الكتاب: شرح نهج البلاغة
المؤلف: ابن أبي الحديد
الجزء: ٧
الوفاة: ٦٥٦
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ القسم العام
تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: دار إحياء الكتب العربية - عيسى البابي الحلبي وشركاه
ردمك:
ملاحظات: مؤسسة مطبوعاتي إسماعيليان

شرح نهج البلاغة
لابن أبي الحديد
(586 - 656)
الجزء السابع
تحقيق
محمد أبو الفضل إبراهيم
1

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد العدل
(90) *
الأصل:
فلما مهد أرضه، وأنفذ أمره، اختار آدم عليه السلام خيرة (1) من خلقه،
وجعله أول جبلته، وأسكنه جنته، وأرغد فيها أكله، وأوعز إليه فيما نهاه
عنه، وأعلمه أن في الاقدام عليه التعرض لمعصيته، والمخاطرة بمنزلته، فأقدم
على ما نهاه عنه موافاة لسابق علمه. فأهبطه بعد التوبة، ليعمر أرضه بنسله، وليقيم
الحجة به على عباده، ولم يخلهم بعد أن قبضه مما يؤكد عليهم حجة ربوبيته،
ويصل بينهم وبين معرفته، بل تعاهدهم بالحجج على ألسن الخيرة من أنبيائه،
ومتحملي ودائع رسالاته، قرنا فقرنا، حتى تمت بنبينا محمد صلى الله عليه حجته،
وبلغ المقطع عذره ونذره.
* * *
الشرح:
مهد أرضه: سواها وأصلحها، ومنه المهاد وهو الفراش، ومهدت الفراش، بالتخفيف
مهدا، أي بسطته ووطأته. وقوله: " خيرة من خلقه " على " فعلة "، مثل عنبة، الاسم

* بقية الخطبة التسعين، وأولها في الجزء السادس ص 398
(1) مخطوطة النهج: " خيرة "، بالتسكين.
3

من قولك: اختاره الله، يقال محمد خيرة الله من خلقه، ويجوز: " خيرة الله "
بالتسكين، والاختيار: الاصطفاء.
والجبلة: الخلق، ومنه قوله تعالى: (واتقوا الذي خلقكم والجبلة
الأولين) (1)، ويجوز " الجبلة "، بالضم، وقرأ بها الحسن البصري، وقرئ قوله سبحانه:
(ولقد أضل منكم جبلا كثيرا) (2) على وجوه: فقرأ أهل المدينة بالكسر
والتشديد، وقرأ أبو عمرو (جبلا كثيرا) مثل قفل، وقرأ الكسائي (جبلا) كثيرا
بضم الباء مثل " حلم "، وقرأ عيسى بن عمر (جبلا) بكسر الجيم، وقرأ الحسن
وابن أبي إسحاق (جبلا) بالضم والتشديد.
قوله: " وأرغد فيها أكله "، أي جعل أكله - وهو المأكول - رغدا، أي
واسعا طيبا، قال سبحانه: (وكلا منها رغدا حيث شئتما) (3)، وتقرأ رغدا ورغدا بكسر
الغين وضمها، وأرغد القوم: أخصبوا، وصاروا في رغد من العيش.
قوله: " وأوعز إليه فيما نهاه عنه "، أي تقدم إليه بالانذار (4)، ويجوز " ووعز إليه "
بالتشديد توعيزا، ويجوز التخفيف أيضا وعز إليه وعزا.
والواو في " وأعلمه " عاطفة على " وأوعز "، لا على " نهاه ".
قوله: " موافاة لسابق علمه " لا يجوز أن ينتصب لأنه مفعول له، وذلك لان المفعول
له يكون عذرا وعلة للفعل، ولا يجوز أن يكون إقدام آدم على الشجرة لأجل الموافاة للعلم
الإلهي السابق، ولا يستمر ذلك على مذاهبنا، بل يجب أن ينصب " موافاة " على

(1) سورة الشعراء 184.
(2) سورة يس 62.
(3) سورة البقرة 35
(4) ب: " الانذار "، وما أثبته من ج، د.
4

المصدرية المحضة، كأنه قال: فوافى بالمعصية موافاة، وطابق بها " سابق العلم "
مطابقة.
قوله: " فأهبطه بعد التوبة "، قد اختلف الناس في ذلك، فقال قوم: بل أهبطه قبل
التوبة، ثم تاب عليه وهو في الأرض. وقال قوم: تاب قبل الهبوط، وهو قول أمير
المؤمنين عليه السلام، ويدل عليه قوله تعالى: (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه
إنه هو التواب الرحيم. قلنا اهبطوا منها جميعا) (1)، فأخبر عن أنه أهبطهم بعد تلقى
الكلمات والتوبة. وقال تعالى في موضع آخر: (وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة
وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو
مبين. قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين) (2).
فبين أن اعترافهما بالمعصية واستغفارهما كانا قبل أمرهما بالهبوط، وقال في موضع آخر:
(وعصى آدم ربه فغوى. ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى. قال اهبطا منها
جميعا) (3)، جعل الإهباط بعد الاجتباء والتوبة. واحتج الأولون بقوله تعالى: (ولا
تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين. فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا
فيه، وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين.
فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه) (4)، قالوا: فأخبر سبحانه عن أمره لهم بالهبوط
عقيب إزلال الشيطان لهما، ثم عقب الهبوط بفاء التعقيب في قوله: (فتلقى آدم من
ربه كلمات)، فدل على أن التوبة بعد الهبوط.

(1) سورة البقرة 37. 38
(2) سورة الأعراف 22 - 24.
(3) سورة طه 121 - 123
(4) سورة البقرة 35 - 38
5

ويمكن أن يجاب عن هذا فيقال: إنه تعالى لم يقل: " فقلنا اهبطوا " بالفاء، بل قال:
(وقلنا اهبطوا) بالواو، والواو لا تقتضي الترتيب، ولو كان عوضها فاء لكانت صريحة
في أن الإهباط كان عقيب الزلة، فأما الواو فلا تدل على ذلك، بل يجوز أن تكون
التوبة قبل الإهباط، ويخبر عن الإهباط بالواو قبل أن يخبر عن التوبة.
قوله عليه السلام: " وليقيم الحجة على عباده "، أي إذا كان أبوهم أخرج من الجنة
بخطيئة واحدة فأخلق بها ألا يدخلها ذو خطايا جمة، وهذا يؤكد مذهب أصحابنا
في الوعيد.
ثم أخبر عليه السلام أن البارئ سبحانه ما أخلى عباده بعد قبض آدم وتوفيه مما يؤكد
عليهم حجج الربوبية، بل أرسل إليهم الرسل قرنا فقرنا، بفتح القاف، وهو أهل الزمان
الواحد، قال الشاعر:
إذا ما مضى القرن الذي أنت فيهم وخلفت في قرن فأنت غريب (1)
وتعاهدهم بالحجج، أي جدد العهد عندهم بها، ويروى " بل تعهدهم " بالتشديد،
والتعهد: التحفظ بالشئ، تعهدت فلانا وتعهدت ضيعتي، وهو أفصح من " تعاهدت "
لان التفاعل إنما يكون من شيئين، وتقول: فلان يتعهده صرع.
قوله: " وبلغ المقطع عذره ونذره "، مقطع الشئ حيث ينقطع، ولا يبقى خلفه
شئ منه، أي لم يزل يبعث الأنبياء واحدا بعد واحد، حتى بعث محمدا صلى الله عليه وآله،
فتمت به حجته على الخلق أجمعين، وبلغ الامر مقطعه، أي لم يبق بعده رسول ينتظر،

(1) البيت في اللسان 17: 212.
6

وانتهت عذر الله تعالى ونذره، فعذره ما بين للمكلفين من الاعذار في عقوبته لهم إن عصوه،
ونذره ما أنذرهم به من الحوادث، ومن أنذرهم على لسانه من الرسل.
* * *
[القول في عصمة الأنبياء]
واعلم أن المتكلمين اختلفوا في عصمة الأنبياء، ونحن نذكر هاهنا طرفا من حكاية،
المذاهب في هذه المسألة على سبيل الاقتصاص ونقل الآراء، لا على سبيل الحجاج، ونخص
قصة آدم عليه السلام والشجرة بنوع من النظر، إذ كانت هذه القصة مذكورة في كلام
أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الفصل، فنقول:
اختلف الناس في المعصوم ما هو؟ فقال قوم: المعصوم هو الذي لا يمكنه الاتيان
بالمعاصي، وهؤلاء هم الأقلون أهل النظر، واختلفوا في عدم التمكن كيف هو؟ فقال
قوم منهم: المعصوم هو المختص في نفسه أو بدنه أو فيهما بخاصية تقضى امتناع إقدامه
على المعاصي.
وقال قوم منهم: بل المعصوم مساو في الخواص النفسية والبدنية لغير المعصوم، وإنما
العصمة هي القدرة على الطاعة أو عدم القدرة على المعصية، وهذا قول الأشعري نفسه،
وإن كان كثير من أصحابه قد خالفه فيه.
وقال الأكثرون من أهل النظر: بل المعصوم مختار متمكن من المعصية والطاعة.
* * *
وفسروا العصمة بتفسيرين:
أحدهما: أنها أمور يفعلها الله تعالى بالمكلف فتقتضي ألا يفعل المعصية اقتضاء
7

غير بالغ إلى حد الايجاب، وفسروا هذه الأمور فقالوا: إنها أربعة أشياء: أولها أن يكون
لنفس الانسان ملكة مانعة من الفجور، داعية إلى العفة. وثانيها العلم بمثالب المعصية
ومناقب الطاعة. وثالثها تأكيد ذلك العلم بالوحي والبيان من الله تعالى. ورابعها أنه متى
صدر عنه خطأ من باب النسيان السهو لم يترك مهملا بل يعاقب وينبه ويضيق عليه العذر،
قالوا: فإذا اجتمعت هذه الأمور الأربعة كان الشخص معصوما عن المعاصي لا محالة، لان
العفة إذا انضاف إليها العلم بما في الطاعة من السعادة وما في المعصية من الشقاوة، ثم أكد
ذلك تتابع الوحي إليه وترادفه، وتظاهر البيان عنده، وتمم ذلك خوفه من العتاب على القدر
القليل، حصل من اجتماع هذه الأمور حقيقة العصمة.
وقال أصحابنا (1): العصمة لطف يمتنع المكلف عند فعله من القبيح اختيارا، وقد يكون
ذلك اللطف خارجا عن الأمور الأربعة المعدودة، مثل أن يعلم الله تعالى أنه إن انشاء سحابا،
أو أهب ريحا، أو حرك جسما فإن زيدا يمتنع عن قبيح مخصوص اختيارا، فإنه تعالى
يجب عليه فعل ذلك، ويكون هذا اللطف عصمة لزيد، وإن كان الاطلاق المشتهر في
العصمة إنما هو لمجموع ألطاف يمتنع المكلف بها عن القبيح مدة زمان تكليفه.
وينبغي أن يقع {الكلام} (2) بعد هذه المقدمة في ثلاثة فصول:
* * *
الفصل الأول
في حال الأنبياء قبل البعثة ومن الذي يجوز أن يرسله الله تعالى إلى العباد
فالذي عليه أصحابنا المعتزلة رحمهم الله، أنه يجب أن ينزه النبي قبل البعثة عما كان
فيه تنفير عن الحق الذي يدعو إليه، وعما فيه غضاضة وعيب.

