عبيد الله كان يلبس الثياب المصبغة في الإحرام فلا تلبسوا أيها الرهط شيئا من هذه الثياب المصبغة
676 - وذكر عن هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر أنها كانت تلبس الثياب المعصفرات المشبعاب وهي محرمة ليس فيها زعفران
وسئل مالك عن ثوب مسه طيب ثم ذهب منه ريح الطيب هل يحرم فيه فقال نعم ما لم يكن فيه صباغ زعفران أو ورس
قال أبو عمر الثوب المصبوغ بالورس والزعفران فلا خلاف بين العلماء أن لباس ذلك لا يجوز للمحرم على ما في حديث بن عمر هذا
والورس نبات يكون باليمن صبغة ما بين الصفرة والحمرة ورائحته طيبة فإن غسل ذلك الثوب حتى يذهب ريح الزعفران منه وخرج عنه فلا بأس به عند جميعهم أيضا
وكان مالك فيما ذكره بن القاسم عنه يكره الثوب الغسيل من الزعفران والورس إذا بقي فيه من لونه شيء وقال لا يلبسه المحرم وإن غسله إذا بقي فيه
19

شيء من لونه إلا أن لا يجد غيره فإن لم يجد غيره صبغة بالمشق وأحرم فيه
قال أبو عمر انفرد يحيى بن عبد الحميد الحماني عن أبي معاوية عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث قال فيه ولا تلبسوا ثوبا مسه ورس أو زعفران إلا أن يكون غسيلا
وذكر الطحاوي عن بن أبي عمران قال رأيت يحيى بن سعيد وهو يتعجب من الحماني كيف يحدث بهذا الحديث فقال عبد الرحمن بن مهدي هذا عندي ثم وثب من فوره فجاء بأصله فأخرج منه هذا الحديث عن أبي معاوية هذا كما قال الحماني
واختلفوا في العصفر فجملة مذهب مالك أن العصفر ليس بطيب ويكره للحاج استعمال الثوب الذي ينتفض في جلده فإن فعل فقد أساء ولا فدية عليه
وهو قول الشافعي
وقال أبو حنيفة وأصحابه العصفر طيب وفيه الفدية على من استعمل شيئا منه في اللباس وغيره إذا كان محرما
وقال أبو ثور كقول أبي حنيفة إلا في المعصفر فإنه قال إن لبسه المحرم فقد أساء ولا شيء عليه
قال وإنما كرهناه لأن النبي عليه السلام نهى عن لبسه لأنه طيب
قال أبو عمر النهي عن لبس المعصفر محفوظ في حديث علي بن أبي طالب من حديث مالك عن نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين عن أبيه عن علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس القسي وعن لبس المعصفر الحديث
وأما إنكار عمر على طلحة لباسه المصبغ بالمدر فإنما كرهه من طريق رفع الشبهات لأنه صبغ لا يختلف العلماء في جوازه وإنما كره أن تدخل الداخلة على من نظر إليه فظنه صبغا فيه طيب وللأئمة الاجتهاد في قطع الذرائع
وفيه شهادة عمر بأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم أئمة
20

روى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن محمد بن علي أن عمر بن الخطاب أبصر على عبد الله بن جعفر ثوبين مدرجين وهو محرم فقال عمر ما هذا فقال علي ما أخال أحدا يعلمنا السنة فسكت عمر
وأما رواية مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر فلم يتابعه أحد والله أعلم على قوله عن أبيه من أصحابه في هذا الحديث عن هشام بن عروة وإنما يروونه عن هشام عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء
وأما لباس أسماء للمعصفرات فلا خلاف للعلماء في أن الرجال والنساء في الطيب سواء واختلافهم في المعصفر هل هو طيب أم لا فقد اختلف وسيأتي ذكر الطيب في بابه إن شاء الله
((5 - باب لبس المحرم المنطقة))
677 - ذكر فيه مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يكره لبس المنطقة للمحرم
678 - وذكر عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول في المنطقة يلبسها المحرم تحت ثيابه أنه لا بأس بذلك إذا جعل طرفيها جميعا سيورا يعقد بعضها إلى بعض
قال أبو عمر روى هذا الخبر سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه سمعه يسأل عن المنطقة للمحرم فقال لا بأس بها إذا جعلت في طرفيها سيورا ثم يعقد بعضها إلى بعض ولا يدخل السيور في ثقب المنطقة
وسفيان عن أبي سليمان بن سعيد بن جبير أنه سأل سعيد بن المسيب عن المنطقة فقال لا تدخل السير في الثقب ولكن اجعل سيرا من هذا الجانب وسيرا من هذا الجانب ثم اعقدهما
قال أبو عمر إنما كره سعيد بن المسيب أن يدخل السير وهو الخيط في ثقب المنطقة لأنه كالخياطة عنده والمخيط لا يجوز للمحرم لبسه وأجاز ربط الخيط
21

على ما وصف لأنه كالهميان الذي يجوز له عقده عند أكثر العلماء وقد كرهه قوم من العلماء منهم سعيد بن جبير وعطاء والصواب قول من أباحه وبالله التوفيق لا شريك له
وقول مالك وهذا أحب ما سمعت إلي في ذلك يعني ما رواه عن سعيد بن المسيب لا ما رواه عن بن عمر وما استحبه مالك في هذا الباب وهو الذي عليه جماعة العلماء من الصحابة والتابعين وغيرهم من المفتين
وممن روى عنه من الصحابة أنه لا بأس بالمنطقة للمحرم عبد الله بن عباس وعائشة
وهو قول الشافعي والكوفيين وأصحابهما والليث والأوزاعي وأحمد وأبي ثور وداود والطبري وبن علية
روى سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد عن عائشة أنها كانت تقول في المنطقة أحرز عليك نفقتك
وقال الشافعي يلبس المحرم المنطقة للنفقة ويستظل في المحمل ونازلا في الأرض
وقال بن علية قد أجمعوا على أن للمحرم أن يعقد الهميان والمئزر على مئزره وبالمنطقة كذلك
قال أبو عمر قد قال إسحاق بن راهويه ليس للمحرم أن يعقد يعني المنطقة ولكن له أن يدخل السيور بعضها في بعض
وقول إسحاق لا يعد خلافا على الجميع وليس له أيضا حظ من النظر ولا له أصل لأن النهي عن لباس المخيط وليس هذا منه فارتفع أن يكون له حكمه
وكان مالك يكره المناطق على غير الحقو وأن تكون ظاهرة ولا يرى على فعل ذلك فدية
((6 - باب تخمير المحرم وجهه))
679 - مالك عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد أخبرني
22

الفرافصة بن عمير الحنفي أنه رأى عثمان بن عفان بالعرج يغطي وجهه وهو محرم
680 - وعن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول ما فوق الذقن من الرأس فلا يخمره المحرم
681 - وعن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر أنها قالت كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق
682 - وعن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين
683 - وعن نافع أن عبد الله بن عمر كفن ابنه واقد بن عبد الله
ومات بالجحفة محرما وخمر رأسه ووجهه وقال لولا أنا حرم لطيبناه
قال مالك وإنما يعمل الرجل ما دام حيا فإذا مات فقد انقضى العمل
قال أبو عمر اختلف العلماء من الخلف والسلف في تخمير المحرم لوجهه بعد إجماعهم على أنه لا يخمر رأسه
فكان بن عمر فيما رواه مالك وغيره عنه يقول ما فوق الذقن من الرأس فلا يخمره المحرم
ولذلك ذهب مالك وأصحابه وبه قال محمد بن الحسن من غير خلاف عن أصحابه
قال بن القاسم كره مالك للمحرم أن يغطي ذقنه أو شيئا مما فوق ذقنه لأن إحرامه في وجهه ورأسه
قيل لابن القاسم فإن فعل أترى عليه فدية قال لم أسمع من مالك فيه شيئا ولا أرى عليه شيئا لما جاء عن عثمان في ذلك
وقد روي عن مالك من غطى وجهه وهو محرم أنه يفتدي
23

وفي موضع آخر من كتاب بن القاسم أرأيت محرما غطى وجهه ورأسه في قول مالك قال قال مالك إن نزعه مكانه فلا شيء عليه وإن تركه فلم ينزعه مكانه حتى انتفع بذلك افتدى
قلت وكذلك المرأة إذا غطت وجهها قال نعم إلا أن مالكا كان يوسع للمرأة أن تسدل رداءها فوق رأسها على وجهها إذا أرادت سترا وإن كانت لا تريد سترا فلا تسدل
قال أبو عمر روي عن عثمان وبن عباس وعبد الرحمن بن عوف وبن الزبير وزيد بن ثابت وسعد بن أبي وقاص وجابر بن عبد الله أنهم أجازوا للمحرم أن يغطي وجهه فهم مخالفون لابن عمر في ذلك
وعن القاسم بن محمد وطاوس وعكرمة إنهم أجازوا للمحرم أن يغطي وجهه
وقال عطاء يخمر المحرم وجهه إلى حاجبيه
وبه قال الثوري والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو ثور وداود
وذكر عبد الرزاق عن بن عيينة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال كان عثمان وزيد بن ثابت يخمران وجوههما وهما محرمان
وكل من سمينا في هذا الباب من الصحابة ففي كتاب عبد الرزاق
وأجمعوا أن للمحرم أن يدخل الخباء والفسطاط وإن نزل تحت شجرة أن يرمي عليها ثوبا
واختلفوا في استظلاله على دابته أو على المحمل ف روي عن بن عمر أنه قال أضح لمن أحرمت له وبعضهم يرفعه عنه
وكره مالك وأصحابه استظلال المحرم على محمله
وبه قال بن مهدي وبن حنبل
وقد روي عن عثمان بن عفان أنه كان يستظل وهو محرم وأنه أجاز ذلك للمحرم
وبه قال عطاء بن أبي رباح والأسود بن يزيد وهو قول ربيعة والثوري وبن عيينة وأبي حنيفة والشافعي وأصحابهما
وقال مالك إذا استظل المحرم في محمله افتدى
24

وقال أبو حنيفة والشافعي لا شيء عليه
وروى عبد الرزاق وهشام بن يوسف ويحيى بن سعيد عن بن جريج قال قال عطاء يخمر المحرم وجهه إلى حاجبيه ويخمر أذنيه حتى حاجبيه
قال بن جريج فقلت لعطاء أرأيت قولك ذلك رأي هو قال لا ولكن أدركنا الناس عليه
قال وقال عطاء يصعد الثوب عن وجهه إلى حاجبه ولا يصبه على وجهه صبا ويخمر أذنيه مع وجهه
ورواه سفيان بن عيينة عن بن جريج عن عطاء مثله
وروى بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد قال أخبرتني أمي وأختي أنهما دخلتا على عائشة أم المؤمنين فسألتاها كيف تخمر المرأة وجهها فأخذت أسفل خمارها فغطت به وجهها وعليها درج مدرج وخمار حبشي
أما حديثه عن نافع عن بن عمر أنه كفن ابنة واقدا ومات بالجحفة محرما وخمر وجهه ورأسه وقال لولا أنا حرم لطيبناه فإليه ذهب مالك وقال في الموطأ إنما يعمل الرجل ما دام حيا فإذا مات انقطع العمل ولا خلاف عنه وعن أصحابه أنه يفعل بالميت المحرم ما يفعل بالحلال
وهو قول عائشة
ذكر عبد الرزاق عن منصور عن إبراهيم عن الأسود قال سئلت عائشة عن المحرم يموت فقالت اصنعوا به ما تصنعوا بموتاكم يعني من الطيب وغيره
وبه قال الحسن البصري وعكرمة والأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه
وقال الشافعي لا يخمر رأس المحرم ولا يطيب اتباعا لحديث بن عباس في الذي وقصته ناقته وهو محرم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تخمروا رأسه ولا تمسوه طيبا فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا
ذكر عبد الرزاق عن معمر عن أيوب وعبد الكريم عن سعيد بن جبير عن بن عباس
25

وحدثناه عبد الوارث قال حدثنا القاسم قال حدثنا بكر قال حدثنا مسدد قال حدثنا حماد عن عمرو بن دينار وأيوب عن سعيد بن جبير عن بن عباس أن رجلا كان واقفا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة فوقع عن راحلته
قال أيوب فوقصته فمات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوب ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبيا
وبه قال أحمد وإسحاق
وهو قول عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس
ذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال خرج عبد الله بن الوليد معتمرا مع عثمان بن عفان فمات بالسقيا وهو محرم فلم يغيب عثمان رأسه ولم يمسه طيبا فأخذ الناس بذلك حتى توفي واقد بن عبد الله بن عمر بالجحفة وهو محرم فغيب رأسه بن عمر فأخذ الناس بذلك
((7 - باب ما جاء في الطيب في الحج))
684 - ذكر فيه مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم إنها قالت كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت
685 - وعن حميد بن قيس عن عطاء بن أبي رباح أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحنين وعلى الأعرابي قميص وبه أثر صفرة
فقال يا رسول الله إني أهللت بعمرة فكيف تأمرني أن أصنع فقال له رسول
26

الله صلى الله عليه وسلم انزع قميصك واغسل هذه الصفرة عنك وافعل في عمرتك ما تفعل في حجك
686 - وعن نافع عن أسلم مولى عمر بن الخطاب أن عمر بن الخطاب وجد ريح طيب وهو بالشجرة فقال ممن ريح هذا الطيب فقال معاوية بن أبي سفيان مني يا أمير المؤمنين فقال منك لعمر الله فقال معاوية إن أم حبيبة طيبتني يا أمير المؤمنين فقال عمر عزمت عليك لترجعن فلتغسلنه
قال أبو عمر ظاهر هذا الخبر أنه عزم على معاوية أن يغسله بنفسه وليس على ظاهره فيما رواه الزهري عن سالم عن أبيه قال وجد عمر طيبا وهو بالشجرة فقال ما هذه الريح فقال معاوية طيبتني أم حبيبة فتغيظ عليه عمر وقال منك لعمري أقسمت عليك لترجعن إلى أم حبيبة فلتغسلن عنك كما طيبتك
وكان الزهري يأخذ بقول عمر فيه ذكره عبد الرزاق عن معمر عنه 687 - وذكر عن الصلت بن زبيد عن غير واحد من أهله أن عمر بن الخطاب وجد ريح طيب وهو بالشجرة وإلى جنبه كثير بن الصلت فقال عمر ممن ريح هذا الطيب فقال كثير مني يا أمير المؤمنين لبدت رأسي وأردت أن لا أحلق فقال عمر فاذهب إلى شربه فادلك رأسك حتى تنقيه ففعل كثير بن الصلت
قال مالك الشربة حفير تكون عند أصل النخلة
قال أبو عمر أما حديث عائشة المتقدم في هذا الباب فلم يختلف فيه عن عائشة والأسانيد متواترة به وهي صحاح إلا أنه ذكر فيه إبراهيم بن محمد بن المنتشر شيئا سنذكره فيما بعد إن شاء الله
وأما حديث حميد بن قيس عن عطاء فهو مرسل في الموطأ وهو متصل صحيح من حديث يعلى بن أمية رواه عن عطاء بن أبي رباح جماعة منهم أبو الزبير وعمرو بن
دينار وقتادة وبن جريج وقيس بن سعد وهمام بن يحيى ومطر الوراق وإبراهيم بن يزيد وعبد الملك بن أبي سليمان ومنصور بن المعتمر وبن أبي ليلى والليث بن سعد وبعضهم أتقن له من بعض وأحسنهم
27

رواية له عن عطاء بن جريج وعمرو بن دينار وإبراهيم بن يزيد وقيس بن سعد وهمام بن يحيى فإن هؤلاء كلهم رووه عن عطاء قال حدثني صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه
حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم قال حدثنا بن وضاح قال حدثنا أبو بكر وحدثنا عبد الله بن محمد بن أسد قال حدثنا سعيد بن عمار قال حدثنا محمد بن بشر قال حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري قال حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين قال حدثنا همام قال حدثنا عطاء قال حدثنا صفوان بن يعلى عن أبيه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة وعليه جبة وعليه أثر الخلوق (أو قال صفرة) فقال كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي قال فأنزل على النبي (عليه السلام) الوحي فاستتر بثوب وكان يعلى يقول وددت أني قد رأيت النبي (عليه السلام) قد أنزل عليه فقال عمر يا يعلى أيسرك أن تنظر إلى النبي (عليه السلام) وقد أنزل عليه فقلت نعم فرفع طرف الثوب فنظرت إليه فإذا له غطيط قال أحسبه كغطيط البكر فلما سري عنه قال أين السائل عن العمرة اخلع عنك الجبة واغسل عنك أثر الخلوق - أو قال الصفرة - وقال اصنع في عمرتك كما صنعت في حجتك وذكر قصة العاض ليد صاحبها واللفظ لابن نصر
وذكر عبد الرزاق قال أخبرنا بن عيينة عن بن جريج عن عطاء قال أخبرني صفوان بن يعلى أن يعلى كان يقول لعمر أرني نبي الله حين ينزل عليه فلما كان بالجعرانة وعلى النبي صلى الله عليه وسلم ثوب قد أظل به عليه معه فيه ناس من أصحابه منهم عمر إذ جاءه رجل وعليه جبة متضمخ بطيب فقال يا رسول الله كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة بعد ما تضمخ بطيب فسكت ساعة فجاءه الوحي فأشار عمر إلى يعلى بيده أن تعالى فجاء فأدخل رأسه فإذا النبي - عليه السلام - محمر الوجه يغط كذلك ساعة ثم سري عنه فقال أين السائل عن العمرة آنفا فالتمس الرجل فأتي به فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما الطيب الذي بك فاغسله عنك ثلاث مرات وأما الجبة فانزعها ثم اصنع في عمرتك كما تصنع في حجك
قال بن جريج كان عطاء يأخذ في الطيب بهذا الحديث وكان يكره الطيب عند الإحرام ويقول إن كان به شيء فليغسله ولينقه
28

قال بن جريج قال وكان شأن صاحب الجبة قبل حجة الوداع والأخذ بالآخر من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق
قال أبو عمر أما قوله في حديث حميد بن قيس وهو بحنين فالمراد منصرفة من غزوة حنين والموضع الذي لقي الأعرابي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الجعرانة وهو طريق حنين وفي هذا الموضع قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم حنين كما ذكره أهل السير
وأما قوله وعلى الأعرابي قميص فالقميص المذكور في حديث مالك هو الجبة المذكورة في حديث غيره ولا خلاف بين العلماء أن المخيط كله من الثياب لا يجوز لباسه للمحرم لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لباس القمص والسراويلات
وأما قوله وبه أثر صفرة فقد بان بما ذكرناه من الآثار أنها كانت صفرة خلوق وهو طيب معمول من الزعفران وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لباس ثوب مسه زعفران أو ورس وأجمع العلماء على أن الطيب كله محرم على الحاج والمعتمر بعد إحرامه وكذلك لباس الثياب
واختلفوا في جواز الطيب للمحرم قبل الإحرام لما يبقى عليه بعد الإحرام فأجاز ذلك قوم وكرهه آخرون ومن كرهه احتج بحديث الأعرابي صاحب القميص
وممن كره الطيب للمحرم من قبل الإحرام عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص كلهم كرهوا أن يوجد من المحرم شيء من ريح الطيب ولم يرخصوا لأحد أن يتطيب عند إحرامه
وقال بهذا من العلماء عطاء بن أبي رباح وسالم بن عبد الله على اختلاف
29

عن سالم في ذلك والزهري وسعيد بن جبير والحسن وبن سيرين على اختلاف عنهم
وإلى هذا ذهب مالك بن أنس وأصحابه ومحمد بن الحسن رواه عنه بن سماعة وهو اختيار أبي جعفر الطحاوي إلا أن مالكا كان أخفهم في ذلك قولا ذكر بن عبد الحكم عنه قال وترك الطيب عند الإحرام أحب إلينا
ومن حجة من قال بهذا القول من طريق النظر أن الإحرام يمنع من لبس القمص والسراويلات والخفاف والعمائم ويمنع من الطيب ومن قتل الصيد وإمساكه فلما أجمعوا أن الرجل إذا لبس قميصا أو سراويل قبل أن يحرم فما أحرم وهو عليه أنه يؤمر بنزعه وإن لم ينزعه وتركه كان كمن لبسه في إحرامه لبسا مستقبلا ويجب عليه في ذلك ما يجب عليه لو استأنف لبسه بعد إحرامه وكذلك لو اصطاد صيدا في الحل وهو حلال فأمسك في يده ثم أحرم وهو في يده أمر بتخليته وإن لم يخله كان إمساكه له بعد إحرامه كابتدائه الصيد وإمساكه في إحرامه
قالوا فلما كان ما ذكروا كما وصفنا وجب أن يكون الطيب قبل الإحرام وبعده سواء واعتلوا في دفع حديث عائشة بما رواه إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه قال سألت بن عمر عن الطيب عند الإحرام فقال لئن أطلى بقطران أحب إلي من أصبح محرما ينضخ مني ريح الطيب
قال فدخلت على عائشة فأخبرتها بحديث بن عمر فقالت رحم الله أبا عبد الرحمن طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف على نسائه ثم أصبح محرما
رواه عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر جماعة منهم مسعر وسفيان وشعبة
زاد بعضهم فيه أصبح محرما ينضخ طيبا
فاحتج من كره الطيب قبل الإحرام بهذا الخبر وقال قد بان بهذا في حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف على نسائه بعد التطيب وإذا طاف عليهن اغتسل لا محاله فكان بين إحرامه وتطيبه غسل
قالوا فكأن عائشة إنما أرادت بهذا الحال الاحتجاج على من كره من المحرم بعد إحرامه ريح الطيب كما كره ذلك بن عمر
30

وأما بقاء نفس الطيب على المحرم فلا
فهذه جملة من حج من كره الطيب عند الإحرام من جهة الأثر والقياس
وقال جماعة من العلماء لا بأس أن يتطيب المحرم قبل أن يحرم بما شاء من الطيب مما يبقى عليه بعد إحرامه ومما لا يبقى
وممن قال بذلك من الصحابة سعد بن أبي وقاص وبن عباس وأبو سعيد الخدري وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن جعفر وعائشة وأم حبيبة
فثبت الخلاف في هذه المسألة بين الصحابة (رضوان الله عليهم)
وقال به من التابعين عروة بن الزبير وجابر بن محمد والشعبي والنخعي وخارجة بن زيد ومحمد بن الحنفية
واختلف في ذلك عن الحسن وبن سيرين وسعيد بن جبير
وقال به من الفقهاء أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر والثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود
والحجة لهم حديث عائشة قالت طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت
هذا لفظ القاسم بن محمد عن عائشة ومثله رواية عطاء عن عائشة في ذلك
وقال الأسود عن عائشة أنها كانت تطيب النبي صلى الله عليه وسلم بأطيب ما تجد من الطيب حتى قالت إني لأرى وبيص الطيب في رأسه ولحيته
وروى موسى بن عقبة عن نافع عن بن عمر عن عائشة قالت كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغالية الجيدة عند إحرامه
وهذا رواه أبو زيد بن أبي الغمر عن يعقوب بن عبد الرحمن الزهري عن موسى بن عقبة
31

وروى هشام بن عروة عن أخيه عثمان بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير عن عائشة قالت طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند إحرامه بأطيب ما أجد
وربما قالت بأطيب الطيب لحرمه ولحله
وقالوا لا معنى لحديث بن المنتشر لأنه ليس مما يعارض به هؤلاء الأئمة ولو كان ما كان في لفظه حجة لأن قولهم طاف على نسائه لأنه يحتمل أن يكون طوافه لغير جماع ليعلمهن كيف يحرمن وكيف يعملن في حجهن وغير ذلك
والدليل على ذلك ما رواه منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت كان يرى وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ثلاث وهو محرم
والصحيح في حديث بن المنتشر ما رواه شعبة عنه عن أبيه عن عائشة فقال فيه فيطوف على نسائه ثم يصبح محرما ينضخ طيبا
قالوا والنضخ في كلام العرب الظهور ومنه قوله عز وجل " فيهما عينان نضاختان 66]
688 - وذكر مالك أيضا عن يحيى بن سعيد وعبد الله بن أبي بكر وربيعة بن أبي عبد الرحمن أن الوليد بن عبد الملك سأل سالم بن عبد الله وخارجة بن زيد بن ثابت بعد أن رمى الجمرة وحلق رأسه وقبل أن يفيض عن الطيب فنهاه سالم وأرخص له خارجة بن زيد بن ثابت
قال أبو عمر لم يختلف عن خارجة فيما حكاه عنه مالك في موطئه واختلف عن سالم فروى بن عيينة عن عمرو بن دينار عن سالم بن عبد الله وربما قال عن أبيه وربما لم يقل قال عمر إذا رميتم الجمرة وذبحتم وحلقتم فقد حل لكم كل شيء حرم عليكم إلا النساء والطيب
قال إسماعيل بن إسحاق جاء عن عائشة أنا طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله بعد أن رمى الجمرة وقبل أن يطوف
32

قال سالم وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع
قال أبو عمر راعى مالك الخلاف في هذه المسألة فلم ير بعد رمي الجمار الفدية وقبل الإفاضة
قال أبو ثابت قلت لابن القاسم أكان مالك يكره أن يتطيب إذا رمى جمرة العقبة قبل أن يفيض قال نعم قلت فإن فعل أترى عليه الفدية قال لا أرى عليه شيئا لما جاء في ذلك
قال مالك لا بأس أن يدهن الرجل بدهن ليس فيه طيب قبل أن يحرم وقبل أن يفيض بالزيت والبان غير المطيب مما لا ريح له
قال والفرق في التطيب بين الجاهل والعاقد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الأعرابي وقد أحرم وعليه خلوق بنزع الجبة وغسل الصفرة ولم يأمره بفدية ولو كانت عليه فدية لأمره بها كما أمره بنزع الجبة
وفي هذه القصة رد على من زعم من العلماء أن الرجل إذا أحرم وكان عليه قميص كان له أن يشقه وقالوا لا ينبغي أن ينزعه كما ينزع الحلال قميصه لأنه إذا فعل ذلك غطى رأسه وذلك لا يجوز له فلذلك أمر بشقه
وممن قال بذلك الحسن والشعبي والنخعي وأبو قلابة وسعيد بن جبير على اختلاف عنه
وحجتهم ما رواه عبد الرزاق عن داود بن قيس عن عبد الرحمن بن عطاء بن أبي لبيبة أنه سمع ابني جابر بن عبد الله يحدثان عن أبيهما قال بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالس مع أصحابه شق قميصه حتى خرج منه فقيل له فقال واعدتهم يقلدون هديي اليوم فنسيت
ورواه أسد بن موسى عن حاتم بن إسماعيل عن عبد الرحمن بن عطاء بن عبد الملك عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم وزاد فلبست قميصي ونسيت فلم أكن لأخرج قميصي من رأسي
وكان بعث ببدنه وأقام بالمدينة
وقال جمهور فقهاء الأمصار ليس على من نسي فأحرم وعليه قميصه أن يخرقه ولا يشقه
وهو قول عطاء وطاوس وبه قال مالك وأصحابه والشافعي وأصحابه وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والثوري وسائر فقهاء الأمصار أصحاب الرأي والآثار
33

واحتجوا بحديث يعلى بن أمية في قصة الأعرابي الذي أحرم وعليه جبة فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزعها
ولا خلاف بين أهل الحديث أنه حديث صحيح وحديث جابر الذي يرويه عبد الرحمن بن عطاء ضعيف لا يحتج به وهو مردود أيضا بحديث عائشة أنها قالت كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يقلده ويبعث به ولا يحرم عليه شيء أحله الله له حتى ينحر الهدي
وإن كان جماعة من العلماء قالوا إذا أشعر هدية أو قلده فقد أحرم
وقال آخرون إذا كان يريد بذلك الإحرام
قال أبو عمر ليس نزع القميص بمنزلة اللباس لأن المحرم لو حمل على رأسه شيئا لم يعد ذلك كلباس القلنسوة وكذلك من تردى بإزار أو جربه بدنه لم يحكم له بحكم لباس المخيط
وهذا يدل أنه إنما هو نهى عن لباس القلنسوة بالإحرام اللباس المعهود وعن لباس الرجل القميص اللباس المعهود وأن النهي إنما وقع في ذلك وقصد به إلى من تعمد فعل ما نهي عنه في إحرامه من اللباس المعهود في حال إحلاله
وقوله اصنع في عمرتك ما تصنع في حجتك فإنما أراد من غسل الطيب ونزع المخيط
وهذا أوضح من أن يتكلم فيه
وأما قول مالك في آخر الباب عن طعام فيه زعفران هل يأكله المحرم فقال أما ما تمسه النار من ذلك فلا بأس به أن يأكله المحرم وأما ما لم تمسه النار من ذلك فلا يأكله المحرم
قال أبو عمر اختلف العلماء في هذه المسألة
فقال مالك إن المحرم لا يمس طيبا
فجملة قول مالك أن المحرم لا يمس طيبا ولا يشمه ولا يصحب من يجد منه ريح طيب ولا يجلس إلى العطارين
قال مالك وأرى أن يقام العطار من بين الصفا والمروة وأن لا نخلق الكعبة
ومذهبه أن من مس طيبا وانتفع به افتدى
34

قال مالك ولا بأس أن يأكل المحرم الخبيص والطعام الذي طبخت زعفرانته النار
قال أبو حنيفة يكره للمحرم مس الطيب وشم الريحان فإن شم الطيب فلا فدية عليه تعلق بيده منه شيء أم لا ولا بأس أن يأكل المحرم عنده الخبيص والطعام الذي طبخت زعفرانته النار كقول مالك
وقال الشافعي والأوزاعي لا بأس أن يشم المحرم الطيب وأن يجلس إلى العطارين
وللشافعي أقاويل فيما مسته النار من الزعفران في الخبيص والطعام أحدها مثل قول مالك والآخر إن كان يصبغ اللسان فعليه الفدية
ذكره المزني عنه
وقال في الأم والمختصر إن وجد له ريح أو لون أو طعم فعليه الفدية وإن لم يكن إلا اللون وحده فلا فدية فيه بمنزلة العصفر إذا غسل
قال أبو عمر روي عن عطاء ومجاهد والأسود بن يزيد ونافع مولى بن عمر وسعيد بن جبير وجابر بن زيد وإبراهيم النخعي أنهم كانوا يرخصون في الخبيص والجوارشنات الأصفر إذا مسته النار للمحرم
وعن عطاء في الجوارشنات والخبيص إذا لم يجد طعمه ولا ريحه فلا بأس به
وذكره عبد الرزاق قال أخبرنا محمد بن مسلم قال حدثني عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أنه كره للمحرم طعام فيه زعفران
((8 - باب مواقيت الإهلال))
689 - ذكر فيه مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يهل أهل المدينة من ذي الحليفة ويهل أهل الشام من الجحفة ويهل
35

أهل نجد من قرن قال عبد الله بن عمر وبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ويهل أهل اليمن من يلملم
690 - وعن عبد الله بن دينار عن عبد بن عمر أنه قال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل المدينة أن يهلوا من ذي الحليفة وأهل الشام من الجحفة وأهل نجد من قرن
691 - قال عبد الله بن عمر أما هؤلاء الثلاث فسمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ويهل أهل اليمن من يلملم
692 - وعن نافع أن عبد الله بن عمر أهل من الفرع
693 - وعن الثقة عنده أن عبد الله بن عمر أهل من إيلياء
694 - وذكر أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل من الجعرانة بعمرة
قال أبو عمر أما قول بن عمر بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ويهل أهل اليمن من يلملم فمرسل الصاحب عن الصاحب هو عندهم كالمسند سواء في وجوب الحجة به
وقد روى بن عباس في هذا ما هو أكمل معنى من حديث بن عمر
36

حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا سليمان بن حرب
وأخبرنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن هدية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال حدثنا قتيبة بن سعيد قالا حدثنا حماد عن عمرو عن طاوس عن بن عباس قال وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة بالحليفة ولأهل الشام بالجحفة ولأهل نجد قرنا ولأهل اليمن يلملم قال وهن لهم ولمن أتى عليهن ممن سواهم ممن أراد الحج والعمرة
قال ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ
قال وكذلك أهل مكة يهلون منها
وذكر عبد الرزاق عن معمر عن بن طاوس عن أبيه عن بن عباس مثله
قال أبو عمر أجمع أهل العلم بالعراق والحجاز على القول بهذه الأحاديث واستعمالها لا يخالفون شيئا منها وأنها مواقيت لأهلها في الإحرام بالحج منها ولكل من أتى عليها من غير أهلها ممن أراد حجا أو عمرة
إلا أنهم اختلفوا في ميقات أهل العراق وفي من وقته لهم
فقال مالك والشافعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابهم ميقات أهل العراق من ناحية المشرق كلها ذات عرق
وهو قول سائر العلماء وزاد الثوري إن أهلوا من العقيق فهو أحب إلينا
وقال جابر بن زيد أبو الشعثاء وطائفة معه لم يوقت النبي (عليه السلام) لأهل العراق وقتا
وذكر الطبري قال حدثنا بن دثار قال حدثنا عبد الوهاب قال حدثنا بن جريج قال أخبرنا عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء أنه كان [يقول] لم يوقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المشرق وقتا وإنما أخذ الناس حيال قرن ذات عرق
وقال جابر وعائشة وغيرهما وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل العراق ذات عرق
37

وقالت طائفة عمر بن الخطاب هو الذي وقت لأهل العراق ذات عرق لأن العراق في زمانه افتتحت ولم تكن العراق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات إسلام
ذكر الطبري قال حدثنا عصام بن رواد بن الجراح أنه قال حدثني أبي قال حدثني عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن بن عمر أنه كان يقول لما وقت قرن لأهل نجد قال عمر مهل أهل العراق ذات عرق فاختلفوا في القياس فقال بعضهم ذات عرق وقال بعضهم بطن العقيق
قال بن عمر فقاس الناس ذلك
وقال آخرون هذه غفلة من قائل هذا القول بل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق بالعقيق كما وقت لأهل الشام الجحفة والشام كلها يومئذ ذات كفر كما كانت العراق يومئذ ذات كفر فوقت لأهل النواحي لأنه علم أنه سيفتح الله على أمته الشام والعراق وغيرهما من البلدان
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم منعت العراق درهمها وقفيزها ومنعت الشام مديها ودينارها بمعنى ستمنع
وقال (عليه السلام) ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار
وقال (عليه السلام) زويت لي الأرض فأريت مشارقها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها
قال أبو عمر روى حفص بن غياث عن حجاج بن أرطأة عن جابر أن النبي (عليه السلام) وقت لأهل العراق ذات عرق
وروى الثوري عن يزيد بن زياد عن محمد بن علي عن بن عباس قال وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المشرق العقيق
وروى هلال بن زيد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدائن العقيق
38

ولأهل البصرة ذات عرق ولأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة
وقد ذكرنا أسانيد هذه الأحاديث في التمهيد
وذكر أبو داود قال حدثنا هشام بن بهرام قال حدثنا المعافى قال حدثنا أفلح بن حميد عن القاسم عن عائشة قالت وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام ومصر الجحفة ولأهل العراق ولأهل اليمن يلملم
قال أبو عمر كل عراقي أو مشرقي أحرم من ذات عرق فقد أحرم عند الجميع من ميقاته والعقيق أحوط وأولى عندهم من ذات عرق
وكره مالك أن يحرم أحد عند الميقات
وروي عن عمر بن الخطاب أنه أنكر على عمران بن الحصين إحرامه من البصرة
وعن عثمان بن عفان أنه أنكر على عبد الله بن عامر إحرامه قبل الميقات وكره الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح الإحرام في الموضع البعيد هذا والله أعلم منهم كراهة أن يضيق المرء على نفسه ما قد وسع الله عليه وأن يتعرض لما لم ير أن يحدث في إحرامه وكلهم ألزمه الإحرام لأنه زاد ولم ينقص
والدليل على ذلك أن بن عمر روى المواقيت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أجاز الإحرام بعدها من موضع بعيد
هذا كله قول إسماعيل
قال وليس الإحرام مثل عرفات والمزدلفة التي لا يجاوز بها موضعها
قال والذين أحرموا قبل الميقات من الصحابة والتابعين كثير
روى شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة أن رجلا أتى عليا فقال أرأيت قول الله عز وجل * (وأتموا الحج والعمرة لله) * [البقرة 196] قال له علي تمامها أن تحرم من دويرة أهلك
وروى حماد بن زيد عن أيوب عن نافع أن بن عمر أهل من بيت المقدس
قال أبو عمر أحرم بن عمر من بيت المقدس عام الحكمين وذلك بأنه شهد التحكيم بدومة الجندل فلما افترق عمرو بن العاص وأبو موسى الأشعري من غير اتفاق نهض إلى بيت المقدس ثم أحرم منه
39

ذكر عبد الرزاق قال أخبرنا بن عيينة قال حدثني عبد الملك بن أعين عن عبد الرحمن بن أذينة عن أبيه قال أتيت عمر بن الخطاب فقلت يا أمير المؤمنين إني قد ركبت السفن والخيل والإبل فمن أين أحرم قال أئت عليا فاسأله فرددت عليه القول فقال ائت عليا فاسأله فأتيت عليا فسألته فقال من حيث بدأت فرجعت إلى عمر فقلت له أتيت عليا قال فما قال لك قلت قال لي أحرم من حيث بدأت قال فهو ما قال لك
قال وأخبرني العمري عن سلمة بن كهيل عن الحسن العرني عن عبد الرحمن بن أذينة عن أبيه أذينة بن سلمة قال أتيت عمر فذكر مثله إلا أنه قال ما أجد لك إلا ما قال علي
قال سفيان وصنعنا ذلك على المواقيت
وعن الثوري عن منصور عن إبراهيم قالوا كانوا يستحبون للرجل أول ما يحج أن يحرم من بيته وأول ما يعتمر أن يحرم من بيته
وقال أحمد بن حبيب وإسحاق والإحرام من المواقيت أفضل وهي السنة المجتمع عليها سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته وعمل بها الصحابة معه وبعده وجد عليها عمل المسلمين
وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري والحسن بن حي المواقيت رخصة وتوسعة يتمتع المرء بحله حتى يبلغها ولا يتجاوزها والإحرام قبلها فيه فضل لمن فعله وقوي عليه ومن أحرم من منزلة فقد أحسن والإحرام من موضعه أفضل
ومن حجتهم أن علي بن أبي طالب وبن مسعود وعمران بن حصين وبن عمر وبن عباس أحرموا من المواضع البعيدة وهم فقهاء الصحابة وقد شهدوا إحرام رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته من ميقاته وعرفوا مقداره ومراده وعلموا أن إحرامه من ميقاته كان تيسيرا على أمته أحرم بن عباس وبن عمر من الشام وأحرم عمران بن حصين من البصرة وأحرم بن مسعود من القادسية وكان إحرام علقمة والأسود وعبد الرحمن بن يزيد وأبي إسحاق السبيعي من بيوتهم
وقال سعيد بن جبير تمام الحج أن تحرم من دويرة أهلك
واختلفوا في الرجل المريد للحج والعمرة يجاوز ميقات بلده إلى ميقات آخر أقرب إلى مكة مثل أن يترك أهل المدينة الإحرام من ذي الحليفة حتى يحرموا من الجحفة
40

فتحصيل مذهب مالك أن من فعل فعليه دم
واختلفوا في ذلك فمنهم من أوجب الدم فيه ومنهم من أسقطه وأصحاب الشافعي على إيجاب الدم في ذلك
وهو قول الثوري والليث بن سعد
وقال أبو حنيفة وأصحابه لو أحرم المدني من ميقاته كان أحب إليهم فإن لم يفعل فأحرم من الجحفة فلا شيء عليه
وهو قول الأوزاعي وأبي ثور
وكره أحمد بن حنبل وإسحاق مجاوزة ذي الحليفة إلى الجحفة ولم يوجب الدم في ذلك
وقد روي عن عائشة أنها كانت إذا أرادت الحج أحرمت من ذي الحليفة وإذا أرادت العمرة أحرمت من الجحفة
واختلفوا فيمن جاوز الميقات وهو يريد الإحرام بالحج والعمرة ثم رجع إلى الميقات فقال مالك إذا جاوز الميقات ولم يحرم منه فعليه دم ولم ينفعه رجوعه وهو قول أبي حنيفة وعبد الله بن المبارك
وقال الشافعي والأوزاعي وأبو يوسف ومحمد إذا رجع إلى الميقات فقد سقط عنه الدم لبى أو لم يلب
وروي عن أبي حنيفة أنه إن رجع إلى الميقات فلبى سقط عنه الدم وإن لم يلب لم يسقط عنه الدم
وكلهم يقول إنه إن لم يرجع وتمادى فعليه دم
وللتابعين في هذه المسألة أقاويل أيضا غير هذه
أحدها أنه لا شيء على من ترك الميقات هذا قول عطاء والنخعي
وقول آخر أنه لا بد له أن يرجع إلى الميقات فإن لم يرجع حتى قضى حجة فلا حج له
هذا قول سعيد بن جبير
وقول آخر وهو أنه يرجع إلى الميقات كل من تركه فإن لم يفعل حتى تم حجه رجع إلى الميقات فأهل منه بعمرة
روي هذا عن الحسن البصري
41

وهذه الثلاثة الأقوال شذوذ صعبة عند فقهاء الأمصار لأنها لا أصل لها في الآثار ولا تصح في النظر
واختلفوا في العبد يجاوز الميقات بغير نية إحرام ثم يحرم
فقال مالك أيما عبد جاوز الميقات لم يأذن له سيده في الإحرام ثم أذن له بعد مجاوزته الميقات فأحرم فلا شيء عليه
وهو قول الثوري والأوزاعي
وقال أبو حنيفة عليه دم لتركه الميقات وكذلك إن أعتق
اضطرب الشافعي في هذه المسألة فمرة قال في العبد عليه دم كما قال أبو حنيفة
وقال في الكافر يجاوز الميقات ثم يسلم فلا شيء عليه
قال مالك وكذلك في الصبي يجاوزه ثم يحتلم فلا شيء عليه
وقال مرة أخرى لا شيء على العبد وعلى الصبي وعلى الكافر إذا أحرما من مكة
ومرة قال عليهم بلادهم وهو تحصيل مذهبه
قال أبو عمر الصحيح عندي في هذه المسألة أنه لا شيء على واحد منهم لأنه لم يحضر بالميقات مريدا للحج فإنما يجاوزه وهو غير قاصد إلى الحج ثم حدث له حال وقته بمكة فأحرم منها فصار كالمكي الذي لا حرم عليه عند الجميع
وقال مالك من أفسد حجته فإنه يقضيها من حيث كان أحرم بالحجة الذي أفسد
وهو قول الشافعي وهو عند أصحابهما على الاختيار
واتفق مالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم والثوري وأبو ثور على أن من مر بالميقات لا يريد حجا ولا عمرة ثم بدا له الحج والعمرة وهو قد جاوز الميقات أنه يحرم من الموضع الذي بدا له منه في الحج ولا يرجع إلى الميقات ولا شيء عليه
وقال أحمد وإسحاق يرجع إلى الميقات ويحرم منه
وأما حديثه عن نافع عن بن عمر أنه أهل من الفرع فمجملة عند أهل العلم أنه مر بالميقات لا يريد إحراما ثم بدا له فأهل منه أو جاء إلى الفرع من مكة وغيرها ثم بدا له في الإحرام هكذا ذكر الشافعي وغيره في معنى حديث بن عمر هذا
42

ومعلوم أن عمر روى حديث المواقيت ومحال أن يتعدى ذلك مع علمه به فوجب على نفسه دما هذا لا يدخله عالم فأجمعوا كلهم على أن من كان أهله دون المواقيت إلى مكة أن ميقاته من أهله حتى يبلغ مكة على ما في حديث بن عباس
وفي هذه المسألة أيضا قولان شاذان
أحدهما لأبي حنيفة فيمن منزله بين المواقيت ومكة قال يحرم من موضعه فإن لم يفعل فلا يدخل الحرم إلا حرام فإن دخله غير حرام فليخرج من الحرم وليهل من حيث شاء من المهل وسائر العلماء لا يلزمونه الخروج من الحرم إلى الحل في الحج وإنما يلزمه عندهم أن ينشئ حجة من حيث نواه
(والقول الآخر لمجاهد) قال إذا كان الرجل منزلة بين مكة والميقات أهل من مكة وأما إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة بعمرة فذلك منصرفه من حنين إلى مكة والعمرة لا ميقات لها إلا الحل فمن أتى الحل أهل بها منشؤها قريبا أو بعيدا فلا حرج وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء والحمد لله
((9 - باب العمل في الإهلال))
695 - ذكر فيه مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك
قال وكان عبد الله بن عمر يزيد فيها لبيك لبيك لبيك وسعديك والخير بيديك لبيك والرغباء إليك والعمل
كذا روى هذا الحديث جماعة رواة عن مالك وكذلك رواه أصحاب نافع أيضا
ورواه بن شهاب عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله
وروى بن مسعود وجابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذا في تلبية رسول الله (عليه السلام) دون زيادة بن عمر من قوله
43

وفي حديث أبي هريرة زيادة لبيك إله الحق
واختلفت الروايات في فتح إن وكسرها وقوله إن الحمد والنعمة لك وأهل العربية يختارون في ذلك الكسر
وأجمع العلماء على القول بهذه التلبية واختلفوا في الزيادة فيها
فقال مالك أكره أن يزيد على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو أحد قولي الشافعي
وقد روي عن مالك انه لا بأس أن يزاد فيها ما كان بن عمر يزيده في هذا الحديث
وقال الشافعي لا أحب أن يزيد على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا شيئا يعجبه فيقول لبيك إن العيش عيش الآخرة
وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد بن حنبل وأبو ثور لا بأس بالزيادات في التلبية على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد فيها ما شاء
قال أبو عمر من حجة من ذهب إلى هذا ما رواه القطان عن جعفر بن محمد قال حدثني أبي عن جابر بن عبد الله قال أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر التلبية بمثل حديث بن عمر
قال والناس يزيدون لبيك ذا المعارج ونحوه من الكلام والنبي (عليه السلام) يسمع فلا يقول لهم شيئا
واحتجوا أيضا بأن بن عمر كان يزيد فيها ما ذكره مالك وغيره عن نافع في هذا الحديث
وما روي عن عمر بن الخطاب أنه كان يقول بعد التلبية لبيك ذا النعماء والفضل الحسن لبيك مرهوبا منك ومرغوبا إليك
وعن أنس بن مالك انه كان يقول في تلبيته لبيك حقا حقا تعبدا وزقا
ومن كره الزيادة في التلبية احتج بأن سعد بن أبي وقاص أنكر على من سمعه يزيد في التلبية ما لم يعرفه
وقال ما كنا نقول هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
رواه يحيى بن سعيد عن بن عجلان قال حدثني عبد الله بن أبي سلمة عن سعد
44

قال أبو عمر من زاد في التلبية ما يجمل ويحسن من الذكر فلا بأس ومن اقتصر على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أفضل عندي
ومعنى التلبية إجابة عباد الله عز وجل ربهم فيما فرض عليهم من حج بيته والإقامة على طاعته
يقال منه قد ألب بالمكان إذا أقام به
وقال الراجز (لب بأرض ما تخطاها الغنم
*)
وإلى هذا ذهب الخليل
قال أبو عمر وقال جماعة من العلماء إن معنى التلبية إجابة إبراهيم عليه السلام حين أذن بالحج في الناس
روى جرير عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن بن عباس قال لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قيل له أذن في الناس بالحج قال رب وما يبلغ الصوت قال أذن وعلي البلاغ فنادى إبراهيم أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق قال فسمعه ما بين السماوات والأرض أفلا ترون الناس يجيؤون من أقطار الأرض يلبون
وروى بن جريج عن مجاهد في قوله تعالى " وأذن في الناس بالحج الحج 27] قال قام إبراهيم على مقامه قال أيها الناس أجيبوا ربكم فقالوا اللهم لبيك فمن حج البيت فهو ممن أجاب إبراهيم يومئذ
قال أبو عمر معنى لبيك اللهم لبيك أي إجابتي إليك إجابة بعد إجابة
ومعنى قول بن عمر لبيك وسعديك أي أسعدنا سعادة بعد سعادة وإسعاد بعد إسعاد
وقد قيل معنى وسعديك سعادة لك
وكان ثعلب يقول إن بالكسر في قوله إن الحمد والنعمة لك أحب إلي لأن الذي يكسرها يذهب إلى أن الحمد والنعمة لك على كل حال والذي يفتح يذهب إلى أن المعنى لبيك إلى أن الحمد لك أي لبيك ولهذا السبب
واستحب الجميع أن يكون ابتداء المحرم بالتلبية بأثر صلاة يصليها
45

وكان مالك يستحب أن يبتدئ المحرم بالتلبية بإثر صلاة نافلة أقلها ركعتان وكره أن يحرم بإثر الفريضة دون نافلة فإن أحرم بإثر صلاة مكتوبة فلا حرج
وقال غيره ويحرم بإثر نافلة أو فريضة من ميقاته إذا كانت صلاة يتنفل بعدها فإن كان في غير وقت صلاة لم يبرح حتى يحل وقت صلاة فيصلي ثم يحرم إذا استوت به راحلته وكان ممن يمشي فإذا خرج من المسجد أحرم
وقال العلماء بتأويل القرآن في قوله (عز وجل) * فمن فرض فيهن الحج البقرة 197] قالوا الفرض التلبية
قاله عطاء وطاوس وعكرمة وغيرهم
وقال بن عباس الفرض الإهلال والإهلال التلبية
وقال بن مسعود وبن الزبير الفرض الإحرام وهو كله معنى واحد وقالت عائشة لا إحرام إلا لمن أحرم ولبى
وقال الثوري الفرض الإحرام والإحرام التلبية والتلبية في الحج مثل التكبير في الصلاة
قال أبو عمر اللفظ بالتلبية في حين فرض الإحرام عند الثوري وأبي حنيفة ركن من أركان الحج والحج إليها مفتقر ولا تجزئ التلبية عنها عندهما إلا أن أبا حنيفة يجوز عنده سائر الوجوه من التهليل والتكبير والتسبيح عن التلبية كما يفعل في الإحرام بالصلاة
ولم أجد عند الشافعي نصا في ذلك وأصوله تدل على أن التلبية ليست من أركان الحج عنده
وهو قول الحسن بن حي
وأوجب التلبية أهل الظاهر داود وغيره
وقال الشافعي تكفي النية في الإحرام بالحج من أن يسمى حجا أو عمرة
قال وإن لبى حجا أو عمرة لحجة يريد عمرة فهي عمرة وإن لبى بحج يريد عمرة فهي عمرة وإن لبى بحج يريد عمرة فهو حج وإن لبى ليس يريد حجا ولا عمرة فليس بحج ولا عمرة وإن لبى ينوي الإحرام ولا ينوي حجا ولا عمرة فله الخيار يجعله أيهما شاء وإن لبى وقد نوى أحدهما فنسي فهو قارن لا يجزئه غير ذلك
هذا قول الشافعي
قال أبو عمر ذكر إسماعيل بن إسحاق عن أبي ثابت قال قيل لابن
46

القاسم أرأيت المحرم من مسجد ذي الحليفة إذا توجه من فناء المسجد بعد أن صلى فتوجه وهو ناس أن يكون في توجهه محرما
فقال بن القاسم أراه محرما فإن ذكر من قريب لبى ولا شيء عليه وإن تطاول ذلك عليه ولم يذكر حتى خرج من حجه رأيت أن يهريق دما
قال إسماعيل وهذا يدل على أن الإهلال للإحرام ليس عنده بمنزلة التكبير للدخول في الصلاة لأن الرجل لا يكون داخلا في الصلاة إلا بالتكبير ويكون داخلا في الإحرام بالتلبية وبغير التلبية من الأعمال التي توجب الإحرام بها على نفسه مثل أن يقول قد أحرمت بالحج والعمرة أو يشعر الهدي وهو يريد بإشعاره الإحرام أو يتوجه نحو البيت وهو يريد بتوجهه الإحرام فيكون بذلك كله وما أشبهه محرما
وكان مالك يرى على من ترك التلبية من أول إحرامه إلى آخر حجة دما يهريقه
وكان الشافعي وأبو حنيفة لا يريان على من احرم على ما قد قدمنا عنهما ثم لم يلب إلى آخر الحج شيئا
وفي هذا الباب
696 - مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي في مسجد ذي الحليفة ركعتين فإذا استوت به راحلته أهل
697 - وذكر عن موسى بن عقبة عن سالم بن عبد الله أنه سمع أباه يقول بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد يعني مسجد ذي الحليفة
698 - وعن نافع أن عبد الله بن عمر كان يصلي في مسجد ذي الحليفة ثم يخرج فيركب فإذا استوت به راحلته أحرم
47

699 - مالك بلغه أن عبد الملك بن مروان أهل من عند مسجد ذي الحليفة حين استوت به راحلته وأن أبان بن عثمان أشار عليه بذلك
قال أبو عمر أما حديث هشام بن عروة فلم يختلف الرواة عن مالك في إرساله ومعناه قد روي من وجوه ذكرت أكثرها في التمهيد
وفيه من الفقه أن الإهلال سنته أن تكون قبله صلاة نافلة أقلها ركعتان ثم يهل بإثرها ويركب فيهل أيضا إذا ركب
حدثنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال حدثني عيسى بن إبراهيم عن بن وهب قال أخبرنا يونس عن بن شهاب أن سالم بن عبد الله أخبره أن عبد الله بن عمر قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يركب راحلته بذي الحليفة ثم يهل حتى تستوي به قائمة
حدثنا عبد الله قال حدثنا محمد قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن حنبل قال حدثنا محمد بن بكر قال أخبرنا بن جريج عن محمد بن المنكدر عن أنس قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعا وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين ثم بات بذي الحليفة حتى أصبح فلما ركب راحلته واستوت به أهل
قال أبو عمر يعني بعد أن ركع الركعتين اللتين في حديث هشام بن عروة بعد طلوع الشمس وأحرم بإثرهما
وأما قوله في حديث موسى بن عقبة بيداؤكم هذه فإنه أراد موضعكم الذي تزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يهل إلا منه قال ذلك بن عمر منكرا لقول من قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أهل في حجته حين أشرف على البيداء والبيداء الصحراء يريد بيداء ذي الحليفة
وأما قوله ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم فالإهلال في الشريعة هو الإحرام وهو فرض الحج وهو التلبية بالحج أو العمرة وقوله لبيك اللهم لبيك وينوي ما شاء من حج أو عمرة
واتفق مالك والشافعي على أن النية في الإحرام تجزئ عن الكلام ولا قضاء
48

وناقض أبو حنيفة فقال إن الإحرام عنده من شرطه التلبية ولا يصح إلا بالنية كما لا يصح الدخول في الصلاة إلا بالنية والتكبير جميعا
ثم قال فيمن أغمي عليه فأحرم عنه أصحابه ولم يفق حتى فاته الوقوف بعرفة يجزئه إحرام أصحابه عنه
وبه قال الأوزاعي
قال مالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد من عرض له هذا فقد فاته الحج ولا ينفعه إحرام أصحابه عنه
وناقض مالك أيضا فقال من أغمي عليه فلم يحرم فلا حج له ومن وقف بعرفة مغمى عليه أجزأه
وقال بعض أصحابنا ليس بتناقض لأن الإحرام لا يفوت إلا بفوت عرفة وحسب المغمى عليه أن يحرم إذا أفاق قبل عرفة فإذا أحرم ثم أغمي عليه فوقف مغمى عليه أجزأه من اجل أنه على إحرامه
قال أبو عمر الذي يدخل علينا أن الوقوف بعرفة فرض ويستحيل أن يتأدى من غير قصد إلى أدائه كالإحرام سواء وكسائر الفروض لا تسقط إلا بالقصد إلى أدائها بالنية والعمل حتى يكملها هذا هو الصحيح
ووافق أبو حنيفة مالكا فيمن شهد عرفة مغمى عليه ولم يفق حتى انصدع الفجر
وخالفهما الشافعي فلم يجز للمغمى عليه وقوفا بعرفة حتى يصبح عالما بذلك قاصدا إليه
وبقول الشافعي قال أحمد وإسحاق وأبو ثور وداود وأكثر الناس
واختلفت الآثار في الموضع الذي أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم منه لحجته من أقطار ذي الحليفة
فقال قوم أحرم من مسجد ذي الحليفة بعد أن صلى فيه
وقال آخرون لم يحرم إلا من بعد أن استوت به راحلته بعد خروجه من المسجد
وقال آخرون إنما أحرم حين أطل على البيداء وأشرف عليها
وقد أوضح بن عباس المعنى في اختلافهم
فأما الآثار التي ذكر فيها أنه أهل حين أشرف على البيداء ف
49

روى أشعث عن الحسن عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر ثم ركب راحلته فلما علا على جبل البيداء أهل
وروى شعبة عن موسى بن عقبة عن سالم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم من البيداء وربما قال من المسجد حين استوت به راحلته
رواية شعبة لهذا الحديث عن موسى بن عقبة مخالفة لرواية مالك عنه بإسناد واحد
وحديث عبيد بن جريج عن بن عمر فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يهل حتى تنبعث به راحلته
وحديث محمد بن إسحاق عن أبي الزناد عن عائشة بنت سعد عن أبيها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخذ طريق الفرع أهل إذا استوت به راحلته وإذا أخذ طريق الفرع أهل إذا أشرف على البيداء
ففي هذه الآثار كلها الإهلال بالبيداء وهي مخالفة لحديث مالك في هذا الباب
وقد ذكر أبو داود وغيره هذه الأحاديث كلها وهي صحيحة وحديث بن عباس يفسر ما أوهم الاختلاف بينها والحمد لله
حدثنا عبد الله قال حدثنا محمد قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن منصور قال حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعيد قال حدثني أبي عن بن إسحاق قال حدثني خصيف عن سعيد بن جبير قال قلت لابن عباس عجبت لاختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أوجب حجته فقال إني لأعلم الناس بذلك خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صلى بمسجده ذي الحليفة ركعتيه أوجبه في مجلسه فأهل بالحج حين فرغ من الركعتين فسمع ذلك منه أقوام فحفظوا عنه ذلك ثم ركب فلما استقلت به ناقته أهل وأدرك ذلك منه أقوام فحفظوا ذلك عنه وذلك أن الناس إنما كانوا يأتون أرسالا فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل فقالوا إنما أهل حين استقلت به ناقته ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما وقف
50

على شرف البيداء أهل وأدرك ذلك منه أقوام فقالوا إنما أهل على شرف البيداء
فمن أخذ من قول بن عباس أهل في مصلاه إذا فرغ من ركعتيه
وفي هذا الباب
700 - مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن عبيد بن جريج أنه قال لعبد الله بن عمر يا أبا عبد الرحمن رأيتك تصنع أربعا لم أر أحدا من أصحابك يصنعها قال وما هن يا بن جريج قال رأيتك لا تمس من الأركان إلا اليمانيين ورأيتك تلبس النعال السبتيه ورأيتك تصبغ بالصفرة ورأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس إذا رأوا الهلال ولم تهلل أنت حتى يكون في يوم التروية فقال عبد الله بن عمر أما الأركان فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمس إلا اليمانيين وأما النعال السبتية فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعال التي ليس فيها شعر ويتوضأ فيها فأنا أحب أن ألبسها وأما الصفرة فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها فأنا أحب أن
أصبغ بها وأما الإهلال فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل حتى تنبعث به راحلته
قال أبو عمر عبيد بن جريج من ثقات التابعين
ذكر الحسن الحلواني قال حدثنا أحمد بن صالح قال حدثنا بن وهب قال حدثني أبو صخر عن بن قسيط عن عبيد بن جريج قال حججت مع بن عمر من بين حج وعمرة اثنتي عشرة مرة
قال أبو عمر في هذا الحديث دليل على أن الاختلاف في الأفعال والأقوال
51

والمذاهب كان في الصحابة موجودا وهو عند العلماء أصح ما يكون في الاختلاف إذا كان بين الصحابة وأما ما أجمع عليه الصحابة واختلف فيه من بعدهم فليس اختلافهم بشيء وإنما وقع الاختلاف بين الصحابة بالتأويل المحتمل فيما سمعوه أو رأوه أو فيما انفرد بعلمه بعضهم دون بعض أو فيما كان منه صلى الله عليه وسلم على طريق الإباحة في فعله لشيئين مختلفين في وقته
وفي هذا الحديث دليل على أن الحجة عند الاختلاف سنة وأنها حجة على ما خلفها وليس من خالفها عليها حجة
ألا ترى أن بن عمر لما قال له بن جريج رأيتك تصنع أشياء لم يصنعها أحد من أصحابك لم يستوحش من مفارقة أصحابه إذ كان عنده في ذلك علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل له بن جريج الجماعة أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منك ولعلك قد وهمت كما يقول اليوم من لا علم له بل انقاد للحق إذ سمعه وهكذا يلزم الجميع
وأما قوله رأيتك لا تمس من الأركان إلا اليمانيين فالسنة التي عليها جمهور الفقهاء وأئمة الفتوى بالأمصار أن ذينك الركنين يستلمان دون غيرهما
وروينا عن بن عمر أنه قال ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم استلام الركنين الذين يليان الحجر أن البيت لم يتم على قواعد إبراهيم
وأما السلف فقد اختلفوا في ذلك
فروي عن جابر وأنس وبن الزبير والحسن والحسين (رضي الله عنهم) أنهم كانوا يستلمون الأركان كلها
وعن عروة مثل ذلك
وعن جابر بن زيد ومن يتق شيئا من البيت وكان معاوية يستلم الأركان فقال بن عباس لمعاوية ألا تقتصر على استلام الركنين فقال معاوية ليس شيء من البيت مهجورا
حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بكر بن
52

حماد قال حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن شعبة عن قتادة عن أبي الطفيل قال حج بن عباس فجعل معاوية يستلم الأركان كلها قال بن عباس إنما استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذين الركنين الأيمنين فقال معاوية ليس من أركانه مهجور
أخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا الطيالسي قال حدثنا ليث بن سعد عن بن شهاب عن سالم عن بن عمر قال لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح من البيت إلا الركنين اليمانيين
وأما قوله رأيتك تلبس النعال السبتية فهي النعال السود التي ليس فيها الشعر
ذكره بن وهب صاحب مالك
وقال الخليل السبت الجلد المدبوغ بالقرظ
وقال الأصمعي هو الذي ذكره بن قتيبة
وقال أبو عمرو الشيباني هو كل جلد مدبوغ
وقال أبو زيد جلود البقر خاصة مدبوغة كانت أو غير مدبوغة ولا يقال لغيرها سبت وجمعها سبوت
وقال غيره السبت نوع من الدباغ يقلع الشعر وتلبس النعال منها
قال أبو عمر لا أعلم خلافا في جواز لباس النعال السبتية في غير المقابر وأما في المقابر فقد جاء فيها عن النبي (عليه السلام) وعن العلماء ما قد ذكرناه في التمهيد وليس هذا موضع ذكره
وأما قوله في حديث مالك ورأيتك تصبغ بالصفرة وقول بن عمر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها فإن العلماء اختلفوا في تأويل هذا الحديث
فقال قوم أراد الخضاب بها واحتجوا برواية مسدد وغيره عن يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله بن عمر قال حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري عن
53

بن جريج قال قلت لابن عمر أربع خصال رأيتك تضعهن قال وما هن قلت رأيتك تلبس النعال السبتية ورأيتك لا تستلم غير الركنين اليمانيين ورأيتك تصفر لحيتك وساق الحديث
وفيه وأما تصفيري لحيتي فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفر لحيته وذكر تمام الخبر
ومثل ذلك رواية محمد بن إسحاق لهذا الحديث عن سعيد بن أبي سعيد عن عبيد بن جريج قال قلت لابن عمر يا أبا عبد الرحمن رأيتك تصفر لحيتك قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصفر بالورس فأنا أحب أن أصفر به كما كان يصنع
ورواه حماد بن سلمة عن عبيد الله بن عمر عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن بن جريج قال رأيت بن عمر يصفر لحيته قلت له رأيتك تصفر لحيتك قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفر لحيته
وروى عيسى بن يونس عن عبد الواحد بن زياد عن الحجاج عن عطاء رأيت بن عمر ولحيته صفراء
وقد ذكرنا أسانيد هذه الأحاديث عن الذي ذكرنا عنهم في التمهيد
وذكرنا حديث أبي الدرداء أنه قال ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخضب ولكنه قد كان فيه شعرات بيض فكان يغسلها بالحناء والسدر
وقد ذكر بن أبي خيثمة في هذا اخبارا كثيرة وفي هذه أيضا
وقال آخرون معنى قول عبيد بن جريج في حديث مالك رأيتك تصبغ بالصفرة أراد أنه كان يصفر ثيابه ويلبس ثيابا صفرا وأما الخضاب فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخضب واحتجوا بآثار كثيرة قد ذكرنا في هذا الموضع وفي باب ربيعة من التمهيد وفي كتاب الجامع منها ديوان من ذلك كفاية
وقد حدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا أحمد بن سعد قال حدثنا زهير بن معاوية عن حميد الطويل قال سئل أنس بن مالك عن الخضاب فقال خضب أبو بكر بالحناء والكتم فخضب عمر بالحناء قيل له فرسول الله صلى الله عليه وسلم قال لم يكن في لحيته عشرون شعرة بيضاء
54

قال حميد كن سبع عشرة شعرة
وحدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا أبي قال حدثنا معاذ بن هشام قال حدثنا أبي عن قتادة قال سألت سعيد بن المسيب أخضب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لم يبلغ ذلك
وذكر مالك عن نافع عن بن عمر أنه كان يلبس الثوب المصبوغ بالمشق والمصبوغ بالزعفران
قال أبو عمر حديث بن عمر هذا يدل على أن قوله في حديث عبيد بن جريج كان في صبغ الثياب بالصفرة لا في خضاب الشعر
وأما قوله في الحديث ورأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس إذا رأوا الهلال ولم تهل أنت حتى كان يوم التروية فقال بن عمر لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل حتى تنبعث به راحلته فإن بن عمر قد جاء بحجة قاطعة نزع بها وأخذ بالعموم في إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يخص مكة من غيرها
وقال لا يهل الحاج إلا في وقت يتصل له عمله وقصده إلى البيت ومواضع المناسك والشعائر لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل واتصل له عمله
وقد تابع بن عمر على إهلاله هذا في إهلال المكي من غير أهلها جماعة من أهل العلم
ذكر عبد الرزاق قال حدثنا معمر عن بن طاوس عن أبيه عن بن عباس قال لا يهل أحد من مكة بالحج حتى يريد الرواح إلى منى
قال بن طاوس وكان أبي إذا أراد أن يحرم من المسجد استلم الركن ثم خرج
قال بن جريج وقال عطاء إهلال أهل مكة أن يهل أحدهم حين تتوجه به دابته نحو منى فإن كان ماشيا فحين يتوجه نحو منى
وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخلوا في حجتهم مع النبي (عليه السلام) عشية التروية حين توجهوا إلى منى
قال بن جريج وأخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله وهو يخبر عن
55

حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال فأمرنا بعد ما طفنا أن نحل قال وإذا أردتم أن تنطلقوا إلى منى فأهلوا قال فأحللنا من البطحاء
وفي هذه المسألة مذهب آخر لعمر بن الخطاب تابعه عليه أيضا جماعة من العلماء سنذكره في باب إهلال أهل مكة إن شاء الله
((10 - باب رفع الصوت بالإهلال))
701 - مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عبد الملك بن أبي بكر بن الحارث بن هشام عن خالد بن السائب الأنصاري عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي ومن معي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية أو بالإهلال يريد أحدهما
702 - وذكر أنه سمع أهل العلم يقولون ليس على النساء رفع الصوت بالتلبية لتسمع المرأة نفسها
قال مالك لا يرفع المحرم صوته بالإهلال في مساجد الجماعات ليسمع نفسه ومن يليه إلا في المسجد الحرام ومسجد منى فإنه يرفع صوته فيهما
قال مالك سمعت بعض أهل العلم يستحب التلبية دبر كل صلاة وعلى كل شرف من الأرض
قال أبو عمر في حديث أبي قلابة عن أنس قال سمعتهم يصرخون بهما جميعا
والصراخ الصياح
وقد أوجب أهل الظاهر رفع الصوت بالتلبية فرضا ولم يوجبه غيرهم وهو عندهم سنة
قال مالك يرفع المحرم صوته بالتلبية قدر ما يسمع نفسه وكذلك المرأة ترفع صوتها قدر ما تسمع نفسها
56

وقال إسماعيل بن إسحاق الفرق بين المسجد الحرام ومسجد منى وبين سائر المساجد في رفع الصوت بالتلبية أن مساجد الجماعة إنما بنيت للصلاة خاصة فكره رفع الصوت فيها وجاءت الكراهية في رفع الصوت فيها عاما لم يخص أحدا من أحد إلا الإمام الذي يصلي بالناس فيها فدخل الملبي في الجملة ولم يدخل في ذلك في المسجد الحرام ومسجد منى لأن المسجد الحرام جعل للحاج وغير الحاج قال الله تعالى * (سواء العاكف فيه والباد) * [الحج 25] وكان الملبي إنما يقصد إليه فكان له فيه من
الخصوص ما ليس في غيرها وأما مسجد منى فإنه للحاج خاصة
وقد ذكر أبو ثابت عن بن نافع عن مالك أنه سئل هل ترفع المرأة المحرم صوتها بالتلبية في المساجد بين مكة والمدينة قال نعم قال لا بأس بذلك
قال إسماعيل لأن هذه المساجد إنما جعلت للمارين وأكثرهم المحرمون فهم من النوع الذي وصفناه
وقال أبو حنيفة والثوري وأصحابهما والشافعي يرفع المحرم صوته بالتلبية عند اصطدام الرفاق والإشراف والهبوط واستقبال الليل في المساجد كلها
وقد كان الشافعي يقول بالعراق مثل قول مالك ثم رجع إلى هذا على ظاهر حديث هذا الباب وعمومه لأنه لم يخص فيه موضعا من موضع
وكان بن عمر يرفع صوته بالتلبية
وقال بن عباس هي زينة الحاج
وقال أبو حازم كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبلغون الروحاء حتى تبح حلوقهم من التلبية
وأجمع أهل العلم أن السنة في المرأة أن لا ترفع صوتها وإنما عليها أن تسمع نفسها فخرجت من جملة ظاهر الحديث وخصت بذلك وبقي الحديث في الرجال واستبعدهم به من ساعده ظاهره وبالله التوفيق
ذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم قال كان بن عمر يرفع صوته بالتلبية فلا يأت الروحاء حتى يصحل صوته
قال الخليل صحل صوته يصحل صحلا فهو أصحل إذا كانت فيه بحة
وأما قوله عن بعض أهل العلم أنه كان يستحب التلبية دبر كل صلاة وعلى كل شرف فهو مستحب عند جميع العلماء لا يختلفون فيه
57

((11 - باب إفراد الحج))
703 - ذكر فيه مالك عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحجة وعمرة ومنا من أهل بالحج وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج فأما من أهل بعمرة فحل وأما من أهل بحج أو جمع الحج والعمرة فلم يحلوا حتى كان يوم النحر
704 - وعن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج يحيى
705 - وعن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن عن عروة بن الزبير عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله
706 - مالك أنه سمع أهل العلم يقولون من أهل بحج مفرد ثم بدا له أن يهل بعده بعمرة فليس له ذلك
قال مالك وذلك الذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا
قال أبو عمر أما قول عائشة في حديث أبي الأسود خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ففيه من الفقه خروج النساء في شهر الحج مع أزواجهن ولا خلاف في هذا بين العلماء
واختلفوا في المرأة لا يكون لها زوج ولا ذو محرم منها هل تخرج إلى الحج دون ذلك مع النساء أم لا وهل للمحرم من الاستطاعة أم لا سنذكر الاختلاف في
58

ذلك عند قوله (عليه السلام) لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم
وفي حديث عائشة إفراد الحج وإباحة التمتع بالعمرة إلى الحج وإباحة القران وهو جمع الحج مع العمرة ولا خلاف بين العلماء في ذلك وإنما اختلفوا في الأفضل من ذلك
وكذلك اختلفوا فيما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم به محرما في خاصته عام حجة الوداع
وأما مالك قال في ذلك بما روي عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة وعن الأسود عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج
وروي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة وجابر
ذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال بلغنا أن عمر بن الخطاب قال في قوله (عز وجل) * (وأتموا الحج والعمرة لله) * [البقرة 196] قال من تمامها أن تفرد كل واحدة منهما من الأخرى وأن تعمر في غير أشهر الحج فإن الله (عز وجل) يقول الحج أشهر معلومات) [البقرة 197]
قال أبو عمر الإفراد أحد قولي الشافعي وقول عبد العزيز بن أبي سلمة والأوزاعي وعبيد الله بن الحسن
وبه قال أبو ثور
وروى محمد بن الحسن عن مالك أنه قال إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان مختلفان وبلغنا أن أبا بكر وعمر عملا بأحد الحديثين وتركا الآخر فإن في ذلك ذكر له لا أن الحق ما عملا به
قال أبو عمر وقد روى الإفراد عن النبي (عليه السلام) جابر بن عبد الله وطرق حديثه وأثره صحاح عنه وقد ذكرنا منها في التمهيد ما فيه كفاية
والحجة أيضا في إفراد الحج حديث بن عيينة عن الزهري عن عروة عن
59

عائشة في هذا الحديث قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال من أراد أن يهل بحج فليهل ومن أراد أن يهل بعمرة فليفعل
قالت عائشة فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج الحديث وروى الحميدي عن الدراوردي عن علقمة بن أبي علقمة عن أمه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أفرد الحج
والأحاديث عن عائشة مضطربة في هذا جدا
واستحب آخرون التمتع بالعمرة إلى الحج وقالوا ذلك أفضل
وهو مذهب عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وبن الزبير وعائشة أيضا وهو مذهب عطاء بن أبي رباح وأهل مكة
وقد روى الثوري عن بن حصين عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه أنه قرن الحج مع أبي بكر وعمر
رواه عن الثوري عبد الرزاق وغيره
قال عبد الرزاق أخبرنا عمر بن ذر قال حججت فأمرني أبي أن أفرد الحج فذهبت مع نفر من مكة فسألنا عطاء بن أبي رباح فأمرني بالمتعة فلقيت عامرا الشعبي فقال هيه يا بن ذر أما اقتاد أهل مكة وما قال لك بن أبي رباح قال ما رأيتهم يعدلون بالمتعة فقال الشعبي أما أنا فحجة عراقية أحب إلي من حجة مكة
وبه قال أحمد بن حنبل وهذا أحد قولي الشافعي
واحتج القائلون بذلك بحديث الليث عن عقيل عن بن شهاب عن سالم عن بن عمر قال تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وساق الهدي معه من ذي الحليفة وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج يتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج
قال عقيل قال بن شهاب وأخبرني عروة عن عائشة بمثل خبر سالم عن أبيه في تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج واحتجوا بحديث سعد بن أبي وقاص في المتعة صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنعناها معه
60

وبحديث عمران بن حصين تمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم متعة الحج
وبحديث مالك وعبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر عن حفصة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما شأن الناس حلوا بعمرة ولم تحل أنت من عمرتك
واحتجوا بحديث الثوري عن ليث عن طاوس عن بن عباس قال تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات وأبو بكر حتى مات وعمر حتى مات وعثمان حتى مات وأول من نهى عنها معاوية
قال أبو عمر حديث ليث هذا منكر والمشهور عن عمر وعثمان أنهما كانا لا يريان التمتع ولا القران
وذكر عبد الرزاق عن معمر عن أيوب قال قال عروة لابن عباس ألا تتق الله ترخص في المتعة فقال بن عباس سل أمك يا عرية فقال عروة أما أبو بكر وعمر فلم يفعلا فقال بن عباس والله ما أراكم بمنتهين حتى يعذبكم الله (عز وجل) نحدثكم عن النبي صلى الله عليه وسلم وتحدثونا عن أبي بكر وعمر
قال أبو عمر قد كان جماعة من العلماء يزعمون أن المتعة التي نهى عنها عمر (رضي الله عنه) وضرب عليها فسخ الحج في عمرة فأما التمتع بالعمرة إلى الحج فلا
وزعم من صحح نهي عمر عن التمتع أنه إنما نهى عنه لينتجع البيت مرتين أو أكثر في العام
وقال آخرون إنما نهى عنها عمر لأنه رأى الناس مالوا إلى التمتع ليسارته وخفته فخشى أن يضيع القران والإفراد وهما سنتان للنبي (عليه السلام)
وروى الزهري عن سالم قال سئل بن عمر عن متعة الحج فأمر بها فقيل له إنك تخالف أباك فقال إن عمر لم يقل الذي تقولون إنما قال عمر أفردوا الحج من العمرة فإنه أتم للعمرة
أي أن العمرة لا تتم في شهور الحج إلا بهدي وأراد أن يزار البيت في غير شهور الحج فجعلتموها أنتم حراما وعاقبتم الناس عليها وقد أحلها الله (عز
61

وجل) وعمل بها رسوله صلى الله عليه وسلم فإذا أكثروا عليه قال كتاب الله بيني وبينكم كتاب الله أحق أن يتبع أم عمر
وقال أحمد بن حنبل لا يشك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قارنا والتمتع أحب إلي
واحتج في اختيار التمتع بقوله (عليه السلام) لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي وجعلتها عمرة
وقال آخرون القران أفضل وهو أحب إليهم منهم أبو حنيفة والثوري
وبه قال المزني صاحب الشافعي قال لأنه يكون مؤديا للفرضين جميعا
قال إسحاق كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع قارنا
وهو قول علي بن أبي طالب وجماعة من التابعين وغيرهم
قال أبو حنيفة القران أفضل ثم التمتع ثم الإفراد
وقال أبو يوسف القران والتمتع سواء وهما أفضل من الإفراد واحتج من استحب القران وفعله بآثار منها حديث بن عباس عن عمر بن الخطاب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بوادي العقيق أتاني الليلة آت من ربي فقال صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة
ذكره البخاري قال حدثني الحميدي قال حدثنا الوليد وبشر بن بكر التنيسي قالا حدثنا الأوزاعي قال حدثنا يحيى قال حدثنا عكرمة أنه سمع بن عباس أنه سمع عمر فذكره
وبحديث الصبي بن معبد عن عمر بن الخطاب قال الصبي أهللت بالحج والعمرة جميعا فلما قدمت على عمر ذكرت ذلك له فقال هديت لسنة نبيك (عليه السلام
62

وهذا الحديث حدثناه سعيد وعبد الوارث قالا حدثنا قاسم قال حدثنا محمد بن إسماعيل قال حدثنا الحميدي قال حدثني سفيان قال حدثنا عبدة بن أبي لبابة وحفظناه عنه غير
مرة قال سمعت أبا وائل شقيق بن سلمة يقول كثيرا ما ذهبت أنا ومسروق إلى الصبي بن معبد استذكره هذا الحديث قال الصبي كنت رجلا نصرانيا فأسلمت فخرجت أريد الحج فلما كنت بالقادسية أهللت بالحج والعمرة جميعا فسمعني سلمان بن ربيعة وزيد بن صوحان فقالا لهذا أضل من بعير أهله فكأنما حمل علي بكلمتهما جبل فلقيت عمر بن الخطاب فأخبرته فأقبل عليهما فلامهما ثم أقبل علي فقال هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم
ومنها حديث حفصة الذي قدمناه
وحديث انس سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لبيك بحجة وعمرة معا
رواه حميد الطويل وحبيب بن الشهيد عن بكر المزني قال بكر فحدثت بذلك بن عمر فقال لبى بالحج وحده فلقيت أنسا فحدثته فقال ما تعدوننا إلا صبيانا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لبيك بعمرة وحجة معا
وهذا الحديث يعارض ما روي عن بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم تمتع ويحتمل قول بن عمر أنه لبى بالحج وحده أي من مكة
وقالت طائفة من العلماء لا يجوز أن يقال في واحد من هذه الوجوه وهي الإفراد والتمتع والقران أنه أفضل من غيره لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أباحها كلها وأذن فيها ورضيها ولم يخبر بأن واحدا منها أفضل من غيره ولا أمكن منها العمل بها كلها في حجته التي لم يحج غيرها
وبهذا نقول وبالله التوفيق
وأما قول مالك أنه سمع أهل العلم يقولون من أهل بحج مفرد ثم بدا له أن يهل بعد بعمرة فليس ذلك له
قال مالك وذلك الذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا
قال أبو عمر اختلف العلماء في إدخال الحج على العمرة والعمرة على الحج
63

فقال مالك يضاف الحج إلى العمرة ولا تضاف العمرة إلى الحج
قال فمن فعل ذلك فليست العمرة بشيء ولا يلزمه لذلك شيء وهو حج مفرد
وكذلك من أهل بحجة فأدخل عليها حجة أخرى وأهل بحجتين لم يلزمه إلا واحدة ولا شيء عليه
وبهذا قال الشافعي في المشهور من مذهبه
وقال ببغداد إذا أهل بحجة فقد قال بعض أصحابنا لا يدخل العمرة عليه والقياس أن أحدهما إذا جاز أن يدخل على الآخر فهما سواء
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد يدخل الحج على العمرة ولا يدخل العمرة على الحج
قال أبو عمر يحتمل من قال تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول من قال إفراد الحج أي أمر به وأجازه وجاز أن يضاف ذلك إليه كما قال (عز وجل) * (ونادى فرعون في قومه) * [الزخرف 51] أي أمر فنودي وإذا أمر الرئيس بالشيء جاز أن يضاف فعله إليه كما يقال رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزنى وقطع في السرقة وتقول العرب
حضرت زرعي ونحو ذلك إذا كان ذلك باد فيه
والاختلاف هنا واسع جدا لأنه مباح كله بإجماع من العلماء والحمد لله
قال أبو حنيفة من أهل بحجتين أو عمرتين لزمتاه وصار رافضا لإحداهما حين يتوجه إلى مكة
قال أبو يوسف تلزمه الحجتان فيصير رافضا لإحداهما ساعتئذ
قال محمد بن الحسن يقول مالك والشافعي تلزمه الواحدة إذا أهل بهما جميعا لا شيء عليه
وقال أبو ثور إذا أحرم بحجة فليس له أن يضم إليها أخرى وإذا أهل بعمرة فلا يدخل عليها حجة ولا يدخل إحرام على إحرام كما لا تدخل صلاة على صلاة
وفي حديث مالك عن أبي الأسود في أول الباب قوله وأما من جمع الحج والعمرة فلم يحلوا حتى كان يوم النحر
ففيه أن من كان قارنا أو مفردا ألا يحل دون يوم النحر وهذا معناه أنه يرمي جمرة العقبة يحل له اللباس وإلقاء التفث كله كل الحيل إلا بطواف الإفاضة فهو الحل كله لمن رمى جمرة العقبة قبل ذلك يوم النحر ضحى ثم طاف الطواف المذكور وهذا لا خلاف فيه
64

((12 - باب القران في الحج))
707 - مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه أن المقداد بن الأسود دخل على علي بن أبي طالب بالسقيا وهو ينجع بكرات له دقيقا وخبطا فقال هذا عثمان بن عفان ينهى عن أن يقرن بين الحج والعمرة فخرج علي بن أبي طالب وعلى يديه أثر الدقيق والخبط فما أنسى أثر الدقيق والخبط على ذراعيه حتى دخل على عثمان بن عفان فقال أنت تنهى عن أن يقرن بين الحج والعمرة فقال عثمان ذلك رأيي فخرج علي مغضبا وهو يقول لبيك اللهم لبيك بحجة وعمرة معا
هذا الحديث منقطع لأن محمد بن علي بن حسين أبا جعفر لم يدرك المقداد ولا عليا
وقد روي من وجوه منها ما حدثنا عبد الله بن محمد بن أمية قال حدثنا حمزة بن محمد قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا أحمد بن إبراهيم قال أخبرنا أبو عامر قال حدثنا شعبة عن الحكم قال سمعت علي بن الحسين يحدث عن مروان أن عثمان نهى عن المتعة وأن يجمع الرجل بين الحج والعمرة فقال عمر لبيك بحجة وعمرة معا فقال
عثمان أتفعلهما وأنا أنهي عنهما وقال علي لم أكن لأدع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد من الناس
ومنها حديث الثوري عن بكير بن عطاء الليثي قال أخبرني حريث بن سليم الفروي قال نهى عثمان عن أن يقرن بين الحج والعمرة فسمعت عليا يقول اللهم لبيك بحجة وعمرة قال عثمان إنك ممن ينظر إليه قال علي وأنت ممن ينظر إليه
ذكره عبد الرزاق عن الثوري
وذكر بن أبي شيبة قال أخبرني الحكم بن عتيبة عن علي بن حسين عن مروان عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن بين الحج والعمرة وأن عليا
65

فعل ذلك أيضا فعاب ذلك عليه عثمان فقال علي ما كنت لأدع شيئا رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله
وذكر البخاري قال حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا غندر قال حدثنا شعبة عن الحكم عن علي بن حسين عن مروان بن الحكم قال شهدت عثمان وعليا رضي الله عنهما وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما فلما رأى ذلك علي أهل بهما لبيك بعمرة وحجة وقال ما كنت لأدع سنة النبي (عليه السلام) لقول أحد
قال وحدثنا قتيبة بن محمد عن شعبة عن عمرو بن مرة عن سعيد بن المسيب قال اختلف علي وعثمان وهما بعسفان فلما رأى ذلك علي أهل بهما جميعا
ومما دل على صحة هذا ما حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا يحيى بن معين قال حدثنا حجاج بن محمد قال حدثنا يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال كنت مع علي (رضي الله عنه) إذ أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليمن قال فأصبت معه أواقي فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد فاطمة قد لبست ثيابا صبيغا ونضحت البيت بنضوح فقال مالك قالت فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أصحابه أن يحلوا قال قلت لها أني أهللت بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي كيف صنعت قال قلت له أهللت بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم قال فإني قد سقت الهدي وقرنت وذكر تمام الحديث
وأخبرنا عبد الله بن محمد بن أسد قال حدثنا حمزة قال حدثنا أحمد بن شعيب قال حدثنا معاوية بن صالح قال حدثنا يحيى بن معين قال حدثنا حجاج بن محمد قال حدثنا يونس بن إسحاق عن أبي إسحاق عن البراء قال كنت مع علي بن أبي طالب على اليمن فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قال علي فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف صنعت قال أهللت بإهلالك قال فإني سقت الهدي وقرنت
66

عبد الله بن محمد قال حدثنا بن حمران قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال حدثني حجاج بن محمد قال حدثنا ليث بن سعد قال حدثنا يزيد بن أبي حبيب عن أبي عمران مولى تجيب قال حججت مع موالي فدخلت على أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فسمعتها تقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أهلوا يا آل محمد بعمرة في حج
وروى سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد قال سمعت عبد الله بن أبي أوفى بالكوفة يقول إنما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الحج والعمرة لأنه علم أنه لا يحج بعدها أبدا
ومما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قارنا من رواية مالك حديثه عن بن شهاب عن عروة عن عائشة قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا
ومعلوم أنه كان معه هدي ساقه صلى الله عليه وسلم ومحال أن يأمر من كان معه هدي بالقرآن ومعه الهدي ولا قارنا
وحديث مالك عن نافع عن بن عمر عن حفصة عن النبي صلى الله عليه وسلم إني قلدت هديا ولبدت رأسي فلا أحل حتى أنحر هديي
وسيأتي في موضعه إن شاء الله
وحديث أنس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي بهما جميعا لبيك عمرة وحجة
قرأت على عبد الوارث بن سفيان أن قاسم بن أصبغ قال حدثنا أبو قلابة قال حدثنا سعيد بن عامر قال حدثني حبيب بن الشهيد عن بكر بن عبد الله المزني عن أنس بن مالك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لبيك حجة وعمرة فذكرت ذلك لابن عمر فقال إنما أهل بالحج فذكرت ذلك لأنس فقال ما يعدونا إلا صبيانا
67

وحدثني عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا سليمان بن حرب وعارم قالا حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس قال سمعتهم يصرخون بهما جميعا
وذكره البخاري عن معاذ بإسناده
وحدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا نصر بن محمد قال حدثنا حميد بن مسعدة قال حدثنا بشر بن المفضل قال حدثنا الأشعث أن الحسن حدثهم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن بين الحج والعمرة وقرن القوم معه فلما قدموا مكة قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أحلوا فهاب القوم فقال لولا أن معي هديا لأحللت فحل القوم حتى حلوا إلى النساء
قال أبو عمر قوله في هذا الحديث وقرن القوم معه يعني من كان معه هدي منهم وقالوا أحلوا لمن لم يكن معه هدي
فهذا بين في هذا الحديث وفي كثير من الأحاديث وحديث حفصة في القرآن وقولها ما شأن الناس حلوا ولم تحل أنت من عمرتك فقال إني لبدت رأسي وقلدت هديا فلا أحل حتى أنحر
هذا لفظ حديث مالك
حدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا بكر قال حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى يعني القطان عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر عن حفصة قالت قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما شأن الناس حلوا ولم تحل أنت من عمرتك قال إني قلدت هديي ولبدت رأسي فلم أحل حتى أحل من الحج
وحديث بن عباس عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أتاني آت من ربي الليلة فقال صل في أصل هذا الوادي المبارك وهو بالعقيق وقل عمرة في حجة
68

وقول عمر للصبي بن معبد إذ سأله عن قران الحج والعمرة وأنه قرنهما فأنكر ذلك عليه سلمان بن ربيعة وزيد بن صوحان فقال له عمر حين ذكر له ذلك هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم
فلهذه الآثار وما كان مثلها رأى علي قران الحج والعمرة وقال لم أكن لأدع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومثل ذلك حديث مالك عن نافع عن بن عمر عن حفصة
وفي حديث هذا الباب ما كان عليه علي (رضي الله عنه) من التواضع في خدمته لنفسه وامتهانه لها وذلك من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
قيل لعائشة (رضي الله عنها) كيف كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته قالت كان يخيط ثوبه ويصلح نعله ويصنع ما يصنع أحدكم في بيته
وفيه من الفقه أن من سمع إنكار شيء في الدين يعتقد جوازه عن صحته أن يبينه على من أنكره ويستعين من يعينه على إظهار ما استتر منه
وذلك أن المقداد كان قد علم أن من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم القران وذلك من المباح المعمول به فذكر ذلك لعلي فرأى علي أن يحرم قارنا ليظهر إلى الناس أن الذي نهى عنه عثمان نهي اختيار لا أنه نهي عن حرام لا يجوز ولا عن مكروه لا يحل وخوفا من أن يكون القران يدرس ويفنى لما كان عليه الثلاثة الخلفاء من الاختيار فتضيع سنة من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وعسى أن يكون علي قد كان يذهب إلى أن القران ليس بدون الإفراد في الفضل أو لعله عنده كان أفضل من الإفراد وقد قدمنا في الباب قبل هذا ذكر القائلين بذلك وذكرنا الآثار التي ورد فيها القران عن النبي صلى الله عليه وسلم
وقال مالك الأمر عندنا أن من قرن الحج والعمرة لم يأخذ من شعره شيئا ولم يحلل من شيء حتى ينحر هديا إن كان معه ويحل بمنى يوم النحر
708 - وروايته عن محمد بن عبد الرحمن عن سليمان بن يسار أن رسول
69

الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع خرج إلى الحج فمن أصحابه من أهل بحج الحديث
فقد مضى معنى هذا الحديث في باب إفراد الحج
وأما قول مالك في القران فلا خلاف بين العلماء أن القارن لا يحل إلا يوم النحر فإذا رمى جمرة العقبة حل له الحلاق والتفث كله فإذا طاف بالبيت حل كل الحل
وقوله حتى ينحر هديا إن كان معه يريد أن القارن إذا لم يجد الهدي فحكمه حكم المتمتع في الصيام وغيره وإحلاله بعد رمي جمرة العقبة كما وصفت له
709 - وأما قول مالك أنه سمع أهل العلم يقولون من أهل بعمرة ثم بدا له أن يحج يهل بحج معها فذلك له ما لم يطف بالبيت وبين الصفا والمروة وقد صنع ذلك عبد الله بن عمر حين قال إن صددت عن البيت صنعنا كما صنعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم التفت إلى أصحابه فقال ما أمرهما إلا واحد أشهدكم إني قد أوجبت الحج مع العمرة
قال وقد أهل (أصحاب) رسول الله صلى الله عليه وسلم [عام حجة الوداع] بالعمرة ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا
قال أبو عمر قد احتج مالك لإدخال الحج على العمرة لقول النبي (عليه السلام) ثم بفعل بن عمر وعليه جمهور العلماء
وقد ذكرنا في الباب من شاهد مخالف في ذلك فقال لا يدخل إحرام على إحرام كما لا تدخل صلاة على صلاة
وهذا قياس في غير موضعه لأنه لا مدخل للنظر مع صحيح الأثر وحمله قول مالك أن الحج يضاف إلى العمرة ولا تضاف العمرة إلى الحج ومن أضاف الحج إلى العمرة فإنما له ذلك ما لم يطف بالبيت على ما قاله مالك فإن طاف فلا يفعل حتى
70

يحل من عمرته فإن فعل بفعله باطل ولا شيء عليه
ومن أضاف الحج إلى العمرة وقد ساق هديا لعمرته فيستحب له مالك أن يهدي معه هديا آخر
قال فإن لم يفعل جزى ذلك عنه وقال أبو حنيفة وأصحابه لا يجوز إدخال العمرة على الحج ومن أدخل الحج على العمرة قبل الطواف لها كان قارنا ومن أدخلها عليها بعد الطواف لها أمر أن يرفض عمرته وعليه دم لرفضها عمرة مكانها
وقال الشافعي إذا أخذ المعتمر في الطواف فطاف لها شوطا أو شوطين لم يكن له إدخال الحج عليها فإن أحرم بالحج في ذلك الوقت لم يكن له إحراما حتى يفرغ من عمل العمرة
((13 - باب قطع التلبية يعني في الحج))
710 - ذكر فيه مالك عن محمد بن أبي بكر الثقفي أنه سأل أنس بن مالك وهما غاديان من منى إلى عرفة كيف كنتم تصنعون في هذا اليوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كان يهل المهل منا فلا ينكر عليه ويكبر المكبر فلا ينكر عليه
711 - وعن جعفر بن محمد عن أبيه أن علي بن أبي طالب كان يلبي في الحج حتى إذا زاغت الشمس من يوم عرفة قطع التلبية
قال مالك وذلك الأمر الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا
712 - وذكر عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها كانت تترك التلبية إذا رجعت إلى الموقف
713 - وعن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقطع التلبية في الحج إذا انتهى
71