(1) هو التفسير الثاني للعصمة.
(2) تكمله من ج، د.
8

فالأول نحو أن يكون كافرا أو فاسقا، وذلك لأنا نجد التائب العائد إلى الصلاح بعد
أن عهد الناس منه السخف والمجون والفسق، لا يقع أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر
عند الناس موقعهما ممن لم يعهدوه إلا على السداد والصلاح.
والثاني نحو أن يكون حجاما أو حائكا أو محترفا بحرفة يقذرها الناس ويستخفون
بصاحبها، إلا أن يكون المبعوث إليهم على خلاف ما هو المعهود الآن، بألا يكون من
تعاطى ذلك مستهانا به عندهم.
ووافق أصحابنا في هذا القوم جمهور المتكلمين.
وقال قوم من الخوارج: يجوز أن يبعث الله تعالى من كان كافرا قبل الرسالة، وهو
قول ابن فورك (1) من الأشعرية، لكنه زعم أن هذا الجائز لم يقع.
وقال قوم من الحشوية: قد كان محمد صلى الله عليه وآله كافرا قبل البعثة، واحتجوا
بقوله تعالى: (ووجدك ضالا فهدى) (2) وقال برغوث المتكلم، وهو أحد النجارية (3):
لم يكن النبي صلى الله عليه وآله مؤمنا بالله قبل أن يبعثه، لأنه تعالى قال له: (ما كنت تدرى
ما الكتاب ولا الايمان) (4).
وروى عن السدى في قوله تعالى: (ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك) (5)،
قال: وزره الشرك، فإنه كان على دين قومه أربعين سنة.
وقال بعض الكرامية (6) في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم صلى الله عليه وآله،

(1) هو أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك، الأديب المتكلم الواعظ، ترجم له ابن عساكر في كتابه
تبيين كذب المفتري ص 223، 233.
(2) سورة الضحى 6
(3) النجارية أصحاب الحسين بن محمد النجار، ومحمد بن عيسى الملقب برغوث من رجالهم، وانظر
الشهرستاني 1: 81، 82
(4) سورة الشورى 52
(5) سورة الشرح 2.
(6) الكرامية، أصحاب أبي عبد الله محمد بن كرام، وانظر تفصيل آرائهم في الشهرستاني
1: 99 - 140.
9

(قال: أسلمت) (1) إنه أسلم يومئذ، ولم يكن من قبل ذلك مسلما، ومثل ذلك، قال اليمان
ابن رباب، متكلم الخوارج.
وحكى كثير من أرباب المقالات عن شيخنا أبى الهذيل وأبى على جواز أن
يبعث الله تعالى من قد ارتكب كبيرة قبل البعثة، ولم أجد في كتب أصحابنا حكاية هذا
المذهب عن الشيخ أبى الهذيل، ووجدته عن أبي على، ذكره أبو محمد بن متويه في
كتاب " الكفاية "، فقال: منع أهل العدل كلهم من تجويز بعثة من كان فاسقا قبل
النبوة إلا ما جرى في كلام الشيخ أبى على رحمه الله تعالى من ثبوت فصل بين البعثة
وقبلها، فأجاز أن يكون قبل البعثة مرتكبا لكبيرة ثم يتوب، فيبعثه الله تعالى حينئذ،
وهو مذهب محكى عن عبد الله بن العباس الرامهرمزي.
ثم قال الشيخ أبو محمد رحمه الله تعالى: والصحيح من قول أبى على رحمه الله تعالى
مثل ما نختاره من التسوية بين حال البعثة وقبلها في المنع من جواز ذلك.
وقال قوم من الأشعرية ومن أهل الظاهر وأرباب الحديث: إن ذلك جائز واقع،
واستدلوا بأحوال إخوة يوسف. ومنع المانعون من ذلك من ثبوت نبوة إخوة يوسف،
ثم هؤلاء المجوزون، منهم من جوز عليهم فعل الكبائر مطلقا، ومنهم من جوز ذلك
على سبيل الندرة ثم يتوبون عنه، ويشتهر حالهم بين الخلق بالصلاح، فأما لو فرضنا (2)
إصرارهم على الكبائر بحيث يصيرون مشهورين بالفسق والمعاصي، فإن ذلك لا يجوز،
لأنه يفوت الغرض من إرسالهم ونبوتهم على هذا التقدير.
وقالت الامامية: لا يجوز أن يبعث الله تعالى نبيا قد وقع منه قبيح قبل النبوة

(1) من قوله تعالى في سورة البقرة 131: (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب
العالمين).
(2) ب: " لو فرض "، وما أثبته من ج، د.
10

لا صغيرا ولا كبيرا، لا عمدا ولا خطأ، ولا على سبيل التأويل والشبهة، وهذا المذهب
مما تفردوا به، فإن أصحابنا وغيرهم من المانعين للكبائر قبل النبوة لم يمنعوا وقوع الصغائر
منهم إذا لم تكن مسخفة منفرة.
وأطردت الامامية هذا القول في الأئمة فجعلت حكمهم في ذلك حكم الأنبياء في وجوب
العصمة المطلقة لهم قبل النبوة وبعدها.
* * *
الفصل الثاني
في عصمة الأنبياء في زمن النبوة عن الذنوب في أفعالهم وتروكهم
عدا ما يتعلق بتبليغ الوحي والفتوى في الاحكام
جوز قوم من الحشوية عليهم هذه الكبائر وهم أنبياء، كالزنا واللواط وغيرهما، وفيهم
من جوز ذلك بشرط الاستسرار دون الاعلان، وفيهم من جوز ذلك على
الأحوال كلها.
ومنع أصحابنا المعتزلة من وقوع الكبائر منهم عليهم السلام أصلا، ومنعوا أيضا من
وقوع الصغائر المسخفة منهم، وجوزوا وقوع الصغائر التي ليست بمسخفة منهم. ثم اختلفوا
فمنهم من جوز على النبي الاقدام على المعصية الصغيرة غير المسخفة عمدا (1)، وهو قول شيخنا
أبى هاشم رحمه الله، فإنه أجاز ذلك وقال أنه لا يقدم عليه السلام على ذلك إلا على
خوف ووجل، ولا يتجرأ على الله سبحانه.
ومنهم من منع من تعمد إتيان الصغيرة، وقال: إنهم لا يقدمون على الذنوب التي
يعلمونها ذنوبا، بل على سبيل التأويل ودخول الشبهة، وهذا قول أبى على رحمه الله تعالى.

(1) كذا في ج، د، وفى ب: " عملا ".
11

وحكى عن أبي إسحاق النظام وجعفر بن مبشر، أن ذنوبهم لا تكون إلا على
سبيل السهو والنسيان، وأنهم مؤاخذون بذلك وإن كان موضوعا عن أمتهم، لان
معرفتهم أقوى، ودلائلهم أكثر، وأخطارهم أعظم، ويتهيأ لهم من التحفظ
ما لا يتهيأ لغيرهم.
وقالت الامامية: لا تجوز عليهم الكبائر ولا الصغائر، لا عمدا ولا خطأ،
ولا سهوا ولا على سبيل التأويل والشبهة، وكذلك قولهم في الأئمة، والخلاف بيننا وبينهم
في الأنبياء يكاد يكون ساقطا، لان أصحابنا إنما يجوزون عليهم الصغائر، لأنه لا عقاب
عليها، وإنما تقتضي نقصان الثواب المستحق على قاعدتهم في مسألة الاحباط، فقد
اعترف إذا أصحابنا بأنه لا يقع من الأنبياء ما يستحقون به ذما ولا عقابا، والامامية إنما
تنفى عن الأنبياء الصغائر والكبائر من حيث كان كل شئ منها يستحق فاعله به الذم
والعقاب، لان الاحباط باطل عندهم، فإذا كان استحقاق الذم والعقاب يجب أن ينفى عن
الأنبياء، وجب أن ينفى عنهم سائر الذنوب، فقد صار الخلاف إذا متعلقا بمسألة
الاحباط، وصارت هذه المسألة فرعا من فروعها.
* * *
واعلم أن القول بجواز الصغائر على الأنبياء بالتأويل والشبهة على ما ذهب إليه شيخنا
أبو علي رحمه الله تعالى، إنما اقتضاه تفسيره لآية آدم والشجرة، وتكلفه إخراجها عن
تعمد آدم للعصيان، فقال: إن آدم نهى عن نوع تلك الشجرة لا عن عينها، بقوله تعالى: (ولا تقربا هذه الشجرة)، وأراد سبحانه نوعها المطلق، فظن آدم أنه
أراد خصوصية تلك الشجرة بعينها، وقد كان أشير إليها فلم يأكل منها بعينها، ولكنه
أكل من شجرة أخرى من نوعها، فأخطأ في التأويل. وأصحاب شيخنا أبى هاشم
لا يرضون هذا المذهب ويقولون إن الاشكال باق بحاله، لان آدم أخل بالنظر على
12

هذا القول في أن المنهي عنه: هل هو عين الشجرة أو نوعها؟ مع أنه قد كان مدلولا على
ذلك، لأنه لو لم يكن مدلولا على ذلك لكان تكليف الامتناع عن التناول تكليف
ما لا يطاق، وإذا دل على ذلك وجب عليه النظر، ولا وجه يجب النظر لأجله إلا الخوف
من تركه، وإذا لم يكن بد من كونه خائفا فهو عالم إذا بوجوب هذا التأمل والنظر،
فإذا أخل به فقد وقعت منه المعصية مع علمه.
وكما لا يرضى أصحاب شيخنا أبى هاشم هذا المذهب، فكذلك لا يرتضون مذهب
النظام وجعفر بن مبشر، وذلك لان القول بأن الأنبياء يؤاخذون على ما يفعلونه سهوا
متناقض لان السهو يزيل التكليف، ويخرج الفعل من كونه ذنبا مؤاخذا به، ولهذا
لا يصح مؤاخذة المجنون والنائم، والسهو في كونه مؤثرا في رفع التكليف جار مجرى فقد
القدر والآلات والأدلة، فلو جاز أن يخالف حال الأنبياء حال غيرهم في صحة تكليفهم
مع السهو، جاز أن يخالف حالهم حال غيرهم في صحة التكليف مع فقد القدر والآلات،
وذلك باطل.
* * *
واعلم أن الشريف المرتضى - رحمه الله تعالى - قد تكلم في كتابه المسمى " بتنزيه الأنبياء
والأئمة " على هذه الآية، وانتصر لمذهب الامامية [فيها] (1)، وحاول صرفها عن ظاهرها،
وتأول اللفظ بتأويل مستكره غير صحيح، وأنا أحكى كلامه هاهنا وأتكلم عليه نصرة
لأصحابنا، ونصرة أيضا لأمير المؤمنين عليه السلام، فإنه قد صرح في هذا الفصل بوقوع
الذنب من آدم عليه السلام، ألا ترى إلى قوله: " والمخاطرة بمنزلته " وهل تكون هذه
اللفظة إلا في الذنب! وكذلك سياقه الفصل من أوله إلى آخره، إذا تأمله المنصف واطرح
الهوى والتعصب. ثم إنا نذكر [كلام] (1) السيد الشريف المرتضى رحمه الله تعالى، قال
رحمه الله تعالى:

(1) تكملة من ج، د.
13

أما قوله تعالى: (وعصى آدم ربه) فإن المعصية مخالفة للامر (1)، والامر من
الحكيم تعالى قد يكون بالواجب وبالندب معا، فلا يمتنع على هذا أن يكون آدم مندوبا
إلى ترك التناول من الشجرة، فيكون بمواقعتها تاركا فضلا ونفلا، وغير فاعل قبيحا، وليس
يمتنع أن يسمى تارك النفل عاصيا، كما يسمى بذلك تارك الواجب فإن تسمية من خالف
ما أمر به سواء كان واجبا أو نفلا بأنه عاص ظاهر، ولهذا يقولون: أمرت فلانا بكذا وكذا
من الخير فعصاني وخالفني، وإن لم يكن ما أمر به واجبا (2).
يقال له الكلام على هذا التأويل من وجوه:
أولها أن ألفاظ الشرع يجب أن تحمل على حقائقها اللغوية ما لم يكن لها حقائق
شرعية، فإذا كان لها حقائق شرعية وجب أن تحمل على عرف الشرع واصطلاحه،
كالصلاة والحج والنفاق والكفر، ونحو ذلك من الألفاظ الشرعية، وهكذا قال السيد المرتضى
رحمه الله تعالى في كتابه في أصول الفقه المعروف " بالذريعة " في باب كون الامر للوجوب
وهو الحق الذي لا مندوحة عنه. وإذا كان لفظ العصيان في الاصطلاح الشرعي موضوعا
لمخالفة الامر الايجابي لم يجز العدول عنه وحمله على مخالفة الندب.
ومعلوم أن لفظ العصيان في العرف الشرعي لا يطلق إلا على مخالفة الامر المقتضى
للوجوب، فالقول بجواز حملها على مخالفة الامر الندبي قول تبطله وتدفعه تلك القاعدة المقررة
التي ثبتت بالاتفاق وبالدليل. على أننا قبل أن نجيب بهذا الوجه نمنع أصلا أنه يجوز أن
يقال لتارك النفل: إنه عاص لا في أصل اللغة، ولا في العرف، ولا في الشرع، وذلك لان
حقيقة النفل هو ما يقال فيه للمكلف: الأولى أن تفعل هذا، ولك ألا تفعله، ومعلوم أن

(1) العبارة في كتاب تنزيه الأنبياء بعد ذكر الآية... قالوا: وهذا تصريح بوقوع المعصية التي لا تكون
إلا قبيحة، وأكده بقوله " فغوى " وألغى ضد الرشد. الجواب: يقال لهم. أما المعصية... ".
(2) تنزيه الأنبياء.
14

تارك مثل ذلك لا يطلق عليه أنه عاص، ويبين ذلك أن لفظ " العصيان " في اللغة
موضوع للامتناع، ولذلك سميت العصا عصا، لأنه يمتنع بها، ومنه قولهم: قد شق العصا،
أي خرج عن الربقة المانعة من الاختلاف والتفرق، وتارك الندب لا يمنع من أمر، لان
الامر الندبي لا يقتضى شيئا اقتضاء اللزوم، بل معناه إن فعلت فهو أولى، ويجوز
ألا تفعل، فأي امتناع حدث إذا خولف أمر الندب سمى المخالف له عاصيا، ويبين ذلك
أيضا أن لفظ " عاص " اسم ذم، فلا يجوز إطلاقه على تارك الندب، كما لا يسمى فاسقا،
وإن كان الفسق في أصل اللغة للخروج.
ثم يسأل المرتضى رحمه الله تعالى عما سأل عنه نفسه، فيقال له: كيف يجوز أن يكون
ترك الندب معصية؟ أوليس هذا يوجب أن يوصف الأنبياء بأنهم عصاة في كل حال،
وأنهم لا ينفكون عن المعصية، لأنهم لا يكادون ينفكون من ترك الندب (1)!
وقد أجاب رحمه الله تعالى عن هذا، فقال (1): وصف تارك الندب بأنه عاص توسع
وتجوز، والمجاز لا يقاس عليه، ولا يعدى عن موضعه. ولو قيل إنه حقيقة في فاعل
القبيح، وتارك الأولى [والأفضل] (1) لم يجز إطلاقه في الأنبياء إلا مع التقييد، لان
استعماله قد كثر في فاعل القبائح، فإطلاقه عن التقييد موهم.
لكنا نقول: إن أردت بوصفهم بأنهم عصاة أنهم فعلوا القبيح، فلا يجوز ذلك،
وإن أردت أنهم تركوا ما لو فعلوه لاستحقوا الثواب، ولكان أولى، فهم كذلك (1).
كذلك يقال له: ليس هذا من باب القياس على المجاز الذي اختلف فيه أرباب
أصول الفقه، لان من قال: إذا ترك زيد الندب، فإنه يسمى عاصيا، يلزمه أن يقول: إن
عمرا إذا ترك الندب يسمى عاصيا، وليس هذا قياسا، كما أن من قال لزيد البليد: هذا

(1) تنزيه الأنبياء 10
(2) من تنزيه الأنبياء.
15

حمار، قال لعمرو البليد: هذا حمار، والقياس على المجاز الذي اختلف الأصوليون في جوازه
خارج عن هذا الموضع.
ومثال المسألة الأصولية المختلف فيها: (واخفض لهما جناح الذل) (1) هل يجوز
أن يقال: طأطئ لهما عنق الذل!
وأما قوله: لو سلمنا أنه حقيقة في تارك الندب لم يجز إطلاقه في حق الأنبياء، لأنه
يوهم العصيان، بل يجب أن يقيد.
فيقال له: لكن البارئ سبحانه أطلقه ولم يقيده في قوله: (وعصى آدم) فيلزمك
أن يكون تعالى موهما وفاعلا للقبيح، لان إيهام القبيح قبيح.
فإن قال: الدلالة العقلية على استحالة المعاصي على الأنبياء تؤمن من الإيهام.
قيل له: وتلك الدلالة بعينها تؤمن من الإيهام في قول القائل: الأنبياء عصاة، فهلا
أجزت إطلاق ذلك!
* * *
وثانيها أنه تعالى قال: (فغوى) والغي الضلال.
قال المرتضى رحمه الله تعالى: معنى غوى هاهنا خاب، لأنه نعلم أنه (2) لو فعل ما ندب إليه من
ترك التناول من الشجرة لاستحق الثواب العظيم، فإذا خالف الامر ولم يصر (3) إلى ما ندب
إليه فقد خاب لا محالة من حيث لم يصر إلى الثواب الذي كان يستحقه بالامتناع، ولا شبهة
في أن لفظ " غوى " يحتمل الخيبة، قال الشاعر:
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ومن يغو لا يعدم على الغي لائما (4)

(1) سورة الإسراء 24.
(2) التنزيه: " لأنا نعلم ".
(3) ب: " فإذا خالف الامر إلى ما ندب إليه ".
(4) للمرقش، اللسان 19: 377
16

يقال له: ألست القائل في مصنفاتك الكلامية: إن المندوبات إنما ندب إليها، لأنها
كالمسهلات والميسرات لفعل الواجبات العقلية، وأنها ليست ألطافا في واجب عقلي، وأن
ثوابها يسير جدا بالإضافة إلى ثواب الواجب! فإذا كان آدم عليه السلام ما أخل بشئ من
الواجبات، ولا فعل شيئا من المقبحات، فقد استحق من الثواب العظيم ما يستحقر ثواب
المندوب بالإضافة إليه. ومثل هذا لا يقال فيه لمن ترك المندوب إنه قد خاب، ألا ترى
أن من اكتسب مائة ألف قنطار من المال، وترك بعد ذلك درهما واحدا كان يمكنه
اكتسابه فلم يكتسبه، لا يقال: إنه خاب!
وثالثها أن ظاهر القرآن يخالف ما ذكره، لأنه تعالى أخبر أن آدم منهي عن أكل
الشجرة بقوله: (ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين)، وقوله: (ألم
أنهكما عن تلكما الشجرة)، وهذا يوجب أنه قد عصى بأن فعل منهيا عنه،
والشريف المرتضى رحمه الله تعالى يقول: إنه عصى بأن ترك مأمورا به.
* * *
قال المرتضى رحمه الله تعالى مجيبا عن هذا: إن الأمر والنهي ليسا يختصان (1) عندنا
بصيغة ليس فيها احتمال واشتراك، وقد يؤمر عندنا بلفظ النهى وينهى بلفظ الامر، وإنما
يكون النهى نهيا بكراهة المنهي عنه، فإذا قال تعالى: (لا تقربا هذه الشجرة) ولم يكره
قربهما لم يكن في الحقيقة ناهيا، كما أنه تعالى لما قال: (اعملوا ما شئتم) (2)، (وإذا حللتم
فاصطادوا) (3) ولم يرد ذلك، لم يكن أمرا به، وإذا كان قد صحب قوله: (لا تقربا هذه
الشجرة) إرادة ترك التناول، وجب أن يكون هذا القول أمرا، وإنما سماه منهيا، وسمى

(1) التنزيه: " أما النهى والامر معا فليسا... ".
(2) سورة فصلت 40
(3) سورة المائدة 2
17

أمره له بأنه نهى من حيث كان فيه معنى النهى، لان في النهى ترغيبا في الامتناع من
الفعل، وتزهيدا في الفعل نفسه، ولما كان الامر ترغيبا من فعل المأمور، وتزهيدا في تركه
جاز أن يسمى نهيا.
وقد يتداخل هذان الوضعان في الشاهد، فيقول أحدنا: قد أمرت فلانا بألا يلقى
الأمير، وإنما يريد أنه نهاه عن لقائه، ويقول: نهيتك عن هجر زيد، وإنما معناه
أمرتك بمواصلته (1).
يقال له: هذا خلاف الظاهر، فلا يجوز المصير إليه إلا بدلالة قاطعة تصرف اللفظ
عن ظاهره، ويكفي أصحاب أبي هاشم في نصرة قولهم: التمسك بالظاهر.
واعلم أن بعض أصحابنا تأول هذه الآية، وقال: إن ذلك وقع من آدم عليه السلام
قبل نبوته، لأنه لو كان نبيا قبل إخراجه من الجنة، لكان إما أن يكون مرسلا إلى
نفسه، وهو باطل، أو إلى حواء وقد كان الخطاب يأتيها بغير واسطة، لقوله تعالى:
(ولا تقربا) أو إلى الملائكة، وهذا باطل، لان الملائكة رسل الله، بدليل قوله:
(جاعل الملائكة رسلا) (2)، والرسول لا يحتاج إلى رسول آخر، أو يكون رسولا وليس
هناك من يرسل إليه، وهذا محال. فثبت أن هذه الواقعة وقعت له عليه السلام قبل
نبوته وإرساله.
* * *
الفصل الثالث
في خطئهم في التبليغ والفتاوى
قال أصحابنا: إن الأنبياء معصومون من كل خطأ يتعلق بالأداء والتبليغ، فلا يجوز