إلى الحرم حتى يطوف بالبيت وبين الصفا والمروة ثم يلبي حتى يغدو من منى إلى عرفة فإذا غدا ترك التلبية وكان يترك التلبية في العمرة إذا دخل الحرم
714 - وعن بن عمر أنه كان لا يلبي وهو يطوف بالبيت
وبعض هذا ذكره بن شهاب عن بن عمر هكذا
715 - وعن علقمة بن أبي علقمة عن أمه عن عائشة أم المؤمنين أنها كانت تنزل من عرفة بنمرة ثم تحولت إلى الأرك
716 - وعن يحيى بن سعيد أن عمر بن عبد العزيز غدا يوم عرفة من منى فسمع التكبير عاليا فبعث الحرس يصيحون في الناس أيها الناس إنها التلبية
قال أبو عمر أما قوله هما غاديان من منى إلى عرفة فإن ذلك كان يوم عرفة
حدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا الخشني قال حدثنا محمد بن أبي عمر قال حدثنا يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد قال سمعت عبد الله بن الزبير يقول من سنة الحج أن يصلي الإمام يوم التروية الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح بمنى فإذا طلعت الشمس وارتفعت غدا إلى عرفة
قال أبو عمر قائلون إن الحاج جائز له قطع الوقوف قبل الوقوف بعرفة وقبل رمي جمرة العقبة
وهو موضع اختلف فيه السلف والخلف
فروي عن أنس بن مالك في الموطأ وعن بن عمر في غير الموطأ مثله مرفوعا وعن أنس بن مالك وقد ذكرناه في التمهيد
قالوا وإن أخر قطع التلبية إلى زوال الشمس بعرفة فحسن ليس به بأس
وروي عن الحسن البصري مثل قول بن عمر
72

وقال آخرون لا تقطع التلبية إلا عند زوال الشمس بعرفة
روي ذلك عن جماعة من السلف وهو قول مالك وأصحابه وأكثر أهل المدينة
قال بن شهاب كانت الأئمة أبو بكر وعثمان وعمر وعائشة وسعيد بن المسيب يقطعون التلبية إذا زالت الشمس يوم عرفة
قال أبو عمر أما عثمان وعائشة فقد روي عنهما غير ذلك وكذلك سعيد بن المسيب
وأما علي بن أبي طالب فلم يختلف عنه في ذلك على ما علمت فيما ذكره مالك في هذا الباب
وكذلك أم سلمة كانت تقطع التلبية إذا زالت الشمس يوم عرفة
وقد روي عن بن عمر مثل ذلك والرواية الأولى أثبت
وهو قول السائب بن يزيد وسليمان بن يسار وبن شهاب
وفي المسألة قول ثالث وهو أن التلبية لا يقطعها الحاج حتى يروح من عرفة إلى الموقف وذلك بعد جمعه بين الظهر والعصر في أول وقت الظهر وهو قريب من القول الذي قبله
وروي ذلك عن عثمان وعائشة وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن المسيب وغيرهم
وفيها قول رابع أن المحرم بالحج يلبي أبدا حتى يرمي جمرة العقبة يوم النحر
ثبت ذلك عن النبي (عليه السلام) وهو قول بن عمر وعبد الله بن مسعود وبن عباس وميمونة
وبه قال عطاء بن رباح وطاوس وسعيد بن جبير والنخعي
وهو قول جمهور الفقهاء وأهل الحديث منهم سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه وبن أبي ليلى والحسن بن حي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور وداود والطبري وأبو عبيد
إلا أن هؤلاء اختلفوا في شيء من ذلك
فقال الثوري والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وأبو ثور يقطعها في أول حصاة يرميها من جمر العقبة
73

وكذلك كان بن مسعود يفعل يقطع التلبية بأول حصاة من جمرة العقبة يوم النحر
وقال أحمد وإسحاق وطائفة من أهل النظر والأثر لا يقطع التلبية حتى يرمي جمرة العقبة بأسرها
قالوا وهو ظاهر الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة ولم يقل أحد ممن روى الحديث حتى رمى بعضها
وقال بعضهم فيه ثم قطع التلبية في آخر حصاة
رواه بن جريج عن عطاء عن بن عباس عن الفضل بن عباس وكان ردف النبي (عليه السلام) أنه (عليه السلام) لبى حتى رمى جمرة العقبة
قال أبو عمر من تأمل الأحاديث المرفوعة في هذا الباب مثل حديث محمد بن أبي بكر الثقفي عن أنس وحديث بن عمر استدل على الإباحة في ذلك
ولذلك اختلف السلف فيه هذا الاختلاف ولم ينكر بعضهم على بعض وقال كل واحد منهم بما ذهب إليه استحبابا لا إيجابا
ذكر يحيى بن سعيد القطان عن إسماعيل بن أبي خالد قال حدثني وبرة قال سألت بن عمر عن التلبية يوم عرفة فقال التكبير أحب إلي
وقال طارق بن شهاب أفاض عبد الله بن مسعود من عرفات وهو يلبي فسمعه رجل وقال من هذا أوليس بحين تلبية فقيل له هذا بن أم عبد فاندس في الناس وذهب فذكر ذلك لعبد الله فجعل يلبي لبيك لبيك عدد التراب
فهذا يدل على أن الاختلاف قديم في هذه المسألة وأنه لا ينكره إلا من لا علم له
وروى حماد بن زيد عن سلمة بن علقمة عن محمد بن سيرين قال
74

حججت مع بن الزبير فسمعته يقول يوم عرفة ألا وإن أفضل الدعاء اليوم التكبير
وهو على الأفضل عنده وما كان يستحبه لا على دفع ما سواه
ذكر بن وهب عن عمرو بن الحارث عن أبي الزبير عن جابر قال يهل ما دون عرفة ويكبر يوم عرفة
ومن حجة من قال يلبي الحاج إلى أن يرمي جمرة العقبة يوم النحر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبى حتى رمى جمرة العقبة
وروي عن بن عباس عن الفضل بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق
وقال (عليه السلام) خذوا عني مناسككم
أخبرنا عبد الله قال حدثنا محمد قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن حنبل قال حدثنا وكيع قال حدثنا بن جريج عن عطاء عن بن عباس عن الفضل بن عباس أن النبي (عليه السلام) لبى حتى رمى جمرة العقبة
وذكر أبو عيسى الترمذي قال حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا بن أبي عدي عن محمد بن إسحاق قال سأل أبي عكرمة وأنا أسمعه عند الإهلال متى تقطع فقال أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رمى الجمرة وعمر وعثمان
قال بن إسحاق وأنبأني أبان بن صالح عن عكرمة قال وقفت مع الحسين بن علي بالمزدلفة فلم أزل أسمعه يقول لبيك لبيك فقلت ما هذا الإهلال يا أبا عبد الله فقال سمعت عليا يهل حتى رمى جمرة العقبة وحدثني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل حتى انتهى إليها
قال فأتيت بن عباس فسألته وأخبرته بقول الحسين فقال صدق
حدثني الفضل بن عباس وكان ردف النبي يومئذ فسمع النبي صلى الله عليه وسلم يهل حتى رمى جمرة العقبة
قال أبو عيسى سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال هو حديث محفوظ
واختلف العلماء في التلبية في الطواف للحاج فكان ربيعة بن أبي عبد الرحمن يلبي إذا طاف بالبيت ولا يرى بذلك بأسا
75

وبه قال الشافعي وأحمد بن حنبل وكرهه مالك وهو قول سالم بن عبد الله
وقال بن عيينة ما رأيت أحدا يقتدى به يلبي حول البيت إلا عطاء بن السائب
وقال إسماعيل بن إسحاق الذي نقول به لا يزال الرجل ملبيا حتى يبلغ الغاية التي إليها تكون استجابة وهو الموقف بعرفة
عن الشافعي أنه قال لا أحب لمن لبى في الطواف أن يجهر وبالله التوفيق
((14 - باب إهلال أهل مكة ومن بها من غيرهم))
717 - ذكر فيه مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن عمر بن الخطاب قال يا أهل مكة ما شأن الناس يأتون شعثا وأنتم مدهنون أهلوا إذا رأيتم الهلال
718 - وعن هشام بن عروة أن عبد الله بن الزبير أقام بمكة تسع سنين يهل بالحج لهلال ذي الحجة وعروة بن الزبير معه يفعل ذلك
قال مالك وإنما يهل أهل مكة وغيرهم بالحج إذا كانوا بها ومن كان مقيما بمكة من غير أهلها من جوف مكة لا يخرج من الحرم
قال أبو عمر ما جاء عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن الزبير في إهلال أهل مكة اختيار واستحباب ليس على الإلزام والإيجاب لأن الإهلال إنما يجب على من يتصل به عمله في الحج لا على غيره لأنه ليس من السنة أن يقيم المحرم في أهله
والأصل في هذا حديث مالك عن سعيد بن أبي سعيد عن عبيد بن جريج أنه قال لعبد الله بن عمر رأيتك تفعل أربعة لم أر أحدا من أصحابك يفعلها فذكر منها ورأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس إذا رأوا الهلال ولم تهل أنت إلى يوم التروية فأجابة بن عمر أنه لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل إلا حين انبعثت به راحلته
يريد بن عمر أنه صلى الله عليه وسلم أهل من ميقاته في حين ابتدائه عمل حجته
وفي حديث عبيد بن جريج هذا على أن الاختلاف في هذه المسألة قديم بين
76

السلف وأن بن عمر لم ير أحدا حجة على السنة ولا التفت إلى عمل من عمل عنده بغيرها وإن كان أبوه (رضي الله عنه) كان يأمر أهل مكة بخلاف ذلك
وقد تابع بن عمر في هذه المسألة جماعة منهم بن عباس وغيره
ذكر عبد الرزاق عن معمر عن أبيه عن طاوس عن بن عباس قال لا يهل أحد بالحج من مكة حتى يروح إلى منى
قال وأخبرنا بن جريج قال أخبرنا عطاء وجه إهلال أهل مكة حين تتوجه به دابته نحو منى فإن كان ماشيا فحين يتوجه نحو منى
قال بن جريج وقال لي عطاء إنما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ دخلوا في حجتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم عشية التروية حتى توجهوا إلى منى
قال بن جريج وأخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يحكي عن حجة النبي (عليه السلام) قال فأمرنا بعد ما طفنا أن نحل وقال إذا أردتم أن تحلوا إلى منى فانطلقوا
قال أبو عمر لما فسخوا حجهم في عمرة وحلوا إلى النساء صاروا كأهل مكة في إطراح الشعث والتفث ومس النساء فإذا كانت السنة فيهم ألا يهلوا إلى يوم التروية فكذلك أهل مكة وهذا خلاف ما روي عن بن عمر وبن الزبير من رواية مالك وغيره ولا وجه لقول عمر عندي إلا الاستحباب كما وصفنا وبالله توفيقنا
وقد روي عن بن عمر ما يوافق قول عمر لأهل مكة وفعل بن الزبير ذكره مالك في موطئه أن عبد الله بن عمر كان يهل لهلال ذي الحجة من مكة ويؤخر الطواف بين الصفا والمروة حتى يرجع من منى
وذكر عبد الرزاق عن عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع قال أهل بن عمر بحجة حين رأى الهلال من جوف الكعبة ومرة أخرى حين انطلق إلى منى
وأخبرنا عبد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر أنه أهل بالحج من مكة ثلاث سنوات
وعن معمر عن أيوب عن نافع عن بن عمر مثله
وعن بن جريج عن مجاهد نحوه
قال مجاهد فقلت لابن عمر قد أهللت فينا إهلالا مختلفا قال أما أول عام
77

فأخذت بأخذ بلدي ثم نظرت فإذا أنا أدخل على أهلي حراما وأخرج حراما وليس كذلك كنا نصنع إنما كنا نهل ثم نجعل على شأننا
قلت فبأي شيء تأخذ قال نحرم يوم التروية
قال وأخبرنا بن عيينة عن بن جريج عن عطاء قال إن شاء المكي أن لا يحرم بالحج إلا يوم منى يعمل
أخبرنا هشام بن حسان قال كان عطاء بن أبي رباح يعجبه أن يهل إذا توجه إلى منى
قال وقال عطاء إذا أحرم يوم التروية فلا يطوف بالبيت حتى يروح إلى منى
قال هشام وقال الحسن أي ذلك فعل فلا بأس إن شاء أهل حين يتوجه إلى منى وإن شاء قبل ذلك وإذا أهل قبل يوم التروية فإنه يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة يعني إن شاء
وليس طوافه ذلك له بلازم ولا سنة لأنه طواف سنة لقادم مكة من غيرها من الآفاق
وأما قول مالك في هذا الباب أن المكي لا يخرج من مكة للإهلال ولا يهل إلا من جوف مكة فهذا أمر مجتمع عليه لا خلاف فيه وليس كالمعتمر عند الجميع لأن الشأن في الحاج والمعتمر أن يجمع بين الحل والحرم فأمروا المعتمر المكي أو من كان بمكة أن يخرج إلى الحل لأن عمرته تنقضي بطوافه بالبيت وسعيه بين الصفا والمروة والحاج لا بد له من عرفة وهي حل فيحصل بذلك له الجمع بين الحل والحرم ولذلك لم يكن الخروج إلى الحل ليهل منه بخلاف المعتمر
وأما قول مالك في هذا الباب من أهل من مكة بالحج فليؤخر الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة حتى يرجع من منى
قال وكذلك صنع عبد الله بن عمر وفعله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أهلوا بمكة لم يطوفوا ولم يسعوا حتى رجعوا بمكة
فإن ما ذكره عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن بن عمر أيضا فالآثار به متواترة محفوظة صحاح وأهل العلم كلهم قائمون به لا يرون على المكي طوافا إلا الطواف المفترض وهو طواف الإفاضة عند أهل الحجاز ويسميه أهل العراق الطواف
وأما الطواف الأول وهو طواف الدخول فساقط عن المكي وساقط عن
78

المراهن الذي يخاف فوت الوقوف قبل الفجر من ليلة النحر ويصل المكي والمراهن طواف الإفاضة بالسعي بين الصفا والمروة لأن الطواف الأول هو الوصول به السعي لمن قدم مكة ودخلها ساعيا أو معتمرا
وذكر بن عبد الحكم وغيره عن مالك من أحرم من مكة وطاف وسعى قبل خروجه إلى منى لزمه أن يطوف بعد الرمي والسعي فإن لم يعد الطواف حتى رجع إلى بلده أجزى
وأما قول مالك لا يهل الرجل من أهل مكة حتى يخرج إلى الحل فيحرم منه فقد ذكرت لك أن ذلك إجماع من العلماء لا يختلفون فيه والحمد لله لأن العمرة زيارة البيت وإنما يزار الحرم من خارج الحرم كما يزار المزور في بيته من غير بيته وتلك سنة الله في المعتمرين من عباده
واختلفوا فيمن أهل بالعمرة من مكة فقالت طائفة يخرج إلى الميقات أو إلى الحل فيحرم منه بعمرة وإن لم يخرج وطاف وسعى فعليه دم لتركه الخروج إلى الحل
هذا قول أبي حنيفة وأصحابه وبن القاسم وأبي ثور وهو أحد قولي الشافعي
وللشافعي قول آخر انه لا يجزئه وعليه الخروج إلى الحل والإهلال منه بالعمرة وغيرها
وهو قول الثوري وأشهب والمغيرة
((15 - باب ما لا يوجب الإحرام من تقليد الهدي))
719 - مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد عن عمرة بنت عبد الرحمن أنها أخبرته أن زياد بن أبي سفيان كتب إلى عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن عبد الله بن عباس قال من أهدى هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر الهدي وقد بعثت بهدي فاكتبي إلي بأمرك أو مري صاحب الهدي
79

قالت عمرة قالت عائشة ليس كما قال بن عباس أنا فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ثم قلدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثم بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء أحله الله له حتى نحر الهدي
720 - مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال سألت عمرة بنت عبد الرحمن عن الذي يبعث بهديه ويقيم هل يحرم عليه شيء فأخبرتني أنها سمعت عائشة تقول لا يحرم إلا من أهل ولبى
721 - عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير أنه رأى رجلا متجردا بالعراق فسأل الناس عنه فقالوا إنه أمر بهديه أن يقلد فلذلك تجرد
قال ربيعة فلقيت عبد الله بن الزبير فذكرت له ذلك فقال بدعة ورب الكعبة
قال أبو عمر قد روى حديث عائشة المسند في أول الباب بن جريج وغيره
ورواه أفلح بن حميد عن القاسم عن عائشة
ورواه الأسود عن عائشة
ومسروق عن عائشة من أئمة أهل الحديث بالكوفة
وهو حديث مجتمع على إسناده
واختلف في معنى هذا الحديث
فقال جماعة من أهل العلم منهم عطاء وسعيد بن جبير إذا قلد الحاج هديه فقد أحرم وحرم عليه ما يحرم على الملبي بالحج
وكذلك إذا أشعر هديه
واختلفوا في تحليله فمنهم من قال الإحلال كالتقليد والإشعار ومنهم من أباه
وقالت طائفة لا يكون محرما إلا من أحرم ولبى كما روي عن عائشة
80

وقال آخرون إذا نوى بالتقليد الحج أو العمرة فهو محرم وإن لم يلب
وهذا كله عنهم في معنى قول الله تعالى فمن * (فرض فيهن الحج) * [البقرة 197]
وكلهم يستحب أن يكون إحرام الحج وتلبيته في حين تقليده الهدي وإشعاره
وقالت طائفة منهم بن عمر كقول بن عباس من قلد هديه سواء خرج معه أو بعث به وأقام وهو يفعله يحرم عليه ما يحرم على المحرم
وسئل مالك عمن خرج بهدي لنفسه فأشعره وقلده بذي الحليفة ولم يحرم هو حتى جاء الجحفة قال لا أحب ذلك ولم يصب من فعله ولا ينبغي له أن يقلد الهدي ولا يشعره إلا عند الإهلال إلا رجل لا يريد الحج فيبعث به ويقيم في أهله
قال أبو عمر يعني حالا
وسئل مالك هل يخرج بالهدي غير محرم فقال نعم لا بأس بذلك
وسئل أيضا عما اختلف فيه الناس من الإحرام لتقليد الهدي ممن لا يريد الحج ولا العمرة فقال الأمر عندنا الذي نأخذ به في ذلك قول عائشة أم المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بهديه ثم أقام فلم يحرم عليه شيء مما أحله الله له حتى نحر هديه
قال أبو عمر في حديث عائشة المسند في هذا الباب من الفقه أن عبد الله بن عباس كان يرى أن من بعث بهدي إلى الكعبة لزمه إذا قلده أن يحرم ويجتنب كل ما يجتنبه الحاج حتى ينحر هديه
وتابع عبد الله بن عباس على ذلك عبد الله بن عمر وطائفة منهم قيس بن سعد وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير على اختلاف عنه
روى سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال أخبرني قيس بن سعد بن عبادة أن بدنه قلدت ورأسه في حجر جاريته فانتزعه
وممن قال بهذا ميمون بن أبي شبيب قال من قلد أو أشعر أو جلل فقد أحرم
وروي بمثل ذلك أثر مرفوع من حديث عمر عن النبي (عليه السلام)
وفيه أنهم كانوا يختلفون في مسائل الفقه وعلوم الديانة فلا يعيب بعضهم بعضا بأكثر من رد قوله ومخالفته إلى ما عنده من السنة في ذلك
81

وفيه ما كانوا عليه من الاهتبال بأمر الدين والكتاب فيه إلى البلدان
وفيه عمل أزواج النبي عليه السلام بأيديهن وامتهانهن أنفسهن وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتهن نفسه في عمل بيته فربما خاط ثوبه وخصف نعله وقلد هديه المذكور في هذا الحديث بيده (عليه السلام)
وفيه أن تقليد الهدي لا يوجب على صاحبه الإحرام
وهذا المعنى الذي سبق له هذا الحديث وهو الحجة عند الشارع
وقد اختلف العلماء في ذلك فقال مالك ما ذكره في موطئه وبه قال الشافعي والثوري وأبو حنيفة والحسن بن حي وعبيد الله بن الحسن والأوزاعي والليث وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وداود كل هؤلاء يقول بحديث عائشة أن التقليد لا يوجب الإحرام على من لم ينوه
هذه جملة أقوالهم وأما تفصيلها ف
قال الثوري إذا قلد الهدي فقد أحرم إن كان يريد الحج أو العمرة وإن كان لا يريد ذلك فليبعث بهديه وليقم حلالا
وقال الشافعي وأبو ثور وداود ولا يكون أحدا محرما بسياقه الهدي ولا بتقليده ولا يجب عليه بذلك إحرام حتى ينويه ويريده
وقال أبو حنيفة من ساق هديا وهو يؤم البيت ثم قلده فقد وجب عليه الإحرام وإن جلل الهدي أو أشعره لم يكن محرما وإنما يكون محرما بالتقليد
وقال إن كانت معه شاة فقلدها لم يجب عليه الإحرام لأن الغنم لا تقلد
وقال إن بعث بهديه فقلده وأقام حلالا ثم بدى له أن يخرج فخرج واتبع هديه فإنه لا يكون محرما حين يخرج وإنما يكون محرما إذا أدرك هديه وأخذه وسار به وساقه معه
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وإن بعث بهدي لمتعة ثم أقام حلالا أياما ثم خرج وقد كان قلد هديه فهو محرم حين يخرج ألا ترى أنه بعث بهدي المتعة
قال أبو عمر روي عن عطاء نحو مذهب بن عباس ومن قال بقوله
روى القطان وعبد الرزاق وهشام بن يوسف عن بن جريج قال قال عطاء أما الذي قلد الهدي فقد أحرم
قال ومثل التقليد فرض الرجل هديه ثم يقول أنت هدي أو قد أهديتك
قال وبمنزلة ذلك المجلل والأشعار
82

ويحتمل هذا من قول عطاء أن ينوي فعل ذلك أو يتوجه مع هديه قال أبو عمر وأما حديث جابر الذي ذهب إليه من اتبع بن عباس وبن عمر رواه أسد بن موسى وغيره عن حاتم بن إسماعيل عن عبد الرحمن بن عطاء بن أبي لبيبة عن عبد الملك بن جابر عن جابر بن عبد الله قال كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم جالسا فقد قميصه من جنبه حتى أخرجه من رجليه فنظر القوم إلى النبي (عليه السلام) فقال أمرت ببدني التي بعثت بها أن تقلد وتشعر على مكان كذا وكذا فلبست قميصي ونسيت فلم أكن لأخرج قميصي من رأسي
فذهب قوم إلى أن الرجل إذا بعث بهديه وأقام في أهله فقلد الهدي وأشعره أنه يتجرد فيقيم كذلك حتى يحل الناس من حجهم
واحتجوا بهذا الحديث وبقول بن عباس في حديث مالك من أهدى هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج
وعبد الرحمن بن عطاء بن أبي لبيبة شيخ من أهل المدينة روى عنه سليمان بن بلال والدراوردي وداود بن قيس وحاتم بن إسماعيل إلا أنه ممن لا يحتج به فيما ينفرد به فكيف فيما خالفه فيه من هو أثبت منه ولكنه قد عمل بحديثه بعض الصحابة (رضي الله عنهم)
روى معمر عن أيوب عن بن سيرين أن بن عباس بعث بهديه ثم وقع على جارية له فأتى مطرف بن الشخير في المنام فقيل له أئت بن عباس فمره أن يطهر فرجه فأبى أن يأتيه فأتى الليلة الثانية فقيل له مثل ذلك فأبى أن يأتيه فأتى الليلة الثالثة وقيل له قول فيه بعض الشدة فلما أصبح أتى بن عباس فأخبره بذلك فقال بن عباس وما ذلك ثم ذكر فقال إني وقعت على فلانة بعد ما قلدت الهدي فكتب ذلك اليوم الذي وقع عليها فلما قدم ذلك الرجل الذي بعث معه الهدي سأله أي يوم قلدت الهدي فأخبره (فإذا هو قد) وقع عليها بعد ما قلد الهدي فأعتق بن عباس جاريته تلك
وروى بن جريج وأيوب وعبيد الله بمعنى واحد عن نافع عن بن عمر قال إذا قلد الرجل هديه فقد أحرم والمرأة كذلك فإن لم يحج فهو حرام حتى ينحر هديه
وروى أبو العالية عن بن عمر خلاف ما روى نافع عنه
ذكر معمر عن أيوب عن أبي العالية قال سمعت بن عمر يقول تقولون إذا بعث الرجل الهدي فهو محرم والله لو كان محرما ما كان يدخل دون أن يطوف بالبيت
83

قال أيوب فذكرته لنافع فأنكره
قال أبو عمر اختلف علي بن عمر في هذا الباب ولم يختلف علي بن عباس ونافع أثبت في بن عمر من أبي العالية وأعلم به وهذا ما لا يختلف أهل العلم بهذا الشأن فيه إلا أن الذي حكاه أبو العالية عن بن عمر قول صحيح في النظر وهو الثابت في الأثر من حديث عائشة عن النبي (عليه السلام) أنه لم يحرم عليه شيء أحله الله في حين قلد هديه وبعث إلى مكة به
وعلى القول بحديث عائشة دون حديث بن أبي لبيبة جمهور أهل العلم وأئمة الفتوى بالأمصار على ما ذكرناه عنهم في هذا الباب
وفي حديث عائشة أيضا من الفقه ما يرد حديث أم سلمة عن النبي (عليه السلام) أنه قال إذا دخل العشر فأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره لأن في هذا الحديث النهي من أن يأخذ في العشر من ذي الحجة من ظفره أو من شعره كل من أراد أن يضحي والهدي في حكم الضحية
وفي حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد تقليده الهدي لم يجتنب شيئا مما يجتنبه المحرم فهو معارض لأم سلمة وهو أثبت منه وأصح لأن طائفة من أهل العلم من بالنقل تقول إن عمر بن مسلم شيخ مالك مجهول يقول فيه شعبة وبعض أصحاب مالك عن مالك عمرو بن مسلم وكذلك قال فيه سعيد بن المسيب عن أم سلمة عن النبي (عليه السلام)
وقال فيه بن وهب عن مالك عن عمرو بن مسلم وتابعه جماعة من أصحاب مالك
وكذلك قال فيه محمد بن عمر عن عمر بن مسلم بن عمارة بن أكيمة
حدثنا خلف بن قاسم قال حدثنا عمر بن محمد بن القاسم ومحمد بن أحمد بن كامل ومحمد بن أحمد بن المنصور قالوا حدثنا بكر بن سهل قال حدثنا عبد الله بن يوسف قال حدثنا مالك عن عمر عن سعيد بن المسيب عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من رأى هلال ذي الحجة فأراد أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئا
84

ورواه القعنبي وأبو مصعب وأبو بكير عن مالك وقد ذكرنا الأسانيد عنهم في غير هذا الموضع إلا أنه ليس عند أكثر رواه الموطأ
وقد رواه شعبة عن مالك حدثنا خلف بن قاسم قال حدثنا أحمد بن محمد بن الحسن العسكري قال حدثنا إبراهيم بن مرزوق بن دينار البصري بمصر قال حدثنا بشر بن عمر قال أخبرنا شعبة عن مالك بن أنس عن عمر بن سلم عن سعيد بن المسيب عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من رأى منكم هلال ذي الحجة فأراد أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئا
قال أبو عمر ترك مالك أن يحدث بهذا الحديث في آخر عمره وقاله عنه عمران بن أنس فقال ليس من حديثي قال فقلت لجلسائه فقد رواه عنه شعبة وهو يقول ليس من حديثي
وقد اختلف العلماء في القول بهذا الحديث فقال مالك لا بأس بحلق الرأس وقص الأظفار والشارب وحلق العانة في عشر ذي الحجة
وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري
واختلف في ذلك قول الشافعي فمرة قال من أراد الضحية لم يمس في عشر ذي الحجة من شعره ولا من أظفاره شيئا حتى يضحي
ومرة قال أحب إلي أن لا يفعل ذلك فإن أخذ من شعره أو أظفاره شيئا فلا بأس لحديث عائشة كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث
وقال الأوزاعي إذا اشترى أضحيته بعد ما دخل العشر فإنه يكف عن قص شاربه وأظفاره وإن اشتراها قبل أن يدخل العشر فلا بأس
وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه بظاهر حديث أم سلمة
واختلف عن سعيد بن المسيب في ذلك وروي عنه أنه أفتى بما روي عن أم سلمة في ذلك
وروى مالك عن عمارة بن صياد عن سعيد بن المسيب قال لا بأس بالاطلاء بالنورة في عشر ذي الحجة
وهو أترك لما رواه عن أم سلمة وقد أجمعوا على أنه لا بأس بالجماع في عشر ذي الحجة لمن أراد أن يضحي وأن ذلك مباح فحلق الشعر والأظفار أحرى أن يكون مباحا @ 86 @
قال أبو عمر من الاختلاف في حديث أم سلمة أن بن عيينة رواه عن عبد الرحمن بن حميد عن سعيد بن المسيب عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه يحيى بن سعيد القطان عن عبد الرحمن بن حميد عن سعيد عن أم سلمة موقوفا عليها وكذلك رواه بن وهب قال أنس بن عياض عن الليث عن عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن قال سمعت سعيد بن المسيب قال قالت أم سلمة فذكره موقوفا على أم سلمة فضعفت طائفة من أهل الحديث هذا وأما أحمد بن حنبل فقال هو صحيح من رواية مالك قال وقد رواه محمد بن عمرو عن شيخ مالك كما رواه مالك
قد ذكرنا أن سعيد بن أبي هلال رواه عنه كما رواه مالك ومحمد بن عمرو إلا أنهم اختلفوا في عمر بن مسلم بن أكيمة الليثي وهو بن أخي الذي روى عنه بن شهاب
قال أحمد ذكرت لعبد الرحمن بن مهدي حديث أم سلمة وحديث عائشة كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث الهدي لم يحرم عليه شيء فبقي ساكتا ولم يجب
وذكرته ليحيى بن سعيد فقال ذاك له وجه وهذا له وجه وحديث أم سلمة لمن أراد أن يضحي بالمصر وحديث عائشة لمن بعث بهديه وأقام
قال أحمد وهكذا أقول حديث عائشة هو على المقيم الذي يرسل بهديه ولا يريد أن يضحي بعد ذلك الهدي الذي بعث به فإن أراد أن يضحي لم يأخذ من شعره شيئا ولا من أظفاره على أن حديث أم سلمة هو عندي على كل من أراد أن يضحي في مصره
حكى ذلك كله عنه الأثرم
قال أبو عمر قد صح أن النبي (عليه السلام) إذ بعث بهديه لم يجتنب شيئا مما يجتنبه المحرم وصح أنه كان يضحي صلى الله عليه وسلم ويحض على الضحية ولم يصح عندنا أنه صلى الله عليه وسلم في العام الذي بعث فيه بهديه ولم يبعث بهديه لينحر عنه بمكة إلا سنة تسع مع أبي بكر ولا يوجد أنه لم يضح في ذلك العام والله أعلم
والقياس على ما أجمعوا عليه من جواز الإجماع أن يجوز ما دونه من حلاق الشعر وقطع الظفر وبالله (عز وجل) التوفيق
قال أبو عمر صحح الطحاوي حديث أم سلمة هذا وقال به وخالف أصحابه فيه بعد أن ذكر طرقه والاختلاف فيها وقال بعضها يشد بعضا وقال ليس شيخ
85

مالك بمجهول لأنه قد روى عنه ثلاثة أئمة مالك ومحمد بن عمرو وسعيد بن أبي هلال وقد تابعه على روايته مالك عن سعيد بن المسيب عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ولا يضره توقيف من وقفه إذا رفعه ثقات ولا يضره أن يكون اسمه عمر
ومال الطحاوي إلى القول بحديث أم سلمة هذا واحتج له وخالف فيه أصحابه الكوفيين ومالكا ومما ذكره فمن ذلك قال
حدثنا إبراهيم بن أبي داود قال حدثنا مسدد قال حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا سعيد بن أبي عروبة قال حدثنا قتادة عن كثير بن أبي كثير أن يحيى بن يعمر كان يفتي بخراسان في الرجل إذا اشترى أضحية وسماها ودخل العشر أن يكف عن شعره وأظفاره فلا يمس منها شيء
قال كثير فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب فقال نعم قد أحسن
قلت عن من يا أبا محمد قال عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون أو كانوا يفعلون ذلك
وأما قول بن الزبير في الذي تجرد حين أمر بهديه أن يقلد بدعة ورب الكعبة
وقال الطحاوي محتجا لأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد لا يجوز أن يكون عندنا حلف الزبير على ذلك أنه بدعة إلا وقد علم أن السنة على خلاف ذلك
وأما بن عباس فإنما اعتمد على حديث جابر المذكور وقد ذكرنا علة إسناده ولو علم به بن الزبير لم يقسم
وأما قول مالك أنه لا يحب لأحد قلد هديه بذي الحليفة أن يؤخر إحرامه إلى الجحفة فإن الهدي لما كان محل هديه محله وذلك يوم النحر وكذلك ينبغي أن يكون إحرامه مع تقليده له
وهذا ما لا خلاف فيه وهي السنة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلد هديه ثم أحرم وقال لا أحل حتى أنحر الهدي
ولا يختلف العلماء أن الهدي ولا كل من كان ميقاته ذا الحليفة أنه ليس له أن يؤخر إحرامه إلى الجحفة وإنما يؤخر إحرامه إلى الجحفة المغربي والشامي على أنه يستحب له إذا مر بذي الحليفة أن يحرم منها
87

((16 - باب ما تفعل الحائض في الحج))
722 - مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول المرأة الحائض التي تهل بالحج أو العمرة أنها تهل بحجها أو عمرتها إذا أرادت ولكن لا تطوف بالبيت ولا بين الصفا والمروة وهي تشهد المناسك كلها مع الناس غير أنها لا تطوف بالبيت ولا بين الصفا والمروة ولا تقرب المسجد حتى تطهر
قال أبو عمر ما قاله بن عمر (رضي الله عنه) نقله جماعة العلماء وهي السنة المأثورة عن أسماء بنت عميس أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي نفساء أن تغتسل ثم تهل بالحج أو العمرة غير أن لا تطوف بالبيت
وأمر عائشة وغيرها من نسائه لما حاضت أن تفعل ما يفعله الحاج غير الطواف بالحج
وأما قول بن عمر في هذا الحديث وما بين الصفا والمروة فإنما ذلك من أجل أن السعي بين الصفا والمروة بالطواف لا فصل بينهما والطواف لا يكون عند الجميع إلا على طهارة وإن كانوا قد اختلفوا في حكم من فعله على غير طهارة ولا يوجبونها شرطا فيه كما هو عندهم في الطواف لأنهم لم يختلفوا فيمن طاف على طهارة فلما أكملها انتقضت طهارته أنه يهدي هديا صحيحا فالطواف لو ترك كان بالهدي أولى
وفي هذا الخبر وما كان مثله دليل على أن الحائض لا تقرأ القرآن وفي القياس ولا شيئا منه لأنها لو قرأت القرآن صلت ولو صلت دخلت المسجد وعلى هذا أكثر العلماء وهي رواية أشهب عن مالك وهو الصواب وبالله التوفيق
88

((17 - باب العمرة في أشهر الحج))
733 مالك انه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاثا عام الحديبية وعام القضية وعام الجعرانة
وهذا الحديث يتصل من وجوه قد ذكرناها في التمهيد
وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا إبراهيم بن المنذر قال حدثنا محمد بن فليح عن موسى بن عقبة عن بن شهاب قال اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عمر اعتمر من الجحفة عام الحديبية فصده الذين كفروا في ذي القعدة سنة ست واعتمر في العام المقبل في ذي القعدة سنة تسع آمنا هو وأصحابه ثم اعتمر الثالثة في ذي القعدة سنة ثلاث حين أقبل من الطائف من الجعرانة
ورواه معمر عن الزهري مثله سواء إلا أنه قال أربع منهن واحدة مع حجته
وهذا يشهد بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في حجته قارنا عنده وذهب إلى هذا جماعة غيره
وقال بن شهاب أيضا في الثلاث العمر كلهن في ذي القعدة
وعروة بن الزبير يقول اثنتان في ذي القعدة وواحدة في شوال
724 - ذكره مالك في هذا الباب عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعتمر إلا ثلاثا إحداهن في شوال واثنتين في ذي القعدة
وقد روي حديث عروة هذا مسندا ذكرناه في التمهيد كذلك من وجوه أحدها من كتاب أبي داود قال
حدثنا عبد الأعلى بن حماد قال حدثنا داود بن عبد الرحمن عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرتين [عمرة] في ذي القعدة وعمرة في شوال
وقد روي بمثل ما قال بن شهاب أن عمرة كلها كانت في ذي القعدة إلا عمرته التي كانت مع حجته آثار مرفوعة حسان من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وغيره وقد ذكرنا كثيرا منها في التمهيد
89

وذكر البزار قال حدثنا محمد بن معمر قال حدثنا سهل بن بكار قال حدثنا وهيب عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير وطلق بن حبيب وأبي الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاثا كلها في ذي القعدة إحداهن زمن الحديبية والأخرى في صلح قريش والأخرى مرجعه من الطائف ومن حنين من الجعرانة
أخبرنا عبد الوارث بن سفيان وعمر بن حنين قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا أبي قال حدثنا جرير عن مجاهد قال دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد وإذا بن عمر جالس إلى حجرة عائشة فسألناه كم اعتمر النبي (عليه السلام) فقال أربعا إحداهن في رجب
وكرهنا أن نرد عليه فقلنا يا أم المؤمنين أما تسمعين ما يقول [أبو] عبد الرحمن فقالت وما يقول قال يقول اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر إحداهن في رجب قالت يرحم الله أبا عبد الرحمن ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو شاهده وما اعتمر في رجب قط
وحدثني سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا يزيد بن هارون عن زكريا عن [أبي] إسحاق عن البراء قال اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عمر
725 - وفي هذا الباب مالك عن عبد الرحمن بن حرملة الأسلمي أن رجلا سأل سعيد بن المسيب فقال أأعتمر قبل أن أحج فقال سعيد نعم قد اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يحج
726 - وعن بن شهاب عن سعيد بن المسيب أن أبا سلمة استأذن عمر بن الخطاب أن يعتمر في شوال فإذن له فاعتمر ثم قفل إلى أهله ولم يحج
قال أبو عمر الحج والعمرة نسكان لا يختلف العلماء في ذلك أن المستطيع السبيل إليهما يبدأ بأيهما شاء وقد جاء ذلك عن جماعة من السلف
ذكر عبد الرزاق عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن كثير بن
90

أفلح قال سئل زيد بن ثابت عن رجل اعتمر قبل أن يحج فقال صلاتان لا يضرك بأيهما بدأت
قال الحسن وقال هشام نسكان لا يضرك بأيهما بدأت
وعن معمر عن أيوب عن بن سيرين عن زيد بن ثابت مثله
وعن الثوري عن سليمان التيمي عن سعيد الجريري عن حيان بن عمير قال سألت بن عباس فذكر مثله
والحجة ما قاله سعيد بن المسيب لمسائله قد اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يحج
حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا أبي قال حدثنا إسحاق الأزرق قال حدثنا زكريا عن [أبي] إسحاق عن البراء قال اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الحج
قال أبو عمر إنما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الحج على ما ذكره في شهور الحج على ما ذكره العلماء كبراء أصحابه أن العمرة في شهور الحج جائزة خلافا لما كان عليه المشركون في جهالتهم ولذلك استأذن والله أعلم عمر بن أبي سلمة عمر بن الخطاب أن يعتمر في شوال ليقف على ما في ذلك عمر لأنه لم يكن ممن حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم لصغر سنه إلا قليلا
وكان سفيان بن عيينة يقول معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة لم يرد به فسخ الحج وإنما أراد جواز عمل العمرة في أشهر الحج إلى يوم القيامة مفردة ويستمتع بها إلى الحج وأن يقرن مع الحج كل ذلك جائز إلى يوم القيامة
وهو قول حسن جدا
((18 - باب قطع التلبية في العمرة))
727 - مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يقطع التلبية في العمرة إذا دخل الحرم
قال مالك فيمن أحرم من التنعيم إنه يقطع التلبية حين يرى البيت
91

قال يحيى سئل مالك عن الرجل يعتمر من بعض المواقيت وهو من أهل المدينة أو غيرهم متى يقطع التلبية قال أما المهل من المواقيت فإنه يقطع التلبية إذا انتهى إلى الحرم
قال وبلغني أن عبد الله بن عمر كان يصنع ذلك
قال أبو عمر اختلف العلماء في قطع التلبية في العمرة فقال مالك ما ذكره في موطئه على ما ذكرناه وأضاف قوله ذلك إلى بن عمر وعروة بن الزبير
وقال الشافعي يقطع المعتمر التلبية في العمرة إذا افتتح الطواف
وقال مرة يلبي المعتمر حتى يستلم الركن وهو شيء واحد
وقال أبو حنيفة وأصحابه لا يزال المعتمر يلبي حتى يفتتح الطواف
قال أبو عمر لأن التلبية استجابة لما ذكر إليه فرضا أو ندبا فإذا وصل إلى البيت قطع الاستجابة والله أعلم وهؤلاء كلهم لا يفرقون بين المهل بالعمرة بعيد أو قريب
((19 - باب ما جاء في التمتع))
728 - مالك عن بن شهاب عن محمد بن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن عبد المطلب أنه حدثه انه سمع سعد بن أبي وقاص والضحاك بن قيس عام حج معاوية بن أبي سفيان وهما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحج فقال الضحاك بن قيس لا يفعل ذلك إلا من جهل أمر الله (عز وجل) فقال سعد بئس ما قلت يا بن أخي فقال الضحاك فإن عمر بن الخطاب قد نهى عن ذلك فقال سعد قد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنعناها معه
قال أبو عمر قد ذكرنا سعد بن أبي وقاص الزهري والضحاك بن قيس الفهري في كتاب الصحابة بما يجب من ذكرهما
وذكرنا محمد بن عبد الله بن الحارث بن نوفل الهاشمي وإخوته في التمهيد
92

في هذا الحديث ذكر التمتع بالعمرة إلى الحج والتمتع على أربعة أوجه ومعان
أحدها التمتع المعروف عند عامة العلماء وهو ما أورد مالك بعد في هذا الباب من موطئه
729 - عن عبد الله بن دينار عن بن عمر فبين به معنى التمتع عنه فقال إنه كان يقول من اعتمر في أشهر الحج شوال أو ذي القعدة أو ذي الحجة قبل الوقفة ثم أقام بمكة حتى أدركه الحج فهو متمتع إن حج وعليه ما استيسر من الهدي فإن لم يجد صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع
قال أبو عمر ما ذكره مالك في هذا الحديث عن عبد الله بن دينار عن بن عمر لا اختلاف بين العلماء أنه التمتع المراد بقوله (عز وجل) * (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) * [البقرة 196] إلا أنه قصر فيه وأجمل ما فسر فيه معنى التمتع عند الجميع إن شاء الله
فمن ذلك قوله إن حج يعني في عامة ذلك ويحتاج مع ذلك أن يكون من غير أهل مكة فيكون مسكنه وأهله من وراء المواقيت إلى سائر الآفاق فإذا كان كذلك وطاف بعمرة لله وسعى لها في أشهر الحج بعد أن يكون إحرامه كما قال بن عمر في أشهر الحج وحل من عمرته بالسعي لها بين الصفا والمروة قبل أوان عمل الحج ثم أنشأ الحج من مكة بعد حله فحج من عامه فهذا متمتع عند جماعة العلماء
فإن أحرم بالعمرة قبل أشهر الحج وطاف لها في أشهر الحج فهو موضع اختلاف وسنذكر في هذا الباب بعد الفراغ من الكلام في معنى حديث سعد والضحاك وما للعلماء من المذاهب في وجوه التمتع إن شاء الله
ومن معنى التمتع أيضا القران عند جماعة من الفقهاء لأن القارن يتمتع بسقوط سفره الثاني من بلده كما صنع المتمتع في عمرته إذا حج من عامه ولم ينصرف إلى بلده
فالتمتع والقران يتفقان في هذا المعنى وكذلك يتفقان عند أكثر العلماء في الهدي والصيام لمن لم يجد هديا منها
وأما قول الضحاك بن قيس في التمتع إنه لا يصنع ذلك إلا من جهل أمر الله فإنه لم يكن عنده علم في سبب نهي عمر عن التمتع
93

وفي إنكار سعد على الضحاك قوله دليل على أن العالم يلزمه إنكار ما سمعه من كل قول يضاف به إلى العلم ما ليس بعلم إنكارا فيه رفق وتوءدة ألا ترى قول سعيد له ليس ما قلت يا بن أخي فلما أخبره الضحاك أن عمر نهى عنها لم ير ذلك حجة لما كان عنده حجة من السنة وقال صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنعناها معه
وكذلك قال عمران بن حصين نزل القرآن بالتمتع وصنعناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينزل قرآن يحرمه ولم ينه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قال رجل بدا له ما شاء
قال أبو عمر يعني عمر (رضي الله عنه)
وقد كان بن عمر يخالف أباه في ذلك فكان يقول ما ذكره مالك في هذا الباب
730 - عن صدقة بن يسار عنه قال والله لأن أعتمر قبل الحج وأهدى أحب إلي أن أعتمر بعد الحج
قال أبو عمر التمتع الذي قدمنا ذكره عن جمهور العلماء وأئمة الفتوى ثم القران وجهان من التمتع
والوجه الثالث هو فسخ الحج في عمرة وجمهور العلماء يكرهونه وقد ذكرنا من مال إليه وقال به في غير هذا الباب من هذا الكتاب
والوجه الرابع ما ذهب إليه بن الزبير أن التمتع هو تمتع المحصر وهو محفوظ عن بن الزبير من وجوه منها ما رواه وهيب قال حدثنا إسحاق بن سويد قال سمعت عبد الله بن الزبير وهو يخطب ويقول يا أيها الناس إنه والله ليس التمتع بالعمرة إلى الحج كما تصنعون ولكن التمتع بالعمرة إلى الحج أن يخرج الرجل حاجا فيحبسه عدو أو أمر يعذر به حتى تذهب أيام الحج فيأتي البيت ويطوف ويسعى بين الصفا والمروة ويحل ثم يتمتع بحله إلى العام المقبل ثم يحل ويهدي
وأما نهي عمر بن الخطاب عن التمتع فإنما هو عندي نهي أدب لا نهي تحريم لأنه كان يعلم أن التمتع مباح وأن القران مباح وأن الإفراد مباح فلما صحت عنده الإباحة والتخيير في ذلك كله اختار الإفراد فكان يحض على ما هو المختار عنده ولهذا كان يقول أفصلوا بين حجكم وعمرتكم فإنه أتم لحج أحدكم وأتم لعمرته أن يعتمر في غير أشهر الحج
94

وهذا قد خالفه فيه جماعة من الصحابة القائلين بالتمتع وبالقران أيضا واختاروهما على الإفراد فمن حجة من اختار التمتع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لو استقبلت
من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة
والصحيح عندي أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) لم ينه عن التمتع المذكور في هذا الباب لأنه كان أعلم بالله ورسوله من أن ينهي عما أباحه الله في كتابه وأباحه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر به وأذن فيه وإنما نهى عمر عند أكثر العلماء عن فسخ الحج في العمرة فهذه العمرة التي تواعد عليها عمر
وفيها روي الحديث عنه أنه قال متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما متعة النساء ومتعة الحج
يعني فسخ الحج في العمرة وعلى أن فسخ الحج في العمرة لا يجوز عند أكثر علماء الأمة من الصحابة ومن بعدهم لقول الله تعالى * (وأتموا الحج والعمرة لله) * [البقرة 196] يعني لمن دخل فيه
ولا أعرف من الصحابة من يجيز فسخ الحج في العمرة بل خص به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
روي عن عثمان بن عفان أنه قال متعة الحج كانت لنا ليست لكم يعني أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة بفسخ الحج في العمرة
وقال أبو ذر ما كان لأحد بعدنا أن يحرم بالحج ثم يفسخ بعمرة
وروى ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن الحارث بن بلال بن الحارث المزني عن أبيه قال قلت يا رسول الله أفسخ الحج لنا خاصة أم لمن بعدنا فقال بل لنا خاصة
95

وقد ذكرنا أسانيد هذه الأحاديث في التمهيد ونذكرها في موضعها من هذا الكتاب إن شاء الله
وأما قول سعد قد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنعناها معه فإن ظاهره يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان متمتعا وهذا قد روي فيه من الآثار ما ذكرنا في باب الإفراد
ولا يصح عندي أن يكون متمتعا إلا تمتع قران لأنه لا خلاف بين العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل من عمرته حين أمر أصحابه أن يحلوا ويفسخوا حجهم في عمرة فإنه أقام محرما من أجل هدية إلى محل الهدي يوم ينحر وهذا حكم القارن لا حكم المتمتع
وقد تأول من قال بالإقران قوله صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث سعد هذا وفيه حديث عمران بن حصين المذكور
وفي قول بن عمر تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج وساق الهدي أن ذلك كله أضافوه إليه لأمره به فأشار به لا أنه يعلمه في خاصة نفسه كما قالوا رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم الزاني المحصن وقطع السارق ونحو ذلك
وهذا اعتلال غير صحيح لأنه يلزمهم مثله في رواية من قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج أي أباحه وأذن فيه ولم يفعله في خاصته
ولكل واحد منهم حجج يدعو بها يطول ذكرها وقد ذكرنا أصولها وعيونها في التمهيد وفي مواضع من هذا الكتاب
وفي هذا الباب
قال مالك في رجل من أهل مكة انقطع إلى غيرها وسكن سواها ثم قدم معتمرا في أشهر الحج ثم أقام بمكة حتى أنشأ الحج منها إنه متمتع يجب عليه الهدي أو الصيام إن لم يجد هديا وأنه لا يكون مثل أهل مكة
قال أبو عمر لا خلاف بين أهل العلم فيما ذكره مالك في هذه المسألة إلا شذوذ لا يعرج عليه ولا التفت أحد من الفقهاء إليه إذا لم يكن له أهل بمكة وقد ذكرناه
وذكر أنه سئل عن رجل من غير أهل مكة دخل مكة بعمرة في أشهر الحج وهو يريد الإقامة بمكة ينشئ الحج أامتمتع هو فقال نعم هو متمتع وليس هو مثل أهل مكة وإن أراد الإقامة وذلك أنه دخل مكة وليس هو من أهلها وإنما الهدي أو الصيام على من لم يكن من أهل مكة وأن هذا الرجل يريد الإقامة ولا يدري ما يبدو له بعد ذلك
96

قال أبو عمر قد احتج مالك لمسألته هذه بقوله أنه يريد الإقامة ولا يدري ما يبدو له يعني أنه لا يكون مكيا إلا حتى يصبح استيطانه وسكنه بمكة أقل ذلك عام لأنه رجل من غير أهل مكة دخل مكة معتمرا وحكم التمتع إنما جعله الله تعالى لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام
وهذا لا خلاف فيه إلا في حاضري المسجد الحرام منهم وسنذكر ذلك فيما بعد من هذا الباب إن شاء الله
731 - وفي هذا الباب مالك عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول من اعتمر في شوال أو ذي العقدة أو في ذي الحجة ثم أقام بمكة حتى يدركه الحج فهو متمتع إن حج وما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع
قال أبو عمر قول سعيد هذا قد تقدم في معنى قول بن عمر وقول مالك ولا مدخل للقول فيه إلا أنه لم يستثن من كان أهله حاضري المسجد الحرام الذين لازم عليهم أن يتمتعوا هم أهل مكة وأهل الوادي ذي طوى وما كان من ذلك مثل مكة
وقال الثوري هم أهل مكة دون غيرهم
وقال أبو حنيفة هم أهل المواقيت ومن بعدهم إلى مكة
ومن اعتمر عند أبي حنيفة وأصحابه من المواقيت أو من دونها إلى مكة ثم حج من عامه فليس بمتمتع ولا هدي عليه وقال مكحول من كان منزله وأهله دون المواقيت إلى مكة فهو من حاضري المسجد الحرام وأما أهل المواقيت فهم كسائر أهل الآفاق
وروي ذلك عن عطاء
وهو قول الشافعي بالعراق
وقال الشافعي بمصر حاضرو المسجد الحرام من كان بينه وبين مكة ليلتان وذلك أدنى المواقيت ومن كان له ساق من منزله إلى مكة لم يجز له أن يقصر الصلاة وهو قول عطاء في اعتبار ما تقصر فيه الصلاة
قال وأما ضجنان وعرفة والنخلتان والترجيع ومر الظهران فأهلها من حاضري المسجد الحرام
97

وقال طاوس ومجاهد من كان ساكن الحرم فهو من حاضري المسجد الحرام وإليه ذهب طاوس وأهل العلم
وقال أبو حنيفة حاضرو المسجد الحرام ليس لهم أن يتمتعوا ولا أن يقرنوا
وروي مثل ذلك عن الحسن البصري وجماعة من التابعين
وبه قال أبو عبيد
وقال مالك لا أحب على أن يقرن بين الحج والعمرة ولا أعلم أن مكيا قرن
وقال بن الماجشون على أهل مكة الدم متى قرنوا ولا دم عليهم إن تمتعوا
((20 - باب ما لا يجب فيه التمتع))
732 - قال مالك من اعتمر في شوال أو ذي القعدة أو ذي الحجة ثم رجع إلى أهله ثم حج من عامه ذلك فليس عليه هدي إنما الهدي على من اعتمر في أشهر الحج ثم أقام حتى الحج ثم حج وكل من انقطع إلى مكة من أهل الآفاق وسكنها ثم اعتمر في أشهر الحج ثم أنشأ الحج منها فليس بمتمتع وليس عليه هدي ولا صيام وهو بمنزلة أهل مكة إذا كان من ساكنيها
سئل مالك عن رجل من أهل مكة خرج إلى الرباط أو إلى سفر من الأسفار ثم رجع إلى مكة وهو يريد الإقامة بها كان له أهل بمكة أو لا أهل له بها فدخلها بعمرة في أشهر الحج ثم أنشأ الحج وكانت عمرته التي دخل بها من ميقات النبي صلى الله عليه وسلم أو دونه أمتمتع من كان على تلك الحالة فقال مالك ليس عليه ما على المتمتع من الهدي أو الصيام وذلك أن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه * (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) * [البقرة 196]
قال أبو عمر أما قول مالك فليس عليه هدي يريد أنه ليس بمتمتع فلذلك لم يلزمه الهدي ولو كان متمتعا للزمه الهدي في التمتع عند جمهور العلماء
هذا الذي لا يرجع إلى بلده ويحج من عامه
وروي عن الحسن في ذلك خلاف ما عليه الجمهور وذلك أنه قال عليه الهدي حج أو لم يحج رجع إلى بلده أو لم يرجع لأنه كان يقول عمرة في أشهر الحج متعة
98

وروى شعبة عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتمرون في أشهر الحج ثم يرجعون فلا يهدون فقلت لسعيد بن المسيب فإن حج من عامه فقال فعليه الهدي
قال قتادة وقال الحسن عليه الهدي حج أو لم يحج
وروى هشيم بن بشير عن الحسن مثله قال عليه الهدي حج أو لم يحج
وروى أشعث عن الحسن قال من اعتمر في أشهر الحج ثم رجع إلى أهله ثم حج من عامه ذلك فعليه هدي لأنه كان يقال عمرة في أشهر الحج متعة
وروى هشيم عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال من اعتمر في أشهر الحج ثم أقام حتى يحج فهو متمتع وعليه الهدي فإن رجع إلى مصره ثم حج من عامه فلا شيء عليه
قال أبو عمر على قول سعيد هذا فقهاء الأمصار وجمهور العلماء
وقد روي عن طاوس في التمتع قولان هما أشد شذوذا مما ذكرنا عن الحسن
أحدهما أن من اعتمر في غير أشهر الحج ثم أقام حتى الحج ثم حج من عامه فهو متمتع وهذا لم يقله أحد من العلماء غيره فيما علمت
وذلك والله أعلم أن شهور الحج أحق بالحج من العمرة لأن العمرة جائزة في السنة كلها والحج إنما موضعه أشهر معلومات فإذا جعل أحد العمرة في أشهر الحج ولم يحج العام فقد جعل العمرة في عام كان الحج أولى بها ثم رخص الله (عز وجل) في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم في العمرة في أشهر الحج للمتمتع وللقارن ولمن شاء أن يفردها في أشهر الحج
والقول الآخر قاله في المكي إذا تمتع من مصر من الأمصار فعليه الهدي وهذا لم يعرج عليه أحد لظاهر قول الله (عز وجل) * (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) * [البقرة 196]
وأوجب القول فيمن أنشأ عمرة في غير أشهر الحج ثم عملها في أشهر الحج ثم حج من عامه ذلك ف
قال مالك عمرته في الشهر الذي حل فيه يريد إن كان حل منها في غير أشهر الحج فليس بمتمتع وإن كان حل منها في أشهر الحج فهو متمتع إن حج من عامه
وقال الثوري إذا قدم الرجل معتمرا في شهر رمضان وقد بقي عليه منه يوم أو
99

يومان فلم يطف لعمرته حتى رأى هلال شوال فكان إبراهيم يقول هو متمتع وأحب إلي أن يهريق دما
وقال أبو حنيفة وأصحابه إن طاف للعمرة ثلاثة أشواط في رمضان وأربعة أشواط في شوال كان متمتعا وإن طاف لها أربعة في رمضان وثلاثة في شوال لم يكون متمتعا
قال الشافعي إذا طاف بالبيت في أشهر الحج بالعمرة فهو متمتع إن حج من عامه ذلك وذلك أن العمرة إنما تكمل بالطواف بالبيت وإنما ينظر إلى كمالها
وقال أبو ثور إذا دخل في العمرة في غير أشهر الحج فبدأ الطواف لها في رمضان أو في شوال لا يكون متمتعا
واختلفوا في وقت وجوب الهدي على المتمتع ف ذكر بن وهب عن مالك أنه سئل عن المتمتع بالعمرة إلى الحج يموت بعد ما يخرج بالحج بعرفة أو غيرها أترى عليه هديا
قال من مات من أولئك قبل أن يرمي جمرة العقبة فلا أرى عليه هديا ومن رمى ثم مات فعليه الهدي
قيل له فالهدي من رأس المال أو من الثلث قال بل من رأس المال وقال الشافعي إذا أحرم بالحج فقد وجب عليه دم المتعة إذا كان واجدا لذلك
ذكره الزعفراني عنه
وهو قول الكوفيين
وقال ربيعة إذا أهل المتمتع بالحج ثم مات من ساعته أو قبل أن يصوم ففيه قولان أحدهما أن عليه دم المتعة لأنه دين عليه ولا يجوز أن يصام عنه والآخر أنه لا دم عليه لأن الوقت الذي قد وجب عليه الصوم قد مات فيه
واتفق مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم أن المتمتع إذا لم يجد هديا صام ثلاثة أيام إذا أحرم بالحج إلى آخر يوم عرفة
وهو قول أبي ثور
وقال عطاء لا بأس أن يصوم المتمتع في العشر وهو حلال قبل أن يحرم
وقال مجاهد وطاووس إذا صامهن في أشهر الحج أجزاه
وقال مالك إن صام بعد إحرامه بالعمرة وهو يريد أن يتمتع بالعمرة إلى الحج لم يجزه ولكن يصوم ما بين إحرامه بالحج إلى يوم عرفة
100

وهو قول الشافعي
وروي عن عائشة وبن عمر مثل ذلك
وقال الثوري وأبو حنيفة إن من صام بعد إحرامه بالعمرة أجزاه
وقال زفر إذا بدأ بالحج فأحرم به وهو يريد أن يضيف إليه عمرة فصام قبل إحرامه للعمرة أجزاه
وقال أبو يوسف إن بدأ بإحرام العمرة فصام قبل إحرام الحج أجزاه وإن بدأ بإحرام الحج فصام قبل إحرام العمرة يجزيه
وقال الحسن بن زياد إن أحرم بالعمرة لم يجزه الصوم حتى يحرم بالحج
وهو قول عمرو بن دينار
وقال عطاء لا يصوم حتى يقف بعرفة
وأجمعوا على أن الصوم لا سبيل للمتمتع إليه إذا كان يجد الهدي فلا يصم الثلاثة الأيام قبل يوم النحر فقال مالك يصومها في أيام التشريق فإن فاته ذلك صام عشرة أيام إذا رجع إلى بلاده وأجزاه وإن وجد هديا بعد رجوعه وقبل صومه أهدى قبل أن يصوم
وقال أبو حنيفة إذا لم يصم الثلاثة الأيام في الحج لم يجزه الصوم بعد وكان عليه هديان هدي لمتعتة أو قرانه وهدي لتحلله من غير هدي ولا صيام
وقال سفيان الثوري إذا لم يصم الثلاثة الأيام في الحج ولا سبيل إلى الصيام بعد
وقال الأوزاعي لا يقضى يوم النحر حتى يهدي أو يصوم فإن لم يهد حتى رجع إلى بلاده فعليه هدي ويصوم عشرة أيام في بلده ويهدي إن وجد
وعن الشافعي قولان أحدهما قول مالك والآخر كقول أبي حنيفة
واختلف قوله في صيام أيام منى للمتمتع إذا لم يجد الهدي فقال بالعراق يصومها كقول مالك وقال في مصر لا يصومها أحد لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامها
واختلفوا فيه إذا كان غير واجد للهدي فصام ثم وجد الهدي قبل كمال صومه ف ذكر بن وهب عن مالك قال إذا دخل في الصوم فإن وجد هديا فأحب إلي أن يهدي فإن لم يفعل أجزاه الصيام
101

وذكر بن عبد الحكم وغيره عن مالك في هذا الباب أن المتظاهر والحالف إن دخل أحدهم في الصيام ثم وجد المتمتع الهدي أو وجد المتظاهر الرقبة والحالف ما يطعم أو يكسو أن كل واحد منهما بالخيار بعد دخوله في الصوم أنه إن شاء فادى في الصوم وإن شاء رجع إلى ما كان عليه
وقال أبو حنيفة والثوري لا يجزئ الصوم واحدا منهم إذا وجد قبل أن يتم صومه
وهو قول عطاء وعثمان البتي والحسن بن صالح
وقال الشافعي يمضي في صومه وهو فرضه كما يمضي في الصلاة بالتيمم إذا طرأ عليه الماء وهو فيها
وهو قول أبي ثور
وقال أبو حنيفة إذا أيسر المتمتع في يوم الثلاث من صومه يصل الصوم ووجب الهدي فإن صام ثلاثة أيام في الحج كاملة ثم أيسر كان له أن يصوم السبعة الأيام ولا يرجع
إلى الهدي
وقال إبراهيم النخعي إذا وجد ما يذبح قبل أن يحل من حجه فليذبح وإن كان قد صام لم يجد ما يذبح حتى يحل فقد أجزاه الصوم
وقال عطاء إن صام ثم وجد ما يذبح فليذبح حل أو لم يحل ما كان في أيام التشريق
واختلفوا فيما على من فاته صوم الثلاثة الأيام قبل يوم النحر ف ذكر بن وهب عن مالك قال من نسي صوم الثلاثة الأيام في الحج أو مرض فيها فإن كان بمكة فليصم الثلاثة الأيام فيها وليصم إذا رجع إلى أهله سبعة وإن كان رجع إلى أهله فليهد إن قدر فإن لم يقدر فليصم ثلاثة وسبعة بعدها
وهو قول أبي ثور وتحصيل مذهبه إنه إذا قدم بلده ولم يصم ثم وجد الهدي لم يجزه الصوم ولا يصوم إلا إذا لم يجد هديا
وقال أبو حنيفة وأصحابه إذا انقضى يوم عرفة ولم يصم الثلاثة الأيام فعليه دم
واتفق مالك وغيره والشافعي وأبو حنيفة والثوري وأبو ثور على أن المتمتع يطوف لعمرته بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة وعليه بعد ذلك طواف آخر لحجه وسعي آخر بين الصفا والمروة
102

وروي عن عطاء وطاوس ومجاهد أنه يكفيه سعي واحد بين الصفا والمروة واختلفوا في حكم المتمتع الذي يسوق الهدي ف قال مالك إن كان متمتعا حل إذا طاف وسعى ولا ينحر هديه إلا بمنى إلا أن يكون مفردا للعمرة فإن كان مفردا للعمرة نحره بمكة وإن كان قارنا نحره بمنى
ذكره بن وهب وغيره عن مالك
وقال مالك من أهدى هديا للعمرة وهو متمتع لم يجزه ذلك وعليه هدي آخر لمتعته لأنه إنما يصير متمتعا إذا أنشأ الحج بعد أن حل من عمرته وحينئذ يجب عليه الهدي
وقال أبو حنيفة وأبو بكر ومحمد والثوري وإسحاق وأبو ثور لا ينحر المتمتع هديا إلا يوم النحر وقال أحمد إن قدم المتمتع قبل العشر طاف وسعى ونحر هديه وإن قدم في العشر لم ينحر إلا يوم النحر
وقاله عطاء
وقال الشافعي يحل من عمرته إذا طاف وسعى ساق هديا أو لم يسق
وقال أبو ثور يحل ولكن لا ينحر هديه حتى يحرم بالحج وينحره يوم النحر
وقول أحمد بن حنبل في مسائل المتمتع المذكورة كلها في هذا الباب كقول الشافعي سواء
قال أبو حنيفة وأصحابه إذا لم يسق المتمتع هديا فإذا فرغ من عمرته كان حلالا ولا يزال كذلك حتى يحرم بالحج فيصير حراما ولو كان ساق الهدي لمتعته لم يحل من عمرته حتى يحل من حجة لأنه ساق الهدي معه
وحجتهم في ذلك حديث بن عمر أن حفصة [قالت] ما بال الناس حلوا ولم تحل أنت من عمرتك
وقال مالك والشافعي إذا ساق المتمتع الهدي لمتعته وطاف للعمرة وسعى حل إلى يوم التروية
قال الشافعي وما يكون متمتعا إذا استمتع بإحلاله إلا أن يحرم بالحج يوم التروية فأما من لم يحل من المعتمر فإنما هو قارن لا متمتع وبالله التوفيق
103

((21 - باب جامع ما جاء في العمرة))
733 - مالك عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة
قال أبو عمر هذا حديث مسند صحيح وقوله فيه العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما مثل قوله الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر قد ذكرنا الأحاديث بذلك في كتاب الصلاة
وأما قوله الحج المبرور فهو الحج المتقبل والله أعلم
وقد روى يحيى بن أبي كثير عن جعفر عن أبي هريرة قال الحج المبرور يكفر خطأ تلك السنة
وأبو جعفر هذا رجل من أهل المدينة مجهول لم يرو عنه غير يحيى بن أبي كثير
وسمي أصح منه وهو يرفعه لأن معناه يقتضي أنه صح وسلم من الخطايا قبل حجه وإنما تكون الجنة جزاء من غفر له وثقلت موازين حسناته وتجاوز الله عن سيئاته
ويشهد لحديث سمي هذا حديث أبي حازم عن أبي هريرة
حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا جعفر بن محمد بن شاكر قال حدثنا محمد بن سابق قال حدثنا إبراهيم بن سليمان عن منصور عن هلال بن يسار عن أبي حازم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حج البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه
وقيل الحج المبرور الذي لا رياء فيه ولا سمعة ولا رفث ولا فسوق وكانت النفقة فيه من المال الطيب
104

وقد قيل في الحج المبرور حدثنا محمد بن عبد الملك قال حدثنا بن الأعرابي قال حدثنا الحسن بن محمد الزعفراني قال حدثنا حكيم بن سالم الرازي عن ثعلبة عن ليث عن مجاهد عن بن عمر قال الحج المبرور إطعام الطعام وحسن الصحبة
وروى ضمرة بن ربيعة عن ثور بن يزيد قال من أم هذا البيت ولم يكن فيه ثلاث خصال لم يسلم له حجة من لم يكن له حلم يضبط به جهله وورع عما حرم الله عليه وحسن الصحبة لمن صحبة
وقد حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد قال حدثنا أيوب عن سويد عن الأوزاعي عن محمد بن المنكدر عن جابر قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما بر الحج قال إطعام الطعام وطيب الكلام
وذكر بن شاهين قال حدثنا أحمد بن المغلس قال حدثنا عروة بن علي قال حدثنا عمر بن أبي خلف العنبري قال حدثنا داود أبو سعيد قال قال رجل للحسن يا أبا سعيد ما الحج المبرور قال أن يدفع زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة
734 مالك عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن أنه سمع أبا بكر بن عبد الرحمن يقول جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت إني قد كنت تجهزت للحج فاعترض لي فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمري في رمضان فإن عمرة فيه كحجة
قال أبو عمر هكذا الحديث (مرسلا) في الموطأ إلا أنه قد صح أن أبا بكر بن عبد الرحمن قال سمعت من تلك المرأة فصار بذلك مسندا
وقد ذكرنا شواهد الآثار المسندة بما وصفنا في التمهيد
وفيه من الفقه تطوع النساء بالحج إذا كان معهن ذو محرم أو زوج أو كانت المرأة في جماعة نساء يعين بعضهن بعضا يعني أن لا ينضم الرجال إليهن عند النزول والركوب وكانت الطرق مأمونة
105

وفيه أن بعض الأعمال أفضل من بعض وأن الشهور بعضها أفضل من بعض
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم عمرة في رمضان تعدل حجة من حديث علي بن أبي طالب وأنس وبن عباس وأم معقل وهو حديثه هذا وقد ذكرنا الأسانيد من أحاديث هؤلاء في التمهيد وأحسنها حديث بن عباس
وقيل في هذه المرأة أم معقل وقيل أم الهيثم وقيل أم سنان وهي جدة عبد الله بن سلام والأشهر أم معقل
ذكر عبد الرزاق قال حدثنا معمر عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن امرأة من بني أسد من خزيمة يقال لها أم معقل قالت قلت يا رسول الله إني رأيت الحج فضل جملي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمري في شهر رمضان فإن عمرة فيه تعدل حجة
هكذا قال الزهري أم معقل في اسم المرأة وقد تابعه على ذلك جماعة
قال بن جريج سمعت داود بن أبي عاصم يحدث بهذا الحديث عن أبي بكر بن عبد الرحمن قال اسم المرأة أم سنان
وأما قوله فإن عمرة في رمضان كحجة يريد والله أعلم في التطوع لكل واحد منهما والثواب عليهما أنه سواء والله يوفي فضله من يشاء والفضائل ما تدرك بقياس وإنما فيها ما جاء في النص
735 - وفي الباب مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب قال افصلوا بين حجكم وعمرتكم فإن ذلك أتم لحج أحدكم وأتم لعمرته أن يعتمر في غير أشهر الحج
قال أبو عمر كان عمر (رضي الله عنه) يرى الأفراد ويميل إليه ويستحبه فلا يرى أن يقرن الحج مع العمرة وإن كان ذلك عنده جائز بدليل حديث الصبي بن معبد إذ قرن وسأله عن القرآن وذكر له إنكار سليمان بن ربيعة وزيد بن صوحان لتلبيته
106

بالحج والعمرة معا فقال له هديت لسنة نبيك فهذا بين له أن القرآن عنده سنة ولكنه أستحب الإفراد لأنه إذا أفرد الحج ثم قصد البيت من قابل العمرة أو قبلها في عامه من بلده أو من مكة في غير أشهر الحج كان عمله وتعبه ونفقته أكثر ولهذا لم يكن يستحب العمرة في أشهر الحج ولا استحب التمتع بالعمرة إلى الحج كل ذلك حرص منه على زيارة البيت وعلى كثرة العمل لأن من أفرد عمرته من حجة كان أكثر عملا من القارن ومن كان أكثر عملا كان أكثر أجرا إن شاء الله أو لما أعلم الله عز وجل من استحبابه الإفراد ولعله كان يعتقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مفردا في حجته فمال إلى ذلك واستحبه ولقد روي عنه أنه قال في قول الله (عز وجل) * (وأتموا الحج والعمرة لله) * [البقرة 196] قال إتمامها أن تفردها وتفرد الحج
ولا أعلم أحدا من السلف روي ذلك عنه غيره إلا طاوسا
ومن هذا المعنى حديثه هذا افصلوا بين حجكم وعمرتكم فإن ذلك أتم لحج أحدكم وعمرته
وللعلماء في قول الله (عز وجل) * (وأتموا الحج والعمرة لله) * أقوال منها
قول عمر هذا
ومنها قول علي وطائفة قالوا إتمامها أن تحرم بهما من منزلك أو مسكنك
ومنها قول من قال * (وأتموا الحج والعمرة) * أي أقيموا الحج والعمرة
ذكر عبد الرزاق قال أخبرني الثوري عن ثور بن يزيد عن سليمان بن موسى عن طاوس في قوله تعالى * (وأتموا الحج والعمرة لله) * قال إتمامهما أن تفردهما وتحرم من دويرة أهلك
وقالت طائفة من أهل العلم إنما خوطب بهذه الآية من دخل في الحج أو العمرة
ذكر عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن الزهري عن سالم قال سئل بن عمر عن متعة الحج فأمر بها فقيل له إنك تخالف أباك فقال إن عمر لم يقل الذي تقولون إنما قال عمر أفردوا الحج من العمرة فإنه أتم للحج وأتم للعمرة أي أن العمرة لا تتم في شهور الحج إلا بهدي وأراد أن يزار البيت في غير شهور الحج فجعلتموها أنتم حراما وعاقبتم الناس عليها وقد أحلها الله تعالى وعمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أكثروا عليه قال كتاب الله أحق أن يتبع أو عمر
107

قال وأخبرنا معمر عن صدقة بن يسار قال سمعت بن عمر يقول لو أن بين الحج والعمرة أحب إلي من المتعة
قال وأخبرني [بن التيمي] عن القاسم بن الفضل قال سمعت رجلا قال أنهى عمر عن متعة الحج قال لا أبعد كتاب الله
736 - مالك أنه بلغه أن عثمان كان إذا اعتمر ربما لم يحطط عن راحلته حتى يرجع
المغني في هذا الخبر عن عثمان بن عفان ما كان عليه (رضي الله عنه) من الحرص على الطاعة والقربة إلى الله بالانصراف إلى دار الهجرة التي افترض عليه المقام فيها وأن لا يظعن عنها إلا فيما لا بد منه من دين أو دنيا ظعن سفر لا ظغن إقامة عنها وكان من الفرض عليه وعلى كل من كان مثله ألا يرجع للسكنى والمقام إلى الدار التي افترض عليه الهجرة منها وانصرف وأن يجعل الانصراف إلى موضع هجرته بمقدار ما يمكنه وإنما أرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا يعني لقضاء حاجاته فرأى عثمان أنه مستغن عن الرخصة في ذلك لما يلزم من القيام بأمور الخاصة والعامة من المسلمين
وفي هذا الباب أيضا
قال مالك العمرة سنة ولا نعلم أحدا من المسلمين أرخص في تركها
قال أبو عمر هذا اللفظ يدل ظاهرة على وجوب العمرة وقد جهل بعض الناس مذهب مالك فظن أنه يوجب العمرة فرضا بقوله ولا نعلم أحدا من المسلمين أرخص في تركها
وقال هذا سبيل الفرائض وليس كذلك عند جماعة أصحابه ولا يختلفون عنه أنها سنة مؤكدة
وقال إبراهيم النخعي هي سنة حسنة
وكان الشافعي ببغداد يقول هي سنة لا فرض وقال بمصر هي فرض لازم كالحج مرة في الدهر
108

وهو قول بن عمر وبن عباس وعطاء وطاوس ومجاهد والحسن وبن سيرين وداود وسعيد بن جبير
وبه قال أحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور على اختلاف عنه
وقال أبو حنيفة وأصحابه هي تطوع وليست بواجبه
وهو قول الشعبي وبه قال أبو ثور وداود
وروي عن بن مسعود قال الحج فريضة والعمرة تطوع
وذكر الطبري أن قول أبي ثور كقول الشافعي المصري يوجبون العمرة
وذكره بن المنذر عن أبي حنيفة فأخطأ عليه عند جماعة أصحابه
وقال الثوري الذي بلغنا وسمعنا أنها واجبة
وقال الأوزاعي كان بن عباس يقول إنها واجبة كوجوب الحج
قال أبو عمر المعروف من مذهب الثوري والأوزاعي إيجابها
ومن حجة من لم يوجب العمرة أن الله (عز وجل) لم يوجب العمرة بنص مجتمع عليه ولا أوجبها رسوله في ثابت النقل عنه ولا اتفق المسلمون على إيجابها والفروض لا تجب إلا من هذه الوجوه أو من دليل منها لا مدفع فيه
وحجة من أوجبها وهم الأكثر قوله تعالى * (وأتموا الحج والعمرة لله) * [البقرة 196]
ومعنى أتموا عند من قال بذلك أقيموا الحج والعمرة لله
وقالوا لما كان * (وأقيموا) * في قوله تعالى * (فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة) * [النساء 196] أي فأتموا الصلاة كان معنى * (فأتموا) * أقيموا
وروى الثوري عن منصور والأعمش عن إبراهيم في حرف بن مسعود (وأقيموا الحج والعمرة) إلى (البيت) قال الحج المناسك كلها والعمرة الطواف والسعي
ذكر بن وهب عن مالك قال العمرة سنة وليست بواجبة مثل الحج لكل شيء قدرا
وذكر بن وهب عن مالك أيضا قال لا يعتمر في السنة إلا مرة كما لا يحج إلا مرة
وقال أحمد وإسحاق العمرة واجبة وتقضي منها المتعة
109

وهو قول جماعة من السلف
وروي عن عمر بن الخطاب قال كتب الله عليكم الحج والعمرة
وروي وجوب العمرة عن علي وبن عباس وبن عمر
وروى بن عيينة عن عمرو عن طاوس عن بن عباس قال والله إنها لقرينتها في كتاب الله (عز وجل) * (وأتموا الحج والعمرة لله) * [البقرة 196]
وروى بن جريج وأيوب وعبيد الله عن نافع عن بن عمر أنه قال ليس أحد إلا وعليه حجة وعمرة واجبتان إن استطاع إليهم السبيل
والآثار عمن ذكرنا كثيرة جدا
وروي عن عائشة أنها قالت يا رسول الله ألا نخرج ونجاهد معك فإني لا أرى عملا في القرآن أفضل من الجهاد قال لا إن لكن أحسن الجهاد حج البيت حج مبرور
ومعنى هذه الآية عند من لم يوجب العمرة فرضا وجوب إتمامها وإتمام الحج على من دخل فيها
قالوا ولا يقال * (أتموا) * إلا لمن دخل في ذلك العمل
واستدلوا على صحة هذا التأول بالإجماع على أن من دخل في حجة أو عمرة ضرورة كانت أو غير ضرورة متطوعا كان أو مؤديا فرضا ثم عرض له ما يفسده عليه أنه واجب عليه إتمام ذلك الحج وتلك العمرة والتمادي فيهما مع فسادهما حتى يتمهما ثم يقضي بعد بخلاف الصلاة
وهذا الإجماع أولى بتأويل الآية أيضا قولان آخران قد مضى ذكرهما في هذا الباب
ومن حجة من لم يوجب العمرة حديث الحجاج بن أرطأة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم عن العمرة أواجبة هي قال لا ولأن تعتمر خير لك
110

وهذا لا حجة فيه عند أهل العلم بالحديث لانفراد الحجاج به وما انفرد به فليس بحجة عندهم
وقد روى شعبة عن النعمان بن سالم عن عمرو بن أوس عن أبي رزين قال قلت يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة قال فاحجج عن أبيك واعتمر
وهذا الحديث عندهم أصح من حديث الحجاج بن أرطأة
وقد روى الثوري عن معاوية بن إسحاق عن أبي صالح الحنفي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج واجب والعمرة تطوع
وهذا منقطع ولا حجة فيه
ومثله مما يعارضه حديث عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم العمرة الحج الأصغر
وذكر عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة أنه كان يحدث أنه لما نزلت * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) * [آل عمران 97] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هي حج وعمرة فمن قضاهما فقد قضى الفريضة والذي نفسي بيده لو قلت كل عام لوجبت
قال معمر قال قتادة العمرة واجبة
قال وأخبرنا بن جريج عن بن عطاء عن عكرمة عن بن عباس
قال وأخبرنا بن عيينة عن عمرو بن دينار عن طاوس قال سمعت بن عباس إنها لقرينتها في كتاب الله ثم قرأ (وأتموا الحج والعمرة لله) [البقرة
111

قال وأخبرني الثوري عن سعيد الجريري وسليمان التيمي عن حيان بن عمير عن بن عباس قال العمرة واجبة
قال وأخبرنا بن جريج قال أخبرني نافع أنه سمع عبد الله بن عمر يقول ليس من خلق الله أحد إلا وعليه حجة وعمرة واجبتان من استطاع إليه سبيلا ومن زاد بعدهما شيئا فهو خير وتطوع
قال وأخبرني الثوري ومعمر عن بن جريج عن نافع عن بن عمر قال العمرة واجبة قال وأخبرنا عبد الله بن أبي سليمان قال سألت سعيد بن جبير عن العمرة واجبة هي قال نعم فقال له نسير بن رومان إن الشعبي يقول ليست واجبة قال كذب الشعبي إن الله تعالى يقول * (وأتموا الحج والعمرة لله) * [البقرة 196]
قال أبو عمر قوله كذب ها هنا معناه غلط وهو معروف في اللغة وقد أتينا بشواهده في غير هذا الموضع
قال عبد الرزاق أخبرنا بن جريج عن عطاء قال ليس من خلق الله أحد إلا وعليه حجة وعمرة واجبتان ولا بد منهما كما قال الله تعالى * (من استطاع إليه سبيلا) * حتى أهل بوادي قائل إلا أهل مكة فإن عليهم حجة وليست عليهم عمرة من أجل أنهم أهل البيت يطوفون به وإنما العمرة من أجل الطواف
قال أبو عمر قول عطاء هذا بعيد من النظر ولو كانت العمرة ساقطة عن أهل مكة لسقطت عن الآفاق والله أعلم
وأما قول مالك في هذا الباب لا أرى لأحد أن يعتمر في السنة مرارا فقد قاله غيره
وإن كان جمهور العلماء على إباحة العمرة في كل السنة لأنها ليس لها عند الجميع وقت معلوم ولا وقت ممنوع لأن تقام فيه إلا من بعد طواف الحج بالبيت أو آخره في الطواف أو عند طواف القدوم إلى أن يتم حجة وما عدا هذا الوقت فجائز عمل العمرة فيه العام كله
إلا أن من أهل العلم من استحب إلا يزيد في الشهر على عمرة ومنهم من استحب أن لا يعتمر المعتمر في السنة إلا مرة واحدة كما قال مالك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجمع عمرتين في عام
112

والجمهور على جواز الاستكثار منها في اليوم والليلة لأنه عمل بر وخير فلا يجب الامتناع منه إلا بدليل ولا دليل أمنع منه بل الدليل يدل عليه بقول الله (عز وجل) * (وافعلوا الخير) * [الحج 77]
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة
وأما الاستحباب بغير لازم ولا يضيق لصاحبه
ذكر عبد الرزاق قال أخبرني الثوري عن منصور عن إبراهيم قال كانوا لا يعتمرون في السنة إلا مرة واحدة
قال وأخبرنا جعفر عن هشام عن الحسن أنه كان يكره عمرتين في سنة
وقال بن سيرين تكره العمرة في السنة مرتين
وأما الذين أجازوا العمرة في السنة مرارا فمنهم علي وبن عباس وبن عمر وعائشة وأنس والقاسم بن محمد وطاوس وسعيد بن المسيب
ذكر عبد الرزاق عن بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال اعتمرت عائشة في سنة ثلاث مرات مرة من الجحفة ومرة من التنعيم ومرة من ذي الحليفة
قال وأخبرنا عبيد الله وعبد الله ابنا عمر عن نافع أن بن عمر اعتمر في [عام القتال] عمرتين
قال وأخبرنا معمر عن الثوري عن صدقة عن القاسم قال فرطت عائشة في الحج فاعتمرت تلك السنة مرارا ثلاثا
قال صدقة قلت للقاسم أنكر عليها أحد قال سبحان الله على أم المؤمنين
وذكر الطبري قال حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن معاذة عن عائشة قالت العمرة في السنة كلها إلا أربعة أيام هي يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق
قال أبو عمر هذا قول أبي حنيفة وأصحابه قالوا العمرة جائزة في السنة كلها إلا يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق فإنها مكروهة فيها
وكان القاسم يكره عمرتين فيها ويقول في كل شهر عمرة
وكذلك قال طاوس في كل شهر عمرة
113

وعن علي (رضي الله عنه) في كل شهر عمرة
وقال عكرمة يعتمر متى شاء
وقال عطاء إن شاء اعتمر في كل شهر مرتين
وعن طاوس إذا ذهبت أيام التشريق فاعتمر ما شئت
وقال الثوري السنة كلها وقت العمرة يعتمر فيها من شاء متى شاء
وهو قول أبي حنيفة والشافعي وسائر الفقهاء إلا ما ذكرنا من تخصيص أيام التشريق
وقد يحتمل قول الثوري أن يجوز العمرة لكل من طاف طواف الإفاضة لأنه قد دخل الحل كله وليست العمرة بواجبة من أيام التشريق
قال مالك في المعتمر يقع بأهله أن عليه في ذلك الهدي وعمرة أخرى يبتديها بعد إتمامه التي أفسد ويحرم من حيث أحرم بعمرته التي أفسد إلا أن يكون أحرم من مكان أبعد من ميقاته فليس عليه أن يحرم إلا من ميقاته
قال أبو عمر لا يختلف العلماء في أن كل من أفسد عمرته بوطء أهله أن عليه إتمامها ثم قضاءها إلا شيء جاء عن الحسن البصري سنذكره في باب من وطئ في حجة لم يتابعه عليه أحد فإنهم مجمعون غير الرواية التي جاءت عن الحسن على التمادي في الحج والعمرة حتى يتما ذلك ثم القضاء بعد والهدي للإفساد
إلا أنهم اختلفوا في الوقت الذي إذا جامع فيه المعتمر أفسد عمرته ف مذهب مالك والشافعي أن المعتمر إذا وطئ بعد إحرامه بالعمرة إلى أن يكمل السعي بعد الطواف فعليه عمرته وعليه المضي فيها حتى يتم والهدي لإفسادها ثم قضاؤها وإن جامع قبل الحلاق وبعد السعي فعليه دم وهو قول الشافعي
قال الشافعي إن جامع المعتمر فيما بين الإحرام وبين أن يفرغ من الطواف والسعي أفرد عمرته
وقال أبو حنيفة إن طاف ثلاثة أشواط ثم جامع فقد أفسد عمرته وإن طاف أربعة أشواط ثم جامع فعليه دم ولم يكن عليه قضاء عمرته ويتمادى ويجزيه وعليه دم يجزيه منه شاة
قال أبو عمر الصواب في هذه المسألة ما قاله مالك والشافعي وأما قول الكوفيين فلا وجه له إلا خطأ الرأي والإغراق في القياس الفاسد على غير أصل
114

وقال الشافعي أحب لمن أفسد عمرته أن يعجل الهدي وله أن يؤخره إلى القضاء
وأما مالك فاستحب تأخيره إلى القضاء
وكلهم يرى أن يقضي العمرة من أفسدها من ميقاته الذي أحرم منه بها إلا أن مالكا قال إن كان أحرم بها من أبعد من ميقاته أجزاه الإحرام بها من الميقات
وقال مالك من دخل مكة بعمرة فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وهو جنب أو على غير وضوء ثم وقع بأهله ثم ذكر قال يغتسل ويتوضأ ثم يعود يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ويعتمر عمرة أخرى ويهدي
وعلى المرأة إذا أصابها زوجها وهي محرمة مثل ذلك
قال أبو عمر إنما أمره بإعادة الطواف لأن طوافه كان كلا طواف إذ طافه على غير طهارة ولما كان على المفسد عمرته التمادي فيها حتى يتمها
أمرنا بالكفارة للطواف لأنه كالصلاة لا يعمل منه شيء إلا الطهارة
وهو قول الشافعي
ويلزم أبا حنيفة وأصحابه أن يأمروه بالطهارة لأنه بمكة لم يرجع إلى بلده إن كان وطئه قبل أن يكمل أربعة أشواط
قال مالك فأما العمرة من التنعيم فإنه من شاء أن يخرج من الحرم ثم يحرم فإن ذلك يجزئ عنه إن شاء ولكن الأفضل أن يهل من الميقات الذي وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ما هو أبعد من التنعيم
قال أبو عمر لا مدخل للقول في هذا وإنما اختار مالك رحمه الله أن يحرم المعتمر بالعمرة من الميقات لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت المواقيت للحاج منهم والمعتمر بالعمرة من ميقات رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل والتنعيم أقرب الحل إلى الطواف بالبيت والسعي
هذا ما لا خلاف فيه ولا يصح العمرة عند الجميع إلا من الحل لمكي وغير مكي فإن بعد كان أكثر عملا وأفضل ويجزئ أقل الحل وهو التنعيم وذلك أن يحرم بها من الحل فأقصاه المواقيت أدناه التنعيم
واختلف العلماء فيمن أحرم بعمرة من الحرم فقال مالك ما رأيت أحدا فعل ذلك ولا يحرم أحد من مكة بعمرة
وقال أبو حنيفة وصاحباه من أحرم بمكة أو من الحرم بعمرة فإن خرج محرما
115

إلى الحل ثم عمل عمرته فلا شيء عليه وإن لم يفعل حتى حل فعليه دم لتركه الميقات وكذلك لو طاف بها شوطا أو شوطين لزمه الدم ولا يسقطه عنه خروجه إلى الميقات
قال أبو عمر قياس قول مالك (الأول) عندي فيمن أحرم بعمرة من الحرم أنه يلزمه الدم ولا ينفعه خروجه إلى الحل بعد إحرامه بالعمرة من مكة و (الثاني) إن خرج ملبيا يلبي بالعمرة وخارجا من الحرم يدخل ثم يدخل فيطوف بالبيت ويسعى أنه لا شيء عليه
((22 - باب نكاح المحرم))
737 - مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن سليمان بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع مولاه ورجلا من الأنصار فزوجاه ميمونة بنت الحارث ورسول الله صلى الله عليه وسلم [بالمدينة] قبل أن يخرج
837 - مالك عن نافع عن نبيه بن وهب أن عمر بن عبيد الله أرسل إلى أبان بن عثمان وأبان يومئذ أمير الحاج وهما محرمان إني قد أردت أن أنكح طلحة بن عمر ابنة شيبة بن جبير وأردت أن تحضر فأنكر ذلك عليه أبان وقال سمعت عثمان يقوله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينكح المحرم ولا يخطب
739 - مالك عن داود بن الحصين أن أبا غطفان بن طريف المري أخبره أن أباه طريفا تزوج امرأة وهو محرم فرد عمر بن الخطاب نكاحه
740 - مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول لا ينكح المحرم ولا يخطب على نفسه ولا على غيره
116

741 - مالك أنه بلغه أن سعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله وسليمان بن يسار سئلوا عن نكاح المحرم فقالوا لا ينكح المحرم ولا ينكح
قال مالك في الرجل المحرم إنه يراجع امرأته إن شاء إذا كانت في عدة منه
قال أبو عمر حديث مالك عن ربيعة في هذا الباب غير متصل وقد رواه مطر الوراق فوصله
رواه حماد بن زيد عن مطر الوراق عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن سليمان بن يسار عن أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال وبنى بها وهو حلال وكنت الرسول بينهما
فأما تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة فقد اختلفت فيه الآثار المسندة واختلف في ذلك أهل السير والعلم في الأخبار أن الآثار بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها حلالا أتت متواترة من طرق شتى عن أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم وعن سليمان بن يسار وهو مولاها وعن يزيد بن الأصم وهو بن أختها وهو قول سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وأبي بكر بن عبد الرحمن وبن شهاب وجمهور علماء المدينة يقولون إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينكح ميمونة إلا وهو حلال
وما أعلم أحدا من الصحابة روي عنه أنه عليه السلام نكح ميمونة وهو محرم إلا بن عباس وحديثه بذلك صحيح ثابت من نكاح ميمونة إلا أن يكون متعارضا مع رواية غيره فيسقط الاحتجاج بكلام الطائفتين وتطلب الحجة من غير قصة ميمونة
وإذا كان ذلك كذلك فإن عثمان بن عفان قد روى عن النبي صلى الله (عليه وسلم) أنه نهى عن نكاح المحرم وقال لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا معارض له لأن حديث بن عباس في نكاح ميمونة قد عارضه في ذلك غيره
أخبرنا سعيد وعبد الوارث قالا حدثنا قاسم قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثني يحيى بن آدم قال حدثنا جرير بن حازم قال حدثنا أبو فزارة عن يزيد بن الأصم قال حدثتني ميمونة ابنة الحارث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال
117

قال يزيد كانت خالتي وخالة بن عباس
وروى حماد بن سلمة عن حبيب بن الشهيد عن ميمون بن مهران عن يزيد بن الأصم عن ميمونة قالت تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرف وهما حلالان بعد ما رجعا من مكة
وذكر عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن الزهري قال أخبرني يزيد بن الأصم أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة حلالا
قال أبو عمر قد نقل قوم حديث يزيد بن الأصم مرسلا لظاهر رواية الزهري وليس كما ظهر إلا رواية الزهري فحملت للتأويل
وجاز لمن أخبرته ميمونة أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها حلالا أن يخبر بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة حلالا يحدث به هكذا وحده يقول حدثتني ميمونة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها حلالا
على أنهم يلزمهم مثله في حديث بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم لأنه ليس فيه أن ميمونة أخبرته وموضع بن عباس من ميمونة بموضع يزيد بن الأصم سواء
واختلف الفقهاء في نكاح المحرم فقال مالك والشافعي وأصحابهما والليث والأوزاعي لا ينكح المحرم ولا ينكح فإن فعل فالنكاح باطل
وهو قول عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وسعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله وسليمان بن يسار
وبه قال أحمد بن حنبل
قال أحمد ذهب فيه إلى حديث عثمان وقال روى عن عمر وعلي وزيد بن ثابت أنهم فرقوا بينهما
وقال أبو حنيفة وأصحابه وسفيان الثوري لا بأس أن ينكح المحرم وأن ينكح
وهو قول القاسم بن محمد وإبراهيم النخعي
ذكر عبد الرزاق قال أخبرنا محمد بن مسلم الطائفي عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أنه لم ير بنكاح المحرم بأسا
قال وأخبرني الثوري عن مغيرة عن إبراهيم قال يتزوج المحرم إن شاء الله لا بأس به
118