(1) التنزيه 11
(2) سورة فاطر 1
18

عليهم الكذب ولا التغيير ولا التبديل ولا الكتمان ولا تأخر البيان عن وقت الحاجة،
ولا الغلط فيما يؤدونه عن الله تعالى، ولا السهو فيه ولا الألغاز ولا التعمية، لان كل
ذلك إما أن ينقض دلالة المعجز على صدقه، أو يؤدى إلى تكليف ما لا يطاق.
وقال قوم من الكرامية والحشوية: يجوز عليهم الخطأ في أقوالهم، كما جاز في أفعالهم،
قالوا: وقد أخطأ رسول الله صلى الله عليه وآله في التبليغ، حيث قال: " تلك الغرانيق العلا،
وإن شفاعتهن لترتجي ".
وقال قوم منهم: يجوز الغلط على الأنبياء فيما لم تكن الحجة فيه مجرد خبرهم، لأنه
لا يكون في ذلك إبطال حجة الله على خلقه، كما وقع من النبي صلى الله عليه وآله في هذه
الصورة، فإن قوله ذلك بمبطل لحجة العقل في أن الأصنام لا يجوز تعظيمها، ولا ترجى
شفاعتها. فأما ما كان السبيل إليه مجرد السمع فلو أمكن الغلط فيه لبطلت الحجة بإخبارهم.
وقال قوم منهم: إن الأنبياء يجوز أن يخطئوا في أقوالهم وأفعالهم، إذا لم تجر تلك الأفعال
مجرى بيان الوحي، كبيانه عليه السلام لنا الشريعة، ولا يجوز عليه الخطأ في حال
البيان، وإن كان يجوز عليه ذلك في غير حال البيان، كما روى من خبر ذي اليدين (1) حين
سها النبي صلى الله عليه وآله في الصلاة، وكذلك ما يكون منه من تبليغ وحى، فإنه لا يجوز
عليه أن يخطئ فيه، لأنه حجة الله على عباده. فأما في أقواله الخارجة عن التبليغ، فيجوز

(1) نقله أبو داود في كتاب الصلاة 1: 363 بسنده عن أبي هريرة قال: " صلى بنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم إحدى صلاتي العشى: الظهر أو العصر، قال: فصلى بنا ركعتين ثم سلم، ثم قام إلى خشبة في
مقدم المسجد فوضع يديه عليها، أحداهما على الأخرى، يعرف في وجهه الغضب، ثم خرج سرعان الناس،
وهم يقولون: قصرت الصلاة! قصرت الصلاة! وفى الناس أبو بكر وعمر، فهاباه أن يكلماه، فقام رجل
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسميه ذا اليدين، فقال: يا رسول، أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال:
" لم أنس ولم تقصر الصلاة "، قال: بل نسيت يا رسول الله، وأقبل رسول الله على القوم فقال:
" أصدق ذو اليدين "؟ فأومئوا: أي نعم، فرجع رسول الله إلى مقامه فصلى الركعتين الباقيتين ثم سلم
ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع فكبر ".
19

أن يخطئ كما روى عنه صلى الله عليه وآله في نهيه لأهل المدينة عن تأبير النخل (1).
فأما أصحابنا المعتزلة، فإنهم اختلفوا في الخبر المروى عنه عليه الصلاة والسلام في سورة
النجم، فمنهم من دفع الخبر أصلا ولم يقبله، وطعن في رواته، ومنهم من اعترف بكونه
قرآنا منزلا، وهم فريقان: أحدهما القائلون بأنه كان وصفا للملائكة، فلما ظن المشركون
أنه وصف آلهتهم، رفع ونهى عن تلاوته. وثانيهما القائلون إنه خارج على وجه
الاستفهام بمعنى الانكار، فتوهم سامعوه أنه بمعنى التحقيق، فنسخه الله تعالى ونهى
عن تلاوته.
ومنهم من قال: ليس بقرآن منزل، بل هو كلام تكلم به رسول الله صلى الله عليه
وآله من قبل نفسه على طريق الانكار والهزء بقريش، فظنوا أنه يريد التحقيق،
فنسخه الله بأن بين خطأ ظنهم، وهذا معنى قوله: (وما أرسلنا من قبلك من رسول
ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم
يحكم الله آياته) (2). قالوا: فإلقاء الشيطان هاهنا هو إلقاء الشبهة في قلوب المشركين،
وإنما أضافه إلى أمنيته، وهي تلاوته القرآن، لان بغرور الشيطان ووسوسته أضاف المشركون
إلى تلاوته عليه السلام ما لم يرده بها.
وأنكر أصحابنا الأخبار الواردة التي تقتضي الطعن على الرسول صلى الله عليه وآله،
قالوا: وكيف يجوز أن تصدق هذه الأخبار الآحاد على من قد قال الله تعالى له: (كذلك
لنثبت به فؤادك) (3) وقال له: (سنقرئك فلا تنسى) (4) وقال عنه: (ولو تقول

(1) رواه مسلم في كتاب الفضائل 4: 1836 بسنده عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم
يلقحون النخل، فقال: " لو لم يفعلوا لصلح " قال: فخرج شيصا (وهو البسر الردئ)، فمر بهم فقال:
ما لنخلكم؟ قالوا: قلت كذا وكذا! قال: " أنتم أعلم بأمر دنياكم ".
(2) سورة الحج 52
(3) سورة الفرقان 32
(4) سورة الأعلى 6
20

علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين. ثم لقطعنا منه الوتين) (1). وأما
خبر ذي اليدين وخبر تأبير النخل، فقد تكلمنا عليهما في كتبنا المصنفة في أصول الفقه.
* * *
الأصل:
وقدر الأرزاق فكثرها وقللها، وقسمها على الضيق والسعة، فعدل فيها ليبتلي
من أراد بميسورها ومعسورها، وليختبر بذلك الشكر والصبر من غنيها وفقيرها.
ثم قرن بسعتها عقابيل فاقتها، وبسلامتها طوارق آفاتها، وبفرج أفراحها غصص
أتراحها. وخلق الآجال فأطالها وقصرها، وقدمها وأخرها، ووصل بالموت أسبابها،
وجعله خالجا لأشطانها، وقاطعا لمرائر أقرانها.
* * *
الشرح:
الضيق والضيق: لغتان، فأما المصدر من " ضاق " فالضيق بالكسر، لا غير.
وعدل فيها: من التعديل وهو التقويم، وروى: " فعدل "، بالتخفيف، من العدل
نقيض الظلم.
والميسور والمعسور: مصدران. وقال سيبويه: هما صفتان، ولا يجئ عنده المصدر
على وزن " مفعول " البتة، ويتأول قولهم: " دعه إلى ميسوره " ويقول كأنه قال: دعه إلى
أمر يوسر فيه، وكذلك يتأول " المعقول " أيضا، فيقول كأنه عقل له شئ، أي حبس
وأيد وسدد.
ومعنى قوله عليه السلام: " ليبتلى من أراد بميسورها ومعسورها "، هو معنى قول
النبي صلى الله عليه وآله: " إن إعطاء هذا المال فتنة، وإمساكه فتنة ".

(1) سورة الحاقة 45، 47
21

والعقابيل في الأصل: الحلا، وهو قروح صغار تخرج بالشفة من بقايا المرض.
والفاقة: الفقر.
وطوارق الآفات: متجددات المصائب، وأصل الطروق ما يأتي ليلا.
والأتراح: الغموم، الواحد ترح، وترحه تتريحا، أي حزنه.
وخالجا: جاذبا، والخلج الجذب، خلجه يخلجه بالكسر، واختلجه، ومنه الخليج
الحبل لأنه يجتذب به، وسمى خليج البحر خليجا، لأنه يجذب من معظم البحر.
والأشطان: الجبال، واحدها شطن، وشطنت الفرس أشطنه، إذا
شددته بالشطن.
والقرائن: الحبال، جمع قرن، وهو من شواذ الجموع، قال الشاعر:
أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه أنى لدى الباب كالمشدود في قرن (1)
ومرائر القرائن: جمع مرير، وهو ما لطف وطال منها واشتد فتله، وهذا الكلام
من باب الاستعارة
* * *
الأصل:
عالم السر من ضمائر المضمرين ونجوى المتخافتين، وخواطر رجم الظنون، وعقد
عزيمات اليقين، ومسارق إيماض الجفون، وما ضمنته أكنان القلوب، وغيابات
الغيوب، وما أصغت لاستراقه مصائخ الاسماع، ومصائف الذر، ومشاتي الهوام
ورجع الحنين من المولهات، وهمس الاقدام، ومنفسح الثمرة من ولائج غلف
الأكمام، ومنقمع الوحوش من غيران الجبال وأوديتها، ومختبأ البعوض بين سوق

(1) اللسان 17: 215 من غير نسبة، وروايته: " أبلغ أبا سمع ".
22

الأشجار وألحيتها، ومغرز الأوراق من الأفنان، ومحط الأمشاج من مسارب
الأصلاب، وناشئة الغيوم ومتلاحمها، ودرور قطر السحاب في متراكمها، وما تسفى
الأعاصير بذيولها، وتعفو الأمطار بسيولها، وعوم بنات الأرض في كثبان الرمال،
ومستقر ذوات الأجنحة بذرا شناخيب الجبال، وتغريد ذوات المنطق في دياجير
الأوكار، وما أو عبته الأصداف، وحضنت عليه أمواج البحار، وما غشيته
سدفة ليل، أو ذر عليه شارق نهار، وما اعتقبت عليه أطباق الدياجير، وسبحات
النور، وأثر كل خطوة، وحس كل حركة، ورجع كل كلمة، وتحريك كل
شفة، ومستقر كل نسمة، ومثقال كل ذرة، وهماهم كل نفس هامة، وما عليها من
ثمر شجرة، أو ساقط ورقة، أو قرارة نطفة، أو نقاعة دم ومضغة، أو ناشئة خلق
وسلالة، لم يلحقه في ذلك كلفة، ولا اعترضته في حفظ ما ابتدع من خلقه عارضة،
ولا اعتورته في تنفيذ الأمور وتدابير المخلوقين ملالة ولا فترة، بل نفذهم علمه،
وأحصاهم عدده، ووسعهم عدله، وغمرهم فضله، مع تقصيرهم عن كنه ما هو أهله.
* * *
الشرح:
لو سمع النضر بن كنانة هذا الكلام لقال لقائله ما قاله علي بن العباس بن جريح،
لإسماعيل بن بلبل:
قالوا أبو الصقر من شيبان قلت لهم * كلا، ولكن لعمري منه شيبان (1)
وكم أب قد علا بابن ذرا شرف * كما علا برسول الله عدنان
إذ كان يفخر به على عدنان وقحطان، بل كان يقر به عين أبيه إبراهيم خليل الرحمن،