قال عبد الرزاق قال الثوري لا يلتفت إلى أهل المدينة حجة الكوفيين في جواز نكاح المحرم حديث بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة وهو محرم
رواه عن بن عباس جماعة من أصحابه منهم عطاء بن أبي رباح ومجاهد بن جبر وجابر بن زيد أبو الشعثاء وعكرمة وسعيد بن جبير
وروى بن عيينة عن عمرو بن دينار قال حديث بن شهاب عن جابر بن زيد عن بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة وهو محرم
فقال بن شهاب حدثني يزيد بن الأصم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة قال عمرو فقلت لابن شهاب أتجعل حفظ بن عباس كحفظ أعرابي يبول على فخذيه
قال أبو عمر قد ذكرنا حجة الحجازيين القائلين بأن نكاح المحرم لا يجوز لحديث عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن نكاح المحرم وأن عمر بن الخطاب فرق بين من نكح وبين امرأته والفرقة لا تكون في هذا إلا عن بصيرة مستحكمة وذكرنا جماعة الأئمة القائلين من أهل المدينة وليس مع العراقيين في هذا حجة إلا حديث بن عباس في قصة قد خالفه فيها غيره بما قد تقدم ذكره
وقد حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا عبد الله بن جعفر قال حدثنا عبيد الله بن عمرو عن عبد الكريم الجزري عن ميمون بن مهران قال أتيت صفية ابنة شيبة امرأة كبيرة فقلت لها أتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم قالت لا والله لقد تزوجها وهما حلالان
وأخبرنا قاسم بن محمد قال حدثنا خلف بن سعيد قال حدثنا أحمد بن عمرو قال حدثنا بن سنجر قال حدثنا أبو المغيرة قال حدثنا الأوزاعي قال حدثنا عطاء بن أبي رباح عن بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم قال سعيد بن المسيب وهم بن عباس وإن كانت خالته تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما حل
قال أبو عمر أظن القائل قال سعيد عطاء أو الأوزاعي
واختلف أهل السير في تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر موسى بن عقبة عن بن شهاب أنه تزوجها حلالا وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى تزوجها وهو محرم
119

والأول أصح إن شاء الله والحجة في ذلك حديث عثمان والحمد لله
وأما قول مالك في الرجل المحرم أنه يراجع زوجته إن شاء إذا كانت في عدة منه فلا خلاف في ذلك بين أئمة الفقهاء بالأمصار وليست المراجعة كالنكاح لأنها زوجه لا يحل في رجعتها الصداق ولا الولي وتلزمه نفقتها ويلحقها طلاقه لو طلقها وكذلك أبناؤه وظهاره منها
((23 - باب حجامة المحرم))
742 - مالك عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم فوق رأسه وهو يومئذ بلحيي جمل فكان بطريق مكة
743 - مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول لا يحتجم المحرم إلا مما لا بد له منه
قال مالك لا يحتجم المحرم إلا من ضرورة
قال أبو عمر لا خلاف بين العلماء في أنه لا يجوز للمحرم حلق شيء من شعر رأسه حتى يرمي جمرة العقبة يوم النحر إلا من ضرورة وأنه إن حلقه من ضرورة فعليه الفدية التي قضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على كعب بن عجرة حين آذاه القمل في رأسه حتى تناثر على وجهه
واختلفوا فيمن فعل ذلك على ضرورة وسيأتي ذكره ذلك في موضعه من كتابنا هذا إن شاء الله
وأما حديثه في هذا الباب عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار فإنه متصل ولكنه متصل من وجوه صحاح من حديث بن عباس وحديث جابر وحديث أنس وحديث عبد الله بن بحينة كلهم يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه احتجم وهو محرم
120

وبعضهم يروي وهو صائم محرم
وأكثرهم يقول من أذى كان برأسه
أخبرنا محمد بن إبراهيم قال أخبرنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال حدثنا هلال بن بشر قال حدثنا محمد بن خالد بن عثمة قال حدثني سليمان بن بلال قال حدثني علقمة بن أبي علقمة عن الأعرج قال سمعت عبد الله بن بحينه يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وسط رأسه وهو محرم بلحيي جمل من طريق مكة
قال أبو عمر هذا حديث مدني لفظه لفظ حديث مالك
وأخبرنا عبد الله قال حدثنا محمد قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال حدثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا هشام بن حسان عن عكرمة عن بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم في رأسه من أذى كان به
قال أبو عمر إذا لم يحلق المحرم شعرا فهو كالعرق يقطعه أو الدمل يبطه أو الدمل ينكزها ولا يضره ذلك ولا شيء عليه فيه عند جماعة العلماء
((24 - باب ما يجوز للمحرم أكله من الصيد))
744 - مالك عن أبي النضر مولى [عمر بن عبيد الله التيمي عن نافع مولى] أبي قتادة الأنصاري عن أبي قتادة أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كانوا ببعض طريق مكة تخلف مع أصحاب له محرمين وهو غير محرم فرأى
121

حمارا وحشيا فاستوى على فرسه فسأل أصحابه أن يناولوه سوطه فأبوا عليه فسألهم رمحه فأبوا فأخذه ثم شد على الحمار فقتله فأكل منه بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بعضهم فلما أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن ذلك فقال إنما هي طعمة أطعمكموها الله
745 - وعن زيد بن أسلم أن عطاء بن يسار أخبره عن أبي قتادة في الحمار الوحشي مثل حديث أبي النضر إلا أن في حديث زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هل معكم من لحمة شيء
746 - وعن هشام بن عروة عن أبيه أن الزبير بن العوام كان يتزود صفيف الظباء وهو محرم
قال مالك والصفيف القديد
قال أبو عمر يقال إن أبا قتادة كان وجهة رسول الله صلى الله عليه وسلم على طريق البحر مخافة العدو فلذلك لم يكن محرما إذ اجتمع مع أصحابه لأن مخرجهم لم يكن واحدا وكان ذلك عام الحديبية أو بعده بعام عام القضية وكان اصطياد أبي قتادة الحمار لنفسه لا لغيره والله أعلم
وفي هذا الحديث من الفقه أن لحم الصيد حلال أكله للمحرم إذا لم يصده وصاده الحلال
وفي ذلك دليل في قوله (عز وجل) * (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) * [المائدة 96] معناه الاصطياد
وقيل الصيد وأكله لمن صاده وأما من لم يصده فليس ممن عني بالآية
ويبين ذلك قوله تعالى * (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) * [المائدة 95] لأن هذه الآية إنما نهى فيها عن قتل الصيد واصطياده لا غير
وهذا باب اختلف فيه الخلف والسلف
122

فكان عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير يرون للمحرم أكل كل ما صاده الحلال من الصيد الذي يحل للحلال أكله
وبه قال أبو حنيفة وأصحابه
وهو قول عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان والزبير بن العوام وأبي هريرة وكعب الأحبار
واحتجوا بحديث أبي قتادة هذا وبحديث البهزي وبحديث طلحة بن عبيد الله
ذكره السندي قال حدثنا كعب بن علي قال حدثني يحيى بن سعيد قال حدثنا بن جريج قال حدثنا محمد بن المنكدر عن معاذ بن عبد الرحمن التيمي عن أبيه قال كنا مع طلحة بن عبيد الله ونحن محرمون فأهدي لنا طير وهو راقد فأكل بعضنا فاستيقظ طلحة وفق من أكله وقال أكلناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
747 - وأما قول عمر ففي الموطأ ذكره عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أنه أفتى الركب المحرمين بأكل صيد وجدوه بالربذة ثم قدم المدينة فذكره لعمر فقال له لو أفتيتهم بغير ذلك لفعلت بك يتواعده
وهذا من عمر لا يكون إلا عن بصيرة قوية عنده في جواز أكل لحم الصيد المحرم إذا صاده الحلال
748 - ومثل هذا حديث مالك عن بن شهاب عن سالم عن أبي هريرة بمعنى ما تقدم سواء
ومثله حديث مالك في هذا الباب عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن
123

عمر وكعب إلا أن في حديث زيد بن أسلم قصة الجراد نذكرها في آخر هذا الباب إن شاء الله
وقال آخرون لحم الصيد محرم على المحرمين على كل حال ولا يجوز لمحرم أكل صيد البتة على ظاهر عموم قوله عز وجل * (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) * [المائدة 96]
قال بن عباس هي مبهمة
وكذلك كان علي بن أبي طالب وبن عمر لا يريان أكل الصيد للمحرم ما دام محرما
وكره ذلك طاوس وجابر بن زيد
وروي عن زيد وروي عن الثوري وإسحاق مثل ذلك
وحجة من ذهب إلى هذا حديث بن عباس عن الصعب بن جثامة أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمار وحش بالأبواء أو بودان فرده عليه وقال لم نرده عليك إلا أنا حرم فلم يعتل بغير الإحرام وأطلق من أجله تحريم أكل الصيد لم يقيده بشيء وسيأتي القول في معنى هذا الحديث في الباب بعد هذا إن شاء الله
ومن حجتهم أيضا حديث زيد بن أرقم أن بن عباس قال له يا زيد أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدي له صيد فلم يقبله وقال إنا حرم قال نعم
وحديث علي بن أبي طالب في معناه
وقد ذكرناها كلها في التمهيد
وقال آخرون ما صاده الحلال للمحرم أو من أجله فلا يجوز له أكله وما لم يصد له ولا من أجله فلا بأس للمحرم بأكله وهو الصحيح عن عثمان في هذا الباب
وبه قال مالك والشافعي وأصحابهما وأحمد وإسحاق وأبو ثور
وروي أيضا عن عطاء مثل ذلك
وحجة من ذهب هذا المذهب أنه عليه تتفق الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم في أكل الصيد مع ظاهر تضادها وأنها إذا حملت على ذلك لم تتضاد ولا تدافعت وعلى هذا يجب أن تحمل السنن ولا يعارض بعضها بعضا ما وجد إلى استعمال ذلك سبيل
وقد روي عن النبي عليه السلام معنى ذلك
حدثني عبد الوارث حدثنا قاسم قال حدثنا بن وضاح قال حدثنا
124

يوسف بن عدي قال حدثنا بن وهب عن يعقوب بن عبد الرحمن عن عمرو مولى بني المطلب أنه أخبره عن المطلب بن عبد الله بن حنطب عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحم صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم
وحدثني عبد الله بن محمد قال حدثنا حمزة بن محمد قال حدثني بن شعيب قال أخبرنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا يعقوب عن عمرو مولى المطلب عن جابر قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أويصد لكم
قال أبو عمر في حديث أبي قتادة المذكور في أول الباب أنه لما استوى على فرسه سأل أصحابه أن يناولوه سوطه أو رمحه فأبوا
وفي هذا دليل على أن المحرم إذا أعان الحلال على الصيد بما قل أو كثر فقد فعل ما لا يجوز له وهذا إجماع من العلماء
واختلفوا في المحرم يدل المحرم أو الحلال على الصيد فيقتله
فأما إذا دل المحرم الحلال على الصيد فقال مالك والشافعي وأصحابهما يكره له ذلك ولا جزاء عليه
وهو قول أبي ثور
وقال المزني جائز أن يدل المحرم الحلال على الصيد
وقال أبو حنيفة وأصحابه عليه الجزاء
قال أبو حنيفة ولو دله في الحرم لم يكن عليه الجزاء
وقال زفر عليه الجزاء في الحل دله عليه أو الحرم
وبه قال أحمد وإسحاق
وهو قول علي وبن عباس وعطاء
واختلفوا أيضا فيما يجب على المحرم يدل المحرم على الصيد فيقتله
فقال قوم عليهما كفارة واحدة منهم عطاء وحماد بن أبي سليمان
وقال آخرون على كل واحد منهما كفارة
وروي ذلك عن سعيد بن جبير والشعبي والحارث العكلي
125

وبه قال أبو حنيفة وأصحابه
وقال الشافعي وأبو ثور لا جزاء إلا على القاتل وحده
واختلفوا في الجماعة يشتركون في قتل الصيد
فقال مالك إذا قتل جماعة محرمون صيدا أو جماعة محلون في الحرم صيدا فعلى كل واحد منهما جزاء كامل
وبه قال الثوري والحسن بن حي وهو قول الحسن البصري والشعبي والنخعي ورواية عن عطاء
وقال أبو حنيفة وأصحابه إذا قتل جماعة محرمون صيدا فعلى كل واحد منهما جزاء كامل وإن قتل جماعة محلون صيدا في الحرم فعلى جماعتهم جزاء واحد
وقال الشافعي على كل عليهم كلهم جزاء واحد وسواء كانوا محلين أو محرمين في الحرم
وهو قول عطاء والزهري وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور وروي عن عمر وعبد الرحمن بن عوف أنهما حكما على رجلين أصابا ظبيا بشاة
قال أبو عمر من جعل على كل واحد منهم الجزاء قاسه على الكفارة في قتل النفس لأنهم لا يختلفون في وجوب الكفارة على كل واحد من القائلين في قتل النفس خطأ كفارة كاملة
ومن جعل فيه جزاء واحدا قاسه على الدية ولا يختلفون على أنه فيمن قتل نفسا خطأ وإن كانوا جماعة إنما عليهم دية واحدة يشتركون فيها
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة هذا ما يدل على أن المحرم المشير لا يجوز له أكل ما أشار بقتله إلى الحلال
أخبرنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا محمود بن غيلان قال أخبرنا أبو داود قال أخبرنا شعبة قال أخبرنا عثمان بن عبد الله بن موهب قال سمعت عبد الله بن أبي قتادة يحدث عن أبيه أنهم كانوا في مسير لهم بعضهم محرم وبعضهم ليس بمحرم قال فرأيت حمار وحش فركبت فرسي وأخذت الرمح فاستعنتهم فأبوا أن يعينوني فاختلست سوطا من بعضهم فشددت على الحمار فأصبته فأكلوا منه فأشفقوا قال
126

فسئل النبي عليه السلام فقال هل أشرتم أو أعنتم قالوا لا قال فكلوا
وأما حديث مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن الزبير كان يتزود صفيف الظباء في الإحرام فذلك لأنه كان ذلك اللحم الذي جعله صفيفا وتزوده قد ملكه قبل الإحرام فجاز له أكله قبل الإحرام
ومذهبه في ذلك مذهب من لا يحرم على المحرم من الصيد ما قتله أو اصطاده دون أكله من صيد الحلال وهو معنى هذا الباب وكذلك أدخله فيه مالك
والعلماء مجمعون على أن قتل المحرم للصيد حرام وعليه جزاؤه وأكله عليه حرام
وهم مختلفون فيما صاده الحلال هل يحل للمحرم أكله على أقوال
أحدها أن أكل الصيد حرام على المحرم بكل حال على ظاهر قول الله (عز وجل) * (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) * [المائدة 96] لم يخص أكلا من قتل
والثاني أن ما صاده الحلال جاز لمن كان حلالا في حين اصطياده محرما دون من كان محرما من ذلك الوقت وقت اصطياده
والثالث أن ما صيد لمحرم بعينه جاز لغيره من المحرمين أكله ولم يجز ذلك له وحده
والرابع أن ما صيد لمحرم لم يجز له ولا لغيره من المحرمين أكله
هذه المسألة في الباب بعد هذا إن شاء الله
749 - مالك عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه قال أخبرني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن عيسى بن طلحة بن عبيد الله عن عمير بن سلمة الضمري عن البهزي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (خرج) يريد مكة وهو محرم حتى إذا كان بالروحاء إذا حمار وحشي عقير فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال دعوه فإنه يوشك أن يأتي صاحبه فجاء البهزي وهو صاحبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله شأنكم بهذا الحمار فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فقسمه بين
127

الرفاق ثم مضى حتى إذا كان بالإثابة بين الرويثة والعرج إذا ظبي حاقف في ظل فيه سهم فزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رجلا أن يقف عنده لا يربيه أحد من الناس حتى يجاوزه
قال أبو عمر لم يختلف على مالك في إسناد هذا الحديث واختلف أصحاب يحيى بن سعيد فيه على يحيى بن سعيد
ورواه جماعة كما رواه مالك ورواه حماد بن زيد وهشيم ويزيد بن هارون وعلي بن مسهر عن يحيى عن محمد بن إبراهيم عن عيسى بن طلحة عن عمير بن سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم
وقد ذكرنا الأسانيد عنهم بذلك في التمهيد
والقول عندي قول من جعل الحديث لعمير بن سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم كما قال حماد بن زيد ومن تابعه
ومما يدل على صحة ذلك أن يزيد بن الهاد وعبد ربه بن سعيد رويا هذا الحديث عن محمد بن إبراهيم عن عيسى بن طلحة عن عمير بن سلمة الضمري قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حديث بن الهاد بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه الليث بن سعد هكذا عن يزيد بن الهاد
وقال موسى بن هارون إنما جاء ذلك من يحيى بن سعيد كان يرويه أحيانا فيقول فيه عن البهزي وأحيانا لا يقول فيه عن البهزي ولعل المشيخة الأولى كان ذلك جائزا عندهم في كلامهم أن يقولوا بمعنى عن فلان بمعنى قصة فلان لقول من قال عن البهزي يريد عن قصة البهزي
قال أبو عمر عمير بن سلمة هذا الصاحب الذي روى قصة حمار البهزي عن النبي عليه السلام والبهزي هو الصائد للحمار وهو صاحبه الذي في الحديث من قول النبي عليه الصلاة والسلام دعوه يعني الحمار فإنه يوشك أن يجيء صاحبه
128

واسمه زيد بن كعب
للمحرم وقد مضى القول في هذا المعنى وما للعلماء في ذلك
وفي ذلك أيضا دليل على أن المحرم لا يجوز له أن ينفر الصيد ولا يعين عليه
ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رجلا أن يقف عند الظبي الحاقف حتى يجاوزه الناس لا يريبه أحد يعني لا يمسه ولا يهيجه
قال أبو عمر الحاقف الواقف المنثني والمنحني وكل منحن فهو محقوقف
هذا قول الأخفش
وقال غيره من أهل اللغة الحاقف الذي يلجأ إلى حقف وهو ما انعطف من الرمل
وقال العجاج سماوة الهلال حتى احقوقف يعني انعطف وسماوته شخصه والروحاء والإثابة والعرج والرويثة مواضع ومناهل بين مكة والمدينة
وفيه من الفقه جواز أكل الصيد إذا غاب عنه صاحبه أو مات عنه وذلك محمول على أنه قد بلغت رميته الرامي منه موضع الذكاة ولذلك والله أعلم أمر صلى الله عليه وسلم بقسمته بينهم
وليس في حديث مالك ما يدل على أن ذلك الظبي كان قد غاب عنه صاحبه ليله وذلك في حديث حماد بن زيد لأنه قال فيه بالإسناد المذكور عن عمير بن سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل مع صحبة وهم محرمون حتى إذا كانوا بالروحاء وإذا في بعض أفيائها حمار وحش عقير فقيل يا رسول الله هذا حمار عقير فقال دعوه حتى يأتي طالبه فقال قال فجاء رجل من بهز فقال يا رسول الله أصبت هذا بالأمس فشأنكم به وذكر تمام الحديث
وفيه أيضا من الفقه إن الصائد إذا أثبت الصيد برمحه أو سهمه وأصاب مقاتله فقد ملكه بذلك إذا كان الصيد لا يمتنع من أجل فعله به عن أحد ألا ترى قوله عليه السلام يوشك صاحبه أن يأتي فجعله رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبه يصحب ملكه له
وقد استدل قوم بهذا الحديث أيضا على جواز هبة المشاع لقول البهزي للجماعة شأنكم به ثم قسمة أبو بكر بينهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
وسنذكر ما للفقهاء في هبة المشاع من التنازع في موضعه إن شاء الله
وأما مسألة الصيد يغيب عن صاحبه فيجده ميتا بعد ليلة أو قبل ذلك فإن
129

الفقهاء اختلفوا في ذلك فقال مالك إذا أدركه الصائد من يومه أكله في الكلب والسهم جميعا وإن كان ميتا إذا كان فيه أثر جرحه أثرا بلغ القتل وإن كان قد بات عنه لم يأكله
وقال الثوري إذا غاب عنه يوما وليلة كرهت أكله
وقال أبو حنيفة وأصحابه إذا توارى عنه الصيد وهو في طلبه فوجده وهو قد قتله كلبه أو سهمه جاز أكله وإن ترك الطلب واشتغل بعمل غيره ثم ذهب في طلبه فوجده مقتولا والكلب عنده كرهنا أكله
وقال الأوزاعي إذا وجده من الغد ميتا فوجد فيه سهمه وأثره فليأكله
وقال الشافعي القياس لا يأكله إذا غاب عنه يعني لأنه لا يدري أمات من رميته أو من غيرها
وروي عن بن عباس كل ما أصبت ودع ما أنميت
يقول كل ما عاينت صيده وموته من سلاحك أو كلابك ودع ما غاب عنك
وفي حديث أبي رزين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كره أكل ما غاب عنه مصرعه من الصيد
وهو حديث مرسل لأنه ليس بأبي رزين العقيلي وإنما هو أبو رزين مولى أبي وائل رواه موسى بن أبي عائشة عنه من حديث الثوري وغيره
وروى أبو ثعلبه الخشني عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يدرك صيده بعد ثلاث يأكله ما لم ينتن
وهو حديث صحيح قد ذكرناه في موضعه من هذا الكتاب
وفي حديث عدي بن حاتم أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصيد يغيب عن صاحبه الليلة والليلتان فقال إذا وجدت فيه سهمك ولم تجد أثر سبع وعلمت أن سهمك قتله فكله
وتأتي هذه المسألة بأكثر من هذا في كتاب الصيد إن شاء الله
130

750 - وأما قوله في حديث مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار ثم كما كانوا ببعض طريق مكة قرت بهم رجل من جراد فأفتاهم كعب أن يأخذوه فيأكلوه فلما قدموا على عمر بن الخطاب ذكروا له ذلك فقال له ما حملك على أن تفتيهم بهذا قال هو من صيد البحر قال وما يدريك قال يا أمير المؤمنين والذي نفسي بيده إن هي إلا نثرة حوت ينثره في كل عام مرتين
قال أبو عمر أما صيد المحرم فحلال للمحرم والحلال بنص الكتاب والسنة وإجماع الأمة وإنما اختلفوا فيما وجد فيه طافيا وكذلك اختلفوا في غير السمك منه
وسيأتي القول بما للعلماء من المذاهب في كتاب الصيد إن شاء الله
فإن كان الجراد نثرة حوت كما ذكر كعب فحلال للمحرم وغير المحرم أكله
وما ذكره كعب لم يوقف على صحة ولم يكذبه في ذلك عمر ولا رد عليه قوله ولا صدقة فيه لأنه خشي أن يكون عنده فيه علم من التوراة
وهي السنة فيما حدث به أهل الكتاب عن كتابهم إلا يصدقوا ولا يكذبوا لئلا يكذبوا في حق جاؤوا به أو يصدقوا في باطل اختلفوا في دليله لأن عندهم الحق في التوراة وعندهم الباطل فيما حرفوه عن مواضعه وكتبوه بأيديهم وقالوا هو من عند الله وما هو من عند الله
وقد أفردنا لهذا المعنى بابا كافيا في كتاب العلم والحمد لله
وفي إنكار عمر على كعب ما أفتى به المحرمين من أكل الجراد ثم كفه عنه إذ أعلمه بما أعلمه به مما جرى في هذا الباب ذكره دليل على أن العالم لا يجب له نفي شيء ولا إثباته إلا بعلم صحيح قد وقف عليه من كتاب أو سنة أو ما كان في معناهما
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه لا يحتج به أن الجراد من صيد البحر رواه حماد بن زيد عن ميمون بن جابان عن أبي رافع عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الجراد من صيد البحر
131

وقد اختلف في هذا الحديث على حماد بن زيد ومن رواية من جعله من قول أبي هريرة وهو أشبه بالصواب
وقد روي عن علي من وجه ضعيف أيضا أنه سئل عن الجراد فقال هو من صيد البحر
وروي عن عروة بن الزبير في هذا المعنى نحو ما روي عن كعب رواه حماد بن زيد قال حدثنا هشام بن عروة عن أبيه أنه قال في الجراد نثرة حوت
ذكره الساجي عن يحيى بن حبيب بن عدي عن حماد بن زيد
ولم أدر ما معنى رواية مالك في الموطأ عن كعب في قوله في الجراد والذي نفسي بيده إن هي إلا نثرة حوت ينثره في كل عام مرتين لأنه قد جاء عن كعب في ذلك ما هو أشبه بما في أيدي أهل العلم
ذكر الساجي قال حدثنا بندار قال حدثني يحيى يعني القطان قال حدثنا سالم بن هلال قال حدثنا أبو الصديق الناجي أنه حج مع أبي سعيد الخدري هو وكعب فجاء رجل جرادة فجعل كعب يضربها بسوطه فقلت يا أبا إسحاق ألست محرما قال بلى ولكنه من صيد البحر خرج أوله من منخر حوت
قال أبو عمر ففي هذا الخبر أن أول خلق الجراد كان من منخر حوت لا أنه اليوم مخلوق من نثرة حوت لأن المشاهدة تدفع ذلك
ويعضد هذا عن كعب ما ذكره مالك عن يحيى بن سعيد أن عمر إذ حكم كعب في الجراد حكم فيها بدرهم فقال له عمر إنك لتجد الدراهم لتمرة خير من جرادة ولو كان عنده من صيد البحر ما حكم فيه بشيء
وجاء عن كعب أنه رأى في الجراد القيمة درهم في الجرادة من غير هذا الوجه أيضا
ذكره الساجي قال حدثنا الربيع قال حدثنا الشافعي قال أخبرنا سعيد بن سالم عن بن جريج عن يوسف بن ماهك أن عبد الله بن أبي عمار أخبره انه أقبل مع معاذ بن جبل وكعب الأحبار في ناس محرمين وأن كعبا أخذ جرادتين ونسي إحرامه ثم ذكر إحرامه فألقاهما فدخلوا على عمر بن الخطاب فقص عليه كعب قصة الجرادتين فقال عمر ومن يدلك لعلمك بذلك يا كعب قال نعم قال إن حمير تحب الجراد قال ما جعلت في نفسك قال درهمين فقال عمر بخ درهمان خير من مائة جرادة اجعل ما جعلت في نفسك
132

قال أبو عمر لا يصح في الجراد أنه من صيد البحر إلا عن بن عباس ولا عن من يجب بقوله حجة ولم يعرج العلماء ولا جماعة الفقهاء على ذلك
ذكر الساجي قال حدثنا أحمد بن أبان قال حدثنا سفيان قال قال بن جريج عن عطاء قلت لابن عباس ما تقول في صيد الجراد في الحرم قال لا يصح قلت إن قومك والله يأخذونه قال إنهم والله لا يعلمون
قال الساجي وحدثنا أحمد بن أبان قال حدثني سفيان عن بن جريج عن بكير عن القاسم قال سئل بن عباس عن رجل أصاب جرادات وهو محرم قال فيهن قبض قبضات من طعام وإني لآخذ بقبضة جرادات
وهو قول عطاء والجماعة من العلماء
واختلفوا فيما يجب على المحرم في الجرادة إذا قتلها وسيأتي ذكر ذلك في بابه من هذا الكتاب إن شاء الله
وقال بن وهب عنه في الجرادة قبضة وفي الجرادات أيضا قبضة
قال أبو عمر كأنه يقول ما دون قبضة من الطعام فلا قدر له
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد تمر خير من جرادة
وروي ذلك عن عمر وبن عباس
وفي هذا الباب
سئل مالك عما يوجد من لحوم الصيد على الطريق هل يبتاعه المحرم فقال أما ما كان من ذلك يعترض به الحجاج ومن أجلهم صيد فإني أكرهه وأنهى عنه فأما أن يكون عند رجل لم يرد به المحرمين فوجده محرم فابتاعه فلا بأس به
قال أبو عمر وقد مضى ما للعلماء في معنى ما صيد من أجل المحرم مجملا ونزيده هنا بيانا بأقوالهم حتى يتبين لك مذاهبهم في ذلك إن شاء الله
فمن ذلك قول مالك هنا أما ما كان من ذلك يعترض الحاج ومن أجلهم صيد فإني أكرهه وأنهى عنه إلى آخر قوله ولم يختلف قوله في المحرم يأكل من صيد يعلم أنه قد اصطيد من أجله أن عليه جزاء ذلك الصيد
وقال أشهب سألت مالكا عما صيد لرجل بعينه من المحرمين فقال لا أحب لأحد من المحرمين ولا من المحلين أكله
قال وما صيد من أجل محرم أو ذبح من أجله من الصيد فلا يحل لمحرم ولا لحلال أكله
133

قال وسئل عما صيد لمحرمين فقال ما صيد قبل إحرامهم فلا بأس به وما صيد بعد إحرامهم فلا يأكلوه
وقال أبو حنيفة وأصحابه لا بأس على المحرم أن يأكل من لحم الصيد حلال للمحرم ما لم يصده أو يصد له
وبه قال أبو ثور
وفي هذا الباب
قال مالك فيمن أحرم وعنده صيد قد صاده أو ابتاعه فليس عليه أن يرسله ولا بأس أن يجعله عند أهله
هكذا هذه المسألة في الموطأ عند يحيى وطائفة من رواة الموطأ وزاد فيها بن وهب وطائفة عنه أيضا في الموطأ قال مالك من أحرم وعنده شيء من الصيد قد استأنس ودجن فليس عليه أن يرسله فلا شيء عليه إن تركه في أهله
قال بن وهب وسألت مالكا عن الحلال يصيد الصيد أو يشتريه ثم يحرم وهو معه في قفص فقال مالك يرسله بعد أن يحرم ولا يمسكه بعد إحرامه
وقال الأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه إذا أحرم وفي يده أو معه شيء من الصيد فعليه إرساله قالوا ولو كان الصيد في بيته لم يكن عليه إرساله كائن ما كان
وقال الشافعي ليس على من ملك صيدا قبل الإحرام ثم أحرم وهو في يده أن يرسله
وبه قال أبو ثور لأنه في حكم ما دجن من الصيد
والحجة لكل واحد من هؤلاء بينت لما قدمنا من الأصول
فتحصيل قول مالك أنه كان عنده الصيد في حين إحرامه أرسله من يده وإن كان لأهله فلا شيء عليه
وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وبه قال أحمد بن حنبل
وقال بن أبي ليلى والثوري والحسن بن صالح سواء كان في يده أو في بيته عليه أن يرسله فإن لم يفعل ضمن
وهو أحد قولي الشافعي
وللشافعي قول آخر أنه لا يرسله كان في يده أو في أهله
134

وبه قال أبو ثور وهو قول مجاهد وعبد الله بن الحارث
وقال مالك في صيد الحيتان في البحر والأنهار والبرك وما أشبه ذلك إنه حلال للمحرم أن يصطاده
قال أبو عمر هذا ما لا خلاف فيه لقول الله (عز وجل) * (أحل لكم صيد البحر) * [المائدة 96] والبحر كل ماء مجتمع على ملح أو عذب
قال الله (عز وجل) * (وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج) * [فاطر 12]
وكل ما كان أغلب عيشه في الماء فهو من صيد البحر ويأتي هذا الباب في كتاب الصيد إن شاء الله
((25 - باب ما لا يحل للمحرم أكله من الصيد))
751 - مالك عن بن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عبد الله بن عباس عن الصعب بن جثامة الليثي أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء أو بوادان فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وجهي قال إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم
قال أبو عمر قد روي عن بن عباس من حديث سعيد بن جبير ومقسم وطاوس أن الصعب بن جثامة أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا
قال سعيد بن جبير عجز حمار فرده يقطر دما رواه شعبة عن الحكم بن عتيبة عن سعيد بن جبير عن بن عباس
وقال مقسم في حديثه رجل حمار وحش
وقال عطاء في حديثه أهدي له عضد صيد فلم يقبله
وقال طاوس في حديثه عضو من لحم صيد
إلا أن منهم من يجعله عن بن عباس عن زيد بن أرقم
135

رواه بن جريج قال أخبرني حسن بن مسلم بن نياق عن طاوس عن بن عباس قال قدم زيد بن أرقم فقال له بن عباس يستذكره كيف أخبرتني عن لحم أهدي للنبي (عليه السلام) حراما قلت نعم أهدى له رجل عضوا من لحم فرده عليه وقال لا نأكله إنا حرم
قال إسماعيل بن إسحاق سمعت سليمان بن حرب يتأول هذا الحديث على أنه صيد من أجل النبي (عليه السلام) ولولا ذاك كان أكله جائزا
قال سليمان ومما يدل على أنه صيد من أجله قولهم في الحديث فرده يقطر دما كأنه صيد في ذلك الوقت
قال إسماعيل وإنما تأول إسماعيل الحديث الذي فيه أنه أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم لحم حمار وهو موضع يحتمل التأويل
وأما رواية مالك أن الذي أهدي إليه حمار وحشي فلا يحتاج إلى تأويل لأن المحرم لا يجوز له أن يمسك صيدا حيا ولا يجوز له أن يذكيه إنما يحتاج إلى التأويل قول من
قال إن الذي أهدي له هو بعض الحمار
قال إسماعيل وعلى تأويل سليمان بن حرب تكون الأحاديث كلها المرفوعة غير مختلفة
قال أبو عمر الأحاديث المرفوعة في هذا الباب منها حديث عمير بن سلمة في قصة البهزي وحماره العقير ومنها حديث أبي قتادة رواه مالك عن أبي النضر ومنها حديث الصعب بن جثامة هذا وحديث علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى له رجل حمار وحشي فأبى أن يأكله وحديث المطلب عن جابر يفسرها كلها وهو قوله عليه السلام صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم
وأجمع العلماء أنه لا يجوز للمحرم قبول صيد إذا وهب له بعد إحرامه ولا يجوز له شراؤه ولا اصطياده ولا استحداث ملكه بوجه من الوجوه وهو محرم
ولا خلاف بين العلماء في ذلك لعموم قوله تعالى * (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) * [المائدة 68] ولحديث الصعب بن جثامة في قصة الحمار
ولأهل العلم في المحرم يشتري الصيد قولان أحدهما أن الشراء فاسد والثاني أنه صحيح وعليه أن يرسله
وقد تقدم في الباب قبل هذا ما للعلماء فيمن أحرم وفي يده أو معه أو في بيته شيء من الصيد
136

وقد روي عن علي بن أبي طالب انه حج في عام حج فيه عثمان فأتي عثمان بلحم صيد [صاده حلال] قال فأكل منه وهو محرم ولم يأكل منه علي فقال عثمان إنما صيد قبل أن يحرم فقال علي ونحن قد بدا لنا وأهالينا لنا حلال أفيحللن لنا اليوم
رواه هشيم قال أخبرنا عمر بن أبي سلمة عن أبيه قال حج عثمان معه علي فذكره في هذه الرواية عن علي أنه لم ير للمحرم أكل ما صاده الحلال وإن كان صيد له قبل أن يحرم المحرم وأن عثمان كان يخالطه في الغضب ويحاسبه وكان يخالفه لأنه لا يرى بأسا بما صاده الحلال قبل إحرام المحرم وأن يأكله المحرم في إحرامه
وقد روي عن علي رضي الله عنه خلاف هذه الرواية عنه وموافقته لرأي عثمان
ذكره إسحاق بن يوسف الأزرق عن شريك عن سماك بن حرب عن صبيح بن عبد الله العبسي قال استعمل عثمان بن عفان أبا سفيان بن الحارث على العروض فمر به رجل من أهل الشام ومعه باز وصقر فاستعاره منه وصاد به من اليعاقيب فلما سمع بعثمان قد مر حاجا أمر بهن فذبحن فطبخن ثم جعلن في جفنة فجاء بهن آل عثمان فقال عثمان كفوا فقال بعض القوم انظروا عليا يأتيكم الآن فلما جاء علي ورآها بين أيديهم أبى أن يأكل فقال له عثمان ما شأنك فقال لم أكن لآكل من هذا قال عثمان لم قال هو صيد لا يحل لمن أكله وأنا محرم قال عثمان فبين لنا فقال قال الله تعالى * (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) * [المائدة 95] قال عثمان فنحن قتلناه إنا لم نقتله قال فقرأ عليهم علي * (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) * [المائدة 96] فمكث عثمان ما شاء الله أن يمكث ثم أتى وهو بمكة فقيل له هل لك في بن أبي طالب أهدي إليه صفيف حمار فهو يأكل منه فأرسل إليه عثمان فسأله عن أكله الصفيف وقال له أما أنت فتأكل وأما نحن فتنهانا فقال له إنه صيد عام أول وأنا حلال فليس علي في أكله بأس وصيد ذلك يعني اليعاقيب وأنا حرام وذبحن وأنا حرام
وبهذا كان يفتي بن عباس ويذهب إليه
ذكر إسحاق عن شريك عن سماك عن عكرمة عن بن عباس وبلال ما صيد أو ذبح وأنت حلال فهو لك حلال وما صيد أو ذبح وأنت حرام فهو عليك حرام
137

وهو قول عطاء
وذكر عبد الرزاق عن إسرائيل عن سماك بن حرب عن عكرمة عن بن عباس قال ما صيد وأنت حلال فكله وما صيد وأنت حرام فلا تأكله
قال أبو عمر وما كان مثلها عن علي يعضد ما روي عنه في الصيد للمحرم أنه لا يأكله على عموم قوله تعالى * (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) * [المائدة 96] ولم يفسر ما صيد قبل إحرامه أو بعد إحرامه
وهذه الرواية مفسرة كما ترى
وقد روي عن بن عباس أنه لا يجوز للمحرم أكل لحم صيد على حال صيد من أجله أو من لم يصد لعموم قول الله (عز وجل) * (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) *
وقال بن عباس هي مبهمة
وبه قال طاوس وجابر بن زيد
وإليه ذهب الثوري وإسحاق في رواية
وذكر عبد الرزاق عن معمر عن يزيد بن أبي يزيد قال سمعت عبد الله بن الحارث بن نوفل يحدث أن عليا كره أكل لحم الصيد وهو محرم
قال وأخبرني معمر عن الزهري عن سالم عن بن عمر أنه كان يكره للمحرم أن يأكل من لحم الصيد على كل حال
قال معمر وأخبرني أيوب عن نافع عن بن عمر مثله
قال وأخبرنا معمر عن طاوس وعبد الكريم بن أمية عن طاوس عن بن عباس أنه كره لحم الصيد للمحرم وقال هي مبهمة يعني قوله * (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) * [المائدة 96]
وكان عمر بن الخطاب وأبو هريرة والزبير بن العوام وكعب ومجاهد وعطاء في رواية وسعيد بن جبير يرون للمحرم أكل الصيد على كل حال إذا اصطاده الحلال صيد
من أجله أو لم يصد
وبه قال الكوفيون
ذكر عبد الرزاق عن بن عيينة عن عمرو بن دينار عن طلق بن حبيب عن قزعة قال كان بن عمر لا يأكل لحم الصيد وهو محرم فقيل له إن عمر وأبا هريرة كانا يأكلانه فقال عمر خير وأبو هريرة خير مني
138

قال عمرو بن دينار وكان بن عباس لا يأكله
وذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأبو ثور إلى أن ما صيد من أجل المحرم لم يجز له أكله وما لم يصد من أجله جاز له أكله
وهو قول عثمان
وروي ذلك أيضا عن عطاء وبه قال إسحاق
وهذا أعدل المذاهب وأعلاها وعليه يصح استعمال الأحاديث المرفوعة وتوجيهها
وفيه مع ذلك نص حسن رواه بن وهب قال حدثني يحيى بن عبد الله بن سالم ويعقوب بن عبد الرحمن المخزومي عن عمرو مولى المطلب بن عبد الله أنه أخبرها عن المطلب بن عبد الله بن حنظلة عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحم صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم
رواه عن عمر بن أبي عمرو مولى المطلب كما رواه يحيى بن عبد الله بن سالم ويعقوب بن عبد الرحمن سليمان بن بلال وإبراهيم بن أبي يحيى جعلوه كلهم عن عمر مولى المطلب عن المطلب بن عبد الله بن حنطب أنه أخبره عن جابر
ورواه الدراوردي عن عمرو عن رجل من بني سلمة عن جابر فأخطأ فيه وصوابه ما رواه يعقوب
752 مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن عبد الرحمن بن عامر بن ربيعة قال رأيت عثمان بن عفان بالعرج وهو محرم في يوم صائف قد غطى وجهه بقطيفة أرجوان ثم أتى بلحم صيد فقال لأصحابه كلوا فقالوا أو لا تأكل أنت فقال إني لست كهيئتكم إنما صيد من أجلي
753 - وعن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت له يا بن أختي إنما هي عشر ليال فإن تخلج في نفسك شيء فدعه تعني أكل لحم الصيد
139

قال مالك في الرجل المحرم يصطاد من أجله صيد فيصنع له ذلك الصيد فيأكل منه وهو يعلم أنه من أجله صيد فإن عليه جزاء ذلك الصيد كله
قال أبو عمر أما حديث عثمان ففيه من الفقه أنه لا بأس على المحرم في اليوم الشديد الحر أن يغطي وجهه فإن الله تعالى غني عن تعذيب المؤمن نفسه
وقد تأول قوم في ذلك على عثمان أنه قال كان مذهبه إن إحرام المحرم في رأسه دون وجهه وقد ذهب إلى ذلك قوم وقد تقدم ذكر هذه المسألة في بابها من هذا الكتاب
وقد يحتمل أن يكون عثمان قد اقتدى بفعله ذلك على مذهب بن عمر ما فوق الذقن من الرأس فلا يخمره المحرم
ولكن الظاهر من مذهبه أن إحرام المحرم في رأسه دون وجهه
وفيه أن من وسع الله عليه وسع على نفسه في الملبس وغيره فإن الله (عز وجل) يحب أن يرى أثر نعمته على عبده إذا أنعم بها عليه وهذا ثابت المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم
وقد يحتمل أن يكون لباسه الأرجوان لأنه صوف والأرجوان الشديد الحمرة
قال أبو عبيد ولا يقال لغير الحمرة أرجوان
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا نلبس الأرجوان
وعن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاه عن لبسه
وقد ذكرنا الأحاديث بذلك في موضعها من هذا الكتاب وذكرنا ما يعارضها واختلاف العلماء في معناها هناك والحمد لله
وأما قوله لأصحابه في لحم الصيد كلوا فإني لست كهيئتكم إنه صيد من أجلي فقد مضى هذا المعنى
وقال أشهب عن مالك أنه سئل عن معنى قول عثمان إنما صيد من أجلي فقال إنما ذلك من أجل أنه صيد له بعد أن أحرم فأما ما صيد من أجل محرم أو
140

محرمين وذبح قبل الإحرام فلا بأس به إنما مثل ذلك مثل رجل صاد ها هنا صيدا فذبحه وحمل لحمه معه ثم أحرم
وأما قول عائشة لعروة إنما هي عشر ليال تعني أيام الحج فإنها خاطبت بهذا من كان إحرامه قبل يوم التروية أن يكف عن أكل لحم الصيد جملة فما صاده الحلال من أجله أو من أجل غيره ليدع ما يربيه إلى ما لا يريبه ويترك ما شك فيه وحاك في صدره
وأما قول مالك ما على المحرم إذا أكل من صيد صيد من أجله جزاؤه كله
فإن العلماء في ذلك مذاهب منها ما قاله مالك أنه يجزئ الصيد كله إذا أكل منه ومنه أنه لا يجزئ منه إلا مقدار ما أكل وقول ثالث إنه ليس عليه جزاؤه لأنه أكل صيدا حلال أكله لصائده وإنما حرم الله على المحرم قتل الصيد لا أكله
هذا على مذهب عمر بن الخطاب وأبي هريرة والزبير وكعب ومن تابعهم على ذلك على ما ذكرناه عنهم
واختلف قول الشافعي في ذلك فمرة قال من أكل من صيد صاده حلال من أجله أنه يفدي ما أكل منه
ومرة قال لا شيء عليه وهو قول أبي ثور
وهو الذي ذكره المزني عن الشافعي في المحرم يأكل من صيد صيد من أجله مما قد ذبحه حلال أو صاده أنه لا جزاء عليه فيما أكل منه لأن الله تعالى إنما جعل الجزاء على من قتل الصيد وهذا لم يقتله وليس من أكل محرما يكون عليه جزاء
ولم يختلف قوله أن المحرم ممنوع من أكل ما صيد من اجله اختلف قوله في وجوب الجزاء عليه إن أكل منه
وفي هذا الباب
وسئل مالك عن الرجل يضطر إلى أكل الميتة وهو محرم أيصيد الصيد فيأكله أم يأكل الميتة فقال بل يأكل الميتة وذلك أن الله تبارك وتعالى لم يرخص للمحرم في أكل الصيد ولا في أخذه في حال من الأحوال وقد أرخص في الميتة على حال الضرورة
قال مالك وأما ما قتل المحرم أو ذبح من الصيد فلا يحل أكله لحلال ولا لمحرم لأنه ليس بذكي كان خطأ أو عمدا فأكله لا يحل وقد سمعت ذلك من غير واحد
141

زاد أشهب فمن كنت أقتدي به ونتعلم منه كلهم يقولون لا يؤكل لأنه ليس بذكي
فقيل له أرأيت من المحرمين عليهم جزاؤه فقال أما من ليس بمحرم فلا أرى عليه جزاؤه وأما المحرمون ففيه نظر
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إذا رمى المحرم الصيد وسمى فقتله فعليه جزاؤه فإن أكل منه حلال فلا شيء عليه وإن أكل منه المحرم الذي قتله بعد ما جزاه فعليه قيمة ما أكل في قول أبي حنيفة
وقال أبو يوسف ومحمد لا جزاء عليه ولا ينبغي أن يأكله حلال ولا حرام
وللشافعي قولان أحدهما كقول مالك والآخر يأكله ولا يأكل الميتة
وقال أبو ثور إذا قتل المحرم الصيد فعليه جزاؤه وحلال أكل ذلك الصيد إلا أني أكرهه للذي صاده للخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لحم الصيد لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم
والحجة لمالك في مذهبه لهذه المسألة الجميع على أن من كان قادرا على ذبح الشاة من مذبحها فذبحها فقطع عنقها أو قتلها أنه لا يحل أكله لأنه استباح ذلك بخلاف ما أباح الله له وكذلك يحرم الصيد على المحرم إذا فعل لأنه أباح غير ما أباحه الله له فلا تقع ذكاة بما حرم الله فعله
وهو قول داود وأصحابه وحجة من أجازه إجماع الجمهور على وقوع الذكاة بالسكين المعضوبة أو ذبح السارق
ذكر عبد الرزاق عن المثنى عن عطاء في المحرم المضطر قال يأكل الميتة ويدع الصيد
قال عبد الرزاق وسئل الثوري وأنا أسمع عن المحرم يضطر فيجد الميتة ولحم الخنزير ولحم الصيد قال يأكل الخنزير والميتة
وذكر في باب آخر سألت الثوري عن محرم ذبح صيدا هل يحل أكله لغيره قال أخبرني الليث عن عطاء أنه قال لا يحل أكله لأحد
قال الثوري وأخبرني أشعث عن الحكم بن عتيبة قال لا بأس بأكله
قال الثوري وقول الحكم أحب إلي
وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن ربيعة عن القاسم بن محمد وسالم أنهما قالا لا يحل أكله لأحد بحال
142

وقال أبو حنيفة والثوري وزفر إذا اضطر المحرم أكل الميتة ولم يضطر
وهذا أحد قولي الشافعي
وقال أبو يوسف يصيد ويأكل وعليه الجزاء ولا يأكل الميتة
ولم يختلف قول الشافعي أنه لا يأكل المحرم ما صيد من أجله واختلف قوله في إيجاب الجزاء عليه إن أكل منه
وقال مالك في آخر هذا الباب في الذي يقتل الصيد ثم يأكله إنما عليه كفارة واحدة مثل من قتله ولم يأكل منه
قال أبو عمر على هذا مذاهب علماء الأمصار وجمهور العلماء
وقد روي عن عطاء وطائفة فيه كفارتان
روى عبد الرزاق قال أخبرنا بن جريج عن عطاء قال إن ذبحه ثم أكله يعني المحرم فكفارتان
قال أبو عمر لم يختلفوا فيمن وطئ مرارا قبل الحد أنه ليس عليه إلا حد واحد وكذلك المحرم يقتل الصيد في الحرم فيجمع عليه حرمتان حرمة الإحرام وحرمة الحرم ليس عليه إلا جزاء واحد عند الجمهور وبالله التوفيق
143

((كتاب الحج))
((القسم الثاني))
((26 - باب أمر الصيد في الحرم))
754 - قال مالك كل شيء صيد في الحرم أو أرسل عليه كلب في الحرم فقتل ذلك الصيد في الحل فإنه لا يحل أكله وعلى من فعل ذلك جزاء الصيد فأما الذي يرسل
كلبه على الصيد في الحل فيطلبه حتى يصيده في الحرم فإنه لا يؤكل وليس عليه في ذلك جزاء إلا أن يكون أرسله عليه وهو قريب من الحرم فإن أرسله قريبا من الحرم فعليه جزاؤه
قال أبو عمر اختلف الفقهاء في الذي يرسل كلبه في الحل فيقتل الصيد في الحرم
فقال مالك عليه جزاؤه وكذلك لو رمى سهما في الحل فقتل في الحرم
وهو قول الأوزاعي والليث وقال أبو حنيفة لو رمى من الحل فوقعت الرمية في الحرم فقتل صيدا فعليه الجزاء وإن أرسل كلبا في الحل فقتل في الحرم فلا جزاء عليه
وقال الثوري في شجرة أصلها في الحرم وأغصانها في الحل سقط عليها طائر قال ما كان في الحل يلزم وما كان في الحرم فلا يلزمه
وقال الوليد بن مزيد سئل الأوزاعي عن رجل أرسل كلبه في الحل على صيد فأدخله الحرم ثم أخرجه من الحرم فقتله فقال لا أدري ما أقول فيها فقال له السائل لو رددتني شهرا فيها لم أرسل عنها أحدا غيرك فقال الأوزاعي لا يؤكل الصيد وليس على صاحبه جزاء
144

قال الوليد فحججت في العام المقبل فلقيت بن جريج فسألته عنها فحدثني عن عطاء عن بن عباس بمثل ما قال الأوزاعي
قال أبو عمر لا خلاف بين العلماء من السلف والخلف في تحريم الصيد بمكة من سائر الحرم وأنه حرم آمن كما قال الله (عز وجل) * (أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا) * [العنكبوت 67] وقال إبراهيم (عليه السلام) * (رب اجعل هذا البلد آمنا) * [إبراهيم 35] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله (عز وجل) حرم مكة ولم يحرمها الناس
وقال (عليه السلام) إن إبراهيم حرم مكة وهذا معناه أنه دعى في تحريمها فكان سبب ذلك فأضيف إليه على ما تعرفه العرب من كلامها
وقد روى أبو هريرة بالنقل الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض
وقد أوضحنا معاني ذلك كله في كتاب الجامع
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينفر صيدها ولا يعضد شجرها
145

وقد رأى جماعة من العلماء أن الجاني إذا عاذ بالحرم لم يقم عليه حده فيه حتى يخرج منه ولهذه المسألة باب غير هذا
وقالوا لم يكن الجزاء في غير هذه الأمة إلا على محرم فلا على قاتل صيد في الحرم وهو حلال وإنما كان الجزاء على هذه الأمة لقوله (عز وجل) * (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا) * [المائدة 95]
واتفق فقهاء الأمصار ومالك والثوري وأبو حنيفة والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي أن على من قتل صيدا وهو حلال في الحرم الجزاء كما لو قتله محرم
وبه قال جماعة أصحاب الحديث
وشذت فرقة منهم داود بن علي فقالوا لا جزاء على من قتل في الحرم شيئا من الصيد إلا أن يكون محرما
ولا يختلفون في تحريم الصيد في الجزاء وإنما اختلفوا في وجوب الجزاء فيه
وقد روي عن عمر وعثمان وعلي وبن عباس وبن عمر في حمام الحرم شاة في كل واحدة منها ولم يخصوا محرما من حلال ولا مخالف لهم من الصحابة
وقد يوجد لداود سلف من التابعين
ذكر عبد الرزاق عن معمر عن صدقة بن يسار قال سألت سعيد بن جبير عن حجلة ذبحتها وأنا بمكة فلم ير علي شيئا
وكان أبو حنيفة يقول للحلال يقتل الصيد في الحرم أنه لا يجزئه إلا الهدي والإطعام ولا يجزئه الصوم كأنه جعله ثمنا
وعند مالك والشافعي يجزئه الصوم كسائر من وجب عليه جزاء الصيد من المحرمين
وقال أبو حنيفة في المحرم إذا أدخل مع الضحية شيئا من صيد الحل إلى الحرم فلا يجوز له ذبحه ولا حبسه وعليه أن يرسله
وقال مالك والشافعي جائز له بيعة وهبته في الحرم
146

((27 - باب الحكم في الصيد))
755 - قال مالك قال الله تبارك وتعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره) [المائدة قال مالك فالذي يصيد الصيد وهو حلال ثم يقتله وهو محرم بمنزلة الذي يبتاعه وهو محرم ثم يقتله وقد نهى الله عن قتله فعليه جزاؤه قال مالك والأمر عندنا أنه من أصاب الصيد وهو محرم حكم عليه يحيى 95]
قال مالك أحسن ما سمعت في الذي يقتل الصيد فيحكم عليه فيه أن يقوم الصيد الذي أصاب فينظر كم ثمنه من الطعام فيطعم كل مسكين مدا أو يصوم مكان كل مد يوما وينظر كم عدة المساكين فإن كانوا عشرة صام عشرة أيام وإن كانوا عشرين مسكينا صام عشرين يوما عددهم ما كانوا وإن كانوا أكثر من ستين مسكينا
قال مالك سمعت أنه يحكم على من قتل الصيد في الحرم وهو حلال بمثل ما يحكم به على المحرم الذي يقتل الصيد في الحرم وهو محرم
قال أبو عمر هذا الذي ذكره مالك عليه جماعة العلماء في أن الحرمتين إذا اجتمعتا (حرمة الحرم وحرمة الإحرام) فليس فيهما إلا حدا واحدا على قاتل الصيد محرما في الحرم لقول الله (عز وجل) * (لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) * [المائدة 95] ولم يخص موضعا من موضع ولا استثنى حلا من حرم ومعلوم أن الإحرام إنما يقصد به
إلى الحرم وهناك عظم عمل المحرم
واختلف الفقهاء في استئناف الحكم على قاتل الصيد فيما مضى فيه من السلف حكم
فقال فيه مالك يستأنف الحكم في كل ما مضت فيه حكومة أو لم تمض
وهو قول أبي حنيفة
وقال الشافعي إن اختار بحكومة الضحايات من غير أن يحكم عليه جاز فإذا قتل نعامة أهدى بدنة وإذا قتل غرابا أهدى شاة
واختلفوا في قول الله (عز وجل) * (فجزاء مثل ما قتل من النعم) * [المائدة 95] والنعم الإبل والبقر والغنم
147

فإذا قتل المحرم صيدا له مثل من النعم في المنظر والبدن يكون أقرب شبها به من غيره فعليه مثله في الظبي شاة وفي النعامة بدنة وفي البقرة الوحش بقرة
هذا قول مالك والشافعي ومحمد بن الحسن
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف الواجب في قتل الصيد قيمته كان له مثل من النعم أو لم يكن وهو بالخيار بين أن يتصدق بقيمته وبين أن يصرف القيمة في مثله من النعم فيشتريه ويهديه فإن اشترى بالقيمة هديا أهداه وإن اشترى به طعاما أطعم كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو شعير أو صام مكان كل صاع يومين
وقال محمد بن الحسن المثل النظير من النعم كقول مالك والشافعي
وقال في الطعام والصيام بقول أبي حنيفة
ولم يختلف قول مالك فيمن استهدى لغيره شيئا من العروض أن القيمة فيه هي المثل
قال والقيمة أعدل في ذلك
ولكن السلف (رضي الله عنهم) حكم جمهورهم في النعامة ببدنة وفي الغزال بشاة وفي البقرة الوحش ببقرة واعتبروا المثل فيما وصفنا لا القيمة فلا ينبغي خلافهم لأن الرشد في اتباعهم
واختلفوا في قاتل الصيد هل يكون أحد الحكمين أم لا
فعند أصحاب مالك لا يجوز أن يكون القاتل أحدهما
وقال الشافعي يجوز ذلك
واختلف أصحاب أبي حنيفة على القولين فقال بعضهم يجوز وقال بعضهم لا يجوز
واختلفوا في التخيير والترتيب في كفارة جزاء الصيد
فقال مالك يخير الحكمان المحكوم عليه فإن اختار الهدي حكم به عليه وإن اختار الإطعام والصيام حكما عليه بما يختار من ذلك موسرا كان أو معسرا
وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد
وقال زفر الكفارة مرتبة يقوم المقتول دراهم يشتري بها هديا فإن لم يبلغ اشتري به طعام فإن لم يجد ما يشتري به هديا ولا طعاما صام بقيمتها ينظر كم تكون تلك الدراهم طعاما فيصوم عن كل صاع من بر يومين
148

واختلف فيها قول الشافعي فقال مرة بالترتيب هدي فإن لم يجد فطعام فإن لم يجد فصيام ومرة بالتخيير كما قال مالك
وهو الصواب عندي لأن الله (عز وجل) يقول * (يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما) * [المائدة 95] وحقيقة (أو) التخيير لا الترتيب والله أعلم
واختلفوا هل يقدم الصيد أو المثل فقال مالك إذا اختار قاتل الصيد أن يحكم عليه بالإطعام قوم الصيد على أنه حي كم يساوي من الطعام
وهو قول أبي حنيفة
وقال الشافعي يقوم المثل
ولهم في ذلك حجج يطول ذكرها
فقال مالك يقوم الصيد طعاما فإن قوم دراهم ثم قوم الطعام بالدراهم رأيت أن يجزئ
وقال الشافعي ومحمد بن الحسن يقوم بالدراهم ثم تقوم الدراهم طعاما
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف إذا حكم الحكمان بالقيمة كان المحكوم عليه مخيرا إن شاء أهدى وإن شاء صام وإن شاء تصدق
واختلفوا في موضع الإطعام
فمذهب مالك أن الإطعام في الموضع الذي أصاب فيه الصيد إن كان ثم طعام وإلا في أقرب المواضع إليه حيث الطعام
وقال أبو حنيفة يطعم إن شاء في الحرم وإن شاء في غيره
وقال الشافعي لا يطعم إلا مساكين مكة كما لا ينحر الهدي إلا بمكة
واختلفوا في مقدار الإطعام والصيام عنه
فقال مالك يطعم كل مسكين مدا أو يصوم مكان كل مد يوما
وهو قول الشافعي وأهل الحجاز
وقال أبو حنيفة يطعم كل مسكين مدين أو يصوم مكان كل مدين يوما
وهو قول الكوفيين ومجاهد
واختلفوا في المحرم يقتل الصيد ثم يأكل منه
فقال مالك والشافعي ليس عليه إلا جزاء واحد
149

وهو قول أبي يوسف ومحمد
وقال أبو حنيفة في قتلة الجزاء كامل وفي أكله ضمان ما أكل
وبه قال الأوزاعي
وقال الأوزاعي لو صاد الحلال في الحرم فعليه الجزاء فإن أكل مما صاد لم يضمن شيئا مما أحل
واختلفوا في الحلال إذا دخل معه من صيد الحل شيئا إلى الحرم هل يجوز له أن يذبحه في الحرم
ففي الموطأ الذي يصيد الصيد وهو حلال ثم يذبحه وهو محرم عليه جزاؤه وهو بمنزلة الذي يبتاعه وهو محرم ثم يقتله
وقد روي عنه أن للمحل الذي صاده في الحل أن يذبحه في الحرم وأن يبيعه ويهبه فيه
وبه قال الشافعي
وقال أبو حنيفة لا يجوز له فيه شيء من ذلك وعليه أن يرسله
واتفقوا في المحرم إذا قتل صيدا مملوكا لغيره أن عليه قيمته لصاحبه والجزاء
وخالفهم المزني فقال لا جزاء عليه ولا يلزمه غير قيمته
((28 - باب ما يقتل المحرم من الدواب))
756 - مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور
757 - وعن عبد الله بن دينار عن بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في معناه
150

وروى أيوب عن نافع عن بن عمر مثله سواء وزاد قال أيوب قلت لنافع فالحية قال الحية لا شك في قتلها وقال بعضهم عن أيوب قلت لنافع فالحية قال الحية لا يختلف في قتلها
واختلف فيه عن الزهري فرواه بن عيينة عن الزهري عن سالم عن بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم
ورواه زيد بن جبير عن بن عمر قال أخبرتني إحدى نسوة النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله كان يأمر المحرم بقتل خمس من الدواب فذكر مثله سواء
وقد ذكرنا الأسانيد بذلك كله في التمهيد
758 - وعن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال خمس فواسق يقتلن في الحرم فذكره سواء
رواه معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم
759 - وذكر مالك عن بن شهاب أن عمر بن الخطاب أمر بقتل الحيات في الحرم
قال مالك في الكلب العقور الذي أمر بقتله في الحرم إن كل ما عقر الناس وعدا عليهم وأخافهم مثل الأسد والنمر والفهد والذئب فهو الكلب العقور وأما ما كان من السباع لا يعدو مثل الضبع والثعلب والهر وما أشبههن من السباع فلا يقتلهن المحرم فإن قتله فداه وأما ما ضر من الطير فإن المحرم لا يقتله إلا ما سمى النبي صلى الله عليه وسلم الغراب والحدأة وإن قتل المحرم شيئا من الطير سواهما فداه
قال أبو عمر أجمع العلماء على القول بجملة معنى أحاديث هذا الباب واختلفوا في تفصيلها على ما نورده عنهم بحول الله وقوته إن شاء الله
151

فأما الكلب العقور فقد ذكر مالك مذهبه فيه في موطئه على حسب ما أوردناه
ومذهب بن عيينة في الكلب العقور نحو مذهب مالك
قال بن عيينة معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكلب العقور كل سبع يعقر ولم يخص به الكلب
قال سفيان و فسره لي زيد بن أسلم كذلك
وكذلك قال أبو عبيد
وروى زهير بن محمد عن زيد بن أسلم عن عبد ربه بن سبلان عن أبي هريرة قال الكلب العقور كالأسد
فكل هؤلاء يقولون إنه لم يعن بالكلب العقور الكلاب الآنسية العادي منها ولا غير العادي دون سائر ما يعقر الناس ويعدو عليهم من السباع كلها
واحتج بعض من ذهب هذا المذهب بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في عتبة بن أبي لهب اللهم سلط عليه كلبا من كلابك فعدى عليه الأسد فقتله
ومذهب الثوري في ذلك كمذهب مالك
قال الثوري يقتل المحرم الكلب العقور
قال وهو كل ما عدا عليك من السباع تقتله ولا كفارة عليك
ومذهب الشافعي في الكلب العقور نحو ذلك أيضا
قال الشافعي الكلب العقور ما عدا على الناس من الكلاب
قال ومثل الكلب العقور كل سبع عقور مثل النمر والفهد والذئب والأسد
ونحوه قول أحمد بن حنبل قال تقتل كل ما عدا عليك وعقرك وآذاك ولا فدية عليك
فهؤلاء العلماء كلهم مذاهبهم متقاربة في العبارة عن الكلب العقور وكلهم لا يرى ما ليس من السباع الغراب والحدأة في الأغلب ليست في معنى الكلب العقور في شيء ولا يجوز للمحرم عندهم قتل الهر الوحش ولا الثعلب ولا الضبع
وقال أبو حنيفة وأصحابه لا يقتل المحرم من السباع إلا الكلب والذئب فقط يقتلهما فلا شيء عليه فيهما ابتدآه أو ابتدأهما وإن قتل شيئا من السباع فداه إلا أن يكون ابتدأه السبع فإن ابتدأه فقتله فلا شيء عليه وإن لم يبتدئه وقتله أفداه
152

وهو قول الأوزاعي والحسن بن صالح
وقال زفر لا يقتل المحرم إلا الذئب وحده ومتى قتل غيره فعليه الفدية ابتدأه أو لم يبتدئه
قال أبو عمر تلخيص مذهب مالك في الكلب العقور وسائر السباع فيما ذكره بن القاسم وبن وهب وأشهب عنه أن المحرم يقتل السباع التي تعدو على الناس وتفترس ابتدأته أو ابتدأها جائز له قتلها على كل حال
وأما صغار أولادها التي لا تعدو على الناس ولا تفترس فلا يقتلها ولا يقتل ضبعا ولا ثعلبا ولا هرا وحشيا إلا أن يبتدئه أحد هذه بالأذى والعداء عليه فإن فعل فله قتله ودفعه عن نفسه
قال بن القاسم كما لو أن رجلا عدا على رجل فأراد قتله فدفعه عن نفسه لم يكن عليه شيء
وقال أشهب عنه إن قتل المحرم ثعلبا أو هرا أو ضبعا وداه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن في قتل السباع وإنما أذن في قتل الكلب العقور
قال وكذلك صغار الذئاب والنمور لا يرى أن يقتلها المحرم فإن قتلها فداها وهي مثل فراخ الغربان
وقال أبو حنيفة كل من قتل شيئا من السباع صغيرا أو كبيرا فداه إلا الكلب العقور والذئب
وقال الشافعي الذي يجوز للمحرم قتله من السباع فصغاره وكباره سواء يقتلها ولا شيء عليه وما لا يجوز قتله صغيرا لم يقتله كبيرا وكل ما لا يجوز أكل لحمه فلا بأس على المحرم في قتله
وجائز عنده أكل الضبع والثعلب والهر
وسنبين مذهبه ومذهب سائر العلماء فيما يؤكل من الدواب في بابه من هذا الكتاب عند ذكر نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع إن شاء الله وليس هذا الباب فيما للمحرم قتله عند مالك وأصحابه من باب ما يؤكل لحمه في شيء يعقب على ذلك
وأما الغراب والحدأة في هذا الباب فقال أشهب سئل مالك أيقتل المحرم الغراب والحدأة من غير أن يضرانه قال لا إلا أن يضرانه إنما أذن في قتلهما إذا أضرا في رأيي فأما أن يصيبهما بدءا فلا وهما صيد
153

وليس للمحرم أن يصيد وليا مثل العقرب والفأرة والغراب والحدأة صيد فإن أضر الغراب والحدأة بالمحرم فله أن يقتلهما
قال ولا بأس أن يقتل الحية والفأرة والعقرب وإن لم تضره
وقال بن وهب وأشهب عن مالك أما الطير فلا يقتل المحرم منه إلا ما سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الغراب والحدأة ولا أرى له أن يقتلهما إلا أن يضراه
وقال أبو حنيفة وأصحابه لا شيء على المحرم في قتل الحية والعقرب والحدأة الفأرة والغراب
وقال الشافعي لا بأس بقتل الغراب والحدأة والرحم والنسور والخنافس والقردان والحلم وكل ما لا يؤكل لحمه فلا شيء على المحرم في قتل شيء من ذلك ولا بأس بقتله للمحرم وغيره
هذا معنى قوله
وهو قول بن عمر وعائشة وعروة وبن شهاب
ذكر الساجي قال حدثني علي بن عبد الحميد الغدائري قال حدثنا الهيثم بن جميل قال حدثني شريك عن هشام بن عروة عن أبيه قال ذكر عند بن عمر الغراب فقال هو الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفويسق والله ما هو من الطيبات التي ذكر الله (عز وجل) في القرآن
قال وحدثني محمد بن الحارث المخزومي قال حدثني بن أبي أويس عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت إني لأعجب من أكل الغراب وقد رأى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماه فاسقا والله ما هذا من الطيبات
وحدثني بن المثنى قال حدثنا أبو داود قال حدثني همام عن قتادة أنه كره لحم الغراب
قال وحدثني عبد الرزاق قال حدثني حجاج بن المنهال قال حدثني حماد بن سلمة قال حدثني هشام بن عروة عن أبيه أنه سئل عن لحم الغراب فكرهه
قال أبو عمر جائز عند مالك أكل الغراب والحدأة وكل ذي مخلب من الطير ولم يصح عنده في ذلك النهي الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم
وقد صح عند أبي بكر الصديق أنه قال كل الطير كله
وقد ذكرنا الخبر عنه في غير هذا الموضع
وهو قول عطاء وجماعة من العلماء
154

وذكر بن وهب عن خالد بن حميد عن عقيل عن بن شهاب أنه سأله رجل عن أكل البازي فأمره بأكله
قال بن وهب وأخبرني الليث قال كتبت إلى يحيى بن سعيد في لحم الغراب والحدأة والنسر والصقر والبازي والعقاب وأشباهها هل يكره أم لا فقال يحيى بن سعيد ليس ينبغي أن تحرم إلا ما حرم الله (عز وجل) أو بما تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي عنه
قال بن وهب وسألت مالكا عن أكل الغراب والحدأة وقلت له إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماهما فاسقين وأمر المحرم بقتلهما فقال لم أدرك أحدا ينهى عن أكلهما
قال ولا بأس بأكلهما
قال وإني لأكره أكل الفارة والحية والعقرب من غير أن أراه حراما
قال ومن أكل حية فلا يأكلها حتى يذكيها
قال أبو عمر العلماء مجمعون على قتل الحية والعقرب في الحل والحرم للحلال والمحرم وكذلك الأفعى عندهم جميعهم
وفي حديث بن مسعود كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ليلة عرفة فخرجت حية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتلوا فسيقا
وفي حديث أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل المحرم الأفعى والأسود والحية والعقرب والحدأة والكلب العقور والفويسقة
قال أبو عمر قد ذكرنا إسناد هذين الحديثين في التمهيد
والأسود الحية والفويسقة الفأرة
روى شعبة عن مخارق بن عبد الله عن طارق بن شهاب قال اعتمرت فمررت بالرمال فرأيت حيات فجعلت أقتلهن وسألت عمر فقال هي عدو فاقتلوهن
155

وقال بن عيينة سمعت الزهري يحدث عن سالم عن أبيه أن عمر سئل عن الحية يقتلها المحرم فقال هي عدو فاقتلوها حيث وجدتموها
قال سفيان وقال لنا زيد بن أسلم ويحك أي كلب أعقر من الحية
قال أبو عمر وكذلك أجمع العلماء على جواز قتل الفأرة في الحل والحرم وقتل العقرب والوزغ إلا أن بن القاسم وبن وهب وأشهب رووا عن مالك وذكره بن عبد الحكم عنه قال لا أدري أن يقتل المحرم الوزغ لأنه ليس من الخمس التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلهن قيل له فإن قتل المحرم الوزغ قال أرى أن يتصدق وهو مثل شحمة الأرض وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس من الدواب فليس عليهن شيء إلا سبعا
قال ولا يقتل المحرم قردا ولا خنزيرا ولا الحية الصغيرة ولا صغار السباع ولا فراخ الغربان
قال أبو عمر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الوزغ وسماه فويسقا
رواه بن شهاب عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم
وعن بن شهاب عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم
والآثار بذلك متواترة وقد ذكرنا بعضها في التمهيد
وقد أجاز مالك قتل الحية والأفعى وليست من الخمس التي سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم
والكلب العقور عنده صفة لا عين مسماة فيدخل في ذلك أكثر من الخمس
وقد قال إسماعيل بن إسحاق اختلف في الزنبور فشبهه بعضهم بالحية والعقرب
قال ولولا أن الزنبور لا يبتدئ لكان أغلظ على الناس من الحية والعقرب ولكنه ليس في طبعه من الأذى ما في الحية والعقرب لأنه إنما يجيء إذا أوذي
قال فإن عرض الزنبور لإنسان فدفعه عن نفسه لم يكن عليه فيه شيء
156

قال إسماعيل وإنما لم يدخل أولاد الكلب العقور في حكم العقور لأنهن لا يعقرن في صغرهن
قال وقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس فواسق والفواسق فواعل والصغار لا فعل لهن
قال أبو عمر وحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم [التمثيل بالبهائم] ونهى أن يتخذ شيئا فيه الروح غرضا ونهى أن تصبر البهائم وذلك فيما يجوز أكله وفيما لا يجوز وإجماع العلماء المسلمين على ذلك وقال صلى الله عليه وسلم من قتل عصفورا بغير حقه عذب به يوم القيامة قيل وما حقه يا رسول الله قال يذبحه ولا يقطع رأسه فيرمي به
وفي هذا كله دليل واضح أن ما يحل أكله لا يجوز قتله لما فيه من الفساد وإضاعة المال والله قد نهى عن الفساد وأخبر أنه لا يحبه وقد نهى عن إضاعة المال وكل مقدور عليه ذكاته الذبح وكل ممتنع من الصيد ذكاته الحديد حيث أدركت منه مع سنة التسمية في ذلك
وقد أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل تلك الفواسق وشبهها في الحل والحرم على ما في حديث عائشة وغيره وقال المحرم يقتله
157

وأما مالك ومن تابعه على جواز أكل الطير كله ذي المخلب منه وغير ذي المخلب
فمن حجتهم أن الحدأة والغراب استثناهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصيد الذي نهى المحرم عنه
وقد قالت فرقة منهم مجاهد بن جبر ولا يقتل الغراب ولكن يرمي
وروي ذلك عن علي (رضي الله عنه) ولا يصح عنه
وقد ذكرنا إسناده عنه في التمهيد
واحتج من قال بذلك بحديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عما يقتل المحرم فقال الحية والعقرب والفويسقة ويرمي الغراب ولا يقتله والكلب العقور والحدأة والسبع العادي
رواه هشيم قال حدثني يزيد بن أبي زياد قال حدثني عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن أبي نعم عن أبي سعيد الخدري
وقد ذكرناه بإسناده ويزيد بن أبي زياد ليس بحجة فيما انفرد به
وشذت فرقة أخرى فقالت لا يقتل من الغربان إلا الغراب الأبقع
واحتجوا بما حدثنا محمد بن إبراهيم قال حدثني محمد بن معاوية قال حدثني أحمد بن شعيب قال أخبرنا عمر بن علي قال حدثني يحيى قال حدثني شعبة قال حدثني قتادة عن سعيد بن المسيب عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال خمس يقتلهن المحرم الحية والفأرة والحدأة والغراب والأبقع والكلب العقور
قال أبو عمر الأبقع من الغربان الذي في ظهره وبطنه بياض وكذلك الكلب الأبقع أيضا وأما الأدرع فهو الأسود والغراب الأعصم هو الأبيض الرجلين وكذلك الوعل الأعصم عصمته بياض في رجليه
((29 - باب ما يجوز للمحرم أن يفعله))
760 - مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث
158

التيمي عن ربيعة بن أبي عبد الله بن الهدير أنه رأى عمر بن الخطاب يقرد بعيرا له في طين بالسقيا وهو محرم
قال أبو عمر تقريد البعير نزع القراد عنه ورميه وكان عمر يدفنها في الطين لئلا ترجع إلى البعير وليكون أعون له على قتلها
وأدخل مالك هذا الخبر عن عمر بعد ما ترجم الباب ب (ما يجوز للمحرم أن يفعله) ثم قال بأثر عمر هذا
قال مالك وأنا أكرهه
761 - ثم أدخل في هذا الباب عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يكره أن ينزع المحرم حلمة أو قرادا عن بعيره
قال مالك وذلك أحب ما سمعت إلي في ذلك
قال أبو عمر كأنه رأى أن قول بن عمر أحوط فمال إليه
ولم يتابعه جمهور العلماء عليه لأن القراد ليس من الصيد فيدخل في معنى قول الله (عز وجل) * (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) * [المائدة 95] ولا هو ممن يعتبر به المحرم في نفسه من الصبر مما يغير به المحرم في نفسه من الصيد على أذاه وليس في جسده ولا في رأسه ولم يتعد كونه في هوام جسد بعيره
فليس لقول بن عمر وجه ولا معنى صحيح في النظر
وقد قال بن عباس لا بأس أن يقتل المحرم القراد والحلم والبراغيث
قال أبو عمر على قول بن عباس في هذا أكثر الناس
قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري والليث والأوزاعي لا بأس أن يقرد المحرم بعيره
وهو قول جابر بن زيد وعطاء وبه قال أبو ثور وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وداود والطبري
159

762 - مالك عن علقمة بن أبي علقمة عن أمه أنها قالت سمعت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تسأل عن المحرم أيحك جسده فقالت نعم فليحككه وليشدد ولو ربطت يداي ولم أجد إلا رجلي لحككت
قال أبو عمر لا خلاف بين العلماء في أن للمحرم أن يحك جسده وأن يحك رأسه حكا رقيقا لئلا يقتل قملة أو يقطع شعرة
وإنما قالت عائشة والله أعلم يحك المحرم جسده وليشدد لأن شعر الجسد حق عند أهل العلم وهم لا يرون على من حك رأسه شيئا إلا أن يستيقن أنه قتل قملا أو قطع شعرا
ولا خلاف بين العلماء أنه لا يجوز للمحرم أخذ شيء من شعر رأسه وجسده لضرورة ما دام محرما فإن فعل فقد تجاوز له بعض العلماء في اليسير من الشعر مثل الشعرة والشعرتين
قال عطاء ليس في الشعرة ولا في الشعرتين شيء
قال عطاء فإن كن شعرات ففيهن الكفارة
قال أبو عمر الكفارة ما أوجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على كعب بن عجرة وسيأتي القول في هذا في بابه من هذا الكتاب إن شاء الله
وقال الشافعي إذا قطع المحرم من رأسه أو جسده ثلاث شعرات أو نتفهن فعليه فدية وإن نتف شعره فعليه مد وإن نتف شعرتين فمدان
وبه قال أبو ثور
ولم يحد مالك في ذلك شيئا
وقال مالك فيمن نتف شعر أنفه أو إبطيه أو اصطلى بنورة أو حلق عن شجة في رأسه لضرورة أو حلق قفاه لموضع المحاجم وهو محرم ناسيا أو جاهلا فعليه الفدية
قال أبو عمر قول مالك أصوب لأن الحدود في الشريعة لا تصح [إلا] بتوقيف ممن يجب التسليم له
وقال أبو حنيفة وأصحابه إن أخذ المحرم من شعر رأسه أو لحيته فعليه صدقة أو نتف شعرات فإن نتف إبطيه فعليه دم وإن حلق موضع المحاجم فعليه دم في قول أبي حنيفة
160

وفي قول أبي يوسف ومحمد عليه صدقة
وروي عن الحسن البصري أن عليه في شعرة واحدة دما
وهذا إسراف والله أعلم
763 - مالك عن أيوب بن موسى أن عبد الله بن عمر نظر في المرأة لشكو كان بعينيه وهو محرم
قال أبو عمر لم يرو مالك هذا الخبر عن نافع وقد رواه عبيد الله وعبد الله العمريان عن نافع عن بن عمر
ورواه أيوب السختياني عن نافع عن بن عمر ذكره معمر عن أيوب عن نافع قال رأيت بن عمر نظر في المرآة وهو محرم
قال أبو عمر روي عن مالك أنه كره النظر في المرآة للمحرم من غير شكوى وكأنه دخل قوله [في] بن عمر لشكوى كانت بعينيه يريد أنه لم يكن نظره فيها رفاهية ولا زينة ولا لدفع شيء من الشعث
وعن الحسن وبن سيرين وعطاء وطاوس ومجاهد أنه لا بأس للمحرم أن ينظر في المرآة
وقد روي عن عطاء أنه كرهه إذا كان ذلك لزينة
واختلف عن بن عباس فروى بن جريج عن عطاء الخرساني أن بن عباس كره أن ينظر المحرم في المرآة وروى هشام بن حسان عن عكرمة عن بن عباس قال لا بأس أن ينظر المحرم في المرآة
قال أبو عمر على هذا الناس لأن الله تعالى لم ينه عن ذلك ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا في الأصول شيء يمنع منه
764 - مالك عن محمد بن عبد الله بن أبي مريم أنه سأل سعيد بن المسيب عن ظفر له انكسر وهو محرم فقال سعيد اقطعه
وهذا أيضا لا بأس به عند العلماء
وذكر عبد الرزاق عن معمر والثوري عن أيوب عن عكرمة عن بن عباس
161

قال المسلم ينزع ضرسه وإن انكسر ظفره طرحه أميطوا عنكم الأذى فإن الله تعالى لا يصنع بأذاكم شيئا
وسئل مالك عن الرجل يشتكي أذنه أيقطر في أذنه من البان الذي لم يطيب وهو محرم فقال لا أرى بذلك بأسا ولو جعله في فيه لم أر بذلك بأسا
قال أبو عمر ما ليس بطيب فلا يختلف العلماء في أنه مباح ويحل للمحرم مباشرته والتداوي به
قال مالك ولا بأس أن يبط المحرم خراجه ويفقأ دمله ويقطع عرقه إذا احتاج إلى ذلك
قال أبو عمر الأصل في هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم من أذى كان به
وفي ذلك إباحة التداوي بقطع العرق وشبهه من بط الخراج وفقء الدمل وقلع الضرس وما كان مثل ذلك كله وعلى ذلك فتوى جماعة الفقهاء وعلى ذلك مضى من قبلهم من التابعين وسلف العلماء
وقد أجمعوا على نزع الشوكة وشبهها للمحرم
وقد مضى معنى هذا الباب والله الموفق للصواب
((30 - باب الحج عمن يحج عنه))
765 - مالك عن بن شهاب عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن
162

عباس قال كان الفضل بن عباس رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر فقالت يا رسول الله إن فريضة الله في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه قال نعم وذلك في حجة الوداع
قال أبو عمر وهذا الحديث قد سمعه سليمان بن يسار من عبد الله بن عباس من رواية الأوزاعي وبن عيينة عن الزهري
حدثني سعيد قال حدثني قاسم قال حدثني الزهري قال حدثني الحميدي
وحدثني عبد الوارث قال حدثني قاسم قال حدثني بكر قال حدثني مسدد قالا حدثنا سفيان قال حدثني الزهري قال سمعت سليمان بن يسار يقول سمعت بن عباس يقول إن امرأة من خثعم سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة النحر والفضل رديفه فقالت إن فريضة [الله في الحج على عباده] أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة هل ترى أن أحج عنه قال نعم
قال الحميدي وحدثني سفيان قال كان عمرو بن دينار حدثناه أولا عن الزهري عن سليمان بن يسار عن بن عباس وزاد فيه فقالت يا رسول الله أو ينفعه ذلك قال نعم كما لو كان على أحدكم دين فقضاه غيره عنه
قال فلما جاءنا الزهري تفقدت هذا فلم يقله
قال أبو عمر هذه الرواية التي رواها عمرو بن دينار عن الزهري بإسناده المذكور محفوظة من وجوه كثيرة من حديث الزهري وغيره وليس ما سمعه بن عيينة من عمرو بن دينار عن الزهري بدون ما سمعه هو من الزهري وعمرو أحد الأئمة الحفاظ
وفي هذا الحديث من الفقه ركوب شخصين على دابة هذا مما لا خلاف فيه جوازه إذا أطاقت الدابة ذلك
وفيه إباحة الارتداف وذلك من التواضع وأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها سنن مرغوب فيها يحسن التأسي بها على كل حال وجميل الارتداف بالجليل من الرجال
وفيه بيان ما ركب في الآدميين من شهوات النساء في الرجال والرجال في النساء وما يخاف من النظر إليهن وكان الفضل بن عباس من أجمل الشبان في زمانه
163

وفيه أن على العالم والإمام أن يغير من المنكر كل ما يمكنه بحسب ما يقدر عليه إذا رآه وليس عليه ذلك فيما غاب عنه
وفيه دليل على أنه يجب على الإمام أن يحول بين الرجال والنساء اللواتي لا يؤمن عليهن ولا منهن الفتنة ومن الخروج والمشي منهن في الحواضر والأسواق وحيث ينظرن إلى الرجال وينظر إليهن
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء
وفيه دليل على أن إحرام المرأة في وجهها وقد مضى القول في هذا المعنى
وقد زعم بعض أصحابنا أن في هذا الحديث دليلا على أن للمرأة أن تحج وإن لم يكن معها ذو محرم لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمرأة الخثعمية حجي عن أبيك ولم يقل إن كان معك ذو محرم
وهذا ليس بالقوي من الدليل لأن العلم ما نطق به لا ما سكت عنه وقد قال صلى الله عليه وسلم لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر إلا مع ذي محرم أو زوج
وأما اختلاف أهل العلم في معنى هذا الحديث الذي له سن وذلك حج المرء عن من لا يطيق الحج من الأحياء فإن جماعة منهم ذهبوا إلى أن هذا الحديث مخصوص به أبو الخثعمية لا يجوز أن يتعدى به إلى غيره بدليل قول الله (عز وجل) * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) * [آل عمران 97] ولم يكن أبو الخثعمية ممن يلزمه الحج لما لم يستطع إليه سبيلا فخص بأن يقضى عنه وينفعه ذلك وخصت ابنته أيضا أن تحج عن أبيها وهو حي وممن قال بذلك مالك وأصحابه قالوا خص أبو الخثعمية والخثعمية بذلك كما خص سالم مولى أبي حذيفة برضاعه في حال الكبر
وهذا مما يقول به المخالف فيلزمه
وروي معنى قول مالك عن عبد الله بن الزبير وعكرمة وعطاء والضحاك
164

قال بن الزبير والاستطاعة القوة
وقال عكرمة الاستطاعة الصحة
وقال أشهب قيل لمالك الاستطاعة الزاد والراحلة قال لا والله وما ذاك إلا على قدر طاقة الناس فرب رجل يجد زادا وراحلة ولا يقدر على المسير وآخر يقوى يمشي على راحلته وإنما هو كما قال الله (عز وجل) * (من استطاع إليه سبيلا) *
قال أبو عمر وذهب آخرون إلى أن الاستطاعة تكون في البدن والقدرة وتكون أيضا بالمال لمن لم يستطع ببدنه واستدلوا بهذا الحديث وما كان مثله
وممن قال بذلك الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأحمد وإسحاق
وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس وسعيد بن جبير والحسن وعمرو بن دينار والسدي كلهم وجماعة سواهم يقولون السبيل الزاد والراحلة
وهذا يدل على أن فرض الحج على البدن والمال
وروي عن النبي (عليه السلام) أنه قال السبيل الزاد والراحلة من وجوه منها مرسلة ومنها ضعيفة
والاستطاعة في لسان العرب تكون بالمال وتكون بالبدن
وتقول العرب أنا أستطيع أن أبني داري يعني بماله
وكذلك سائرها يشبهه ذلك والاحتجاج لكلا الفريقين يطول وليس هنا مما قصد به إلى ذلك وقد أوضحنا أصول ذلك في التمهيد
وأما اختلافهم في المعضوب الذي لا يستطيع أن يثبت على الراحلة لكبر أو لضعف أو لزمانة
فقال مالك لا حج على من هذه حاله وإن كان واجدا لما يبلغه الحج من ماله
وقال أبو حنيفة والشافعي هو مستطيع إذا وجد من يحج عنه بمال أو بغير مال
165

قال الشافعي الاستطاعة على وجهين أحدهما أن يكون مستطيعا ببدنه والآخر من ماله ما يبلغه الحج زاد وراحلة قال والوجه الآخر أن يكون معضوبا ببدنه لا يقدر على مركب بحال وهو قادر على من يطيعه إذا أمره أن يحج عنه بطاعته له أو باستحبابه له فيكون ممن يلزمه الحج
واحتج بحديث الخثعمية قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم حجي عن أبيك فإن ذلك يجزئ كما لو كان عليه دين فقضيته عنه قال أبو عمر احتج بعض أصحابنا المالكيين بحديث عبد الرزاق عن الثوري عن سليمان بن الشيباني عن يزيد بن الأصم عن بن عباس أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحج عن أبي قال نعم إن لم تزده خيرا لم تزده شرا
قال أبو عمر هذا الحديث قد أنكروه على عبد الرزاق وخطؤوه فيه لأنه حديث لم يروه أحد عن الثوري غيره فلا يوجد في غير كتاب عبد الرزاق وقالوا هذا حديث منكر لا يشبه ألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم ومحال أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بما لا يدري أينفع أم لا
حدثني خلف بن سعيد قال حدثني عبد الله بن محمد قال حدثني أحمد بن خالد قال حدثني عبيد بن محمد الكشوري قال لم يرو حديث الشيباني عن يزيد بن الأصم عن بن عباس أحد غير عبد الرزاق عن الثوري لم يروه عن الثوري كوفي ولا بصري ولا حجازي ولا أحد غير عبد الرزاق
قال أبو عمر لما لم يوجد عند من هو أعرف بالثوري من عبد الرزاق مثل القطان وبن مهدي ووكيع وأبي نعيم وبن المبارك والفريابي والأشجعي وغيرهم علم أن عبد الرزاق قد وهم فيه لفظا وأشبه عليه
وقد روى شعبة عن النعمان بن سالم عن عمرو بن أوس عن أبي رزين العقيلي أنه قال يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج والعمرة ولا الظعن قال حج عن أبيك واعتمر
وقد روى هشيم وغيره عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن بن عباس
166

قال أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن أختي نذرت أن تحج فماتت أفأحج عنها قال نعم أرأيت لو كان عليها دين فقضيه الله أولى بالوفاء
وفي هذا الحديث الحج عن الميت
وفي هذا الباب أحاديث كثيرة قد ذكرنا أكثرها في التمهيد
وقد أجمعوا أن لا تقضى الصلاة عن حي ولا ميت واختلفوا في الصيام لاختلاف الآثار في ذلك والله أعلم ففي هذا الحديث مع إيجاب الحج على من قدر عليه بماله وضعف عن إقامته ببدنه جواز حج الرجل عن غيره
وقد اختلف العلماء في ذلك
فقال الحسن بن صالح بن حي لا يحج أحد عن أحد إلا عن ميت لم يحج حجة الإسلام
وهو قول مالك والليث
وقال أبو حنيفة للصحيح أن يأمر من يحج عنه يكون ذلك في ثلثه وإن تطوع رجل بالحج عنه بعد الموت أجزاه
ولا يجوز عنده أن يؤاجر أحد نفسه في الحج
وقول الثوري نحو قول أبي حنيفة
قال سفيان الثوري إذا مات الرجل ولم يحج فليوص أن يحج عنه فإن هو لم يوص فحج عنه ولده فحسن فإنما هو دين يقضيه
قال وقد كان يستحب لذي القرابة أن يحج عن قرابته فإن كان لا قرابة له فمواليه إن كان له موالي فإن ذلك يستحب فإن أحجوا عنه رجلا تطوعا فلا بأس
قال سفيان وإذا أوصى الرجل أن يحج عنه فليحج عنه ولا ينبغي لرجل أن يحج عن غيره إذا لم يحج عن نفسه
وقال بن أبي ليلى والأوزاعي والشافعي يحج عن الميت وإن لم يوص به ويجزيه
167

قال الشافعي ويكون ذلك من رأس المال
وقال مالك يجوز أن يحج عن الميت من لم يحج قط ولكن الاختيار أن يحج عن نفسه أولا ثم يحج عن غيره
وهو قول أبي حنيفة والأوزاعي والثوري
وقال لا يحج عن الميت إلا من حج عن نفسه
وكان يكره أن تحج المرأة عن الرجل ولا يكره للرجل أن يحج عن المرأة لأن المرأة تلبس والرجل لا يلبس
وقال الشافعي لا يحج عن الميت إلا من حج عن نفسه فإن حج عن الميت صرورة كانت نيته للنفل لغوا
وقال الشافعي جائز أن يؤاجر نفسه في الحج ولست أكرهه
وقال مالك وأكره أن يؤاجر نفسه في الحج فإن فعل جاز
وهكذا كان قول الشافعي بالعراق
وعند أبي حنيفة لا يجوز الاستئجار على الحج قربة إلى الله (عز وجل) ولا يصح أن يعمله غير المتقرب به
واحتج بعض أصحابه بالإجماع على أنه لا يجوز أن يستأجر الذمي بأن يحج عن مسلم وذلك لأنه قربة للمسلم
ومن حجة مالك والشافعي على جواز ذلك إجماعهم على كتب المصحف وبناء المسجد وحفر القبر وصحة الاستئجار في ذلك وهو قربة إلى الله (عز وجل) فكذلك عمل الحج عن الغير
والصدقات قربة إلى الله (عز وجل) وقد أباح للعامل عليها الأجر على عمالته
ويدخل عليهم في احتجاجه بالإجماع على أن الذمي لا يجوز لمسلم أن يستأجره على أداء الحج عن نفسه إجماعهم أيضا أنه لا يجوز استئجار الذمي في التطوع بالحج وهم يحرمونه للمسلم في التطوع فكذلك الفرض
وفي حديث الخثعمية حديث مالك هذا رد على الحسن بن صالح بن حي في قوله أن المرأة لا يجوز أن تحج عن الرجل وهو حجة لمن أجاز ذلك
وأما حجة من أبى من جواز حج الرجل وهو صرورة عن غيره حتى يحج عن
168

نفسه ما حدثني عبد الله بن محمد قال حدثني محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثني إسحاق بن إسماعيل الطالقاني قال حدثني عبدة بن سليمان عن بن أبي عروبة عن قتادة عن عزرة عن سعيد بن جبير عن بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول لبيك عن شبرمة قال من شبرمة قال أخ لي أو قريب لي فقال حججت عن نفسك قال لا قال فحج عن نفسك ثم حج عن شبرمة
ومن أبى القول بهذا الحديث علله بأنه قد روي هذا الحديث موقوفا علي بن عباس أنه سمع رجلا يقول لبيك عن شبرمة الحديث لم يذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم
وبعضهم يرويه عن قتادة عن سعيد بن جبير لا يذكر عزرة
والذي يقبله يحتج بأن الذي رفعه حافظ قد حفظ ما فسر عنه غيره فوجب قبول زيادته وبالله التوفيق هو حسبي ونعم الوكيل
((31 - باب ما جاء فيمن أحصر بعدو))
766 - قال مالك من حبس بعدو فحال بينه وبين البيت فإنه يحل من كل شيء وينحر هديه ويحلق رأسه حيث حبس وليس عليه قضاء
مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حل هو وأصحابه بالحديبية فنحروا الهدي وحلقوا رؤوسهم وحلوا من كل شيء قبل أن يطوفوا بالبيت وقبل أن يصل إليه الهدي ثم لم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أحدا من أصحابه ولا ممن كان معه أن يقضوا شيئا يعودوا لشيء
767 - مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه قال حين خرج إلى مكة معتمرا في الفتنة إن صددت عن البيت صنعنا كما صنعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بعمرة من أجل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بعمرة عام الحديبية
ثم إن عبد الله نظر في أمره فقال ما أمرهما إلا واحد ثم التفت إلى أصحابه
169

فقال ما أمرهما إلا واحد أشهدكم إني قد أوجبت الحج والعمرة
ثم نفذ حتى جاء البيت فطاف طوافا واحدا ورأى ذلك مجزيا عنه وأهدى
قال مالك فهذا الأمر عندنا فيمن أحصر بعدو كما أحصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأما من أحصر بغير عدو فإنه لا يحل دون البيت
قال أبو عمر الإحصار عند أهل العلم منها المحصر بعدو وبالسلطان الجائر ومنها بالمرض
وأصل الأسر في اللغة الحبس والمنع
قال الخليل وغيره حصرت الرجل حصرا منعته وحبسته قال وأحصر الرجل عن بلوغ مكة والمناسك من مرض أو نحوه
هكذا قالوا جعلوا الأول ثلاثيا من حصرت والثاني رباعيا من أحصرت في المرض
وعلى هذا خرج قول بن عباس لا حصر إلا حصر العدو ولم يقل لا إحصار إلا إحصار العدو
وقال جماعة من أهل اللغة يقال أحصر من عدو ومن المرض جميعا وقالوا حصر وأحصر بمعنى واحد في المرض والعدو ومعنى أحصر حبس
واحتج من قال هذا من الفقهاء بقول الله (عز وجل) * (فإن أحصرتم) * [البقرة 196] وإنما نزلت هذه الآية في الحديبية وكان حبسهم ومنعهم يومئذ بالعدو
قال أبو عمر إما قول مالك فيمن أحصر بعدو أنه يحل من إحرامه ولا هدي عليه ولا قضاء إلا أنه إن كان ساق هديا نحره فقد وافقه الشافعي على أنه في الموضع الذي حيل فيه بينه وبين الوصول إلى البيت وأنه لا قضاء عليه إلا أن يكون صرورة فلا يسقط ذلك عنه فرض الحج
وخالفه في وجوب الهدي عليه فقال الشافعي عليه الهدي ينحره في المكان الذي حبس فيه ويحل وينصرف
وهو قول مالك في المحصر بعدو أنه ينحر هديه حيث حصر في الحرم وغيره إلا أنه إن لم يسق هديا لم يوجب عليه هديا
وعند الشافعي لا بد له من الهدي فإذا نحره في موضعه حل
وهو قول أشهب
170

واتفق مالك والشافعي أن المحصر بعدو ينحر هديه حيث حبس وصد ومنع في الحل كان أو في الحرم
وخالفهما أبو حنيفة وأهل الكوفة وسنذكره بعد
واختلف في نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية هل كان في الحل أو الحرم
فكان عطاء يقول لم ينحر رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه يوم الحديبية إلا في الحرم
وهو قول بن إسحاق
وقال غيره من أصحاب المغازي وغيرهم لم ينحر رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه يوم الحديبية إلا في الحل
وهو قول الشافعي واحتج بقول الله (عز وجل) * (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله) * [الفتح 25]
وذكر يعقوب بن سفيان الفسوي قال بن أبي أويس عن مجمع بن يعقوب عن أبيه قال لما حبس رسول الله وأصحابه نحروا بالحديبية وحلقوا فبعث الله تعالى ريحا عاصفا فحملت شعورهم فألقتها في الحرم
وهذا يبين أنهم حلقوا بالحل
قال أبو عمر قوله (عز وجل) في يوم الحديبية * (ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله) * [البقرة 196] يعني حتى تنحروا ومحله هذا نحره
وأما قوله في البدن * (ثم محلها إلى البيت العتيق) * [الحج 33] فهذا لمن لم يمنع من دخول مكة ومكة كلها ومنى مسجد لمن قدر على الوصول إليها وليس البيت بموضع النحر
وقال أبو حنيفة على المحصر [أن] يقدم الهدي ولا يجوز له أن ينحره إلا في الحرم
وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري وأكثر أهل العراق الإحصار بالمرض والإحصار بعدو سواء وتبيين مذهبهم في ذلك في الباب بعد هذا إن شاء الله
وقال مالك والشافعي لا حصر إلا حصر العدو
وهو قول بن عباس
يريدون أن حصر العدو لا يشبهه حصر المرض ولا غيره لأنه من حصر بالعدو
171

خاصة يحل في موضعه على ما وصفنا دون الوصول إلى البيت والمحصر بمرض لا يحله إلا الطواف والسعي بين الصفا والمروة
ولا قضاء عند مالك والشافعي على المحصر بعدو إذا فاته ما دخل فيه بخلاف من فاته الحج وبخلاف المريض إلا أن يكون صرورة ولم يحج حجة الإسلام فإن كان كذلك لم يجزه ذلك من حجة الإسلام
وجملة قول أبي حنيفة في المحصر بعدو أو مرض أنهما عنده سواء ينحر كل واحد منهما هدية في الحرم ويحل يوم النحر إن شاء وعليه حجة وعمرة
وهو قول الطبري
وقال أبو يوسف ومحمد ليس ذلك له ولا يتحلل دون يوم النحر
وهو قول الثوري والحسن بن صالح
واختلفوا فيمن حصره العدو بمكة فقال مالك يتحلل بعمل عمرة كما لو حصره العدو في الحل إلا أن يكون مكيا فيخرج إلى الحل ثم يتحلل بعمرة
وقد قال مالك أهل مكة في ذلك كأهل الآفاق
قال الشافعي الإحصار بعدو بمكة وغيرها سواء ينحر هديه ويحل مكانه
وقال أبو حنيفة إذا أتى مكة محرما بالحج فلا يكون محصرا
وقال مالك من وقف بعرفة فليس بمحصر ويقيم على إحرامه حتى يطوف بالبيت ويهدي
وهو قول أبي حنيفة
وقال الشافعي يكون محصرا
وهو قول الحسن بن حي
وللشافعي فيها قول آخر كقول مالك سواء
وأما حديث بن عمر في هذا الباب ففيه من الفقه معان كثيرة منها
إباحة الإهلال والدخول في الإحرام على أنه إن سلم نفذ وإن منعه مانع صنع ما يجب له في ذلك وسنذكر مسألة الاشتراط في الحج عند الإحرام به في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله
وفيه ركوب الطريق في الخوف وهذا إذا كان الأغلب فيه سلامة المهجة لأن بن عمر لم يخف في الفتنة إلا منع الوصول إلى البيت خاصة دون القتل لأنهم لم يكونوا في فتنتهم يقتلون من لا يقاتلهم
172

وأما قوله ما أمرهما إلا واحد أشهدكم أني قد أوجبت الحج مع العمرة وقد كان أحرم بعمرة ففيه جواز إدخال الحج على العمرة وقد مضى القول في ذلك في موضعه من هذا الكتاب
وقد ذكرنا هناك ما للعلماء في إدخال الحج على العمرة وإدخال العمرة على الحج وفي إدخال الحج على الحج وفي إدخال العمرة على العمرة وجمهور العلماء مجمعون على أنه إذا أدخل الحج على العمرة في أشهر الحج قبل الطواف بالبيت أنه جائز ويكون قارنا ويلزمه ما يلزم من أهل بهما معا
وقالت طائفة من أصحاب مالك له أن يدخل الحج على العمرة وإن أكمل الطواف بالبيت ما لم يسع بين الصفا والمروة
وقال بعضهم له أن يدخل الحج على العمرة وأن يسعى بعد الطواف ما لم يركع ركعتي الطواف
وهذا شذوذ لا نظر فيه ولا سلف له
وقال أشهب متى طاف لعمرته شوطا واحدا لم يكن له إدخال الحج عليها
وهذا هو الصواب إن شاء الله
واختلف الفقهاء أيضا فيمن أدخل الحج على العمرة بعد أن أخذ في الطواف
فقال مالك من أدخل الحج على العمرة بعد أن يفتتح الطواف لزمه وصار قارنا
وروي ذلك عن أبي حنيفة والمشهور عنه أن ذلك لا يجوز إلا قبل الأخذ بالطواف
وقال الشافعي لا يكون قارنا
وذكر أن ذلك قول عطاء
وبه قال أبو ثور وأحمد وإسحاق
وأما قوله في حديث بن عمر ثم نفذ حتى جاء البيت فطاف به طوافا واحدا ورأى أن ذلك مجزيا عنه وأهدى ففيه حجة لمالك في قوله إن طواف الدخول إذا وصل بالسعي يجزئ عن طواف الإفاضة لمن تركه جاهلا أو لسنة ولم يؤده حتى رجع إلى بلده وعليه الهدي ولا أعلم أحدا قاله غير مالك ومن اتبعه من أصحابه والله أعلم
على أن تحصيل مذهبه عند أكثر أصحابه انه لا يجزئ عن طواف الإفاضة إلا ما كان من الوقوف بعرفة قبل الجمرة أو بعدها
173

وهو قول إسماعيل ومن بعده من البغداديين من المالكيين
وقال أبو الفرج هو الذي لا يجوز غيره وأنكر رواية المصريين عن مالك
وجمهور العلماء على أن طواف القدوم لا يجزئ عن طواف الإفاضة لأن طواف قبل عرفة ساقط عن المكي وعن المراهق
وهم مجمعون على أن طواف الإفاضة الذي يجزئ عن طواف القدوم إذا وصل بالسعي بين الصفا والمروة للناسي والجاهل إذا رجع إلى بلده وعليه دم فإن كان مراهقا أو مكيا فلا دم عليه ولا شيء وهذا ما لا خلاف فيه عن مالك وغيره
وهذا يدلك من قول مالك ومن قول الجمهور على أن الطواف المفترض في الحج طواف واحد لا غير وما سواه سنة إلا أن حكم طواف الإفاضة وسنته أن يكون يوم النحر مما بعده إلى آخر أيام التشريق
وفيما ذكرنا أيضا عن بن عمر حجة لمالك والشافعي وأكثر أهل الحجاز في أن القارن يجزئه طواف واحد لحجة وعمرته
وسنذكر اختلاف العلماء في ذلك عند ذكر حديث عائشة وقولها فيه وأما الذين أهلوا بالحج أو جمعوا الحج مع العمرة فإنما طافوا طوافا واحدا في موضعه من هذا الكتاب
وقال القعنبي في حديث بن عمر في هذا الباب ورأى أن ذلك مجزيا عنه وأهدى شاة ولم يقله في الموطأ يحيى ولا بن القاسم ولا أبو المصعب
واختلف الفقهاء فيما على القارن من الهدي أو الصيام فروي عن بن عمر أن القارن أو المتمتع على كل واحد منهما هدي بدنة أو بقرة وكان يقول * (فما استيسر من الهدي) * [البقرة 196] بدنة أو بقرة يريد بدنه دون بدنه أو بقرة من بقره وهذا من مذهبه مشهور معلوم محفوظ وهو يرد رواية القعنبي في حديث بن عمر هذا ويشهد بأنه وهم في قوله وأهدى شاة
إلا أن جمهور العلماء قالوا في معنى قول الله (عز وجل) * (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي) * [البقرة 196] قالوا شاة
روي ذلك عن عمر وعلي وبن عباس وغيرهم وعليه جماعة أهل الفتوى بالأمصار
وكان مالك يقول في القارن إن لم يجد الهدي صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع هو والمتمتع في ذلك سواء
174

وقال الشافعي يجزئ القارن في ذلك شاة قياسا على المتمتع قال وهو أخف شأنا من المتمتع
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد يجزئه شاة والبقرة أفضل ولا يجزئه عندهم إلا الدم عن المعسر وغيره في ذلك عندهم سواء قياسا على من جاوز الميقات غير محرم وهو يريد الحج أو رمي الجمار حتى مضت أيامها أن عليه دما ولا يجزئه منه صيام
قال أبو عمر قياس القارن على المتمتع أولى وأقرب وأصوب من قياسه على من جاوز الميقات أو ترك رمي الجمار لأن المعنى الموجب للدم على المتمتع هو موجود في القارن وهو سقوط السعي عنه لحجه أو لعمرته من بلده
واحتج من أوجب القضاء على المحصر بعدو بما أخبرنا به عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا النفيلي قال حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن ميمون قال سمعت أبا حاضر الحميري يحدث أبي ميمون بن مهران قال خرجت معتمرا عام حاصر بن الزبير أهل الشام بمكة وبعث معي رجالا من قومي بهدي فلما انتهيت إلى أهل الشام منعوني أن أدخل الحرم فنحرت الهدي مكاني ثم حللت ثم رجعت فلما كان من العام المقبل خرجت لأقضي عمرتي فأتيت بن عباس فسألته فقال أبدل الهدي فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يبدلوا الهدي الذي نحروا عام الحديبية في عمرة القضاء
قوله خرجت العام المقبل لأقضي عمرتي ليس فيه قول غير قوله والخبر عن نفسه لا عن بن عباس وليس في قوله حجة وبن عباس إنما قال له أبدل الهدي
وذلك حجة للشافعي وأشهب في إيجابهما الهدي على المحصر دون القضاء
واحتج أيضا من قال بإيجاب القضاء على المحصر بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا في العام المقبل من عام الحديبية قضاء لتلك العمرة قالوا ولذلك قيل لها عمرة القضاء
واستدلوا بحديث الحجاج بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من كسر أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى وعمرة
175

قالوا وكذلك كل ممنوع محبوس ممنوع من الوصول إلى البيت بعدو أو بغير عدو يحل وعليه حجة أخرى إن كان حاجا أو عمرة إن كان معتمرا
ومن زعم أن المحصر بعدو ينحر هديه ويحلق رأسه قد حل بفعله ذلك من كل شيء ولا شيء عليه احتج بان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل لواحد منهم في العام المقبل إن هذه العمرة لي ولكم قضاء عن العمرة التي صددنا عنها وحصرنا
ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضى عام الحديبية قريشا على أن يحج في العام المقبل
وقولهم عمرة القضاء وعمرة القضية سواء إن شاء الله وبالله التوفيق لا شريك له
ولا أعلم خلافا فيمن حصره العدو أنه إذا غلب عليه رجاؤه في الوصول إلى البيت وأدرك الحج أنه يقيم على إحرامه حتى ييأس فإذا يئس حل عند مالك والشافعي وأبي ثور وإن كان معه هدي نحر وقصر ورجع ولا قضاء عليه إلا أن يكون صرورة
وخالفهم العراقيون فأوجبوا عليه القضاء
وهو قول مجاهد وعكرمة وإبراهيم والشعبي
((32 - باب ما جاء فيمن أحصر بغير عدو))
768 - مالك عن بن شهاب عن سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر أنه قال المحصر بمرض لا يحل حتى يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة فإذا اضطر إلى لبس شيء من الثياب التي لا بد له منها أو الدواء صنع ذلك وافتدى
769 - وعن يحيى بن سعيد أنه بلغه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها كانت تقول المحرم لا يحله إلا البيت
176

770 - وعن أيوب بن أبي تميمة السختياني عن رجل من أهل البصرة كان قديما أنه قال خرجت إلى مكة حتى إذا كنت ببعض الطريق كسرت فخذي فأرسلت إلى مكة وبها عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر والناس فلم يرخص لي أحد أن أحل فأقمت على ذلك الماء سبعة أشهر حتى أحللت بعمرة
قال أبو عمر هذا الرجل الذي ذكر مالك في حديثه أنه من أهل البصرة هو أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي شيخ أيوب السختياني ومعلمه
روى حماد بن زيد هذا الحديث عن أيوب عن أبي قلابة قال خرجت معتمرا حتى إذا كنت ببعض المياه وقعت على رجلي فكسرت فأرسلت إلى بن عمر وبن عباس فسئلا فقالا العمرة ليس لها وقت كوقت الحج يكون على إحرامه حتى يصل إلى البيت قال فبقيت على ذلك الماء ستة أشهر أو سبعة محرما حتى وصلت إلى البيت
771 - مالك عن بن شهاب عن سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر أنه قال من حبس دون البيت بمرض فإنه لا يحل حتى يطوف بالبيت وبين الصفا والمروة
مالك عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار أن سعيد بن حزابة المخزومي صرع ببعض طريق مكة وهو محرم فسأل من يلي على الماء الذي كان عليه فوجد عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم فذكرت لهم الذي عرض له فكلهم أمره أن يتداوى بما لا بد له منه ويفتدي فإذا صح اعتمر فحل من إحرامه ثم عليه حج قابل ويهدي ما استيسر من الهدي
قال مالك وعلى هذا الأمر عندنا فيمن أحصر بغير عدو وقد أمر عمر بن الخطاب أبا أيوب الأنصاري وهبار بن الأسود حين فاتهما الحج وأتيا يوم النحر أن يحلا بعمرة ثم
يرجعا حلالا ثم يحجان عاما قابلا ويهديان فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله
قال مالك وكل من حبس عن الحج بعد ما يحرم إما بمرض أو بغيره أو بخطأ من العدد أو خفي عليه الهلال فهو محصر عليه ما على المحصر
177

وسئل مالك عمن أهل من أهل مكة بالحج ثم أصابه كسر أو بطن متحرق أو امرأة تطلق قال من أصابه هذا منهم فهو محصر يكون عليه مثل ما على أهل الآفاق إذا هم أحصروا قال مالك في رجل قدم معتمرا في أشهر الحج حتى إذا قضى عمرته أهل بالحج من مكة ثم كسر أو أصابه أمر لا يقدر على أن يحضر مع الناس الموقف قال مالك أرى أن يقيم حتى إذا برأ خرج إلى الحل ثم يرجع إلى مكة فيطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ثم يحل ثم عليه حج قابل والهدي
قال مالك فيمن أهل بالحج من مكة ثم طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة ثم مرض فلم يستطع أن يحضر مع الناس الموقف
قال مالك إذا فاته الحج فإن استطاع خرج إلى الحل فدخل بعمرة فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة لأن الطواف الأول لم يكن نواه للعمرة فلذلك يعمل بهذا وعليه حج قابل والهدي فإن كان من غير أهل مكة فأصابه مرض حال بينه وبين الحج فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة حل بعمرة وطاف بالبيت طوافا آخر وسعى بين الصفا والمروة لأن طوافه الأول وسعيه إنما كان نواه للحج وعليه حج قابل والهدي
قال أبو عمر أما قول بن عمر في المحصر بمرض إنه لا يحله إلا الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة فهو الذي عليه جمهور أهل الحجاز
وهو قول بن عمر وبن عباس وعائشة
وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق
وما أعلم لابن عمر مخالفا من الصحابة في هذه المسألة إلا بن مسعود فإنه قال في المحصر بمرض إذا بعث بهدي وواعد صاحبه ثم يوم ينحره جاز له أن يحل وهو بموضعه قبل أن يصل إلى البيت
وقد روي مثل ذلك عن زيد بن ثابت [من] طريق منقطع لا يحتج به
وهو قول جمهور العلماء وهو قول عطاء
وبه قال أبو ثور في رواية عنه
وشذت طائفة قالت من أحصر بمرض أو كسر أو عرج فقد حل بالموضع الذي عرض له هذا فيه ولا هدي عليه وعليه القضاء
وممن قال بهذا أبو ثور وداود @ 179 @
وحجتهم حديث الحجاج بن عمرو الأنصاري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم [يقول] من كسر أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى
رواه الحجاج بن أبي عثمان الصواف قال حدثني يحيى بن أبي كثير قال حدثني عكرمة قال حدثني الحجاج بن عمرو فذكره
قال عكرمة حدثت به بن عباس وأبا هريرة فقالا صدق
هكذا رواه إسماعيل بن علية ويحيى بن سعيد القطان عن الحجاج بن أبي عثمان الصواف بإسناده المذكور
ورواه معمر بن راشد ومعاوية بن سلام عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن الحجاج بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم فأدخلوا بين عكرمة وبين الحجاج بن عمرو عبد الله بن رافع
وقد ذكرنا الأسانيد بذلك عنهم في التمهيد
وهذا يحتمل عند العلماء معنى قوله فقد حل أي فقد حل له أن يحل بما يحل به المحصر من النحر أو الذبح لا أنه قد حل بما نزل به من إحرامه
قالوا وإنما ذلك مثل قولهم قد حلت فلانة للرجال إذا انقضت عدتها يريدون بذلك حل للرجال أن يخطبوها ويتزوجوها بما تحل به الفروج في النكاح من الصداق وغيره
هذا تأويل من ذهب [مذهب] الكوفيين
وتأول من ذهب مذهب الحجازيين أي فقد حل إذا وصل إلى البيت حلا كاملا وحل له بنفس الكسر والعرج أن يفعل ما شاء من إلقاء التفث ويفتدي
وليس الصحيح أن يفعل ذلك وقد تقدم قول مالك في هذا الباب وتبين فيه مذهبه وهو مذهب الشافعي والحجازيين
وأما أهل العراق فنذكر نصوص أقوالهم ليوقف كذلك على مذاهبهم
قول سفيان الثوري إذا أحصر المحرم بالحج بعث بهدي فنحر عنه يوم النحر وإن نحر قبل ذلك لم يجزه
وجملة قول أبي حنيفة وأصحابه أنه إذا أحصر الرجل بعث به وواعد المبعوث معه يوما يذبحه فيه فإذا كان ذلك اليوم حلق عند أبي يوسف أو قصر وحل ورجع
178

فإن كان مهلا بحج قضى حجة وعمرة لأن إحرامه بالحج صار عمرة وإن كان قارنا قضى حجة وعمرتين وإن كان مهلا بعمرة قضى عمرة
وسواء عندهم المحصر بعدو أو بمرض
وذكر الجوزجاني قال قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد من أهل بحج فأحصر فعليه أن يبعث بثمن هدي فيشتري له بمكة فيذبح عنه يوم النحر ويحل وعليه حجة وعمرة وليس عليه تقصير في قول أبي حنيفة ومحمد لأن التقصير نسك وليس عليه من النسك شيء
وقال أبو يوسف يقصر فإن لم يفعل فلا شيء عليه
وقالوا إن فعل فالهدي فإن شاء أقام مكانه وإن شاء انصرف وإن كان مهلا بعمرة بعث فاشتري له الهدي وتواعدهم يوما فإذا كان ذلك اليوم حل وكان عليه عمرة مكانها
قالوا وإذا كان المحصر قارنا فإنه يبعث فيشترى له هديان فينحران عنه ويحل وعليه عمرتان وحجة فإن شاء قضى العمرتين متفرقتين والحجة بعد ذلك وإن شاء ضم العمرتين إلى الحجة
وهكذا عندهم المحصر بأي كان بعدو أحصر أو بمرض يذبح هديه في الحرم ويحل قبل يوم النحر إن ساق هديا وعليه حجة وعمرة
هذا قول أبي حنيفة وهو قول الطبري
وقال أبو يوسف ومحمد ليس له ذلك ولا يتحلل دون يوم النحر إن كان حاجا
وهو قول الثوري والحسن بن صالح
وروي مثل ذلك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة في المحصر بعمرة متى شاء وينحر هديه سواء بقي الإحصار إلى يوم النحر أو زال
وروى زفر عن أبي حنيفة أنه إن بقي الإحصار إلى يوم النحر جزى ذلك عنه وكان عليه قضاء حجة وعمرة وإن صح قبل فوت الحج لم يجزه وكان محرما بالحج على حاله
قال ولو صح في العمرة بعد أن بعث بالهدي نظر فإن قدر على إدراك الهدي قبل أن يذبح مضى حتى يقضي عمرته وإن لم يقدر حل إذا نحر عنه الهدي
قال أبو عمر أما قول الكوفيين ففيه ضعف وتناقض لأنهم لا يجيزون لمحصر
180

بعدو ولا بمرض أن يحل حتى ينحر هديه في الحرم وإن أجازوا للمحصر بمرض أن يبعث بهدي ويواعد حامله يوم ينحره فيه فيحلق ويحل فقد أجازوا له أن يحل على غير يقين من نحر الهدي وبلوغه وحملوه على الإحلال بالظنون والعلماء متفقون على أنه لا يجوز لمن لزمه شيء من فرائضه أن يخرج منه بالظن والدليل على أن ذلك ظن قولهم لو عطب ذلك الهدي أو ضل أو سرق فحل مرسله وأصاب النساء وصاد أنه يعود حراما وعليه جزاء ما صاد فأباحوا له فساد الحج بالجماع وألزموه ما يلزم من لم يحل من إحرامه
وهذا ما لا خفاء به من التناقض وضعف المذهب وإنما بنوا مذهبهم على قول بن مسعود ولم ينظروا في خلاف غيره له
وأما قول عائشة في هذا الباب المحرم لا يحله إلا البيت فمعناه المحرم يمرض لا يقدر أن يصل إلى البيت فإنه يبقى على حاله فإن احتاج إلى شيء يتداوى به وافتدى فإذا برأ أتى البيت فطاف به وسعى ولا يحل بشيء غير ذلك
وهو كقول بن عمر سواء ومثله قول بن عباس
والناس في حديث مالك عن أيوب وحديثه عن بن شهاب عن سالم عن بن عمر مثله أيضا
وأما حديثه عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار أن سعيد بن حزابة صرع بطريق مكة وهو محرم فسأل من يلي على الماء الذي كان به فوجد عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم فمعناه أيضا معنى ما تقدم سواء عن بن عمر وبن عباس وعائشة
وأما قوله فيه فإذا صح اعتمر فإنه أراد إذا صح أتى مكة فعمل عمرة هو الطواف والسعي
ثم عليه حج قابل ويهدي ما استيسر من الهدي
قال مالك وعلى هذا الأمر عندنا فيمن أحصر بغير عدو يريد أنه يقضي حجه إن كان حاجا أو عمرته إن كان معتمرا بخلاف من حصره العدو
وأما قول مالك وقد أمر عمر بن الخطاب أبا أيوب الأنصاري وهبار بن الأسود حين فاتهما الحج وأتيا أن يحلا بعمرة ثم يرجعا حلالا ثم يحجان عاما قابلا ويهديان إلى آخر قوله فإنه أرسل هذا حجة لمذهبه بأن المحصر لا يحله إلا البيت يطوف به ثم يسعى بين الصفا والمروة إذا كان محصرا حابس له عن إدراك الحج
181

وهو كالذي فاته الحج بغير مرض من خطأ عدد أو عذر يفعل ما يفعله الذي يفوته الحج وهو عمل العمرة وقد أمر عمر بن الخطاب أبا أيوب وهبار بذلك
ثم أبان مذهبه في ذلك بما لا مزيد فيه فقال كل من حبس عن الحج بعد ما يحرم إما بمرض أو بغيره أو بخطأ من العدد أو خفي عليه الهلال فهو محصر عليه ما على المحصر
ولا خلاف عن مالك أن المحصر بمرض ومن فاته الحج حكمهما سواء كلاهما يتحلل بعمرة وعليه دم لا يذبحه إلا بمكة أو منى
وهو قول أبي حنيفة ينحره حيث حبس في حل كان أو حرم
وقال بعض أصحابه إنما ينحره في الحل إذا قدر على الحرم
والمعروف عن الشافعي أنه [قال] في المحصر ينحر هديه حيث أحصر لأنه خارج من قول الله (عز وجل) * (ثم محلها إلى البيت العتيق) * [الحج 33] بدليل نحر النبي صلى الله عليه وسلم هديه يوم الحديبية في الحل وقول الله (عز وجل) * (والهدي معكوفا أن يبلغ محله) * [الفتح 25] فدل ذلك أن البلوغ على من قدر لا على من أحصر
وعند مالك والشافعي وأبي ثور في المكي والغريب يحصر بمكة أنه يحل بالطواف والسعي
قال مالك إذا بقي المكي محصورا حتى فرغ الناس من حجهم فإنه يخرج إلى الحل فيلبي ويفعل ما يفعل المعتمر ويحل فإذا كان قابل حج وأهدى
وهو قول أبي حنيفة في الذي يفوته الحج أنه يتحلل بعمرة ولا هدي عليه وعليه الحج قابلا فقط
وقال أحمد بن حنبل يحل بعمرة مجرد لها الطواف
وقال بن شهاب الزهري فيمن أحصر في مكة من أهلها لا بد له من أن يقف بعرفة
وقال أبو بكر محمد بن أحمد بن عبد الله بن بكير المالكي في قول مالك في المحصر المكي أن عليه ما على أهل الآفاق من إعادة الحج والهدي هذا خلاف ظاهر الكتاب لقول الله (عز وجل) * (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) * [البقرة 196]
قال والقول في هذا عندي قول الزهري في أن الإباحة من الله (عز وجل) لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام أن يقيم لبعد المسافة يتعالج وإن فاته الحج
182

فأما من كان بينه وبين المسجد الحرام ما لا تقصر في مثله الصلاة فإنه يحضر المشاهد لقرب المسافة
قال وقد عارض مالك الزهري بمعارضة غير صحيحة فقال أرأيت إن كانت امرأة تطلق أو بطن متحرق قال وهذا لا تقع عليه الإباحة لأن الإباحة لا تقع إلا لمن في طاقته فعل الشيء الذي أبيح له أن يفعله فأما من ليس في طاقته فعل ذلك الشيء فإنه لا تقع الإباحة لمثله
والقول في هذه الآية قول عروة والزهري
قال عروة في الرجل إذا أحصر بكسر أو لدغ فامتنع من المصير حتى يفوت وقت الحج أنه إن شاء بعث بهدي فيحل له حلق رأسه ولبس ثيابه وما كان في معناهما ويبقى محرما من النساء حتى يصل إلى الكعبة متى وصل ويطوف ويسعى ويحل ويكون عليه حج قابل والهدي
قال فعلى قول عروة الهدي الأول غير الثاني لأن الأول يتحلل به في حلاق الشعر وإلقاء التفث والهدي الثاني قوله تعالى * (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي) * [البقرة 196]
قال والمعنى إن أحصرتم فأردتم أن تحلقوا رؤوسكم قبل أن يبلغ الهدي محله فعليكم ما استيسر من الهدي
* (فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي) * [البقرة 196] فهذا هدي ثان لأن الهدي الأول للمتمتع بالحلاق وما كان مثله
قال وقال مالك الهدي الأول هو الثاني ثم احتج بذلك فطال
قال أبو عمر ظاهر الكتاب يشهد لما قاله مالك ومن تابعه بأنه هدي واحد على المحصر
قال الله تعالى * (وأتموا الحج والعمرة لله) * [البقرة 196] فأجمع العلماء على أن تمام الحج الوقوف بعرفة والطواف بالبيت طواف الإفاضة وفي العمرة الدخول من الحل إلى البيت للطواف به والسعي بين الصفا والمروة ولا يحل ولا يتم حجه ولا عمرته إلا بما وصفنا وإن كانوا قد اختلفوا في هذه الآية في معان قد ذكرناها والحمد لله
قال وإن أحصر متمتع من الوصول في الحج إلى عرفة في الفترة من الوصول إلى الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة فعلى من منع من الوصول إلى ما
183

وصفنا في الحج وما ذكرنا في العمرة بمرض أو غير مرض من كل ما يمنعه من ذلك وعند الكوفيين وعند الحجازيين من كل مانع غير العدو أن يبقى على حاله فيصل إلى البيت فيحل بعمل عمرة ويهدي كالذي يفوته الحج سواء فإن احتاج إلى لبس ثياب أو حلق شعر فتلك فدية الهدي
وقد أجمعوا أن الفدية ما جاءت به السنة في كعب بن عجرة من التخيير في الصيام أو الصدقة أو النسك
والنسك ها هنا لمن ليس يهدي وما قاله مالك أولى من قول الزهري والله أعلم فليس ها هنا أمر يهدي فيما قاله مالك لمن شاء أن لا ينسك بشاة وإنما هو صيام وصدقة فإن شاء أن ينسك بشاة كان له ذلك وليس هذا حل من لزمه الهدي عند جماعة الفقهاء
أخبرنا عبد الله بن محمد بن يوسف قال حدثني عبد الله بن محمد بن علي قال وحدثنا بن أبي تمام قال حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال حدثني أنس بن عياض عن موسى بن عقبة عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول لا يحل محرم بحج ولا عمرة حبسه بلاء حتى يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة إلا من حبسه عدو فإنه يحل حيث حبس
قال أبو عمر هذا معنى قول بن عباس لا حصر إلا ما أحصر العدو أي لا يحل لمحصر أن يحل دون البيت إلا من أحصره العدو
((33 - باب ما جاء في بناء الكعبة))
772 - مالك عن بن شهاب عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر الصديق أخبر عبد الله بن عمر عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ألم تري أن قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم قالت فقلت يا
184

رسول الله أفلا تردها على قواعد إبراهيم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت قال فقال عبد الله بن عمر لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم
773 - مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن عائشة أم المؤمنين قالت لا أبالي أصليت في الحجر أم في البيت
774 - مالك أنه سمع بن شهاب يقول سمعت بعض علمائنا يقول ما حجر الحجر فطاف الناس من ورائه إلا إرادة أن يستوعب الناس الطواف بالبيت كله
قال أبو عمر أما حديث عائشة المسند في أول هذا الباب ففيه وجوب معرفة بناء قريش للكعبة وأن بنيانهم لها لم يتم على قواعد إبراهيم
والقواعد أسس البيت واحدتها قاعدة عند أهل اللغة
قالوا والواحدة من النساء اللاتي قعدت عن الولادة قاعد بغير هاء والجمع فيهما جميعا قواعد
قال الله (عز وجل) * (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت) * [البقرة 127]
قال * (والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا) * [النور 60]
وقد ذكرنا بنيان إبراهيم وإسماعيل البيت ومن بناه أيضا قبلهما على حسب ما روي قبل ذلك
فقد قيل آدم أول من أمر ببنيانه
وقيل بل شيث بن آدم وقد ذكرنا هذا هناك
ونذكر ها هنا بنيان قريش له خاصة وهم القوم الذين ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله لعائشة ألم تري أن قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم
وفي هذا الحديث أيضا حديث الرجل مع أهله في باب العلم وغيره من أيام الناس وغير ذلك من معاني الفقه
185

وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستلم الركنين اللذين يليان الحجر وذلك والله أعلم لأنهما كسائر حيطان البيت التي لا تستلم لأنهما ليسا بركنين على حقيقة بناء إبراهيم (عليه السلام)
وأما بنيان قريش للبيت الحرام فلا خلاف في ذلك وقد اختلف في تاريخ بنائهم له
فذكر موسى بن عقبة عن بن شهاب قال كان بين الفجار وبناء الكعبة خمس عشرة سنة
وذكر بن وهب عن بن لهيعة عن بن الأسود محمد بن عبد الرحمن قال إن الله (عز وجل) بعث محمدا على رأس خمس عشرة سنة من بنيان الكعبة
وقال محمد بن جبير بن مطعم بني البيت بعد خمس وعشرين سنة بعد الفيل وقال بن إسحاق على رأس خمس وثلاثين سنة
وقد ذكرنا الآثار عن هؤلاء كلهم في التمهيد
وذكر عبد الرزاق عن بن جريج عن مجاهد قال كان البيت عريشا تقتحمه العنز حتى إذا كان قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس عشرة سنة بنته قريش
وعن معمر عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن أبي الطفيل قال كانت الكعبة في الجاهلية مبنية بالرضم ليس فيها مدد وكانت قدر ما تقتحمها العناق وكانت ثيابها توضع عليها تسدل سدلا وكان الركن الأسود موضوعا على سورها باديا وكانت ذات ركنين هيئة هذه الحلقة فأقبلت سفينة من الروم تريد الحبشة حتى إذا كانوا قريبا من جدة انكسرت السفينة فخرجت قريش ليأخذوا خشبها فوجدوا روميا عندها فأخذوا الخشب وقدموا بالرومي فقالت قريش نبني بهذا الخشب بيت ربنا فلما أرادوا هدمه إذا هم بحية على سور البيت مثل قطعة الجائز سوداء الظهر بيضاء البطن فجعلت كلما أتى أحد إلى البيت ليهدمه أو يأخذ من حجارته سعت إليه فاتحة فاها فاجتمعت قريش عند المقام فعجوا إلى الله تعالى فقالوا ربنا لم ترع أردنا تشريف بيتك وتزيينه فإن كنت ترضى بذلك وإلا فما بدا لك فافعل فسمعوا خواتا في السماء يعني صوتا ورجة فإذا هم
186

بطائر أعظم من النسر أسود الظهر أبيض البطن والرحلين فغرز مخالبه في قفا الحية فانطلق بها تجر ذنبها أعظم من كذا وكذا حتى انطلق بها نحو أجياد فهدمتها قريش وجعلوا يبنونها بالحجارة حجارة الوادي تحملها قريش على رقابها فرفعوها في السماء عشرين ذراعا فبينا النبي صلى الله عليه وسلم يحمل حجارة من أجياد وعليه نمرة ضاقت عليه النمرة فذهب يضع النمرة على عاتقه فترى عورته من صغر النمرة فنودي يا محمد خمر عورتك فلم ير عريانا بعد ذلك
وكان بين بنيان الكعبة وبين ما أنزل عليه خمس سنين وبين مخرجه من مكة وبنيانها خمس عشرة سنة
فلما جيش الحصين بن نمير فذكر حريقها في زمن بن الزبير فقال بن الزبير إن عائشة أخبرتني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لولا حداثة قومك بالكفر لهدمت الكعبة فإنهم تركوا منها سبعة أذرع في الحجر ضاقت بهم النفقة والخشب
قال بن خثيم فأخبرني بن أبي مليكة عن عائشة أنها سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت وقال النبي (عليه السلام) وجعلت له بابين شرقيا وغربيا يزحفون من هذا ويخرجون من هذا ففعل ذلك بن الزبير
وكانت قريش قد جعلت لها درجا يرقى عليها من يأتيها فجعلها بن الزبير لاصقة بالأرض
قال بن خثيم وأخبرني بن سابط أن زيدا أخبره أنه لما بناها بن الزبير كشفوا عن القواعد فإذا الحجر مثل الخلقة والحجارة مشتبكة بعضها ببعض إذا حركت بالعتلة تحرك الذي بالناحية الأخرى
قال بن سابط فأراني ذلك ليلا بعد العشاء في ليلة مقمرة فرأيتها أمثال الخلف متشبكة أطراف بعضها ببعض
قال معمر وأخبرني الزهري قال لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحلم أجمرت امرأة الكعبة فطارت شرارة من مجمرها في ثياب الكعبة فاحترقت فتشاورت قريش في هدمها وهابوا هدمها فقال لهم الوليد بن المغيرة ما تريدون بهذا الإصلاح أم الفساد فقالوا الإصلاح قال فإن الله تعالى لا يهلك المصلح قالوا فمن الذي يعلوها قال الوليد بن المغيرة أنا أعلوها فأهدمها فارتقى الوليد بن المغيرة على
187

ظهر البيت ومعه الفأس فقال اللهم إنا لا نريد إلا الإصلاح ثم هدم فلما رأته قريش قد هدم منها ولم يأتهم ما خافوا من العذاب هدموا معه حتى إذا بنوها فبلغوا موضع الركن اختصمت قريش في الركن أي القبائل تلي رفعه حتى كاد يشجر بينهم فقالوا تعالوا نحكم أول من يطلع علينا من هذه السكة فاصطلحوا على ذلك فاطلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام عليه وشاح نمرة فحكموه فأمر بالركن فوضع في ثوب ثم أمر سيد كل قبيلة فأعطاها ناحية من الثوب ثم ارتقى فرفع إليه الركن فكان
هو يضعه صلى الله عليه وسلم
وذكر بن جريج عن مجاهد معنى حديث أبي الطفيل المتقدم ذكره ومعنى حديث الزهري هذا وحديثهما أكمل وأتم
وفي هذا الباب حديث تفرد به إبراهيم بن طهمان عن مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد هممت أن أهدم الكعبة وأبنيها على قواعد إبراهيم وأجعل لها بابين وأسويها بالأرض فإنهم إنما رفعوها أن لا يدخلها إلا من أحبوا
وروينا أن هارون الرشيد ذكر لمالك بن أنس أنه يريد هدم ما بنى الحجاج من الكعبة وأن يرده إلى بنيان بن الزبير لما جاء في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وامتثله بن الزبير فقال له مالك ناشدتك الله يا أمير المؤمنين أن تجعل هذا البيت ملعبة للملوك لا يشاء أحد منهم إلا نقض البيت وبناه فتذهب هيبته من صدور الناس
قال أبو عمر في حديث مالك عن بن شهاب عن سالم في هذا الباب دليل على أن الحجر من البيت وإذا صح ذلك فواجب إدخاله في الطواف
وأجمع العلماء أن كل من طاف بالبيت لزمه أن يدخل الحجر في طوافه
واختلفوا فيمن لم يدخل الحجر في طوافه فالذي عليه جمهور أهل العلم أن ذلك لا يجزئ وأن فاعل ذلك في حكم من لم يطف الطواف كاملا وأن من لم يطف الطواف الواجب كاملا يرجع من طوافه حتى يطوفه وهو طواف الإفاضة وممن
قال ذلك الشافعي وأحمد وأبو ثور وداود
وهو قول بن عباس وعطاء
وكان بن عباس يقول الحجر من البيت * (وليطوفوا بالبيت العتيق) * [الحج 29]
ويقول طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجر
188

قال مالك والشافعي ومن وافقهما من لم يدخل الحجر في طوافه ولم يطف من ورائه شوطا أو شوطين أو أكثر ألغى ذلك وبنى على ما كان طاف طوافا كاملا قبل أن يسلك في الحجر ولا يعتد بما سلك في الحجر
وقال أبو حنيفة من سلك في الحجر ولم يطف من ورائه وذكر ذلك وهو بمكة أعاد الطواف فإن كان شوطا قضاه وإن كان أكثر قضى ما بقي عليه من ذلك فإن خرج من مكة وانصرف إلى الكوفة فعليه دم وحجة تام
وروي عن الحسن البصري نحو ذلك قال من فعل ذلك فعليه الإعادة فإن حل أهراق دما
وأما حديثه عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت ما أبالي أصليت في الحجر أم في البيت فليس فيه أكثر من أن الحجر من البيت وأن من صلى فيه كمن صلى في البيت وسنذكر اختلاف العلماء في الصلاة في البيت في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله
وقد اختلف العلماء في صلاة ركعتي الطواف في الحجر فأكثر العلماء على أن ذلك جائز لا بأس به
وهو مذهب عطاء
وبه قال الثوري وأبو حنيفة والشافعي
وروي ذلك عن بن عمر وبن الزبير وسعيد بن جبير وغيرهم
وكل هؤلاء يرى الصلاة في البيت جائزة نافلة وفريضة وإن كان منهم من يستحب أن تصلى الفريضة خارج البيت والنافلة أيضا
وقال مالك لا يصلي أحد صلاة واجبة في البيت ولا في الحجر
قال ومن ركع ركعتي الطواف الواجب في الحجر أعاد الطواف والسعي بين الصفا والمروة وإن لم يركعهما حتى بلغ بلده أهراق دما ولا إعادة عليه
وأما قول بن شهاب عن بعض علمائهم فإنما فيه الشهادة بأن الحجر من البيت وأنه من لم يطف به من ورائه لم يستكمل الطواف بالبيت ولا خلاف عليه بين العلماء أنه من لم يدخل الحجر في طوافه لا يجزيه ذلك الطواف ما دام بمكة لأنه لم يستوعب الطواف بالبيت
واختلفوا هل ينوب عنه الدم لمن رجع إلى بلاده أم لا بد له من الرجوع إليه على ما ذكرناه والحمد لله
189

((34 - باب الرمل في الطواف))
775 - مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله أنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر الأسود حتى انتهى إليه ثلاثة أطواف
قال مالك وذلك الأمر الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا
776 - مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يرمل من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود ثلاثة أطواف ويمشي أربعة أطواف
777 - مالك عن هشام بن عروة أن أباه كان إذا طاف بالبيت يسعى الأشواط الثلاثة يقول (اللهم لا إله إلا أنتا
* وأنت تحيي بعد ما أمتا) يخفض صوته بذلك
778 - مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه رأى عبد الله بن الزبير أحرم بعمرة من التنعيم
قال ثم رأيته يسعى حول البيت الأشواط الثلاثة
779 - مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا أحرم من مكة لم يطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة حتى يرجع من منى وكان لا يرمل إذا طاف حول البيت إذا أحرم من مكة
قال أبو عمر لا اعلم خلافا أن الرمل - وهو الحركة والزيادة في المشي - لا يكون إلا في ثلاثة أطواف من السبعة في طواف دخول مكة خاصة للقادم الحاج أو المعتمر
190

وفي هذا الحديث دليل على أن الطائف يبتدئ طوافه من الحجر وهذا ما لا خلاف فيه أيضا
وروى بن وهب عن يونس عن بن شهاب عن سالم عن أبيه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يقدم مكة يستلم الركن أول ما يطوف
قال أبو عمر إذا بدأ من الحجر مضى على يمينه وجعل البيت عن يساره وذلك أن الداخل من باب بني شيبة أو غيره أول ما يبتدئ به أن يأتي الحجر يقصده فيقبله إن استطاع أو يمسحه بيمينه ويقبلها بعد أن يضعها عليه فإن لم يقدر قام بحذائه فكبر ثم أخذ في طوافه ثم يمضي على يمينه كما وصفت لك على باب الكعبة إلى الركن الذي لا يستلم ثم الذي يليه مثله ثم الركن الثالث وهو اليماني الذي يستلم وهو يلي الأسود ثم إلى ركن الحجر الأسود
هذا حكم كل طواف واجب وغير واجب وهذه طوفة واحدة يفعل ذلك ثلاثة أطواف يرمل فيها ثم أربعة مثلها لا يرمل فيها إذا كان هذا كله في طواف الدخول
وهذا كله إجماع من العلماء أنه من فعل هكذا فقد فعل ما ينبغي فإن لم يطف كما وصفنا وجعل البيت عن يمينه ومضى من الركن الأسود على يساره فقد نكس طوافه ولم يجزه ذلك الطواف عندنا
واختلف الفقهاء فيمن طاف الطواف الواجب منكوسا
فقال مالك والشافعي وأصحابهما لا يجزئه الطواف منكوسا وعليه أن ينصرف من بلاده فيطوف لأنه كمن لم يطف
وهو قول الحميدي وأبي ثور
وقال أبو حنيفة وأصحابه يعيد الطواف ما دام بمكة فإذا بلغ الكوفة أو أبعد كان عليه دم ويحزئه
وكلهم يقول إذا كان بمكة أعاد وكذلك القول عند مالك والشافعي فيمن نسي شوطا واحدا من الطواف أنه لا يجزئه وعليه أن يرجع من بلاده على بقية إحرامه فيطوف
وقال أبو حنيفة إن بلغ بلده لم ينصرف وكان عليه دم
قال أبو عمر حجة من لم يجز الطواف منكوسا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استلم الركن في أول طوافه وأخذ عن يمينه وجعل البيت عن يساره وقال خذوا عني
191

مناسككم فمن خالف فعله فليس بطائف وفعله مردود عليه لقوله صلى الله عليه وسلم من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد
وحجة أبي حنيفة أنه طواف قد حصل بالبيت سبعا ولم يأت به على سنته فيجبر بالدم إذا رجع إلى بلده أو أبعد لأن سنن الحج تجبر بالدم
وأما الرمل فهو المشي خببا يشتد فيه دون الهرولة وهيئته أن يحرك الماشي منكبيه لشدة الحركة في مشيه هذا حكم الثلاثة الأشواط في الطواف بالبيت طواف دخول لا غيره وأما الأربعة الأشواط تتمة السبعة فحكمها المشي المعهود
هذا أمر مجتمع عليه أن الرمل لا يكون إلا في ثلاثة أطواف من طواف الدخول للحاج والمعتمر دون طواف الإفاضة وغيره
إلا أن العلماء اختلفوا في الرمل هل هو سنة من سنن الحج لا يجوز تركها أم ليس بسنة واجبة لأنه كان لعلة ذهبت وزالت فمن شاء فعليه اختيارا
فروي عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر
وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم والثوري وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه
أن الرمل سنة لكل قادم مكة حاجا أو معتمرا في الثلاثة الأطواف الأول وقال آخرون ليس الرمل بسنة ومن شاء فعله ومن شاء لم يفعله
روي ذلك عن جماعة من التابعين منهم عطاء وطاوس ومجاهد والحسن وسالم والقاسم وسعيد بن جبير
وهو الأشهر عن بن عباس
192

وقد روي عنه مثل قول عمر ومن تابعه
وحجة من لم ير الرمل سنة حديث أبي الطفيل عن بن عباس
روى فطر عن أبي الطفيل قال قلت لابن عباس زعم قومك أن رسول الله رمل بالبيت وقال ذلك سنة فقال صدقوا وكذبوا قلت ما صدقوا وما كذبوا قال صدقوا رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين طاف بالبيت وكذبوا ليس ذلك بسنة إن قريشا زمن الحديبية قالوا إن به وبأصحابه هزلا وقعدوا على قعيقعان ينظرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال لأصحابه أرملوا أروهم أن بكم قوة فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمل من الحجر الأسود إلى اليماني فإذا توارى عنهم مشى
قال أبو عمر قد روى بن المبارك عن عبيد الله بن أبي زياد عن أبي الطفيل عن بن عباس قال رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحجر إلى الحجر
وهذا معناه في حجة الوداع أو في عمرته لا عام الحديبية
وروى حماد بن سلمة عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن أبي الطفيل عن بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر من الجعرانة فرمل بالبيت ثلاثة ومشى أربعة
ففي هاتين الروايتين عن أبي الطفيل عن بن عباس أن رسول الله رمل الأشواط الثلاثة كلها
وهذا مع حديث جابر في حجة الوداع يرد قول من قال يمشي بين الركن اليماني والأسود
وقد اختلف عن بن عمر في ذلك
193

وجمهور العلماء على أن الرمل من الحجر إلى الحجر على ما في حديث جابر في الأشواط الثلاثة
وقد روى عطاء وطاوس وعكرمة عن بن عباس معنى حديث أبي الطفيل هذا وقد ذكرنا الأحاديث عنهم بذلك في التمهيد
واحتجوا أيضا بحديث الحجاج بن أرطأة عن أبي جعفر وعكرمة عن بن عباس قال لما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغ أهل مكة أن بأصحابه هزلا فلما قدم مكة قال لأصحابه شدوا مآزركم وأرملوا حتى يرى قومكم أن بكم قوة ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرمل
قال أبو عمر هذا ليس بشيء لأن الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رمل في حجته حجة الوداع من الحجر إلى الحجر ثلاثة أشواط ومشى أربعة من حديث مالك وغيره عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر
وقد ذكرنا جماعة رووه بإسناده كذلك في التمهيد
وهذا يدل على ضعف ما رواه الحجاج بن أرطأة من قوله ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرمل
وروى هشام عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر قال في الرمل لا تدع شيئا صنعناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ثبت عن عمر وبن مسعود وبن عمر أنهم كانوا يرملون في الطواف ثلاثا طواف القدوم فصار سنة معمولا بها لا يضرها من جهلها وأنكرها
وروى الشافعي قال حدثني أنس بن عياض عن موسى بن عقبة عن نافع عن بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعة يعني في حجته
قال أبو عمر هذا خير من حديث العلاء بن المسيب عن الحكم عن مجاهد عن بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل في العمرة ومشى في الحج وأصح وأثبت إن شاء الله
وروى مالك وأيوب وعبد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر بمعنى واحد أنه كان إذا قدم مكة رمل بالبيت وطاف بين الصفا والمروة إلى يوم النحر
194

قال أبو عمر على هذا جماعة العلماء بالحجاز والعراق من أئمة الفتوى وأتباعهم وهم الحجة على من شذ عنهم وقد مضى حديث جابر بما يغني عن الدلائل والتأويل
واختلف قول مالك وأصحابه فيمن ترك الرمل في الطواف بالبيت طواف الدخول أو ترك الهرولة في السعي بين الصفا والمروة ثم ذكر ذلك وهو قريب
فمرة قال مالك يعيد
ومرة قال لا يعيد
وبه قال بن القاسم
واختلف قوله أيضا هل عليه دم إن أبعده فقال مرة لا شيء عليه
ومرة قال عليه دم
وقال بن القاسم وهو خفيف ولا أرى فيه شيئا
وكذلك روى بن وهب عن مالك في موطئه أنه استخفه قال ولم ير فيه شيئا
وروى معن بن عيسى عن مالك أن عليه دما
وهو قول الحسن البصري وسفيان الثوري
وقال بن القاسم رجع عن ذلك مالك
وذكر بن حبيب عن مطرف وبن الماجشون وبن القاسم أن عليه في قليل ذلك وكثيره دما
واحتج بقول بن عباس من ترك من نسكه شيئا فعليه دم
قال أبو عمر الحجة لمن لم ير فيه شيئا واستخفه أنه شيء مختلف فيه لم تثبت به سنة وألزمه على البراءة حتى يصح ما يجب إثباته فيها
وقد روي عن بن عباس فيمن ترك الرمل أنه لا شيء عليه
وهو قول عطاء وبن جريج والشافعي وأبي حنيفة والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور
وأجمعوا أنه ليس على النساء رمل في طوافهن بالبيت ولا هرولة في سعيهن بين الصفا والمروة
وكذلك أجمعوا على أن لا رمل على من احرم بالحج من مكة من غير أهلها
195

وهم المتمتعون لأنهم قد رملوا في حين دخولهم حين طافوا للقدوم
واختلفوا في أهل مكة إذا حجوا هل عليهم رمل أم لا
فكان بن عمر لا يرى عليهم رملا إذا طافوا بالبيت
وقال بن وهب كان مالك يستحب لمن حج من مكة أن يرمل حول البيت
وقال الشافعي كل طواف قبل عرفة كل طواف يوصل بينه وبين السعي فإنه يرمل فيه وكذلك العمرة
قال أبو عمر قد دخل فيما ذكرنا في هذا الباب جميع معاني الآثار المرسومة من جنسه
وأما قول عروة في الطواف
(اللهم لا إله إلا أنتا
* وأنت تحيي بعد ما أمتا)
فإن الموزون من الكلام وما يكره كغير الموزون وأما قول عروة في الطواف
(اللهم لا إله إلا أنتا
* وأنت تحيي بعد ما أمتا)
فإن الموزون من الكلام وما يكره كغير الموزون وأما الشعر الذي يجري مجرى الذكر وكان شاعرا (رحمه الله) والشعر ديوان العرب وألسنتهم به رطبة
وقد كان الحسن يقول في مثل هذا
(يا فالق الإصباح أنت ربي
* وأنت مولاي وأنت حسبي)
(فأصلحن باليقين قلبي
* ونجني من كرب يوم الكرب)
وقد أوضحنا ما يجوز من الشعر ومن رفع العقيرة به وما يكره من الغناء وشبهه في كتاب الجامع من هذا الديوان عند ذكر رفع بلال عقيرته
(ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
* بواد وحولي إذخر وجليد))
1 (5 - باب الاستلام في الطواف))
780 - مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قضى طوافه بالبيت وركع الركعتين وأراد أن يخرج إلى الصفا والمروة استلم الركن الأسود قبل أن يخرج
قال أبو عمر وهو محفوظ من حديث جابر الحديث الطويل في الحج رواه جماعة عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بتمامه
196

وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت سبعا ثم رجع فاستلم الحجر ثم خرج من الباب إلى الصفا ويأتي ذكر الركعتين في الباب بعد هذا إن شاء الله
ذكر عبد الرزاق عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر أنه طاف بالبيت ثم صلى ركعتين عند المقام ثم عاد إلى الحجر فاستلمه ثم خرج إلى الصفا
وهو معمول به مستحب عند جماعة الفقهاء
781 - مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف كيف صنعت يا أبا محمد في استلام الركن فقال عبد الرحمن استلمت وتركت فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبت قال أبو عمر كان بن وضاح يقول في موطأ يحيى إنما الحديث كيف صنعت يا أبا محمد في استلام الركن الأسود وزعم أن يحيى سقط له من كتابه الأسود وأمر بن وضاح بإلحاق الأسود في كتاب يحيى
قال أبو عمر رواه عن مالك كما قال بن وضاح - الركن الأسود - بن القاسم وبن وهب والقعنبي وجماعة
وقد رواه أبو المصعب وغيره كما رواه يحيى لم يذكر الأسود
وكذلك رواه بن عيينة وغيره عن هشام بن عروة عن أبيه لم يذكروا الأسود كما روى يحيى
وهو أمر محتمل جائز في الوجهين جميعا
ورواه الثوري عن هشام عن أبيه فقال فيه كيف صنعت في استلامك الحجر
فقد روي عن هشام في ذلك مثل رواية الثوري
ذكره بن أبي عمر قال حدثني سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن كيف فعلت يا أبا محمد في استلام الحجر وكان استأذنه في العمرة فقال كيف صنعت حين طفت فقال استلمت وتركت قال أصبت
وقد ذكرنا في التمهيد الأحاديث في استلام الركنين دون غيرهما وأوضحنا ذلك كله بالأسانيد
197

ولا خلاف بين العلماء أن الركنين جميعا يستلمان الأسود واليماني وإنما الفرق بينهما أن الأسود يقبل واليماني لا يقبل
وقد روى عبد الله بن مسلم بن هرمز عن مجاهد عن بن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استلم الركن اليماني قبله ووضع خده عليه
وهذا غير معروف ولم يتابع عليه وإنما المعروف قبل يده وإنما يعرف تقبيل الحجر الأسود ووضع الوجه عليه وما أعرف أحدا من أهل الفتوى يقول بتقبيل غير الأسود
وقد ذكرت في التمهيد بإسناده أن عبد الرحمن بن عوف كان إذا أتى الركن فوجدهم يزدحمون عليه استقبله فكبر ودعا ثم طاف فإذا وجد خلوة استلمه
وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف - إذ قال استلمت وتركت فقال أصبت - دليل على أن الاستلام ليس بواجب وأنه حسن لا حرج على من تركه في بعض طوافه عامدا وإن غلبه بالزحام لم يضره ذلك
أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثني أحمد بن إبراهيم بن محمد بن جامع السكري قراءة عليه وأنا أسمع سنة أربع وأربعين وثلاثمائة قال حدثني علي بن عبد العزيز قال حدثني أبو نعيم الفضل بن دكين قال حدثني سفيان الثوري عن هشام بن عروة عن عبد الرحمن بن عوف قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف صنعت في استلام الحجر قلت استلمت وتركت قال أصبت
وقد روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف حجة الوداع حول البيت يستلم الركن بمحجن كراهية أن يصرف الناس عنه
وروى بن عيينة عن أبي يعفور عن رجل من خزاعة عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له يا أبا حفص إنك رجل قوي فلا تزاحم الناس على الركن فإنك تؤذي الضعيف ولكن إذا وجدت خلوة فاستلم ولا تكر وامض
وقال الشافعي أخبرنا سعيد بن سالم عن إبراهيم بن نافع قال طفت مع طاوس فلم يستلم شيئا من الأركان حتى فرغ من طوافه
198

قال أبو عمر الاستلام للرجال دون النساء عن عائشة وعطاء وغيرهما وعليه جماعة الفقهاء فإذا وجدت المرأة الحجر خاليا واليماني استلمت إن شاءت
وكانت عائشة (رضي الله عنها) تقول للنساء إذا وجدتن فرجة فاستلمن وإلا فكبرن وامضين
782 - مالك عن هشام بن عروة إن أباه كان إذا طاف بالبيت يستلم الأركان كلها وكان لا يدع اليماني إلا أن يغلب عليه
قال أبو عمر قد مضى في حديث مالك عن سعيد المقبري عن عبيد بن جريج عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يستلم من الأركان إلا اليمانيين ما فيه كفاية في استلام الأركان
وقد كان عبد الله بن الزبير ومعاوية يفعلان ما كان يفعله عروة من استلام الأركان كلها وقالا ليس من البيت شيء مهجور
وقال معاوية لابن عباس فقال له بن عباس * (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) * [الأحزاب 21]
وقد بان في بناء الكعبة معنى ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم استلام الركنين اللذين يليان الحجر
وقال الشافعي ليس قول من قال محتجا لاستلام الأركان كلها ليس من البيت شيء مهجور بصحيح لأنه ليس في ترك استلامهما هجر لهما ومن طاف من ورائهما لم يهجرهما والحيطان كلها من البيت لا يستلم منها غير الأركان وليس ذلك بهجر للبيت وحكم ذلك الركنين حكم سائر الحائط
أخبرنا أحمد بن محمد قال حدثنا أحمد بن الفضل بن العباس قال حدثني محمد بن جرير الطبري قال حدثني محمد بن المثنى وأبو معمر قالا حدثني أبو عامر قال حدثنا رباح بن أبي معروف عن يوسف بن ماهك قال كان بن عمر إذا مر بالركن اليماني والحجر الأسود استلمهما لا يدعهما فقلت يا أبا عبد الرحمن تمر بهذين الركنين فتستلمهما لا يدعهما قال إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمهما لا يدعهما قلنا له أتمر بهذين وتمر بهذين الركنين فلا تستلمهما قال إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر بهما فلا يستلمهما
قال الطبري واحتج من رأى الاستلام في الأركان كلها بما
199

حدثناه بن حميد قال حدثني يحيى بن وضاح قال حدثني الحسين بن واقد عن أبي الزبير عن جابر قال كنا نؤمر إذا طفنا أن نستلم الأركان كلها
قال أبو الزبير ورأيت عبد الله بن الزبير يفعله
قال أبو عمر قول أبي الزبير أنه رأى عبد الله بن الزبير يفعله وهو مكي يرى الجماعات من الصحابة وكبار التابعين يحجون فلو رآهم يفعلون ذلك لم يخص بذلك بن الزبير
وهذا يعضده حديث عبيد بن جريج أنه قال لعبد الله بن عمر رأيتك تفعل أربعا لم أر أحدا يفعلهن غيرك فذكر منهن أنه كان لا يستلم إلا الركنين فقط
قال أبو عمر هو مباح لمن فعله لا حرج عليه والسنة استلام الركنين الأسود واليماني
وعليه جماعة الفقهاء بالأمصار أهل الفتوى والحمد لله
وقد كان جماعة من السلف لا يستلمون الركن إلا في الوتر من الطواف منهم مجاهد وطاوس واستحبته طائفة من الفقهاء
قال الشافعي أحب الاستلام في كل وتر أكثر مما أحبه في كل شفع وإذا لم يكن الازدحام أحببت الاستلام في كل طواف
((36 - باب تقبيل الركن الأسود في الاستلام))
873 - مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن عمر بن الخطاب قال وهو يطوف بالبيت للركن الأسود إنما أنت حجر ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك ثم قبله
قال مالك سمعت بعض أهل العلم يستحب إذا رفع الذي يطوف بالبيت يده عن الركن اليماني أن يضعها على فيه
قال أبو عمر هذا الحديث مرسل لأن عروة لم يسمع من عمر وقد روي متصلا مسندا من وجوه منها ما رواه
200

بن وهب قال أخبرني عمرو بن الحارث ويونس بن يزيد عن بن شهاب عن سالم عن أبيه أنه حدثه قال قبل عمر بن الخطاب الحجر ثم قال والله لقد علمت أنك حجر ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك
قال عمرو بن الحارث وحدثني بمثلها زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر
قال أبو عمر زعم أبو بكر البزار أن هذا الحديث رواه عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم مسندا أربعة عشر رجلا
وقد ذكرنا بعض تلك الطرق في التمهيد
ولا يختلف العلماء أن تقبيل الحجر الأسود في الطواف من سنن الحج لمن قدر عليه ومن لم يقدر عليه وضع يده على فيه ثم وضعها عليه مستلما ورفعها إلى فيه فإن لم يقدر أيضا على ذلك كبر إذا قابله وحاذاه فإن لم يفعل فلا أعلم أحدا أوجب عليه دما ولا فدية
روى بن جريج عن محمد بن جعفر قال رأيت بن عباس قبل الركن ثم سجد عليه ثم قبله ثم سجد عليه ثم قبله ثم سجد عليه ثلاث مرات
وروى الشافعي قال حدثني سعيد عن سالم عن حنظلة بن أبي سفيان عن طاوس أنه كان لا يستلم الحجر إلا أن يراه خاليا وكان إذا استلمه قبله ثلاث مرات ثم سجد عليه على إثر كل تقبيلة
قال أبو عمر وروي في الحجر الأسود آثار عن السلف منها عن بن عباس وعبد الله بن عمر ووهب بن منبه وكعب الأحبار وغيرهم أن الحجر الأسود من الجنة وأنه كان أشد بياضا من الثلج حتى سوده لمس أهل الشرك وعبدة الأصنام له وأنه لولا مسه من أرجاس أهل الجاهلية وأنجاسها ما مسه ذو عاهة إلا برأ
وعن بن عباس وسلمان الفارسي أنه من حجارة الجنة وأنه يبعث يوم القيامة وله لسان وشفتان وعينان يشهد لمن استلمه بالوفاء والحق وهو يمين الله في الأرض وهو يصافح بها عبادة
وعن السدي قال هبط آدم بالهند وأنزل معه الحجر الأسود وأنزل معه قبضة من ورق الجنة فنثرها آدم بالهند فأنبتت شجر الطيب فأجل ما يؤتى به من الطيب الهندي من ذلك الورق وإنما قبض آدم القبضة أسفا على الجنة حيث أخرج منها
وروى بن وهب عن عمرو بن الحارث أن قتادة حدثه أن أنس بن مالك
201

حدثه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الحجر الأسود من حجارة الجنة وإني قد رضيت بما قسم
قال وحدثني يونس بن يزيد عن بن شهاب أنه سمع سعيد بن المسيب يقول الركن حجر من حجارة الجنة
أخبرنا عبد الوارث قال حدثني قاسم قال حدثني أبو إسماعيل الترمذي قال حدثني شاذ بن الفياض قال حدثني عمر بن إبراهيم العبدي البزار عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الحجر الأسود من حجارة الجنة
قال أبو عمر كل ما ذكرنا في الحجر الأسود قد جاء عن السلف على حسب ما وصفنا وهو الصواب عندنا وأولى [من قول] من شذ فقال إنه من حجارة الوادي وبالله التوفيق
قال الشافعي السجود على الحجر سجود لله تعالى وأنا أحب ما صنع بن عباس وطاوس
قال وأخبرنا سعيد بن سالم عن بن جريج قال قلت لعطاء هل رأيت أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استلموا قبلوا أيديهم قال نعم رأيت جابر بن عبد الله وبن عمر وأبا سعيد الخدري وأبا هريرة إذا استلموا قبلوا أيديهم
قلت وبن عباس قال نعم حسبت كثيرا قلت هل تدع أنت إذا استلمت أن تقبل يديك قال فلم أستلمه إذن
قال بن جريج قلت لعطاء تقبيل الركن الأسود قال حسن
قال أبو عمر إذا كان موجودا عن السلف في الركن الأسود فما ذكره مالك عن بعض أهل العلم في الركن اليماني لأن الركنين السنة فيهما استلامهما وتقبيل اليد وتقبيل الحجر الأسود خاصة لمن قدر عليه وبالله التوفيق
((37 - باب ركعتي الطواف))
784 - مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان لا يجمع بين السبعين لا يصلي بينهما ولكنه يصلي بعد كل سبع ركعتين فربما صلى عند المقام وعند غيره
202

وسئل مالك عن الطواف إن كان أخف على الرجل أن يتطوع به فيقرن بين الأسبوعين أو أكثر ثم يركع ما عليه من ركوع تلك السبوع قال لا ينبغي ذلك وإنما السنة أن يتبع كل سبع ركعتين
قال مالك في الرجل يدخل في الطواف فيسهو حتى يطوف ثمانية أو تسعة أطواف قال يقطع إذا علم أنه قد زاد ثم يصلي ركعتين ولا يعتد بالذي كان زاد ولا ينبغي له أن يبني على التسعة حتى يصلي سبعين جميعا لأن السنة في الطواف أن يتبع كل سبع ركعتين
قال مالك ومن شك في طوافه بعد ما يركع ركعتي الطواف فليعد فليتمم طوافه على اليقين ثم ليعد الركعتين لأنه لا صلاة لطواف إلا بعد إكمال السبع
ومن أصابه شيء بنقض وضوئه وهو يطوف بالبيت أو يسعى بين الصفا والمروة أو بين ذلك فإنه من أصابه ذلك وقد طاف بعض الطواف أو كله ولم يركع ركعتي الطواف فإنه يتوضأ ويستأنف الطواف والركعتين وأما السعي بين الصفا والمروة فإنه لا يقطع ذلك عليه ما أصابه من انتقاض وضوئه ولا يدخل السعي إلا وهو طاهر
بوضوء
قال أبو عمر أما فعل عروة (رحمه الله) أنه كان لا يجمع بين السبعين إلى آخر خبره المذكور في أول هذا الباب فالسنة المجتمع عليها في الاختيار أن يتبع كل سبوع ركعتين وعلى هذا جمهور العلماء
قال بن وهب عن مالك السنة التي لا اختلاف فيها ولا شك والذي اجتمع عليه المسلمون أن مع كل أسبوع ركعتين
وقال أشهب سئل مالك عمن طاف سبعين ثم ركع لهما فقال ما أحبه وما ذلك من عمل الناس
وكره الثوري أن يجمع بين سبوعين
وكرهه أيضا أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور وأحمد وإسحاق وأكثر أهل العلم
وقد كان بعض السلف يقرن بين الأسابيع منهم عائشة أم المؤمنين والمسور بن مخرمة ومجاهد
ذكر بن عيينة قال حدثني محمد بن السائب عن أبيه أن عائشة كانت تطوف ثلاثة أسابيع تفرق بينها وتركع لكل سبوع ركعتين
203

وذكر شعبة عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد أنه كان لا يرى بأسا أن يطوف الرجل ثلاثة أسابيع أو خمسة وما كان وترا ويصلي لكل أسبوع ركعتين ويجمعهن وكان يكره سبعين أو أربعا
وقال به أبو يوسف أيضا
وكان المسور بن مخرمة يفرق بين الأسبوعين
قال أبو عمر الحجة لمن كره ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت سبعا وصلى خلف المقام ركعتين وقال خذوا عني مناسككم فينبغي الاقتداء به والانتهاء إلى ما سنه صلى الله عليه وسلم
وعلة من أجاز ذلك أنها صلاة ليس لها وقت فيتعدى والطواف لا وقت له أيضا فحسبه أن يأتي من الطواف بما شاء ويركع لكل أسبوع ركعتين قياسا على من كانت عليه كفارتان في وقتين يجمعهما في وقت واحد
وأما كراهة مجاهد الجمع بين السبعين وإجازته ثلاثة أسابيع فإنما ذلك - والله أعلم - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف إلى الركعتين بعد وتر من طوافه ومن طاف أسبوعين لم ينصرف على وتر فلذلك أجاز أن يطوف ثلاثة أسابيع وخمسة وسبعة ولم يجز اثنين
قال أبو عمر ثبتت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما طاف بالبيت صلى عند المقام ركعتين وأجمعوا على قول ذلك
وأجمعوا أيضا على أن الطائف يصلي الركعتين حيث شاء من المسجد وحيث أمكنه وأنه إن لم يصل عند المقام أو خلف المقام فلا شيء عليه
واختلفوا فيمن نسي ركعتي الطواف حتى خرج من الحرم أو رجع إلى بلاده فقال مالك إن لم يركعهما حتى يرجع إلى بلده فعليه هدي
وقال الثوري يركعهما حيث شاء ما لم يخرج من الحرم
وقال الشافعي وأبو حنيفة يركعهما حيث ما ذكر من حل أو حرم
وحجة مالك في إيجاب الدم في ذلك قول بن عباس من نسي من نسكه شيئا فليهرق دما وركعتا الطواف من النسك
وحجة من أسقط الدم في ذلك أنها صلاة تقضى متى ذكرت لقوله صلى الله عليه وسلم من نام
204

عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها وليستا بأوكد من المكتوبة ولا مدخل للدم عندهم
وأما قول مالك في الرجل يدخل الطواف فيسهو حتى يطوف ثمانية أطواف أو تسعة فإنه يقطع ويركع ركعتين ولا يعتد بالذي زاد ولا يبني عليه فهذه مسألة اختلف الفقهاء فيها
فقول أبي حنيفة ومحمد في ذلك كقول مالك
وبه قال أبو ثور
وهو الأولى قياسا على صلاة النافلة فيهن يبني ويسلم في ركعتين فإذا قام إلى ثالثة وعمل فيها ثم ذكر رجع إلى الجلوس وتشهد وسلم وسجد
وقال الثوري إن بنى على الطواف والطوافين أسبوعا آخر فلا بأس ولا أحبه
واستحب الشافعي في ذلك ما قاله مالك ولم يخرج عنده سهو الساهي إذا بنى
وأما قوله من شك في طوافه بعد ما يركع ركعتي الطواف فليعد فليتم طوافه على اليقين ثم ليعد الركعتين لأنه لا صلاة لطواف إلا بعد إكمال السبع فقد احتج مالك للمسألة بما لا ريبة فيه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من شك أثلاثا صلى أم أربعا فليبن على يقين وليأت بركعة
ولا خلاف أن الركعتين لا تكونان إلا بعد السبعة الأطواف
وأما قوله من أصابه شيء ينقض وضوءه إلى آخر قوله فالسنة المجتمع
205

عليها أنه لا ينبغي أن يكون الطواف إلا على طهارة لقوله (عليه السلام) للحائض من نسائه اقض ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي
هذا هو الاختيار عندهم
واختلفوا فيمن طاف على غير طهارة فجملة قول مالك في ذلك [أنه قاسها] على من صلى على غير وضوء
وقال مالك لا يطاف إلا في ثوب طاهر وعلى طهارة فإن أحدث في الطواف توضأ واستقبل إذا كان الطواف واجبا عليه أو من سنن الحج وأما الطواف التطوع فإنه إن أراد تمامه استأنف الوضوء له
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف إن ذكر الذي طاف الطواف الواجب أو المسنون [أنه كان] على غير طهارة ذلك اليوم أو جنبا له الإعادة وعليه دم
وقال محمد ليس عليه إعادة الطواف وإن طاف كان حسنا والدم على كل حال لا يسقطه عنه إعادة الطواف
وقال الشافعي إذا طاف في ثوب نجس وإن كان حسنا فالدم عليه على كل حال
وقال أو على جسده شيء من نجاسة أو في نعله نجاسة لم يعتد بما طاف بتلك الحال كما لا يعتد بالصلاة في ذلك وكان في حكم من لم يطف
قال والطائف بالبيت في حكم المصلي في الطهارة خاصة
ولا يرى الشافعي في الطواف تطوعا على من قطعه عليه الحدث أو قطعه عامدا أعاده كالصلاة النافلة عنده ولا يحل عنده الطواف التطوع ولا صلاة التطوع إلا على طهارة
وقال أبو ثور إذا طاف على غير وضوء أو في ثوبه بول أو قذر أو دم كثيرا فأخشى وهو يعلم لم يجزه ذلك وإن كان لا يعلم أجزاه طوافه
206

وقال أحمد وإسحاق لا يجوز طواف إلا على طهارة
وقال إبراهيم النخعي وحماد بن أبي سليمان ومنصور بن المعتمر والأعمش يجزئ الطواف على غير طهارة
روى شعبة عن منصور وحماد والأعمش في الرجل يطوف بالبيت على غير طهارة لم يروا بذلك بأسا
قال الأعمش أحب إلي أن يطوف على طهارة
قال أبو عمر من أجاز الطواف على غير طهارة قاسه على إجماع العلماء في السعي بين الصفا والمروة أنه جائز على غير طهارة ومن لم يجزه إلا على طهارة احتج بما تقدم من قوله (عليه السلام) تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت وقوله وقول أصحابه الطواف بالبيت صلاة وهو مرتبط بالبيت بعده ولا خلاف بينهما أنها لا تجزي على [غير] طهارة
وأما قول مالك أنه لا يدخل السعي إلا بطواف فهذا اختيار منه لمن صح له طوافه على طهارة
((38 - باب الصلاة بعد الصبح والعصر في الطواف))
785 - مالك عن بن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أن عبد الرحمن بن عبد القاري أخبره أنه طاف بالبيت مع عمر بن الخطاب بعد صلاة الصبح فلما قضى عمر طوافه نظر فلم ير الشمس طلعت فركب حتى أناخ بذي طوى فصلى ركعتين
786 - مالك عن أبي الزبير المكي أنه قال رأيت عبد الله بن عباس يطوف بعد صلاة العصر ثم يدخل حجرته فلا أدري ما يصنع
قال أبو عمر روى هذا الخبر بن عيينة عن أبي الزبير بخلاف رواية مالك ذكره بن أبي عمر وغيره عن بن عيينة عن عمرو بن دينار قال رأيت بن عباس طاف بعد العصر فلا أدري أصلى أم لا فقال له أبو الزبير عمرو لم يره صلى قال لا قال أبو الزبير لكني رأيته صلى
207

287 - مالك عن أبي الزبير المكي أنه قال قد رأيت البيت يخلو بعد صلاة الصبح وبعد صلاة العصر ما يطوف به أحد
قال أبو عمر هذا خبر منكر يدفعه كل من رأى الطواف بعد الصبح والعصر ولا يرى الصلاة حتى تغرب الشمس
قال مالك ومن طاف بالبيت بعض أسبوعه ثم أقيمت صلاة الصبح أو صلاة العصر فإنه يصلي مع الإمام ثم يبني على ما طاف حتى يكمل سبعا ثم لا يصلي حتى تطلع الشمس أو تغرب
قال وإن أخرهما - يعني الركعتين - حتى يصلي المغرب فلا بأس بذلك
قال مالك ولا بأس أن يطوف الرجل طوافا واحدا بعد الصبح وبعد العصر لا يزيد على سبع واحد ويؤخر الركعتين حتى تطلع الشمس كما صنع عمر بن الخطاب ويؤخرهما بعد العصر حتى تغرب الشمس فإذا غربت الشمس صلاهما إن شاء وإن شاء أخرهما حتى يصلي المغرب لا بأس بذلك
قال أبو عمر قد قال في الموطأ عند جماعة من رواته أحب إلي يركعهما بعد صلاة العصر
قال أبو عمر للمسألة في هذا الباب ثلاثة أقوال
أحدها إجازة الطواف بعد الصبح وبعد العصر وتأخير الركعتين حتى تطلع الشمس أو تغرب وهو مذهب عمر بن الخطاب ومعاذ بن عفراء وجماعة وهو قول مالك وأصحابه روى بن عيينة عن بن أبي نجيح عن أبيه قال قدم علينا أبو سعيد الخدري فطاف بالبيت سبعا بعد الصبح فقلنا انظروا كيف يصنع فجلس حتى طلعت الشمس ثم قام فصلى ركعتين
والقول الثاني كراهة الطواف وكراهة الركوع له بعد الصبح وبعد العصر قاله سعيد بن جبير ومجاهد وجماعة
والثالث إباحة ذلك كله وجوازه بعد الصبح وبعد العصر وبه قال الشافعي وجماعة غيره
وكره الثوري وأبو حنيفة وأصحابه الطواف بعد الصبح وبعد العصر وقالوا فإن فعل فلا يركع حتى يحل [وقت] الصلاة النافلة بعد طلوع الشمس وبعد الغروب
208

وقال سعيد بن جبير ومجاهد لا يطوف بعد الصبح وبعد العصر
وقال عطاء يطوف ولا يصلي
وقد روي عنه يطوف ويصلي مثل قول الشافعي وهو الصحيح عنه
وروى شعبة عن سعد بن إبراهيم عن نصر بن عبد الرحمن عن جده معاذ القرشي أنه طاف بالبيت مع معاذ بن عفراء بعد العصر وبعد الصبح فلم يصل فسألت فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا صلاة بعد صلاة الغداة حتى تطلع الشمس ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس
وبمثل هذا احتج من كره الطواف بعد الصبح والعصر وزاد أن من سنة الطواف أن تصلى بعده ركعتان بلا فصل ولا تؤخر الركعتان بعد الفراغ من الطواف إلا عن عذر فإذا لم تكن الصلاة جائزة لم يكن الطواف جائزا إلا أن الطواف لا يتم إلا بالركعتين ومن سنتهما أن لا يفرق بينهما
ومن حجة الشافعي ومن قال بقوله حديث سفيان بن عيينة عن أبي الزبير عن عبد الله بن باباه عن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يا بني عبد مناف - أو يا بني عبد المطلب - إن وليتم من هذا الأمر شيئا فلا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أي ساعة شاء من ليل أو نهار
رواه الشافعي وغيره عن بن عيينة
قالوا فقد عم الأوقات كلها فليس لأحد أن يخص وقتا من الأوقات
وممن أجاز الطواف والصلاة بعد العصر والصبح عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير والحسن والحسين
وبه قال عطاء وطاوس والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير
روى بن عيينة عن عمرو بن دينار قال رأيت أنا وعطاء عبد الله بن عمر طاف بالبيت بعد الصبح وصلى
قال أبو عمر لا ينبغي لأحد أن يطوف ولا يركع عند طلوع الشمس ولا عند
209

غروبها لأن الآثار متفقة في ذلك صحاح لا تحتمل تأويلا وأما الآثار في الصلاة بعد الصبح وبعد العصر فقد عارضتها مثلها وتأويل العلماء فيها أن النهي إنما ورد دليلا يتطرق بذلك إلى الصلاة عند الطلوع والغروب وقد أوضحنا هذا المعنى في كتاب الصلاة فلم أر وجها لإعادته ها هنا
3 9 - باب وداع البيت
788 - مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب قال لا يصدرن أحد من الحاج حتى يطوف بالبيت فإن آخر النسك الطواف بالبيت
قال مالك في قول عمر بن الخطاب فإن آخر النسك الطواف بالبيت إن ذلك فيما نرى والله أعلم لقول الله تبارك وتعالى * (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) * [الحج 32] وقال * (ثم محلها إلى البيت العتيق) * [الحج 33] فمحل الشعائر كلها وانقضاؤها إلى البيت العتيق
789 - مالك عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب رد رجلا من مر الظهران لم يكن ودع البيت حتى ودع
790 - مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال من أفاض فقد قضى الله حجه فإنه إن لم يكن حبسه شيء فهو حقيق أن يكون آخر عهده الطواف بالبيت وإن حبسه شيء أو عرض له فقد قضى الله حجه
قال مالك ولو أن رجلا جهل أن يكون آخر عهده الطواف بالبيت حتى صدر لم أر عليه شيئا إلا أن يكون قريبا فيرجع فيطوف بالبيت ثم ينصرف إذا كان قد أفاض
قال أبو عمر وداع البيت لكل حاج أو معتمر لا يكون مكيا من شعائر الحج وسننه إلا أنه رخص للحائض إذا كانت قد أفاضت والإفاضة الطواف بالبيت بعد رمي جمرة العقبة وهو الذي يسميه أهل الحجاز طواف الإفاضة ويسميه أهل العراق طواف الزيارة فمن طاف ذلك الطواف من النساء ثم حاضت فلا جناح عليها أن تصدر عن البيت وتنهض راجعه إلى بلدها دون أن تودع البيت
210

وردت السنة بذلك في الحائض التي قد أفاضت وسيأتي ذلك في بابه من هذا الكتاب إن شاء الله (عز وجل) وسنذكر هناك من رخص للحائض في ذلك من العلماء اتباعا للسنة التي بلغته فيها ومن لم يرخص لها لما غاب عنه في ذلك
قال بن وهب قال لي مالك في قول عمر بن الخطاب آخر النسك الطواف بالبيت قال ذلك الأمر المعمول به الذي لا ينبغي لأحد تركه إلا من عذر وذلك لمن كان بمنى فمن أراد الصدر فأما من رجع إلى مكة بإفاضة فإن له سعة أن يخرج وإن لم يطف بالبيت إذا أفاض
قال أبو عمر هو قول عطاء ذكر بن جريج عن عطاء قال إذا أخرت طوافك إلى أن تجيء يوم الصدر أجزاك لزيارتك وصدرك - يعني الوداع
قال الثوري من نسي فخرج ولم يودع رجع إن ذكر في الحرم فطاف وإن كان قد خرج من الحرم لم يرجع ويمضي وأهراق دما
وهو قول أبي حنيفة وأصحابه
وأوصى سفيان الثوري عند موته أن يهراق عنه دم لأنه خرج مرة بغير وداع
واختلفوا فيمن طاف طواف الوداع ثم بدا له في شراء حوائج من السوق ونحو ذلك
فقال عطاء إذا لم يبق إلا الركوب والنهوض فحينئذ يودع وإنما هو عمل يختم به
وبه قال الشافعي والثوري وأحمد وأبو ثور
وقال الشافعي إذا اشترى في بعض جهازه وطعامه وحوائجه في السوق بعد الوداع
وقال أبو حنيفة وأصحابه أحب إلينا أن يكون طوافه حين يخرج فلو ودع البيت ثم أقام شهرا أو أكثر أجزاه ذلك ولم يكن عليه إعادة
قال أبو عمر هذا خلاف قول عمر (رضي الله عنه) فليكن آخر عهده الطواف بالبيت
واختلفوا في المعتمر الخارج إلى التنعيم هل يودع
فقال مالك والشافعي ليس عليه وداع
وقال الثوري إن لم يودع فعليه دم
قال أبو عمر قول مالك أقيس لأنه راجع في عمرته إلى البيت وليس بناهض إلى بلده
211

ويقولون إن بين مر الظهران وبين مكة ثمانية عشر ميلا وهذا بعيد عند مالك وأصحابه ولا يرون على أحد طواف الوداع من مثل هذا الموضع
وجملة قول مالك فيمن لم يطف للوداع أنه إذا كان قريبا رجع فطاف لوداع البيت وإن بعد فلا شيء عليه
وقال أبو حنيفة وأصحابه يرجع إلى طواف الوداع ما لم يبلغ المواقيت فإن بلغها ولم يرجع فعليه دم
وقالوا في أهل بستان بن عامر وأهل المواقيت إنهم بمنزلة أهل مكة في طواف الصدر
وقال سفيان الثوري والشافعي من لم يطف الوداع فعليه دم إن يغدو إن أمكنه الرجوع رجع
وهو قول الحسن البصري والحكم وحماد ومجاهد كلهم يقولون عليه دم
وثبت عن بن عباس أنه قال من نسي من نسكه شيئا فليهرق دما ولا خلاف أن طواف الوداع من النسك
والحجة لمالك أن طواف الوداع ساقط عن المكي وعن الحائض فليس من السنن اللازمة وألزمه بدنة فلا يجب فيها شيء إلا بيقين
((40 - باب جامع الطواف))
791 - مالك عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل عن عروة بن الزبير عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم إنها قالت شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي فقال طوفي من وراء الناس وأنت راكبة قالت فطفت راكبة بعيري ورسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ يصلي إلى جانب البيت وهو يقرأ بالطور وكتاب مسطور
قال أبو عمر قولها يصلي تريد صلاة الصبح بدليل ما ذكره البخاري عن محمد بن حرب عن يحيى بن أبي زكريا الغساني عن هشام بن عروة عن أبيه
212

عن زينب عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأم سلمة ولم تكن طافت بالبيت وأرادت الخروج إذا أقيمت صلاة الصبح فطوفي على بعيرك والناس يصلون ففعلت ذلك ولم تصل حتى خرجت قال أبو عمر اختلف العلماء فيمن طاف بالبيت راكبا ومحمولا
فقال مالك إن كان من عذر أجزاهما وإن كان من غير عذر أعادا جميعا
وإن رجع المحمول إلى بلده كان عليه أن يهدي دما
قال ولو طاف بصبي وسعى بين الصفا والمروة أجزاه عن نفسه وعن الصبي إذا نوى ذلك
وهو قول الليث في الطواف والسعي عنده بمنزلة الطواف
وقال مالك في المريض يطاف به محمولا ثم يفيق أحب إلي أن يعيد ذلك الطواف
وذكر بن القاسم عنه قال يطوف لنفسه من أراد أن يطوف بالصبي ثم يطوف بالصبي ولا يركع عنه ولا شيء على الصبي في ركعتيه
قال ومن طاف بالبيت محمولا من غير عذر قال بن القاسم أرى أن يعيد فإن رجع إلى بلاده عاد فطاف وأهراق دما وإن طاف راكبا أعاد وإن طال فعليه دم وإن سعى بالصبي من لم يسع بين الصفا والمروة فهو أخف من الطواف بالبيت ويجزئه ولا بأس أن يسعى لنفسه والصبي معه سعيا واحدا ويجزئهما جميعا على راحلته
وقال أبو حنيفة وأصحابه إن طاف راكبا من غير عذر فعليه أن يعيد إن كان بمكة وإن رجع إلى الكوفة فعليه دم وإن طاف راكبا من عذر أجزاه وكذلك المحمول عند محمد بن الحسن فقال لو طاف بأمه حاملا لها أجزاه عنه وعنها وكذلك لو استأجرت امرأة رجلا يطوف بها حاملا كان الطواف لهما جميعا والأجر له
وقال الشافعي طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الصفا والمروة راكبا من غير مرض ولكنه أحب أن يشرف للناس يسألونه وليس أحد مثله وأكثر ما طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشيا فمن طاف راكبا من غير علة فلا إعادة عليه ولا فدية
ولا أحب لمن طاف ماشيا أن يركب فإن طاف راكبا أو حاملا من عذر أو غيره فلا دم عليه
213

وحجته ما رواه بن جريج وبن أبي ذئب عن بن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت على راحلته يستلم الركن بمحجنه
قال بن جريج وأخبرني أبو الزبير عن جابر قال طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالبيت وبين الصفا والمروة على راحلته ليراه الناس وليشرف لهم
إن الناس غشوة
وقال أبو ثور إذا كان الرجل مريضا فطاف محمولا أو على دابة أجزاه ذلك وإن طاف راكبا أو محمولا من غير علة ولا عذر لم يجزه ذلك وكان عليه أن يعيد وكان بمنزلة من صلى وهو صحيح قاعدا
قال أبو عمر أما من صلى وهو صحيح قادر على القيام جالسا فصلاته باطلة بإجماع من العلماء إذا كان إماما أو منفردا فكيف يقاس على هذا الأصل ما فرقت السنة بينهما بما ذكرنا من حديث بن عباس وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف على راحلته ولم يقل إن طوافي ذلك لعذر ولا نقل ذلك من يوثق بنقله ومعلوم أن التأسي به مباح أو واجب حتى يتبين أنه له خصوص بما لا دفع فيه من الخبر اللازم
إلا أنه قد روي في حديث بن عباس أن طوافه راكبا كان لشكوى
حدثني عبد الوارث بن سفيان قال حدثني قاسم قال حدثني بكر بن حماد وحدثني عبد الله بن محمد قال حدثني محمد بن بكر قال حدثني أبو داود قال حدثني مسدد قال حدثني خالد بن عبد الله قال حدثني يزيد بن أبي زياد عن عكرمة عن بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم مكة وهو يشتكي فطاف على راحلته كلما أتى الركن استلمه بمحجن فلما فرغ من طوافه أناخ فصلى
792 - مالك عن أبي الزبير المكي أن أبا ماعز الأسلمي عبد الله بن
214

سفيان أخبره أنه كان جالسا مع عبد الله بن عمر فجاءته امرأة تستفتيه فقالت إني أقبلت أريد أن أطوف بالبيت حتى إذا كنت بباب المسجد هرقت الدماء فرجعت حتى ذهب ذلك عني ثم أقبلت حتى إذا كنت بباب المسجد هرقت الدماء فرجعت حتى ذهب ذلك عني ثم أقبلت حتى إذا كنت عند باب المسجد هرقت الدماء فقال عبد الله بن عمر إنما ذلك ركضة من الشيطان فاغتسلي ثم استثفري بثوب ثم طوفي
قال أبو عمر أفتاها بن عمر فتوى من يرى أن ذلك ليس بحيض
وقد روى هذا الخبر جماعة من رواة الموطأ فقالوا فيه إن عجوزا استفتت عبد الله بن عمر فقالت أقبلت أريد الطواف بالبيت الحديث
والجواب يدل على أنها ممن لا تحيض فلذلك إنما قال هي ركضة من الشيطان يريد الاستحاضة وذلك لا يمنع من دخول المسجد ولا من الصلاة وكذلك أمرها بما أمرها من الطواف بالبيت لا يحل إلا لمن تحل له الصلاة
وأما قوله اغتسلي فهو والله أعلم على مذهبه في الاغتسال لدخول مكة والطواف بالبيت وللوقوف من عشية عرفة لا أنه اغتسال من حيض ولا اغتسال لازم
وقد مضى من الاغتسال للحاج والمعتمر في أول هذا الكتاب
وفسرنا الاستثفار في كتاب الحيض
وفي هذا دليل على أن كل من لها دين من تسأل عن معاني دينها
قالت عائشة (رضي الله عنها) رحم الله نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يسألن عن أمر دينهن
793 - مالك أنه بلغه أن سعد بن أبي وقاص كان إذا دخل مكة مراهقا خرج إلى عرفة قبل أن يطوف بالبيت وبين الصفا والمروة ثم يطوف بعد أن يرجع قال مالك وذلك واسع إن شاء الله
215

قال أبو عمر معنى قوله ثم يطوف بعد أن يرجع من منى وقد رمى جمرة العقبة فيطوف يريد طواف الإفاضة فيغنيه عن طواف الدخول لا أنه يعيد طواف الدخول بعد طواف الإفاضة
هذا لمن خشي أن يفوته الوقوف بعرفة قبل الفجر من ليلة النحر إن اشتغل بالطواف للدخول وهو الطواف الموصول بالسعي فأما من لم يخف ذلك فلا يجوز له ترك ذلك الطواف الموصول بالسعي والسعي
وقد اتفق العلماء على أن المراهق وهو الخائف لما ذكرنا يسقط عنه طواف الدخول كما يسقط عن المكي ولا يرون في ذلك دما ولا غيره فإذا طاف المكي أو المراهق بالبيت بعد رمي الجمرة وصل طوافه ذلك بالسعي بين الصفا والمروة
وقد روى جماعة من السلف أنهم كانوا يوافون مكة مراهقين خائفين لفوت عرفة فلا يطوفون ولا يسعون وينفضون إلى عرفة فإذا كان يوم النحر ورموا جمرة العقبة طافوا وسعوا ورملوا في طوافهم كما رملوا في طواف الدخول
واختلف الفقهاء في الحاج القادم مكة يترك طواف الدخول حتى يخرج إلى منى من غير عذر
فقال مالك إن قدم يوم التروية فلا يترك الطواف وإن قدم يوم عرفة إن شاء أخر الطواف إلى يوم النحر وإن شاء طاف وسعى كل ذلك واسع ذكره عنه بن وهب في موطئه
وذلك دليل على أن لا طواف عند مالك فرضا إلا طواف الإفاضة كسائر العلماء وأن ما في المدونة أن الطوافين واجبان كلام على غير ظاهره وأن معناه أن وجوب طواف الدخول وجوب سنة من تركه عامدا غير مراهق لم يرجع إليه من بلده وعليه دم ووجوب طواف الإفاضة وجوب فرض لا يجزئ منه دم ولا غيره ولا بد من الإتيان به يوم النحر من بعد رمي الجمرة أو قبلها للصدر والوداع وما لم يكن للإفاضة أجزاه لأنه طواف بالبيت معمول في وقته ينوب عن طواف الإفاضة عند جماعة الفقهاء
وقالت طائفة من أصحاب مالك إن طواف الدخول لمن عمله يجزئ عن طواف الإفاضة لمن نسيه إذا رجع إلى بلده وعليه دم كما ذكرنا عنهم في طواف الدخول أنه يجزيه بالدم من طاف للإفاضة ورجع إلى بلده
وقال أهل المدينة من أصحاب مالك وهو قول سائر الفقهاء لا يجزئ طواف الدخول ولا ينوب عن طواف الإفاضة بحال من الأحوال وإنما يجزئ عندهم طواف
216