(1) ديوانه الورقة 273 (مخطوطة دار الكتب، رقم 139 - أدب).
23

ويقول له: إنه لم يعف ما شيدت من معالم التوحيد، بل أخرج الله تعالى لك من ظهري
ولدا ابتدع من علوم التوحيد في جاهلية العرب ما لم تبتدعه أنت في جاهلية النبط. بل
لو سمع هذا الكلام أرسطو طاليس، القائل بأنه تعالى لا يعلم الجزئيات، لخشع قلبه وقف
شعره، واضطرب فكره، ألا ترى ما عليه من الرواء والمهابة، والعظمة والفخامة، والمتانة
والجزالة! مع ما قد أشرب من الحلاوة والطلاوة واللطف والسلاسة، لا أرى كلاما يشبه هذا
إلا أن يكون كلام الخالق سبحانه، فإن هذا الكلام نبعة من تلك الشجرة، وجدول
من ذلك البحر، وجذوة من تلك النار، وكأنه شرح قوله تعالى: (وعنده مفاتح الغيب
لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في
ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) (1).
* * *
ثم نعود إلى التفسير فنقول:
النجوى: المسارة، تقول: انتجى القوم وتناجوا، أي تساروا، وانتجيت زيدا إذا
خصصته بمناجاتك، ومنه الحديث، أنه صلى الله عليه وآله أطال النجوى مع علي عليه
السلام، فقال قوم: لقد أطال اليوم نجوى ابن عمه، فبلغه ذلك فقال: " إني ما انتجيته،
ولكن الله انتجاه ". ويقال للسر نفسه النجو، يقال: نجوته نجوا أي ساررته، وكذلك
ناجيته مناجاة، وسمى ذلك الامر المخصوص نجوى لأنه يستسر به، فأما قوله تعالى:
(وإذ هم نجوى) فجعلهم هم النجوى، وإنما النجوى فعلهم، فإنما هو كقولك: " قوم
رضا " وإنما الرضا، فعلهم، ويقال للذي تساره: النجي على " فعيل "، وجمعه أنجية،
قال الشاعر:

(1) سورة الأنعام.
24

* إني إذا ما القوم كانوا أنجية (1) *
وقد يكون النجي جماعة، مثل الصديق، قال الله تعالى: (خلصوا نجيا) (2)،
وقال الفراء: قد يكون النجي والنجوى اسما ومصدرا.
والمتخافتين: الذين يسرون المنطق، وهي المخافتة والتخافت والخفت، قال الشاعر:
أخاطب جهرا إذ لهن تخافت * وشتان بين الجهر والمنطق الخفت (3)
ورجم الظنون: القول بالظن، قال سبحانه: (رجما بالغيب)، ومنه " الحديث
المرجم " بالتشديد، وهو الذي لا يدرى أحق هو أم باطل، ويقال صار رجما، أي
لا يوقف على حقيقة أمره.
وعقد عزيمات اليقين، العزائم: التي يعقد القلب عليها وتطمئن النفس إليها.
ومسارق إيماض الجفون: ما تسترقه الابصار حين تومض، يقال: أومض البصر والبرق
إيماضا إذا لمع لمعا خفيفا، ويجوز: ومض بغير همز، يمض ومضا ووميضا وومضانا. وأكنان
القلوب: غلفها، والكن: الستر، والجمع أكنان، قال تعالى: (جعل لكم من الجبال
أكنانا) (4) ويروى: " أكنة القلوب " وهي الأغطية أيضا، قال تعالى: (وجعلنا
على قلوبهم أكنة) (5)، والواحد كنان، قال عمر بن أبي ربيعة:

(1) اللسان 20: 179، ونسبه إلى سحيم بن وثيل اليربوعي، وبعده:
واضطرب القوم اضطراب الأرشيه * هناك أوصيني ولا توصي بيه
(2) سورة يوسف 80
(3) اللسان 2: 335 من غير نسبة.
(4) سورة النحل 81
(5) سورة الأنعام 25
25

تحت عين كناننا ظل برد مرحل (1)
ويعني بالذي ضمنته أكنان القلوب الضمائر.
وغيابات الغيوب: جمع غيابة، وهي قعر البئر في الأصل، ثم نقلت إلى كل غامض
خفى، مثل غيابة، وقد روى: " غبابات " بالباء.
وأصغت: تسمعت ومالت نحوه. ولاستراقه: لاستماعه في خفية، قال تعالى:
(إلا من استرق السمع) (2)
ومصائخ الاسماع: خروقها التي يصيخ بها، أي يتسمع.
ومصائف الذر: المواضع التي يصيف الذر فيها، أي يقيم الصيف، يقال: صاف بالمكان
واصطاف بمعنى، والموضع مصيف ومصطاف.
والذر: جمع ذرة وهي أصغر النمل.
ومشاتي الهوام: المواضع التي تشتو الهوام بها، يقال: شتوت بموضع كذا وتشتيت،
أي أقمت به الشتاء.
والهوام: جمع هامة، ولا يقع هذا الاسم إلا على المخوف من الأحناش.

(1) اللسان 17: 243، ذكر قبله:
هاج ذا القلب منزل * دارس العهد محول
أينا بات ليلة * بين غصنين يؤبل
قال ابن بري: صواب إنشاده:
* برد عصب مرحل *
وأنشده ابن دريد:
تحت ظل كناننا * ظل برد مرحل
(2) سورة الحجر 18
26

ورجع الحنين: ترجيعه وترديده، والمولهات: النوق والنساء اللواتي حيل بينهن
وبين أولادهن.
وهمس الاقدام: صوت وطئها خفيا جدا، قال تعالى: (فلا تسمع إلا همسا) (1)
ومنه قول الراجز.
* فهن يمشين بنا هميسا (2) *
والأسد الهموس: الخفي الوطئ.
ومنفسح الثمرة، أي موضع سعتها من الأكمام، وقد روى: " متفسخ " بالخاء
المعجمة وتشديد السين وبتاء بعد الميم، مصدرا من تفسخت الثمرة، إذا انقطعت.
والولائج: المواضع الساترة، والواحدة وليجة، وهو كالكهف يستتر فيه المارة من مطر
أو غيره، ويقال أيضا في جمعه: ولج وأولاج.
ومتقمع الوحوش: موضع تقمعها واستتارها، وسمى قمعة (3) بن إلياس بن مضر بذلك،
لأنه انقمع في بيته كما زعموا.
وغيران الجبال: جمع غار، وهو كالكهف في الجبل، والمغار مثل الغار
والمغارة مثله.
ومختبأ البعوض: موضع اختبائها واستتارها، وسوق الأشجار: جمع ساق. وألحيتها
جمع لحاء وهو القشر.
ومغرز الأوراق: موضع غرزها فيها.

(1) سورة طه 108
(2) اللسان 8: 136 من غير نسبة.
(3) قمعة، بفتح القاف والميم، قال صاحب اللسان: " كان اسمه عميرا فأغير على إبل أبيه فانقمع في
البيت فرقا، فسماه أبوه قمعة، وخرج أخوه مدركة بن إلياس لبقاء إبل أبيه، فأدركها وقعد الأخ الثالث
يطبخ القدر، فسمى طابخة ".
27

والأفنان: جمع فنن، والغصن، والأمشاج: ماء الرجل يختلط بماء المرأة ودمها،
جمع مشيج، كيتيم وأيتام. ومحطها: إما مصدر أو مكان.
ومسارب الأصلاب: المواضع التي يتسرب المنى فيها من الصلب، أي يسيل.
وناشئة الغيوم: أول ما ينشأ منها، وهو النشئ أيضا، وناشئة الليل في قوله تعالى:
(إن ناشئة الليل هي أشد وطأ) (1) أول ساعاته، ويقال: هي ما ينشأ في الليل من
الطاعات. ومتلاحمها، ما يلتصق منها بعضها ببعض ويلتحم.
ودرور قطر السحائب: مصدر، من در يدر، أي سال، وناقة درور: أي كثيرة اللبن،
وسحاب درور: أي كثير المطر، ويقال: إن لهذا السحاب لدرة، أي. صبا، والجمع
درور. متراكمها: المجتمع المتكاثف منها، ركمت الشئ أركمه بالضم: جمعته
وألقيت بعضه على بعض، ورمل ركام: وسحاب ركام، أي مجتمع.
والأعاصير: جمع إعصار، وهي ريح تثير الغبار فيرتفع إلى السماء كالعمود. وقال تعالى:
(فأصابها إعصار فيه نار) (2).
وتسفى، من سفت الريح التراب سفيا، إذا أذرته فهو سفى. وذيولها هاهنا: يريد به
أطرافها وما لاحف الأرض منها.
وما تعفو الأمطار: أي ما تدرس، عفت الريح المنزل أي درسته، وعفا المنزل نفسه
يعفو: درس، يتعدى ولا يتعدى.
وبنات الأرض: الهوام والحشرات التي تكون في الرمال، وعومها فيها: سباحتها،
ويقال لسير السفينة وسير الإبل أيضا: عوم، عمت في الماء، بضم أوله أعوم.

(1) سورة المزمل 6
(2) سورة البقرة 266
28

وكثبان الرمال: جمع كثيب وهو ما انصب من الرمل واجتمع في مكان واحد فصار تلا،
وكثبت الشئ أكثبه كثبا، إذا جمعته، وانكثب الرمل: اجتمع.
وشناخيب الجبال: رؤوسها واحدها شنخوب. وذراها: أعاليها جمع ذروة وذروة،
بالكسر والضم.
والتغريد: التطريب بالغناء، والتغرد مثله، وكذلك الغرد بفتحهما، ويقال: غرد
الطائر فهو غرد، إذا طرب بصوته.
وذوات المنطق هاهنا: الأطيار، وسمى صوتها منطقا وإن كان لا يطلق إلا على ألفاظ
البشر مجازا.
ودياجير: جمع ديجور، وهو الظلام. والأوكار: جمع وكر، وهو عش الطائر،
ويجمع أيضا على وكور، ووكر الطائر يكر وكرا، أي دخل وكره.
وقوله: " وما أو عبته الأصداف "، أي من اللؤلؤ. وحضنت عليه أمواج البحار:
أي ما ضمته كما تحضن الأنثى من الطير بيضها، وهو ما يكون في لجة، إما من سمك أو خشب
أو ما يحمله البحر من العنبر كالجماجم بين الأمواج وغير ذلك.
وسدفة الليل: ظلمته، وجاء بالفتح. وقيل: السدفة اختلاط الضوء والظلمة معا
كوقت ما بين طلوع الفجر إلى الاسفار.
وغشيته: غطته. وذر عليه شارق نهار، أي ما طلعت عليه الشمس، وذرت الشمس
تذر بالضم، ذرورا: طلعت، وذر البقل، إذا طلع من الأرض.
وشرقت الشمس: طلعت، وأشرقت بالهمزة إذا أضاءت وصفت.
واعتقبت: تعاقبت. وأطباق الدياجير: أطباق الظلم. وأطباقها: جمع طبقة أي
29

أغطيتها أطبقت الشئ أي غطيته، وجعلته مطبقا، وقد تطبق هو، ومنه قولهم: لو تطبقت
السماء عل الأرض لما فعلت كذا. وسبحات النور: عطف على أطباق الدياجير، أي يعلم
سبحانه ما تعاقب عليه الظلام والضياء. وسبحات هاهنا، ليس يعنى به ما يعنى بقوله: " سبحان
وجه ربنا "، لأنه هناك بمعنى ما يسبح عليه النور، أي يجرى من سبح الفرس وهو جريه،
ويقال: فرس سابح.
والخطوة ما بين القدمين، بالضم وخطوت خطوة بالفتح، لأنه المصدر.
ورجع كل كلمة: ما ترجع به من الكلام إلى نفسك وتردده في فكرك.
والنسمة الانسان نفسه، وجمعها نسم، ومثقال كل ذرة: أي وزن كل ذره ومما
يخطئ فيه العامة قولهم للدينار: مثقال، وإنما المثقال وزن كل شئ قال تعالى: (إن الله لا
يظلم مثقال ذرة) (1).
وهماهم كل نفس هامة، الهماهم: جمع همهمة، وهي ترديد الصوت في الصدر، وحمار
همهيم: يهمهم في صوته، وهمهمت المرأة في رأس الصبي، وذلك إذا نومته بصوت ترققه
له. والنفس الهامة: ذات الهمة التي تعزم على الامر.
قوله: " وما عليها " أي ما على الأرض، فجاء بالضمير ولم يسبق ذكر صاحبه، اعتمادا
على فهم المخاطب، كما قال تعالى: (كل من عليها فان) (2).
وقرارة النطفة: ما يستقر فيه الماء من الأماكن، قال الشاعر:
وأنتم قرارة كل معدن سوءة * ولكل سائلة تسيل قرار
والنطفة: الماء نفسه، ومنه قوله عليه السلام في الخوارج: إن مصارعهم النطفة، أي
لا يعبرون النهر، ويجوز أن يريد بالنطفة المنى، ويقويه ما ذكره بعده من المضغة.