الإفاضة كل طواف يعمله الحاج يوم النحر أو بعده في حجته وأما كل طواف يطوفه قبل يوم النحر فلا يجزئ عن طواف الإفاضة
وهو قول إسماعيل بن إسحاق وأبي الفرج وجمهور أهل العلم
قال أبو عمر وذلك والله أعلم لقول الله (عز وجل) * (ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق) * [الحج 29]
فأمر الله (عز وجل) بالطواف بالبيت بعد قضاء التفث وذلك طواف يوم النحر بعد الوقوف بعرفة
وأما طواف الدخول فلم يأمر الله به ولا رسوله وإن كان قد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم عند دخوله في حجة
والدليل على أن طواف الدخول ليس بواجب إجماع العلماء على سقوطه عن المكي وعن المراهق الخائف فوت عرفة والله (عز وجل) قد افترض الحج على المكي وغيره إذا استطاعه فلو كان طواف الدخول فرضا لاستوى فيه المكي وغيره كما يستوون في طواف الإفاضة
وقد قال بعض أهل العلم طواف الدخول للحاج كركعتي الداخل في المسجد لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما طافه في حجته وقال خذوا عني مناسككم صار نسكا مسنونا ومن ترك من نسكه شيئا غير الفرض جبره بالدم وقد أجمعوا أنه يجبر بالدم لمن طاف للإفاضة ولا يرجع إليه إذا أبعد عنه وليس هذا حكم طواف العلماء الذين هم حجة على من شذ عنهم
وأما طواف الدخول إلى المعتمر فهو فرض في عمرته لأن العمرة الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة
قال أبو عمر قد ذكرنا قول مالك فيمن قدم يوم عرفة أنه إن شاء أخر الطواف إلى يوم النحر وإن شاء طاف وسعى ذلك واسع وهذا من قوله بيان أن طواف الدخول ليس بواجب وهو الذي عليه الفقهاء وعامة العلماء
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إذا ترك الحاج الدخول فطاف طواف الزيارة رمل في ثلاثة أطواف منها وسعى بين الصفا والمروة
وقال الشافعي من طاف طواف الدخول على غير وضوء وفي ثياب غير طاهرة
217

هل يجزه فإن طاف للإفاضة وخرج من مكة وذكر ذلك كان عليه الفدية
قال أبو عمر يعني الدم
وبه قال أحمد وأبو ثور
وقال إسماعيل بن إسحاق طواف القادم سنته لمن دخل مكة كما طواف الوداع لمن أراد الخروج عنها من حل مسافر وغيره
قال والطواف الواجب الذي لا يسقط بوجه من الوجوه هو الطواف الذي يكون بعد عرفة
قال الله عز وجل * (وليطوفوا بالبيت العتيق) * [الحج 29] فكان هذا هو الطواف المفترض في كتاب الله (عز وجل) وهو طواف الإفاضة
وسئل مالك هل يقف الرجل في الطواف بالبيت الواجب عليه يتحدث مع الرجل فقال لا أحب ذلك له
قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الطواف صلاة إلى الله (عز وجل) أحل فيه الكلام فمن يطف فلا ينطق إلا بخير
وحدثني محمد بن إبراهيم قال حدثني محمد بن معاوية قال حدثني أحمد بن شعيب قال أخبرنا قتيبة بن سعيد قال حدثني أبو عوانة عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس عن بن عباس قال الطواف بالبيت صلاة فأقلوا من الكلام
ورواه بن جريج عن الحسن بن سالم عن طاوس عن رجل أدرك النبي صلى الله عليه وسلم هكذا ذكر مرفوعا
وقال طاوس وسمعنا بن عمر يقول اتقوا الكلام في الطواف فإنما أنتم في صلاة
ذكره الشافعي قال أخبرنا سعيد بن سالم عن حنظلة بن أبي سفيان عن طاوس
218

قال وحدثني سعيد عن إبراهيم بن نافع قال كلمت طاوسا في الطواف فكلمني
وذكر بن جريج عن عطاء أنه كان يكره الكلام في الطواف إلا الشيء اليسير وكان يستحب فيه الذكر والتلاوة للقرآن
وكان مجاهد يقرأ عليه القرآن في الطواف
وقال مالك لا أرى ذلك ويبقى على طوافه
وقال الشافعي أنا أحب القراءة في الطواف وهو أفضل ما تتكلم به الألسن
وأما قوله في آخر هذا الباب
قال مالك لا يطوف أحد بالبيت ولا بين الصفا والمروة إلا وهو طاهر
فقد مضى القول في الطواف على غير طهارة وما للعلماء في ذلك من المعاني والمذاهب في باب ركعتي الطواف عند قوله هناك قال مالك فمن أصابه شيء ينقض
وضوءه وهو يطوف بالبيت أو يسعى بين الصفا والمروة وأوضحنا هناك أن السعي بين الصفا والمروة لمن طاف بالبيت على طهارة استحباب غير واجب عند الجميع والحمد لله إلا أنه لا يجزئ عند أهل الحجاز
أخبرنا أحمد بن محمد قال أخبرنا أحمد بن الفضل قال حدثني محمد بن جرير قال أخبرنا أبو كريب قال قال أبو بكر بن عياش وسأله يحيى يعني بن آدم فقال هشام عن عطاء إذا طاف على غير وضوء أعاد قال نعم
قال وقال إبراهيم لا يعيد
((41 - باب البدء بالصفا في السعي))
794 - مالك عن جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن جابر بن عبد الله أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين خرج من المسجد وهو يريد الصفا وهو يقول نبدأ بما بدأ الله به فبدأ بالصفا
قال أبو عمر في هذا الحديث الخروج من المسجد إلى الصفا عند انقضاء
219

الطواف بالبيت ثم يبتدئ السعي وهذا إجماع لا خلاف فيه لأنها السنة المعمول بها وقد مضى بيان ذلك
وفيه أن السنة الواجبة أن يبدأ الساعي بين الصفا والمروة من الصفا قبل المروة فقد ذكرنا في كتاب الصلاة من هذا الديوان ما للعلماء في مثل هذا الخطاب
قالوا ومن المذاهب في دخول البيت بما يسن فيها من السنن والفرائض وقد ذكرناه بما فيه كفاية فلا معنى لإعادته ها هنا
وفي حديث جابر في الحج الحديث الطويل قال ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصفا فرقى عليها حتى رأى البيت فحمد الله ووحده وكبره فأجمعوا أنه هكذا ينبغي للحاج والمعتمر أن يفعل إن قدر فإن لم يفعل ولم يرق على الصفا وقام في أسفله فلا خلاف بينهم أنه يجزئه
وأجمعوا على أن من سنة السعي بين والصفا والمروة أن ينحدر الراقي على الصفا بعد الفراغ من الدعاء فيمشي على حسب مشيته وعادته في المشي وجبلته حتى يبلغ بطن المسيل ثم يرمل بمشية حتى يقطعه فإذا قطعه إلى مائل المروة وجازه مشى على سجيته حتى يأتي إلى المروة فيرقى عليها حتى يبدو له البيت ثم يقول عليها نحو ما قاله من الدعاء والتكبير والتهليل على الصفا وإن وقف أسفل المروة أجزاه في قول جميعهم ثم ينزل عن المروة يمشي على سجيته حتى ينتهي إلى بطن المسيل فإذا انتهى إليه سعى شدا ورمل حتى يقطعه إلى الجانب الذي يلي الصفا يفعل ذلك سبع مرات يبدأ في كل ذلك بالصفا ويختم بالمروة وإن بدأ بالمروة قبل الصفا ألغى شوطا واحدا
وهذا كله قول جماعة الفقهاء
وقد روي عن عطاء أنه إن جهل أجزأه
وروي عنه أنه لا يعتد بهذا الشوط كما قال سائر العلماء
واختلفوا في السعي بين الصفا والمروة هل هو واجب فرضا من فرض الحج أو هو تطوع وسنة
قال مالك من جهل فلم يسع بين الصفا والمروة أو أفتى بأن ذلك ليس عليه فذكر وطاف بالبيت ثم خرج إلى بلاده فإنه يرجع متى ما ذكر على ما بقي من إحرامه حتى يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ويهدي
قال مالك ذلك أحب إلي
220

فإن كان أصاب النساء رجع فقضى ما عليه من الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ثم اعتمر مكان عمرته التي أفسدها بالوطء
وكذلك من لم يسع بين الصفا والمروة في حجة حتى وطئ أهله كان عليه تمام حجته وحج قابل والهدي
هذا كله قوله في الموطأ وغيره
وقال الثوري من نسي السعي بين الصفا والمروة حتى يرجع إلى بلاده فإنه يجزئه دم يهديه
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إذا ترك السعي بين الصفا والمروة عامدا أو ناسيا فعليه دم ولا يرجع إليه حجا كان أو عمرة
وقال الشافعي السعي بين الصفا والمروة واجب
واحتج في ذلك فقال حدثني عبد الله بن المؤمل عن عمر بن عبد الرحمن بن محيصن عن عطاء بن أبي رباح عن صفية بنت شيبة قالت أخبرتني بنت أبي تجراة قالت دخلت مع نسوة من قريش دار آل بن أبي حسين ننظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسعى بين الصفا والمروة فرأيته يسعى وإن مئزره ليدور من شدة السعي حتى أني لأقول إني لأرى ركبتيه وسمعته يقول اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي
وكذلك رواه أبو نعيم الفضل بن دكين عن عبد الله بن المؤمل
وقد اضطرب فيه غير هذين على عبد الله بن المؤمل وقد جود الشافعي وأبو نعيم إسناده ومعناه
وقال الشافعي وهذا عندنا والله أعلم على إيجاب السعي بين الصفا والمروة من قبل أن هذا الحديث لا يحتمل إلا السعي بينهما أو السعي في بطن الوادي وهو بعض العمل وجب في كله وهو ما قلنا
قال الشافعي من ترك السعي بين الصفا والمروة في الحج فالنساء عليه حرام حتى يرجع فيسعى فيما بينهما فإن وطأ فعليه العود حتى يطوف بينهما ويهدي
قال أبو عمر من قوله وقول غيره تأتي واضحة إن شاء الله فيما بعد
وقال أبو ثور في ذلك كله مثل قول الشافعي
221

وبه قال أحمد وإسحاق
وهو قول عائشة (رضي الله عنها) أن السعي بين الصفا والمروة فرض
وبه قال مالك والشافعي ومن ذكرنا معهم
أخبرنا محمد بن إبراهيم قال حدثني محمد بن معاوية قال حدثني جعفر بن محمد الفريابي قال حدثني عمرو بن علي قال حدثني يحيى بن سعيد قال حدثني هشام بن عروة قال أخبرني أبي عن عائشة قالت والله ما أتم الله حج رجل ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة
وقال بن عباس وأنس وعبد الله بن الزبير هو تطوع
وبه قال الكوفيون
وهو قول الحسن وبن سيرين
قال أبو عمر قول سفيان والكوفيين في إيجابهم الدم يحتمل أن يكون عندهم تطوعا ويحتمل أن يكون عندهم سنة وهو الأظهر في إيجابهم الدم
وقد روي أن الحسن وقتادة قالا فيمن ترك السعي عليه دم
وروي عن الحسن أنه قال لا شيء عليه رواه يحيى القطان عن الأشعث عن الحسن في الرجل ينسى السعي بين الصفا والمروة قال ليس عليه شيء
وروي عن طاوس أنه قال فيمن ترك السعي بين الصفا والمروة عمرة
وهذا عندي كقول من أوجبه لأن كل من يوجبه يوجب على تاركه الرجوع إليه من بلده فإذا وجب عليه الرجوع من بلده حتى يسعى لم يدخل الحرم إلا محرما وأقل الإحرام عمرة ومن شأن السعي اتصاله بالطواف قبله
وروي عن عطاء فيمن ترك السعي بين الصفا والمروة أو نسيه أنه ليس عليه شيء
وروي عنه أن عليه دما
قال أبو عمر حجة من لم يوجب السعي قوله (عز وجل) * (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) * [البقرة 158] واحتجوا بقراءة أبي وبن مسعود (فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما) وهذه قراءات لم تثبت في المصحف فلا حجة فيها قاطعة
وقد قالت عائشة في ذلك مما سيأتي بعد ما نبين به أنها رأته واجبا
222

قالوا ولم تقم بوجوبه حجة يجب التسليم لها وضعفوا حديث عبد الله بن المؤمل
قال أبو عمر قد رواه مع بن المؤمل غيره وقد ذكرناه في التمهيد
وعبد الله بن المؤمل لم يطعن عليه أحد إلا من سوء حفظه ولم يعارضه في هذا الحديث ولا خالفه فيه غيره فيتبين فيه سوء حفظه
وممن رواه كما رواه عبد الله بن المؤمل حماد بن زيد عن بديل بن ميسرة عن المغيرة بن حكيم عن صفية بنت شيبة عن امرأة قالت رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر مثله
وإذا أثبت حديثه وجب فيه فرض السعي بين الصفا والمروة والله أعلم
وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم مناسك الحج ومشاعره فبين في ذلك السعي بين الصفا والمروة فصار بيانا للآية وقال خذوا عني مناسككم فما لم يجمعوا عليه أنه سنة وتطوع فهو واجب بظاهر القرآن والسنة بأنه من الحج المفترض على من استطاع السبيل إليه
ذكر عبد الرزاق عن أيوب عن أبي مليكة عن عائشة قالت ما تم حج امرئ ولا عمرته حتى يطوف بين الصفا والمروة وليس في حديثها هذا حجة قاطعة لا تحتمل التأويل
(795 - مالك عن جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا وقف على الصفا يكبر ثلاثا ويقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير يصنع ذلك ثلاث مرات ويدعو ويصنع على المروة مثل ذلك)
قال أبو عمر الآثار في دعائه وذكره صلى الله عليه وسلم على الصفا والمروة متقاربة المعاني وليس في ذلك عند أحد من أهل العلم حد وإنما هو الدعاء والذكر والاجتهاد في ذلك بقدر ما يقدر عليه المرء ويحضره
وفي هذا الحديث من رواية الليث عن بن الهاد عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر فذكره وزاد فكبر الله وحمده ودعا بما شاء الله فعل هذا حتى فرغ من الطواف
223

796 - مالك عن نافع أنه سمع عبد الله بن عمر وهو على الصفا يدعو ويقول اللهم إنك قلت * (ادعوني أستجب لكم) * [غافر 60] وإنك لا تخلف الميعاد وإني أسألك كما هديتني للإسلام أن لا تنزعه مني حتى تتوفاني وأنا مسلم
قال أبو عمر هو موضع عند جماعة العلماء ترجى فيه الإجابة والدعاء فيه اتباع للسنة وفي قول بن عمر المذكور دليل على أن الدعاء مجاب كله
وقد فسرنا ذلك عن العلماء وذكرنا وجوه الاستجابة عندهم بترتيب قوله تعالى * (فيكشف ما تدعون إليه إن شاء) * [الأنعام 41] في آخر كتاب الصلاة
والدعاء عبادة بل قالوا إنه أفضل العبادة لما فيه من الإخلاص واليقين والرجاء
وأما دعاؤه أن لا ينزع الإسلام منه ففيه الامتثال والتأسي بإبراهيم (عليه السلام) في قوله * (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) * [إبراهيم 35] ويوسف (عليه السلام) في قوله " وتوفني مسلما وألحقني بالصالحين " [يوسف 101] وبالنبي صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه من قوله وإذا أردت بالناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون
قال إبراهيم النخعي لا يأمن الفتنة والاستدراج إلا مفتون
ولا نعمة أفضل من نعمة الإسلام فيه تزكو الأعمال ومن ابتغى دينا غيره فلن يقبل منه ولو أنفق ملء الأرض ذهبا أماتنا الله عليه وجعلنا من خير أهله آمين
((42 - باب جامع السعي))
797 - مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال قلت لعائشة أم المؤمنين وأنا يومئذ حديث السن أرأيت قول الله تبارك وتعالى " إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما
224

[البقرة 158] فما على الرجل شيء أن لا يطوف بهما فقالت عائشة كلا لو كان كما تقول لكانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما إنما أنزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلون لمناة وكانت مناة حذو قديد وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأنزل الله تبارك وتعالى * (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) * [البقرة 158]
قال أبو عمر أما قول عروة في هذا الحديث وأنا يومئذ حديث السن ففيه دليل على أنه إذا حدث بهذا الحديث كان يقول غير ما قاله إذ كان في غير السن
وفي ذلك ما يدل على أن عروة ممن يذهب مذهب عائشة في وجوب السعي بين الصفا والمروة وإن كان قد اختلف عنه في ذلك
وقد تقدم ما للعلماء في إيجاب السعي من الاختلاف في الباب قبل هذا
وأما ما احتجت به عائشة (رضي الله عنها) من قولها لو كان كما تقول لكانت * (فلا جناح عليه أن يطوف بهما) * ولو كانت قراءة صحيحة ما جهلتها عائشة ولا عابت على عروة لأنه كان يجاوبها بأنها كانت قراءة أبي وبن مسعود وأنها مما نزل القرآن عليه
ويشهد لما قلناه سقوطها من المصحف المجتمع عليه وأما مناة فصنم وهو الذي ذكر الله تعالى أنه أحد الأصنام الثلاثة في قوله تعالى * (ومناة الثالثة الأخرى) * [النجم 20]
وإنما تحرج المسلمون من السعي بين الصفا والمروة لأنه كان [موضع] ذبائحهم لأصنامهم فأخبرهم الله تعالى أن الصفا والمروة من شعائر الله لئلا يتحرج من السعي بينهما والطواف بهما
ذكر عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن الزهري عن عائشة قالت كان رجال من الأنصار ممن كان يهل لمناة في الجاهلية ومناة صنم بين مكة والمدينة
225

فقالوا يا نبي الله إنا كنا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيما لمناة فهل علينا من حرج أن نطوف بهما فأنزل الله تعالى * (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) * [البقرة 158]
قال عروة فقلت لعائشة ما أبالي أن لا أطوف بين الصفا والمروة فإن الله (عز وجل) يقول إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما فقالت يا بن أختي ألا ترى أنه يقول * (إن الصفا والمروة من شعائر الله) * [البقرة 158] قال الزهري فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن فقال هذا العلم
قال أبو بكر ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يقولون لما أنزل الله الطواف بالبيت ولم ينزل الطواف بين الصفا والمروة قيل للنبي صلى الله عليه وسلم إنا كنا نطوف في الجاهلية بين الصفا والمروة وإن الله تعالى قد ذكر الطواف بالبيت ولم يذكر بين الصفا والمروة فهل علينا من حرج أن لا نطوف بهما فأنزل الله (عز وجل) * (إن الصفا والمروة) * [البقرة 158] كلها
قال أبو بكر فأسمع هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما فيمن طاف وفيمن لم يطف
قال أبو عمر قول أبي بكر بن عبد الرحمن فأسمع هذه الآية نزلت في الفريقين يعني القائلين بأن الآية نزلت فيمن قال يا نبي الله إنا كنا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيما لمناة يعني مناة التي كانت للأنصار لئلا يعظموا غير الله تعالى وكانت لهم آلهة يعبدونها قد نصبوها بين المسلك بين مكة والمدينة فكانوا يكرهون أن يطوفوا بين الصفا والمروة من أجل مناة التي كانت لقريش وما أدري موضع مناة الثالثة الأخرى
والفريق الثاني هم القائلون بأن الآية إنما نزلت لقول من قال إنا كنا نطوف في الجاهلية بين الصفا والمروة كما كنا نطوف بالبيت فأمر الله تعالى بالطواف بالبيت ولم يأمر بالطواف بين الصفا والمروة فهل علينا من حرج ألا نطوف بهما فأنزل الله تعالى * (إن الصفا والمروة من شعائر الله) * [البقرة 158] كلها
قال أبو عمر فهذا تأويل قول أبي بكر بن عبد الرحمن أسمع هذه الآية أنزلت في الفريقين كليهما ممن طاف ومن لم يطف يريد أنه سمع القولين معا في سبب نزول الآية والآية محتملة لهما وكلا القولين علم وكذلك قال إن هذا لعلم وهذا العلم
226

ويحتمل قوله هذا العلم إشارة إلى قول عائشة واحتجاجها بقوله (عز وجل) * (إن الصفا والمروة من شعائر الله) * [البقرة 158] أي قد جعل الطواف بينهما من الشعائر التي أرادها من عباده في الحج والعمرة كما قال * (إن الدين عند الله الإسلام) * [آل عمران 19] وهذا القول مع العلم سبب نزول الآية على وجوب السعي
بين الصفا والمروة كما قال أهل الحجاز والله أعلم
أخبرنا محمد بن إبراهيم قال حدثني محمد بن معاوية قال حدثني أحمد بن شعيب قال أخبرنا عمرو بن عثمان قال حدثني أبي عن شعيب عن الزهري عن عروة قال سألت عائشة عن قول الله (عز وجل) * (فلا جناح عليه أن يطوف بهما) * [البقرة 158] فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بهما فقالت عائشة بئس ما قلت يا بن أختي إنما هذه الآية لو كانت كما أولتها كانت لا جناح عليه أن لا يطوف بهما ولكنها إنما أنزلت في الأنصار قبل أن يسلموا كانوا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدون عند المشلل وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة فلما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك أنزل الله تعالى * (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) * [البقرة 158] ثم قد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بهما فليس لأحد أن يترك الطواف بهما
قال أحمد بن شعيب وأخبرنا محمد بن منصور قال حدثني سفيان عن الزهري عن عروة قال قرأت على عائشة * (فلا جناح عليه أن يطوف بهما) * [البقرة 158] قلت وما أبالي أن لا يطوف بهما قالت بئس ما قلت وذكر الخبر وفيه قال الزهري فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فأعجبه ذلك وقال سمعت رجالا من أهل العلم يقولون إنما كان من لا يطوف بين الصفا والمروة من العرب يقولون إن طوافا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية
وقال آخرون من الأنصار إنما أمرنا بالطواف بالبيت ولم نؤمر بين الصفا والمروة فأنزل الله (عز وجل) * (إن الصفا والمروة من شعائر الله) * [البقرة 158]
قال أبو بكر بن عبد الرحمن فأراها قد نزلت في هؤلاء
798 - مالك عن هشام بن عروة أن سودة بنت عبد الله بن عمر كانت
227

عند عروة بن الزبير فخرجت تطوف بين الصفا والمروة في حج أو عمرة ماشية وكانت امرأة ثقيلة فجاءت حين انصرف الناس من العشاء فلم تقض طوافها حتى نودي بالأولى من الصبح فقضت طوافها فيما بينها وبينه
وكان عروة إذا رآهم يطوفون على الدواب ينهاهم أشد النهي فيعتلون بالمرض حياء منه فيقول لنا فيما بيننا وبينه لقد خاب هؤلاء وخسروا
قال أبو عمر في هذا الخبر حجة لمالك في كراهية أن يطوف أحد راكبا من غير عذر لازم
وفيه إعلام بما كان عليه الصالحون من الرجال والنساء من الصبر على أعمال الطاعات وإن كان في بعضها رخصة طلبا للأجر وجزيل الثواب من الله (عز وجل) لم يجد رخصة من الله في الطواف بالبيت وبالصفا والمروة راكبا لدى العذر من مرض أو زمانه ألا ترى أنه لما اعتلوا له بالمرض لم ينكر عليهم ثم قال سرا كلاما معناه إن كان هؤلاء كذبوا فيما اعتلوا به فقد خابوا وخسروا
وعلى كراهة الركوب بين الصفا والمروة من غير علة ولا ضرورة جمهور أهل العلم
وبه قال مالك والكوفيون وإليه ذهب أحمد وإسحاق
وروي ذلك عن عائشة وعروة
وقال الشافعي لا بأس به وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله ولم يخبر بعلة ولا ضرورة
وقال حدثني سعيد بن سالم عن بن جريج قال أخبرني أبو الزبير عن جابر قال طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته على راحلته بالبيت وبين الصفا والمروة ليراه الناس وليشرف لهم لأن الناس غشوه
وقال بن جرير وأخبرني عطاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت وبين الصفا والمروة راكبا
فقلت لعطاء لم قال لا أدري
قال أبو عمر قد روي عن عطاء ومجاهد أنهما سعيا راكبين
228

ولم تقدر سودة بنت عبد الله بن عمر لثقل جسمها أن تقضي الطواف بين الصفا والمروة سبعا إلا بين العشاء والأذان للصبح ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها ولو ركبت كان في ذلك رخصة لها
وقد يشبه أن يكون ذلك في ليالي الصيف مع التغليس بالصبح والله أعلم
وأما قول مالك من نسي السعي بين الصفا والمروة في عمرة فلم يذكر حتى يستبعد من مكة أنه يرجع فيسعى وإن كان قد أصاب النساء فليرجع فليسع بين الصفا والمروة حتى يتم ما بقي عليه من تلك العمرة ثم عليه عمرة أخرى والهدي
فقد وافقه الشافعي في أن العمرة من فروضها الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة وإنها لا تتم إلا بذلك
وقول الشافعي في هذه المسألة قول مالك وقد ذكرنا اختلاف العلماء في وجوب السعي بين الصفا والمروة فكل من أوجبه يوجب الرجوع إليه من كل أفق في العمرة كما يوجبه في الحج لأن القرآن عمهما في قوله (عز وجل) * (فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) * [البقرة 158] ومن لم يوجبه ناب عنه عنده الدم لمن أبعد عن مكة لأن هذا شأن السنن في الحج أن تجبر بالدم ولا ينصرف إليها من بعد
وأما الوطء قبل السعي بين الصفا والمروة بالعمرة فسيأتي في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله
وقد روي عن بن عباس أنه قال العمرة الطواف بالبيت وخالفه بن عمر وجابر والناس
ذكر عبد الرزاق عن بن عيينة عن عمرو بن دينار قال سألنا بن عمر عن رجل طاف بالبيت يعني في العمرة أيقع على أهله قبل أن يسعى بين الصفا والمروة فقال أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت ثم أتى المقام فصلى عنده ركعتين ثم طاف بين الصفا والمروة
ثم قرأ * (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) * [الأحزاب 21]
قال عمرو فسألنا جابر بن عبد الله فقال لا يقربها حتى يسعى بين الصفا
وأما قوله وسئل مالك عن الرجل يلقاه الرجل بين الصفا والمروة فيقف معه يحدثه فقال لا أحب له ذلك
قال إن العلماء يكرهون الكلام بغير ذكر الله في الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة إلا فيما لا بد منه لأنه موضع ذكر ودعاء
229

والكلام بين الصفا والمروة عندهم أخف فمن تكلم وتحدث لم يفسد ذلك طوافه ولا سعيه عند الجميع
عبد الرزاق عن الثوري عن منصور عن أبي وائل عن مسروق أن بن مسعود قال حين سعى للوادي اللهم اغفر وارحم وأنت الأعز الأكرم
وعن محمد بن مسلم الطائفي عن إبراهيم بن ميسرة عن مجاهد أنه سمع بن عمر وهو يرمل بين الصفا والمروة وهو يقول اللهم اغفر وارحم وأنت العزيز الأرحم
روى سفيان عن زكريا بن أبي زائدة عن الشعبي عن وهب بن الأجدع كان عمر بن الخطاب يعلم الناس يقول إذا قدم أحدكم حاجا أو معتمرا فليطف بالبيت سبعا ويصلي خلف المقام ركعتين ثم يأتي الصفا فيصعد عليها فيكبر سبع تكبيرات بين كل تكبيرتين حمد لله وثناء عليه وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ويسأله لنفسه وعلى المروة مثل ذلك
وعن مسعر عن قراض عن الشعبي عن وهب بن الأجدع مثله
قال عبد الرزاق وأخبرنا بن أبي رواد عن نافع عن بن عمر أنه كان كثيرا ما يقول بين الصفا والمروة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله
ومن رواية بن جريج وأيوب عن نافع عن بن عمر
أنه كان يقول إذا نزل على الصفا والمروة اللهم واستعملني لسنة نبيك وتوفني على ملته وأجرني من مضلات الفتن واعصمني بدينك وطاعتك وطاعة رسولك وجنبني معاصيك واجعلني ممن يحبك ويحب ملائكتك ورسلك وعبادك الصالحين وحببني إلى ملائكتك وعبادك الصالحين اللهم واجعلني من أئمة المتقين واجعلني من ورثة جنة النعيم ولا تخزني يوم يبعثون
قال أبو عمر هو موضع ذكر ودعاء وليس فيه شيء مؤقت فليدع المؤمن بما شاء لدين ودنيا ولا يتعدى في الدعاء إلى ما لا ينبغي وبالله التوفيق
وأما قول مالك
ومن نسي من طوافه شيئا أو شك فيه فلم يذكر إلا وهو يسعى بين الصفا والمروة فإنه يقطع سعيه ثم يتم طوافه بالبيت على ما يستيقن ويركع ركعتي الطواف ثم يبتدئ سعيه بين الصفا والمروة
230

فهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء أن من شك في طوافه يلزمه البناء فيه على الأقل في نفسه وليس عمله في السعي وإن طال ما يلزمه ابتداء الطواف ولكنه يبني على ما طاف حتى يتم الطواف ويركع ركعتين ثم يسعى بين الصفا والمروة
799 - مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل من الصفا والمروة مشى حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى يخرج منه
قال أبو عمر هكذا قال يحيى في هذا الحديث كان إذا نزل بين الصفا وسائر رواة الموطأ يقولون كان إذا نزل من الصفا
وكذلك هو محفوظ في حديث جابر الطويل وقد رواه مالك وقطعه في أبواب من الموطأ
قال أبو عمر وليس في هذا الحديث ما يحتاج إلى القول والعلماء كلهم على القول به
والسعي المذكور فيه هو الاشتداد في المشي والهرولة ولا خلاف في السعي في المسيل وهو الوادي بين الصفا والمروة إلا أن من السلف من كان يسعى المسافة كلها بين الصفا والمروة منهم الزبير بن العوام وابنه عبد الله بن الزبير
ذكر عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة أنه أدرك أباه يولي بين الصفا والمروة سعيا وكان عروة لا يصنع ذلك كان يسعى في بطن المسيل ثم يمشي
قال وأخبرنا بن عيينة عن هشام بن عروة أن الزبير وابنه عبد الله بن الزبير كانا يركبان ما بين الصفا والمروة كله سعيا
قال أبو عمر العمل عند جمهور الفقهاء على ما في حديث جابر قال ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصفا فلما انصبت قدماه في الوادي سعى حتى خرج منه ولا حرج على من اشتد وسعى في ذلك كله
وذكر الثوري عن عبد الكريم الجزري عن سعيد بن جبير قال رأيت بن عمر يمشي بين الصفا والمروة ثم قال إن مشيت فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي أو سعيت فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى
231

قال مالك في رجل جهل فبدأ بالسعي بين الصفا والمروة قبل أن يطوف بالبيت قال ليرجع فليطف بالبيت ثم ليسع بين الصفا والمروة وإن جهل ذلك حتى يخرج من مكة
ويستبعد فإنه يرجع إلى مكة فيطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة وإن كان أصاب النساء رجع فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة حتى يتم ما بقي عليه من تلك العمرة ثم عليه عمرة أخرى والهدي
قال أبو عمر لا خلاف بين العلماء في أن يطوف بالبيت في الحج والعمرة قبل السعي بين الصفا والمروة
وبذلك جاءت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كذلك فعل في عمراته كلها وفي حجته قال خذوا عني مناسككم
واختلف العلماء فيمن سعى بين الصفا والمروة من قبل أن يطوف بالبيت فقال مالك ما ذكرنا عنه في الموطأ
وهو قول جمهور الفقهاء منهم أبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور وأحمد وإسحاق ورواية عن الثوري
روى ذلك بن أبي الزرقاء ومهران الرازي عن الثوري أنه قال إن سعى الحاج بين الصفا والمروة قبل أن يطوف بالبيت فإنه يطوف بالبيت ويجزئه
وذكر عبد الرزاق قال سألت الثوري عن رجل بدأ بالصفا والمروة قبل الطواف بالبيت فقال أخبرني بن جريج عن عطاء يطوف بالبيت وقد جزى عنه
قال عبد الرزاق عن سفيان وأما نحن فنقول يطوف بالبيت ثم يعود إلى الصفا والمروة فيطوف بهما
قال أبو عمر فإن طاف بهما على غير طهارة ثم طاف بين الصفا والمروة ثم ذكر توضأ وطاف بالبيت ثم بالصفا والمروة ولا يجزئه غير ذلك عند مالك والشافعي لأنهما يقولان إنه لا يجزئ السعي بين الصفا والمروة إلا بعد إكمال الطواف بالبيت على طهارة والطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة عندهما كالركوع والسجود وقد أجمعوا أنه لا يجزئ السجود قبل الركوع
وقد تقدم القول في الطواف بالبيت على غير طهارة والاختلاف فيه
ولا فرق عند مالك والشافعي بين من نسي السعي بين الصفا والمروة وبين من قدم السعي بين الصفا والمروة على الطواف بالبيت وعليه الرجوع إلى الطواف ثم السعي عند مالك والشافعي خرج من مكة أو لم يخرج أبعد أو لم يبعد فإن وطئ
232

النساء قبل الطواف فعليه قضاء الحج والعمرة ومع ذلك الهدي على ما يأتي في بابه إن شاء الله
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد ومن خرج من مكة وقد رأى [أنه] كان قدم السعي بين الصفا والمروة على الطواف بالبيت فعليه دم وليس عليه أن يعود
((43 - باب صيام يوم عرفة))
800 - مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن عمير مولى عبد الله بن عباس عن أم الفضل بنت الحارث أن ناسا تماروا عندها يوم عرفة في صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم هو صائم وقال بعضهم ليس بصائم فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره فشرب
801 - مالك عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد أن عائشة أم المؤمنين كانت تصوم يوم عرفة
قال القاسم ولقد رأيتها عشية عرفة يدفع الإمام ثم تقف حتى يبيض ما بينها وبين الناس من الأرض ثم تدعو بشراب فتفطر
قال أبو عمر حمل حديث النبي صلى الله عليه وسلم فيما حكت عنه أم الفضل عندنا أنه كان بعرفة وقد روي ذلك منصوصا وإذا كان بعرفة فالفطر أفضل تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم وقوة على الدعاء وقد قال صلى الله عليه وسلم أفضل الدعاء يوم عرفة ونهى عن صوم يوم عرفة بعرفة
وتخصيصه بعرفة دليل على أن صومه بغير عرفة ليس كذلك على أن صومه بغير عرفة لم يكن كذلك لأنه قد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال صيام يوم عرفة كفارة سنة
233

وقد روي عنه كفارة سنتين
وروى الوليد بن مسلم عن بن جابر عن أبيه عن عطاء قال صيام يوم عرفة كصيام الدهر
وقد روي عن ميمونة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث أم الفضل هذا وذكرناه في التمهيد
وأما الحديث بأن نهيه عن صوم يوم عرفة أنه كان بعرفة
أخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثني محمد بن بكر قال حدثني أبو داود
وحدثني عبد الوارث بن سفيان قال حدثني قاسم قال حدثني أحمد بن زهير
قالا حدثني سليمان بن حرب قال حدثني حوشب بن عقيل عن مهدي الهجري قال حدثني عكرمة قال كنا عند أبي هريرة في بيته فحدثني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [نهى عن صوم] يوم عرفة بعرفة
وأخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن عمر قال حدثني علي بن حرب قال حدثني سفيان عن بن أبي نجيح عن أبيه عن بن عمر قال حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصمه ومع أبي بكر فلم يصمه ومع عمر فلم يصمه ومع عثمان فلم يصمه أنا لا أصومه ولا آمر بصومه ولا أنهى عنه
قال أبو عمر يعني يوم عرفة بعرفة ويوضح ذلك قوله حججت وذلك كله كان في الحج
وحدثني سعيد بن نصر قال حدثني قاسم بن أصبغ قال حدثني إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدثني مسدد قال حدثني الحارث بن عبيد أبو قدامة الايادي قال حدثني هوذة بن الأشهب عن الحارث عن عبادة البصري عن
234

أبيه عن جده قال مر عمر بن الخطاب بأبيات بعرفات فقال ما هذه الأبيات قلنا لعبد القيس فقال لهم خيرا ودعا لهم ونهاهم عن صوم يوم عرفة
قال هوذة وحج أبي وطليق بن محمد الخزاعي واختلفا في صوم يوم عرفة فقال أبي بيني وبينك سعيد بن المسيب فأتيناه فقلت يا أبا محمد إنا اختلفنا في صيام يوم عرفة فجعلناك بيننا فقال أنا أخبركم عن من هو خير مني عبد الله بن عمر لا يصومه وقال حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر ومع عمر ومع عثمان فكلهم كانوا لا يصومونه وأنا لا أصومه
قال أبو عمر كان مالك والثوري والشافعي يختارون الفطر يوم عرفة بعرفة
وقال الشافعي أحب صوم عرفة لغير الحاج وأما من حج فأحب إلي أن يفطر ليقوى بالفطر على الدعاء
قال أبو عمر قد روي عن عائشة وعثمان [بن أبي العاص] أنهما كانا يصومان يوم عرفة بعرفة فأما حديث عائشة فقد ذكره مالك في هذا الباب
وأما حديث عثمان بن أبي العاص فروى المعتمر بن سليمان قال سمعت حميدا يحدث عن الحسن قال لقد رأيت عثمان بن أبي العاص يرش عليه ماء في يوم عرفة وهو صائم
وكان إسحاق بن راهويه يميل إلى صومه بعرفة وغير عرفة
وقال قتادة ولا بأس به إذا لم يضعف عن الدعاء
وكان عطاء يقول أصومه في الشتاء ولا أصومه في الصيف
وهذا لأن لا يضعفه صومه عن الدعاء مع الحر والله أعلم
((44 - باب ما جاء في صيام أيام منى))
802 - مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن سليمان بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام أيام منى
235

803 - عن بن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن حذافة أيام منى يطوف يقول إنما هي أيام أكل وشرب وذكر الله
804 - عن محمد بن يحيى بن حبان عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين يوم الفطر ويوم الأضحى
805 - عن يزيد بن عبد الله بن الهادي عن أبي مرة مولى أم هانئ أخت عقيل بن أبي طالب عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه أخبره أنه دخل على أبيه عمرو بن العاص فوجده يأكل قال فدعاني قال فقلت له إني صائم فقال هذه الأيام التي نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامهن وأمرنا بفطرهن
قال مالك هي أيام التشريق
قال أبو عمر أما حديث أبي النضر فلم يختلف عن مالك في إرساله في الموطأ
[وأما حديث بن يسار هذا] فقد رواه الثوري عن سالم أبي النضر وعبد الله بن أبي بكر عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن حذافة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن ينادي أيام التشريق أنها أيام أكل وشرب
حدثناه عبد الوارث قال حدثني قاسم قال حدثني محمد بن السلام قال حدثني محمد بن المثنى قال حدثني عبد الرحمن بن مهدي قال حدثني سفيان فذكره
قال عبد الرحمن وقرأته على مالك عن أبي النضر عن سليمان بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام أيام منى
236

قال بن مهدي ولا أراه إلا أثبت من حديث سفيان
وحدثني عبد الوارث قال حدثني قاسم قال حدثني أحمد بن زهير قال سئل يحيى بن معين عن حديث عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن عبد الله بن أبي بكر وسالم أبي النضر عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن حذافة أن النبي صلى الله عليه وسلم [أمره] أن ينادي في أيام التشريق أنها أيام أكل وشرب فقال مرسل
قال أبو عمر إنما صار مرسلا لأن سليمان بن يسار لم يسمع من عبد الله بن حذافة وهذا وإن كان مرسلا فإنه يتصل من غير ما وجه ويتصل حديث عبد الله بن حذافة من حديث بن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن حذافة يطوف في منى لا تصوموا هذه الأيام فإنها أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل
وقد ذكرنا هذا الحديث وما كان مثله في التمهيد
قال أبو عمر أيام منى هي ثلاثة أيام بعد يوم النحر ولها ثلاثة أسماء يقال لها أيام منى لإقامة الحاج بها بعد يوم النحر لرمي الجمار ويقال لها أيام التشريق
قال أهل اللغة سميت بذلك لتشريق لحوم الضحايا والهدايا
وهي الأيام المعدودات التي رخص للحاج أن يتعجل منها في يومين
ولا خلاف بين العلماء في أيام التشريق أنها أيام منى وأنها الأيام المعدودات
وإنما اختلفوا في الأيام المعلومات على قولين
أحدهما أنها أيام العشر وهو قول بن عباس وبه قال الشافعي
والثاني أنها يوم النحر ويومان بعده من أيام التشريق وهو قول علي وبن عمر
وسنبين ذلك في كتاب الضحايا إن شاء الله
ومما يدلك على أن أيام منى ثلاثة أيام قول العرجي
(ما نلتقي إلا ثلاث منى
* حتى يفرق بيننا النفر)
وقول عروة بن أذينة
(نزلوا ثلاث منى منزل غبطة
* وهم على سفر لعمرك ماهمو)
وقد ذكرنا الشواهد في هذا وفي اشتقاق منى في التمهيد ولم قيل لها منى
قال بن الأنباري هو مشتق من منيت الدم إذا أصبته
237

وقال أبو هفان هو منى وهي منى فمن ذكره ذهب إلى المكان ومن أنثه ذهب إلى البقعة
قال وتكتب في الوجهين جميعا بالياء
وأجمع العلماء على أنه لا يجوز صيام أيام منى تطوعا وأنها أيام لا يتطوع أحد بصيامهن إلا شيء يروى عن الزبير وبن عمر والأسود بن يزيد وأبي طلحة أنهم كانوا يصومون أيام التشريق تطوعا وفي الأسانيد عنهم ضعف
وجمهور العلماء من أهل الرأي والحديث على كراهية ذلك
ذكر بن عبد الحكم عن مالك قال لا بأس بسرد الصيام إذا أفطر يوم النحر ويوم الفطر وأيام التشريق لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامها
وقال في موضع آخر لا يتطوع أحد بصيام أيام منى لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام أيام منى
وقال بن القاسم عن مالك لا ينبغي لأحد أن يصوم أيام الذبح الثلاثة ولا يقضي فيها صياما واجبا نذرا ولا قضاء رمضان ولا يصومها إلا المتمتع وحده الذي لم يصم قبل عرفة ولم يجد الهدي
قال وأما آخر أيام التشريق فيصام إن نذره رجل أو نذر صيام ذي الحجة فأما قضاء رمضان أو غيره فلا يفعل إلا أن يكون قد صام قبل ذلك صياما متتابعا قد لزمه فمرض ثم صح وقوي على الصيام في هذا اليوم يبني على الصيام الذي كان صامه في الظهار أو قتل النفس خطأ وأما قضاء رمضان فلا يصومه فيه
قال أبو عمر لا اعلم أحدا من أهل العلم فرق بين اليومين الأولين من أيام التشريق في الصيام خاصة وفي اليوم الثالث منها إلا ما حكاه بن القاسم عن مالك على ما ذكرناه
وجمهور العلماء من أهل الرأي والأثر لا يجيزون صوم اليوم الثالث من أيام التشريق في قضاء رمضان ولا في نذر ولا في غير ذلك من وجوه الصيام إلا المتمتع وحده فإنهم اختلفوا في ذلك على ما نذكره عنهم في بابه في آخر هذا الكتاب إن شاء الله (عز وجل)
وأما قوله صلى الله عليه وسلم في أيام منى إنها أيام أكل وشرب وذكر لله (عز وجل) فإن الأكل والشرب أنها أيام لا صيام فيها وأما الذكر فهو بمنى التكبير عند رمي الجمار وفي سائر الأمصار التكبير بإثر الصلاة وسيأتي موضع ذكره من هذا الكتاب إن شاء الله عز وجل
238

وأما نهيه صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الفطر ويوم النحر فلا خلاف بين العلماء أنه لا يجوز صيامهما لناذر ولا متطوع ولا يقضى فيهما رمضان ولا يصامان في صيام التتابع
والذي يصومهما بعد علمه بالنهي المجتمع عليه عاص عند الجميع ولأصحابنا فيمن نذر صيام ذي الحجة هل يقضي يوم النحر أم لا ما قد ذكرناه في كتاب الصيام من هذا الكتاب
((45 - باب ما يجوز من الهدي))
806 - مالك عن نافع عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى جملا كان لأبي جهل بن هشام في حج أو عمرة
قال أبو عمر وقع في رواية عبيد الله بن يحيى عن أبيه في هذا الحديث عن مالك عن نافع عن عبد الله بن أبي بكر وهو خطأ لا إشكال فيه من خطأ اليد ولم يروه بن وضاح عن يحيى إلا كما رواه سائر الرواة للموطأ عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر
وهذا الحديث يستند من وجوه قد ذكرنا بعضها في التمهيد منها ما
حدثناه عبد الوارث بن سفيان قال حدثني قاسم بن أصبغ قال حدثني عبيد بن عبد الواحد قال حدثني أحمد بن محمد بن أيوب قال حدثني إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق قال وقال عبد الله بن أبي نجيح حدثني مجاهد عن بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى عام الحديبية في هداياه جملا لأبي جهل بن هشام في أنفه برة من فضة ليغيظ به المشركين
وفي هذا الحديث دليل على استسمان الهدايا واختيارها وأن الجمل يسمى بدنة كما أن الناقة تسمى بدنة وهذا الاسم مشتق من عظم البدن عندهم
وفي هذا الحديث رد قول من زعم أن البدنة لا تكون إلا أنثى
وفيه إجازة هدي ذكور الإبل وهو أمر مجتمع عليه عند الفقهاء
وفيه ما يدل على أن الإبل في الهدايا أفضل من الغنم
ولم يختلفوا في تأويل قول الله (عز وجل) (فما استيسر من الهدي) [البقرة 169] أنه شاة إلا ما روي عن بن عمر أنه قال بدنة دون بدنة وبقرة دون بقرة
239

وأما استسمان الهدايا والضحايا الغلو في ثمنها واختيارها فداخل تحت عموم قوله (عز وجل) * (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) * [الحج 32]
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الرقاب فقال أغلاها ثمنا
وهذا كله مداره على صحة النية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعمال بالنيات
وقال الله (عز وجل) * (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم) * [الحج 37]
وقوله ليغيظ به المشركين في حديث بن عباس هو تفسير لهذا الحديث
وقد قيل إن جمل أبي جهل بن هشام كان من الصفي الخالص لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن سهمه كان في خمس الغنيمة واجبا على ما ذكرناه في كتاب الجهاد
807 - مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال اركبها فقال يا رسول الله إنها بدنة فقال اركبها ويلك في الثانية أو الثالثة
قال أبو عمر قد ذكرنا في التمهيد الاختلاف على أبي الزناد في إسناد هذا الحديث والاختلاف أيضا في ألفاظه عن مالك وغيره
واختلف العلماء في ركوب الهدي الواجب والتطوع
فمذهب أهل الظاهر إلى أن ركوبه جائز من ضرورة وغير ضرورة
وبعضهم أوجب ذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم اركبها
240

وذهبت طائفة من أهل الحديث [إلى] أنه لا بأس بركوب الهدي على كل حال على ظاهر هذا الحديث
والذي ذهب إليه مالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم وأكثر الفقهاء كراهية ركوب الهدي من غير ضرورة
وكذلك كره مالك شرب لبن البدنة وإن كان بعد ري فصيلها قال فإن فعل ذلك فلا شيء عليه
وقال أبو حنيفة والشافعي إن نقصها الركوب أو شرب لبنها فعليه قيمة ما شرب من لبنها وقيمة ما نقصها الركوب
وحجة من ذهب هذا المذهب أن ما خرج لله فغير جائز الرجوع في شيء منه ولا الانتفاع فإن اضطر إلى ذلك جاز له لحديث جابر في ذلك
حدثناه عبد الله بن محمد قال حدثني محمد بن بكر قال حدثني أبو داود قال حدثني أحمد بن حنبل قال حدثني يحيى بن سعيد عن بن جريج قال أخبرني أبو الزبير قال سألت جابر بن عبد الله عن ركوب الهدي فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا
وحجة مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أذن في ركوب الهدي عند الحاجة إليه كان ذلك منه بيانا أن ذلك جائز فيما يخرج لله ولو وجب في ذلك شيء لبينه صلى الله عليه وسلم فهو يبين عن الله تعالى مراده وقد سكت عن إيجاب شيء من ذلك وما سكت عن ذلك فهو عفو منه والذمة بريئة إلا بيقين
وأما قوله ويلك فمخرجه الدعاء عليه إذ أبى من ركوبها في أول مرة وقال له إنها بدنة وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أنها بدنة فكأنه قال له الويل لك في مراجعتك أيامي فيما لا تعرف وأعرف
وكان الأصمعي يقول ويلك كلمة عذاب وويحك كلمة رحمة
وذكر مالك في آخر هذا الباب
808 - عن هشام بن عروة أن أباه قال إذا اضطررت إلى بدنتك فاركبها ركوبا غير فادح وإذا اضطررت إلى لبنها فاشرب بعد ما يروى فصيلها فإذا نحرتها فانحر فصيلها معها
241

قال أبو عمر قول عروة حسن جدا يؤيده الأثر والنظر
809 - مالك عن عبد الله بن دينار أنه كان يرى عبد الله بن عمر يهدي في الحج بدنتين بدنتين وفي العمرة بدنة بدنة قال ورأيته في العمرة ينحر بدنة وهي قائمة في دار خالد بن أسيد وكان فيها منزله قال ولقد رأيته طعن في لبة بدنته حتى خرجت الحربة من تحت كتفها
قال أبو عمر في هذا الخبر من الفقه أن للإنسان أن يتطوع من الهدي بما شاء ويسوق منه ما شاء
وقد ساق رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته مائة بدنة وجعلها بينة وبين علي (رضي الله عنه)
وكان يضحي بكبشين
وأما نحره بدنه قائمة فهي السنة تنحر البدن قياما لقول الله (عز وجل) * (فاذكروا اسم الله عليها صواف) * [الحج 36] والصواف التي قد صفت قوائمها ومن قرأ (صوافنا) فإنه يريد قائمة على ثلاث قوائم ومن قرأ (صوافي) أراد خالصة لله
والاختيار عند الجميع أن لا تنحر البدنة إلا قائمة إلا أن تمتنع من ذلك وما أظنهم - والله أعلم - استحبوا نحرها قياما إلا لقوله (عز وجل) * (فإذا وجبت جنوبها) * [الحج 36] أي سقطت على جنوبها إلى الأرض
242

وأما نحره في منزله في دار خالد بن أسيد فإن مكة كلها منحر ينحر منها حيث شاء في العمرة ومنى منحر في الحج
وأما طعنه في لبه بدنه فهو موضع النحر
ولا خلاف أن نحر الإنسان بيده لما ينحر من هديه وذبحه لما يذبح منه أفضل من أن يوليه غيره عند جماعة أهل العلم لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر بعض هديه بيده وهو الأكثر وولى عليا نحر سائره وكان قد أشركه في هديه
وكان مالك (رحمه الله) يشدد في أن لا يذبح ولا ينحر للمرء غيره ضحيته ولا بدنته إلا أن يكون من يريد كفايته ويقوم له مقام نفسه
حدثني محمد بن إبراهيم قال حدثني محمد بن معاوية
وحدثني عبد الله بن محمد قال حدثني حمزة بن محمد قالا حدثني أحمد بن شعيب قال أخبرنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثني يحيى بن سعيد قال حدثني جعفر بن محمد قال حدثني أبي قال أتينا جابر بن عبد الله فحدثني أن جماعة الهدي التي أتى بها علي من اليمن والذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم مائة فنحر النبي صلى الله عليه وسلم منها بيده ثلاثا وستين وأعطى عليا فنحر ما غبر وأشركه في هديه ثم أمر من كل بدنه ببضعة فجعلت في قدر فأكلا من لحمها وشربا من مرقها
قال أبو عمر أما خروج الحربة من تحت كتف البدنة فدال على قوة عبد الله بن عمر (رضي الله عنه) وكان هو وأخوه عبيد الله بن عمر يشبهان أباهما في القوة والجلد وعظم الخلق
810 - مالك عن يحيى بن سعيد أن عمر بن عبد العزيز أهدى جملا في حج أو عمرة
قال أبو عمر هذا والله أعلم لما بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى جملا كان لأبي جهل بن هشام في حجة أو عمرة تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم وامتثالا لفعله
وهذان الخبران يدلان على أن هدي الناس كان في النوق أكثر منه في الجمال
وكذلك رأى بعض العلماء واستحب أن تكون البدنة أنثى وذلك عند الجمهور منهم لأن
243

اسمها عندهم مشتق من عظم البدن وقد يسمون البقرة بدنة لأنها أعظم بدنا من الشاة
811 - مالك عن أبي جعفر القارئ أن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي أهدى بدنتين إحداهما بختية
وهذا الخبر ليس فيه للقول مدخل لأن ما مضى يوضحه ويغني عن القول فيه ولا خلاف أن البدن في الهدايا أفضل من البقر والغنم وإنما الخلاف في الضحايا
218 - مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول إذا نتجت الناقة فليحمل ولدها حتى ينحر معها فإن لم يوجد له محمل حمل على أمة حتى ينحر معها
قال أبو عمر لا يختلف العلماء أن الناقة إذا قلدت وهي حامل ثم ولدت أن ولدها حكمه في النحر كحكمها لأن تقليدها إخراج لها من ملك مقلدها لله تعالى وكذلك إذا نذر نحرها وهي حامل ولم يقلدها
وقول بن عمر في هذه المسألة يدل على أنه لا يرى ركوب البدنة إلا من ضرورة لأنه لم يبح حمل ولدها عليها إلا إذا لم يوجد له محمل غيره ولما لزمه للهدي لزمه حمله حتى يبلغه محله فكذلك يلزمه أن يصنع بالفصيل في حمله على غير أمه إذا قدر فإن لم يقدر لم يكلف أن يحمله على رقبته وكان له أن يحمله على أمه كما يحمل نفسه عليها وبالله توفيقنا
((46 - باب العمل في الهدي حين يساق))
813 - مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا أهدى هديا من المدينة قلده وأشعره بذي الحليفة يقلده قبل أن يشعره وذلك في مكان
244

واحد وهو موجه للقبلة يقلده بنعلين ويشعره من الشق الأيسر ثم يساق معه حتى يوقف به مع الناس بعرفة ثم يدفع به معهم إذا دفعوا فإذا قدم منى غداة النحر نحره قبل أن يحلق أو يقصر وكان هو ينحر هديه بيده يصفهن قياما ويوجههن إلى القبلة ثم يأكل ويطعم
قال أبو عمر التقليد في الهدي إعلام بأنه هدي والنية مع التقليد تغني عن الكلام فيه وكذلك الشعار والتحليل عند مالك
814 - مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا طعن في سنام هديه وهو يشعره قال بسم الله والله أكبر
قال أبو عمر أما قوله كان إذا أهدى هديا من المدينة قلده وأشعره بذي الحليفة فهي السنة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الحديبية فلما كان بذي الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم فإن كان الهدي من الإبل والبقر فلا خلاف أنه يقلد نعلا أو نعلين أو ما يشبه ذلك ممن يجد النعال
قال مالك يجزئ النعل الواحد في التقليد
وكذلك هو عند غير
وقال الثوري يقلد نعلين وفم القربة يجزئ
واختلفوا في تقليد الغنم
فقال مالك وأبو حنيفة لا تقلد الغنم
وقال الشافعي تقلد البقر والإبل النعال وتقلد الغنم الرقاع
وهو قول أبي ثور وأحمد وإسحاق وداود لحديث الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى إلى البيت مرة غنما فقلدها
وقال مالك لا ينبغي أن يقلد الهدي إلا عند الإهلال يقلده ثم يشعره ثم يصلي ثم يحرم
245

وقال أبو حنيفة وأصحابه لا يقلد إلا هدي متعة أو قران أو تطوع
وجائز إشعار الهدي قبل تقليده وتقليده قبل إشعاره وكل ذلك قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم
وأما توجهه إلى القبلة في حين التقليد فإن القبلة على كل حال يستحب استقبالها بالأعمال التي يراد بها الله عز وجل - تبركا بذلك واتباعا للسنة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أكل ذبيحتنا واستقبل قبلتنا الحديث
فهذا في الصلاة وتدخل فيه الذبيحة
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستقبل بذبيحته القبلة ويقول * (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا) * [الأنعام 79]
وكره بن عمر وبن سيرين أن يؤكل من ذبيحة من لم يستقبل بذبيحته القبلة
وأباح أكلها جمهور العلماء منهم إبراهيم والقاسم
وهو قول الثوري والأوزاعي وأبي حنيفة والشافعي
ويستحبون مع ذلك أن يستقبلوا القبلة وقد روي في الحديث المرفوع خير المجالس ما استقبل به القبلة فما ظنك بما هو أولى بذلك
وأما تقليده بنعلين فقد روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم
وإنما التقليد علامة للهدي كأنه إشهار منه أنه أخرج ما قلده من ملكه لله (عز وجل) وجائز أن يقلد بنعل واحدة ونعلان أفضل إن شاء الله لمن وجدهما
وكذلك الإشعار أيضا علامة للهدي وجائز الإشعار في الجانب الأيمن وفي الجانب الأيسر
246

وقد روي عن بن عمر أنه كان ربما فعل هذا وربما فعل هذا إلا أن أكثر أهل العلم يستحبون الإشعار في الجانب الأيمن لحديث بن عباس في ذلك
حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا أبو بكر محمد بن بكر قال حدثني أبو داود قال حدثني أبو الوليد الطيالسي وحفص بن عمر قالا حدثني شعبة عن قتادة عن أبي حسان عن بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بذي الحليفة ثم دعا ببدنه فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن ثم سلت الدم عنها وقلدها بنعلين
وممن استحب الإشعار في الجانب الأيمن الشافعي وأبو يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق وأبو ثور
وكان مالك يقول يشعر من الجانب الأيسر على ما رواه عن نافع عن بن عمر
وكذلك رواه عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر
ورواه معمر عن الزهري عن سالم عن بن عمر أنه كان يشعر في الشق الأيمن حين يريد أن يحرم
وقال مجاهد أشعر من حيث شئت
وكان أبو حنيفة ينكر الإشعار ويكرهه ويقول إنما كان ذلك قبل النهي عن المثلة
وهذا الحكم لا دليل عليه إلا التوهم والظن ولا تترك السنن بالظنون
وأما نحره بمنى فهو المنحر عند الجميع في الحج
وأما تقديمه النحر قبل الحلق فهو الأولى عند الجميع وسيأتي في التقديم والتأخير فيما يفعل يوم النحر من عمل الحج وما للعلماء في ذلك من المذاهب في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله
وأما صفة لبدنه فمأخوذ من قول الله (عز وجل) * (فاذكروا اسم الله عليها) * [الحج 36] وقد تقدم القول في ذلك
247

وأما أكله وإطعامه من الهدي فيدل على أن ذلك كان هدي تطوع قد بلغ محله امتثالا لقول الله (عز وجل) * (فكلوا منها وأطعموا) * [الحج 36] وهذا عند الجميع في الهدي التطوع إذا بلغ محله وفي الضحايا وسيأتي القول فيما يؤكل من الهدي وما لا يؤكل منه ومذاهب العلماء في ذلك في موضعه إن شاء الله
وأما قوله عند نحره بسم الله والله أكبر فلقول الله (عز وجل) * (فاذكروا اسم الله عليها) * [الحج 36] ومن أهل العلم من يستحب التكبير مع التسمية كما كان يقول بن عمر وعساه أن يكون امتثل قول الله (عز وجل) * (ولتكبروا الله على ما هداكم) * [البقرة 185]
ومنهم من كان يقول التسمية تجزي ولا يزيد على بسم الله وأحب إلي أن يقول بسم الله الله أكبر
وقد روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في ذبح ضحيته وهو قول أكثر أهل العلم
مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول الهدي ما قلد وأشعر ووقف به بعرفة
قال أبو عمر قد تقدم في الحديث قبل هذا عنه أنه كان يسوق هديه حتى يقفه بعرفة مع الناس ثم يدفع به معهم إذا دفعوا فإذا قدم منى نحره
ووقف الهدي بعرفة عند مالك وأصحابه لمن اشترى الهدي بمكة ولم يدخله من الحل واجب لا يجزئ عندهم غير ذلك على قول بن عمر الهدي ما قلد وأشعر ووقف به على عرفة
قال مالك من اشترى هديه بمكة أو بمنى ونحره ولم يخرجه إلى الحل فعليه البدن فإن كان صاحب الهدي قد ساقه من الحل أستحب له أن يقفه بعرفة فإن لم يقفه فلا شيء عليه وحسبه في الهدي أن يجمع بين الحل والحرم
وقد كان سعيد بن جبير يقول نحو قول بن عمر لا يصلح من الهدي إلا ما عرف وهو قول مالك
وأما عائشة فكانت تقول إن شئت فعرف وإن شئت فلا تعرف
وروي ذلك عن بن عباس
وبه قال الشافعي والثوري وأبو حنيفة وأبو ثور
وقال الشافعي وقف الهدي بعرفة سنة لمن شاء إذا لم يسقه من الحل
248

وقال أبو حنيفة ليس بسنة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ساق الهدي من الحل لأن مسكنه كان خارج الحرم
وقول مالك والشافعي أولى لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ساق هديه من الحل
وقد أجمعوا أن التقليد سنة فكذلك التعريف لمن لم يأت بهديه من الحل
وأما حجة مالك في إيجاب ذلك فلأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدخل هديه من الحل وقال خذوا عني مناسككم والهدي إذا وجب باتفاق فواجب أن لا يجزئ إلا بمثل ذلك أو سنة توجب غير ذلك والفعل منه صلى الله عليه وسلم عند المالكيين على الوجوب في مثل هذا
وقد اجمعوا أن الحاج والمعتمر يجمعان بين الحل والحرم في عمل الحج والعمرة يكن له الهدي
قالوا وإنما سمي الهدي هديا لأنه يهدى من الحل إلى الحرم كما يهدى من ملك ملكه إلى الله (عز وجل)
قال أبو عمر أصحاب الشافعي ومن تابعه يقولون اسم الهدي مشتق من الهدية فإذا أهدي إلى مساكين الحرم فقد أجزأ من أي موضع جاء
وروى معمر عن أيوب عن نافع عن [بن] عمر قال إنما الهدي ما قلد وأشعر ووقف به بعرفة وأما ما اشتري بمنى فهو جزور
وعن بن جريج عن عطاء قال عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبدن
وكان بن سيرين يكره شراء البدنة إذا لم توقف بعرفة
وروى الثوري وبن عيينة عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت ما استطعتم فعرفوا به وما لم تستطيعوا فاحبسوه واعقلوه بمنى
مالك عن نافع أن بن عمر كان يجلل بدنه القباطي والأنماط والحلل ثم يبعث بها إلى الكعبة فيكسوها إياها
مالك أنه سأل عبد الله بن دينار ما كان عبد الله بن عمر يصنع بجلال بدنه حين كسيت الكعبة هذه الكسوة قال كان يتصدق بها
مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان لا يشق جلال بدنه ولا يجللها حتى يغدو من منى إلى عرفة
249

قال أبو عمر كانت الكعبة تكسى من زمن تبع
ويقال إن أول من كسى الكعبة تبع الحميري
وكسوتها من الفضائل المتقرب بها إلى الله (عز وجل) ومن كرائم الصدقات فلهذا كان بن عمر يكسو بدنه الجلل والقباطي والحلل فيجمل بذلك بدنه لأن ما كان لله تعالى فتعظيمه وتجميله من تعظيم شعائر الله تعالى ثم يكسوها الكعبة فيحصل على فضلين وعملين من أعمال البر رفيعين فلما كسا الأمراء الكعبة وحالوا بين الناس وكسوتها تصدق بن عمر حينئذ بجلال بدنه لأنه شيء أخرجه لله تعالى من ماله وما خرج لله تعالى فلا عودة فيه
وأما تركه تجليل بدنه إلى يوم التروية في حين رواحه إلى عرفة فذلك والله أعلم لأنه شيء قصد به التزيين والجمال كما يتزين باللباس في العيدين وينحر البدن في مجتمع الناس وذلك ليقتدي به الناس 815 - مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول في الضحايا والبدن الثني فما فوقه
قال أبو عمر اختلف العلماء فيما لا يجوز من أسنان الضحايا والهدايا بعد إجماعهم أنها لا تكون إلا من الأزواج الثمانية
وأجمعوا أن الثني فما فوقه يجزئ منها كلها
وأجمعوا أنه لا يجزئ الجزع من المعز في الهدايا ولا في الضحايا لقوله (عليه السلام) لأبي بردة لم يجز عن أحد بعدك
واختلفوا في الجذع من الضأن فأكثر أهل العلم يقولون يجزئ الجذع من الضأن هديا وضحية
وهو قول مالك والليث والثوري وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وأبي ثور
وكان بن عمر يقول لا يجزئ في الهدي إلا الثني من كل شيء
وقال عطاء الجذع من الإبل يجزئ عن سبعة
وروي عن أنس والحسن البصري أن الجذع يجزئ عن ثلاثة
250

مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يقول لبنيه يا بني لا يهدين أحدكم من البدن شيئا يستحي أن يهديه لكريمه فإن الله أكرم الكرماء وأحق من اختير له
قال أبو عمر لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سئل عن أفضل الرقاب أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها كان ذلك ندبا إلى اختيار ما يهدى إلى الله (عز وجل) ويبتغي به مرضاته إن (شاء الله) وبالله التوفيق
((47 - باب العمل في الهدي إذا عطب أو ضل))
816 - مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن صاحب هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يا رسول الله كيف أصنع بما عطب من الهدي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم كل بدنة عطبت من الهدي فانحرها ثم ألق قلادتها في دمها ثم خل بينها وبين الناس يأكلونها
قال أبو عمر روى هذا الحديث مسندا في غير الموطأ
حدثناه محمد بن عبد الله بن حكم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أبو خليفة قال حدثنا محمد بن كثير قال حدثنا سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه عن ناجية الأسلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معه بهدي قال إن عطب فانحره ثم أصبغ نعله في دمه ثم خل بينه وبين الناس
وهكذا رواه جماعة عن هشام بن عروة منهم بن عيينة ووهب لم يزيدوا فيه على قوله وخل بينها وبين الناس يأكلونها
وروى بن عباس هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فزاد فيه لا تأكل منها أنت ولا أهل رفقتك
حدثناه سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا بن زيد قال حدثنا أبو
251

التياج عن موسى بن سلمة قال خرجت أنا وسنان بن سلمة معتمرين قال وانطلق سنان معه ببدنة يسوقها فأزحفت عليه بالطريق فعيي بشأنها إن هي أبدعت كيف يأتي بها فقال لئن قدمت البلد لأستحفين عن ذلك قال فأضحيت لما نزلنا البطحاء قال انطلق إلى بن عباس نتحدث إليه قال فذكر له شأن بدنته فقال على الخبير سقطت بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بست عشرة بدنة مع رجل وأمره فيها قال فمضى ثم رجع فقال يا رسول الله كيف أصنع بما أبدع علي منها قال انحرها ثم اصبغ نعليها في دمها ثم اجعله على صفحتها ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك
ورواه شعبة وسعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سنان بن سلمة عن بن عباس أن ذؤيبا أبا قبيصة الخزاعي حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث معه بالبدن ثم يقول إذا عطب منها شيء وخشيت عليه موتا فانحره ثم اغمس نعله في دمه ثم اضرب به صفحته ولا تطعم منه ولا أحد من أهل رفقتك
قال أبو عمر لا يوجد هذا اللفظ إلا في حديث بن عباس قوله ولا أحد من أهل رفقتك وأكثر الفقهاء على خلافه ومن جهة النظر فإن أهل رفقته وغيرهم في ذلك سواء بدليل قوله في حديث ناجية الأسلمي خل بينها وبين الناس فيأكلونها لم يخص أهل رفقته من غيرهم
ولا أعلم أحدا قال بهذه الزيادة إلا أبا ثور وداود قالا لا يأكل منها هو ولا أحد من أهل رفقته
قال أبو عمر من قال بهذا قال هي زيادة حافظ يجب العمل بها وكأنه جعل أهل رفقته في حكمه لما ندب إليه الرفيق من مواساة رفيقه فزاده وإلا فالقول ما قاله الجمهور لظاهر حديث ناجية خل بينها وبين الناس وهذا على عمومه
ولا خلاف أنه يصنع بالهدي التطوع إذا عطب قبل محله ما في حديث ناجية وحديث بن عباس من غمس نعله في دمه وضربه به صفحته والتخلية بينه وبين الناس وإنما ذلك والله أعلم ليكون علامة أنها مباح أكلها وأنها لله فجعلها خارجة عن ملك صاحبها
252

وأما قوله في حديث مالك (كيف أصنع بما عطب من الهدي) فإن محمل هذا عند جماعة العلماء على الهدي التطوع لأنه هدي بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في حديث ناجية وبن عباس فهو هدي تطوع لا يجوز لأحد ساقه أكل شيء منه أقامه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقام نفسه بما يلتزم محله ليأكله قبل وجوب أكله قطعا للذريعة في ذلك
817 - مالك عن بن شهاب عن سعيد بن المسيب أنه قال من ساق بدنة تطوعا فعطبت فنحرها ثم خلى بينها وبين الناس يأكلونها فليس عليه شيء وإن أكل منها أو أمر من يأكل منها غرمها
مالك عن ثور بن زيد الديلي عن عبد الله بن عباس مثل ذلك
818 - مالك عن بن شهاب أنه قال من أهدى بدنة جزاء أو نذرا أو هدي تمتع فأصيبت في الطريق فعليه البدل
مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه قال من أهدى بدنة ثم ضلت أو ماتت فإنها إن كانت نذرا أبدلها وإن كانت تطوعا فإن شاء أبدلها وإن شاء تركها
مالك أنه سمع أهل العلم يقولون لا يأكل صاحب الهدي من الجزاء والنسك
قال أبو عمر أما الهدي التطوع إذا بلغ محله فلا خلاف بين العلماء في أنه يأكل منه صاحبه إن شاء كسائر الناس لأنه في حكم الضحايا وإنما اختلفوا فيمن أكل من الهدي الواجب أو أكل من الهدي التطوع قبل أن يبلغ محله
فكان مالك والأوزاعي والشافعي يقولون في الهدي التطوع يعطب قبل محله أن على صاحبه أن يخلي بينه وبين الناس يأكلونه ولا يأمر أحدا يأكل منه فقيرا ولا غنيا يتصدق ولا يطعم وحسبه والتخلية بينه وبين الناس
وكذلك قال أبو حنيفة إلا أنه قال يتصدق به أفضل من أن يتركه للسباع فتأكله
وأما ما يطمئن الآكل من الهدي الذي لا يجب له أن يأكل منه قد اختلف فيه أيضا
253

فكان مالك يقول إن أكل منه أبدله كله
وروى بن وهب عن الليث بن سعد في الذي يأكل من هدي ليس له أن يأكل منه قال أرى أن يتصدق بقدر ما أكل طعاما يطعمه المساكين ولا أرى عليه غير بدله
قال بن وهب خالفه مالك فقال إن أكل منه شيئا ولو نصفه وآخره أبدله كله
وبه يأخذ بن وهب
وكذلك قال بن القاسم عن مالك إن أكل منه فعليه بدله كله كان الذي أكل منه قليلا أو كثيرا
قال بن القاسم إن أكل من الهدي الذي نذر للمساكين فعليه أن يطعم قيمة ما أكل للمساكين ولا يكون عليه البدل
وقال بن حبيب إن أكل مما لا يجب أن يأكل منه فعليه ثمن ما أكل طعاما يتصدق به
وهو قول الثوري وأبي حنيفة والشافعي وأبي ثور وأحمد وإسحاق
وروي عن علي بن أبي طالب وبن مسعود وبن عباس في الهدي يعطب قبل محله أن صاحبه إن أكل منه أو أمر عزم
وعن بن المسيب وجماعة من التابعين مثل ذلك إلا أنهم ليس عندهم تفسير ما يغرم ما أكل أو أتلف
وقالت طائفة منهم عطاء والزهري إن عليه البدل إن فعل شيئا من ذلك
ومن قال عليه البدل أوجب عليه غرم الجميع
وعلى هذين القولين اختلاف الفقهاء على ما قدمنا
واختلفوا في الهدي الذي يؤكل منه
فقال مالك يؤكل من كل الهدي إلا جزاء الصيد ونذر المساكين وفدية الأذى وهدي التطوع الذي يعطب في الطريق قبل أن يبلغ محله
وقال الثوري يؤكل من هدي المتعة والإحصار والوصية والتطوع إذا بلغ محله لا يؤكل من غيرها
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد لا يؤكل من الهدي إلا هدي المتعة وهدي التطوع يعنون إذا بلغ محله وهدي القرآن وأما غير ذلك فلا يؤكل منه شيء
254

وقال الشافعي لا يؤكل من الهدي كله إلا التطوع خاصة إذا بلغ محله وكل ما كان واجبا من الهدي فلحمه كله للمساكين وجلده وكذلك جله والنعلان اللتان عليه
قال وكذلك عندي هدي المتعة لأنه واجب فسبيله سبيل جزاء الصيد وهدي الإفساد وهدي القرآن فكل ما وجب عليه فلا يأكل منه شيئا
وقال أبو ثور مثله
ذكر بن أبي شيبة قال حدثنا بن علية قال حدثنا يزيد بن زريع عن ليث عن عطاء وطاوس ومجاهد أنهم كانوا يقولون لا يؤكل من الفدية ولا من جزاء الصيد
عبد الرزاق عن بن جريج عن عطاء قال لا يأكل من جزاء الصيد ولا من نذر المساكين ولا من الكفارات ويأكل مما سوى ذلك فإن كان الهدي واجبا وعطب قبل محله فإن صاحبه يأكله إن شاء أو ما شاء منه ويطعم منه من شاء ما شاء لأن عليه بدله
وعلى هذا جمهور العلماء ومنهم من أجاز له بيع لحمه وإن يستعين به في البدل
وكره ذلك مالك لأنه بيع شيء أخرجه لله (عز وجل)
ومن أجاز بيع لحمه على جواز أكله
وقد كان عطاء يبيح البيع في ذلك ثم رجع عنه
وروى سفيان بن عيينة عن عبد الكريم عن عكرمة عن بن عباس قال إذا أهديت هديا واجبا فعطب فانحره فإن شئت فكل وإن شئت فأهد وإن شئت فتقول به في هدي آخر
وأما قول بن عمر (أنه من أهدى بدنة ثم ضلت أو ماتت فإنها أن كانت نذرا أبدلها وإن كانت تطوعا فإن شاء أبدلها وإن شاء تركها)
قال أبو عمر لا خلاف في هذا بين العلماء وأصلهم فيه الصلاة النافلة لا تقضى لمن غلب عليها ما يفسدها والنذر والصلاة الفريضة ما غلبه عليها من الحدث وغيره لا يسقطها
قال عبد الرزاق عن بن جريج عن عطاء قال أما النذر فإن كان للمساكين فكان بمنزلة جزاء الصيد وإن قال علي بدنة أو هدي ولم يذكر فيه شيئا فهو هدي والمتعة سواء ليهد منهما لمن هو غني عنهما من صديق أو ذي رحم وليأكل هو وأهله وليتصدق ولينتفع بجلودها ولا يبع
255

قال وهل للمتعة لهدي المحصر فيما يؤكل منه سواء
واختلفوا في هدي التطوع إذا عطب وقد دخل الحرم
فقال منهم قائلون إذا دخل الحرم فقد بلغ محله والحرم كله ومكة ومنى سواء لأنه حرم كله
وأجمعوا أن قوله (عز وجل) * (ثم محلها إلى البيت العتيق) * [الحج 33] لم يرد به الذبح ولا النحر في البيت العتيق لأن البيت ليس بموضع للدماء لأن الله تعالى قد أمر بتطهيره وإنما أراد بذكره البيت العتيق مكة ومنى
وكذلك قال صلى الله عليه وسلم مكة كلها منحر يعني في العمرة ومنى كلها منحر يعني في الحج
فالحرم كله مكة ومنى لأن ذلك كله حرم فإذا عطب الهدي التطوع في الحرم جاز لصاحبه أن يأكل منه
وإذا كان هديا واجبا وبلغ الحرم وعطب فقد جزى عنه لأن العلة في سياقة الهدي إطعام مساكين الحرم
وهذا كله قول الشافعي وعطاء وكثير من العلماء
وروى بن جريج وحبيب المعلم وغيرهما عن عطاء قال كل هدي بلغ الحرم فعطب فقد أجزى
وقد اتفق العلماء على أن قتل الصيد بمكة ومنى وسائر الحرم سواء في وجوب الجزاء
وقال صلى الله عليه وسلم في مكة لا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها ولا يعضد شجرها
وأجمعوا أن الحرم كله في ذلك حكمه حكمها
وقد قال مالك من أحرم من الميقات قطع التلبية إذا دخل الحرم ومن قوله (إن الحرم لا يدخل إلا بإحرام) فسواء في ذلك بين الحرم ومكة إلا أن مذهبه فيما
256

عطب أو نحر من الهدي قبل بلوغ مكة أنه لا يجزئ قوله تعالى * (ثم محلها إلى البيت العتيق) * [الحج 33]
واحتج له إسماعيل بن إسحاق القاضي بإجماعهم على أن الطواف والسعي لا يكونان إلا بمكة وأن رمي الجمار لا يكون إلا بمنى وكذلك النحر لا يكون إلا فيهما
((48 - باب هدي المحرم إذا أصاب أهله))
819 - مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبا هريرة سئلوا عن رجل أصاب أهله وهو محرم بالحج فقالوا ينفذان يمضيان لوجههما حتى يقضيا حجهما ثم عليهما حج قابل والهدي
قال وقال علي بن أبي طالب وإذا أهلا بالحج من عام قابل تفرقا حتى يقضيا حجهما
820 - مالك عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول ما ترون في رجل وقع بامرأته وهو محرم فلم يقل له القوم شيئا فقال سعيد إن رجلا وقع بامرأته وهو محرم فبعث إلى المدينة يسأل عن ذلك فقال بعض الناس يفرق بينهما إلى عام قابل فقال سعيد بن المسيب لينفذا لوجههما فليتما حجهما الذي أفسداه فإذا فرغا رجعا فإن أدركهما حج قابل فعليهما الحج والهدي ويهلان من حيث أهلا بحجهما الذي أفسدا ويتفرقان حتى يقضيا حجهما
قال مالك يهديان جميعا بدنة بدنة
قال أبو عمر قال الله (عز وجل) * (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) * [البقرة 197]
وأجمع علماء المسلمين على أن وطء النساء على الحاج حرام من حين يحرم حتى يطوف طواف الإفاضة وذلك لقوله تعالى * (فلا رفث) * [البقرة 197] والرفث في هذا الموضع الجماع عند جمهور أهل العلم بتأويل القرآن وقد قيل غير ذلك
257

والصواب عندهم ما ذكرت لك في تأويل الرفث في هذه الآية
وأجمعوا على أن من وطئ قبل الوقوف بعرفة فقد أفسد حجه ومن وطئ من المعتمرين قبل أن يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة فقد أفسد عمرته وعليه قضاء الحج والهدي قابلا وقضاء العمرة والهدي في كل وقت يمكنه ذلك
واختلفوا فيمن وطئ أهله بعد عرفة وقبل رمي جمرة العقبة وفيمن وطئ قبل الإفاضة أيضا وسنذكر ذلك فيما بعد إن شاء الله
فأما اختلافهم فيمن وطئ بعد عرفة وقبل أن يرمي الجمرة فقال مالك في موطئه في رجل وقع بامرأته في الحج ما بينه وبين أن يدفع من عرفة ويرمي الجمرة إنه يجب عليه الهدي وحج قابل
قال فإن كانت إصابته أهله بعد رمي الجمرة فإنما عليه أن يعتمر ويهدي وليس عليه حج قابل
وروى بن أبي حازم وأبو مصعب عن مالك أنه رجع عن قوله في الموطأ فيمن وطئ بعد الوقوف بعرفة وقبل رمي الجمرة أن حجه يفسد بوطئه ذلك وقال ليس عليه إلا العمرة والهدي وحجه تام كمن وطئ بعد رمي الجمرة سواء
قال أبو مصعب إن وطئ بعد طلوع الفجر من ليلة النحر فعليه الفدية والهدي وإن كان قبل طلوع الفجر فقد فسد حجه
وفي الأسدية لابن القاسم إن يطأ بعد مغيب الشمس يوم النحر فحجه تام رمى الجمرة أو لم يرم
وقد تقصينا الاختلاف في ذلك عن مالك وأصحابه في كتب اختلافهم
وروى بن وهب وغيره عن مالك في الموطأ أيضا قال مالك في الموطأ من أفسد حجه أو عمرته بإصابة نساء فإنه يهل من حيث كان أهل بحجه الذي أفسد أو عمرته إلا أن يكون أهل من أبعد من الميقات فليس عليه أن يهل من الميقات
وقال بن القاسم وأشهب عن مالك في الذي يفسد حجه بإصابة أهله يحجان من قابل ويفترقان إذا أحرما
قال فقلت له ولا يؤخران ذلك حتى يأتي الموضع الذي أفسدا فيه حجهما فقال لا وهذا الذي سمعت
قال أشهب فقلت له مما افتراقهما أيفترقان في البيوت أو في المناهل لا
258

يجتمعان في منهل قال لا يجتمعان في منزل ولا يتسايران ولا في الجعفة ولا بمكة ولا بمنى
وقال الثوري إذا جامع المحرم امرأته أفسد حجه وحجها وعليه بدنة وعليها أخرى فإن لم تكن بدنة أخرى كل واحد منهما شاة ثم يمضيان في حجهما فإذا فرغا من حجهما حلا وعليهما الحج من قابل ولا ينزلان بذلك المكان الذي تواقعا فيه إلا وهما مهلان ثم يفترقا من ذلك المكان ولا يجتمعان حتى يفرغا من حجهما لا يكونان في محمل ولا فسطاط
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إذا جامع المحرم امرأة قبل الوقوف بعرفة كان على كل واحد منهما شاة يذبحها ويتصدقا بلحمها ويقضيا حجهما مع الناس وعليهما الحج من قابل ولا يفترقان فإن جامع بعد الوقوف بعرفة فعليه بدنة ويجزئه شاة ولا حج عليه
وقال الشافعي الجماع يفسد الإحرام ما كان إذا جاوز الختان فإذا جامع المفرد أو القارن فعليه أن يمضي في إحرامه حتى يفرغ ثم يحج قابلا بمثل إحرامه الذي أفسد حاجا قارنا أو معتمرا ويهدي بدنة تجزئ عنهما معا وإذا أهلا بقضاء حجهما أهلا من حيث أهلا أولا وإن كان أبعد من الميقات فإن كانا أهلا بالإحرام الذي أفسداه من ميقاتهما أحرما من ميقاتهما فإن جاوزاه أهديا دما
وقال أبو ثور مثل قول الشافعي إلا أنه قال على المرأة إلا إن كانت طاوعته دم مثل ما على الرجل ولا يفترقان
قال أبو عمر تلخيص أقوالهم أن مالكا ذهب إلى أن من وقع بأهله بعد الوقوف بعرفة وقبل رمي جمرة العقبة فقد فسد حجه
وهو قول الأوزاعي والشافعي وأبي حنيفة
وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري إذا وطئ بعد الوقوف بعرفة فعليه بدنة وحجه تام
وقال مالك يجزئ الواطئ شاة كسائر الهدايا
وهو قول أبي حنيفة
وقال الشافعي لا يجزئ الواطئ إلا بدنة أو سبع من الغنم
وقال مالك الذي يفسد الحج والعمرة التقاء الختانين وأن لم يكن ماء دافق
قال ولو قبل امرأته ولم يكن من ذلك ماء دافق لم تكن عليه في القبلة إلا الهدي
259

هذا كله قوله في الموطأ وجملة مذهبه عند أصحابه أنه من لمس فقبل فأنزل أو تابع النظر فأنزل فقد فسد حجه
وقال الأوزاعي إن لمس فأنزل أو وطئ دون الفرج فأنزل فقد أفسد حجه
وقال عبد الله بن الحسن إذا لمس فأنزل فقد أفسد حجه
قال عبيد وإن نظر فأنزل لم يفسد حجه
وقال الشافعي الذي يفسد الحج من الجماع ما يوجب الحد وذلك أن تغيب الحشفة ويلتقي الختانان لا يفسده شيء غير ذلك
قال وإن جامع دون الفرج فأحب إلي أن ينحر بدنة ويجزئه شاة
قال وكذلك كل ما تلذذ من امرأته من قبلة أو مباشرة أو غيرها أجزأه الدم
قال ويكفي المرأة إذا تلذذت بالرجل كما يكفي الرجل
وبذلك كله قال أبو ثور
وقال أبو حنيفة لا يفسد الحج إلا أن ينزل
قال أبو عمر حجة من لم ير فساد الحج إلا بالوطء في الفرج القياس على ما أجمعوا عليه من وجوب الحد وعلة من جعل الإفساد في الفرج وفي غير الفرج القياس على ما أجمعوا عليه من الغسل واتفقوا فيمن قبل وهو محرم
قال مالك ليس على من جامع مرارا إلا هدي واحد وعليهما واحد إن طاوعته
وقال أبو حنيفة إن كرر الوطء في مجلس واحد أجزاه هدي واحد وإن كان في مجالس مختلفة فعليه في كل مجلس هدي
وقال محمد بن الحسن يجزئه هدي واحد ما لم يبعد وطؤه الأول
وللشافعي في ذلك ثلاثة أقوال أحدها كقول مالك وهو الأشهر عنه
والآخر عليه في كل وطء هدي
والآخر إن كان قد كفر فعليه هدي آخر مثل قول محمد
واختلفوا فيمن وطئ امرأته ناسيا
فقال مالك سواء وطأ ناسيا أو عامدا فعليه الحج قابل والهدي
وهو قول الشافعي في القديم
وقال في الجديد لا كفارة عليه إذا وطأ ناسيا ولا قضاء
260

من أصحاب الشافعي من قال لا يختلف قوله إنه لا قضاء عليه ولا كفارة كالصيام
قال أبو عمر أحكام الحج في قتل الصيد ولبس الثياب وغير ذلك يستوي فيه الخطأ والعمد فكذلك يجب أن يكون الوطء في الحج والله أعلم
وقال مالك كل نقص دخل الإحرام من وطء أو حلق شعر أو إحصار بمرض فإن صاحبه إذا لم يجد الهدي صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع لا مدخل للإطعام فيه
وقال أبو حنيفة كل جناية وقعت في الإحرام فلا يجزئ فيها إلا الهدي ولا يجوز فيها إلا الصيام ولا الإطعام
وقال الشافعي على الحاج بدنة فإن لم يجد قومت البدنة دراهم وقومت الدراهم طعاما فإن لم يجد صام عن كل مد يوما إلا أن الطعام والهدي لا يجزيه واحد منهما إلا بمكة أو بمنى والصوم حيث شاء
وقال محمد بن الحسن نحو قول الشافعي
وقال مالك من أكره امرأته فعليه أن يحجها من ماله ويهدي عنها كما يهدي عن نفسه وإن طاوعته فعليها أن تحج وتهدي من مالها
وهو قول أبي حنيفة إلا أنه قال وإن أكرهها فإنها تحج من مالها ولا ترجع به على من أكرهها
وقال أصحابه ترجع بكل ما أنفقت على الزوج إذا أكرهها
وقال أبو ثور وأحمد وإسحاق كقول مالك
وقال الشافعي إن طاوعته فعليهما أن يحجا ويهديا بدنة واحدة عنه وعنها لقوله في الصوم إن كفارة واحدة تجزي عنهما
ولم يختلف قوله على الرجل إذا أكرهها أن يحجها ولا شيء عليها
قال أبو عمر قد قال الشافعي في حلال حلق رأس محرم لغير أمره إن على المحرم الفدية ويرجع على الحلال
قال مالك من وطئ امرأته فأفسد حجته فإنهما يحجان من قابل فإذا أهلا تفرقا من حيث أحرما
وقال الثوري والشافعي يفترقا من حيث أفسدا الحجة الأولى
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد لا يفترقان
261

وهو قول أبي ثور
وقال زفر يفترقان
قال أبو عمر الصحابة (رضي الله عنهم) على قولين في هذه المسألة أحدهما يفترقان من حيث أحرما
والآخر يفترقان من حيث أفسدا الحج
وليس على أحد منهم لا يفترقان
واختلف التابعون في ذلك فبعضهم قالوا لا يفترقان
((49 - باب هدي من فاته الحج))
821 - مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال أخبرني سليمان بن يسار أن أبا أيوب الأنصاري خرج حاجا حتى إذا كان بالنازية من طريق مكة أضل رواحله وإنه قدم على عمر بن الخطاب يوم النحر فذكر ذلك له فقال عمر اصنع كما يصنع المعتمر ثم قد حللت فإذا أدركك الحج قابلا فاحجج وأهد ما استيسر من الهدي
822 - مالك عن نافع عن سليمان بن يسار أن هبار بن الأسود جاء يوم النحر وعمر بن الخطاب ينحر هديه فقال يا أمير المؤمنين أخطأنا العدة كنا نرى أن هذا اليوم يوم عرفة فقال عمر اذهب إلى مكة فطف أنت ومن معك وانحروا هديا إن كان معكم ثم احلقوا أو قصروا وارجعوا فإذا كان عام قابل فحجوا وأهدوا فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع
قال مالك ومن قرن الحج والعمرة ثم فاته الحج فعليه أن يحج قابلا ويقرن بين الحج والعمرة ويهدي هديين هديا لقرانه الحج مع العمرة وهديا لما فاته من الحج
قال أبو عمر لا أعلم خلافا بين العلماء قديما ولا حديثا أن من فاته الحج بفوت عرفة لا يكون يخرج من إحرامه إلا بالطواف والسعي بين الصفا والمروة إذا لم يحل بينه وبين ذلك حائل يمنعه من عمل العمرة إلا شيء روي عن جعفر بن
262

محمد بن علي أنه قال من فاتته عرفة وأدرك الوقوف بجمع مع الإمام فقد جزى عنه حجه ولا أعلم أحدا قاله غيره والله أعلم وسيأتي القول في الوقوف بالمزدلفة ومن رآه من فروض الحج في موضعه إن شاء الله
قال أبو عمر الخلاف بين الفقهاء فيمن فاته الحج إنما هو في الهدي خاصة ويدلك على علم مالك بالاختلاف ترجمته هذا الباب هدي من فاته الحج
قال مالك من فاته الحج يحلل بعمل عمرة وعليه الحج من قابل
وهو قول الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور
وحجتهم إجماع الجميع على من حبسه المرض ومنعه حتى فاته الحج أن عليه الهدي
فقال أبو حنيفة وأصحابه من فاته الحج تحلل بعمرة وعليه حج قابل ولا هدي عليه
وهو قول الأوزاعي إلا أنه قال يعمل ما بقي عليه من عمل الحج ويفيض
قال أبو عمر هذا ظاهره على خلاف ما ذكرنا من عمل العمرة وليس كذلك لأنه لا بد من الطواف عنده والسعي والله أعلم
وحجة من أسقط الهدي عن من فاته الحج أن القضاء اللازم بذلك يسقط الهدي عنه لأن الهدي بدل من القضاء وبدل منه
قالوا وإنما وجب على المحصر الهدي لأنه لا يصل إلى البيت فيحل به في وقته
قال والمحرم لا يحل من إحرامه إلا بطواف وسعي أو يهدي لقوله (عز وجل) * (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي) * [البقرة 196] أي لا يحل إلا بهدي إذا منع من الوصول إلى البيت
قال أبو عمر هذا غير لازم عند الحجازيين لأن المحرم عندهم إذا لم يحصره عذر فلا يحله إلا الطواف بالبيت ومن أحصره العذر لم يحتج عند بعضهم إلى هدي وقد مضى القول في ذلك
وأما قول مالك في القارن يفوته الحج فقد وافقه الشافعي وخالفهما أبو حنيفة وأصحابه فقالوا يطوف ويسعى لعمرته ثم يطوف ويسعى لحجته ويحل وعليه الحج من قابل وليس عليه عمرة وتجزئه عمرته ويسقط عنه دم القران
قال أبو عمر القول ما قال مالك والشافعي فإن كل من وجب عليه قضاء إنما
263

يقضيه كما فاته وهدي القران واجب بإجماع وهدي بدل ميقات الحج واجب لقول عمر في جماعة من الصحابة (رضي الله عنهم) من غير نكير
وجمهور العلماء على أن من فاته الحج لا يقيم على إحرامه ذلك وعليه ما وصفنا من إتيان البيت للطواف به والسعي بين الصفا والمروة ثم يحل بالتقصير أو الحلق ثم يقضي حجه على ما بينا قبل وأنه إن أقام على إقرانه حتى الحج من قابل لم يجز عندهم
وممن قال به أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما والثوري وأحمد وإسحاق وأبو ثور وهو قول مالك في الاختيار لمن فاته الحج أن يتحلل بعمل عمرة ولا يقيم محرما إلى قابل ولكنه جائز عنده أن يقيم على إحرامه إلى قابل فإن فعل سقط عنده عنه الحج ولم يحتج إلى أن يتحلل بعمرة وعند غيره لا يجزئه إقامته على إحرامه ولا بد له من أن يتحلل بعمل عمرة ويحج من قابل
ثم اختلافهم في الهدي عليه على ما ذكرنا عنهم ولما قال الله (عز وجل) * (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق) * [البقرة 197] دل على أنه لا يصح إحرام أحد بالحج في غير أشهر الحج والله أعلم
وقد اختلف العلماء فيمن أحرم بالحج قبل أشهر الحج فمنهم من ألزمه ذلك منهم مالك لقوله عز وجل * (أوفوا بالعقود) * [المائدة 1] على أن الاختيار عنده أن لا يفعل
ومنهم من جعل إحرامه عمرة كمن أحرم بالظهر قبل الزوال
((50 - باب من أصاب أهله قبل أن يفيض))
823 - مالك عن أبي الزبير المكي عن عطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن عباس أنه سئل عن رجل وقع بأهله وهو بمنى قبل أن يفيض فأمره أن ينحر بدنة
824 - مالك عن ثور بن زيد الديلي عن عكرمة مولى بن عباس قال لا أظنه إلا عن عبد الله بن عباس أنه قال الذي يصيب أهله قبل أن يفيض يعتمر ويهدي
264

825 - مالك أنه سمع ربيعة بن أبي عبد الرحمن يقول في ذلك مثل قول عكرمة عن بن عباس
قال مالك وذلك أحب ما سمعت إلي في ذلك
قال أبو عمر كان مالك (رحمه الله) قد سمع الاختلاف في ذلك وهو ثلاثة أقوال
أحدها قول مالك هذا من وطئ بعد الجمرة قبل الإفاضة فعليه عمرة وهدي
وهو قول عكرمة
وبه قال ربيعة
وفيه رواية عن بن عباس
وإليه ذهب أحمد بن حنبل فيما ذكر عنه الأثرم
والثاني أنه ليس عليه إلا هدي بدنة وحجهما تام
هذا هو الصحيح عن بن عباس روي عنه من وجوه
وبه قال عطاء والشعبي
وإليه ذهب أبو حنيفة والثوري والشافعي وأبو ثور وداود
وقال الشافعي يجزئه ما استيسر من الهدي
والثالث أن حجه فاسد وعليه حجة قابل والهدي
وهو قول بن عمر
روى هشيم قال أخبرنا جعفر بن إياس قال أخبرنا علي البارقي أن رجلا من أهل عمان حج مع امرأته فلما قضيا وحلق الرجل رأسه ولبس الثياب وذبح ظن أنه قد حل له كل شيء فوقع بامرأته قبل أن يطوف بالبيت فانطلقت به إلى بن عمر فذكرت ذلك له فقال اقضيا ما بقي عليكما من نسككما وعليكما الحج في قابل
قال قلت يا أبا عبد الرحمن إنهما من أهل عمان بعيد الشقة فلم يزدني على ذلك
وقال الحسن البصري وبن شهاب الزهري وهو معنى قول عمر بن الخطاب فيمن رمى جمرة العقبة أنه قد حل له كل ما حرم عليه إلا النساء والطيب
قال أبو عمر قد اختلف في الطيب ولم يختلفوا أن النساء عليه حرام
265

وإلى هذا ذهب إسماعيل بن إسحاق القاضي وأبو الفرج عمرو بن محمد المالكي قالا من وطئ قبل الإفاضة فسد حجه سواء كان قبل رمي الجمرة أو بعده لأن وطء النساء عليه حرام حتى يطوف طواف الإفاضة المفترض عليه
وقد ذكرنا فيما تقدم رواية أبي حازم وأبي مصعب فيمن وطئ بعد يوم النحر قبل رمي الجمرة وذكرنا الإجماع فيمن وطئ قبل الوقوف بعرفة
وتحصيل مذهب بن القاسم عن مالك أن من وطئ بعد يوم النحر وإن لم يرم الجمرة فليس عليه إلا الهدي والعمرة خاصة وإنما يكون عندهم الهدي إذا وطئ بعد رمي الجمرة يوم النحر قبل الإفاضة
قال عبد الملك بن الماجشون إنما جعل مالك عليه العمرة مع الهدي ليكون طوافه بالبيت في إحرام صحيح
قال إسماعيل هذا قول ضعيف لأن إحرامه لعمرة يوجب عليه طوافا لها وسعيا فكيف يكون الطواف للعمرة والإفاضة معا
وأما قول مالك في هذا الباب وسئل عمن نسي الإفاضة حتى خرج من مكة ورجع إلى بلاده فقال أرى إن لم يكن أصاب النساء فليرجع فليفض وإن كان أصاب النساء فليرجع فليفض ثم ليعتمر وليهد ولا ينبغي له أن يشتري هديه من مكة وينحره بها ولكن إن لم يكن ساقه معه من حيث اعتمر فليشتره بمكة ثم ليخرجه إلى الحل فليسقه منه إلى مكة ثم ينحره بها
قال أبو عمر قد تقدم القول فيمن نسي الإفاضة في بابه من هذا الكتاب وفي هذا الباب الجواب على من أصاب النساء قبل أن يفيض على مذهب العلماء في ذلك وقد تقدم أيضا التعريف بالهدي وما للسلف في ذلك من الاختيار
((51 - باب ما استيسر من الهدي))
826 - مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه أن علي بن أبي طالب كان يقول ما استيسر من الهدي شاة
827 - مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عباس كان يقول ما استيسر من الهدي شاة
266

قال مالك وذلك أحب ما سمعت إلي في ذلك لأن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه * (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما) * [المائدة 95] فمما يحكم به في الهدي شاة وقد سماها الله هديا وذلك الذي لا اختلاف فيه عندنا وكيف يشك أحد في ذلك وكل شيء لا يبلغ أن يحكم فيه ببعير أو بقرة فالحكم فيه شاة وما لا يبلغ أن يحكم فيه بشاة فهو كفارة من صيام أو إطعام مساكين
قال أبو عمر قد أحسن مالك في احتجاجه هذا وأتى بما لا مزيد لأحد فيه وجها حسنا في معناه
وعليه جمهور أهل العلم وعليه تدور فتوى فقهاء الأمصار بالعراق والحجاز فيما استيسر من الهدي
وكان بن عمر يقول * (فما استيسر من الهدي) * [البقرة 196] بدنة دون بدنة وبقرة دون بقرة
وقد روي عن عائشة مثل ذلك
ذكر سنيد عن هشيم قال أخبرنا يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد عن عائشة وبن عمر أنهما قالا (فما استيسر من الهدي) [البقرة 196] الناقة ثم الناقة والبقرة دون البقرة
وكان بن عمر يقول الصيام للمتمتع أحب إلي من الشاة
رواه وبرة بن عبد الرحمن وعطاء عن بن عمر
وروى عنه صدقة بن يسار أنه قال الشاة أحب إلي من البدنة
وعن حماد بن زيد عن أبي جمرة عن بن عباس قال * (فما استيسر من الهدي) * [البقرة 196] ناقة أو بقرة أو شرك في دم
828 - مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول * (فما استيسر من الهدي) * بدنة أو بقرة
قال أبو عمر هذا قول مجمل يفسره ما ذكرنا عنه عن عائشة ومعلوم أن أعلى الهدي بدنة فكيف يكون ما استيسر من الهدي إلا أن معناه ما ذكرنا وبالله توفيقنا
267

829 - مالك عن عبد الله بن أبي بكر أن مولاة لعمرة بنت عبد الرحمن يقال لها رقية أخبرته أنها خرجت مع عمرة بنت عبد الرحمن إلى مكة قالت فدخلت عمرة مكة يوم التروية وأنا معها فطافت بالبيت وبين الصفا والمروة ثم دخلت صفة المسجد فقالت أمعك مقصان فقلت لا فقالت فالتمسيه لي فالتمسته حتى جئت به فأخذت من قرون
رأسها فلما كان يوم النحر ذبحت شاة
قال أبو عمر ليس في هذا الخبر ما يحتاج إلى القول لأن الشاة دون الحلاب لا خلاف في ذلك وإنما أدخل مالك هذا الحديث شاهدا على ما استيسر من الهدي شاة لأن المتمتع قد فرض الله عليه ما استيسر من الهدي لقوله (عز وجل) * (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي) * [البقرة 196] وعمرة كانت متمتعة لا شك فيه وللمتمتع أن يؤخر الذبح إلى يوم النحر
وفي أخذ عمرة من قرون رأسها في المسجد دليل على طهارة شعر الإسلام
وعلى هذا جمهور العلماء في طهارة شعور بني آدم
وقد كان للشافعي فيه قول رجع عنه إلى ما عليه الجمهور بدليل حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم شعر رأسه في حجته وأنه أعطاه أبا طلحة وغيره ولو كان نجسا ما وهبه لهم ولا ملكهم إياه
وأما قوله (من قرون رأسها) فالقرون هنا الضفائر ويستحب أن تأخذ المرأة من كل ضفيرة قدرا ممكنا فتعم بالتقصير ضفائرها وإن لم تفعل جزا عنها أقل ما يقع عليه اسم تقصير من شعرها
((52 - باب جامع الهدي))
830 - مالك عن صدقة بن يسار المكي أن رجلا من أهل اليمن جاء إلى عبد الله بن عمر وقد ضفر رأسه فقال يا أبا عبد الرحمن إني قدمت بعمرة
268

مفردة فقال له عبد الله بن عمر لو كنت معك أو سألتني لأمرتك أن تقرن فقال اليماني قد كان ذلك فقال عبد الله بن عمر خذ ما تطاير من رأسك وأهد فقالت امرأة من أهل العراق ما هديه يا أبا عبد الرحمن فقال هديه فقالت له ما هديه فقال عبد الله بن عمر لو لم أجد إلا أن أذبح شاة لكان أحب إلي من أن أصوم
قال أبو عمر في هذا الحديث أن للمحرم أن يضفر رأسه إلا أن من ضفر أو لبد أو عقص فعليه الحلاق عند عمر بن الخطاب وعند جماعة من العلماء بعده لما في التضفير من وقاية الرأس لأن لا يصل الغبار إلى جلده
وفي هذا الحديث دليل على أن القرآن كان عند بن عمر أولى من التمتع وقد كان في أول أمره يفضل التمتع ثم رجع إلى هذا وقال ما أمرهما إلا واحد أشهدكم أني قد أوجبت مع العمرة الحج
وأما قول اليماني (قد كان ذلك) أي قد فات القران لأنه والله أعلم سأله بعد أن طاف وسعى لعمرته ولا سبيل إلى القران بعد ذلك لأن الحج لا يدخل على العمرة إلا قبل ذلك
وأما أمر بن عمر اليماني بالتقصير وقد ضفر فإنما ذلك والله أعلم لأنه رأى عليه حلق رأسه يوم النحر في حجه الذي تمتع بالعمرة إليه فأراد أن لا يحلق في العمرة ليحلق في الحج
وأما قوله (فأهد) فإنه يريد هدي متعته
ثم سئل (ما الهدي) فقال إن لم أجد إلا شاة لكان أحب إلي من الصوم
فهذا يرد رواية من روى عنه الصيام أحب إلي من الشاة
ورواية مالك عن صدقة بن يسار هذه أصح عنه لأنه معروف من مذهبه تفضيل إراقة الدماء في الحج على سائر الأعمال
ويروى (ما هديه) وأما هديه وهو الأولى لأنه مما يهدي إلى الله عز وجل
وعلى نحو هذا قول عبد الله بن مسعود الصلاة أفضل من الصدقة والصدقة أفضل من الصوم
831 - مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول المرأة المحرمة إذا
269

حلت لم تمتشط حتى تأخذ من قرون رأسها وإن كان لها هدي لم تأخذ من شعرها شيئا حتى تنحر هديها
إنما قال هذا لأن الحلاق نسك يحل لمن رمى الجمرة إلقاء التفث كله وهو الشعث
ومن لم يجعل الحلاق من النسك وجعله أول الحل فهو مذهب سنذكره في باب الحلاق إن شاء الله
وأما من حلق قبل أن ينحر فقد قدم وأخر وتقديم الأفعال المفعولة يوم النحر وتأخيرها لا حرج فيه
وسنذكر ما في ذلك للعلماء من المذاهب في هذا الكتاب إن شاء الله
832 - مالك أنه سمع بعض أهل العلم يقول لا يشترك الرجل وامرأته في بدنة واحدة ليهد كل واحد بدنة بدنة
قال أبو عمر إن كان أراد أن من وطئ امرأته في الحج لا يجزئهما بدنة واحدة فقد مضى مذهبه ومذهب من خالفه في ذلك وإن كان أراد الاشتراك في النسك كله من ضحية أو هدي فقد اختلف قوله في هدي التطوع
فمرة أجاز الاشتراك فيه ومرة لم يجزه ولم يختلف قوله إنه لا يجوز الاشتراك في الهدي الواجب
وسنذكر في كتاب الضحايا مذهبه في الاشتراك في الضحايا كيف هو عنده
وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما يجوز أن يشترك سبعة في بدنة ويجزيهم بعد أن يكون على كل واحد منهم شاة بوجوه مختلفة من جزاء صيد ومن إحصار أو تمتع أو من غير ذلك
وقال زفر لا يجزئ حتى تكون الجهة الموجبة للهدي عليهم واحدة فإما جزاء صيد كله وإما تطوع كله فإن اختلف لم يجزه
وقالوا وإن كان فيهم ذمي أو من لا يريد أن يهدي فلا يجزئهم من الهدي
وقال أبو ثور إن كان أحد السبعة المشتركين في الهدي ذميا أو من يريد حصته من اللحم ولا يريد الهدي أجزأ من أراد الهدي ويأخذ الباقون حصصهم من اللحم
270

قال أبو عمر ذكر بن وهب عن مالك في موطئه قال إنما العمرة التي يتطوع الناس بها فإن ذلك يجوز فيها الاشتراك في الهدي وأما كل هدي واجب في عمرة أو ما أشبهها فإنه لا يجوز الاشتراك فيه
قال وإنما اشتركوا يوم الحديبية لأنهم كانوا معتمرين تطوعا
وقال بن القاسم لا يشترك في الهدي الواجب ولا في التطوع عند مالك
قال مالك إذا قلد الهدي وأشعره ثم مات وجب إخراجه على ورثته من رأس المال ولم يرثوه
وهو قول الشافعي وأبي يوسف
وقال أبو حنيفة ومحمد يكون ميراثا
وقال مالك من قلد الهدي لا يجوز له بيعه ولا هبته ولا بدله وكذلك الأضحية إذا أوجبها ونعلها فإن لم يفعل كان له بدلها بأحسن منها
وقال أبو حنيفة جائز له بيعها لهدي وعليه بدله
وقال الثوري لا بأس أن يبدل الرجل هديه الواجب ولا يبدل التطوع
وقال الأوزاعي له أن يبدل هدية إذا قلده وأشعره ما لم يتكلم بفرضه
وسئل مالك عمن بعث معه بهدي ينحره في حج وهو مهل بعمرة هل ينحره إذا حل أم يؤخره حتى ينحره في الحج ويحل هو من عمرته فقال بل يؤخره حتى ينحره في الحج ويحل هو من عمرته
قال أبو عمر إنما قال كذلك لقول الله (عز وجل) * (ثم محلها إلى البيت العتيق) * [الحج 33] وقال * (هديا بالغ الكعبة) * [المائدة 95] يعني أيام النحر وسائر أيام الذبح إلا بمنى ومكة
إلا أن الاختيار أن يذبح الحاج بمنى والمعتمر بمكة ومن ذبح بمكة من الحاج لم يخرج ولا يذبح بمنى إلا أيام منى وسائر السنة بمكة
ولما لم يكن هذا الهدي للمعتمر وإنما بعث به معه لم يرتبط نحره بشيء من عمرته
قال مالك والذي يحكم عليه بالهدي في قتل الصيد أو يجب عليه هدي في غير ذلك فإن هديه لا يكون إلا بمكة كما قال الله تبارك وتعالى * (هديا بالغ الكعبة) * وأما ما عدل به الهدي من الصيام أو الصدقة فإن ذلك يكون بغير مكة حيث أحب صاحبه أن يفعله فعلة
271

قال أبو عمر أجمع العلماء أن [الكعبة] البيت الحرام وهو [البيت العتيق] لا يجوز لأحد فيه ذبح ولا نحر وكذلك المسجد الحرام
فدل ذلك على أن معنى قوله (عز وجل) * (هديا بالغ الكعبة) * أنه أراد الحرم يعني مساكين الحرم أو أراد مكة لمساكينها رفقا بجيران بيت الله وإحسانا إليهم وهم أهل الحرم
على هذين القولين العلماء في قول الله عز وجل (هديا بالغ الكعبة)
وأما قوله (عز وجل) * (ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) * [البقرة 196] فليس ذلك عند أكثر العلماء وسنذكر ما لهم في ذلك كله إن شاء الله (عز وجل)
وكان مالك يذهب إلى أن معنى قوله تعالى * (هديا بالغ الكعبة) * أنه عنى مكة ولم يرد الحرم
قال أبو عمر لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للحاج مكة وطرقها منحر دل على أنه أراد مكة والله أعلم
قال مالك من نحر هديه في الحرم لم يجزه أن ينحره إلا بمكة
وقال أبو حنيفة والشافعي إن نحره في الحرم أجزاه
وهو قول عطاء
وقال الطبري يجوز نحر الهدي حيث شاء المهدي إلا هدي القران وجزاء الصيد فإنه لا ينحره إلا في الحرم
وقال مالك إذا نحر هدي التمتع أو الهدي التطوع قبل يوم النحر لم يجزه
وقال أبو حنيفة في الهدي التمتع كقول مالك وخالفه في التطوع فجوزه قبل يوم النحر
وقال الشافعي يجزئ نحر الجميع قبل يوم النحر
وأما قوله (وأما ما عدل به الهدي من الصيام والصدقة فإنه يكون بغير مكة حيث أحب صاحبه أن يفعله فعله) فلا خلاف في الصيام أن يصوم حيث شاء لأنه لا منفعة
في ذلك لأهل الحرم ولا لأهل مكة
وأما الصدقة فلا تكون عند الشافعي والكوفيين إذا كانت بدلا من جزاء الصيد إلا بمكة لأهلها حيث يكون النحر
272

ومعلوم أن النحر في العمرة بمكة وفي الحج بمنى وهما جميعا حرم فالحرم كله منحر عندهم
وفي العتبية ليحيى بن يحيى عن بن وهب مثل قول مالك في موطئه أن الإطعام كالصيام يجوز بغير مكة
وفي الأسدية لابن القاسم عن مالك قال لا يطعم إلا في الموضع الذي أصاب فيه الصيد
قال أبو عمر هذا خلاف الجمهور ولا وجه له
833 - مالك عن يحيى بن سعيد عن يعقوب بن خالد المخزومي عن أبي أسماء مولى عبد الله بن جعفر أنه أخبره أنه كان مع عبد الله بن جعفر فخرج معه من المدينة فمروا على حسين بن علي وهو مريض بالسقيا فأقام عليه عبد الله بن جعفر حتى إذا خاف الفوات خرج وبعث إلى علي بن أبي طالب وأسماء بنت عميس وهما بالمدينة فقدما عليه ثم إن حسينا أشار إلى رأسه فأمر علي برأسه فحلق ثم نسك عنه بالسقيا فنحر عنه بعيرا قال يحيى بن سعيد وكان حسين خرج مع عثمان بن عفان في سفره ذلك إلى مكة
قال أبو عمر في هذا الحديث دليل على صحة ما ذهب إليه مالك في أن من كان عليه من الدماء في فديه الأذى لمن اختار النسك في ذلك دون الإطعام والصيام جائز أن يذبح ذلك النسك بغير مكة
وأما نحر علي عن حسين ابنه (رضي الله عنهما) في حلقه رأسه بعيرا فذلك أفضل ما يفعل في ذلك والشاة كانت تجزيه كما قال النبي (عليه السلام) لكعب بن عجرة وانسك بشاة
وفي ترك عبد الله بن جعفر لحسين مريضا دليل على أنه خاف فوت الحج وكذلك تركه وأيقن أن أباه سيلحقه فلحقه أبوه مع امرأته لأن النساء ألطف بتمريض المرضى وكانت أسماء بنت عميس كأمه زوجة لأبيه فلذلك أتى بها علي أبوه (رضي الله عنهما) لتمرضه
وفي هذا الحديث دليل على أن الأخرس وغير الأخرس في تتبع الكلام سواء إذا فهمت إشارته قامت مقام كلامه لو تكلم والله أعلم
273

53 - باب الوقوف بعرفة والمزدلفة 834 - مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عرفه كلها موقف وارتفعوا عن بطن عرنة والمزدلفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن محسر
835 - مالك عن هشام بن عروة عن عبد الله بن الزبير أنه كان يقول اعلموا أن عرفة كلها موقف إلا بطن عرنة وأن المزدلفة كلها موقف إلا بطن محسر
قال أبو عمر هذا الحديث يتصل من حديث جابر وبن عباس وعلي بن أبي طالب وقد ذكرنا طرقه في التمهيد وأكثرها ليس فيها ذكر بطن عرنة وإسناده صحيح عند الفقهاء وهو محفوظ من حديث أبي هريرة
ذكر عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن محمد بن المنكدر عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن عرنة ومزدلفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن محسر ومنى كلها منحر وللحاج مكة كلها منحر
قال وأخبرنا عبد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر قال عرفة كلها موقف إلا بطن عرنة وجمع كلها موقف إلا بطن محسر
قال وأخبرنا معمر عن أيوب عن بن أبي مليكة عن عبد الله بن الزبير قال سمعته يقول عرفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن عرنة وجمع كلها موقف وارتفعوا عن بطن محسر
قال بن وهب سألت سفيان بن عيينة عن عرنة فقال موضع الممر في عرفة ثم ذلك الوادي كله قبلة المسجد إلى العلم الموضع للحرم بطريق مكة
وقال الشافعي عرفة ما جاوز وادي عرنة الذي فيه المسجد ووادي عرنة من عرفة إلى الجبال المقابلة على عرفة كلها مما يلي حوائط بني عامر وطريق حضن فإذا جاوزت ذلك فليس بعرفة
274

وقال بن شعبان عرفة كل سهل وجبل أقبل على الموقف فيما بين التلعة إلى أن يفضوا إلى طريق نعمان وما أقبل من كبكب من عرفة
واختلف العلماء فيمن وقف من عرفة بعرنة
فقال مالك فيما ذكر بن المنذر عنه يهريق دما وحجة تام
قال أبو عمر روى هذه الرواية عن مالك خالد بن نزار
قال أبو مصعب إنه كمن لم يقف وحجة فائت وعليه الحج من قابل إذا وقف ببطن عرنة
وروي عن بن عباس قال من أفاض من عرنة فلا حج له
وقال القاسم وسالم من وقف بعرنة حتى دفع فلا حج له
وذكر بن المنذر هذا القول عن الشافعي قال وبه أقول لأنه لا يجزئه أن يقف مكانا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يقف به
قال أبو عمر من أجاز الوقوف ببطن عرنة قال إن الاستثناء لبطن عرنة من عرفة لم يجيء مجيئا تلزم حجته لا من جهة النقل ولا من جهة الإجماع
والذي ذكره المزني عن الشافعي قال ثم يركب فيروح إلى الموقف عند الصخرات ثم يستقبل القبلة بالدعاء
قال وحيثما وقف الناس من عرفة أجزأهم لأن النبي (عليه السلام) قال هذا موقف وكل عرفة موقف
ومن حجة من ذهب مذهب أبي المصعب أن الوقوف بعرفة فرض مجتمع عليه في موضع معين فلا يجوز أداؤه إلا بيقين ولا يقين مع الاختلاف
وأما قوله (عليه السلام) والمزدلفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن محسر فالمزدلفة عند العلماء مما يلي عرفة إلا أن يأتي وادي محسر عن اليمين والشمال من تلك البطون والشعاب والجبال كلها وليس المأزمان من المزدلفة
وأما وادي محسر فهو من المزدلفة فكل من وقف بعرفة للدعاء ارتفع عن بطن عرنة كذلك من وقف صبيحة يوم النحر للدعاء بالمشعر الحرام وهو المزدلفة وهو جمع ثلاثة أسماء لمكان واحد وارتفع عن وادي محسر
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أسرع السير في بطن محسر
أخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثني أحمد بن جعفر قال حدثني عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال حدثني وكيع قال حدثني سفيان
275

عن أبي الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أوضع في وادي محسر
قال أبو عمر الإيضاع سرعة السير
وسنذكر في الباب بعد هذا حكم من لم يقف بالمزدلفة ومن لم يبت بها وما للعلماء في ذلك من المذاهب بعد ذكر مذاهبهم فيمن فاته الوقوف بعرفة بحول الله تعالى
قال مالك قال الله تبارك وتعالى * (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) * [البقرة 197] قال فالرفث إصابة النساء والله أعلم قال الله تبارك وتعالى
* (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) * [البقرة 187] قال والفسوق الذبح للأنصاب والله أعلم قال الله تبارك وتعالى * (أو فسقا أهل لغير الله به) * [الأنعام 145] قال والجدال في الحج أن قريشا كانت تقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة بقزح وكانت العرب وغيرهم يقفون بعرفة فكانوا يتجادلون يقول هؤلاء نحن أصوب ويقول هؤلاء نحن أصوب فقال الله تعالى ولكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم) [الحج 67] فهذا الجدال فيما نرى والله أعلم وقد سمعت ذلك من أهل العلم
قال أبو عمر أما الرفث ها هنا فهو مجامعة النساء عند أكثر العلماء
وأما الفسوق والجدال فقد اختلف فيه
قرأت على أبي عبد الله محمد بن عبد الملك أن عبد الله بن مسرور حدثهم قال حدثني يحيى بن مسكين قال حدثني محمد بن عبد الله بن سنجر الجرجاني قال حدثني محمد بن يوسف الفريابي وقبيصة قالا حدثني سفيان الثوري قال حدثني خصيف عن مقسم عن بن عباس قال الرفث الجماع والفسوق المعاصي والجدال أن تماري صاحبك حتى تغضبه
قال وحدثني الفريابي قال حدثني بن عيينة عن بن طاوس عن أبيه عن بن عباس في قوله تعالى * (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) * قال الرفث الذي ذكرها هنا ليس بالرفث الذي ذكر في المكان الآخر ولكنه التعريض بذكر الجماع
قال بن سنجر وحدثني أبو نعيم قال حدثني الأعمشي قال حدثني زيد بن الحصين عن رفيع أبي العالية قال خرجنا مع بن عباس حجاجا فأحرم واحد منا ثم نزل يسوق الإبل وهو يرتجز ويقول
276

(وهن يمشين بنا هميسا
* إن تصدق الطير ننك لميسا) فقلت يا بن عباس ألست محرما قلت بلى قلت فهذا الكلام الذي تكلمت به قال إنه لا يكون الرفث إلا ما واجهت به النساء وليس معنا نساء
وقال بن سنجر حدثني يعلى بن عبيد وأحمد بن خالد الذهبي قالا حدثني محمد بن إسحاق عن نافع عن بن عمر قال الرفث جماع النساء والفسوق ما أصاب من محارم الله تعالى من صيد أو غيره والجدال السباب والمشاتمة
وقال مجاهد مثل ذلك في الرفث والفسوق وقال في الجدال قد استقام أمر الحاج فلا يتجادل في أمر الحج
هذه رواية خصيف وبن جريج وعبد الكريم عن مجاهد
وروى سالم الأفطس عن مجاهد وسعيد بن جبير قال الرفث المجامعة والفسوق جميع المعاصي والجدال أن تماري صاحبك
وكذلك روى أبو يحيى القتات عن مجاهد
روى الثوري عن الأعمش قال الرفث الجماع والفسوق السباب والجدال المراء
ورواه بن وهب عن يزيد عن نافع عن بن عمر قال الجدال السباب والمراء والخصومات والرفث إتيان النساء والتكلم بذلك الرجال والنساء فيه سواء والفسوق المعاصي في الحرم
وعن محمد بن كعب وبن شهاب مثله إلا أنهما قالا الفسوق المعاصي
((54 - باب وقوف الرجل وهو غير طاهر ووقوفه على دابة))
836 - سئل مالك هل يقف الرجل بعرفة أو بالمزدلفة أو يرمي الجمار
277

أو يسعى بين الصفا والمروة وهو غير طاهر فقال كل أمر تصنعه الحائض من أمر الحج فالرجل يصنعه وهو غير طاهر ثم لا يكون عليه شيء في ذلك والفضل أن يكون الرجل في ذلك كله طاهرا ولا ينبغي له أن يتعمد ذلك
قال أبو عمر الأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم للحائض والنفساء افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت
حدثني عبد الوارث بن سفيان وسعيد بن نصر قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثني محمد بن إسماعيل قال حدثني الحميدي قال حدثني سفيان قال حدثني عبد الرحمن بن القاسم قال أخبرني [أبي] أنه سمع عائشة تقول خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرى إلا الحج حتى إذا كنا بسرف أو قريبا منها حضت فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقال ما لك تبكين أحضت قلت نعم قال إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم فاقضي ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت
وقد ذكرنا في أول هذا الكتاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بمثل هذا أسماء بنت عميس وهي نفساء
وهو أمر مجتمع عليه لا خلاف فيه والقول فيه ما قاله مالك وغيره أن كل ما يصنعه الحاج من أمر الحاج وهو عمل الحج كله إلا الطواف بالبيت يفعله كل من ليس على طهارة عند جماعة العلماء والحمد لله
وسئل مالك عن الوقوف بعرفة للراكب أينزل أم يقف راكبا فقال بل يقف راكبا إلا أن يكون به أو بدابته علة فالله أعذر بالعذر
قال أبو عمر إنما قال ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف بعرفة راكبا ولم يزل كذلك إلى أن دفع منها بعد غروب الشمس وأردف أسامة بن زيد
وهذا محفوظ في حديث علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) وفي حديث بن عباس أيضا
278

وفي حديث أسامة أنه كان يسير العنف فإذا وجد فجوة أو فرجة نص
وفي حديث يزيد بن سفيان قال أتانا بن مربع الأنصاري ونحن بعرفة فقال إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم يقول لكم قفوا على مشاعركم فإنكم على إرث من إرث إبراهيم (عليه السلام)
ولا خلاف علمته بين العلماء في أن الوقوف بعرفة راكبا لمن قدر عليه أفضل فمن قدر على ذلك وإلا وقف على رجليه داعيا ما دام يقدر ولا حرج عليه في الجلوس إذا لم يقدر على الوقوف
وفي الوقوف راكبا مباهاة وتعظيم للحج * (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) *
[الحج 32] قال بن وهب في موطئه قال لي مالك الوقوف بعرفة على الدواب والإبل أحب إلي من أن أقف قائما
قال ومن وقف قائما فلا بأس أن يستريح
((55 - باب وقوف من فاته الحج بعرفة))
837 - مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول من لم يقف بعرفة من ليلة المزدلفة قبل أن يطلع الفجر فقد فاته الحج ومن وقف بعرفة من ليلة المزدلفة من قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج
838 - مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال من أدركه الفجر من
279

ليلة المزدلفة ولم يقف بعرفة فقد فاته الحج ومن وقف بعرفة من ليلة المزدلفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج
قال أبو عمر ليلة المزدلفة هي ليلة يوم النحر وهي الليلة التي يبيتون فيها بالمزدلفة بعد أن يأتوها من عرفة فيجمعون فيها بين المغرب والعشاء ويبيتون بها ويصلون الصبح ثم يدفعون منها إلى منى وذلك يوم النحر
وهذا الذي ذكره مالك عن بن عمر وعروة هو قول جماعة أهل العلم قديما وحديثا لا يختلفون
وقد روي به أثر مسند عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يروه أحد من الصحابة إلا رجلا يدعى عبد الرحمن بن يعمر الديلي
أخبرنا عبد الله بن محمد بن أمية قال حدثني حمزة بن محمد قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا أحمد بن إسحاق بن إبراهيم قال حدثني وكيع قال حدثني سفيان - يعني الثوري - عن بكير عن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة وأتاه أناس من أهل نجد فسألوه عن الحج فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج عرفة من أدركها قبل أن يطلع الفجر فقد تم حجه
ورواه بن عيينة عن بكير عن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الحج عرفات فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك وأيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه
قال أبو عمر لم تختلف الآثار ولا اختلف العلماء في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر جميعا بعرفة ثم ارتفع فوقف بجبالها داعيا إلى الله تعالى ووقف معه
280

كل من حضره إلى غروب الشمس وأنه لما استيقن غروبها وبان له ذلك دفع منها إلى المزدلفة
وأجمعوا على أنه كذلك سنة الوقوف بعرفة والعمل بها
وأجمعوا على أن من وقف بعرفة يوم عرفة قبل الزوال ثم أفاض منها قبل الزوال أنه لا يعتد بوقوفه قبل الزوال وأنه إن لم يرجع فيقف بعد الزوال أو يقف من ليلته تلك أقل وقوف قبل الفجر فقد فاته الحج
ثم اختلفوا فيما على من وقف في عرفة بعد الزوال مع الإمام ثم دفع منها قبل غروب الشمس
فقال مالك إن دفع منها قبل أن تغيب الشمس فعليه الحج قابلا وإن دفع منها بعد غروب الشمس قبل الإمام فلا شيء عليه
وعند مالك أن من دفع من عرفة قبل غروب الشمس ثم عاد إليها قبل الفجر أنه لا دم عليه
وقال سائر العلماء من وقف بعرفة بعد الزوال فحجه تام وإن دفع قبل غروب الشمس إلا إنهم اختلفوا في وجوب الد م عليه إن رجع فوقف ليلا
فقال الشافعي إن عاد إلى عرفة حتى يدفع بعد مغيب الشمس فلا شيء عليه وإن لم يرجع حتى يطلع الفجر أجزأت حجته وأهراق دما
وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري إذا أفاض من عرفة قبل غروب الشمس أجزاه حجه وكان عليه لتركه الوقوف إلى غروب الشمس دم وإن دفع بعد غروب الشمس لم يسقط عنه الدم وكذلك قال أبو ثور وأحمد وإسحاق وداود مثل قول الشافعي
وبه قال الطبري
وهو قول عطاء وعامة العلماء في الدم وتمام الحج
إلا أن الحسن البصري وبن جريج قالا لا يجزئه إلا بدنة
قال أبو عمر الحجة لهم في ذلك حديث عروة بن مضرس الطائي وهو حديث ثابت صحيح رواه جماعة من أصحاب الشعبي الثقات عن الشعبي عن عروة بن مضرس منهم إسماعيل بن أبي خالد وداود بن أبي هند وزكريا بن أبي زائدة ومطرف
أخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثني حمزة بن محمد قال حدثني
281

أحمد بن شعيب قال أخبرنا إسماعيل بن مسعود قال حدثني خالد عن شعبة عن عبد الله بن أبي السفر قال سمعت الشعبي يقول حدثني عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لام قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بجمع فقلت هل لي من حج فقال من صلى معنا هذه الصلاة ومن وقف معنا هذا الموقف حتى نفيض وأفاض قبل ذلك من عرفات ليلا أو نهارا فقد تم حجة وقضى تفثه
حدثني عبد الوارث بن سفيان قال حدثني قاسم بن أصبغ قال حدثني أحمد بن زهير قال حدثني أبو نعيم قال حدثني زكريا بن أبي زائدة عن عامر قال حدثني عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لام أنه حج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يدرك الناس إلا ليلا وهو بجمع فانطلق إلى عرفات ليلا فأفاض منها ثم رجع إلى جمع فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أعملت نفسي وأنصبت راحلتي فهل لي من حج فقال من صلى معنا الغداة بجمع ووقف معنا حتى نفيض وقد أفاض من عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه
أخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثني محمد بن بكر قال حدثني أبو داود قال حدثني مسدد قال حدثني يحيى بن سعيد عن إسماعيل قال حدثني عامر قال أخبرني عروة بن مضرس الطائي قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالموقف يعني بجمع فقلت جئت يا رسول الله من جبلي طيء أكلت مطيتي وأتعبت نفسي والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه فهل لي من حج فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدرك معنا هذه الصلاة وأتى عرفات من قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه
قال أبو عمر هذا الحديث يقضي بأن من لم يأت عرفات ولم يفض منها ليلا أو نهارا فلا حج له ومن أفاض منها ليلا أو نهارا فقد تم حجه
واجمعوا على أن المراد بقوله في هذا الحديث نهارا لم يرد به ما قبل الزوال فكان ذلك بيانا شافيا
282

وقال إسماعيل بن إسحاق إنما في حديث عروة بن مضرس إعلام منه صلى الله عليه وسلم أن الوقوف بالنهار لا يضره إن فاته لأنه لما قيل ليلا أو نهارا والسائل يعلم أنه إذا وقف بالنهار فقد أدرك الوقوف بالليل فاعلم أنه إذا وقف بالليل وقد فاته الوقوف بالنهار أن ذلك لا يضره وأنه قد تم حجه لا أنه أراد بهذا القول أن يقف بالنهار دون الليل
قال ولو حمل هذا الحديث على ظاهره كان من لم يدرك الصلاة بجمع قد فاته الحج
وقال أبو الفرج معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عروة بن مضرس وقد أفاض قبل ذلك من عرفة ليلا أو نهارا أراد والله أعلم ليلا أو نهارا وليلا فسكت عن أن يقول وليلا لعلمه بما قدم من فعله لأنه وقف نهارا وأخذ من الليل فكأنه أراد بذكر النهار اتصال الليل به
قال وقد يحتمل أن يكون قوله ليلا أو نهارا في معنى ليلا ونهارا فتكون أو بمعنى الواو
قال أبو عمر لو كان كما ذكر لكان الوقوف واجبا ليلا ونهارا ولم يغن أحدهما عن صاحبه وهذا لا يقوله أحد وقد أجمع المسلمون أن الوقوف بعرفة ليلا يجزئ عن الوقوف بالنهار إلا أن فاعل ذلك عندهم إذا لم يكن مراهقا ولم يكن له عذر فهو مسيء ومن أهل العلم من رأى عليه دما ومنهم من لم ير شيئا عليه
وجماعة العلماء يقولون إن من وقف بعرفة ليلا أو نهارا بعد زوال الشمس من يوم عرفة أنه مدرك للحج إلا مالك بن أنس فإنه انفرد بقوله الذي ذكرناه عنه ويدل على أن مذهبه والفرض عنده الوقوف بالليل دون النهار وعند سائر العلماء الليل والنهار في ذلك سواء إذا كان بعد الزوال
والسنة أن يقف كما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم نهارا يتصل له بالليل
ولا خلاف بين العلماء أن الوقوف بعرفة فرض على ما ذكرنا من تنازعهم في الوقت المفترض
وأما قوله في حديث عروة بن مضرس من أدرك معنا هذه الصلاة يعني صلاة الصبح بجمع وكان قد أتى قبل ذلك عرفات ليلا أو نهارا فإن ظاهر هذا اللفظ يوجب أن مشاهدة المشعر الحرام وإدراك الصلاة فيه من فرض الحج
وقد اختلف العلماء في ذلك
283

فكان علقمة بن قيس وعامر الشعبي وإبراهيم النخعي والحسن البصري وروي ذلك عن بن الزبير وهو قول الأوزاعي أنهم قالوا من لم يزل بالمزدلفة وفاته الوقوف بها فقد فاته الحج ويجعلها عمرة
وروي عن الثوري مثل ذلك والأصح عنه أن الوقوف بها سنة مؤكدة
وقال حماد بن أبي سليمان من فاتته الإفاضة من جمع فقد فاته الحج فليحل بعمرة ثم ليحج قابلا
وحجة من قال بهذا القول ظاهر قول الله (عز وجل) * (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام) * [البقرة 198]
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدرك جمعا وكان قد أدرك قبل ذلك عرفات فقد أدرك
وقال مالك والثوري وأبو حنيفة والشافعي وأبو ثور وأحمد وإسحاق الوقوف بالمزدلفة من سنن الحج المؤكدة وليس من فروضها
وتفصيل أقوالهم في ذلك أن مالكا قال من لم ينخ بالمزدلفة ولم ينزل فيها وتقدم إلى منى ورمى الجمرة فإنه يهريق دما فإن نزل بها ثم دفع منها في أول الليل أو وسطه أو آخره وترك الوقوف مع الإمام فقد أجزأ ولا دم عليه
وقال الثوري من لم يقف بجمع ولم ينزل منها ليلة النحر فعليه دم
وهو قول عطاء في رواية وقول الزهري وقتادة وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إذا ترك الوقوف بالمزدلفة فلم يقف بها ولم يمر بها ولم يبت بها فعليه دم قالوا وإن بات بها وتعجل في الليل رجع إذا كان خروجه من غير عذر حتى يقف مع الإمام أو يصبح بها فإن لم يفعل فعليه دم
قالوا وإن كان مريضا أو ضعيفا أو غلاما صغيرا فتقدموا بالليل من المزدلفة فلا شيء عليهم
وقال الشافعي إن نزل بالمزدلفة وخرج منها بعد نصف الليل فلا شيء عليه وإن خرج قبل نصف الليل ولم يعد إليها ليقف بها مع الإمام ولم يصبح فعليه شاه
قال وإنما حددنا نصف الليل لأنه بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لضعفه أهله أن يرحلوا من آخر الليل ورخص لهم في أن لا يصبحوا بها ولا يقفوا مع الإمام
284

والفرض على الضعيف والقوي سواء ولكنه ناظر لموضع الفضل وتعليم الناس وقدم ضعفة أهله لأنه كان مباحا لهم
قال وما كان من نصف الليل فهو من آخر الليل
وروي عن عطاء أنه إن لم ينزل بجمع فعليه دم وإن نزل بها ثم ارتحل بليل فلا شيء عليه
رواه عنه بن جريج وهو الصحيح عنه
وكان عبد الله بن عمر يقول إنما جمع منزل تذبح فيه إذا جئت
قال أبو عمر لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عروة بن مضرس من أدرك معنا هذه الصلاة يعني صلاة الصبح بجمع وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قدم ضعفة أهله ليلا ولم يشهدوا معه تلك الصلاة ودل على أنه موضع الاختيار
وقد أجمعوا على أن من وقف بالمزدلفة ليلا ودفع منها قبل الصبح أن حجة تام وكذلك من بات بها ونام عن الصلاة فلم يصلها مع الإمام حتى فاتته أن حجة تام
فلو كان حضور الصلاة معه (عليه السلام) من صلب الحج وفرائضه ما أجزاه فلم يبق إلا أن مشاهدة الصلاة بجمع سنة حسنة وسنن الحج تجبر بالدم إذا لم يفعلها من عليه فعلها
وأما احتجاجهم بقول الله (عز وجل) * (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام) * [البقرة 198] وقولهم إن هذه الآية تدل على أن عرفات والمزدلفة جميعا من فروض الحج فليس بشيء لأن الإجماع منعقد على أنه لو وقف بالمزدلفة أو بات فيها بعض الليل ولم يذكر الله على أن حجة تام فدل على أن الذكر بها مندوب إليه وإذا لم يكن الذكر المنصوص عليه من أيام الحج فالمبيت والوقوف أحرى بذلك إن شاء الله
واختلف الفقهاء في الذي يقف بعرفة مغمى عليه فقال مالك إذا أحرم ثم أغمي عليه ووقف به مغمى عليه فحجه تام ولا دم عليه
وهو قول أبي حنيفة وأصحابه
وقال الشافعي وأبو ثور وأحمد وإسحاق من وقف بها مغمى عليه فقد فاته الحج
قال الشافعي عمل الحج ثلاثة أشياء أن يحرم وهو يعقل ويدخل عرفة في
285

وقتها وهو يعقل ويطوف بالبيت والصفا والمروة وهو يعقل ولا يجزئ عنه هذه الثلاثة إلا وهو يعقل
واختلفوا في الرجل يمر بعرفة ليلة النحر وهو لا يعلم أنها عرفة فقالت طائفة يجزئه
حكى أبو ثور هذا القول عن مالك وأبي حنيفة والشافعي
وقال أبو ثور وفيه قول آخر أنه لا يجزئه وذلك أنه لا يكون واقفا إلا بإرادة
قال أبو عمر مستحيل أن يتأدى الفرض عن من لم يقصد إليه ولا علمه والمغمى عليه ذاهب العقل غير مخاطب والله تعالى إنما أمر عباده أن يعبدوه مخلصين له والإخلاص القصد بالنية إلى أداء ما افترض عليه ويؤكد هذا قوله (عليه السلام) إنما الأعمال بالنيات
واختلفوا في جماعة أهل الموسم يخطئون العدد فيقفون بعرفة في غير يوم عرفة على ثلاثة أقوال
أحدها أنه إن وقفوا قبل لم يجزهم وإن وقفوا بعد أجزاهم
والثاني أنه يجزيهم الوقوف قبل وبعد على حسب اجتهادهم
والثالث أنه لا يجزيهم الوقوف قبل ولا بعد
وروي عن عطاء والحسن أنه يجزئهم قبل وبعد
وبه قال أبو حنيفة
واختلف أصحاب الشافعي فبعضهم قال يجزئهم بعد ولا يجزئهم قبل قياسا على الأسير تلتبس عليه الشهور فيصوم رمضان فيجزئة بعد ولا يجزئه قبل
وهو قول مالك
وقال بعض أصحاب الشافعي يجزئهم قبل وبعد قياسا على القبلة
وأبو ثور وداود لا يجيزان الوقوف لا قبل ولا بعد
وروى يحيى بن يحيى عن بن القاسم قال إذا أخطأ أهل الموسم فكان
286

وقوفهم بعرفة يوم النحر مضوا على أملهم وإن تبين ذلك لهم وثبت عندهم في بقية يومهم ذلك أو بعده وينحرون من الغد ويعملون عمل الحج ولا يتركوا الوقوف بعرفة من أجل أنه يوم النحر ولا ينفضوا من رمي الجمار الثلاثة الأيام بعد يوم النحر ويجعلون يوم النحر بالغد بعد وقوفهم ويكون حالهم في ميقاتهم كحال من لم يخطئ
قال وإذا أخطؤوا بعد أن وقفوا بعرفة يوم التروية أعادوا الوقوف من الغد من يوم عرفة نفسه ولم يجزهم الوقوف يوم التروية
وقال سحنون اختلف قول بن القاسم فيمن وقف يوم التروية
وقال يحيى بن عمر اختلف فيه قول سحنون أيضا
قال يحيى بن عمر في أهل الموسم ينزل ما نزل بالناس وهروبهم من عرفة ولم يعد الوقوف قال يجزئهم ولا دم عليهم
قال أبو عمر إنما هذا في جماعة أهل الموسم وأهل البلد يغلطون في الهلال وأما المنفرد فلا مدخل له في هذا الباب وإذا أخطأ العدد في أيام العشر لزمه إذا لم يدرك الوقوف بعرفة من ليلة النحر ما يلزم من فاته الحج واجتهاده في ذلك كله اجتهاد
وكذلك من أخطأ وحده من بين أهل مصره في هلال رمضان وشوال وذي الحجة وقد مضى القول في ذلك المنفرد في موضعه
وأما الجماعة فاجتهادهم سائغ والحرج عنهم ساقط لقوله (عليه السلام) أضحاكم حين تضحون وفطركم حين تفطرون فأجاز الجميع اجتهادهم وبالله التوفيق
قال مالك في العبد يعتق في الموقف بعرفة فإن ذلك لا يجزئ عنه من حج الإسلام إلا أن يكون لم يحرم فيحرم بعد أن يعتق ثم يقف بعرفة من تلك الليلة قبل أن يطلع الفجر فإن فعل أجزأ عنه وإن لم يحرم حتى طلع الفجر كان بمنزلة
287

من فاته الحج إذا لم يدرك الوقوف بعرفة قبل طلوع الفجر من ليلة المزدلفة ويكون على العبد حجة الإسلام يقضيها
قال أبو عمر لم يذكر يحيى عن مالك في الموطأ الصبي يحرم مراهقا ثم يحتلم وهو ذلك عندهم حكم العبد سواء
واختلف الفقهاء في الصبي المراهق والعبد يحرمان بالحج ثم يحتلم هذا ويعتق هذا قبل الوقوف بعرفة
فقال مالك وأصحابه برفض تجديد الإحرام ويتماديان على إحرامهما ولا يجزيهما حجهما ذلك عن حجة الإسلام
وقال أبو حنيفة وأصحابه إذا أحرم الصبي والعبد بالحج فبلغ الصبي وعتق العبد قبل الوقوف بعرفة أنهما يستأنفان الإحرام ويجزيهما عن حجة الإسلام وعلى العبد دم لتركه الميقات وليس على الصبي دم
وقال الشافعي إذا أحرم الصبي ثم بلغ قبل الوقوف بعرفة فوقف بها محرما أجزاه من حجة الإسلام وكذلك العبد إذا أحرم ثم عتق قبل الوقوف بعرفة فوقف بها محرما أجزاه من حجة الإسلام ولم يحتج إلى تجديد إحرام واحد منهما
قال ولو أعتق العبد بمزدلفة أو بلغ الصبي بها فرجعا إلى عرفة بعد العتق والبلوغ فأدركا بها قبل طلوع الفجر جزت عنهما من حجة الإسلام ولم يكن عليهما دم ولو احتاطا فأهرقا كان أحب إلي
قال وليس ذلك بالبين عندي
قال أبو عمر قال بهذه الأقوال الثلاثة جماعة من التابعين وفقهاء المسلمين
وحجة مالك أمر الله (عز وجل) كل من دخل في حج أو عمرة فإتمامه حجة تطوعا كان أو فرضا لقوله (عز وجل) * (وأتموا الحج والعمرة لله) * [البقرة 196] ومن رفض إحرامه فلم يتم حجه ولا عمرته
وحجة أبي حنيفة أن الحج الذي كان فيه لما لم يكن يجزئ عنه ولم يكن الفرض لازما له حين أحرم به ثم لزمه حين بلغ استحال أن يشتغل عن فرض قد تعين عليه بنافلة ويعطل فرضه كمن دخل في نافلة فقامت عليه المكتوبة فخشي فوتها قطع النافلة ودخل في المكتوبة فأحرم لها
وكذلك الحج عنده يلزمه أن يجدد الإحرام له لأنه لم يكن للفريضة وإنما وجب على العبد لأنه مكلف يلزمه العبادات ويجزيه حجه عند بعض الناس
288

والجمهور متفقون أن العبد لا يدخل الحرم إلا محرما والصبي غير مكلف فلا يلزمه الإحرام ولا غيره فافترقا لهذه العلة
واحتج الشافعي في إسقاط النية بأنه جائز لكل من نوى بإهلاله الإحرام أن يصرفه إلى ما شاء من حج أو عمرة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه المهلين بالحج أن يفسخوه في عمرة وبقول علي وأبي موسى أهللنا بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن إهلالهما على إهلاله كائنا ما كان يدل على أن النية في الإحرام ليست كالنية في الصلاة
((56 - باب تقديم النساء والصبيان))
839 - مالك عن نافع عن سالم وعبيد الله ابني عبد الله بن عمر أن أباهما عبد الله بن عمر كان يقدم أهله وصبيانه من المزدلفة إلى منى حتى يصلوا الصبح بمنى ويرموا قبل أن يأتي الناس
840 - مالك عن يحيى بن سعيد عن عطاء بن أبي رباح أن مولاة لأسماء بنت أبي بكر أخبرته قالت جئنا مع أسماء ابنة أبي بكر منى بغلس قالت فقلت لها لقد جئنا منى بغلس فقالت قد كنا نصنع ذلك مع من هو خير منك
841 - مالك أنه بلغه أن طلحة بن عبيد الله كان يقدم نساءه وصبيانه من المزدلفة إلى منى
842 - مالك أنه سمع بعض أهل العلم يكره رمي الجمرة حتى يطلع الفجر من يوم النحر ومن رمى فقد حل له النحر
843 - مالك عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر أخبرته أنها
289

كانت ترى أسماء بنت أبي بكر بالمزدلفة تأمر الذي يصلي لها ولأصحابها الصبح يصلي لهم الصبح حين يطلع الفجر ثم تركب فتسير إلى منى ولا تقف
قال أبو عمر جملة القول في هذا الباب أن حديثه عن نافع عن سالم وعبيد الله ابني عبد الله بن عمر الحديث الأول إنما أخذ بن عمر فعله ذلك من السنة التي رواها هو وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم
ذكر عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن الزهري عن سالم عن بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لضعفاء الناس من جمع بليل
قال وأخبرنا معمر عن الزهري عن سالم أن بن عمر كان يقدم ضعفة أهله يقفون عند المشعر الحرام بليل فيذكرون الله ما بدا لهم ثم يدفعون منهم من يأتي منى لصلاة الصبح ومنهم من يأتي بعد ذلك وأولهم ضعفاء أهله ويقول أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك قال وأخبرنا معمر عن أيوب عن نافع قال بعثني بن عمر في ضعفة أهله فرمينا الجمرة قبل أن يأتينا الناس
قال وأخبرنا بن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد قال سمعت بن عباس يقول كنت ممن قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضعفة أهله في التعجل من المزدلفة إلى منى
وروي عن عطاء وعكرمة عن بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره في ضعفة بني هاشم وصبيانهم أن يتعجلوا من جمع بليل
قال أبو عمر المبيت بجمع ليلة النحر سنة مسنونة مجتمع عليها إلا أن هذه الأحاديث وما كان مثلها يدل على أن ذلك إنما هو في أكثر الليل وأنه قد رخص أن لا يصبح البائت فيها وأن له أن يصبح بمنى على أن الفضل عند الجميع المبيت بها
290

حتى يصلي الصبح ثم يرفع قبل طلوع الشمس لا يختلفون في ذلك ولا في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كذلك
ولم يختلفوا أنه من لم يبت بجمع ليلة النحر عليه دم وأنه لا يسقط الدم عنه وقوفه بها ولا مروره عليها
وقد قالت طائفة منهم مجاهد أنه من أفاض من جمع قبل الإمام وإن بات بها أن عليه دما
قال أبو عمر أظنهم لم يسمعوا بهذه الآثار والله أعلم
وروى معمر عن أيوب عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قالت كانت سودة بنت زمعة امرأة ثقيلة ثبطة فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن تدلج من جمع فأذن لها قالت عائشة وددت أني كنت استأذنته
وكانت تقول ليس الإدلاج من المزدلفة إلا لمن أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومعمر عن الزهري عن سالم عن بن عمر قال المشعر الحرام المزدلفة كلها
وروى الثوري عن طلحة بن عمرو عن عطاء قال الرحيل من جمع إذا غاب القمر
قال أبو عمر مغيبه ليلة النحر معلوم
وبن جريج عن عطاء عن بن عباس وعن أبي العباس الأعمى عن عبد الله بن عمرو قال إنما جمع منزل تدلج منه إذا شئت
قال معمر وأخبرني هشام بن عروة عن أبيه قال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة أن تصبح بمكة يوم النحر وكان يومها
قال أبو عمر اختلف على هشام في هذا الحديث فروته طائفة عن هشام عن أبيه مرسلا كما رواه معمر
ورواه آخرون عن هشام عن أبيه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أم سلمة بذلك مسندا
291

ورواه آخرون عن هشام عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة أيضا
وكلهم ثقات من رواة هشام
وهذا الحديث خلاف لسائر الأحاديث لأن في غيره من الأحاديث الإدلاج من جمع إلى منى وصلاة الصبح بها وأقصى ما في ذلك رمي الجمرة قبل طلوع الشمس وبعد الفجر
ويدل حديث أم سلمة على أن رمي الجمرة بمنى قبل الفجر لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تصبح بمكة يوم النحر وهذا لا يكون إلا وقد رميت الجمرة بمنى ليلا قبل الفجر والله أعلم
وأجمع العلماء على أن النبي (عليه السلام) وقف بالمشعر الحرام بعد ما صلى الفجر ثم دفع قبل طلوع الشمس
ونقل ذلك أيضا الآحاد العدول
أخبرنا عبد الله قال حدثني محمد قال حدثني أبو داود قال حدثني محمد بن كثير قال أخبرنا سفيان عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال قال عمر كان أهل الجاهلية لا يفيضون يعني من جمع حين يروا الشمس على ثبير قال فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم فدفع قبل طلوع الشمس
وروى بن عيينة عن بن جريج عن محمد بن قيس بن مخرمة وعن بن طاوس عن أبيه أن أهل الجاهلية كانوا يدفعون من عرفة قبل غروب الشمس وكانوا يدفعون من المزدلفة قبل طلوع الشمس فأخر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا وعجل هذا أخر الدفع من عرفة وعجل الدفع من المزدلفة مخالفا لهذا هدي المشركين
وأجمعوا أن الشمس إذا طلعت يوم النحر فقد فات وقت الوقوف بجمع وان من أدرك الوقوف بها قبل طلوع الشمس فقد أدرك فمن قال إنها فرض ومن يقول إنها سنة وقد أوضحنا ذلك فيما مضى والحمد لله
292

وأجمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى يوم النحر في حجته جمرة العقبة بمنى يوم النحر بعد طلوع الشمس
وأجمعوا على أن من رماها ذلك اليوم بعد طلوع الشمس إلى زوالها فقد رماها في وقتها
وأجمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرم يوم النحر من الجمرات غيرها
واختلفوا فمن رماها قبل طلوع الفجر
فقال لم يبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لأحد يرمي قبل أن يطلع الفجر ولا يجوز رميها قبل الفجر فإن رماها قبل الفجر أعادها
وكذلك قال أبو حنيفة وأصحابه لا يجوز رميها قبل الفجر
وبه قال أحمد وإسحاق
وقال الشافعي وقت رمي جمرة العقبة الذي أحبه بعد طلوع الشمس ولا أكرهه قبل الفجر
وهو قول عطاء وعكرمة
وقال سفيان الثوري لا يجوز لأحد أن يرمي قبل طلوع الشمس
وهو قول إبراهيم النخعي وقال أبو ثور لا يجوز الرمي حتى تطلع الشمس إن كان فيه خلاف وأجمعوا أو كانت فيه سنة أجزأه
قال أبو عمر أما قول الثوري ومن تابعه فحجته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة بعد طلوع الشمس وقال خذوا عني مناسككم
وروى الحسن العرني وعطاء ومقسم كلهم عن بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم أغيلمة بني عبد المطلب وضعفتهم وقال لهم أبني لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس
293

أخبرنا سعيد قال حدثني قاسم قال حدثني محمد قال حدثني أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا وكيع عن المسعودي عن الحكم عن مقسم عن بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم ضعفة أهله وقال لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس
ومن أجاز رميها بعد الفجر وقبل طلوع الشمس فقد تقدم في هذا الباب من الآثار ما يدل على ذلك
ومن حديث بن أبي ذئب قال حدثني سعيد عن بن عباس قال بعثني النبي صلى الله عليه وسلم مع أهله وأمرني أن أرمي الجمرة بعد الفجر
وأما من جوز رميها قبل الفجر فحجته حديث أم سلمة المتقدم ذكره
حدثني عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثني أبو داود قال حدثني هارون بن عبد الله قال حدثني بن أبي فديك عن الضحاك بن عثمان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت وكان ذلك اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني عندها
وأخبرنا أحمد بن محمد قال حدثني أحمد بن الفضل قال حدثني محمد بن جرير قال حدثني أبو كريب قال حدثني أبو معاوية عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافي مكة صلاة الصبح يوم النحر
قالوا فلم تكن لتوافي مكة لصلاة الصبح يوم النحر للطواف إلا وقد رمت الجمرة بليل قبل ذلك
وأخبرنا عبد الله قال حدثني محمد قال حدثني أبو داود قال حدثني محمد بن خلاد الباهلي قال حدثني يحيى عن بن جريج قال أخبرني عطاء
294

قال أخبرني مخبر عن أسماء أنها رمت الجمرة قلت إنا رمينا الجمرة بليل قالت إنا كنا نصنع هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقد عارض بعض أصحابنا هذا الحديث عن أسماء بحديث مالك في حديث هذا الباب عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر أنها كانت ترى أسماء بالمزدلفة تأمر الذي يصلي لها الصبح ولأصحابها يصلي لهم حين يطلع الفجر ثم تركب فتسير إلى منى ولا تقف
وهذا لا معارضة فيه ولا يدفع بحديث أسماء المسند لأنه مباح لأسماء ولغيرها أن يفعل ما في حديث مالك هذا بل هو الأفضل المستحب عند الجميع
وأما الكلام فيمن فعل ذلك ورمى بليل فإنما يكون معارضا لو كانت الحجة لهم واحدة
واختلفت الحكاية عن أسماء فيها فأما إذا جاز أن تكون حجتين وأمكن ذلك فلا معارضة هنالك وبالله التوفيق
وأجمعوا على أن الاختيار في رمي جمرة العقبة من طلوع الشمس إلى زوالها
وأجمعوا أنه إن رماها قبل غروب الشمس من يوم النحر فقد جزا عنه ولا شيء عليه إلا مالكا فإنه قال أستحب له إن ترك رمي الجمرة حتى أمسي أن يهريق دما يجيء به من الحل
واختلفوا فيمن لم يرمها حتى غابت الشمس فرماها من الليل أو من الغد
فقال مالك عليه دم
وقال أبو حنيفة إن رماها من الليل فلا شيء عليه وإن أخرها إلى الغد فعليه دم
وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي إن أخر رمي جمرة العقبة إلى الليل أو إلى الغد رمى ولا شيء عليه
وهو قول أبي ثور
وحجتهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لرعاء الإبل في مثل ذلك وما كان ليرخص لهم فيما لا يجوز
وفي حديث بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لرمي الجمرة وقتا وهو يوم
295

النحر فمن رمى بعد غروب الشمس فقد رماها بعد خروجها ومن فعل شيئا في الحج بعد وقته فعليه دم
((57 - باب السير في الدفعة))
844 - مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال سئل أسامة بن زيد وأنا جالس معه كيف كان يسير رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حين دفع قال كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص قال مالك قال هشام والنص فوق العنق
845 - مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يحرك راحلته في بطن محسر قدر رمية بحجر
قال أبو عمر هكذا قال يحيى فرجة وتابعه جماعة منهم أبو المصعب وبن بكير وسعيد بن عفير
وقالت طائفة منهم بن وهب وبن القاسم والقعنبي فإذا وجد فجوة نص
والفجوة والفرجة سواء في اللغة
وليس في هذا الحديث أكثر من معرفة كيفية السير في الدفع من عرفة إلى المزدلفة وهو شيء يجب الوقوف عليه وامتثاله على أئمة الحاج فمن دونهم لأن في استعجال السير إلى المزدلفة استعجال الصلاة بها ومعلوم أن المغرب لا تصلى تلك الليلة إلا مع العشاء بالمزدلفة وتلك سنتها فيجب أن تكون على حسب ما فعله رسول
296

الله صلى الله عليه وسلم ومن قصر عن ذلك أو زاد فقد أساء إذا كان عالما بما في ذلك
وسيأتي حكم الصلاتين بالمزدلفة في موضعه إن شاء الله
والعنق مشي الدواب معروف لا يجهل وربما استعمل في غير الدواب مجازا
والنص ها هنا كالخبب أو فوق ذلك وأرفع
وأصل النص في اللغة الرفع يقال منه نصعت الدابة في سيرها
قال الشاعر
(ألست الذي كلفتها نص ليلة
* من أهل منى نصا إلى أهل يثرب)
وقال اللهبي
(ورب بيداء وليل داج
* قطعته بالنص والإدلاج)
وقال صالح بن عبد القدوس
(ونص الحديث إلى أهله
* فإن الوثيقة في نصه)
أي ارفعه إلى أهله وانسبه إليهم
وقال أبو عبيد النص التحريك الذي يستخرج به من الدابة أقصى سيرها وأنشد قول الراجز
(تقطع الخرق بسير نص
*)
وأما النص في الشريعة فللفقهاء في العبارة تنازع عنه ليس هذا موضع ذكره
وأما حديث مالك عن نافع أن بن عمر كان يحرك راحلته في بطن محسر قدر رمية بحجر فإن فعله في ذلك مأخوذ من السنة
وروى الثوري وغيره عن أبي الزبير عن جابر قال أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه السكينة وقال لهم أوضعوا في وادي محسر
وقال لهم خذوا عني مناسككم
297

وروى معمر عن الزهري عن سالم عن بن عمر انه كان إذا فاض من عرفة سار على هيئته حتى يأتي المزدلفة فإذا أفاض منها سار أيضا على هيئته حتى يأتي محسر ثم يستحث راحلته شيئا ثم يسير على هيئته حتى يأتي الجمرة
وروى الأعمش عن عمارة بن عبيد عن عبد الرحمن بن زيد أنه أوضع بن مسعود يعني في وادي محسر
والإيضاع سرعة السير ولا خلاف بين العلماء في هذا الباب
((58 - باب ما جاء في النحر في الحج))
846 - مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بمنى هذا المنحر وكل منى منحر وقال في العمرة هذا المنحر يعني المروة وكل فجاج مكة وطرقها منحر
قال أبو عمر هذا الحديث يستند عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث علي بن أبي طالب وحديث جابر بن عبد الله (رضي الله عنهما) وقد ذكرنا طرقها في التمهيد
حدثنا خلف بن قاسم قال حدثني أبو الطيب وجيه بن الحسن بن يوسف قال حدثني بكار بن قتيبة القاضي قال حدثني عبد الله بن الزبير الحميدي قال حدثني سفيان عن عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة عن زيد بن علي عن أبيه عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي بن أبي طالب قال وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة فقال هذه عرفة وهذا الموقف وعرفة كلها موقف ثم أفاض حين غربت الشمس فأردف أسامة وجعل يسير على هيئته والناس يضربون يمينا وشمالا وهو يقول يا أيها الناس عليكم السكينة ثم أتى جمعا فصلى بها الصلاتين جميعا فلما أصبح أتى قزح فقال هذا قزح وهذا الموقف وجمع كلها موقف ثم أفاضا حين غربت الشمس فلما انتهى إلى وادي محسر قرع ناقته حتى
298

جاز الوادي ثم أردف الفضل ثم أتى الجمرة فرماها ثم أتى المنحر بمنى فقال هذا المنحر ومنى كلها منحر فاستقبلته جارية من خثعم شابة فقالت أبي شيخ كبير وذكر الحديث
وفي حديث جابر أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر بدنة بمنى وقال هذا المنحر وكلها منحر
قال أبو عمر المنحر في الحج بمنى إجماع من العلماء وأما العمرة فلا طريق لمنى فيها فمن أراد أن ينحر في عمرته وساق هديا تطوع به نحره بمكة حيث شاء منها
وهذا إجماع أيضا لا خلاف فيه يعني عن الإسلام والاستشهاد فمن فعل ذلك فقد أصاب السنة ومن لم يفعل ونحر في غيرهما فقد اختلف العلماء في ذلك
فذهب مالك إلى أن المنحر لا يكون في الحج إلا بمنى ولا في العمرة إلا بمكة ومن نحر في غيرهما لم يجزه ومن نحر في أحد الموضعين في الحج أو العمرة أجزأه لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلهما موضعا للنحر وخصهما بذلك
وقال الله تعالى * (هديا بالغ الكعبة) * [المائدة 95]
قال أبو عمر قد تقدم معنى قوله * (هديا بالغ الكعبة) * وأن العلماء في ذلك على قولين
أحدهما أنه أريد بذكر الكعبة حضرة مكة كلها ولذلك قال صلى الله عليه وسلم طرق مكة وفجاجها كلها منحر
والقول الثاني أنه أراد الحرم وقد أجمعوا أنه لا يجوز الذبح في المسجد الحرام ولا في الكعبة فدل على أن اللفظ ليس على ظاهره
وقال الشافعي وأبو حنيفة إن نحر في غير مكة من الحرم أجزأه
قال وإنما يريد بذلك مساكين الحرم ومساكين مكة
وقد أجمعوا أنه من نحر في غير الحرم ولم يكن محصرا أنه لا يجزئه
847 - مالك عن يحيى بن سعيد قال أخبرتني عمرة بنت عبد الرحمن
299

أنها سمعت عائشة أم المؤمنين تقول خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لخمس ليال بقين من ذي القعدة ولا نرى إلا أنه الحج فلما دنونا من مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة أن يحل قالت عائشة فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر فقلت ما هذا فقالوا نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه
قال يحيى بن سعيد فذكرت هذا الحديث للقاسم بن محمد فقال أتتك والله بالحديث على وجهه
قال أبو عمر أما قولها في هذا الحديث (ولا نرى إلا أنه الحج) فليس فيه قطع بإفراد ولا غيره وقد مضى القول في الإفراد والتمتع والإقران قبل هذا
وأما قولها فلما دنونا من مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة أن يحل فهذا فسخ الحج في العمرة وقد تقدم القول فيه وأوضحنا أنه مخصوص به الذين خاطبهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرنا قول من خالف في ذلك
وأما قولها (فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر الحديث) ففيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر عن أزواجه يوم الهدي الذي نحر عن نفسه لأنه محفوظ من وجوه صحاح متواترة أنه (عليه السلام) قدم عليه علي من اليمن ببدن هديا وكان (عليه السلام) قد ساق مع نفسه أيضا من المدينة هديا فكمل في ذلك مائة بدنة وأشركه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحرها هو وعلي على ما ذكرنا في حديث علي وحديث جابر المسند الصحيح
ولم يذبح البقر إلا عن أزواجه
300

على أن بن شهاب يقول إنما نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه بقرة واحدة يريد أنه أشركهن فيها
ويحتمل أن يكون أراد بقوله ذلك بقرة عن كل واحدة منهن والله أعلم
وفي هذا الحديث أيضا عرض العالم على من هو أعلم منه ما عنده من العلم ليعرف قوله فيه
وفيه أن أهل الدنيا إذا سمعوا الصادق وصدقوه فرحوا به
وفيه جواز نحر البقر ومن أهل العلم من كره ذلك لقول الله (عز وجل) في البقرة * (فذبحوها) * [البقرة 71] والذي عليه جمهور أهل العلم أن البقر يجوز فيها الذبح بدليل القرآن والنحر بالسنة
وأما الإبل فتنحر ولا تذبح والغنم تذبح ولاتنحر
وسيأتي القول بما للعلماء فيمن نحر ما يذبح أو ذبح ما ينحر في موضعه من كتاب الذبائح إن شاء الله (عز وجل)
848 - مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر عن حفصة أم المؤمنين أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما شأن الناس حلوا ولم تحلل أنت من عمرتك فقال إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر
وأما قول حفصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم (ما بال الناس حلوا ولم تحلل أنت (فالمعنى فيه أنه أمر أصحابه المحرمين بالحج أن يحلوا إذا طافوا وسعوا ويجعلوا حجهم ذلك عمرة إلا من كان هدي فان محله محل هديه وإنه لا يحل حتى ينحر هديه ولم تعرف حفصة من أمره هذا فسألته
وقد مضى قولنا في أن فسخ الحج في العمرة ليس عند جمهور العلماء لأحد بعد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين أمروا به
ودللنا على أنهم خصوا بذلك على ما ذكرناه من الآثار في ذلك وذكرنا العلة
301

الموجبة (عليه السلام) أصحابه بفسخ الحج في العمرة وان يحل الحل كله إنما كان ليريهم أن العمرة في أشهر الحج جائزة وكانوا يرون ذلك محرما فأعلم بجواز ذلك ليدينوا به بغير ما يدينون به في الجاهلية ويدركوا في عامهم ذلك ويكونوا متمتعين لأن الله (عز وجل) قد أذن في التمتع بالعمرة إلى الحج وإباحته مطلقة وكذلك القرآن والإفراد كل ذلك مباح بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ولم يأت في الكتاب ولا السنة أن بعضها أفضل من بعض فهذا معنى قول حفصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم (ما بال الناس حلوا ولم تحلل أنت)
وكان أمره صلى الله عليه وسلم أصحابه بالإحلال محالهم في دخول مكة قبل أن يطوفوا وذلك موجود محفوظ في حديث يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لخمس بقين من ذي القعدة لا نرى إلا الحج فلما دنونا من مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت أن يحل
قال أبو عمر يعني بالطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة وهي العمرة
وذلك أيضا محفوظ في حديث جابر من رواية عطاء وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يجعلوها عمرة ويطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة ثم يحلقوا أو يقصروا ويحلوا إلا من كان معه هدي
وهذا يرفع الإشكال فيما قلنا والحمد لله
وأما قول حفصة (ولم تحلل أنت من عمرتك) فقد ظن بعض الناس أن قولها من عمرتك لم يقله في هذا الحديث غير مالك وأظنه رأى رواية من رواه فقصر في ذلك ولم يذكر في الحديث (من عمرتك) فظن أنه لم يقله غير مالك لأنه لم يذكر بن جريج عن نافع في حديثه هذا وقد ذكره البخاري عن مسدد عن يحيى القطان عن عبيد الله بن
عمر عن نافع عن بن عمر فلم يذكر فيه (من عمرتك) وهي لفظة محفوظة في هذا الحديث من رواية مالك وعبيد الله وغيرهما عن نافع
فأما رواية مالك فلم يختلف عنه في ذلك
وأما رواية عبيد الله فقال
حدثني سعيد بن نصر قال حدثني قاسم بن أصبغ قال حدثني محمد بن
302

وضاح قال حدثني أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثني أبو أسامة قال حدثني عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر أن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت يا رسول الله ما شأن الناس حلوا ولم تحل أنت من عمرتك قال إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر
وحدثني عبد الوارث بن سفيان قراءة مني عليه أن قاسم بن أصبغ حدثه قال حدثني بكر بن حماد قال حدثنا مسدد بن مسرهد قال حدثني يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله قال حدثني نافع عن بن عمر عن حفصة قالت قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ما شأن الناس حلوا ولم تحل من عمرتك قال إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر في الحج
وأخبرنا عبد الله بن محمد وعبد الرحمن بن عبد الله قالا حدثني أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك قال حدثني عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال حدثني يحيى بن سعيد عن عبيد الله قال حدثني نافع عن عبد الله بن عمر عن حفصة ابنة عمر قالت لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه أن يحللن بعمرة قلت فما يمنعك يا رسول الله أن تحل معنا قال إني قد أهديت ولبدت فلا أحل حتى أنحر هديي
ورواه سفيان بن عيينة عن أيوب بن موسى عن نافع عن صفية بنت أبي عبيد عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما شأن الناس حلوا ولم تحلل أنت قال إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلست محل إلا محل هديي
قال أبو عمر لم يقم إسناده أيوب بن موسى والقول فيه قول مالك ومن تابعه
وذكر (عمرتك) وتركه في هذا الحديث سواء لأنه معلوم أن المأمورين بالحل هم المحرمون بالحج ليفسخوه في عمرة كما تقدم ذكرنا له ويستحيل أن يأمر بذلك المحرمين بعمرة لأن المعتمر يحل بالطواف والسعي والخلاف ليس في ذلك شك عنهم في الجاهلية والإسلام ولا عند من بعدهم وقد اعتمروا مع رسول الله وعرفوا حكم العمرة في الشريعة فلم يكن ليعرفهم شيئا في علمهم بل عرفهم بما أحله الله لهم في عامهم ذلك من فسخ الحج في عمرة فما كانوا قد جهلوه وأنكروه من جواز العمرة في زمن الحج حتى قال بعضهم يتوجه إلى منى ولم يكونوا في الجاهلية
303

يتمتعون بالعمرة إلى الحج ولا يعتمرون في أشهر الحج ولا يخلطون عمرة مع حجة ولا يجمعونها فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الله في الحج بغير ما كانوا عليه في جاهليتهم وصدع بما أمر به وأوضح معالم الدين صلى الله عليه وسلم وعلى آله أجمعين
فحديث حفصة هذا يدل والله أعلم على القران لأن هدي القران يمنع من الإحلال وليس كذلك ما ساقه المفرد لأن هدي المفرد هدي تطوع لا يمنع شيئا ولولا هديه المانع له من الإحلال لحل مع أصحابه ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة يعني عمرة مفردة يتمتع فيها بالحل إلى يوم التروية على ما أمر به أصحابه ومن ساق هديا لمتعته لم يمنعه من الحل
وقد بينا أن قوله عليه السلام لأصحابه من لم يكن معه هدي فليحل كان قبل الطواف للقدوم بدليل حديث عائشة قولها فلما دنونا من مكة وكذلك حديث جابر على ما تقدم ذكره
وهذا كله ينبغي أن يكون هديه هدي متعة لأنه لو كان هدي متعة لحل حينئذ مع أصحابه ولم يكن ليخالفهم ويعتذر إليهم فيقول لولا أني سقت الهدي لأحللت وهدي المتعة لا يمنع من الإحلال عند أهل الحجاز
قال مالك والشافعي المعتمر يحل من عمرته إذا طاف وسعى ساق هديا أو لم يسق
وقال أبو حنيفة إذا ساق المعتمر في أشهر الحج هديا وهو يريد المتعة لم ينحره إلا بمنى وطاف وسعى وأقام إحراما ولا يحل منه شيء ولا يحلق ولا يقصر لأنه ساق معه الهدي فمحله محل الهدي لا يحل حتى ينحر الهدي
قالوا ولو لم يسق الهدي كان له أن يحل من عمرته واحتجوا بحديث حفصة أيضا ما شأن الناس حلوا ولم تحل أنت من عمرتك فلم ينكر عليها قولها وقال لها إني قلدت هديي ولبدت رأسي فلا أحل حتى أحل من الهدي
وحجة مالك والشافعي ومن قال بقولهما ظاهر قول الله تعالى " فمن تمتع بالعمرة @ 305 @ إلى الحج " [البقرة 196] ومعلوم أنه لا يكون متمتعا بالعمرة إلى الحج إلا من حل من إحرامه وتمتع بالإحرام إلى أن يحرم لحجه يوم التروية
وأما هدي القران فإنه مانع من الإحلال والفسخ عند جمهور السلف والخلف إلا بن عباس
وتابعته فرقة إذا لم يسق الهدي جاز له فسخ الحج في العمرة
قال على ما قدمنا من مذهبه في ذلك روى خصيف عن طاوس وعطاء عن بن عباس أنه كان يأمر القارن أن يجعلها عمرة إذا لم يسق الهدي
قال أبو عمر قول بن عباس يحتمله قول النبي عليه السلام حين أمر أصحابه بفسخ الحج في العمرة لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولحللت يعني فسخت
الحج من العمرة كما أمرتكم
وقد أوضحنا أن فسخ الحج خصوص لهم بالآثار المروية في ذلك وعلى هذا لقول الله تعالى * (وأتموا الحج والعمرة لله) * [البقرة 196] وبالله التوفيق
قال أبو عمر وهدي القران يمنع من الإحلال عند جماعة فقهاء الأمصار وجمهور أهل العلم فالأولى بمن يرون الإنصاف ألا يشكوا في حديث حفصة هذا أنه دال على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قارنا مع ما يشهد له من حديث أنس وغيره أنه كان قارنا وقد ذكرناها في باب القران
وإنما اختار مالك (رحمه الله) القران ومال إليه لأنه روي من وجوه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج
مال إلى ما روى وهذا اللازم له ولغيره أن يقف عندما علم وحكمه على اختيار الإفراد أيضا مع علمه باختلاف الناس في اختيار القران والتمتع
والإفراد ما صح عنده عن الخليفتين أبي بكر وعمر (رضي الله عنهما) أنهما أفردا الحج وعن عثمان مثل ذلك أيضا
وكان عمر ينكر ذلك وينهى عنه ويقول افصلوا بين حجكم وعمرتكم فهو أتم لحج أحدكم أن تكون عمرته في غير أشهر الحج
فاختيار مالك هو اختيار أبي بكر وعمر وعثمان (رضي الله عنهم) وكان مالك
304

يقول إذا اختلفت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم في شيء فانظروا إلى ما عمل به الخليفتان بعده أبو بكر وعمر فهو الحق
قال أبو عمر يعني الأولى والأفضل لا أن ما عداه باطل لأن الأمة مجتمعة على أن الإفراد والقران والتمتع كل ذلك جائز في القرآن والسنة والإجماع وانه ليس منها شيء باطل بل كل ذلك حق ودين وشريعة من شرائع الإسلام في الحج ومن مال منها إلى شيء فإنما مال برأيه إلى وجه تفضيل اختاره وأباح ما سواه
وجائز أن يقال أفرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج بمعنى أمر به فأذن فيه كما قيل رجم ماعزا وقتل عقبة بن أبي معيط وقطع في مجن
ويبين هذا المعنى قوله تعالى * (ونادى فرعون في قومه) * [الزخرف 51] المعنى أنه أمر بذلك
ومن ذهب إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مفردا تأول في حديث حفصة ما بال الناس حلوا من إحرامهم ولم تحل أنت من إحرامك الذي ابتدأته معهم
وقال بعضهم قد يأتي من بالباب كما قال الله (عز وجل) * (يحفظونه من أمر الله) * [الرعد 11] أي بأمر الله يريد ولم تحل أنت بعمرة من إحرامك الذي جئت به مفردا في حجتك
ومن اختار القران مال فيه إلى أحاديث منها حديث شعبة قال حدثني حميد بن هلال قال سمعت مطرف بن الشخير يقول قال لي عمران بن حصين جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حج وعمرة ولم ينه عنه بعد ذلك قال رجل برأيه ما شاء الله
أخبرنا عبد الله بن محمد بن أمية قال حدثني حمزة قال أخبرنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثني هشيم قال أخبرنا عبد العزيز بن صهيب وحميد
306

الطويل ويحيى بن أبي إسحاق كلهم عن أنس أنهم سمعوه يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لبيك عمرة وحجا
وأخبرنا عبد الله قال حدثني حمزة قال حدثني أحمد بن شعيب قال أخبرنا أحمد بن محمد بن جعفر قال أخبرني يحيى بن معين قال حدثني حجاح وهو الأعور قال حدثني يونس بن إسحاق عن أبي إسحاق عن البراء قال كنت مع علي (رضي الله عنه) حين أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليمن فأصبت معه أواقي فلما قدم علي على النبي صلى الله عليه وسلم قال علي وجدت فاطمة قد نضحت البيت بنضوح قال فتخطيته فقالت لي مالك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أصحابه أن يحلوا قال قلت إني أهللت بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم قال فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي كيف صنعت قلت إني أهللت بما أهللت قال فإني سقت الهدي وقرنت
أخبرنا خلف بن قاسم قال حدثني عبد الله بن محمد بن ناصح قال حدثني أحمد بن علي بن سعيد القاضي قال حدثني يحيى بن معين قال حدثني حجاج بن محمد قال حدثني يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عن البراء قال كنت مع علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) حين أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليمن فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قال علي أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي كيف صنعت فقلت أهللت بإهلالك قال فإني سقت الهدي وقرنت قال وقال لأصحابه لو استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كما فعلتم ولكني سقت الهدي وقرنت
قال أبو عمر فهذا أنس يخبر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يلبي بالعمرة والحج معا
وعلي يخبر أنه سمعه يقول سقت الهدي وقرنت
وليس يوجد عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه صحيح إخبار عن نفسه أنه أفرد ولا أنه تمتع وإنما يوجد عن غيره إضافة ذلك إليه بما يحتمل التأويل
وهذا لفظ يدفع الإشكال ويدفع الاحتمال وبالله التوفيق وهو المستعان
ومما يدل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قارنا حديث مالك عن بن شهاب عن
307

عروة عن عائشة قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فأهللنا بعمرة ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا
ومعلوم أنه كان معه هدي وأنه لم يحل حتى نحر الهدي وبالله التوفيق وهو حسبي ونعم الوكيل
((59 - باب العمل في النحر))
849 - مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر بعض هديه ونحر غيره بعضه
قال أبو عمر هكذا قال يحيى عن مالك في هذا الحديث عن علي وتابعه القعنبي في ذلك ورواه بن القاسم وأبو مصعب وبن بكير وبن قانع والشافعي فقالوا فيه عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر وأرسله بن وهب عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه لم يقل (عن جابر ولا عن علي)
قال أبو عمر الصحيح فيه عن جابر وأرسله بن وهب وذلك موجود في رواية بن علي عن جابر في الحديث الطويل في الحج وإنما جاء حديث علي من رواية بن أبي ليلى عنه لا أحفظه من وجه آخر
وفيه من الفقه أن يتولى الرجل نحر هديه بيده وذلك مستحب مستحسن عند أهل العلم لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بيده ولأنها قربة إلى الله (عز وجل) فمباشرتها أولى لمن قدر عليها
وجائز أن يذبح الهدي والضحايا غير صاحبها إذا كان من خاصته ومن بفضل فعله يكون مصدر كفاية
وقد ذكرنا في التمهيد الآثار المسندة بهذا الحديث ومن أحسنها ما
حدثناه عبد الله بن محمد قال حدثني حمزة بن محمد قال حدثني أحمد بن شعيب قال حدثني أحمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال حدثني شعيب بن الليث قال حدثني الليث عن بن الهادي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله قال قدم علي (رضي الله عنه) من اليمن بهدي رسول
308

الله صلى الله عليه وسلم وكان الهدي الذي قدم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي من اليمن مائة بدنة فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم منها ثلاثا وستين بدنة ونحر علي (رضي الله عنه) سبعا وثلاثين وأشرك عليا في بدنه ثم أخذ من كل بدنة بضعة فجعلت في قدر فطبخت وأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم من لحمها وشرب من مرقها
وأما رواية علي بن أبي طالب ف حدثنا سعيد بن نصر قال حدثني قاسم قال حدثني محمد بن إسماعيل قال حدثني الحميدي قال حدثني سفيان قال حدثني عبد الكريم الجزري قال سمعت مجاهدا يقول سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى يقول سمعت علي بن أبي طالب يقول أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه وأن أقسم جلالها وجلودها ولا أعطي الجازر منها وقال نحن نعطيه من عندنا
قال أبو عمر في حديث مالك ونحر غيره بعضه فقد بان مما ذكرنا أن غيره هو علي بن أبي طالب
وقد اختلف العلماء فيمن نحرت أضحيته بغير إذنه ولا أمره
فقال مالك إنها لا تجزي به عن الذبائح وسواء أن نوى ذبحها عن نفسه أو عن صاحبها وعليه ضمانها
وروي عنه أن الذابح إذا كان مثل الولد وبعض العيال فأرجو أن يجزئ
رواه بن عبد الحكم عنه
وقال بن القاسم عنه مثل ذلك إلا أن بن القاسم قال عنه تجزي في الولد وبعض العيال
وفي رواية بن عبد الحكم أرجو أن يجزئ
وقال الثوري إذا ذبحها بغير إذنه لم تجز عنه ويضمن الذابح
وقال الشافعي تجزي عن صاحبها ويضمن الذابح النقصان
وقال محمد بن الحسن في رجل تطوع عن رجل فذبح له ضحية قد أوجبها أنه
309

إن ذبحها عن نفسه متعمدا لم تجز عن صاحبها وله أن يضمن الذابح فإن ضمنه إياها أجزت عن الضامن بأن ضمنها عن صاحبها ولو أن يضمن الذابح فإن ضمنه إياها جزت عن الضامن فإن ذبحها عن صاحبها بغير أمره أجزت عنه
وبه قال الطبري
وإن أخطأ رجلان فذبح كل واحد منهما ضحية صاحبه لم تجز عن واحد منهما في قول مالك وأصحابه ويضمن كل واحد منهما قيمة ضحية صاحبه لم يختلفوا في ذلك
واختلفوا في ذلك في الهدي
فالأشهر عن مالك ما حكاه بن عبد الحكم وغيره عنه أنه لو أخطأ رجلان كل واحد منهما بهدي صاحبه فذبحه عن نفسه أجزأهما ولم يكن عليهما شيء وهو المشهور عن مالك في الهدي الواجب
وقال بن عبد الحكم عن مالك في المعتمرين لو ذبح أحدهما شاة صاحبه عن نفسه ضمنها ولم يجزه وذبحها شاته التي أوجبها وغرم لصاحبه قيمة الشاة واشترى صاحبه شاة وأهداها
قال بن عبد الحكم والقول الأول أعجب إلينا يعني المعتمرين يذبح أحدهما شاة صاحبه وهو قد أخطأ بها أن ذلك يجزيهما
وقد روي عن مالك في المعتمرين إذا أهديا شاتين فذبح كل واحد منهما شاة صاحبه خطأ إن ذلك لا يجزئ عنهما ويضمن كل واحد منهما قيمة ما ذبح واستأنفا الهدي
وقال الشافعي يضمن كل واحد منهما ما بين قيمة ما ذبح حيا ومذبوحا وجزت عن كل واحد منهما أضحيته وذبحه
وقال الطبري يجزئ كل واحد منهما ضحيته وذبحه ولا شيء على الذابح لأنه فعل ما لا بد منه ولا ضمان على واحد منهما إلا أن يستهلك شيئا من لحمها فيضمن ما
استهلك
850 - مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر قال من نذر بدنة فإنه
310

يقلدها نعلين ويشعرها ثم ينحرها عند البيت أو بمنى يوم النحر ليس لها محل دون ذلك ومن نذر جزورا من الإبل أو البقر فلينحرها حيث شاء
قال أبو عمر جعل بن عمر البدنة كالهدي والهدي لا خلاف بين العلماء أنه يهدى إلى البيت العتيق يراد بذلك مساكين أهل مكة
والهدي سنته أن يقلد ويشعر وينحر إن سلم بمكة فمن قال لله علي بدنة فهو كمن قال لله علي هدي وأما إذا قال جزور فإنه أراد إطعام لحمه مساكين موضعه أو ما يرى من المواضع
851 - مالك عن هشام بن عروة أن أباه كان ينحر بدنة قياما
قال أبو عمر قد مضى الكلام في نحر البدن قياما في حديث بن عمر في هذا الكتاب وذكرنا أن معنى قوله تعالى * (أصوافها) * قياما
وأظن اختيار العلماء لنحر البدن قياما لقوله تعالى * (فإذا وجبت جنوبها) * [الحج 36] والوجوب السقوط إلى الأرض عند العرب
واختصار اختلافهم في هذا الباب قال مالك ينحر البدن قياما وتعقل إن خيف أن تنفر ولا تنحر باركة إلا أن يصعب نحره
قال الشافعي وقال الثوري إن شاء أضجعها وإن شاء نحرها قائمة
قال مالك لا يجوز لأحد أن يحلق رأسه حتى ينحر هديه ولا ينبغي لأحد أن ينحر قبل الفجر يوم النحر وإنما العمل كله يوم النحر الذبح ولبس الثياب وإلقاء التفث والحلاق لا يكون شيء من ذلك يفعل قبل يوم النحر
قال أبو عمر هذا لا خلاف فيه بين العلماء أن جمرة العقبة إنما ترمى ضحى يوم النحر وتمام حلها أول الحل وإلقاء التفث كله وقد تقدم القول فيمن رماها قبل الفجر وبعد الفجر في موضعه وأعمال يوم النحر كلها جائز فيها التقديم والتأخير إلا ما نذكر الخلاف فيه في موضعه إن شاء الله
311

((60 - باب الحلاق))
852 - مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اللهم ارحم المحلقين قالوا والمقصرين يا رسول الله قال اللهم ارحم المحلقين قالوا والمقصرين يا رسول الله قال والمقصرين
قال أبو عمر أما حديث بن عمر هذا فليس فيه ذكر الموضع الذي كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القول
وهو محفوظ من حديث بن عباس وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة والمسور بن مخرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك يوم الحديبية
روى الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن إبراهيم الأنصاري قال حدثني أبو سعيد الخدري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر يوم الحديبية للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة
حدثني عبد الله بن محمد بن يوسف قال حدثني محمد بن أحمد بن يحيى قال حدثني أحمد بن محمد بن زياد قال حدثني أحمد بن عبد الجبار قال حدثني يونس بن بكير قال حدثني محمد بن إسحاق بن الزهيري عن عروة بن الزبير عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة أنهما حدثاه فذكر حديثهما في الحديبية قالا فلما فرغ من الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أيها الناس قوموا فانحروا وأحلوا فوالله ما قام رجل لما دخل قلوب الناس من الشر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أيها الناس انحروا وأحلوا فوالله ما قام أحد من الناس ثم قالها الثالثة فما قام أحد من الناس فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل على أم سلمة فقال يا أم سلمة أما ترين إلى الناس آمرهم بالأمر لا يفعلونه فقالت يا رسول الله لا تلمهم فإن الناس قد دخلهم أمر عظيم مما رأوك حملت على نفسك في الصلح فأخرج يا رسول الله لا تكلم أحدا من الناس حتى يأتي هديك فتنحر وتحل فإن الناس إذا رأوك فعلت ذلك فعلوا كالذي فعلت فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندها فلم يكلم أحدا حتى أتى هديه فنحر وحلق فلما رأى الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فعل
312

ذلك قاموا فنحر من كان معه هدي وحلق بعض وقصر بعض فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم اغفر للمحلقين فقيل يا رسول الله وللمقصرين فذكرها ثلاثة وقال في الثالثة وللمقصرين
وبه عن يونس بن بكير عن هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي إبراهيم عن أبي سعيد الخدري قال حلق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية كلهم إلا رجلين قصرا ولم يحلقا
وبه عن بن إسحاق عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن بن عباس قال حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم رحم الله المحلقين قالوا يا رسول الله والمقصرين قال رحم الله المحلقين قالوا يا رسول الله والمقصرين قال رحم الله المحلقين قالوا يا رسول الله والمقصرين قال والمقصرين قالوا فما بال المحلقين ظاهرت لهم بالترحم قال لم يشكوا
رواه عن بن إسحاق جماعة أصحابه إلا أن أبا إبراهيم الأنصاري هذا هو الأشهلي لم يرو عنه غير يحيى بن أبي كثير
وروى أبو داود الطيالسي قال حدثني هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن إبراهيم الأنصاري عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى أصحابه حلقوا رؤوسهم يوم الحديبية إلا عثمان بن عفان وأبا قتادة فاستغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثا وللمقصرين واحدة
وقد ذكرنا هذه الأحاديث بالأسانيد في التمهيد
وقد أجمع العلماء على أن النساء لا يحلقن وأن سنتهن التقصير وقد ثبت أن ذلك كان عام الحديبية حين أحصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنع من النهوض إلى البيت وقد تقدم ذكر أحكام المحصر في موضعه
واختلف الفقهاء هل الحلاق نسك يجب على الحاج والمعتمر أم لا
فقال مالك الحلاق نسك يجب على الحاج المتم لحجه والمعتمر لعمرته وهو أفضل من التقصير ويجب على كل من فاته الحج أو أحصر بعدو أو مرض
وهو قول جماعة الفقهاء إلا في المحصر بعدو هل هو من النسك أم لا فقد اختلفوا في ذلك
313

وقال أبو حنيفة المحصر ليس عليه تقصير ولا حلاق
وقال أبو يوسف يقصر فإن لم يفعل فلا شيء عليه
وقد روي عن أبي يوسف أن عليه الحلاق أو التقصير لا بد له منه
واختلف قول الشافعي هل الحلاق من النسك أوليس من النسك على قولين
أحدهما الحلاق من النسك
والآخر الحلاق من الإحلال لأنه ممنوع منه بالإحرام
قال أبو عمر من جعل الحلاق نسكا أوجب على من تركه دما
واختلف قول مالك فيمن أفاض قبل أن يحلق
فذكر بن عبد الحكم قال ومن أفاض قبل أن يحلق فليحلق ثم ليفض فإن لم يفض فلا شيء عليه
قال وقد قال ينحر ويحلق ولا شيء عليه قال والأول أحب إلينا
وقال بن حبيب يعيد الإفاضة
853 - مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أنه كان يدخل مكة ليلا وهو معتمر فيطوف بالبيت وبين الصفا والمروة ويؤخر الحلاق حتى يصبح
قال ولكنه لا يعود إلى البيت فيطوف به حتى يحلق رأسه
قال وربما دخل المسجد فأوتر فيه ولا يقرب البيت
قال أبو عمر ليس عليه في تأخير الحلاق حرج إذا شغله عنه ما يمنعه منه وأظن القاسم لم يجد في الليل من يحلقه
وأما امتناعه من الطواف قبل الحلق فمن أجل ألا يطوف في عمرته طوافين والله أعلم لأنه خلاف السنة المجتمع عليها فإذا حل بالحلاق طاف تطوعا ما شاء
وأما قوله (وربما دخل المسجد فأوتر فيه ولا يقرب البيت) فذلك لأن لا تدعوه نفسه إلى الطواف فينسى فيطوف في موضع ليس له أن يطوف فيه من أجل الحلاق المانع له ذلك فإذا حلق خرج من عمرته كلها فصنع ما شاء من طواف كله
وهذا يدلك أن حلاق الرأس يعد من مناسك الحج والمعتمر على ما ذكرنا من مذهب مالك في ذلك
314