(1) سورة النساء 40
(2) سورة الرحمن 26
30

والنقاعة: نقرة يجتمع فيها الدم، ومثله أنقوعة، ويقال لوقبة الثريد أنقوعة.
والمضغة: قطعة اللحم. والسلالة في الأصل: ما استل من الشئ، وسميت النطفة سلالة
الانسان، لأنها استلت منه، وكذلك الولد.
والكلفة: المشقة، واعتورته مثل عرته. ونفذهم علمه، تشبيه بنفوذ السهم، وعدى
الفعل بنفسه وإن كان معدى في الأصل بحرف الجر، كقولك: اخترت الرجال زيدا،
أي من الرجال، كأنه جعل علمه تعالى خارقا لهم ونافذا فيهم. ويروى: " وأحصاهم
عده "، بالتضعيف.
* * *
الأصل: اللهم أنت أهل الوصف الجميل، والتعداد الكثير، أن تؤمل فخير مأمول،
وإن ترج فخير مرجو. اللهم فقد بسطت لي فيما لا أمدح به غيرك، ولا أثنى
به على أحد سواك، ولا أوجهه إلى معادن الخيبة ومواضع الريبة، وعدلت
بلساني عن مدائح الآدميين والثناء على المربوبين المخلوقين. اللهم ولكل مثن
على من أثنى عليه مثوبة من جزاء، أو عارفة من عطاء، وقد رجوتك دليلا على
ذخائر الرحمة وكنوز المغفرة. اللهم، وهذا مقام من أفردك بالتوحيد الذي هو لك، ولم يرد مستحقا لهذه
المحامد والممادح غيرك، وبي فاقة إليك لا يجبر مسكنتها إلا فضلك، ولا ينعش
من خلتها إلا منك وجودك، فهب لنا في هذا المقام رضاك، واغننا عن مد الأيدي
إلى سواك، إنك على كل شئ قدير!
* * *
31

الشرح: التعداد: مصدر. وخير: خبر مبتدأ محذوف، تقديره: فأنت خير مأمول.
ومعنى قوله: " قد بسطت لي "، أي قد آتيتني لسنا وفصاحة وسعة منطق، فلا أمدح
غيرك، ولا أحمد سواك.
ويعنى بمعادن الخيبة البشر، لان مادحهم ومؤملهم يخيب في الأكثر، وجعلهم
مواضع الريبة، لأنهم لا يوثق بهم في حال.
ومعنى قوله عليه السلام: " وقد رجوتك دليلا على ذخائر الرحمة وكنوز المغفرة " أنه
راج منه أن يدله على الأعمال التي ترضيه سبحانه، ويستوجب بها منه الرحمة والمغفرة،
وكأنه جعل تلك الأعمال التي يرجو أن يدل عليها ذخائر للرحمة وكنوزا.
والفاقة: الفقر، وكذلك المسكنة.
وينعش، بالفتح: يرفع، والماضي نعش ومنه النعش لارتفاعه.
والمن: العطاء والنعمة، والمنان من أسماء الله سبحانه.
32

(91) الأصل:
ومن كلام له عليه السلام لما أراده الناس على البيعة بعد قتل عثمان رضي الله عنه
دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمرا له وجوه وألوان، لا تقوم له
القلوب، ولا تثبت عليه العقول. وإن الآفاق قد أغامت، والمحجة قد تنكرت.
واعلموا (1) أنى إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغ إلى قول القائل، وعتب
العاتب، وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه
أمركم، وأنا لكم وزيرا، خير لكم منى أميرا!
* * *
الشرح:
في أكثر النسخ: " لما أراده الناس على البيعة "، ووجدت في بعضها: " أداره الناس
على البيعة "، فمن روى الأول جعل " على " متعلقة بمحذوف، وتقديره " موافقا "، ومن
روى الثاني جعلها متعلقة بالفعل الظاهر نفسه، وهو " أداره "، تقول: أدرت فلانا
على كذا، وداورت فلانا على كذا، أي عالجته.
ولا تقوم له القلوب، أي لا تصبر. وأغامت الآفاق: غطاها، الغيم أغامت، وغامت
وأغيمت وتغيمت (2)، كله بمعنى، والمحجة: الطريق. وتنكرت: جهلت فلم تعرف. و " وزيرا "
و " أميرا ": منصوبان على الحال.
وهذا الكلام يحمله أصحابنا على ظاهره، ويقولون: أنه عليه السلام لم يكن منصوصا

(1) كذا في ا، ج، وفى ب، مخطوطة النهج " وأعلم ".
(2) د: " وغيمت ".
33

عليه بالإمامة من جهة الرسول صلى الله عليه وآله، وإن كان أولى الناس بها وأحقهم بمنزلتها،
لأنه لو كان منصوصا عليه بالإمامة من جهة الرسول عليه الصلاة والسلام لما جاز له أن يقول:
" دعوني والتمسوا غيري "، ولا أن يقول: " ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم "، ولا أن
يقول: " وأنا لكم وزيرا خير منى لكم أميرا ". وتحمله الامامية على وجه آخر فيقولون:
إن الذين أرادوه على البيعة هم كانوا العاقدين بيعة الخلفاء من قبل، وقد كان عثمان منعهم
أو منع كثيرا منهم عن حقه من العطاء، لان بنى أمية استأصلوا الأموال في أيام عثمان،
فلما قتل قالوا لعلى عليه السلام: نبايعك على أن تسير فينا سيرة أبى بكر وعمر لأنهما
كانا لا يستأثران بالمال لأنفسهما ولا لأهلهما، فطلبوا من علي عليه السلام البيعة، على أن
يقسم عليهم بيوت الأموال قسمة أبى بكر وعمر، فاستعفاهم وسألهم أن يطلبوا غيره ممن يسير
بسيرتهما، وقال لهم كلاما تحته رمز، وهو قوله: " إنا مستقبلون أمرا له وجوه وألوان،
لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول، وإن الآفاق قد أغامت، والمحجة
قد تنكرت ".
قالوا: وهذا كلام له باطن وغور عميق، معناه الاخبار عن غيب يعلمه هو ويجهلونه هم (1)،
وهو الانذار بحرب المسلمين بعضهم لبعض، واختلاف الكلمة وظهور الفتنة.
ومعنى قوله: " له وجوه وألوان " أنه موضع شبهة وتأويل، فمن قائل يقول: أصاب
على، ومن قائل يقول: أخطأ، وكذلك القول في تصويب محاربيه من أهل الجمل وصفين
والنهروان وتخطئتهم، فإن المذاهب فيه وفيهم تشعبت وتفرقت جدا.
ومعنى قوله: الآفاق قد أغامت، والمحجة قد تنكرت " أن الشبهة قد استولت
على العقول والقلوب، وجهل أكثر الناس محجة الحق أين هي، فأنا لكم وزيرا عن رسول
الله صلى الله عليه وآله أفتى فيكم بشريعته وأحكامه خير لكم منى أميرا محجورا عليه

(1) ساقطة من ا
34

مدبرا بتدبيركم، فإني أعلم أنه لا قدرة لي أن أسير فيكم بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله
في أصحابه مستقلا بالتدبير، لفساد أحوالكم، وتعذر صلاحكم.
وقد حمل بعضهم كلامه على محمل آخر، فقال: هذا كلام مستزيد (1) شاك من أصحابه،
يقول لهم: دعوني والتمسوا غيري، على طريق الضجر (2) منهم، والتبرم بهم والتسخط
لأفعالهم، لأنهم كانوا عدلوا عنه من قبل، واختاروا عليه، فلما طلبوه بعد أجابهم
جواب المتسخط العاتب.
وحمل قوم منهم الكلام على وجه آخر، فقالوا: إنه أخرجه مخرج التهكم والسخرية،
أي أنا لكم وزيرا خير منى لكم أميرا فيما تعتقدونه، كما قال سبحانه: (ذق إنك أنت
العزيز الكريم) (3) أي تزعم لنفسك ذلك وتعتقده.
* * *
واعلم أن ما ذكروه ليس ببعيد أن يحمل الكلام عليه لو كان الدليل قد دل على ذلك،
فأما إذا لم يدل عليه، دليل فلا يجوز صرف اللفظ عن ظاهره، ونحن نتمسك بالظاهر
إلا أن تقوم دلالة على مذهبهم تصدنا عن حمل اللفظ عن ظاهره، ولو جاز أن تصرف
الألفاظ عن ظواهرها لغير دليل قاهر يصدف ويصد عنها، لم يبق وثوق بكلام الله عز وجل
وبكلام رسوله عليه الصلاة والسلام؟ وقد ذكرنا فيما تقدم كيفية الحال التي كانت بعد قتل عثمان، والبيعة العلوية كيف وقعت.
[فصل فيما كان من أمر طلحة والزبير عند قسم المال في ذلك]
ونحن نذكر هاهنا في هذه القصة ما ذكره شيخنا أبو جعفر الإسكافي (4) في كتابه

(1) مستزيد، أي مشال عاتب، وفى الأساس: " فلان يستزيد فلانا، يستقصره ويشكوه، وهو
مستزيد ".
(2) د: " المضجر ".
(3) سورة الدخان 49
(4) هو محمد بن عبد الله، أبو جعفر المعروف بالإسكافي، أحد المتكلمين من معتزلة البغداديين. قال
الخطيب في تاريخه (5: 416): له تصانيف معروفة، وكان الحسين بن علي الكرابيسي يتكلم معه
ويناظره، وبلغني أنه مات في سنة أربعين ومائتين ".
35