وأما قول مالك التفث حلاق الشعر ولبس الثياب وما يتبع ذلك فهو كما قال ذلك لا خلاف فيه
سئل مالك عن رجل نسي الحلاق بمنى في الحج هل له رخصة في أن يحلق بمكة قال ذلك واسع والحلاق بمنى أحب إلي
قال أبو عمر إنما استحب ذلك ليكون حلق رأسه في حجه حيث ينحر هديه في حجه وذلك بمنى هو منحر الحاج عند الجميع وأجازه بمكة كما يجوز النحر بمكة لم ينحر هنا لأن الهدي إذا لم يبلغ مكة فقد بلغ محله
قال مالك الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا أن أحدا لا يحلق رأسه ولا يأخذ من شعره حتى ينحر هديا أن كان معه ولا يحل من شيء حرم عليه حتى يحل بمنى يوم النحر وذلك أن الله تبارك وتعالى قال * (ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله) * [البقرة 196]
قال أبو عمر اختلف الناس فيمن حلق قبل أن ينحر أو قبل أن يرمي
فقال مالك إذا حلق قبل أن يرمي فعليه دم وإن حلق قبل أن ينحر فلا شيء عليه
وبه قال أبو يوسف ومحمد
وقال الشافعي إن حلق قبل أن يرمي أو قبل أن ينحر فلا شيء عليه
وقال أبو حنيفة والثوري إن حلق قبل أن ينحر أو قبل أن يرمي فعليه دم وإن كان قارنا فعليه دمان
وقال زفر إن كان قارنا فعليه ثلاثة دماء دم للقران ودمان للحلاق قبل النحر
وسنذكر هذه المسألة بأتم ذكر من ها هنا عند ذكر حديث بن شهاب عن عيسى بن طلحة في باب جامع الحج إن شاء الله (عز وجل))
1 (61 - باب التقصير))
854 - مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا أفطر من رمضان وهو يريد الحج لم يأخذ من رأسه ولا من لحيته شيئا حتى يحج
قال أبو عمر إنما كان بن عمر يفعل ذلك والله أعلم لأنه كان يتمتع بالعمرة
315

إلى الحج فيهدي ومن أهدى أو ضحى لم يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئا حتى يضحي عند طائفة من أهل العلم لحديث مالك عن عمرو بن مسلم بن أكيمة عن سعيد بن المسيب عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من رأى منكم هلال ذي الحجة فأراد أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره
وممن قال بهذا الحديث الأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وطائفة من التابعين قد تقدم ذكرهم في هذا الكتاب لأنا أوضحنا القول فيهم في باب ما لا يوجب الإحرام من تقليد الهدي
وكان مالك والثوري وأبو حنيفة وأصحابه لا يقولون بهذا الحديث وقد بينا وجوه أقوالهم في الباب المذكور
وهنالك بينا مذهب الشافعي أيضا
855 - مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا حلق في حج أو عمرة أخذ من لحيته وشاربه
وهذا معناه لما كان حراما عليه أن يأخذ من لحيته وشاربه وهو محرم رأى أن ينسك بذلك عند إحلاله
856 - مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن رجلا أتى القاسم بن محمد فقال إني أفضت وأفضت معي بأهلي ثم عدلت إلى شعب فذهبت لأدنو من أهلي فقالت إني لم أقصر من شعري بعد فأخذت من شعرها بأسناني ثم وقعت بها فضحك القاسم وقال مرها فلتأخذ من شعرها بالجلمين
قال مالك أستحب في مثل هذا أن يهرق دما وذلك أن عبد الله بن عباس قال من نسي من نسكه شيئا فليهرق دما
قال أبو عمر هذا الحديث بين ما فيه مدخل للقول إلا أن من السنة إذا رمى
316

الجمرة إن كان معه هدي أن يحلق وينحر ثم يفيض وعمل يوم النحر الحلق والرمي للإفاضة قد أجاز فيه جمهور أهل العلم التقديم والتأخير ومعلوم أن من طاف للإفاضة فقد حل له النساء فلم يأت الرجل حراما في فعله ذلك إلا أنه أساء إذ وطئ قبل الحلق وعليه أن يحلق كما قال له القاسم لا غير
واستحب له مالك الدم مع ذلك ذكره عن بن عباس ولم يره عليه القاسم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم افعل ولا حرج يعني في التقديم والتأخير فيما يعمل يوم النحر من أعمال الحج
روى القاسم أن التقصير بالأسنان له هذا الشأن وأجمعوا أن سنة المرأة التقصير لا الحلاق
وقد روى الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تحلق المرأة رأسها
وقال الحسن حلق رأسها مثله فرأى القاسم الأخذ بالجلمين للمقصر لأنه المعروف بالتقصير كما أن المعروف بالحج الحلاق بالموسي في الحج
وكان مالك يقول الحلق بالموسي في غير الحج مثله
وقال غيره لما كان الحلق بالموسي نسكا في الحج كان في غير الحج حسنا
وفي أخذ بن عمر من آخر لحيته في الحج دليل على جواز الأخذ من اللحية في غير الحج لأنه لو كان غير جائز ما جاز في الحج لأنهم أمروا أن يحلقوا أو يقصروا إذا حلوا محل حجهم ما نهوا عنه في حجهم
وبن عمر روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أعفوا اللحا وهو أعلم بمعنى ما روى فكان المعنى عنده وعند جمهور العلماء الأخذ من اللحية ما تطاير والله أعلم
وروي عن علي (رضي الله عنه) أنه كان يأخذ من لحيته ما يلي وجهه
317

وقال إبراهيم كانوا يأخذون من عوارض لحاهم
وكان إبراهيم يأخذ من عارض لحيته
وعن أبي هريرة أنه كان يأخذ من اللحية ما فضل عن القبضة
وعن بن عمر مثل ذلك
وعن الحسن مثله
وقال قتادة ما كانوا يأخذون من طولها إلا في حج أو عمرة كانوا يأخذون من العارضين
كل ذلك من كتاب بن أبي شيبة بالأسانيد
أخبرنا عبد الوارث قال حدثني قاسم قال حدثني الخشني قال حدثني محمد بن أبي عمر العدني قال حدثني سفيان قال حدثني بن أبي نجيح عن مجاهد قال رأيت بن عمر قبض على لحيته يوم النحر ثم قال للحجام خذ ما تحت القبضة
857 - مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه لقي رجلا من أهله يقال له المجبر قد أفاض ولم يحلق ولم يقصر جهل ذلك فأمره عبد الله أن يرجع فيحلق أو يقصر ثم يرجع إلى البيت فيفيض
قال أبو عمر القول في معنى الحديث قبله يعني عن القول فيه
858 - مالك أنه بلغه أن سالم بن عبد الله كان إذا أراد أن يحرم دعا بالجلمين فقص شاربه وأخذ من لحيته قبل أن يركب وقبل أن يهل محرما
قال أبو عمر هذا أحسن لأنه معلوم أن الشعر يطول ويسمح ويثقل فتأهب لذلك وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وطائفة من أصحابه في الطيب قبل الإحرام ما يدفع عنهم ريح عرق أبدانهم هذا واضح والقول فيه تكلف لوضوحه
وفيه أنه جائز أن يأخذ الرجل من لحيته وذلك إن شاء الله كما قال مالك يؤخذ ما تطاير منها وطال وقبح
318

وسيأتي القول في معنى قوله عليه السلام أحفوا الشوارب وأعفوا اللحا في موضعه من كتاب الجامع إن شاء الله
((62 - باب التلبيد))
859 - مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب قال من ضفر رأسه فليحلق ولا تشبهوا بالتلبيد
قال أبو عمر قد روي مثل قول بن عمر هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه حسن ويروى في هذا الحديث تشبهوا وتشبهوا بضم التاء وفتحها وهو الصحيح بمعنى تتشبه
ومن روى (تشبهوا) أراد لا تشبهوا عليها فتفعلوا أفعالا تشبه التلبيد الذي من سنة فاعله أن يحلق
860 - مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قال من عقص رأسه أو ضفر أو لبد فقد وجب عليه الحلاق
روى بن جريج عن عطاء بن عمر قال من عقد أو لبد أو ضفر أو عقص فليحلق
وقال بن عباس نواه
وروى بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء عن بن عباس قال من ضفر رأسه أو عقص أو لبد فهو ما نوى
قال وقال بن عمر من عقص رأسه أو ضفر أو لبد فقد وجب عليه الحلاق
وسفيان عن أيوب بن موسى عن نافع عن بن عمر مثله إلا أنه قال فليحلق
وبه قال مالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق
319

قال أبو عمر قول بن عباس (هو ما نواه) يريد من حلق أو قصر في حين عقصه أو ضفره أو تلبيده وقد قالت به فرقة
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إن قصر الملبد لرأسه بالمقراض أو بالمقص أجزأه
قال أبو عمر التلبيد سنة الحلق وذلك أنه من لبد رأسه بالخطمي وما أشبهه مما يمنع وصول التراب إلى أصول الشعر وقاية لنفسه
والذي عليه العلماء أن لا تقصير دون الحلاق مع أنه سنة لقوله عليه السلام لبدت رأسي ثم حلق صلى الله عليه وسلم ولم يقصر في حجته
ومعنى التلبيد أن يجعل الصمغ في الغسول ثم يلطخ به رأسه إذا أراد أن يحرم ليمنعه ذلك من الشعث ولما ذكرنا
والعقص أن يجمع شعره في قفاه وهذا لا يمكن إلا في قليل الشعر
فرأى عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) فيمن فعل شيئا من ذلك أن الحلاق عليه واجب
وهذا عند العلماء وجوب بسنة
ومعنى قوله (لا تشبهوا بالتلبيد) أي لا تفعلوا أفعالا حكمها حكم التلبيد من العقص والضفر ونحوه ثم تقصرون ولا تحلقون وتقولون لم نلبد
يقول فمن عقص أو ضفر فهو ملبد وعليه ما على الملبد من الحلاق
((63 - باب الصلاة في البيت وقصر الصلاة وتعجيل الخطبة بعرفة))
861 - مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل
320

الكعبة هو وأسامة بن زيد وبلال بن رباح وعثمان بن طلحة الحجبي فأغلقها عليه ومكث فيها
قال عبد الله فسألت بلالا حين خرج ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جعل عمودا عن يمينه وعمودين عن يساره وثلاثة أعمدة وراءه وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة ثم صلى
هكذا روى هذا الحديث جماعة من رواة مالك في الموطأ انتهوا فيه إلى قوله ثم صلى
وزاد فيه بن القاسم وجعل بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع
ولم يقولوا نحو ذلك
وقد ذكرنا اختلاف ألفاظ أصحاب نافع في التمهيد أيضا بالأسانيد
وفي هذا الحديث رواية الصاحب عن الصاحب
وقد روى بن عباس عن أسامة بن زيد قال دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة فسبح وكبر في نواحيها ولم يصل فيها ثم خرج فصلى خلف المقام قبل الكعبة ركعتين ثم قال هذه القبلة
وروى مجاهد عن بن عمر عن بلال أنه قال له أصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة قال نعم قلت أين صلى قال بين الأسطوانين ركعتين ثم خرج فصلى ركعتين في وجه القبلة
هكذا حديث سيف بن سليمان عن مجاهد
وروى يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن عبد الله بن صفوان قال قلت لعمر بن الخطاب كيف صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل الكعبة قال صلى ركعتين
قال أبو عمر وهما حديثان وقد ذكرنا أسانيد هذه الأحاديث وغيرها في التمهيد
321

وفيها ما يرد قول من زعم أنه صلى في حديث بلال معناه أنه دعا
ورواية بن عمر عن بلال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة ركعتين أولى من رواية بن عباس عن أسامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل فيها لأن من نفى شيئا وأثبته غيره لم يعد شاهدا وإنما الشاهد المثبت لا النافي
وهذا أصل من أصول الفقه في الشهادات إذا تعارضت مثل هذا
واختلف الفقهاء في الصلاة في الكعبة الفريضة والنافلة
فقال مالك لا يصلي فيها الفرض ولا الوتر ولا ركعتي الفجر ولا ركعتي الطواف ويصلي فيها التطوع
وقد ذكرنا اختلاف قوله وقول أصحابه فيمن صلى فيها أو على ظهرها الفريضة في كتاب اختلافهم والأشهر عنه أنهم يعيدون في الوقت
وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري يصلى في الكعبة الفريضة والنافلة
قال الشافعي إن صلى في جوفها مستقبلا حائطا من حيطانها فصلاته جائزة أو صلى عند الباب والباب مفتوح فصلاته جائزة أو صلى عند الباب والباب مفتوح فصلاته باطلة لأنه لم يستقبل شيئا منها
قال ومن صلى على ظهرها فصلاته باطلة لأنه لم يستقبل شيئا منها
وقال أبو حنيفة من صلى على ظهر الكعبة فلا شيء عليه
واختلف أهل الظاهر فيمن صلى في الكعبة فقال بعضهم صلاته جائزة لأنه قد استقبل بعضها
وقال بعضهم لا صلاة له نافلة ولا فريضة لأنه قد استدبر بعضها وقد نهى عن ذلك حين أمر أن يستقبلها
واحتج قائل هذه المقالة بقول بن عباس أمر الناس أن يصلوا إلى الكعبة ولم يؤمروا أن يصلوا فيها
وقد أوضحنا هذه المسألة في التمهيد إن شاء الله وبالله التوفيق
((63 - م باب تعجيل الصلاة بعرفة وتعجيل الوقوف بها))
862 - مالك عن بن شهاب عن سالم بن عبد الله أنه قال كتب عبد
322

الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف أن لا تخالف عبد الله بن عمر في شيء من أمر الحج قال فلما كان يوم عرفة جاءه عبد الله بن عمر حين زالت الشمس وأنا معه فصاح به عند سرادقه أين هذا فخرج عليه الحجاج وعليه ملحفة معصفرة فقال ما لك يا أبا عبد الرحمن فقال الرواح إن كنت تريد السنة فقال أهذه الساعة قال نعم قال فأنظرني حتى أفيض علي ماء ثم أخرج فنزل عبد الله حتى خرج الحجاج فسار بيني وبين أبي فقلت له إن كنت تريد أن تصيب السنة اليوم فاقصر الخطبة وعجل الصلاة قال فجعل ينظر إلى عبد الله بن عمر كيما يسمع ذلك منه فلما رأى ذلك عبد الله قال صدق سالم
قال أبو عمر هذا الحديث يخرج من المسند لقول عبد الله بن عمر للحجاج الرواح إن كنت تريد السنة
وكذلك قول سالم له إن كنت تريد أن تصيب السنة فاقصر الخطبة وعجل الصلاة
وقول بن عمر صدق
وقد ذكرنا رواية معمر وغيره عن الزهري لهذا الحديث ومن قال أن الزهري شهد هذه القصة معهم وصحح سماع الزهري من بن عمر يومئذ وبينا ذلك في كتاب التمهيد
وفي هذا الحديث فقه وأدب وعلم كثير من أمور الحج
فمن ذلك أن إقامة الحج إلى الخلفاء ومن جعلوا ذلك إليه وأمروه عليه
وفيه أيضا أنه يجب أن يضم إلى الأمير على الموسم من هو أعلم منه بالكتاب والسنة وطرق الفقه
وفيه الصلاة خلف الفاجر من السلاطين ما كان إليهم إقامته من الصلوات ومثل الحج والأعياد والجمعات
323

ولا خلاف بين العلماء أن الحج يقيمه السلطان للناس ويستخلف عليه من يقيمه لهم على شرائعه وسننه فيصلون خلفه برا كان أو فاجرا أو مبتدعا ما لم تخرجه بدعته عن الإسلام
وفيه أن الرجل الفاضل لا نقيصة عليه في مشيه مع السلطان الجائر فيما يحتاج إليه
وفيه أن رواح الإمام من موضع نزوله من عرفة إلى مسجدها حين تزول الشمس للجمع بين الظهر والعصر في المسجد في أول وقت الظهر وكذلك فعل رسول الله صلى
الله عليه وسلم ويلزم ذلك كله من بعد عن المسجد بعرفة أو قرب أن لا يكون موضع نزوله متصلا بالصفوف فإن لم يفعل وصلى بصلاة الإمام فلا حرج
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نزل بعرفة عند الصخرات قريبا من منزل الأمراء اليوم
وروي عنه أنه نزل بنمرة من عرفة وحيث ما نزل بعرفة فجائز وكذلك وقوفه منها حيث شاء ما وقف إلا بطن عرنة
وقد ذكرنا ما يلزم من وقف ببطن عرنة وما للعلماء في ذلك
فإذا زاغت الشمس وراح إلى المسجد بعرفة فيصلي بها الظهر والعصر جميعا مع الإمام في أول وقت الظهر
أخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثني محمد بن بكر قال حدثني أبو داود قال حدثني أحمد بن حنبل قال حدثني وكيع قال حدثني نافع بن عمر عن سعيد بن حسان عن بن عمر قال لما قتل الحجاج بن الزبير أرسل إلى بن عمر أية ساعة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يروح في هذا اليوم قال إذا كان ذلك رحنا فلما أراد بن عمر أن يروح قال أزاغت الشمس قالوا لم تزغ الشمس وقال أزاغت الشمس قالوا لم تزغ ثم قال أزاغت فلما قالوا قد زاغت ارتحل
وفي حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له وأتى الوادي وخطب الناس ثم أذن بلال ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا ثم راح إلى الموقف
قال أبو عمر هذا كله لا خلاف بين العلماء المسلمين فيه
324

واختلف الفقهاء في وقت أذان المؤذن بعرفة في الظهر والعصر وفي جلوس الإمام للخطبة قبلها
فقال مالك يخطب الإمام طويلا ثم يؤذن المؤذن وهو يخطب ثم يصلي
وهذا معناه أن يخطب الإمام صدرا من خطبته ثم يؤذن المؤذن فيكون فراغه مع فراغ الإمام من الخطبة ثم ينزل فيقيم
وحكى عنه بن نافع أنه قال الأذان إذا قام بعرفة بعد جلوس الإمام للخطبة
وقال الشافعي يأخذ المؤذن في الأذان إذا قام الإمام للخطبة الثانية فيكون فراغه من الأذان بفراغ الإمام من الخطبة ثم ينزل فيصلي الظهر ثم يقيم المؤذن الصلاة للعصر
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إذا صعد الإمام المنبر أخذ المؤذن في الأذان فإذا فرغ الإمام قام المؤذن فخطب ثم ينزل ويقيم المؤذن الصلاة
وبه قال أبو ثور
وسئل مالك عن الإمام إذا صعد المنبر يوم عرفة أيجلس قبل أن يخطب قال نعم ثم يقوم فيخطب طويلا ثم يؤذن المؤذن وهو يخطب ثم يصلي
ذكره بن وهب عنه
قال وقال مالك يخطب خطبتين
وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ما قدمنا ما يدل على أن الإمام يجلس فإذا فرغ المؤذن قام يخطب
وقال الشافعي إذا أتى الإمام المسجد خطب الخطبة الأولى ولم يذكر جلوسا عند صعود المنبر فإذا فرغ من الأولى جلس جلسة خفيفة قدر قراءة * (قل هو الله أحد) * [الإخلاص 1] ثم يقوم فيخطب خطبة أخرى
وأجمع العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما صلى بعرفة صلاة المسافر لا صلاة جمعة ولم يجهر بالقراءة
وكذلك أجمعوا أن الجمع بين الظهر والعصر يوم عرفة مع الإمام سنة مجتمع عليها
واختلفوا فيمن فاتته الصلاة يوم عرفة مع الإمام هل له أن يجمع بينهما أم لا
فقال مالك يجمع بين الظهر والعصر إذا فاته ذلك مع الإمام وكذلك المغرب والعشاء يجمع بينهما بالمزدلفة إذا فاتته مع الإمام
325

وقال الثوري صل مع الإمام بعرفة الصلاتين إن استطعت وإن صليت في ذلك فصل كل صلاة لوقتها
وكذلك قال أبو حنيفة لا يجمع بينهما إلا من صلاهما مع الإمام وأما من صلى وحده فلا يصلي كل صلاة منهما إلا لوقتها
وهو قول إبراهيم
وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور وأحمد وإسحاق جائز أن يجمع بينهما من المسافرين من صلى مع الإمام ومن صلى وحده إذا كان مسافرا
وحجتهم أن جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان من أجل السفر ولكل مسافر الجمع بينهما كذلك
واختلف العلماء في الأذان للجمع بين الصلاتين بعرفة
فقال مالك يصليهما بأذانين وإقامتين
وقال الشافعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور وأبو عبيد والطبري يجمع بينهما بأذان واحد وإقامتين بإقامة لكل صلاة
وقد روي عن مالك مثل ذلك والمشهور عنه وتحصيل مذهبه ما قدمنا ذكره (من قوله في صلاتي المزدلفة والحجة له قد تقدمت هناك)
واختلف عن أحمد بن حنبل فروي عنه وعن إسحاق بن راهويه أنه يجمع بينهما بإقامة إقامة دون أذان
رواه الكوسج عنهما
وروى عنه أحمد الأثرم من فاتته الصلاة مع الإمام فإن شاء جمع بينهما بأذان واحد وإقامتين وإن شاء بإقامة إقامة
وحجة مالك ومن قال بقوله في ذلك ما رواه إسرائيل عن سماك بن حرب عن النعمان بن حميد أبي قدامة أنه صلى مع عمر بن الخطاب الصلاتين بأذانين وإقامتين
وعن بن مسعود مثل ذلك بالمزدلفة ومنهم من ذكر عنه ذلك في حديث عرفة والمزدلفة وقال فيه المحاربي لا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم
والحجة للشافعي ومن قال بأذان واحد وإقامتين حديث جابر الحديث الطويل في الحج
326

ورواه جماعة من الثقات عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر وساقوا الحديث بطوله وفيه فلما أتى عرفة خطب فلما فرغ بالخطبة أذن بلال ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر لم يصل بينهما شيئا الحديث
وفي لبس الحاج المعصفر وترك بن عمر الإنكار عليه مع أمر عبد الملك إياه أن لا يخالف عبد الله بن عمر في شيء من أمر الحج دليل على أنه مباح عنده وإن كان جماعة من أهل العلم يكرهونه
وكان مالك (رحمه الله) يكره المصبغات للرجال والنساء وخالف في ذلك أسماء بنت أبي بكر
وروي عن عائشة مثل قول مالك رواه الثوري عن الأعمش عن إبراهيم عن عائشة كانت تكره المثرد بالعصفر
ومن كان يكره لبس المصبغات بالعصفر ثم في الإحرام الثوري وأبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور
ورخص فيه الشافعي وجماعة لأنه ليس بطيب
وفي الحديث من الفقه ما يدل على أن تأخير الصلاة بعرفة بعد الزوال قليلا لعمل يكون من أعمال الصلاة مثل الغسل والوضوء وما أشبه ذلك أنه لا بأس بذلك
وفيه الغسل للوقوف بعرفة لأن قول الحجاج لعبد الله بن عمر أنظرني حتى أفيض علي ماء كذلك كان
وهو مذهب عبد الله بن عمر وأهل العلم يستحبونه
وفيه إباحة فتوى الصغير بين يدي الكبير ألا ترى أن سالما علم الحاج قصر الخطبة وتعجيل الصلاة وأبوه بن عمر إلى جنبه وقصر الصلاة في ذلك الموضع وفي غيره سنة وتعجيل الصلاة في ذلك الموضع سنة مجتمع عليها في أول وقت الظهر ثم يصلى العصر بإثر السلام من الظهر
وأجمع العلماء على أن الإمام لو صلى بعرفة يوم عرفة بغير خطبة أن صلاته جائزة وأنه يقصر الصلاة إذا كان مسافرا وإن لم يخطب ويسر القراءة فيهما لأنهما ظهر وعصر قصرتا من اجل السفر
وأجمعوا أن الخطبة قبل الصلاة يوم عرفة
وأم قوله (عجل الصلاة) فكذلك رواه يحيى وبن القاسم وبن وهب ومطرف
327

وقال فيه القعنبي وأشهب إن كنت تريد أن تصيب السنة فأقصر الخطبة وعجل الوقوف مكان عجل الصلاة
وهو غلط لأن أكثر الرواة عن مالك على خلافه وتعجيل الصلاة بعرفة سنة
وقد يحتمل قول القعنبي أيضا لأن تعجيل الوقوف بعد تعجيل الصلاة والفراغ منها سنة أيضا ومعلوم أنه من عجل الصلاة عجل الوقوف لأنه بإثرها متصل بها
((64 - باب الصلاة بمنى يوم التروية والجمعة بمنى وعرفة))
863 - مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح بمنى ثم يغدو إذا طلعت الشمس إلى عرفة
قال أبو عمر أما صلاته يوم التروية بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح فكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي سنة معمول بها عند الجميع مستحبة ولا شيء عندهم على تاركها إذا شهد عرفة في وقتها
أما غدوه منها إلى عرفة حين تطلع الشمس فحسن وليس في ذلك عند أهل العلم حد وحسب الحاج البائت بمنى ليلة عرفة ألا تزول له الشمس يوم عرفة إلا بعرفة
قال مالك والأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا أن الإمام لا يجهر بالقرآن في الظهر يوم عرفة وإنه يخطب الناس يوم عرفة وأن الصلاة يوم عرفة إنما هي ظهر وأن وافقت الجمعة فإنما هي ظهر ولكنها قصرت من أجل السفر
قال مالك في إمام الحاج إذا وافق يوم الجمعة يوم عرفة أو يوم النحر أو بعض أيام التشريق إنه لا يجمع في شيء من تلك الأيام
قال أبو عمر أجمعوا على أنه لا يجهر الإمام بالقراءة في الصلاة بعرفة يوم عرفة
وأجمعوا على أن الإمام لو صلى بعرفة يوم عرفة بغير خطبة أن صلاته جائزة
واختلفوا في وجوب الجمعة بعرفة ومنى
فقال مالك لا تجب الجمعة بعرفة ولا بمنى أيام الحج لا على أهل مكة ولا على غيرهم إلا أن يكون الإمام من أهل عرفة فيجمع بعرفة
328

وقال الشافعي لا تجب الجمعة بعرفة إلا أن يكون فيها من أهلها أربعون رجلا فيجوز حينئذ أن يصلي بهم الإمام الجمعة يعني إن كان من أهلها أو كان مكيا
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف إذا كان الإمام أمير الحاج ممن لا يقضي الصلاة بمنى ولا بعرفة فعليه أن يصلي بهم الجمعة بمنى وبعرفة في يوم الجمعة
وقال محمد بن الحسن لا جمعة بمنى ولا بعرفات
وقال أبو ثور إذا كان الإمام من أهل مكة جمع يوم الجمعة بعرفة
وقال أحمد بن حنبل إذا كان والي مكة بمكة جمع بها
وقال عطاء يجمع بمكة إمامهم ويخطب
وذكر عبد الرزاق قال أخبرنا بن جريج عن عطاء قال لا يرفع الصوت بالقراءة يوم عرفة إلا أن يوافق يوم جمعة فيرفع صوته
قال وأخبرنا معمر قال قيل للزهري إنه وافق يوم جمعة يوم عرفة فلم يدر هشام بن عبد الملك أيجهر بالقراءة أم لا فقال الزهري أما كان أحد يخبرهم أنه ليس ثم جمعة وإنما هم سفر
قال وأخبرنا بن جريج قال حضرت يوم عرفة وذلك يوم جمعة فصلى له إبراهيم بن هشام فجهر بالقراءة فسبح سالم بن عبد الله من ورائه فنظر إليه إبراهيم فأومأ إليه سالم أن اسكت فسكت
قال أبو عمر حجة من قال لا جمعة بعرفة ولا بمنى أنهما ليستا بمصر وإنما الجمعة على أهل الأمصار
وحجة من قال بقول مالك أن أهل مكة لما كان عليهم أن يقصروا بمنى وعرفة عنده كانوا بمنزلة المسافرين ولا جمعة على مسافر لا في يوم النحر ولا في غيره وهذا إنما يخرج على إمام قادم مكة من غيرها مسافر فإن كان من أهلها فكما قال عطاء وبالله التوفيق
((65 - باب صلاة المزدلفة))
864 - مالك عن بن شهاب عن سالم بن عبد الله عن عبد الله بن
329

عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعا
865 - مالك عن موسى بن عقبة عن كريب مولى بن عباس عن أسامة بن زيد أنه سمعه يقول دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل فبال فتوضأ فلم يسبغ الوضوء فقلت له الصلاة يا رسول الله فقال الصلاة أمامك فركب فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله ثم أقيمت الصلاة فصلى العشاء فصلاها ولم يصل بينهما شيئا
866 - مالك عن يحيى بن سعيد عن عدي بن ثابت الأنصاري أن عبد الله بن يزيد الخطمي أخبره أن أبا أيوب الأنصاري أخبره أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعا
867 - مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يصلي المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعا
قال أبو عمر أجمع العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع من عرفة في حجته بعد ما غربت الشمس يوم عرفة أخر صلاة المغرب ذلك الوقت فلم يصلها حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء جمع بينهما بعد ما غاب الشفق
وأجمعوا أن ذلك من سنة الحاج كلهم في ذلك الموضع
330

واختلفوا في كيفية الأذان والإقامة لتلك الصلاتين بها
فقال مالك يجمع بينهما ويؤذن ويقيم لكل واحدة منهما
وقال الثوري يصليهما بإقامة واحدة لا يفصل بينهما
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد يصلي المغرب بأذان وإقامة ويصلي العشاء بإقامة
وبه قال أبو ثور
وقال الشافعي يصليهما بإقامة إقامة
وقال بن القاسم قال لي مالك كل صلاة إلى الأئمة فلكل صلاة أذان وإقامة
قال أبو عمر لا أعلم الحجة لمالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الصلاتين بالمزدلفة وقتا واحدا سن ذلك لهما وإذا كان وقتهما واحدا لم تكن واحدة منهما أولى بالأذان والإقامة من صاحبتها لأن كل واحدة منهما تصلى في وقتها
وقد أجمعوا أن الصلاة إذا صليت في جماعة لوقتها أن من سنتها الأذان لها كما تقدم
حدثني عبد الرحمن بن يحيى قال حدثني أحمد بن سعيد قال سمعت أحمد بن خالد يعجب من مالك في هذا الباب إذ أخذ بحديث بن مسعود ولم يروه وترك الأحاديث التي روى
قال أبو عمر لا أعلم مالكا روى في ذلك حديثا فيه ذكر أذان ولا إقامة وأعجب منه ما عجب منه أحمد أن أبا حنيفة وأصحابه لا يعدلون بابن مسعود واحدا وخالفوه في هذه المسألة وأخذوا بحديث جابر وهو حديث مديني لم يرووه فقالوا ا به وتركوا أحاديث أهل الكوفة في ذلك
وحجة من قال بقول الثوري أنهما تصليان جميعا بإقامة واحدة ما رواه شعبة عن الحكم بن عتيبة وسلمة بن كهيل قالا صلى بنا سعيد بن جبير بالمزدلفة المغرب ثلاثا بإقامة فلما سلم صلى ركعتين ثم حدث عن بن عمر أنه صنع في ذلك المكان بمثل ذلك وحدث بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع بهم في ذلك المكان مثل ذلك
وروى الثوري عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير عن بن عمر قال
331

جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بجمع فصلى المغرب ثلاثا والعشاء ركعتين بإقامة واحدة
والثوري وشعبة أيضا عن أبي إسحاق عن عبد الله بن مالك قال صليت مع بن عمر المغرب ثلاثا والعشاء ركعتين بالمزدلفة بإقامة واحدة
قال فقلت ما هذه الصلاة يا أبا عبد الرحمن قال صليتهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المكان بإقامة واحدة
وفي هذا آثار كثيرة قد ذكرناها في التمهيد
روي مثل ذلك من حديث أبي أيوب الأنصاري ومن حديث البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم
وحجة من قال بقول أبي حنيفة أنهما تصليان بأذانين وإقامتين حديث جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاهما كذلك
قالوا وإن كان قصر بعض من نقل حديث جابر هذا بالمزدلفة فلم تختلف الآثار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الصلاتين بعرفة [بأذان] واحد وإقامتين
والقياس أن تكونا كذلك بالمزدلفة عند الاختلاف في ذلك
ومن حجة من قال بقول الشافعي أنهما تصليان بالمزدلفة بإقامتين إقامة لكل واحدة منهما حديث بن شهاب عن سالم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالمزدلفة [المغرب] ثلاثا والعشاء ركعتين بإقامة لكل واحدة منهما ولم يصل بينهما شيئا
هكذا رواه جماعة عن بن شهاب منهم الليث بن سعد وبن أبي ذئب
ولم يحفظ ذلك معمر
حدثني عبد الوارث بن سفيان قال حدثني قاسم بن أصبغ قال حدثني بكر بن حماد قال حدثني مسدد قال حدثني يحيى بن سعيد عن بن أبي ذئب عن الزهري عن سالم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بجمع بإقامة إقامة لم يسبح بينهما ولا على إثر واحدة منهما
332

قال أبو عمر هذا أصح عندي عن بن عمر في هذا الباب والله أعلم
وبه قال سالم والقاسم وإليه ذهب إسحاق بن راهويه
وكان أحمد يقول في ذلك بحديث جابر أذان وإقامتين ثم رجع إلى هذا
وفي هذه المسألة قول حسن قالت به طائفة من أهل العلم قالوا يصلي الصلاتين بالمزدلفة بأذان واحد وإقامة واحدة
واحتجوا برواية هشيم عن يونس بن عبيد عن سعيد بن جبير عن بن عمر أنه جمع بين المغرب والعشاء بجمع بأذان واحد وإقامة واحدة ولم يجعل بينهما شيئا
وقال مثله مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث خزيمة بن ثابت وليس بالقوي
وتحمل هؤلاء وغيرهم ممن ذهب مذهب الكوفيين في هذا الباب فيما روي عن عمر بن الخطاب أنه صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة بأذانين وإقامتين
وعن بن مسعود مثل ذلك
قالوا إنما أمر عمر (رضي الله عنه) بالأذان في الثانية بعد أن صلى الأولى بأذان وإقامة لأن الناس كانوا قد تفرقوا لعشائهم فأذن ليجمعوهم ثم أقام
قالوا وكذلك نقول إذا تفرق الناس عن الإمام لعشائهم أو غيره أمر الإمام المؤذنين فأذنوا ليجتمع الناس
قالوا وهو معنى ما روي عن بن مسعود
واختلفوا فيمن صلى الصلاتين المذكورتين قبل أن يصل إلى المزدلفة
فقال مالك لا يصليهما أحد قبل جمع إلا من عذر فإن صلاهما من غير عذر لم يجمع بينهما حتى يغيب الشفق
وقال الثوري لا يصليهما حتى يأتي جمعا وله السعة في ذلك إلى نصف الليل فإن صلاهما دون جمع عاد
واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم حين قيل له الصلاة قال الصلاة أمامك يعني بالمزدلفة
ومذهب أبي حنيفة في ذلك نحو قول الثوري
وقال أبو حنيفة إن صلاهما قبل أن يأتي المزدلفة فعليه الإعادة وسواء صلاهما قبل مغيب الشفق أو بعده عليه أن يعيدهما إذا أتى المزدلفة
333

وروي عن جابر بن عبد الله لا صلاة إلا بجمع واختلف عن أبي يوسف وأحمد فروي عنهما مثل ذلك
وروي عنهما أن من صلاهما بعرفات أجزاه
قال أبو عمر قاس من قال بهذا صلاة جمع على صلاة عرفة لأنهما تصليان في أول وقت الأولى منهما
وعلى قول الشافعي لا ينبغي أن يصليهما قبل جمع فإن فعل أجزاه
وبه قال أبو ثور وأحمد وإسحاق
وروي ذلك عن عطاء وعروة وسالم وسعيد بن جبير
وأما حديث موسى بن عقبة عن كريب في هذا الباب فقد ذكرنا الاختلاف في إسناده على مالك وعلى موسى بن عقبة وعلى إبراهيم بن عقبة أيضا في التمهيد وهو مع ذلك
حديث صحيح عند جميعهم
وفيه من الفقه الوقوف بعرفة على ما ذكرناه من سنته فيما تقدم من كتابنا هذا والدفع منها بعد غروب الشمس على ما وصفنا أيضا
وأما قوله فيه فنزل فبال فتوضأ فلم يسبغ الوضوء فقيل إنه استنجى بالماء ولم يتوضأ للصلاة وقيل إنه توضأ وضوءا خفيفا ليس بالبالغ وقيل إنه توضأ على بعض أعضاء الوضوء كوضوء بن عمر عند النوم
والذي تعضده الأصول أنه استنجى ولم يتوضأ لأنه محال أن يشتغل في ذلك الوقت بما لا معنى له في شريعته ويدع العمل في نهوضه إلى منسك من مناسكه ألا ترى أنه لما حانت الصلاة في موضعها نزل فأسبغ الوضوء لها
وقد ذكرنا في التمهيد حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم بال فأتبعه عمر بكوز من ماء فلم يتوضأ به للصلاة وقال لم أومر أن أتوضأ كلما بلت
وذكرنا حديث بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الغائط فقيل له ألا تتوضأ فقال ما أصلي فأتوضأ
وروي سفيان عن بن أبي نجيح قال سمعت عكرمة اتخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم مبالا واتخذتموه مصلى يعني الشعب
334

وفي هذا الحديث من الفقه أن الإمام إذا دفع بالحاج والناس معه لا يصلون المغرب في تلك الليلة إلا مع العشاء بعد مغيب الشفق وقد ذكرنا ما للعلماء في ذلك كله فيما تقدم من كتابنا والحمد لله
((66 - باب صلاة منى))
868 - قال مالك في أهل مكة إنهم يصلون بمنى إذا حجوا ركعتين ركعتين حتى ينصرفوا إلى مكة
قال أبو عمر اختلف العلماء في قصر الإمام إذا كان مكيا بمنى وعرفات أو من أهل منى بعرفات أو من أهل عرفات بمنى أو بالمزدلفة
فقال مالك في الموطأ وسئل عن أهل مكة كيف صلاتهم بعرفة أركعتان أم أربع وكيف بأمير الحج إن كان من أهل مكة أيصلي الظهر والعصر بعرفة أربع ركعات أو ركعتين وكيف صلاة أهل مكة بمنى في إقامتهم فقال مالك يصلي أهل مكة بعرفة ومنى ما أقاموا بهما ركعتين ركعتين يقصرون الصلاة حتى يرجعوا إلى مكة قال وأمير الحاج أيضا إذا كان من أهل مكة قصر الصلاة بعرفة وأيام منى وإن كان أحد ساكنا بمنى مقيما بها فإن ذلك يتم الصلاة بمنى وإن كان أحد ساكنا بعرفة مقيما بها فإن ذلك يتم الصلاة بمنى وأن كان أحد ساكنا بعرفة مقيما بها فإن ذلك يتم الصلاة بها أيضا
واحتج مالك لمذهبه في هذا الباب بما رواه
869 - عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الصلاة الرباعية بمنى ركعتين وأن أبا بكر صلاها بمنى ركعتين وأن عمر بن الخطاب صلاها بمنى ركعتين شطر إمارته ثم أتمها بعد
870 - وبما رواه أيضا في هذا الباب عن بن شهاب عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب لما قدم مكة صلى بهم ركعتين ثم انصرف فقال
335

يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ثم صلى عمر بن الخطاب ركعتين بمنى ولم يبلغنا أنه قال لهم شيئا
871 - وعن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب صلى للناس بمكة ركعتين فلما انصرف قال يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ثم صلى عمر ركعتين بمنى ولم يبلغنا أنه قال لهم شيئا
قال أبو عمر وبما ذهب إليه مالك في هذا الباب قال الأوزاعي
ومن حجتهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يصلوا في تلك المساجد كلها إلا ركعتين وسائر الأمراء يصلون هناك إلا ركعتين فعلم أن ذلك سنة الموضع لأن من الأمراء مكيا وغير مكي وأن عبد الله بن عمر كان إذا جاوز بمكة أتم فإذا خرج إلى منى قصر
وبه قال القاسم وسالم وإسحاق بن راهويه
واحتجوا أيضا بما رواه يزيد بن عياض عن بن أبي نجيح أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل عتاب بن أسيد على مكة وأمره أن يصلي بأهل مكة ركعتين
وهذا خبر عند أهل العلم بالحديث منكر لا تقوم به حجة لضعفه ونكارته
وقال أبو حنيفة والثوري وأصحابهما وأبو ثور وأحمد وإسحاق وداود والطبري من كان من أهل مكة صلى بمنى وعرفة أربعا لا يجوز له غير ذلك وحجتهم أن من كان مقيما لا يجوز له أن يصلي ركعتين وكذلك من لم يكن سفره سفرا تقصر في مثله الصلاة فحكمه حكم المقيم
وقد ذكرنا في كتاب الصلاة في مذاهب العلماء في المسافة التي تقصر فيها الصلاة عندهم وذكرنا مذاهبهم أيضا في قصر الصلاة هل هو فرض أم سنة وذكرنا وجوه إتمام عائشة وعثمان (رضي الله عنهما) في كتاب الصلاة والحمد لله
((67 - باب صلاة المقيم بمكة ومنى))
وأما قوله في آخر الباب قال مالك
872 - من قدم مكة لهلال ذي الحجة فأهل بالحج فإنه يتم الصلاة حتى يخرج من مكة لمنى فيقصر وذلك أنه قد أجمع على مقام أكثر من أربع ليال
336

وهذا قد تقدم القول فيه في كتاب الصلاة
((68 - باب تكبير أيام التشريق))
873 - مالك عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن عمر بن الخطاب خرج الغد من يوم النحر حين ارتفع النهار شيئا فكبر فكبر الناس بتكبيره ثم خرج الثانية من يومه ذلك بعد ارتفاع النهار فكبر فكبر الناس بتكبيره ثم خرج الثالثة حين زاغت الشمس فكبر فكبر الناس بتكبيره حتى يتصل التكبير ويبلغ البيت فيعلم أن عمر قد خرج يرمي
قال مالك الأمر عندنا أن التكبير في أيام التشريق دبر الصلوات وأول ذلك تكبير الإمام والناس معه دبر صلاة الظهر من يوم النحر وآخر ذلك تكبير الإمام والناس معه دبر صلاة الصبح من آخر أيام التشريق ثم يقطع التكبير قال مالك والتكبير في أيام التشريق على الرجال والنساء من كان في جماعة أو وحده بمنى أو بالآفاق كلها واجب [يعني وجوب سنة] وإنما يأتم الناس في ذلك بإمام الحاج وبالناس بمنى [يعني أنهم يأتمون بهم في رمي الجمار والتكبير] لأنهم إذا رجعوا وانقضى الإحرام ائتموا بهم حتى يكونوا مثلهم في الحل فأما من لم يكن حاجا فإنه لا يأتم بهم إلا في تكبير أيام التشريق [يريد من أهل الآفاق كلهم ومن فاته الحج وأقام بمكة أيام منى]
قال أبو عمر تكبير عمر (رضي الله عنه) المذكور هو تكبيره عند رمي الجمار يوم النحر وأيام التشريق وأما التكبير دبر الصلوات فقد ذكرناه في بابه من صلاة العيدين في كتاب الصلاة وذكرنا اختلاف الفقهاء في ذلك
والمأثور فيه عن عمر ما ذكره عبد الرزاق قال أخبرنا بن التيمي وهشيم عن الحجاج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن عمر أنه كان يكبر من صلاة الغداة يوم عرفة إلى صلاة الظهر من آخر أيام التشريق
قال وأخبرنا بن عيينة عن عمرو بن دينار قال سمعت عبيد بن عمير يقول كان عمر يكبر في قبته بمنى فكبر أهل المسجد ويكبر أهل الأسواق فيملأون منى تكبيرا
337

قال أبو عمر هذا عندهم من معنى قول الله تعالى * (ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) * [البقرة 185]
عبد الرزاق قال أخبرنا بن أبي رواد عن نافع عن بن عمر أنه كان يكبر ثلاثا وراء الصلوات بمنى ويقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير
قال وأخبرنا الثوري عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي
وعن أبي إسحاق عن الأسود عن بن مسعود أنهما كانا يكبران من صلاة الغداة يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق
وأخبرنا معمر عن الزهري وأخبرنا معمر عن عبد الكريم الجزري عن سعيد بن جبير قالا التكبير من صلاة الظهر يوم عرفة إلى صلاة العصر آخر أيام التشريق
وعن بن عباس وزيد بن ثابت مثله
قال وأخبرنا معمر عمن سمع الحسن يقول التكبير من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الظهر يوم النفر الأول
وقد ذكرنا أقاويل الفقهاء أئمة الفتوى بالأمصار بالتكبير في أيام التشريق في موضعه من كتاب الصلاة في العيدين
وأما كيفية التكبير فالذي صح عن عمر وبن عمر وعلي وبن مسعود أنه ثلاث ثلاث الله أكبر الله أكبر الله أكبر
وقد ذكرنا اختلاف الفقهاء في ذلك أيضا وكل ذلك واسع ومسائل التكبير خلف الصلاة المكتوبة وغيرها للرجال والنساء والمسافر والمقيم كل ذلك مذكور في باب العيدين من كتاب الصلاة بما للعلماء فيه من المذاهب والحمد لله
وأما قول مالك في آخر هذا الباب الأيام المعدودات أيام التشريق فذلك إجماع لا خلاف فيه وكذلك لا خلاف أنها ثلاثة أيام بعد يوم النحر وإنما اختلفوا في المعلومات أيام الذبح وسيأتي ذلك في موضع من كتاب الضحايا إن شاء الله
وللأيام المعدودات ثلاثة أسماء هي أيام منى وهي الأيام المعدودات وهي أيام التشريق
وفي المعنى الذي سميت له أيام التشريق ثلاثة أقوال
أحدها أنها سميت بذلك لأن الذبح فيها يكون بعد شروق الشمس وهذا يشبه
338

مذهب من لم يجز الذبح بالليل منهم مالك (رحمه الله) وسيأتي الاختلاف في ذلك في كتاب الضحايا إن شاء الله
والثاني أنها سميت بذلك لأنهم كانوا يشرقون فيها لحوم الضحايا والهدايا المتطوع بها إذا قددت وهذا قول جماعة منهم قتادة
والثالث أنها سميت كذلك لأنهم كانوا يشرقون فيها للشمس في غير بيوت ولا أبنية للحج
هذا قول أبي جعفر محمد بن علي وجماعة أيضا وقد مضى القول أن لفظ التشريق مأخوذ من قولهم أشرق ثبير كيما نغير وهذا إنما يعرفه أهل العلم من السلف العالمين باللسان وليس له معنى يصح عند أهل الفهم والعلم بهذا الشأن
ولا خلاف أن أيام منى ثلاثة أيام وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم
حدثني سعيد بن نصر قال حدثني قاسم بن أصبغ قال حدثني محمد بن إسماعيل قال حدثني الحميدي وحدثني عبد الوارث قال حدثني قاسم قال حدثني الخشني قال حدثني بن أبي عمر قالا حدثني سفيان قال حدثني الثوري وكان أجود حديث يرويه هذا قال سمعت بكير بن عطاء الليثي يقول سمعت عبد الرحمن بن يعمر الديلي يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الحج عرفات من أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج أيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه
هذا حديث أشرف ولا أحسن من هذا رواه بن عيينة عن الثوري
((69 - باب صلاة المعرس والمحصب))
874 - مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أناخ بالبطحاء التي بذي الحليفة فصلى بها
339

قال نافع وكان عبد الله بن عمر يفعل ذلك
قال أبو عمر رواه عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان يتركون الأبطح
وروى معمر عن الزهري عن سالم أن أبا بكر وعمر وبن عمر كانوا ينزلون الأبطح
وعن الزهري عن عروة عن عائشة أنها لم تكن تفعل ذلك وقالت إنما نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان منزلا أسمح لخروجه
وروى بن عيينة عن صالح بن كيسان عن سليمان بن يسار عن أبي رافع قال لم يأمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أنزل الأبطح ولكن أتيته فضربت به قبة فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فنزل الأبطح فنزلت
قال أبو عمر هذا عند مالك وجماعة من أهل العلم مستحب إلا أنه عند مالك والحجازيين أؤكد منه عند الكوفيين والكل يجمع على أنه ليس من مناسك الحج وانه ليس على تاركه فدية ولا دم
وهذه البطحة المذكورة في هذا الحديث هي المعروفة عند أهل المدينة وغيرهم بالمعرس
قال مالك في الموطأ بعد ذكره حديث بن عمر المذكور في هذا الباب
لا ينبغي لأحد أن يجاوز المعرس إذا قفل حتى يصلي فيه وإن مر به في غير
340

وقت صلاة فليقم حتى تحل الصلاة ثم صلى ما بدا له لأنه بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرس به وأن عبد الله بن عمر أناخ به
واستحبه الشافعي ولم يأمر به
قال وقال أبو حنيفة من مر من المعرس من ذي الحليفة راجعا من مكة فإن أحب أن يعرس به حتى يصلي فعل وليس ذلك عليه
وقال محمد بن الحسن هو عندنا من المنازل التي نزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق مكة وبلغنا أن بن عمر كان يتبع آثاره وكذلك ينزل بالمعرس لأنه كان يراه واجبا ولا سنة على الناس
قال ولو كان واجبا أو سنة من سنن الحج لكان سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقفون به وينزلون ويصلون ولم يكن بن عمر ينفرد بذلك دونهم
وقال إسماعيل بن إسحاق ليس نزوله صلى الله عليه وسلم بالمعرس كسائر منازل طرق مكة لأنه كان يصلي الفريضة حيث أمكنه والمعرس إنما كان صلى فيه نافلة
قال ولا وجه لتزهيد الناس في الخير
قال ولو كان المعرس كسائر المنازل ما أنكر بن عمر على نافع تأخره عنه
وذكر حديث موسى بن عقبة عن نافع أن بن عمر سبقه إلى المعرس فأبطأ عليه فقال له ما حبسك فذكر عذرا قال ظننت أنك أخرت الطريق ولو فعلت لأوجعتك ضربا
وذكر حديث موسى أيضا عن سالم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المعرس من ذي الحليفة في بطن الوادي فقيل له إنك في بطحاء مباركة
قال أبو عمر وأما المحصب فهو موضع بين مكة ومنى وهو أقرب إلى منى نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف بالمحصب ويعرف أيضا بالبطحاء وهو خيف بني كنانة المذكور في حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين أراد أن ينفذ من منى نحن نازلون غدا أن شاء الله بخيف بني كنانة
يعني المحصب وذلك أن بني كنانة تقاسموا على بني هاشم وبني عبد المطلب وذكر الحديث
وفي حديث أسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم نحن نازلون بخيف بني كنانة حيث
341

تقاسمت قريش على الكفر يعني المحصب
875 - وروى مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمحصب ثم يدخل مكة من الليل فيطوف بالبيت
ورواه أيوب عن نافع عن بن عمر مرفوعا أيضا وأيوب أيضا وحميد الطويل عن بكر بن عبد الله المزني عن بن عمر مرفوعا وآثار هذا الباب كلها مذكورة في التمهيد
وروى الثوري قال أخبرني واصل الأحدب قال سمعت المعرور بن سويد يقول سمعت عمر بن الخطاب يقول حصبوا يعني المحصب
وبن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء عن بن عباس أنه كان لا يرى المحصب شيئا ويقول إنما هو منزل نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن معمر وعن الزهري وهشام بن عروة عن أبيه أنه كان لا يحصب
وعن هشام عن فاطمة عن أسماء أنها كانت لا تحصب
والثوري عن منصور عن إبراهيم أنه كان يستحب أن ينام بالمحصب يومه فقيل لإبراهيم إن سعيد بن جبير لا يفعله قال قد كان يفعله ثم بدا له
والدليل أيضا على [أن] المحصب هو خيف منى والخيف الوادي في قول الشافعي (رحمه الله) وهو مكي عالم بمكة وأجوارها ومنى وأقطارها
شعر
(يا راكبا قف بالمحصب من منى
* وانهض بباطن خيفها والباهم)
وقال عمر بن أبي ربيعة
(نظرت إليها بالمحصب من منى
* ولي نظر لولا التحرج عارم
342

وقال الفرزدق
(هموا اسمعوا يوم المحصب من منى
* ندائي إذا التفت رفاق المواسم))
1 (70 - باب البيتوتة بمكة ليالي منى))
876 - مالك عن نافع أنه قال زعموا أن عمر بن الخطاب كان يبعث رجالا يدخلون الناس من وراء العقبة
877 - مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب قال لا يبيتن أحد من الحاج ليالي منى من وراء العقبة
878 - مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال في البيتوتة بمكة ليالي منى لا يبيتن أحد إلا بمنى
قال أبو عمر على ما روي عن عمر في هذا الباب أكثر الناس
وفيه حديث مرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يبيتن أحد إلا بمنى حتى يتم حجه ولا يصح فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء والله أعلم
وأحسن شيء فيه ما روي عن بن عمر أنه قد بات رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى وصلى
وكان بن عباس (رضي الله عنه) يرخص في المبيت بمكة ليالي منى
ذكر عبد الرزاق قال أخبرنا بن عيينة عن بن دينار عن عكرمة عن بن عباس قال لا بأس أن يبيت الرجل بمكة ليالي منى ويظل إلى رمي الجمار
وعن بن عيينة عن بن جريج أو غيره عن عطاء عن بن عباس مثله
قال وأخبرنا معمر عن الزهري قال إذا بات بمكة ليالي منى فعليه دم
قال وأخبرنا بن جريج عن عطاء قال إذا بات بمكة لغير ضرورة فليهرق دما
وقال عبد الرزاق قلت للثوري ما على من بات بمكة ليلا أو ليالي منى قال لم يبلغني فيه شيء أحفظه الآن
قال أبو عمر لا خلاف علمته بين العلماء أن من سنن الحج المبيت بمنى ليالي
343

التشريق لكل حج إلا من ولي السقاية من آل العباس بن عبد المطلب فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لهم في المبيت بمكة من أجل سقايتهم وأرخص لرعاء الإبل في ذلك على ما يأتي ذكره بعد إن شاء الله
أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثني محمد بن بكر بن داسة قال حدثني أبو داود قال حدثني عثمان بن أبي شيبة قال حدثني بن نمير وأبو أسامة عن عبيد الله عن نافع عن بن عمر قال استأذن العباس النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقاية الحاج فأذن له
وحدثني محمد بن إبراهيم قال حدثني محمد بن معاوية قال حدثني أحمد بن شعيب قال أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال أخبرنا عيسى قال أخبرنا عبيد الله عن نافع عن بن عمر قال رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته
قال أبو عمر حديث بن عمر هذا ثابت عند أهل العلم بالحديث وفيه دليل على أن المبيت بمنى ليالي منى من سنن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه خص بالرخصة عمه دون غيره من أجل السقاية وكانت له في الجاهلية مكرمة يسقي الناس نبيذ التمر في الموسم فأقر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم
ذكر محمد بن أبي عمر العدني عن سفيان عن بن طاوس قال كان أبي يقول شرب نبيذ السقاية من تمام الحج
وروى بن جريج عن نافع أن بن عمر لم يكن يشرب من النبيذ ولا من زمزم قط يعني في الحج
وقال دارم بن عبد الرحمن سألت عطاء عن النبيذ فقال كل مسكر حرام فقلت يا بن أم رباح أتزعم أنهم يسقون الحرام في المسجد الحرام فقال يا بن أخي والله لقد أدركت هذا الشراب وإن الرجل ليشرب فتلتزق شفتاه من حلاوته قال فلما ذهبت النخوة وولي السفهاء تهاونوا بالشراب واستخفوا به
وأما ولاية رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس سقايات زمزم فأشهر من أن تذكر
وقال عطاء كان بن عباس يأتي منى كل يوم عند زوال الشمس يرمي
344

الجمار ثم يرجع إلى مكة فيبيت بها لأنه كان من أهل السقاية
واختلف الفقهاء في حكم من بات بمكة من غير أهل السقاية
فقال مالك من بات ليلة من ليالي منى فعليه دم
وقال الشافعي لا رخصة في ترك المبيت بمنى إلا لرعاة الإبل وأهل سقاية العباس دون غير هؤلاء وسواء من استعملوا عليها منهم أو من غيرهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص لأهل السقاية من أهل بيته أن يبيتوا بمكة ليالي منى
وقال الشافعي إن غفل أحد فبات بغير منى ولم يكن من أهل السقاية أحببت أن يطعم عن الليلة مسكينا فإن [بات] ليالي منى كلها أحببت أن يهريق دما
وقال أصحاب الشافعي له في هذه المسألة قولان
أحدهما أنه إن بان عنها ليلة تصدق بدرهم وإن بان عنها ليلتين تصدق بدرهمين وإن بان عنها ثلاث ليال كان عليه دم
والثاني أن عليه لكل ليلة مدا من طعام إلى ثلاث ليال فإن تمت الثلاث فعليه دم
وقال أبو حنيفة وأبو محمد إن كان يأتي منى فيرمي الجمار ثم يبيت بمكة فلا شيء عليه
وهو قول الحسن البصري
وقال أبو ثور إن بات ليالي منى بمكة فعليه دم
وهو قول أحمد وإسحاق
قال أبو عمر من لم ير عليه شيئا قال لو كانت سنة ما سقطت عن الناس وإنما هو استحباب وحسبه إذا رمى الجمار في وقتها وعلة من رأى الدم في ذلك أنها سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته ورخص لأهل السقاية دون غيرهم
((71 - باب رمي الجمار))
قال أبو عمر الجمار الأحجار الصغار ومن هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم من استجمر فليوتر أي من تمسح بالأحجار
345

ومنه الجمار التي ترمى بعرفة يوم النحر وسائر الجمار ترمى أيام التشريق وهي أيام منى
قال بن الأنباري الجمار هي الأحجار الصغار يقال جمر الرجل يجمر تجميرا إذا رمى جمار مكة
وأنشد قول عمر بن أبي ربيعة
(فلم أر كالتجمير منظر ناظر
* ولا كليالي الحج أفلتن ذا هوى)
قال أبو عمر ويروى أفلتن ذا هوى
وهي أبيات لعمر بن أبي ربيعة وقد أمر بنفيه عن مكة من أجلها سليمان بن عبد الملك فقال له يا أمير المؤمنين إني أتوب إلى الله (عز وجل) ولا أعود إلى أن أقول في النساء شعرا أبدا وأنا أعاهد الله على ذلك فخلى سبيله ونفى الأحوص ولم يشفع فيه الذين شفعوا فيه من الأنصار وقال لا أرده إلى وطنه ما كان لي سلطان فإنه فاسق مجاهر
وأبيات عمر التي منها البيت المذكور قوله
(وكم من قتيل لا يباء به دم
* ومن غلق رهنا إذا ضمه منى)
(ومن مالىء عينيه من شيء غيره
* إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى)
(يسحبن أذيال المروط بأسوق
* خدال وأعجاز مآكمها روى)
(أوانس يسلبن الحليم فؤاده
* فيا طول ما شوق ويا حسن مجتلى)
(مع الليل قصرا رميها بأكفها
* ثلاث أسابيع تعد من الحصى)
(فلم أر كالتجمير منظر ناظر
* ولا كليالي الحج أفلتن ذا هوى)
وقوله لا يباء به أي يسفك دم ثأرا وبدلا من دم
879 - مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب كان يقف عند الجمرتين الأوليين وقوفا طويلا حتى يمل القائم
346

880 - مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقف عند الجمرتين الأوليين وقوفا طويلا يكبر الله ويسبحه ويحمده ويدعو الله ولا يقف عند جمرة العقبة
قال أبو عمر فعل عمر بن الخطاب هذا في بلاغ مالك عنه قد روي عنه مسندا عن النبي صلى الله عليه وسلم وروي ذلك المعنى عن عمر متصلا أيضا
وأما الحديث المسند في ذلك فحدثني محمد بن إبراهيم قال حدثني محمد بن معاوية قال أخبرنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا العباس بن عبد العظيم قال حدثني عثمان بن عمر قال حدثني عثمان عن الزهري قال بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رمى الجمرة التي تلي مسجد منى رمى بسبع حصيات يكبر كلما رمي بحصاة ثم يتقدم أمامها فيقف مستقبل البيت رافعا يديه يدعو يطيل الوقوف ثم يأتي الجمرة الثانية فيرميها بسبع حصيات يكبر كلما رمى بحصاة ثم يكبر ذات الشمال فيقف مستقبل البيت رافعا يديه يدعو ثم يأتي الجمرة التي في العقبة فيرميها بسبع حصيات يكبر كلما رمى بحصاة ثم ينصرف فلا يقف عندها
قال الزهري سمعت سالما يحدث بهذا عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان بن عمر يفعله
قال أبو عمر روى هذا الحديث معمر عن الزهري قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رمى الجمرتين وقف عندهما ورفع يديه ولا يفعل ذلك في الجمرة الثانية وكان إذا رمى الثالثة انصرف
مرسلا هكذا ولم يسنده
وقد روت عائشة (رضي الله عنها) هذا المعنى [عنه] صلى الله عليه وسلم
حدثني عبد الله بن محمد قال حدثني محمد بن بكر قال حدثني أبو داود قال حدثني علي بن بكر وعبد الله بن سعيد (المعنى) قالا حدثني أبو خالد الأحمر عن محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن بن قاسم عن أبيه عن
347

عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس كل جمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ويقف عند الأولى والثانية ويتضرع ويرمي الثالثة ولا يقف عندها
وأما حديث عمر فذكره عبد الرزاق قال أخبرنا بن جريج قال أخبرني هارون بن أبي عائشة عن عدي بن عدي عن سلمان بن ربيعة قال نظرنا عمر بن الخطاب يوم النفر الأول فخرج علينا وهو يحسها في يده حصيات وفي حجزته حصاة ماشيا يكبر في طريقه حتى رمى الجمرة ثم مضى حتى انقطع حيث لا يصيبه الحصا فدعا ساعة ثم مضى إلى الجمرة الوسطى ثم مضى حتى انقطع حيث لا يصيبه الحصا ثم للأخرى
881 - مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يكبر عند رمي الجمرة كلما رمى بحصاة
قال أبو عمر قوله عن بن عمر ثم يقف عند الجمرتين يعني من الثلاث التي ترمى أيام التشريق وهي ثلاث جمرات كل جمرة منها ترمى بسبع حصيات ترمى الأولى منها وهي التي عند المسجد فإذا أكمل رميها بسبع حصيات تقدم أمامها فوقف طويلا للدعاء بما تيسر ثم يرمي الثانية وهي الوسطى وينصرف عنها ذات الشمال في بطن المسيل ويطيل الوقوف عندها للدعاء ثم يرمي الثالثة عند العقبة حيث رمى يوم النحر جمرة العقبة بسبع حصيات يرميها من أسفلها ولا يقف عندها ولو رماها من فوقها أجزاه ويكبر في ذلك كله كل حصاة يرميها والوقوف عند الجمرتين دون الثالثة معمول بها عند العلماء من نحو ما فيها
ذكر عبد الرزاق قال أخبرنا معمر وبن عيينة عن عمرو بن دينار قال رأيت بن عمر يرمي الجمار حين تزول الشمس قبل أن يصلي الظهر فيقف عند الجمرتين وقوفا طويلا رمى الجمرة الأولى وقام أمامها قياما طويلا ثم رمى الجمرة الثانية وقام عند شمالها قياما طويلا ثم رمى الثالثة ولم يقف عندها
وعن بن عباس مثل ذلك
348

قال وأخبرنا معمر والثوري عن عاصم الأحول عن أبي مجلز قال كان بن عمر يستر ظله ثلاثة أشبار ثم يرمي وقام عند الجمرتين قدر سورة يوسف
قال أبو عمر قد روي عنه قدر سورة البقرة ولا توقيت في ذلك عند الفقهاء وإنما هو ذكر ودعاء
كان بن عمر يكبر مع كل حصاة
وقد روي عنه أنه كان يقول حين يرمي الجمرة اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا
وعن إبراهيم النخعي مثله
وعن القاسم بن محمد أنه كان يقول إذا رمى اللهم لك الحمد ولك الشكر
وعن علي (رضي الله عنه) أنه كان يقول كلما رمى حصاة اللهم اهدني بالهدى وقني بالتقوى واجعل الآخرة خيرا لي من الأولى
قال أبو عمر فإن لم يقف بها ولم يدع فلا حرج إن شاء الله عند أكثر العلماء
وقال بعضهم عليه دم
وقال الثوري ويستحبون أن يستقبل في الدعاء عند الجمرتين
882 - مالك أنه سمع بعض أهل العلم يقول الحصى التي يرمى بها الجمار مثل حصى الخذف
قال مالك وأكبر من ذلك قليلا أعجب إلي
قال أبو عمر روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه من حديث جابر بن عبد الله وبن عباس وحديث عمرو بن الأحوص وحديث رجل من بني تيم قرشي يختلف في اسمه أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمار بمثل حصى الخذف
وأما حديث جابر فحدثناه محمد بن إبراهيم قال حدثني محمد بن معاوية قال حدثني أحمد بن شعيب قال حدثني محمد بن بشار قال حدثني يحيى القطان قال حدثني بن جريج عن أبي الزبير عن جابر قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمار بمثل حصى الخذف
وأما حديث بن عباس فحدثني محمد بن إبراهيم قال حدثني محمد بن
349

معاوية قال حدثني أحمد بن شعيب قال حدثني يعقوب بن إبراهيم قال حدثني بن علية قال حدثني عوف قال حدثني زيد بن حصين قال عن أبي العالية قال قال بن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على راحلته هات القط لي فلقطت له حصيات هن حصى الخذف فلما وضعتهن في يده قال بأمثال هؤلاء وإياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين
وأما حديث عمرو بن الأحوص فحدثني عبد الوارث قال حدثني قاسم قال حدثني الخشني قال حدثني أحمد بن أبي عمر قال حدثني سفيان عن يزيد بن أبي زياد قال أخبرني سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أبيه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة يوم النحر من بطن الوادي وهو على بغلته وهو يقول يا أيها الناس عليكم السكينة لا يقتل بعضكم بعضا وإذا رميتم الجمرة بمنى فارموها بمثل حصى الخذف
قال أبو عمر هذا هو المستحب عند جماعة أهل العلم وقد أنكر الشافعي على مالك (رحمة الله عليهما) قوله وأكبر من ذلك قليلا أعجب إلي
883 - مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول من غربت له الشمس من أوسط أيام التشريق وهو بمنى فلا ينفرن حتى يرمي الجمار من الغد
قال أبو عمر إنما قال ذلك لأن من غربت له الشمس بمنى لزمه المبيت بها على سنته فإذا أصبح من اليوم الثالث لم ينتظر حتى يرمي لأنه ممن تعجل في يومين فإن أقام حتى تزول الشمس رمى الرمي على سنته في تلك الأيام وقد رخص له أن يرمي في الثالث ضحى وينفر
ذكر عبد الرزاق قال أخبرنا بن جريج عن [بن] أبي مليكة قال رأيت بن عباس يرمي مع الظهيرة أو قبلها ثم يصدر
قال وأخبرنا معمر عن أبيه قال لا بأس بالرمي يوم النفر ضحى
350

884 - مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن الناس كانوا إذا رموا الجمار مشوا ذاهبين وراجعين وأول من ركب معاوية بن أبي سفيان
قال أبو عمر رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيام التشريق الجمار ماشيا وفعل ذلك جماعة الخلفاء بعده وعليه العمل عند العلماء وحسبك
وما حكاه القاسم بن محمد عن جماعة الناس في ذلك لا يختلفون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف بعرفة راكبا ورمى الجمار ماشيا وذلك أفضل عند الجميع
فمن وقف راجلا بعرفة أو رمى الجمار راكبا فلا أعلم أحدا أوجب عليه شيئا ولما قال القاسم إن أول من فعل ذلك معاوية دل على أن غيره فعل ذلك بعده وإن كان ذلك لم يحمد له والله أعلم
وأما جمرة العقبة فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رماها راكبا ليرى الناس كيف الرمي وذلك محفوظ في حديث جابر
وكان بن عمر يرمي جمرة يوم النحر راكبا ويرمي سائر الجمار أيام التشريق ماشيا
885 - مالك أنه سأل عبد الرحمن بن القاسم من أين كان القاسم يرمي جمرة العقبة فقال من حيث تيسر
قال أبو عمر يعني من حيث تيسر من العقبة من أسفلها أو من أعلاها أو وسطها كل ذلك واسع
والموضع المختار منها بطن الوادي لحديث عبد الله بن مسعود أنه قيل له إن ناسا يرمون الجمرة من فوقها فاستبطن الوادي ثم قال من ها هنا والذي لا إله غيره رماها الذي أنزلت عليه سورة البقرة
وقد أجمعوا أنه إن رماها من فوق الوادي أو أسفله أو ما فوقه أو أمامه فقد جزى عنه
351

وقالوا إذا وقعت الحصاة من العقبة أجزى وإن لم تقع فيها ولا قريبا منها أعاد الرمي ولم يجزه
سئل مالك هل يرمى عن الصبي والمريض فقال نعم ويتحرى المريض حين يرمى عنه فيكبر وهو في منزله ويهريق دما فإن صح المريض في أيام التشريق رمى الذي رمي عنه وأهدى وجوبا
لا يختلفون أنه من لا يستطيع الرمي لعذر رمي عنه وإن كبر كما قال مالك فحسن ولو قدر أن يحمل حتى إذا قرب من الجمار وضع الحصى من يده ثم رمى كان حسنا فإن لم يقدر رمى عنه غيره وأجزى عنه بإجماع
واختلفوا فيما يلزمه إن صح في أيام الرمي وقد كان رمي عنه بعض أيام الرمي فقال مالك ما تقدم ذكره عنه في موطئه
والهدي الذي يلزمه عنده لا بد أن يخرج به إلى الحل ثم يدخله الحرم فيذبحه ويطعمه المساكين أو يشتريه في الحل فيدخله
وقال الشافعي إذا صح في أيام الرمي رمى عن نفسه ما رمي عنه وإن مضت أيام الرمي فلا شيء عليه
قال فإن لم يرم عن الصبي حتى تمضي أيام الرمي أهريق عن كل واحد منهما دم
وقال أبو ثور في ذلك كله مثل قول الشافعي
وقال أبو حنيفة إن لم يرم عن الصبي حتى مضت أيام الرمي لم يكن عليه شيء وإن رمى عن المجنون والمريض والمغمى عليه جزى ذلك عنهم
قال أبو عمر أجمعوا على أنه إن لم يكبر المريض إذا رمي عنه ولا كبر الصحيح أيضا عند الرمي أنه لا شيء عليه
قال مالك لا أرى على الذي يرمي الجمار أو يسعى بين الصفا والمروة وهو متوضئ إعادة ولكن لا يتعمد ذلك
قال أبو عمر لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة إذ حاضت افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري ولم يستثن على الحائض شيئا غير الطواف
352

بالبيت دل على أن ما عداه جائز أن يعمل على غير طهارة لأن كل ما تصنعه الحائض كان لمن كان على غير طهارة أن يصنعه إلا أن عمل ذلك على طهارة أفضل لا يختلفون في ذلك لمن قدر على الطهارة وأما الحائض فلا تقدر على الطهارة
ذكر عبد الرزاق قال أخبرنا بن جريج عن عطاء قال لا ترمى الجمار إلا على طهور فإن فعل جزى عنه
قال وأخبرنا معمر عن الزهري قال لا تغسل الجمار إلا أن يصيبها قذر
886 - مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول لا ترمى الجمار في الأيام الثلاثة حتى تزول الشمس
قال أبو عمر هذه سنة الرمي في أيام التشريق عند الجميع لا يختلفون في ذلك
واختلفوا إذا رماها قبل الزوال في أيام التشريق فقال جمهور العلماء من رماها قبل الزوال أعاد رميها بعد الزوال
وهو قول مالك والشافعي وأصحابهما والثوري وأحمد وأبي ثور وإسحاق
وروي عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال رمي الجمار من طلوع الشمس إلى غروبها
((72 - باب الرخصة في رمي الجمار))
887 - مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن أبيه أن أبا البداح بن عاصم بن عدي أخبره عن أبيه أن رسول الله أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة خارجين عن منى يرمون يوم النحر ثم يرمون الغد ومن بعد الغد ليومين ثم يرمون يوم النفر
353

888 - مالك عن يحيى بن سعيد عن عطاء بن أبي رباح أنه سمعه يذكر أنه أرخص للرعاء أن يرموا بالليل يقول في الزمان الأول
قال مالك تفسير الحديث الذي أرخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لرعاء الإبل في تأخير رمي الجمار فيما نرى والله أعلم أنهم يرمون يوم النحر فإذا مضى اليوم الذي يلي يوم النحر رموا من الغد وذلك يوم النفر الأول فيرمون لليوم الذي مضى ثم يرمون ليومهم ذلك لأنه لا يقضي أحد شيئا حتى يجب عليه فإذا وجب عليه ومضى كان القضاء بعد ذلك فإن بدا لهم النفر فقد فرغوا وإن أقاموا إلى الغد رموا مع الناس يوم النفر الآخر ونفروا
قال أبو عمر قد ذكرنا في التمهيد ما ذكره أحمد بن خالد عن يحيى بن يحيى في حديث أبي البداح أنه قال فيه عن أبي البداح عاصم بن عدي وتكلمنا في ذلك بما حضرنا
والذي عندنا في رواية يحيى أنه كما رواه غيره سواء عن أبي البداح بن عاصم بن عدي وهو الصحيح
وقد ذكرنا شواهده في التمهيد
وقد روى هذا الحديث يحيى القطان عن مالك بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رخص للرعاء في البيتوتة يرمون يوم النحر واليومين بعده يجمعونهما في آخرهما لم يذكر البيتوتة عن منى
ومعلوم أنه إنما رخص لهم في البيتوتة عن منى هم وكل من ولي السقاية من آل العباس
وظاهر حديث يحيى بن سعيد القطان عن مالك أنه رخص للرعاء في دمج يومين في يوم واحد فرموا ذلك أو أجزوه ومالك لا يرى لهم التقديم إنما يرى لهم تأخير رمي اليوم الثاني إلى الثالث ثم يرمون في اليومين لأنه لا يقضى عليه شيء من ذلك حتى يجب فيقضى فيه
ومن حجته ما رواه بن جريج عن محمد بن أبي بكر عن أبيه عن أبي البداح بن عاصم بن عدي عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص لرعاء الإبل أن يتعاقبوا فيرموا يوم النحر ثم يدعوا يوما وليلة ثم يرمون من الغد يعني يرمون اليوم الذي غابوا
354

عنه من منى ثم يرمون عن يومهم الذي أتوا فيه من رعيهم
قال أبو عمر وقال غير مالك لا بأس بذلك كله لأنها رخصة رخص لهم فيها كما رخص لمن نفر وتعجل في يومين في سقوط الرمي في اليوم الثالث
وعند مالك إذا رموا في اليوم الثالث وهو الثاني من أيام التشريق لذلك اليوم ولليوم الذي قبله نفروا إن شاؤوا في بقية ذلك اليوم فإن لم ينفروا وبقوا إلى الليل لم ينفروا اليوم الثالث من أيام التشريق حتى يرموا في وقت الرمي بعد الزوال وإنما لم يجز مالك للرعاء في تقديم الرمي لأن غير الرعاء لا يجوز لهم أن يرموا في أيام التشريق شيئا من الجمار قبل الزوال ومن رماها قبل الزوال أعادها فكذلك الرعاء سواء وإنما رخص للرعاء في تأخير اليوم الثاني إلى اليوم الثالث فقف على ذلك فهو مذهب مالك
قال أبو عمر لما رخص النبي صلى الله عليه وسلم لرعاء الإبل بالرمي في الليل دل ذلك على أن الرمي بالليل غيره أفضل منه لأن الليل لا يجوز فيه الرمي أصلا لإجماع العلماء أن الرمي للرعاء وغير الرعاء لا يجوز تأخيره حتى تخرج أيام التشريق فدل على أن الرمي في ليل التشريق رخصة للرعاء وأن الرمي بالنهار هو في الوقت المختار
قال معمر سمعت الزهري يقول أرخص للرعاء أن يرموا ليلا
وبن جريج عن عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص للرعاء أن يرموا بالليل
وقال مجاهد لم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص لغير الرعاء
وقال الزهري وعطاء من نسي أن يرمي نهارا في أيام منى فليرم في الليل يرمي في أيام منى بالليل والنهار فإن مضت أيام منى أهراق دما
وقال عطاء إذا غابت الشمس من أيام التشريق فقد انقطع الرمي
وقد روي أن الرمي يفوت بطلوع الفجر من آخر أيام التشريق
وهي رواية شاذة
قال عروة من فاته الرمي في أيام التشريق بعد زوال الشمس إلى آخر غروب الشمس
وأما قولهم من ترك الرمي إلى أن غربت الشمس فقال مالك من لم يرم حتى الليل رمى ساعة ذكر من ليل أو نهار
355

قال وهو أخف عندي من الذي يفوته الرمي يوم النحر حتى يمسي
وقال أبو حنيفة من ترك رمي الجمار كلها يومه إلى الليل وهو في أيام الرمي رماها بالليل ولا شيء عليه فإن ترك الرمي حتى انشق الفجر رمى وعليه دم
وقال أبو يوسف ومحمد يرمي من الغد ولا شيء عليه
وقال الشافعي من أخر أو نسي شيئا من الرمي أيام منى قضى ذلك في أيام منى فإن مضت أيام منى ولم يرم أهراق دما لذلك إن كان الذي ترك ثلاث حصيات وإن كان أقل ففي كل حصاة مد يتصدق به
وهو قول أبي ثور
889 - مالك عن أبي بكر بن نافع عن أبيه أن ابنة أخ لصفية بنت أبي عبيد نفست بالمزدلفة فتخلفت هي وصفية حتى أتتا منى بعد أن غربت الشمس من يوم النحر فأمرهما عبد الله بن عمر أن ترميا الجمرة حين أتتا ولم ير عليهما شيئا
قال أبو عمر هذه جمرة العقبة وقد تقدم البيان في وقتها في هذا الكتاب وفيمن رماها قبل وقتها وما للعلماء في ذلك ونذكر ها هنا أقوالهم أيضا فيمن رماها ومن بعد وقتها ووقتها من عند طلوع الشمس إلى غروبها
واختلفوا فيمن غربت له الشمس قبل أن يرميها فقال مالك إن رماها بعد الغروب من الليل فأحب إلي أن يهريق دما وإن أخرها إلى أيام التشريق كان عليه هدي
وقول أبي حنيفة نحو قول مالك في ذلك إلا أنه قال إن رماها من الليل فلا شيء عليه وإن لم يرم حتى الغد رماها وعليه دم
وقال أبو يوسف ومحمد إن أخرها إلى الليل أو من الغد رماها وعليه دم
وقال أبو يوسف ومحمد إن أخرها من الغد رماها ولا شيء عليه
وهو قول الشافعي وأبي ثور وإسحاق
سئل مالك عمن نسي جمرة من الجمار في بعض أيام منى حتى يمسي قال ليرم أي ساعة ذكر من ليل أو نهار كما يصلي الصلاة إذا نسيها ثم ذكرها ليلا أو نهارا فإن كان ذلك بعد ما صدر وهو بمكة أو بعد ما يخرج منها فعليه الهدي
356

قال أبو عمر أجمع العلماء على أن من لم يرم الجمار أيام التشريق حتى تغيب الشمس من آخرها أنه لا يرميها بعد وأنه يجبر ذلك بالدم أو بالطعام على حسب اختلافهم فيها
فمن ذلك أن مالكا قال لو ترك رمي الجمار كلها أو ترك جمرة منها أو ترك حصاة من جمرة حتى خرجت أيام منى فعليه
وقال أبو حنيفة إن ترك الجمار كلها كان عليه دم وإن ترك جمرة واحدة فعليه لكل حصاة من الجمرة إطعام مسكين نصف صاع من حنطة إلى أن يبلغ دما إلا جمرة العقبة فمن تركها فعليه دم
وكذلك قال الأوزاعي إلا أنه قال إن ترك حصاة تصدق بشيء
وقال الثوري يطعم في الحصاة أو الحصاتين والثلاث فإن ترك أربعا فصاعدا فعليه دم
وقال الليث عليه في الحصاة الواحدة دم
وقال الشافعي في الحصاة الواحدة مد وفي حصاتان مدان وفي ثلاث حصيات دم
وله قول آخر مثل قول الليث والأول أشهر عنه
قال أبو عمر قد رخصت طائفة من التابعين منهم مجاهد في الحصاة الواحدة ولم يروا فيها شيئا
روى بن عيينة عن بن أبي نجيح قال سئل طاوس عن رجل ترك من رمي الجمار حصاة فقال يطعم لقمة أو قال يطعم تمرة فذكر ذلك لمجاهد فقال يرحم الله أبا عبد الرحمن ألم يسمع ما قال سعد بن أبي وقاص قال سعد خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته فبعضنا يقول رميت بسبع حصيات وبعضنا يقول رميت بست فلم يعب بعضنا على بعض
قال أبو عمر من أحسن ما قيل في قلة الجمار بمنى مع كثرة الرمي بها هناك ما حدثني عبد الوارث قال حدثني قاسم قال حدثني الخشني قال حدثني بن أبي عمر قال
حدثني سفيان عن سليمان بن أبي المغيرة عن عبد الرحمن بن أبي نعم عن أبي سعيد الخدري قال الحصا قربان فما تقبل من الحصا رفع
وسفيان عن فطر عن أبي العباس عن أبي الطفيل
وسفيان عن فطر وبن أبي حسين عن أبي الطفيل قال قلت لابن عباس
357

رميت الجمار في الجاهلية والإسلام فكيف لا تسد الطريق فقال ما تقبل منها رفع ولولا ذلك لكان أعظم من ثبير
((73 - باب الإفاضة))
890 - مالك عن نافع وعبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب خطب الناس بعرفة وعلمهم أمر الحج وقال لهم فيما قال إذا جئتم منى فمن رمى الجمرة فقد حل له ما حرم على الحاج إلا النساء والطيب لا يمس أحد نساء ولا طيبا حتى يطوف بالبيت
891 - مالك عن نافع وعبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب قال من رمى الجمرة ثم حلق أو قصر ونحر هديا إن كان معه فقد حل له ما حرم عليه إلا النساء والطيب حتى يطوف بالبيت
قال أبو عمر في هذه المسألة أربعة أقوال للسلف والخلف
أحدها قول عمر هذا أنه من رمى جمرة العقبة فقد حل له كل ما حرم عليه إلا النساء والطيب
وهو مذهب عمر في الطيب على ما تقدم في باب الطيب [عند الإحرام] في أول الكتاب
والثاني [إلا النساء والطيب والصيد]
وهو قول مالك
وحجته قول الله تعالى * (لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) * [المائدة 95]
ومن لم يحل له وطء النساء فهو حرام
والثالث إلا النساء والصيد
وهو قول عطاء وطائفة من العلماء
والرابع إلا النساء خاصة
وهو قول الشافعي وسائر العلماء القائلين بجواز الطيب عند الإحرام وقبل الطواف بالبيت على حديث عائشة
358

وروى بن عيينة ومعمر عن الزهري عن سالم عن أبيه قال قال عمر إذا رمى الرجل الجمر بسبع حصيات وذبح [وحلق] فقد حل له كل شيء إلا النساء والطيب
وفي حديث معمر قال سالم وكانت عائشة تقول قد حل له كل شيء إلا النساء ثم قالت إني طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم
[وزاد بن عيينة] لحمة ولحله قبل أن يطوف بالبيت
قال سالم وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع
ولم يذكر هذه الزيادة معمر
[وروى الثوري] عن سلمة بن كهيل عن الحسن العرني قال كان بن عباس يقول إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء أحرمتم منه إلا النساء فقلت يا أبا عباس والطيب قال لا إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مضمخا بالطيب
وذكر معمر أيضا عن بن المنكدر قال سمعت بن الزبير يقول إذا رميتم الجمرة وحلقتم وذبحتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء
[وبه قال طاوس وعلقمة
وروى عبد الرزاق قال حدثنا الثوري عن بن جريج عن عطاء قال إذا رميت الجمرة فقد حل لك كل شيء إلا النساء والصيد] وأن شئت أن تتطيب فتطيب ولك أن تقبل ولا يحل لك المسيس
وروى مالك عن عبد الله بن أبي بكر ويحيى بن سعيد وربيعة سأل سالم بن عبد الله وخارجة بن زيد بعد أن رمى الجمرة وحلق وقيل أن يفيض عن الطيب فرخص له خارجة بن زيد ونهاه سالم
359

وهذا عن سالم خلاف ما رواه عنه بن شهاب في حديث بن عيينة
وقد اختلف قول مالك فيمن تطيب بعد رمي الجمرة وقبل الإفاضة فمرة رأى عليه الفدية ومرة لم ير فيه شيئا لما جاء فيه عن عائشة وخارجة
قال أبو عمر لم يختلف [الفقهاء] أن طواف الإفاضة وهو الذي يدعوه أهل العراق طواف الزيارة لا يرحل فيه ولا يوصل بالسعي بين الصفا والمروة إلا أن يكون القادم لم يطف ولم يسع أو المكي الذي ليس عليه أن يطوف طواف القدوم فإن هذين يطوفان بالبيت [وبالصفا والمروة طوافا واحدا سبعا] وبين الصفا والمروة على ما قد أوضحناه في غير موضع من هذا الكتاب
وذكر عبد الرزاق قال أخبرنا عبد الله وعبيد الله ابنا عمر عن نافع عن بن عمر أنه كان إذا أفاض لا يزيد على طواف واحد ولا يرمل فيه
قال وأخبرنا معمر عن أيوب عن نافع عن بن عمر مثله
وعن سعيد بن جبير وطاوس وعطاء مثل ذلك
قال وأخبرنا معمر عن بن طاوس قال كان أبي إذا أفاض لا يزيد على سبع واحدا
ذكر عبد الرزاق عن معمر والثوري عن عبد الكريم قال طفت مع سعيد بن جبير يوم النحر فلم يزد على سبع
قال وأخبرنا معمر عن طاوس عن أبيه قال لا يرمل الرجل [إذا أفاض] إلا إذا لم يطف قبل ذلك
قال وأخبرنا بن جريج قال عطاء أفاض النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر فلم يسمع في ذلك سبع بالبيت
قال أبو عمر يعني لم يرمل ولم يطف بين الصفا والمروة إلا أن عطاء كان يقول يطوف إن شاء
ذكر عبد الرزاق قال أخبرنا هشيم عن الحجاج عن الحكم قال كان أصحاب عبد الله لا يزيدون يوم النحر على سبع
قال الحجاج فسألت عطاء فقال طف كيف شئت
قال أبو عمر كان إبراهيم النخعي يستحب لمن أفاض أن يطوف ثلاثة أسابيع ويحكى عن شيوخه أنهم كانوا كذلك يفعلون
وذكر عبد الرزاق قال أخبرنا الثوري عن المغيرة عن إبراهيم قال كان
360

الاختلاف إلى مكة أحب إليهم من الجوار وكانوا يستحبون إذا اعتمروا أن يقيموا ثلاثا وكانوا لا يعتمرون في السنة إلا مرة وكانوا يستحبون للرجل أول ما يحج أن يحلق وأول ما يعتمر أن يحلق وأول ما يحج أن يحرم من بيته وأول ما يعتمر [أن يعتمر من] [بيته] وكانوا يستحبون لمن قدم مكة ألا يخرج منها حتى يختم القرآن وكانوا يستحبون أن يطوفوا يوم النحر ثلاثة أسابيع وكانوا يقولون إذا قصر أو لبد أن يحلق
قال أبو عمر كانوا يستحبون لمن حج أو اعتمر أن يحلق في أول حجة يحجها أو عمرة يعتمرها يعني ولا يقصر
((74 - باب دخول الحائض مكة))
892 - مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فأهللنا بعمرة ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان معه هدي فليهلل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا قالت فقدمت مكة وأنا حائض فلم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج ودعي العمرة قالت ففعلت فلما قضينا الحج أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق إلى التنعيم فاعتمرت فقال هذا مكان عمرتك فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة ثم حلوا منها ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم وأما الذين كانوا أهلوا بالحج أو جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا
مالك عن بن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة بمثل ذلك
361

قال أبو عمر هكذا روى هذا الحديث يحيى بن يحيى بهذين الإسنادين ولم يروه أحد من رواة الموطأ وغيرهم عن مالك كذلك
وإنما الحديث عند جميعهم غير يحيى [عن مالك عن بن شهاب عن عروة عن عائشة لا عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة كما روى يحيى
وليس إسناد عبد الرحمن بن القاسم عند غير يحيى من رواة الموطأ في هذا الحديث]
وقد زدنا هذا المعنى بيانا في التمهيد
وأما قول عائشة في هذا الحديث خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم [عام] حجة الوداع ففيه حج المرأة مع زوجها
وفي معنى ذلك سفرها معه حيث شاء ومما أبيح له ولها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسافر امرأة إلا مع زوجها أو أبيها أو ابنها أو أخيها أو ذي محرم منها
وروي عنه مسيرة بريد [ومسيرة يوم] ومسيرة يوم وليلة ومسيرة يومين ومسيرة ثلاثة أيام وسيأتي القول في ذلك في موضعه عند ذكر حديث مالك في ذلك إن شاء الله تعالى
واختلفوا في المرأة التي لا زوج لها ولا معها ذو محرم يطاوعها على السفر إلى الحج معها هل تحج من غير زوج ولا ذي محرم أم لا وهل الزوج والمحرم من السبيل الذي قال الله تعالى * (من استطاع إليه سبيلا) * [آل عمران 97] أم لا
فقالت طائفة الزوج والمحرم من السبيل منهم إبراهيم النخعي وسعيد بن جبير والحسن البصري وبن سيرين وعطاء بن أبي رباح وأبو حنيفة وأصحابه
وبه قال أحمد وإسحاق
وقال مالك والشافعي إذا لزم المرأة الحج وأبي زوجها من الخروج معها أو لم يكن معها زوج ولا ذو محرم حجت مع النساء وليس المحرم عندهما من السبيل
362

وقال بن سيرين تخرج مع رجل من المسلمين ثقة
وقال الأوزاعي تخرج مع قوم عدول وتتخذ سلما تصعد عليه وتنزل ولا يقربها رجل إلا أن يأخذ برأس البعير وتضع رجلها على ذراعه
[أخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثني محمد بن عثمان قال حدثني إسماعيل بن إسحاق قال حدثني علي بن المديني قال حدثني محمد بن حازم قال حدثني أبو معاوية قال حدثني الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري قال لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة ثلاثة أيام فصاعدا إلا ومعها زوجها أو أبوها أو أخوها
أو أمها أو ابنها أو ذو محرم منها
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله
وروي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عباس ومن حديث عبد الله بن عمر ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص]
وروى يونس عن بن شهاب عن عمرة عن عائشة أنها أخبرت أن أبا سعيد الخدري يحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يحل لامرأة [تؤمن بالله واليوم الآخر] تسافر إلا مع ذي محرم
فقالت عائشة ما كلهن ذوات محرم ولا كل النساء [يجدن] محرما
وأما قولها فأهللنا بعمرة فإن عروة قد خولف في ذلك عنها
قال أبو عمر لم يخالفه عندي من هو حجة عليه لأن عروة أحفظ أصحاب عائشة
ومن أهل بعمرة في أشهر الحج وهو يريد الحج في عامه فهو متمتع بإجماع إذا حج
ومعلوم أن [خروجهم] كان في ذي القعدة وهو من شهور الحج وحجوا في عامهم فدل على أنه كان منهم المتمتع بالعمرة إلى الحج ومنهم المنفرد بالحج ومنهم من قرن العمرة مع الحج
وهذا ما لا خلاف فيه من أهل الآثار وعلماء الأمصار
وكذلك أجمعوا أن ذلك سنة معمول بها إلا أنهم اختلفوا في الأفضل منها وفيما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم محرما به في حاجة نفسه يومئذ
363

[وأما قولها] ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان معه هدي فليحل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منها جميعا
وفيه أدل دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في حجته قارنا فإنه لا خلاف أنه كان معه يومئذ الهدي ساقه مع نفسه وقلده بذي الحليفة وأشعره إلى ما أتى به علي من اليمن
ويؤيد ما ذكرنا حديث حفصة عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر الهدي
فهذا القول مع قوله لأصحابه من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة أوضح دليل على أنه كان قارنا صلى الله عليه وسلم والله أعلم إلى الآثار التي قدمنا ذكرها في باب القران قد صرحت وأفصحت بأنه كان قارنا فإذا كان ما ذكرنا كما وصفنا كان معنى قول عائشة رحمها الله في رواية القاسم ومن تابعه عنها بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج أي أباح الإفراد وأذن فيه وأمر به وبينه صلى الله عليه وسلم
وقد أوضحنا وجوه الإفراد والتمتع والقران فيما تقدم والحمد لله
وفي رواية مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج دليل على أن يحيى وهم في رواية حديث هذا الباب عن مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه وإنما هو حديث عن بن شهاب عن عروة عن عائشة عند الجميع
وقد يمكن أن يكون الحديث عند مالك عن عبد الرحمن بن القاسم [كما رواه يحيى عنه] فذكره في حين كون يحيى عنده
وأما قولها فقدمت مكة وأنا حائض فلم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة فهذا ما لا خلاف فيه أيضا أن الحائض لا تطوف بالبيت وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لها افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت
وقد أجمعوا أن سنة الطواف بين الصفا والمروة أن يكون موصولا بالطواف بالبيت وقد أوضحنا فيما سلف من كتابنا معاني ذلك كله
364

وأما قولها فشكوت ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال انقضي رأسك وأهلي بالحج ودعي العمرة [فإن جماعة من أصحابنا وأصحاب الشافعي تأولوا في قوله ودعي العمرة] أي دعي عمل العمرة يعني الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة لأنه صلى الله عليه وسلم أمرها برفض العمرة وإن شاء الحج كما زعم الكوفيون
وذكر بن وهب عن مالك أنه قال في حديث عروة عن عائشة هذا ليس عليه العمل عندنا قديما ولا حديثا قال وأظنه وهما
قال أبو عمر يريد مالك أنه ليس عليه العمل في رفض العمرة لأن الله عز وجل قد أمرنا بإتمام الحج والعمرة لكل من دخل فيهما
والذي عليه العمل عند مالك والشافعي وجمهور أهل الحجاز في المعتمرة تأتيها حيضتها قبل أن تطوف بالبيت وتخشى فوت عرفة وهي حائض لم تطف أنها تهل بالحج وتكون كمن قرن بين الحج والعمرة ابتداء وعليها هدي القران
ولا يعرفون رفض العمرة ولا رفض الحج لأحد دخل فيهما أو في أحدهما
وممن قال بذلك مالك والأوزاعي والشافعي وأبو ثور وإبراهيم بن علية كلهم يقول ذلك في الحائض المعتمرة
وفي المعتمر يخاف فوت عرفة قبل أن يطوف قالوا فلا يكون إهلاله رفضا للعمرة بل يكون قارنا بإدخال الحج على العمرة
ودفعوا حديث عروة عن عائشة المذكور في هذا الباب بضروب من الاعتدال وعارضوه بآثار مروية عن عائشة بخلافه قد ذكرناها كلها [أو أكثرها] في التمهيد
وذكرنا اعتلالهم هناك بما أغنى عن ذكره هنا
واختصار ذلك أن القاسم وعمرة والأسود رووا عن عائشة أنها كانت محرمة بحجة لا بعمرة فكيف يصح أن يقول لها دعي العمرة
وقد أوضحنا هذا وجئنا بألفاظ الأحاديث الشاهدة بذلك في التمهيد
قال إسماعيل بن إسحاق لما اجتمع هؤلاء الثلاثة يعني القاسم والأسود وعمرة على أن عائشة كانت محرمة بحج لا بعمرة علمنا بذلك أن الرواية التي رويت عن عروة غلط
وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه المعتمرة الحائض إذا خافت فوت عرفة
365

ولم تكن طافت ولا سعت رفضت عمرتها وألغتها واهلت بالحج وعليها لرفض عمرتها دم ثم تقضي عمرة بعد
وحجتهم حديث بن شهاب هذا عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها إذ شكت إليه حيضتها دعي عمرتك وانقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج وكذلك رواه هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة كما رواه بن شهاب بمعنى واحد
قالوا وفي قوله لها انقضي رأسك وامتشطي دليل على رفض العمرة لأن القارنة لا تمتشط ولا تنفض رأسها
قالوا ولا وجه لمن جعل حديث عروة خطأ لأن الزهري وعروة لا يقاس بهما غيرهما في الحفظ والإتقان
قالوا وكذلك روى عكرمة عن عائشة وبن أبي مليكة عن عائشة
ذكر عبد الرزاق قال ذكرت للثوري ما حدثناه معمر عن بن [أبي] نجيح عن مجاهد قال علي (رضي الله عنه) إذا خشي المتمتع فوتا أهل بالحج مع عمرته وكذلك الحائض المعتمرة تهل بحج مع عمرتها
وعن الحسن وطاوس مثله
وقال الثوري لا نقول بهذا ولا نأخذ به ونأخذ بحديث عائشة ونقول عليها لرفض عمرتها دم والله أعلم
قال أبو عمر ليس في حديث عروة عن عائشة ذكر دم لا من رواية الزهري ولا من رواية غيره بل قال فيه هشام بن عروة ولم يكن في شيء من ذلك دم
ذكره أنس بن عياض وغيره عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في حديثهما هذا
وذكره البخاري [فقال حدثني محمد] قال حدثني [أبو] معاوية قال حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم موافين لهلال ذي الحجة فقال لنا من أحب منكم [أن يهل] بالحج فليهل ومن أحب منكم أن يهل بالعمرة فليهل فلولا أني أهديت لأهللت بعمرة قالت فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحجة وكنت ممن أهل بعمرة فأظلني يوم عرفة وأنا حائض فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ارفضي عمرتك وانقضي رأسك
366

وامتشطي وأهلي بالحج فلما كانت ليلة الحصبة أرسل معي عبد الرحمن إلى التنعيم فأهللت بعمرة مكان عمرتي
قال أبو عمر هذا أقوى ما احتج به الكوفيون في رفض العمرة للحائض المعتمرة المريدة للحج وقد عارض عروة في ذلك من ليس بدونه في الحفظ وأقل الأحوال سقوط الاحتجاج بما قد صح به التعارض والتدافع والرجوع إلى ظاهر قول الله تعالى * (وأتموا الحج والعمرة لله) * [البقرة 196]
وقد أجمعوا أن الخائف لفوت عرفة أنه لا يحل له رفض العمرة فكذلك من خاف فوت عرفة لأنه لا يمكنه إدخال الحج على العمرة ويكون قارنا فلا وجه لرفض العمرة في شيء من النظر
وأما الأثر فقد اختلفت الرواية فيه وبالله التوفيق
فإن قيل لو كانت قارنة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسلها مع أخيها تعتمر ثم يقول لها هذه مكان عمرتك
قيل له قد صححنا أنها لم تكن مهلة بعمرة فسقط عنها الجواب
ويحتمل أن لو كانت مهلة بعمرة ثم قرنت بها حجا أن يكون معنى قولها يرجع صواحبي بحج وعمرة وأرجع أنا بالحج أي أرجع أنا ولم أطف إلا طواف الحج فأرادت أن تكون عمرتها مفردة تطوف بها وتسعى كما صنع غيرها
ألا ترى إلى قولها وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا بهما طوافا واحدا
[وأما قولها [فطاف] الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة ثم حلوا منها ثم طافوا طوافا آخر] بعد أن رجعوا من منى لحجهم [فهكذا السنة] في كل من تمتع بالعمرة إلى الحج أن يطوف من عمرته وينحر ثم يطوف طواف الإفاضة لحجه يوم النحر بعد رمي جمرة العقبة وهذا ما لا خلاف فيه ولا مدخل للكلام عليه وقد مضى القول نحو ذا في إدخال الحج على العمرة وما في ذلك للعلماء من المذاهب والمعاني فيما تقدم من كتابنا هذا
وأما قولها وأما الذين كانوا أهلوا بالحج أو جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا [فلا خلاف بين العلماء أن المرمل بالحج منفرد لا يطوف إلا
367

طوافا واحدا] يوم النحر يحل به من كل شيء من النساء وغير النساء مما كان حراما عليه ويستحب له ألا يطوف يوم غير ذلك الطواف فإن طاف بعده ما شاء متطوعا ذلك اليوم لم يحرم عليه
وأما من جمع الحج والعمرة فإن العلماء قد اختلفوا قديما وحديثا في طواف القارن وسعيه
فقال مالك والشافعي وأصحابهما وأحمد وإسحاق وأبو ثور يجزئ القارن طواف واحد وسعي واحد
وهو مذهب عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله والحسن وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وطاوس
وحجتهم حديث عروة عن عائشة هذا وآثار قد ذكرتها في التمهيد منها حديث الدراوردي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر [أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من
جمع الحج والعمرة كفاه لهما طواف واحد
وهذا الحديث لم يرفعه أحد عن عبيد الله غير الدراوردي عن عبد الله وغيره أوقفه علي بن عمر
وكذلك رواه مالك عن نافع عن بن عمر] موقوفا
ومن حجتهم أيضا حديث بن أبي نجيح عن عطاء عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها إذا رجعت إلى مكة فإن طوافك يجزئك لحجتك وعمرتك
وآثار قد ذكرتها كلها بما فيها في التمهيد
وقال الثوري والأوزاعي وبن أبي ليلى [وأبو حنيفة وأصحابه] والحسن بن صالح على القارن طوافان وسعيان
وروى هذا القول عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود
وبه قال الشعبي وجابر بن زيد
قال أبو عمر الحجة بحديث عروة عن عائشة في طواف القارن أنه طواف
368

واحد لازمة للكوفيين لأنهم يأخذون به في رفض العمرة مع احتماله في ذلك للتأويل ويتركونه في طواف القارن ولا يحتمل التأويل
839 - مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أنها قالت قدمت مكة وأنا حائض فلم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت ولا بين الصفا والمروة حتى تطهري
وفي هذا الحديث أن الحائض لا تطوف بالبيت
وفي حكم ذلك كل من ليس على طهارة من جنب وغير متوضئ
وأما قوله في هذا الحديث ولا بين الصفا والمروة فلم يقله من رواة الموطأ ولا غيرهم إلا يحيى [بن يحيى] في هذا الحديث
وجمهور العلماء بالحجاز والعراق على أن الطواف بين الصفا والمروة جائز للحائض وغير الطاهر أن يفعله إذا كان قد طاف بالبيت طاهرا
وقد تقدم القول عن العلماء فيمن طاف بالبيت على غير طهارة
وأما السعي بين الصفا والمروة فلا أعلم أحدا اشترط فيه الطهارة إلا الحسن البصري فإنه قال من سعى بين الصفا والمروة على غير طهارة فإن ذكر ذلك قبل أن يحل فليعد وإن ذكر بعد ما حل فلا شيء عليه
قال مالك في المرأة التي تهل بالعمرة ثم تدخل مكة موافية للحج وهي حائض لا تستطيع الطواف بالبيت إنها إذا خشيت الفوات أهلت بالحج وأهدت وكانت مثل من قرن الحج والعمرة وأجزأ عنها طواف واحد والمرأة الحائض إذا كانت قد طافت بالبيت وصلت فإنها تسعى بين الصفا والمروة وتقف بعرفة والمزدلفة وترمي الجمار غير أنها لا تفيض حتى تطهر من حيضتها
قال أبو عمر هذا كله قد مضى القول فيما اجتمع عليه من ذلك وما اختلف فيه فلا وجه لإعادته
369

((75 - باب إفاضة الحائض))
894 - مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين أن صفية بنت حيي حاضت فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال أحابستنا هي فقيل إنها قد أفاضت فقال فلا إذا
895 - وعن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مثله سواء
896 - مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن أبيه عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله إن صفية بنت حيي قد حاضت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلها تحبسنا ألم تكن طافت معكن بالبيت قلن بلى قال فاخرجن
897 - مالك عن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة أم المؤمنين أنها كانت إذا حجت ومعها نساء تخاف أن يحضن قدمتهن يوم النحر فأفضن فإن حضن بعد ذلك لم تنتظرهن فتنفر بهن وهن حيض إذا كن قد أفضن
898 - مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه أن أبا سلمة بن عبد
370

الرحمن أخبره أن أم سليم بنت ملحان استفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاضت أو ولدت بعد ما أفاضت يوم النحر فأذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت
قال مالك والمرأة تحيض بمنى تقيم حتى تطوف بالبيت لا بد لها من ذلك وإن كانت قد أفاضت فحاضت بعد الإفاضة فلتنصرف إلى بلدها فإنه قد بلغنا في ذلك رخصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم للحائض
قال وإن حاضت المرأة بمنى قبل أن تفيض فإن كربها يحبس عليها أكثر مما يحبس النساء الدم
قال أبو عمر معنى الآثار المرفوعة في هذا الباب أن طواف الإفاضة يحبس الحائض بمكة [لا تبرح حتى تطوف للإفاضة] لأن الطواف المفترض على كل من حج فإن كانت الحائض قد طافت قبل أن [تحيض] جاز لها بالسنة أن تخرج ولا تودع البيت ورخص ذلك للحائض وحدها دون غيرها
وهذا كله أمر مجتمع عليه من فقهاء الأمصار وجمهور العلماء عليه لا خلاف بينهم فيه
وقد كان بن عمر رضي الله عنه يفتي بأن الحائض لا تنفر حتى تودع البيت ثم رجع عنه
وذكر معمر عن أيوب عن نافع عن الزهري عن سالم إن صفية بنت أبي عبيد حاضت يوم النخر بعدها طافت بالبيت فأقام بن عمر عليها سبعا حتى طهرت وطافت فكان آخر عهدها بالبيت
ومعمر قال أخبرنا بن طاوس عن أبيه أنه سمع بن عمر يقول لا ينفرن أحد من الحاج حتى يطوف بالبيت فقلت ما له لم يسمع ما سمع أصحابه ثم جلست إليه من العام القابل فسمعته يقول أما النساء فقد رخص لهن
قال وأخبرنا بن طاوس عن أبيه أن زيد بن ثابت وبن عباس تماريا في صدور الحائض قبل أن يكون آخر عهدها الطواف بالبيت
فقال بن عباس تنفر
371

وقال زيد لا تنفر فدخل زيد على عائشة فسألها فقالت تنفر فخرج زيد وهو يقول ما الكلام إلا ما قلت
قال أبو عمر أجمع العلماء على أن طواف الوداع من سنن الحج المسنونة كما أجمعوا أن طواف الإفاضة فريضة
وروى معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه أن عمر بن الخطاب خطب الناس فقال إذا نفرتم من منى فلا يصدر أحد حتى يطوف بالبيت فإن آخر المناسك الطواف بالبيت
وعن بن عباس وبن عمر مثله [عن أبيه]
وطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم للوداع وقد كان قال لهم خذوا عني مناسككم
واختلف الفقهاء فيمن صدر ولم يودع
فقال مالك لا أحب لأحد أن يخرج من مكة حتى يودع البيت بالطواف فإن لم يفعل فلا شيء عليه
قال أبو عمر الوداع عنده مستحب وليس بسنة واجبة لسقوطه عن الحائض وعن المكي الذي لا يبرح من مكة [بفرقة] بعد حجه فإن خرج من مكة إلى حاجة طاف للوداع وخرج حيث شاء
وهذا يدل على أنه مستحب [ليس من مؤكدات الحج]
والدليل على ذلك أنه طواف قد حل وطء النساء قبله فأشبه طواف [التطوع]
وقال الثوري وأبو حنيفة [وأصحابه] من خرج عن مكة ولم يودع البيت بالطواف فعليه دم
وحجتهم ما جاء عن عمر وبن عباس وبن عمر أنهم قالوا هو من النسك
وقال بن عباس من ترك من نسكه شيئا فليهرق دما
وأما قول مالك فإن حاضت المرأة [بمنى] قبل أن تفيض فإن كربها يحبس عليها أكثر مما يحبس النساء الدم
وقال بن عبد الحكم إذا حاضت قبل الإفاضة لم تبرح حتى تطهر وتطوف
372

بالبيت ويحبس عليها الكري إلى انقضاء خمسة عشر يوما (من حين ذات الدم ويحبس على النفساء حتى تطهر بأكثر ما يحبس [النفساء] الدم في النفاس)
قال ولا حجة للكري أن يقول لم أعلم أنها حامل
قال مالك وليس عليها أن تعينه في العلف
قال فإن حاضت بعد الإفاضة فلتنفر
قال وإن كان بين الحائض وبين التي لم تطهر يوم أو يومان حبس عليها الكري ومن معه من أهل رفقته وإن كان بقي لها أيام لم يحبس إلا وحده
وقال محمد بن المواز لست أعرف حبس الكري كيف يحبس وحده يعرضه بقطع الطريق عليه
((76 - باب فدية ما أصيب من الطير والوحش))
899 - مالك عن أبي الزبير أن عمر بن الخطاب قضى في الضبع بكبش وفي الغزال بعنز وفي الأرنب بعناق وفي اليربوع بجفرة
قال أبو عمر واليربوع دويبة لها أربعة قوائم وذنب تجتر كما تجتر الشاة وهي من ذوات الكرش
روينا ذلك عن عكرمة
وبه قال أهل اللغة
وفي حديث عمر فوق ما نجزي به الضبع وما نجزي به الغزال وما نجزي به الأرنب واليربوع فقال في الضبع كبش وفي الغزال عنز وفي الأرنب عناق وفي اليربوع جفرة
ولو كان العناق عنزا ثنية كما زعم بعض أصحابنا لقال عمر في الغزال والأرنب واليربوع عنز ولكن العنز عند أهل العلم ما قد ولد (أو ولد مثله
373

والجفرة عند أهل العلم بالعراق وأهل اللغة [والسنة] من ولد المعز ما أكل واستغنى عن الرضاع
والعناق قيل هو دون الجفرة وقيل هو فوق الجفرة ولا خلاف أنه من ولد المعز
قال أبو عمر خالف مالك رحمه الله عمر بن الخطاب رضي الله عنه من هذا الحديث في الأرنب واليربوع فقال لا يفديان بجفرة ولا بعناق ولا يفديهما من أراد فداءهما بالمثل من النعم إلا بما يجوز هديا وضحية
وولد الجذع فما فوقه من الضأن [والثني] وما فوقه من الإبل والبقر والمعز وإن شاء فداهما بالطعام كفارة للمساكين أو عدل ذلك صياما هو مخير في ذلك فإن اختار الإطعام قوم الصيد وينظر كم ثمنه من الطعام فيطعم لكل مسكين مدا أو يصوم مكان كل مد يوما
قال وفي صغار الصيد مثل ما في كباره وفي فراخ الطير ما في الكبير إن حكم عليه بالهدي أو بالصدقة أو الصيام يحكم عليه في الفرخ بمثل دية أبويه
قال وكذلك [الضباع] وكل شيء
قال وكذلك دية الكبير والصغير من الناس سواء
قال أبو عمر سيأتي بيان قوله في الحمام وغيره من الطير فيما بعد من هذا الكتاب إن شاء الله
وحجة مالك فيما ذهب إليه من ذلك ظاهر قول الله تعالى * (ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة) * [المائدة 95] فلما قال هديا ولم يختلفوا أن من جعل على نفسه [هديا] أنه لا يجزئه أقل من [الجذع] من الضأن والثني مما سواه كان كذلك حق الصيد لأنه قياس على الهدي الواجب والتطوع والأضحية
وقال الشافعي هدي صغار الصيد بالمثل من صغار النعم وكبار الصيد بالمثل من كبار النعم
وهو معنى ما روي عن عمر وعثمان وعلي وبن مسعود رضي الله عنهم في تأويل قول الله عز وجل * (فجزاء مثل ما قتل من النعم) * [المائدة 95]
قال الشافعي والطائر لا مثل له من [النعم] فيفدى بقيمته واحتج في ذلك بما يطول ذكره
374

وعنده في النعامة الكبيرة بدنة وفي الصغيرة فصيل وفي حمار الوحش الكبير بقرة وفي ولده عجل وفي [الولد الصغير] خروف أو جدي
وقال أبو حنيفة [في الصغير] قيمته على أصله في القيمة
وقال المثل في جزاء الصيد القيمة
وقال أبو يوسف ومحمد إذا بلغ الهدي عناقا أو جملا جاز أن يهديه في [زمن] الصيد
واتفق مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم أن الهدي في [غير] جزاء الصيد لا يكون إلا جذعا من الضأن أو ثنيا مما سواه من الأزواج الثمانية ما يجوز ضحية
والثني أحب إليهم من كل شيء
وكان الأوزاعي يجيز الجذع من البقر دون المعز
واتفق مالك [والشافعي] ومحمد بن الحسن على أن المثل المأمور به في جزاء الصيد هو الأشبه به من النعم في البدن فقالوا في الغزالة شاة وفي النعامة بدنة وفي حمار الوحش بقرة
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف الواجب في قتل الصيد قيمته سواء كان مما له مثل من النعم أو لم يكن وهو بالخيار بين أن يتصدق بقيمته وبين أن يصرف القيمة في النعم فيشتريه [ويهديه]
900 - مالك عن عبد العزيز بن قرير عن محمد بن سيرين أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب فقال إني أجريت أنا وصاحب لي فرسين نستبق إلى ثغرة ثنية فأصبنا ظبيا ونحن محرمان فماذا ترى فقال عمر لرجل إلى جنبه تعال حتى أحكم أنا وأنت قال فحكما عليه بعنز فولى الرجل وهو يقول هذا أمير المؤمنين لا يستطيع أن يحكم في ظبي حتى دعا رجلا يحكم معه فسمع عمر قول الرجل فدعاه فسأله هل تقرأ سورة المائدة قال لا قال فهل تعرف هذا الرجل الذي حكم معي فقال لا فقال لو أخبرتني أنك تقرأ سورة المائدة
375

لأوجعتك ضربا ثم قال إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه * (يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة) * [المائدة 95] وهذا عبد الرحمن بن عوف
قال أبو عمر أمر بن وضاح بطرح عبد الملك اسم شيخ مالك في هذا الحديث فقال اجعله عن بن قرير وكذلك روايته عن يحيى عن مالك عن بن قرير عن محمد بن سيرين في هذا الحديث ورواية عبيد الله عن أبيه [يحيى بن يحيى] عن مالك عن عبد الملك بن قرير
وهو عند أكثر العلماء خطأ لأن عبد الملك بن قرير لا يعرف
قال يحيى بن [معين] وهم مالك في اسمه شك في اسم أبيه وإنما هو [عبد الملك] بن قرير وهو الأصمعي
وقال آخرون إنما وهم مالك في اسمه لا في اسم أبيه وإنما هو عبد العزيز بن قرير رجل بصري يروي عن بن سيرين أحاديث هذا منها
وقال أحمد بن عبد الله بن بكير لم يهم مالك في اسمه ولا في اسم أبيه وإنما هو عبد الملك بن قرير كما قال مالك أخو عبد العزيز بن قرير
قال أبو عمر الرجل مجهول والحديث معروف محفوظ من رواية البصريين والكوفيين عمر
رواه بن جابر ورواه عن قبيصة الشعبي ومحمد بن [عبد الملك] بن قارب الثقفي وعبد الملك بن عمير وهو أحسنهم سياقة له
ورواه عن عبد الملك بن عمير جماعة من أهل الحديث منهم سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج وجرير بن [عبد الحميد] وعبد الملك المسعودي ومعمر بن راشد
ذكرها كلها علي بن المديني
أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال أخبرنا إسماعيل بن [محمد] الصفار قال حدثني إسماعيل بن إسحاق قال حدثني علي بن المديني قال وأما حديث سفيان فحدثناه يحيى بن سعيد قال حدثني سفيان قال أخبرني عبد الملك بن عمير عن قبيصة بن جابر أن محرما قتل ظبيا فقال له [عمر] اذبح شاة وأهرق دمها وأطعم لحمها وأعط إهابها رجلا يتخذه [سقاء]
هكذا رواه الثوري مختصرا واختصره أيضا شعبة إلا أنه أكمل من حديث الثوري
376

قال علي حدثنا هشام أبو الوليد الطيالسي قال حدثني شعبة عن عبد الملك بن عمير قال سمعت قبيصة بن جابر يقول خرجت حاجا أنا وصاحب لي فرأينا ظبيا فقال لي صاحبي أو قلت له تراك تبلغه فأخذ حجرا فرماه فأصاب أحشاءه فقتله فأتى عمر بن الخطاب فذكر ذلك له فقال له عمر عمدا أو خطا فقال [ما أدري] فضحك عمر وقال اعمد إلى شاة فاذبحها ثم تصدق بلحمها واجعل إهابها سقاء
قال علي وأما حديث معمر فحدثناه عبد الرزاق بن همام قال أخبرنا معمر عن عبد الملك بن عمير قال أخبرني قبيصة بن جابر الأسدي قال كنت محرما فرأيت ظبيا [فرميته] فأصبت خشاه يعني أصل قرنه فركب ردعه قال فوقع في نفسي من ذلك شيء فأتيت عمر بن الخطاب أسأله فوجدت إلى جنبه رجلا أبيض رقيق الوجه وإذا هو عبد الرحمن بن عوف فسألت عمر فالتفت عمر إلى الذي إلى جنبه قال أترى شاة تكفيه قال نعم قال فأمرني أن أذبح شاة فقمنا من عنده فقال لي صاحبي إن أمير المؤمنين لم يحسن أن يفتيك حتى سأل الرجل قال فسمع عمر بعض كلامه فعلاه بالدرة ضربا ثم أقبل علي ليضربني فقلت يا أمير المؤمنين لم أقل شيئا إنما هو قاله قال فتركني ثم قال أتقتل الحرام وتتعدى الفتيا ثم قال إن في الإنسان عشرة أخلاق تسعة حسنة وواحد سيئ فيفسدها ذلك السيئ ثم قال إياك وعثرات [اللسان]
قال علي وأما حديث [جرير] والمسعودي فحدثناه جرير بن عبد الحميد عن عبد الملك بن عمير عن قبيصة بن جابر
[قال علي وحدثني يحيى بن سعيد عن المسعودي قال حدثني سفيان عن عبد الملك بن عمير عن قبيصة بن جابر] قال كنا نحج على الرحال وإنا لفي عصابة كلها محرمون نتماشى بين أيدي ركابنا وقد صلينا [الغداة] ونحن نقودها إذ تذاكر القوم الظبي أسرع أم الفرس فما كان بأسرع من أن سنح لنا ظبي أو برح فأخذ بعض القوم حجرا [فرماه] فما أخطأ حشاه فركب ردعه ميتا فأقبلنا عليه فقلنا له قولا شديدا فلما كنا بمنى انطلقت أنا والقاتل إلى عمر فقص عليه قصته فقال كيف قتلته أخطأ أم عمدا قال والله ما قتلته خطأ ولا عمدا لأني تعمدت رميه وما أدري قتله فضحك عمر وقال ما أراك إلا قد أشركت الخطأ مع العمد فقال هذا حكم ويحكم به ذوا عدل منكم ثم التفت إلى رجل إلى جنبه كأنه قلب فضة وإذا هو عبد الرحمن بن عوف فقال كيف ترى قال فاتفقا على شاة فقال
377

عمر للقاتل خذ شاة وأهرق دمها وأطعم لحمها واسق إهابها [رجلا] يجعله سقاء
قال وما أشد حكمها منا
قال فلما خرجت أنا والقاتل قلت له أيها المستفتى بن الخطاب إن عمر ما درى ما يفتيك حتى سأل بن عوف فلم أكن قرأت المائدة ولو كنت قرأتها لم أقل ذلك واعمد إلى ناقتك فانحرها فإنها خير من شاة عمر
قال المسعودي فسمعها عمر
وقال جرير فبلغ ذلك عمر فما شعرنا حتى أتينا فلبب كل رجل منا يقاد إلى عمر قال فلما دخلنا عليه قام وأخذ الدرة ثم أخذ بتلابيب القاتل فجعل يصفق رأسه حتى عددت له ثلاثين ثم قال قاتلك الله أتعدى الفتيا وتقتل الحرام ثم أرسله وأخذ بتلابيبي فقلت يا أمير المؤمنين إني لا أحل لك مني شيئا حرمه الله علي فأرسل تلابيبي ورمى بالدرة ثم قال ويحك [إني أراك شاب السن فصيح اللسان] إن الرجل تكون عنده عشرة أخلاق تسعة صالحة وخلق سيئ فيفسد الخلق السيئ التسعة إياك وعثرات [اللسان]
قال أبو عمر أنا جمعت حديث جرير وحديث المسعودي وأتيت بمعناهما كاملا
[وأما علي] فذكر كل واحد منهما على حدة وأتى بالطرق المذكورة كلها
قال علي سألت أبا عبيدة معمر بن المثنى عن سنح أو برح فقال السنوح ما جاء على اليسار والبروح ما جاء من قبل اليمين
قال أبو عمر ظاهر حديث مالك من قوله أجريت أنا وصاحب لي فرسين نستبق إلى ثغرة ثنية فأصبنا ظبيا يدل على أن قتل ذلك الظبي كان خطأ
وفي حديث قبيصة بن جابر ما يدل على العمد لقوله من رماه فأصاب حشاه أو خششاءه وفي بعض روايته ما أدري خطأ أم عمدا لأني تعمدت رميه وما أردت قتله
وقد اختلف العلماء [قديما] في قتل الصيد خطأ
فقال جمهور العلماء وجماعة الفقهاء أهل الفتوى بالأمصار منهم مالك والليث والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهما قتل الصيد عمدا أو خطأ سواء
وبه قال أحمد وإسحاق وأبو جعفر الطبري
378

وقال أهل الظاهر لا يجوز الجزاء إلا على قتل الصيد عمدا ومن قتله [خطأ] فلا شيء عليه لظاهر قول الله عز وجل * (ومن قتله منكم متعمدا) * [المائدة 95]
وروي عن مجاهد وطائفة لا تجب الكفارة إلا في قتل الصيد خطأ [وأما العمد فلا كفارة فيه]
قال أبو عمر ظاهر قول مجاهد مخالف لظاهر القرآن إلا أن معناه [أنه] متعمد لقتله ناس لإحرامه
وذكر معمر عن بن أبي نجيح عن مجاهد في قوله عز وجل * (ومن قتله منكم متعمدا) * [المائدة 95] فإن من قتله متعمدا لقتله ناسيا لإحرامه قال أبو عمر يقول إذا كان ذاكرا لإحرامه فهو أعظم من أن يكون فيه جزاء كاليمين الغموس
وأما أهل الظاهر فقالوا دليل الخطاب يقضي أن حكم من قتله خطأ بخلاف حكم من قتله متعمدا وإلا لم يكن لتخصيص التعمد معنى
واستشهدوا عليه بقوله عليه السلام رفع عن أمتي الخطأ والنسيان
وروي عن بن عباس وطائفة من أصحابه هذا المعنى
وبه قال أبو ثور وداود
وأما وجه ما ذهب إليه الجمهور الذي لا يجوز عليهم تحريف تأويل الكتاب فإن الصحابة رضي الله عنهم منهم عمر وعثمان [وعلي] وبن مسعود قضوا في الضبع بكبش وفي الظبي بشاة وفي النعامة ببدنة ولم يفرقوا بين العامد والمخطئ في ذلك بل رد أحدهم على حمامة فماتت فقضوا عليه فيها بالجزاء
وكذلك حكموا في من أكل مما صيد من أجله بالجزاء
ومن جهة النظر أن [إتلاف] أموال المسلمين وأهل الذمة يستوي في ذلك العمد والخطأ وكذلك الصيد لأنه ممنوع منه محرم على المحرم كما أن أموال بعض المسلمين محرمة على بعض
وكذلك الدماء لما كانت محرمة في العمد و [الخطأ] وجعل الله في الخطأ منها
379

الكفارة فكذلك الصيد لأن الله تعالى سماه كفارة طعام مساكين
وقد أجمعوا على أن قوله عليه السلام رفع عن أمتي الخطأ والنسيان
ليس في إتلاف الأموال وإنما المراد به رفع المآثم
وهذا كله يدل على أن العمد والخطأ سواء وإنما خرج ذكر العمد على الأغلب والله أعلم
ذكر عبد الرزاق قال أخبرنا معمر الزهري قال يحكم عليه في العمد وهو في الخطأ سنة
قال عبد الرزاق وهو قول الناس وبه نأخذ
قال أبو عمر في هذا الباب أيضا قول شاذ لم يقل به أحد من أئمة الفتوى بالأمصار إلا داود بن علي وهو قول الله عز وجل * (ومن عاد فينتقم الله منه) * [المائدة 95]
قال داود لا جزاء إلا في أول مرة فإن عاد فلا شيء عليه
وهو قول مجاهد وشريح وإبراهيم وسعيد بن جبير وقتادة
ورواية عن بن عباس قال في المحرم يصيب الصيد فيحكم عليه ثم يعود قال لا يحكم عليه إن شاء الله عفا عنه وإن شاء انتقم منه
وقال سعيد بن جبير إن عاد لم يتركه الله حتى ينتقم منه
قال أبو عمر الحجة للجمهور عموم قول الله عز وجل * (لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم) * [المائدة 95]
وظاهر هذا يوجب على من قتل الصيد وهو محرم الجزاء لأنه لم يخص وقتا دون وقت وليس في انتقام الله منه ما يمنع الجزاء لأن حسن الصيد المقتول في المرة الأولى وفي الثانية سواء
وقد قيل تلزمه الكفارة انتقاما منه لأنه قال في الأولى ليذوق وبال أمره) [المائدة 95] والمعنى عفا الله عما سلف في الجاهلية ومن عاد فينتقم الله منه يريد من عاد في الإسلام فينتقم منه بالجزاء لأنه لم يكن في الجاهلية ولا في شريعة من قبلها من الأنبياء جزاء ألا ترى إلى قول الله تعالى " يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم " [المائدة 94] فكانت شريعة إبراهيم
380

عليه السلام تحريم الحرم ولم يكن جزاء إلا على هذه الأمة والله أعلم
قال أبو عمر وأما قوله في حديث مالك في هذا الباب فقال عمر لرجل إلى جنبه تعال حتى نحكم أنا وأنت فإن قوله عز وجل * (يحكم به ذوا عدل منكم) * [المائدة 95] من المحكم المجتمع عليه
إلا أن العلماء اختلفوا هل يستأنفون الحكم فيما مضت به من السلف حكومة أم لا
فقال مالك يستأنف الحكم في كل ما مضت فيه حكومة وفيما لم تمض
وهو قول أبي حنيفة
وقد روي عن مالك أنه إذا اجتزأ بحكم من مضى في ذلك فلا بأس
والأول أشهر عنه وهو تحصيل مذهبه عند أصحابه
قال أبن وهب قيل لمالك أترى أن يكون ما قال عمر يعني لازما في الظبي شاة فقال لا أدري ما قال عمر كأنه أراد أن تستأنف في ذلك حكومة وقد قال إني لا أرى أن يصيب شيء من ذلك اليوم أن تكون فيه شاة
901 - مالك عن هشام بن عروة أن أباه كان يقول في البقرة من الوحش بقرة وفي الشاة من الظباء شاة
902 - قال مالك لم أزل أسمع أن في النعامة إذا قتلها المحرم بدنة
قال أبو عمر لا خلاف فيه إلا في قول من قال بالقيمة
وقال الشافعي يكتفى بحكم من حكم في ذلك من السلف إذا قتل غزالا أهدى شاة وإذا قتل نعامة أهدى بدنة
قال وهذا أحب إلي من أن يحكم عليه
903 - مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول في حمام مكة إذا قتل شاة
وقال مالك في الرجل من أهل مكة يحرم بالحج أو العمرة وفي بيته فراخ
381

من حمام مكة فيغلق عليها فتموت فقال أرى بأن يفدي ذلك عن كل فرخ بشاة قال أبو عمر هذا على أصله في صغار الصيد مثل ما في كباره
وقد اختلف العلماء في حمام مكة وغيرها
فقال مالك في حمام مكة شاة وفي حمام الحل حكومة
واختلف قول بن القاسم في حمام الحرم غير مكة فقال شاة كحمام مكة ومرة قال حكومة لحمام الحل
وقال الشافعي في كل حمام الحرم شاة وفي حمام غير الحرم قيمته
وقال أبو حنيفة في الحمام كله حمام مكة والحل والحرم قيمته
وقال داود كل شيء لا مثل له من الصيد فلا جزاء فيه إلا الحمام لأن فيه شاة
قال أبو عمر حكم عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس في حمام مكة بشاة ولا مخالف لهما من الصحابة
وذكره عبد الرزاق عن بن جريج عن عطاء
وعن بن عيينة قال حكم عمر وبن عباس في حمام مكة بشاة
وللتابعين في هذه المسألة أقوال كأقوال الفقهاء المذكورين أئمة الفتوى
روى بن جريج عن عطاء قال في كل شيء من الطير الحمامة والقمري والدبسي والقطاة واليعقوب والكروان ودجاجة الجيش وبن الماء في كل واحدة شاة
قال مالك أرى أن في بيضة النعامة عشر ثمن البدنة كما يكون في جنين الحرة غرة عبد أو وليدة وقيمة الغرة خمسون دينارا وذلك عشر دية أمه
قال أبو عمر اختلف الفقهاء في هذه المسألة والسلف قبلهم فقال مالك ما ذكرنا عنه في موطئه
وقال الشافعي في بيض النعامة قيمته حيث يصاب لأنه لا مثل له من النعم وقياسا على الجرادة فإن فيها قيمتها
وقال أبو حنيفة في كل بيضة من بيض الصيد كله قيمته فإن كان في البيضة فرخ ميت فعليه الجزاء
وهو قول أبي يوسف ومحمد قالوا نأخذ بالثقة في ذلك
382

وقال أبو ثور في بيض النعامة مثل قول أبي حنيفة وقال إن كسر بيضة كان فيها فرخ فإن كان حيا ثم مات فإن كان من بيض النعام ففيه بدنة وإن كان من بيض الحمام ففيه شاة وإن كان من غير ذلك ففيه ثمنه إن كان له ثمن
قال وفيها قول آخر إن كان من الحمام فداه بجدي صغير أو جمل صغير وذلك أنهم قالوا في الحمام شاة فلما كان فرخا كان فيه من الشاء الصغير إذا كان صغيرا وإذا كان كبيرا كان فيه شاة كبيرة وكان في فرخ النعامة فصيل صغير
قال أبو عمر أما الصحابة والتابعون فجاء عنهم في هذه المسألة أقوال مختلفة
فروى معمر عن بن جريج عن عبد الحميد بن جبير قال أخبرني عكرمة عن بن عباس قال قضى علي رضي الله عنه في بيض النعامة يصيبه المحرم قال ترسل الفحل على إبلك فإذا تبين لقاحها سميت عدد ما أصبت من البيض فقلت هذا هدي ثم ليس عليك ضمان ما فسد
قال بن عباس فعجب معاوية من قضاء علي
قال بن عباس وهل يعجب معاوية من عجب ما هو إلا ما بيع به البيض في السوق يتصدق به
قال بن جريج وقال عطاء من كانت له إبل فالقول فيها ما قال علي ومن لم يكن له إبل ففي كل بيضة درهمان
وعن بن عباس عن كعب بن عجرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في بيض النعام يصيبه المحرم ثمنه من وجه ليس بالقوي
وكذلك عن بن مسعود في بيض النعام يصيبه المحرم قيمته
وقد روي عن بن مسعود أيضا في بيضة النعامة صيام يوم أو إطعام مسكين
وعن أبي موسى الأشعري مثله
وبه قال بن سيرين
وقد روي فيه أثر منقطع عن النبي عليه السلام بمثل ذلك
وذكر عبد الرزاق عن أبي خالد قال أخبرني أبو أمية الثقفي أن نافعا مولى بن عمر أخبره أن رجلا سأل عمر عن بيض النعام يصيبه المحرم فقال ائت عليا فاسأله فإنا قد أمرنا أن تشاوره
قال أبو عمر قد تقدمت هذه المسألة في أول هذا الباب
383

فأما قوله في النسور والعقبان والبزاة والرخم فإن مذهب مالك أن الطير كله جائز أكله وهو صيد عنده فيه جزاؤه بقيمته لأنه لا مثل له عنده من النعم
وقال الشافعي لا جزاء في قتل جميع ما لا يؤكل سواء كان طبعه الأذى أو لم يكن
ولا يوجب الشافعي الجزاء إلا في قتل صيد حلال أكله
وجملة مذهب أبي حنيفة أن كل ما يقتله المحرم ففيه عنده الجزاء إلا أن يبتدأه بالأذى فيدفعه عن نفسه إلا الكلب العقور والذئب فإنه لا جزاء عنده فيهما وإن لم يبتدأه بالأذى
وقد تقدم عن أبي حنيفة في باب ما يقتل المحرم من الدواب في هذا الكتاب ما يوضح لك مذهبه فيه
وكذلك مذهب غيره هنالك أيضا
وقال الشافعي في هذه المسألة هو قول عروة وبن شهاب وعطاء
وذكر عبد الرزاق عن بن جريج عن عطاء قال كل ما لا يؤكل فإن قتلته وأنت محرم فلا غرم عليك فيه مع قتله إلا أن يكون عدوا أو يؤذيك والله الموفق
((77 - باب فدية من أصاب شيئا من الجراد وهو محرم))
904 - مالك عن زيد بن أسلم أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب فقال يا أمير المؤمنين إني أصبت جرادات بسوطي وأنا محرم فقال له عمر أطعم قبضة من طعام
905 - مالك عن يحيى بن سعيد أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب فسأله عن جرادات قتلها وهو محرم فقال عمر لكعب تعال حتى نحكم فقال كعب درهم فقال عمر لكعب إنك لتجد الدراهم لتمرة خير من جرادة
384

((78 - باب فدية من حلق قبل أن ينحر))
906 - مالك عن عبد الكريم بن مالك الجزري عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرما فآذاه القمل في رأسه فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلق رأسه وقال صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين مدين مدين لكل إنسان أو انسك بشاة أي ذلك فعلت أجزأ عنك
هكذا روى يحيى هذا الحديث عن مالك عن عبد الكريم عن بن أبي ليلى وتابعه بن بكير والقعنبي ومطرف والشافعي ومعن بن عيسى وسعيد بن عفير وعبد الله بن يوسف التنيسي وأبو مصعب الزبيري ومحمد بن المبارك الصوري
ورواه بن وهب ومكي بن إبراهيم وبن القاسم عن مالك عن عبد الكريم الجزري عن مجاهد عن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة
والحديث محفوظ لمجاهد عن بن أبي ليلى ولم يلق عبد الكريم بن أبي ليلى 907 - مالك عن حميد بن قيس عن مجاهد عن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له لعلك آذاك هوامك فقلت نعم يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو انسك بشاة
وتابعه عليه القعنبي والشافعي وبن بكير وأبو مصعب وعتيق بن يعقوب وهو الصواب @ 386 @
ورواه بن وهب وبن القاسم وبن عفير عن مالك عن حميد بن قيس عن مجاهد عن كعب بن عجرة سقط لهم بن أبي ليلى
والحديث محفوظ لمجاهد عن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة عند جماعة العلماء بالحديث
وقد ذكرنا كثيرا من طرقه في التمهيد في باب حميد بن قيس والحمد لله 908 - مالك عن عطاء بن عبد الله الخرساني أنه قال حدثني شيخ بسوق البرم بالكوفة عن كعب بن عجرة أنه قال جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنفخ تحت قدر لأصحابي وقد امتلأ رأسي ولحيتي قملا فأخذ بجبهتي ثم قال احلق هذا الشعر وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم علم أنه ليس عندي ما أنسك به
وليس في حديث حميد ذكر مقدار الطعام كما هو ولا في حديث عطاء وعبد الكريم والشيخ الذي روى عنه عطاء الخرساني هذا الحديث الذي لقيه بسوق البرم بالكوفة قيل هو عبد الرحمن بن أبي ليلى وقيل هو عبد الرحمن بن معقل بن مقرن وكلاهما كوفي يروي هذا الحديث ويعرف به
وقد ذكرنا طرقه عنهما في باب حميد وباب عطاء الخرساني من التمهيد
وذكرنا هنا اختلاف ألفاظ الناقلين لحديث كعب بن عجرة هذا مستوعبة في باب حميد بن قيس وأكثرها وردت بلفظ التخيير وهو نص القرآن في قوله تعالى * (ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) * [البقرة 196]
وعليه مضى عمل العلماء وقبولهم
واختلف الفقهاء في مبلغ الإطعام في فدية الأذى
فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم الإطعام في ذلك مدان @ 387 @ مدان بمد النبي عليه السلام لكل مسكين ستة مساكين
وهو قول أبي ثور وإسحاق وداود
وروي عن الثوري أنه قال في الفدية من البر نصف صاع ومن التمر والشعير والزبيب صاع
وروي عن أبي حنيفة أيضا مثله جعل نصفا من بر يعدل صاعا من تمر وشعير وهو أصله في الكفارات
وقال أحمد بن حنبل مرة كما قال مالك والشافعي ومرة قال إن أطعم برا فمد لكل مسكين وإن أطعم تمرا فنصف صاع
قال أبو عمر لم يختلف الفقهاء أن الإطعام لستة مساكين وأن الصيام ثلاثة أيام وأن النسك شاة على ما في حديث كعب بن عجرة إلا شيئا روي عن الحسن وعكرمة ونافع أنهم قالوا الإطعام لعشرة مساكين والصيام عشرة أيام ولم يتابعهم أحد من العلماء على ذلك كما في السنة في حديث كعب بن عجرة من خلافة
قال الله تعالى * (ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) * [البقرة 196]
قال بن عباس المرض أن تكون برأسه قروح والأذى القمل
وقال عطاء المرض الصداع والقمل وغيره
قال أبو عمر حديث كعب بن عجرة أصل هذا الباب في معنى الآية عند العلماء
حدثنا خلف بن قاسم قال حدثنا محمد بن أحمد بن كامل قال حدثنا أحمد بن محمد بن الحجاج قال سمعت أحمد بن صالح يقول حديث كعب بن عجرة في الفدية سنة معمول بها عند جماعة العلماء ولم يروها أحد من الصحابة غير كعب ولا رواها عن كعب إلا رجلان ثقتان من أهل الكوفة عبد الرحمن بن أبي ليلى وعبد الله بن معقل وهي سنة أخذها أهل المدينة وغيرهم عن أهل الكوفة
قال بن شهاب سألت عنها علماءنا كلهم حتى سعيد بن المسيب فلم يثبتوا كم عدة المساكين
قال أبو عمر أجمعوا أن الفدية واجبة على من حلق رأسه من عذر وضرورة @ 388 @
وأجمع العلماء على أنه إذا كان حلقه لرأسه من أجل ذلك فهو مخير في ما نص الله عليه من الصيام والصدقة والنسك
واختلفوا في من حلق رأسه عامدا من غير ضرورة أو تطيب لغير ضرورة
فقال مالك بئس ما فعل وعليه الفدية وهو مخير فيها إن شاء صام ثلاثة أيام وإن شاء ذبح شاة وإن شاء أطعم ستة مساكين مدين مدين من قوته أي ذلك شاء فعل
ومن حجته أن السنة قد وردت في كعب بن عجرة في حلقه رأسه وقد أذاه هوامه
ولو كان حكم الضرورة مخالفا لبينه عليه السلام ولما لم تسقط الفدية من غير ضرورة علم أن الضرورة وغيرها سواء
وقال الشافعي وأبو حنيفة وأبو ثور ليس بمخير إلا في الضرورة لشرط الله تعالى بقوله " فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه البقرة "
فأما إذا حلق أو لبس أو تطيب عامدا من غير ضرورة فعليه دم لا غير
واختلفوا في من حلق أو لبس أو تطيب عامدا من غير ضرورة
فقال مالك العامد والناسي في ذلك سواء في وجوب الفدية
وقال إسحاق وداود لا فدية عليهم في شيء من ذلك إن صنعه ناسيا
وجمهور العلماء يوجبون الفدية على المحرم إذا حلق شعر جسده أو أطلى أو حلق موضع المحاجم
وبعضهم يجعل عليه في ذلك كله دما ولا يجيز إلا في الضرورة
وقال داود لا شيء عليه في حلق شعر جسده
واختلفوا في موضع الفدية
فقال مالك يفعل من ذلك ما شاء أين شاء بمكة أو بغيرها وإن شاء ببلده سواء عنده في ذلك ذبح النسك والإطعام والصيام
وهو قول مجاهد
والذبح عند مالك ها هنا سنة وليس بهدي
قال الهدي لا يكون إلا بمكة والنسك يكون حيث شاء
وحجته في أن النسك جائز أن يكون بغير مكة حديث عن يحيى بن سعيد عن
385

يعقوب بن خالد المخزومي عن أبي أسماء مولى عبد الله بن جعفر أنه أخبره أنه كان مع عبد الله بن جعفر وخرج معه من المدينة فمروا على حسين بن علي وهو مريض بالسقيا فأقام عليه عبد الله بن جعفر حتى إذا خاف الموت خرج وبعث إلى علي بن أبي طالب وأسماء بنت عميس وهما بالمدينة فقدما عليه ثم إن حسينا أشار إلى رأسه فأشار علي بحلق رأسه ثم نسك عنه بالسقيا فنحر عنه بعيرا
فهذا أوضح في أن الدم في فدية الأذى جائز أن يهراق بغير مكة
وجائز عند مالك في الهدي إذا نحر في الحرم أن يعطاه غير أهل الحرم لأن البغية فيه إطعام المساكين
ولم يختلفوا أن الصوم جائز أن يؤتى به في غير الحرم
وقال أبو حنيفة والشافعي الدم والإطعام لا يجزئ إلا بمكة والصوم حيث شاء لأنه لا منفعة في الصوم لجيران بيت الله من أهل مكة والحرم
وهو قول طاوس
وقال عطاء ما كان من دم فبمكة وما كان من إطعام أو صيام فحيث شاء
وعن أبي حنيفة وأصحابه مثله
ولم يختلف قول الشافعي أن الدم والإطعام لا يجزئ إلا لمساكين الحرم
قال أبو عمر لا يوجب مالك الفدية إلا على من حلق قبل أن يرمي وأما من حلق قبل أن ينحر فلا شيء عليه عنده
وقال أبو حنيفة من حلق قبل أن ينحر أو قبل أن يرمي فعليه الفدية
وقال الشافعي إن حلق قبل أن يرمي أو قبل أن ينحر فلا شيء عليه
وسنزيد هذه المسألة بيانا في باب جامع الحج إن شاء الله عز وجل
((79 - باب ما يفعل من نسي من نسكه شيئا))
909 - مالك عن أيوب بن أبي تميمة السختياني عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس قال من نسي من نسكه شيئا أو تركه فليهرق دما
389

قال أيوب لا أدري قال ترك أو نسي
قال مالك ما كان من ذلك هديا فلا يكون إلا بمكة وما كان من ذلك نسكا فهو يكون حيث أحب صاحب النسك
قال أبو عمر ليس في هذا الباب معنى إلا وقد تقدم مجودا والحمد لله وفيه أن من أسقط شيئا من سنن الحج خيره بالدم لا غير إلا ما أتى فيه الخبر نصا أن يكون البدل فيه من الدم طعاما أو صياما
هذا حكم سنن الحج
وأما فرائضه فلا بد من الإتيان بها على ما تقدم من حكمها وربما كان مع ذلك دم لتأخير العمل عن موضعه ونحو ذلك مما قد مضت وجوهه واضحة والحمد لله
وقد مضى في باب طواف الحائض حكم طواف الوداع وهل على من تركه دم واختلاف العلماء في ذلك والحمد لله
((80 - باب جامع الفدية))
910 - مالك فيمن أراد أن يلبس شيئا من الثياب التي لا ينبغي له أن يلبسها وهو محرم أو يقصر شعره أو يمس طيبا من غير ضرورة ليسارة مؤنة الفدية عليه قال لا ينبغي لأحد أن يفعل ذلك وإنما أرخص فيه للضرورة وعلى من فعل ذلك الفدية
قال أبو عمر قد تقدم من مذهبه أن العامد وإن كان مسيئا في فعله ذلك فإنه مخير مع ذلك في الفدية التي وردت فيمن حلق لضرورة وإن كان ذلك مكروها لمن فعله وتقدم قول غيره في ذلك بما لا وجه لإعادته وأهل العلم مجمعون على كراهية ما كره مالك من ذلك
وسئل مالك عن الفدية من الصيام أو الصدقة أو النسك أصاحبه بالخيار في ذلك وما النسك وكم الطعام وبأي مد هو وكم الصيام وهل يؤخر شيئا من ذلك أم يفعله في فوره ذلك قال مالك كل شيء في كتاب الله في الكفارات كذا أو كذا فصاحبه مخير في ذلك أي شيء أحب أن يفعل ذلك فعل قال وأما
390

النسك فشاة وأما الصيام فثلاثة أيام وأما الطعام فيطعم ستة مساكين لكل مسكين مدان بالمد الأول مد النبي صلى الله عليه وسلم
قال أبو عمر قد تقدم القول في قتل الصيد خطأ أو عمدا وما للسلف والخلف في ذلك من المذاهب والتنازع في باب فدية ما أصيب من الطير والوحش فلا معنى لإعادة ذلك هنا
وفي قول مالك سمعت بعض أهل العلم دليل على علمه بالخلاف في ذلك
فأما قوله وكذلك الحلال يرمي في الحرم ففيه إجماع واختلاف
فالإجماع أن فيه الجزاء على حسب ما تقدم من اختلافهم في العمد والخطأ
وأما الاختلاف فقال مالك هو مخير في الهدي والصيام والإطعام
وهو قول الشافعي
وقال أبو حنيفة إذا قتل الحلال صيدا في الحرم فعليه الهدي والإطعام ولا يجزئه الصيام
وروى الحسن بن زياد عن أبي يوسف أن الهدي لا يجزئه أيضا إلا أن يكون قيمته مذبوحا قيمة الصيد
قال مالك في القوم يصيبون الصيد جميعا وهم محرمون أو في الحرم قال أرى أن على كل إنسان منهم جزاءه إن حكم عليهم بالهدي فعلى كل إنسان منهم هدي وإن حكم عليهم بالصيام كان على كل إنسان منهم الصيام ومثل ذلك القوم يقتلون الرجل خطأ فتكون كفارة ذلك عتق رقبة على كل إنسان منهم أو صيام شهرين متتابعين على كل إنسان منهم
قال أبو عمر اختلف العلماء في الجماعة يشتركون في قتل الصيد وهم محرمون أو محلون
فقال مالك ما ذكرنا
وهو قول الحسن بن صالح والثوري قياسا على الكفارة في قتل الخطأ وذلك إجماع
وقال أبو حنيفة وأصحابه إذا قتل جماعة محرمون صيدا فعلى كل واحد منهم جزاء كامل فإن قتل محلون صيدا في الحرم فعلى جماعتهم جزاء واحد
وقال الشافعي عليهم جزاء واحد كانوا محرمين أو كانوا محلين في الحرم
391

قياسا على الدية وذلك إجماع لأن الله تعالى يقول * (فجزاء مثل ما قتل من النعم) * [المائدة 95]
والمثل البدل لا الإبدال
قال مالك من رمى صيدا أو صاده بعد رميه الجمرة وحلاق رأسه غير أنه لم يفض إن عليه جزاء ذلك الصيد لأن الله تبارك وتعالى قال * (وإذا حللتم فاصطادوا) * [المائدة 2] ومن لم يفض فقد بقي عليه مس الطيب والنساء
قال أبو عمر هذه المسألة قد مرت ومر القول فيها في باب الإفاضة عند قول عمر بن الخطاب من رمى الجمرة فقد حل له كل شيء حرم عليه إلا النساء أو الطيب وذكرنا هناك اختلاف العلماء في هذا المعنى مجودا والحمد لله
قال مالك ليس على المحرم فيما قطع من الشجر في الحرم شيء ولم يبلغنا أن أحدا حكم عليه فيه بشيء وبئس ما صنع
قال أبو عمر اختلف العلماء فيما على من قطع شيئا من شجر الحرم
فقال مالك ما ذكرنا في الموطأ وروى بن وهب عنه أنه ذكر له ما يقول أهل مكة في الدوحة بقرة وفي كل غصن شاة فقال لم يثبت ذلك عندنا ولا نعلم في قطع الشجر شيئا معلوما غير أنه لا يجوز لمحرم ولا لحلال أن يقطع شيئا من شجر الحرم ولايكسره
وقال الشافعي إن قطع شجرة فإنما هي تبع لأهلها ولا أنظر إلى فرعها فإن كان أصلها في الحل لم يجزها وإن كان في الحرم جزاها وفي الدوحة بقرة وفيما دونها شاة
قال وهذا في شجر الحرم خاصة وسواء قطعه محرم أو حلال وأما إذا قطع المحرم أو غير المحرم من شجر الحرم شيئا فلا فدية عليه
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد كل شيء أنبته الناس فلا شيء على قاطعه وكل شيء لم ينبته الناس فقطعه رجل فعليه قيمته بالغة ما بلغت فإن بلغت هديا كان بمكة فإن لم تبلغ هديا فالصدقة حيث شاء ولا يجوز فيها صيام
والصدقة عند أبي حنيفة نصف صاع حنطة لكل مسكين
قال أبو عمر هذا لا يطرد لمالك في فتواه وأصوله ولا لمن قال بالقياس
وقال مالك في الذي يجهل أو ينسى صيام ثلاثة أيام في الحج أو مرض
392

فيها فلا يصومها حتى يقدم بلده قال ليهد إن وجد هديا وإلا فليصم ثلاثة أيام وسبعة بعد ذلك
وهو قول عطاء والحسن البصري
وبه قال أبو ثور
قال سعيد بن جبير وقتادة يصوم السبعة في بلده ويطعم عن الثلاثة
وقال أبو حنيفة إن انقضى يوم عرفة ولم يصم الثلاثة الأيام فعليه دم ولا يجزئه غيره ولا يصوم أيام منى
وقال الشافعي إن رجع إلى بلده ولم يكن صام الثلاثة الأيام صامها في بلده وتصدق عن كل يوم بمد وصام السبعة في بلده لا يجب عليه إلا بعد الرجوع فإن رجع ومات ولم يصم الثلاثة ولا السبعة تصدق عليه في الثلاثة وما أمكنه صومه من السبعة فتركه إن أمكن صومه من السبعة فتركه إن أمكنه صومه كلها فلم يصمها حتى مات تصدق عنه بمد عن كل يوم
وقال أبو ثور فيها بقول مالك
حدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا محمد بن عبد السلام قال حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا شعبة عن قتادة عن سعيد بن جبير في رجل تمتع ولم يجد الهدي وفاته الصوم في العشر قال يصوم السبعة ويطعم عن الثلاثة
وهو قول قتادة
وحجة أبي حنيفة ما قاله بن عباس من ترك من نسكه شيئا فليهرق دما
وصوم الثلاثة أيام في الحج من مناسك الحج
وحجة مالك أن الصيام بكل مكان سواء وإن أهدى فحسن
ورواه بن جريج عن عطاء وهشام عن الحسن في المتمتع لا يصوم الثلاثة الأيام في العشر وهو لم يهد حتى رجع إلى أهله قالا يصوم الثلاثة والسبعة بمصره والله الموفق
((81 - باب جامع الحج))
911 - مالك عن بن شهاب عن عيسى بن طلحة عن عبد الله بن
393

عمرو بن العاص أنه قال وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس بمنى والناس يسألونه فجاءه رجل فقال له يا رسول الله لم أشعر فحلقت قبل أن أنحر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم انحر ولا حرج ثم جاءه آخر فقال يا رسول الله لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي قال ارم ولا حرج قال فما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم ولا أخر إلا قال افعل ولا حرج
قال أبو عمر ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه في حجته رمى الجمرة يوم النحر ثم نحر بدنة ثم حلق رأسه
وأجمع العلماء أن هذه سنة الحاج أن يرمي جمرة العقبة يوم النحر ثم ينحر هديا إن كان معه ثم يحلق رأسه فمن شاء قدم شيئا من ذلك عن رتبته فللعلماء في ذلك ما أصفه إن شاء الله
قال مالك من حلق قبل أن يرمي جمرة العقبة فعليه الفدية
قال أبو عمر لأنه حرام عليه أن يمس من شعره شيئا أو يلبس أو يمس طيبا حتى يرمي جمرة العقبة
وقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم على من حلق رأسه قبل محله من ضرورة بالفدية فكيف من غير ضرورة
وقال بن القاسم وقال مالك من حلق قبل أن يذبح فلا شيء عليه قال وكذلك إن ذبح قبل أن يرمي يجزئه ولا شيء عليه لأن الهدي قد بلغ محله وذلك يوم النحر كما لو نحر المعتمر بمكة هديا ساقه قبل أن يطوف بعمرته
وقال بن عبد الحكم عن مالك في من طاف طواف الإفاضة قبل أن يرمي الجمرة يوم النحر أنه يرمي ثم يحلق رأسه ثم يعيد الطواف
قال ومن رمى ثم طاف قبل الحلاق حلق رأسه وأعاد الطواف
قال أبو عمر روي عن إبراهيم وجابر بن زيد مثل قول مالك في إيجاب الفدية على من حلق قبل أن يرمي
394

[وهو قول الكوفيين
وقال الشافعي وأبو ثور وأحمد بن حنبل وإسحاق وداود والطبري لا شيء على من حلق قبل أن يرمي] ولا على من قدم شيئا أو أخره من رمي أو نحر أو حلاق أو طواف ساهيا - مما يفعل يوم النحر
وحجتهم حديث عبد الله بن عمرو المذكور في أول هذا الباب قوله فما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم ولا أخر إلا قال افعل ولا حرج
وحديث عطاء عن بن عباس أن النبي عليه السلام سئل يوم النحر عن رجل حلق قبل أن يذبح أو ذبح قبل أن يرمي أو أشباه هذا فأكثروا في التقديم والتأخير فما سئل عن شيء من هذا إلا قال لا حرج لا حرج
وقال عطاء من قدم نسكا على نسك فلا حرج
وروي ذلك عن سعيد بن جبير وطاوس ومجاهد وعكرمة وقتادة
وأما اختلافهم في من حلق قبل أن يذبح فجمهور العلماء على أنه لا شيء عليه
كذلك قال عطاء وطاوس وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد والحسن وقتادة
وهو قول مالك والأوزاعي والثوري والشافعي وداود وإسحاق والطبري
وقال النخعي من حلق قبل أن ينحر أهراق دما
وبه قال أبو حنيفة قال وإن كان قارنا فعليه دمان دم للقران ودم للحلاق
وقال زفر عليه ثلاثة دماء للقران ودمان للحلاق قبل النحر
وقال جابر بن زيد من حلق قبل أن ينحر عليه الفدية
قال أبو عمر لا أعلم خلافا في من نحر قبل أن يرمي أنه لا شيء عليه وذلك والله أعلم لأن الهدي قد بلغ محله ولأنه منصوص عليه في الحديث نحرت قبل أرمي فقال رسول الله ارم ولا حرج
395

قال أبو عمر روى بن عيينة عن الزهري عن عيسى بن طلحة عن عبد الله بن عمرو حديث هذا الباب فلم يقل فيه لم أشعر
وقد ذكره مالك وهي لفظة فيها من الفقه أن الرجل فعل ذلك ساهيا فقيل له لا حرج
وقد جاء معمر بمعنى هذه اللفظة في معنى هذا الحديث فقال فيه بإسناده عن عبد الله بن عمرو قال رأيت رسول الله واقفا على راحلته بمنى فأتاه رجل فقال يا رسول الله إني كنت أرى أن الذبح قبل الرمي فذبحت قال ارم ولا حرج فما سئل عن شيء قدمه رجل قبل شيء إلا قال افعل ولا حرج
قال أبو عمر ولا أعلم لأهل العلم جوابا في المتعمد في ذلك ولو كان مخالفا للجاهل والساهي لفرقوا بينه في أجوبتهم وفي كتبهم والله أعلم
إلا أن بن عباس روي عنه أنه قال من قدم من نسكه شيئا أو أخره فليهرق [لذلك] دما ولم يفرق بين ساه ولا عامد وليست الرواية عنه بذلك بالقوية
وعن سعيد بن جبير وقتادة مثل ذلك
وقد ذكرنا مذهبهم في من قدم الإفاضة قبل الرمي والحلق أنه تلزمه إعادة الطواف
وقال الشافعي ومن تابعه لا إعادة في الطواف
وقال الأوزاعي إنما طاف للإفاضة قبل أن يرمي جمرة العقبة ثم واقع أهله إهراق دما
وقد ذكرنا هذه المسألة وما كان مثلها في موضعها من كتابنا هذا والحمد لله
912 - مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قفل من غزو أو حج أو عمرة يكبر على كل شرف من الأرض ثلاث تكبيرات ثم يقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء
396

قدير آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده
روى هذا الحديث عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قفل من الجيوش أو السرايا أو الحج أو العمرة ثم ذكر مثله سواء
وليس في هذا الحديث إلا الحض على شكر الله للمسافر على أوبته ورجعته
وشكر الله تعالى والثناء عليه بما هو أهله واجب على كل مؤمن لازم له بدليل قوله تعالى * (فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون) * [البقرة 152]
ومن الشكر الاعتراف بالنعمة فنعمة الله عظيمة
ومعنى أيبون راجعون ومعنى تائبون أي من الشرك والكفر عائدون بما افترضه عليهم ورضيه منهم ساجدون لوجهه لا لغيره حامدون على ذلك كله وقوله صدق الله وعده فيما كان وعده من ظهور دينه وذلك كله اعتراف بالنعمة وشكر لها
وفيه من الخبر أن غزوة الخندق وهي غزوة الأحزاب نصر الله فيها المؤمنين بريح وجنود لم يروها ولم يكن فيها لآدمي صنع فلذلك قال (وهزم الأحزاب وحده)
913 - مالك عن إبراهيم بن عقبة عن كريب مولى عبد الله بن عباس عن بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بامرأة وهي في محفتها فقيل لها هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت بضبعي صبي كان معها فقالت ألهذا حج يا رسول الله قال نعم ولك أجر هكذا روى يحيى هذا الحديث مرسلا وتابعه أكثر الرواة للموطأ
ورواه بن وهب وأبو مصعب والشافعي وبن عثمة وعبد الله بن يونس
397

التنيسي عن مالك عن إبراهيم بن عقبة عن كريب مولى بن عباس عن بن عباس عن النبي عليه السلام
[وقد ذكرنا في التمهيد الاختلاف على إبراهيم بن عقبة] وعلى محمد بن عقبة أيضا في هذا الحديث
وهو حديث مسند صحيح لأنه حديث قد أسنده ثقات ليسوا بدون من قطعه
والمحفة شبيهة بالهودج وقيل لا غطاء عليها
والضبع باطن الساعد
وفي هذا الحديث من الفقه الحج بالصبيان
وأجازه جماعة العلماء بالحجاز والعراق والشام ومصر وخالفهم في ذلك أهل البدع فلم يرو الحج بهم وقولهم مهجور عند العلماء لأن النبي عليه الصلاة والسلام حج بأغيلمة بني عبد المطلب وقال في الصبي له حج وللذي يحجه أجر
وحج أبو بكر بابن الزبير في خرقة
قال عمر تكتب للصبي حسناته ولا تكتب عليه السيئات
وحج السلف قديما وحديثا بالصبيان والأطفال يعرضونهم لرحمة الله
وروى أبو داود قال حدثنا محمد بن المثنى قال حدثنا إبراهيم بن سعد عن عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين وإذا بلغ عشرا فاضربوه عليها
فكما تكون له صلاة وليست عليه كذلك يكون له حج وليس عليه
وأكثر أهل العلم يرون الزكاة في أموال اليتامى ومحال ألا يؤجروا عليها فالقلم إنما هو مرفوع عنهم فيما أساءوا في أنفسهم ألا ترى أن ما أتلفوه من الأموال ضمنوه وكذلك الدماء عمدهم فيها خطأ يؤديه عنهم من يؤديه عن الكبار في خطئهم
وأجمع العلماء أن من حج صغيرا قبل البلوغ أو حج به طفلا ثم بلغ لم يجزه ذلك عن حجة الإسلام
398

وقد شذت فرقة فأجازوا له حجة بهذا الحديث وليس عند أهل [العلم] بشيء لأن الغرض لا يؤدي إلا بعد الوجوب
وهذا بن عباس هو الذي روى هذا الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام وهو الذي كان يفتي بالصبي يحج ثم يحتلم قال يحج حجة الإسلام
وفي المملوك يحج ثم يعتق قال عليه الحج
ذكر عبد الرزاق عن الثوري عن أبي إسحاق عن أبي السفر عن بن عباس وعن بن عيينة عن مطرف [عن بن عباس مثله وعن الثوري عن الأعمش عن أبي ظبيان عن بن عباس مثله]
وعلى هذا جماعة علماء الأمصار إلا داود بن علي فإنه خالفه في المملوك فقال يجزئه حجة الإسلام ولا يجزئ الصبي
وذكر عبد الرزاق عن بن جريج أنه أخبره عن عطاء قال يقضي حجة الصغير عنه فإذا بلغ فعليه حجة واجبة
قال وأخبرنا معمر عن بن طاوس عن أبيه مثله
واختلف الفقهاء في المراهق والعبد يحرمان بالحج ثم يحتلم هذا ويعتق هذا قبل الوقوف بعرفة
فقال مالك لا سبيل إلى رفض الإحرامين لهذين ولا لأحد ويتماديان على إحرامهما ولا يجزئهما حجهما ذلك عن حجة الإسلام
وقال الشافعي إذا أحرم الصبي ثم بلغ قبل الوقوف بعرفة فوقف بها محرما أجزأه ذلك من حجة الإسلام ولم يحتج واحد منهما إلى تجديد إحرامه
وقال أبو حنيفة إذا أحرم الصبي ثم بلغ في حال إحرام فإن جدد إحراما قبل وقوفه بعرفة أجزأه وإن لم يجدد إحراما لم يجزئه
قال وأما العبد فلا يجزئه من حجة الإسلام وإن جدد إحراما
وقد ذكرنا وجه قول كل واحد منهم وحجته في التمهيد
وقال مالك يحج بالصغير ويجرد بالإحرام ويمنع من الطيب ومن كل ما يمنع منه الكبير فإن قوي على الطواف والسعي ورمي الجمار وإلا طيف به محمولا ورمي عنه وإن أصاب صيدا فدي عنه وإن احتاج إلى ما يحتاج إليه الكبير فعل به ذلك وفدي عنه
وهذا كله قول الشافعي وأبي حنيفة وجماعة الفقهاء إلا أن أبا حنيفة قال
399

لا جزاء عليه في صيد ولا فدية عليه في لباس ولا طيب
وقال بن القاسم تجريده يغني عن التلبية عنه لا يلبي عنه أحد إلا أن يتكلم فيلبي عن نفسه
قال وقال مالك لا يطوف به أحد لم يطف طوافه الواجب لأنه يدخل طوافين في طواف
وقال بن القاسم عن مالك أرى أن يطوف لنفسه ثم يطوف للصبي ولا يركع عنه ولا شيء على الصبي في ركعتيه
ذكر عبد الرزاق عن الثوري عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال كانوا يحجون إذا حج الصبي أن يجردوه وأن يجنبوه الطيب إذا أحرم وأن يلبي عنه إذا كان لا يقدر على التلبية
قال وأخبرنا معمر عن الزهري قال يحج بالصبي ويرمى عنه ويجنب ما يجنبه الكبير من الطيب ولا يخمر رأسه ويهدي عنه إن تمتع
914 - مالك عن إبراهيم بن أبي عبلة عن طلحة بن عبيد الله بن كريز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما رؤي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما أري يوم بدر قيل وما رأى يوم بدر يا رسول الله قال أما إنه قد رأى جبريل يزع الملائكة
إبراهيم بن أبي عبلة رجل من بني عقيل وقيل تميم والأول أكثر يكنى أبا إسحاق وقيل أبا إسماعيل ثقة أدرك طائفة من الصحابة وعمر عمرا طويلا وهو معدود في الشاميين
وطلحة بن عبيد الله بن كريز خزاعي تابعي شامي ثقة وكريز بفتح الكاف في خزاعة وكريز بضمها في عبد شمس بن عبد مناف من قريش
وليس في هذا الحديث أكثر من الترغيب في شهود عرفة والتعريف بفضل ذلك الموقف وفي ذلك من فضل الحج ما فيه
400

وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج المبرور ليس له جزاء إلا في الجنة كفاية
وقال عليه السلام من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه
وقد ذكرنا في التمهيد عند ذكر حديث عبد الله بن أبي عبلة هذا من فضل شهود عرفات في الحج ما فيه شفاء واكتفاء والحمد لله
كذلك أتينا من الشواهد على معنى قوله يزع الملائكة في التمهيد أيضا بما لا مزيد فيه
ومختصر ذلك أن الوازع هو المانع الذي يكف وهو هذا الحديث بمعنى يعبئهم ويرتبهم للقتال ويصفهم ويمنع من أن يشف بعضهم بعضا ويخرج بعضهم عن بعض
قال الشاعر
(ولا يزع النفس اللجوج عن الهوى
* من الناس إلا وافر العقل كامله)
915 - مالك عن زياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة عن طلحة بن عبيد الله بن كريز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له
وقد ذكرنا هذا الحديث مسندا في التمهيد
وفيه فضل الدعاء وفضل يوم عرفة
وفي ذلك دليل على فضل الأيام على بعض وقد جاء في فضل يوم الجمعة وفضل يوم عاشوراء وعرفة أحاديث صحاح ثابتة
وفيه تفضيل لا إله إلا الله على سائر الكلام
401

وقد اختلفت الآثار في ذلك عن النبي عليه السلام فمنها ما جاء بتفضيل الحمد لله ومنها ما جاء بتفضيل سبحان الله وقد ذكرنا ذلك كله في التمهيد
وذكرنا من دعائه يوم عرفة أنواعا منها من حديث علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء يوم عرفة بعرفة فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم اجعل في قلبي نورا وفي سمعي نورا وفي بصري نورا اللهم اشرح لي صدري ويسر لي أمري أعوذ بك من وساوس الصدر وفتنة القبر ومن شر ما تهب به الرياح ومن شر ما يأتي به الليل والنهار
وسئل بن عيينة ما كان أكثر قول النبي عليه السلام بعرفة فقال سبحان الله والحمد لله والله أكبر
قال سفيان إنما هو ذكر وليس بدعاء أما علمت أن الله تعالى يقول إذا شغل عبدي ثناؤه علي عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين
قال قلت نعم حدثتني أنت يا أبا محمد عن منصور عن مالك بن الحارث
وحدثني عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن منصور عن مالك بن الحارث قال هذا تفسيره ثم قال أما علمت قول أمية بن أبي الصلت حين أتى بن جدعان يطلب نائلة وفضلة قلت لا قال قال أمية حين أتى بن جدعان
(أأطلب حاجتي أم قد كفاني
* إذا أثنى عليك المرء يوم)
(حياؤك إن شيمتك الحياء
* كفاه من تعرضك الثناء)
قال سفيان رحمه الله هذا مخلوق حين ينسب إلى أن يكتفي بالثناء عليه دون مسألته فكيف بالخالق تبارك وتعالى
وحدثنا خلف بن القاسم قال حدثنا الحسن بن رشيق حدثنا علي بن سعيد الرازي حدثنا بن أبي عمر العدني حدثنا سفيان بن عيينة قال قال لي عبد العزيز بن عمر كنت أتمنى أن ألقي الزهري فرأيته في النوم بعد موته عند الحدادين فقلت يا أبا بكر هل من دعوة قال نعم لا إله إلا الله وحده لا شريك له توكلت على الحي الذي لا يموت اللهم إني أسألك أن تعيذني وذريتي من الشيطان الرجيم
402

قال أبو عمر فهذا كله يدل على أن الثناء دعاء ويفسر معنى حديث هذا الباب والله الموفق للصواب
916 - مالك عن بن شهاب عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاءه رجل فقال له يا رسول الله بن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتلوه
قال مالك ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ محرما والله أعلم
قال أبو عمر حديث مالك عن بن شهاب عن أنس هذا انفرد به مالك عن بن شهاب لم يروه عن بن شهاب أحد غيره من وجه صحيح وقد روي من وجوه لا تصح والصحيح فيه انفراد مالك عن بن شهاب
وقد ذكرنا بعض طرقه والاختلاف في ألفاظه في التمهيد
وقال بعضهم فيه مغفر من حديد
روى زيد بن الحباب وإبراهيم بن علي الغزي عن مالك عن بن شهاب عن أنس أن بن خطل كان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم
وروى شبابة بن سوار عن مالك عن الزهري عن انس قال دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال من رأى منكم بن خطل فليقتله
وزعم أصحابنا أن هذا أصل في قتل الذمي إذا سب النبي عليه السلام وهذا غلط لأن بن خطل كان حربيا في دار الحرب لم يدخله رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمان أهل مكة بل استثناه من ذلك الأمان
ومعلوم انهم كانوا كلهم أو أكثرهم على سب النبي عليه السلام ولم يجعل لابن خطل أمانا لأن أمره عليه السلام بقتل بن خطل خرج من الأمان لأهل مكة مخرجا واحدا في وقت واحد
بذلك وردت الآثار وهو معروف عند أهل السير
والوجه في قتل بن خطل أن الله تعالى أمر بقتل المشركين حيث وجدوا وقال
403

* (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم) * [الأنفال 57] وجعل لهم مع ذلك إذا قدر عليهم المن إن شاء وإن شاء الفداء وليس هذا موضع ذكر وجوه ذلك ولما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حكم الله ذلك صنع ما أذن الله له فيه
وكان سبب قتله والله أعلم ما حدثناه عبد الوارث بن سفيان قراءة مني عليه قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا عبيد بن عبد الواحد قال حدثنا أحمد بن محمد بن أيوب قال حدثنا إبراهيم بن سعد عن بن إسحاق قال وأما قتل عبد الله بن خطل فقتله سعيد بن حريث المخزومي وأبو برزة الأسلمي اشتركا في دمه وهو رجل من بني تيم بن غالب
قال وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله لأنه بعثه مصدقا وكان مسلما وبعث معه رجلا من الأنصار وكان معه مولى له يخدمه وكان مسلما فنزل بن خطل
منزلا وأمر المولى أن يذبح له شاة ويصنع له طعاما فنام واستيقظ ولم يصنع له شيئا فعدا عليه فقتله ثم ارتد مشركا
قال أبو عمر فهذا القتل قود من مسلم
ومثل هذا قصة مقيس بن صبابة قتل مسلما بعد أخذ الدية وهو أيضا مما هدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه في حين دخوله مكة
كذا حدثنا سعيد بن نصر قال حدثني قاسم قال حدثني بن وضاح قال حدثني أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا أحمد بن المفضل قال حدثني أسباط بن نصر قال زعم السدي عن مصعب بن سعد عن أبيه قال لما كان فتح يوم مكة أمن رسول الله أهل مكة إلا أربعة نفر وامرأتين وقال
اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة [عكرمة بن أبي جهل وعبد الله بن خطل ومقيس بن صبابة وعبد الله بن سعد بن أبي سرح فأما عبد الله بن خطل فأدرك وهو متعلق بأستار الكعبة] فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر فسبق سعيد عمارا وكان أشد الرجلين فقتله وذكر تمام الخبر في التمهيد
404

قال أبو عمر كان هذا كله من رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة في الساعة التي خلت له من ذلك النهار ثم هي حرام إلى يوم القيامة
ولهذا والله أعلم لم يدخلها رسول الله محرما
917 - مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر أقبل من مكة حتى إذا كان بقديد جاءه خبر من المدينة فرجع فدخل مكة بغير إحرام ومالك عن بن شهاب بمثل ذلك
وتعلق بذلك داود بن علي فقال جائز أن تدخل مكة بغير إحرام
وخالفه أكثر العلماء في ذلك وذكر عن الشافعي والمشهور عن
وقد روى أشعث عن الحسن مثله
ذكر الساجي قال حدثنا محمد بن الحرشي قال حدثنا بشر بن المفضل قال حدثنا أشعث عن الحسن أنه كان يكره أن تدخل مكة بغير إحرام
ورواه بن القاسم وغيره عن مالك
قال أبو عمر الحجة لمن قال لا يدخل أحد مكة إلا محرما إلا الحطابين ومن يد من التكرر إليها لإجماعهم أن من نذر مشيا إلى بيت الله أنه لا يدخله إلا محرما بحج أو عمرة لأنه بلد حرام وقال طاوس ما دخل رسول الله قط مكة إلا محرما إلا يوم الفتح
قال أبو عمر اختلف العلماء فيما يجب على من دخل مكة بغير إحرام
فقال مالك والليث والشافعي لا يدخلها أحد من أهل الآفاق إلا محرما فإن لم يفعل فقد أساء ولا شيء عليه
وبه قال أبو ثور
وقال الشافعي لا يجب على من دخل مكة بغير إحرام حج ولا عمرة لأن الحج والعمرة لا يجبان إلا على من نواهما وأحرم بهما
ولكن سنة الله في عباده أن لا يدخل الحرم إلا حراما
وقال أبو يوسف وأبو حنيفة ومحمد لا يدخل أحد مكة بغير إحرام فإن دخلها أحد غير محرم فعليه حجة أو عمرة
405

وهو قول الثوري إلا أنه قال فإن لم يحج ولم يعتمر قيل له استغفر الله
وهو قول عطاء والحسن بن حي
918 - مالك عن محمد بن عمرو بن حلحلة الديلي عن محمد بن عمران الأنصاري عن أبيه أنه قال عدل إلي عبد الله بن عمر وأنا نازل تحت سرحة بطريق مكة فقال ما أنزلك تحت هذه السرحة فقلت أردت ظلها فقال هل غير ذلك فقلت لا ما أنزلني إلا ذلك فقال عبد الله بن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنت بين الأخشبين من منى ونفخ بيده نحو المشرق فإن هناك واديا يقال له السرر به شجرة سر تحتها سبعون نبيا
قد مضى القول في محمد بن عمران وفي أبيه التمهيد
والسرحة الشجرة
قال الخليل السرح الشجر الطوال الذي له شعب وظل واحدته سرحة ونفح بيده أشار
والسرر والأخشاب الجبلان وكذلك الأخاشب الجبال
وقال بن وهب أراد بقوله الأخشبين من منى الجبلين اللذين تحت العقبة بمنى فوق المسجد
وقال إسماعيل يقال إن الأخشبين اسم لجبال مكة ومنى خاصة
قال أبو عمر أنشد بن هشام لأبي قيس بن الأسلت
(فقوموا وصلوا ربكم وتمسحوا
* بأركان هذا البيت بين الأخاشب)
وقال العامري في بيعة بن الزبير
(ويبايع بين الأخشبين وإنما
* يد الله بين الأخشبين تبايع)
هذا الحديث دليل على التبرك بمواضع الأنبياء والصالحين ومساكنهم
406

وآثارهم وإلى هذا قصد بن عمر بحديثه هذا والله أعلم
وفيه أيضا إباحة الحديث بكل ما يسمع من بني إسرائيل والأمم السالفة لأنه لا حكم فيه يجب
وكذلك لا حكم في هذا الحديث من أحكام الشريعة
919 - مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن بن أبي مليكة أن عمر بن الخطاب مر بامرأة مجذومة وهي تطوف بالبيت فقال لها يا أمة الله لا تؤذي الناس لو جلست في بيتك فجلست فمر بها رجل بعد ذلك فقال لها إن الذي كان قد نهاك قد مات فأخرجي فقالت ما كنت لأطيعه حيا وأعصيه ميتا
وفي هذا الحديث من الفقه الحكم بأن يحال بين المجذومين وبين اختلاطهم بالناس لما في ذلك من الأذى لهم وأذى المؤمن والجار [لا يحل]
وإذا كان آكل الثوم يؤمر باجتناب المسجد وكان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما أخرج إلى البقيع فما ظنك بالجذام وهو عند بعض الناس يعدي وعند جميعهم يؤذي
وأما قول عمر للمرأة لو جلست في بيتك بعد أن أخبرها أنها تؤذي الناس فإن ذلك كان منه والله أعلم من لين القول لها والتعريض بأنه لم يكن يقدم إليها ورحمها بالبلاء الذي نزل بها فرق لها وكان أيضا من مذهبه أنه كان لا يعتقد أن شيئا يعدي وقد كان يجالس معيقيب الدوسي وكان على بيت ماله وكان يؤاكله وربما وضع فمه من الإناء على ما يضع عليه معيقيب فمه
وقد ذكرنا الخبر بذلك في صدر كتاب التمهيد فلهذا والله أعلم لم يزجرها ولم ينهها وأشار إليها إشارة كانت منها مقبولة ولعله لم تخطئ فراسته فيها فأطاعته حيا وميتا
920 - مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عباس كان يقول ما بين الركن والباب الملتزم
407

قال أبو عمر رواية عبيد الله عن أبيه ما بين الركن والمقام الملتزم خطأ لم يتابعوا عليه
وأمر بن وضا ح برده ما بين الركن والباب وهو الصواب
وكذلك الرواية في الموطأ وغيره وهو الركن الأسود وباب البيت
كذلك فسر الخزاعي الملتزم وذكر حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلصق وجهه وصدره بالملتزم
وروى عباد بن كثير عن أيوب عن عكرمة عن بن عباس قال الملتزم والمدعا والمتعوذ ما بين الحجر والباب
قال أبو الزبير دعوت الله هناك بدعاء فاستجيب لي وقد روي عن النبي عليه السلام أحاديث فيما يرغب في الصلاة والذكر والدعاء بين الركن والمقام
وكان بن عباس كثيرا ما يدعو بين الركن المقام وكان من دعائه فيه اللهم قنعني بما رزقتني وبارك لي فيه واخلف علي كل عائبة لي بخير
وروى القاسم بن محمد وعمر بن عبد العزيز وجعفر بن محمد وأيوب السختياني وحميد الطويل أنهم كانوا يلتزمون ظهر البيت من الركن اليماني والباب المؤخر وقال إن ذلك ملتزم أيضا
وهذا خلاف ما تقدم
وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه قال ذلك الملتزم وهو المتعوذ فكأنه جعل ذلك موضع رغبة وهذا موضع استعاذة وعلى ذلك ترك ألفاظ الأخبار عن القاسم بن محمد ومن ذكرنا معه على أنه موضع استعاذة
921 - مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان أنه سمعه يذكر أن رجلا مر على أبي ذر بالربذة وأن أبا ذر سأله أين تريد فقال أردت الحج فقال هل نزعك غيره فقال لا قال فأتنف العمل قال الرجل فخرجت حتى قدمت مكة فمكثت ما شاء الله ثم إذا أنا بالناس منقصفين على رجل فضاغطت عليه الناس فإذا أنا بالشيخ الذي وجدت بالربذة يعني أبا ذر قال فلما رآني عرفني
408

قال أبو عمر في هذا الخبر ما كان عليه أبو ذر من العلم والفقه وأما زهده وعبادته فقد ذهب فيها مثلا
سئل علي عن أبي ذر فقال وعي علما عجز الناس عنه ثم أوكأ عليه فلم يخرج شيئا منه
ومعلوم أن قول أبي ذر للرجل لا يكون مثله رأيا وإنما يدرك مثله بالتوقيف من النبي عليه السلام
وفي هذا الحديث ما يدل أن الله قد رضي من عباده بقصد بيته مرة في عمر العبد ليحط أوزاره بذلك ويغفر ذنوبه ويخرج منها كيوم ولدته أمه كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة
وقال من حج هذا البيت ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه
ذكر إسحاق الأزرق عن شريك عن أبي إسحاق عن مالك بن دينار قال حججنا فلما قضينا نسكنا مررنا بأبي ذر فقال لنا استأنفوا العمل فقد كفيتم ما مضى
حدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم بن أبي ميسرة قال حدثنا بن أبي أويس قال حدثني أبي عن عم أبيه قال حدثنا قاسم بن أبي ميسرة عن ربيع بن مالك عن أبيه عن جعونة بن سعوب الليثي قال خرجت مع عمر بن الخطاب فنظر إلى ركب صادرين من الحج فقال لو يعلم الركب ما ينقلبون به من الفضل بعد المغفرة لا يكلفوا ولكن ليستأنفوا
العمل وإذا كان هذا فليأتنف العمل كل من حج حجا مبرورا فطوبى لمن وقف بعد ذلك العمل الصالح
روى سفيان الثوري أنه قال لمن سأله حين دفع الناس من عرفة إلى المزدلفة عن أخسر الناس صفقة وهو يعرض بأهل الفسق والظلمة فقال أخسر الناس صفقة من ظن أن الله لا يغفر لهؤلاء
922 - مالك أنه سأل بن شهاب عن الاستثناء في الحج فقال أو يصنع ذلك أحد وأنكر ذلك
409

قال أبو عمر يريد بقوله الاستثناء أن يشترط ويستثني فيقول عند إحرامه لبيك اللهم لبيك حجا أو عمرة إلا أن يمنعني منه ما لا أقدر على النهوض فيكون محلي حيث حبستني ولا شيء علي فإذا قال ذلك كان له شرطه وما استثناه إن نابه شيء أو عاقه عائق يقوم محله في ذلك الموضع ولا شيء عليه
وهذه المسألة اختلف العلماء فيها قديما وحديثا
فقال مالك الاشتراط في الحج باطل ويمضي على إحرامه حتى يتمه على سنته ولا ينفعه قوله محلي حيث حبستني
وبه قال أبو حنيفة والثوري
وهو قول إبراهيم النخعي وبن شهاب الزهري
وهو قول بن عمر
ذكر عبد الرزاق وأخبرنا معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه أنه كان ينكر الاشتراط في الحج ويقول حسبكم سنة رسول الله أنه لم يشترط فإن حبس أحدكم عن الحج حابس فطاف بالبيت فليطف بين الصفا والمروة وليحلق ويقصر وقد حل من كل شيء حتى يحج قابلا ويهدي أو يصوم إن لم يجد هديا
وقال الشافعي إن ثبت حديث ضباعة لم أعده
ومنهم من يقول الاشتراط [باطل]
وروي عن سعيد بن جبير وطاوس أنهما أنكرا الاشتراط في الحج وذهبا فيه مذهب بن عمر
وقال أحمد وإسحاق وأبو ثور وداود لا بأس أن يشترط وينفعه شرطه على ما روي عن النبي عليه السلام وعن غير واحد من الصحابة
قال أبو عمر روي الاشتراط في الحج عند الإحرام عن علي وعمر وعثمان وبن عباس وبن مسعود وعمار وجماعة من التابعين بالمدينة منهم سعيد بن المسيب وعروة بالكوفة ومنهم علقمة وعبيدة السلماني وشريح
وهو قول عطاء بن أبي رباح
410

كل ذلك من كتاب عبد الرزاق وبن أبي شيبة
سئل مالك هل يحتش الرجل لدابته من الحرم فقال لا
قال أبو عمر أجمعوا أنه لا يحتش في الحرم إلا الإذخر الذي أذن النبي عليه السلام في قطعه [فإن الجميع] يجيزون أخذه ويقولون أذن النبي عليه السلام في قطع الإذخر
أجمعوا أنه لا يرعى إنسان في حشيش الحرم لأنه لو جاز أن يرعى جاز أن يحتش
وقال الشافعي يقطع السواك من فرع الشجرة ويؤخذ منها الثمر والورق للدواء إذا كان لا يميتها ولا يضر بها لأن هذا يستخلف فيكون كما كان وليس كالذي ينزع أصله
قال وأكره أن يخرج من حجارة الحرم وترابه شيء إلى غيره للحرمة التي ثبتت له
فأما ماء زمزم فلا أكره الخروج به
وقال أبو ثور في ذلك كله نحو قوله وهو معنى قول مجاهد وعطاء
((82 - باب حج المرأة بغير ذي محرم))
923 - مالك في الصرورة من النساء التي لم تحج قط إنها إن لم يكن لها ذو محرم يخرج معها أو كان لها فلم يستطع أن يخرج معها أنها لا تترك فريضة الله عليها في الحج لتخرج في جماعة النساء
قال أبو عمر قال الله تعالى * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) * [آل عمران 97] فدخل في ذلك الرجال والنساء المستطيعون إليه سبيلا
411

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم منها
واختلفت ألفاظ هذه الأحاديث في هذه المسألة وسنبين ذلك في موضعه من حديث مالك إن شاء الله
واختلف الفقهاء هل يكون المحرم من السبيل أم لا
فقال مالك ما رسمه في [موطأة ولم يختلف فيه عنه ولا عن أصحابه]
وهو قول الشافعي في أنها تخرج معه مع جملة النساء
قال ولو خرجت مع امرأة واحدة مسلمة لله فلا شيء عليها
وقال بن سيرين جائز أن تحج مع ثقات المسلمين من الرجال
وهو قول الأوزاعي قال الأوزاعي تخرج مع قوم عدول وتتخذ سلما تصعد عليه وتنزل ولا يقربها رجل وكل هؤلاء يقول ليس المحرم للمرأة من السبيل
وهو مذهب عائشة لأنها قالت ليس كل امرأة لها ذو محرم أو تجد ذا محرم ذكر عبد الرزاق قال حدثنا معمر عن الزهري عن عمرة قال أخبرت عائشة تفتي ألا تسافر امرأة فوق ثلاث إلا مع ذي محرم فقالت عائشة تجدون ذا محرم
قال وأخبرنا معمر وبن التيمي أنهما سمعا أيوب يحدث عن بن سيرين أنه سئل عن المرأة تحج مع غير ذي محرم فقال رب من ليس بذي محرم خير من محرم
وقالت طائفة المحرم للمرأة من السبيل فإذا لم يكن معها زوجها ولا ذو محرم منها فليس عليها الحج لأنها لم تجد السبيل إليه
وممن ذهب إلى هذا الحسن البصري وإبراهيم النخعي وأبو حنيفة وأصحابه
412

وهو قول أحمد وإسحاق وأبي ثور إلا أن الأثرم روى عن أحمد بن حنبل أنه قال أرجو في الفريضة أن تخرج مع النساء وكل من تأمنه
قال أبو عمر حجة من رأى المحرم من السبيل ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم
وقد روي لا تحج امرأة إلا مع ذي محرم
ذكر عبد الرزاق قال حدثنا بن جريج عن عمرو بن دينار قال أخبرني عكرمة وأبو معبد عن بن عباس قال جاء رجل إلى المدينة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أين نزلت فقال على فلانة فقال أغلقت عليك بابها مرتين لا تحجن امرأة إلا ومعها ذو محرم
ذكر عبد الرزاق قال أخبرنا بن جريج وأما بن عيينة فأخبرناه عن عكرمة عن بن عباس ليس فيه شك
وعن الثوري عن ليث عن أبي هبيرة عن إبراهيم قال كتبت إليه امرأة من الري تسأله عن الحج مع ذي محرم قال هو من السبيل فإن لم تجد ذا محرم فلا سبيل
((83 - باب صيام التمتع))
924 - مالك عن بن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أنها كانت تقول الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى الحج لمن لم يجد هديا ما بين أن يهل بالحج إلى يوم عرفة فإن لم يصم صام أيام منى
ومالك عن بن شهاب عن سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول في ذلك مثل قول عائشة رضي الله تعالى عنها
قال أبو عمر قال الله تعالى * (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج) * [البقرة 196]
وأجمع العلماء على أن الثلاثة الأيام إن صامها قبل يوم النحر فقد أتى بما
413

يلزمه من ذلك ولهذا قال من قال من أهل العلم بتأويل القرآن في قوله ثلاثة أيام في الحج قال آخرها يوم عرفة
وكذلك أجمعوا أنه لا يجوز له ولا لغيره صيام يوم النحر
واختلفوا في صيام أيام منى إذا كان قد فرط فلم يصمها قبل يوم النحر
فقال مالك يصومها المتمتع إذا لم يجد هديا لأنها من أيام الحج وروي عن بن عمر وعائشة
وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري وأبو ثور لا يصوم المتمتع أيام منى لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام منى ولم يخص نوعا من الصيام
واختلفت الرواية عن أحمد بن حنبل في ذلك فروي عنه أنه إن لم يصم الثلاثة الأيام آخرها يوم عرفة ولم يصم يوم النحر وصام أيام منى وروي عنه أنه لا يصوم أيام منى ويصم بعد ذلك عشرة أيام وعليه دم
وروي عن عطاء بن أبي رباح أنه يجوز للمتمتع أن يصوم في العشر وهو حلال
وقال مجاهد وطاوس إذا صامهن في أشهر الحج أجزأه
وهذان القولان شاذان ذكرهما الطبري عن محمد بن بشار وعن بن مهدي وعن سفيان عن بن جريج وعن عطاء عن أبي حميد عن حكام عن عنبسة عن بن أبي نجيح عن مجاهد وطاوس
كمل كتاب الحج بحمد الله وعونه وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وسلم تسليما
414