الذي نقض فيه كتاب " العثمانية " لشيخنا أبى عثمان، فإن الذي ذكره لم نورده نحن
فيما تقدم.
قال أبو جعفر: لما اجتمعت الصحابة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله بعد قتل
عثمان للنظر في أمر الإمامة، أشار أبو الهيثم بن التيهان، ورفاعة بن رافع، و مالك بن
العجلان، وأبو أيوب الأنصاري، وعمار بن ياسر بعلي عليه السلام، وذكروا فضله وسابقته، وجهاده وقرابته، فأجابهم الناس إليه، فقام كل واحد منهم خطيبا يذكر فضل علي عليه
السلام، فمنهم من فضله على أهل عصره خاصة، ومنهم من فضله على المسلمين كلهم كافة.
ثم بويع وصعد المنبر في اليوم الثاني من يوم البيعة، وهو يوم السبت، لإحدى عشرة ليلة
بقين من ذي الحجة، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر محمدا فصلى عليه، ثم ذكر نعمة الله
على أهل الاسلام، ثم ذكر الدنيا فزهدهم، فيها، وذكر الآخرة فرغبهم إليها، ثم قال:
أما بعد، فإنه لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله استخلف الناس أبا بكر، ثم استخلف أبو بكر
عمر، فعمل بطريقه، ثم جعلها شورى بين ستة، فأفضى الامر منهم إلى عثمان، فعمل
ما أنكرتم وعرفتم (2)، ثم حصر وقتل، ثم جئتموني طائعين فطلبتم إلى، وإنما أنا رجل
منكم لي ما لكم، وعلى ما عليكم، وقد فتح الله الباب بينكم وبين أهل القبلة، وأقبلت
الفتن كقطع الليل المظلم، ولا يحمل هذا الامر إلا أهل الصبر والبصر والعلم بمواقع الامر،
وإني حاملكم على منهج نبيكم صلى الله عليه وآله، ومنفذ فيكم ما أمرت به، إن استقمتم
لي وبالله المستعان. ألا إن موضعي من رسول الله صلى الله عليه وآله بعد وفاته كموضعي
منه أيام حياته، فامضوا لما تؤمرون به، وقفوا عندما تنهون عنه، ولا تعجلوا في أمر حتى
نبينه لكم، فإن لنا عن كل أمر تنكرونه عذرا، ألا وإن الله عالم من فوق سمائه وعرشه
أنى كنت كارها للولاية على أمة محمد، حتى اجتمع رأيكم على ذلك، لأني سمعت رسول
الله صلى الله عليه وآله يقول: " أيما وال ولى الامر من بعدي، أقيم على حد الصراط،

(1) أشاروا بفضله، أي عرفوا الناس به.
(2) د: " وعرفتم ".
36

ونشرت الملائكة صحيفته، فإن كان عادلا أنجاه الله بعدله، وإن كان جائرا انتفض به الصراط
حتى تتزايل مفاصله، ثم يهوى إلى النار، فيكون أول ما يتقيها به أنفه وحر وجهه "،
ولكني لما اجتمع رأيكم لم يسعني ترككم.
ثم التفت عليه السلام يمينا وشمالا، فقال، ألا لا يقولن رجال منكم غدا قد غمرتهم
الدنيا فاتخذوا العقار، وفجروا الأنهار، وركبوا الخيول الفارهة، واتخذوا الوصائف الروقة (1)،
فصار ذلك عليهم عارا وشنارا، إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه، وأصرتهم إلى حقوقهم
التي يعلمون، فينقمون ذلك، ويستنكرون ويقولون: حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا!
ألا وأيما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه يرى أن
الفضل له على من سواه لصحبته، فإن الفضل النير غدا عند الله، وثوابه وأجره على الله،
وأيما رجل استجاب لله وللرسول، فصدق ملتنا، ودخل في ديننا، واستقبل قبلتنا، فقد
استوجب حقوق الاسلام وحدوده، فأنتم عباد الله، والمال مال الله، يقسم بينكم بالسوية،
لا فضل فيه لأحد على أحد، وللمتقين عند الله غدا أحسن الجزاء، وأفضل الثواب،
لم يجعل الله الدنيا للمتقين أجرا ولا ثوابا، وما عند الله خير للأبرار. وإذا كان غدا إن
شاء الله فاغدوا علينا، فإن عندنا مالا نقسمه فيكم، ولا يتخلفن أحد منكم، عربي
ولا عجمي، كان من أهل العطاء أو لم يكن، إلا حضر، إذا كان مسلما حرا. أقول قولي
هذا وأستغفر الله لي ولكم، ثم نزل.
* * *
قال شيخنا أبو جعفر: وكان (2) هذا أول ما أنكروه من كلامه عليه السلام، وأورثهم
الضغن عليه، وكرهوا إعطاءه وقسمه بالسوية. فلما كان من الغد، غدا وغدا الناس لقبض
المال، فقال لعبيد الله بن أبي رافع كاتبه: ابدأ بالمهاجرين فنادهم، واعط كل رجل ممن

(1) الروقة الحسان.
(2) د: فكان.
37

حضر ثلاثة دنانير، ثم ثن بالأنصار فافعل معهم مثل ذلك، ومن يحضر من الناس كلهم،
الأحمر والأسود فاصنع به مثل ذلك.
فقال سهل بن حنيف: يا أمير المؤمنين، هذا غلامي بالأمس، وقد أعتقته اليوم،
فقال: نعطيه كما نعطيك، فأعطى كل واحد منهما ثلاثة دنانير، ولم يفضل أحدا على أحد،
وتخلف عن هذا القسم يومئذ طلحة، والزبير، وعبد الله بن عمر، وسعيد بن العاص، ومروان
ابن الحكم، ورجال من قريش وغيرها.
قال: وسمع عبيد الله بن أبي رافع عبد الله بن الزبير يقول لأبيه وطلحة ومروان وسعيد:
ما خفى علينا أمس من كلام على ما يريد، فقال سعيد بن العاص - والتفت إلى زيد بن
ثابت: إياك أعني واسمعي يا جارة، فقال عبيد الله بن أبي رافع لسعيد وعبد الله بن الزبير:
إن الله يقول في كتابه: (ولكن أكثرهم للحق كارهون) (1).
ثم إن عبيد الله بن أبي رافع أخبر عليا عليه السلام بذلك، فقال: والله إن بقيت
وسلمت لهم لأقيمنهم على المحجة البيضاء، والطريق الواضح، قاتل الله ابن العاص! لقد
عرف من كلامي ونظري إليه أمس أنى أريده وأصحابه ممن هلك فيمن هلك.
قال: فبينا الناس في المسجد بعد الصبح إذ طلع الزبير وطلحة، فجلسا ناحية عن علي
عليه السلام، ثم طلع مروان وسعيد وعبد الله بن الزبير، فجلسوا إليهما، ثم جاء قوم من
قريش، فانضموا إليهم، فتحدثوا نجيا ساعة، ثم قام الوليد بن عقبة بن أبي معيط، فجاء إلى
علي عليه السلام، فقال: يا أبا الحسن، إنك قد وترتنا جميعا، أما أنا فقتلت أبى يوم بدر
صبرا، وخذلت أخي يوم الدار بالأمس، وأما سعيد فقتلت أباه يوم بدر في الحرب
- وكان ثور قريش - وأما مروان فسخفت أباه عند عثمان إذ ضمه إليه، ونحن إخوتك

(1) سورة الزخرف 43
38

ونظراؤك من بنى عبد مناف، ونحن نبايعك اليوم على أن تضع عنا ما أصبناه من المال في
أيام عثمان، وأن تقتل قتلته، وإنا إن خفناك تركناك، فالتحقنا بالشام.
فقال: أما ما ذكرتم من وترى إياكم فالحق وتركم، وأما وضعي عنكم ما أصبتم
فليس لي أن أضع حق الله عنكم ولا عن غيركم، وأما قتلى قتلة عثمان فلو لزمني قتلهم اليوم
لقتلتهم أمس، ولكن لكم على إن خفتموني أن أؤمنكم وإن خفتكم أن أسيركم.
فقام الوليد إلى أصحابه فحدثهم، وافترقوا على إظهار العداوة وإشاعة الخلاف فلما
ظهر ذلك من أمرهم، قال عمار بن ياسر لأصحابه: قوموا بنا إلى هؤلاء النفر من إخوانكم،
فإنه قد بلغنا عنهم ورأينا منهم ما نكره من الخلاف، والطعن على إمامهم، وقد دخل أهل
الجفاء بينهم وبين الزبير والأعسر العاق - يعنى طلحة.
فقام أبو الهيثم وعمار وأبو أيوب وسهل بن حنيف وجماعة معهم، فدخلوا على علي عليه
السلام، فقالوا: يا أمير المؤمنين، انظر في أمرك، وعاتب قومك، هذا الحي من قريش فإنهم
قد نقضوا عهدك، وأخلفوا وعدك، وقد دعونا في السر إلى رفضك، هداك الله لرشدك!
وذاك لأنهم كرهوا الأسوة، وفقدوا الأثرة ولما آسيت بينهم وبين الأعاجم أنكروا
واستشاروا عدوك وعظموه، وأظهروا الطلب بدم عثمان فرقة للجماعة وتألفا لأهل
الضلالة. فرأيك!
فخرج علي عليه السلام، فدخل المسجد، وصعد المنبر مرتديا بطاق، مؤتزرا ببرد
قطري، متقلدا سيفا، متوكئا على قوس، فقال:
أما بعد، فإنا نحمد الله ربنا وإلهنا وولينا، وولى النعم علينا، الذي أصبحت نعمه علينا
ظاهرة وباطنة، امتنانا منه بغير حول منا ولا قوة، ليبلونا أنشكر أم نكفر، فمن شكر زاده
ومن كفر عذبه، فأفضل الناس عند الله منزلة، وأقربهم من الله وسيلة، أطوعهم لامره،
39

وأعملهم بطاعته، وأتبعهم لسنة رسوله، وأحياهم لكتابه، ليس لأحد عندنا فضل إلا بطاعة
الله وطاعة الرسول. هذا كتاب الله بين أظهرنا، وعهد رسول الله وسيرته فينا، لا يجهل
ذلك إلا جاهل عاند عن الحق، منكر، قال الله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من
ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (1).
ثم صاح بأعلى صوته أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، فإن توليتم فإن الله لا يحب
الكافرين.
ثم قال: يا معشر المهاجرين والأنصار: أتمنون على الله ورسوله بإسلامكم، بل الله
يمن عليكم أن هداكم للايمان إن كنتم صادقين.
ثم قال: أنا أبو الحسن - وكان يقولها إذا غضب - ثم قال: ألا إن هذه الدنيا التي
أصبحتم تمنونها وترغبون فيها، وأصبحت تغضبكم وترضيكم، ليست بداركم ولا منزلكم
الذي خلقتم له، فلا تغرنكم فقد حذرتموها، واستتموا نعم الله عليكم بالصبر لأنفسكم على
طاعة الله، والذل لحكمه، جل ثناؤه، فأما هذا الفئ فليس لأحد على أحد فيه أثرة،
وقد فرغ الله من قسمته، فهو مال الله، وأنتم عباد الله المسلمون، وهذا كتاب الله به أقررنا
وله أسلمنا، وعهد نبينا بين أظهرنا فمن لم يرض به فليتول كيف شاء فإن العامل بطاعة
الله والحاكم بحكم الله لا وحشة عليه.
ثم نزل عن المنبر، فصلى ركعتين، ثم بعث بعمار بن ياسر، وعبد الرحمن بن حنبل
القرشي إلى طلحة والزبير، وهما في ناحية المسجد فأتياهما فدعواهما، فقاما حتى جلسا إليه
عليه السلام، فقال لهما: نشدتكما الله، هل جئتماني طائعين للبيعة، ودعوتماني إليها، وأنا
كاره لها! قالا: نعم فقال: غير مجبرين ولا مقسورين، فأسلمت ما لي بيعتكما وأعطيتماني عهدكما!

(1) سورة الحجرات 13.
40

قالا: نعم، قال فما دعاكما بعد إلى ما أرى، قالا: أعطيناك بيعتنا على ألا تقضى
الأمور لا تقطعها دوننا، وأن تستشيرنا في كل أمر ولا تستبد بذلك علينا، ولنا من الفضل
على غيرنا ما قد علمت، فأنت تقسم القسم وتقطع الامر، وتمضي الحكم بغير مشاورتنا
ولا علمنا.
فقال: لقد نقمتما يسيرا، وأرجأتما كثيرا، فاستغفرا الله يغفر لكما. ألا تخبرانني، أدفعتكما
عن حق وجب لكما فظلمتكما إياه؟ قالا: معاذ الله! قال: فهل استأثرت من هذا المال
لنفسي بشئ؟ قالا: معاذ الله! قال: أفوقع حكم أو حق لأحد من المسلمين فجهلته أو ضعفت
عنه؟ قالا: معاذ الله! قال: فما الذي كرهتما من أمري حتى رأيتما خلافي؟ قالا: خلافك
عمر بن الخطاب في القسم، أنك جعلت حقنا في القسم كحق غيرنا، وسويت بيننا وبين
من لا يماثلنا فيما أفاء الله تعالى علينا بأسيافنا ورماحنا وأوجفنا (1) عليه بخيلنا ورجلنا، وظهرت
عليه دعوتنا، وأخذناه قسرا قهرا، ممن لا يرى الاسلام إلا كرها. فقال: فأما ما ذكرتماه من
الاستشارة بكما فوالله ما كانت لي في الولاية رغبة، ولكنكم دعوتموني إليها، وجعلتموني
عليها، فخفت أن أردكم فتختلف الأمة، فلما أفضت إلى نظرت في كتاب الله وسنة رسوله
فأمضيت ما دلاني عليه وأتبعته، ولم أحتج إلى آرائكما فيه، ولا رأى غيركما، ولو وقع حكم
ليس في كتاب الله بيانه ولا في السنة برهانه، واحتيج إلى المشاورة فيه لشاورتكما فيه،
وأما القسم والأسوة، فإن ذلك أمر لم أحكم فيه بادئ بدء! قد وجدت أنا وأنتما رسول الله
صلى الله عليه وآله يحكم بذلك، وكتاب الله ناطق به، وهو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل
من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. وأما قولكما: جعلت فيئنا وما أفاءته
سيوفنا ورماحنا، سواء بيننا وبين غيرنا، فقديما سبق إلى الاسلام قوم ونصروه بسيوفهم
ورماحهم، فلم يفضلهم رسول الله صلى الله عليه وآله في القسم، ولا آثرهم بالسبق، والله

(1) ما أوجفنا: ما أعملنا.
41

سبحانه موف السابق والمجاهد يوم القيامة أعمالهم، وليس لكما والله عندي ولا لغير كما ألا هذا،
أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم إلى الحق، وألهمنا وإياكم الصبر. ثم قال: رحم الله امرأ رأى
حقا فأعان عليه، ورأي جورا فرده، وكان عونا للحق على من خالفه.
* * *
قال شيخنا أبو جعفر: وقد روى أنهما قالا له وقت البيعة: نبايعك على أنا شركاؤك
في هذا الامر، فقال لهما: لا، ولكنكما شريكاي في الفئ، لا أستأثر عليكما ولا على
عبد حبشي مجدع بدرهم فما دونه، لا أنا ولا ولداي هذان، فإن أبيتما إلا لفظ الشركة،
فأنما عونان لي عند العجز والفاقة، لا عند القوة والاستقامة.
قال أبو جعفر: فاشترطا ما لا يجوز في عقد الأمانة، وشرط عليه السلام لهما ما يجب
في الدين والشريعة.
قال رحمه الله تعالى: وقد روى أيضا أن الزبير قال في ملا من الناس: هذا جزاؤنا من
على! قمنا له في أمر عثمان حتى قتل، فلما بلغ بنا ما أراد جعل فوقنا من كنا فوقه.
وقال طلحة: ما اللوم إلا علينا، كنا معه أهل الشورى ثلاثة، فكرهه أحدنا - يعنى
سعدا - وبايعناه، فأعطيناه ما في أيدينا، ومنعنا ما في يده، فأصبحنا قد أخطأنا اليوم
ما رجوناه أمس، ولا نرجو غدا ما أخطأنا اليوم.
* * *
فإن قلت: فإن أبا بكر قسم بالسواء، كما قسمه أمير المؤمنين عليه السلام، ولم ينكروا
ذلك، كما أنكروه أيام أمير المؤمنين عليه السلام، فما الفرق بين الحالتين؟
قلت: إن أبا بكر قسم محتذيا لقسم (1) رسول الله صلى الله عليه وآله، فلما ولى عمر
الخلافة، وفضل قوما على قوم ألفوا ذلك، ونسوا تلك القسمة الأولى، وطالت أيام عمر،

(1) د: " محتذيا بالقسم رسول الله ".
42

وأشربت قلوبهم حب المال، وكثرة العطاء. وأما الذين اهتضموا فقنعوا ومرنوا على
القناعة، ولم يخطر لأحد من الفريقين له أن هذه الحال تنتقض أو تتغير بوجه ما، فلما
ولى عثمان أجرى الامر على ما كان عمر يجريه، فازداد وثوق القوم بذلك، ومن ألف
أمرا أشق عليه، فراقه، وتغيير العادة فيه، فلما ولى أمير المؤمنين عليه السلام أراد أن يرد
الامر إلى ما كان في أيام رسول الله صلى الله عليه وآله وأبى بكر، وقد نسي ذلك ورفض،
وتخلل بين الزمانين اثنتان وعشرون سنة، فشق ذلك عليهم، وأنكروه وأكبروه، حتى
حدث ما حدث من نقض البيعة، ومفارقة الطاعة، ولله أمر هو بالغه!
43

(92) ومن خطبة له عليه السلام:
الأصل:
أما بعد حمد الله، والثناء عليه، أيها الناس، فإني فقأت عين الفتنة، ولم
يكن ليجترئ عليها أحد غيري بعد أن ماج غيهبها، واشتد كلبها.
فاسألوني قبل أن تفقدوني، فوالذي نفسي بيده لا تسألونني عن شئ فيما
بينكم وبين الساعة، ولا عن فئة تهدى مائة وتضل مائة إلا أنبأتكم (1) بناعقها
وقائدها وسائقها، ومناخ ركابها، ومحط رحالها، ومن يقتل من أهلها قتلا، ومن
يموت منهم موتا.
ولو قد فقدتموني ونزلت بكم كرائه الأمور، وحوازب الخطوب، لأطرق
كثير من السائلين، وفشل كثير من المسؤولين، وذلك إذا قلصت حربكم،
وشمرت عن ساق، وكانت الدنيا عليكم ضيقا، تستطيلون أيام البلاء عليكم،
حتى يفتح الله لبقية الأبرار منكم.
إن الفتن إذا أقبلت شبهت، وإذا أدبرت نبهت، ينكرن مقبلات، ويعرفن
مدبرات، يحمن حوم الرياح يصبن بلدا، ويخطئن بلد.
ألا وإن أخوف الفتن عندي عليكم فتنة بنى أمية، فإنها فتنة عمياء مظلمة
عمت خطتها، وخصت بليتها، وأصاب البلاء من أبصر فيها، وأخطأ البلاء من
عمى عنها.
وأيم الله لتجدن بنى أمية لكم أرباب سوء بعدي كالناب الضروس، تعذم

(1) مخطوطة النهج: " نبأتكم ".
44

بفيها، وتخبط بيدها، وتزبن برجلها، وتمنع درها، لا يزالون بكم حتى لا
يتركوا منكم إلا نافعا لهم، أو غير ضائر بهم.
ولا يزال بلاؤهم عنكم حتى لا يكون انتصار أحدكم منهم إلا كانتصار
العبد من ربه، والصاحب من مستصحبه، ترد عليكم فتنتهم شوهاء مخشية،
وقطعا جاهلية، ليس فيها منار هدى، ولا علم يرى، نحن أهل البيت منها بمنجاة،
ولسنا فيها بدعاة، ثم يفرجها الله عنكم كتفريج الأديم، بمن يسومهم خسفا،
ويسوقهم عنفا، ويسقيهم بكأس مصبرة لا يعطيهم إلا السيف، ولا يحلسهم إلا
الخوف، فعند ذلك تود قريش بالدنيا وما فيها لو يرونني مقاما واحدا، ولو قدر
جزر جزور لأقبل منهم ما أطلب اليوم بعضه فلا يعطوننيه.
* * *
الشرح:
فقأت عينه، أي بخقتها، وتفقأت السحابة عن مائها: تشققت، وتفقأ الدمل والقرح،
ومعنى فقئه عليه السلام عين الفتنة، إقدامه عليها حتى أطفأ نارها، كأنه جعل للفتنة عينا
محدقة يهابها الناس، فأقدم هو عليها، ففقأ عينها، فسكنت بعد حركتها وهيجانها.
وهذا من باب الاستعارة، وإنما قال: " ولم يكن ليجترئ عليها أحد غيري "، لان
الناس كلهم كانوا يهابون قتال أهل القبلة، ولا يعلمون كيف يقاتلونهم، هل يتبعون موليهم
أم لا؟ وهل يجهزون على جريحهم أم لا! وهل يقسمون فيئهم أم لا! وكانوا يستعظمون
قتال من يؤذن كأذاننا، ويصلى كصلاتنا، واستعظموا أيضا حرب عائشة وحرب طلحة
والزبير، لمكانهم في الاسلام، وتوقف جماعتهم عن الدخول في تلك الحرب، كالأحنف
ابن قيس وغيره، فلو لا أن عليا اجترأ على سل السيف فيها ما أقدم أحد عليها، حتى
45

الحسن عليه السلام ابنه، أشار عليه ألا يبرح عرصة المدينة، ونهاه عن المسير إلى البصرة،
حتى قال له منكرا عليه إنكاره: ولا تزال تخن خنين الأمة! وقد روى ابن هلال
صاحب كتاب " الغارات " أنه كلم أباه في قتال أهل البصرة بكلام أغضبه، فرماه ببيضة
حديد عقرت ساقه، فعولج منها شهرين.
والغيهب: الظلمة، والجمع غياهب. وإنما قال: " بعد ما ماج غيهبها "، لأنه أراد:
بعد ما عم ضلالها فشمل، فكنى عن الضلال بالغيهب، وكنى عن العموم والشمول
بالتموج، لان الظلمة إذا تموجت شملت أماكن كثيرة غير الأماكن التي تشملها
لو كانت ساكنة. واشتد كلبها، أي شرها وأذاها. ويقال للقحط الشديد كلب،
وكذلك للقر الشديد.
ثم قال عليه السلام: " سلوني قبل أن تفقدوني "، روى صاحب كتاب
" الاستيعاب " وهو أبو عمر محمد بن عبد البر عن جماعة من الرواة والمحدثين، قالوا:
لم يقل أحد من الصحابة رضي الله عنهم: " سلوني " إلا علي بن أبي طالب. وروى شيخنا
أبو جعفر الإسكافي في كتاب " نقض العثمانية عن علي بن الجعد، عن ابن شبرمة، قال:
ليس لأحد من الناس أن يقول على المنبر: " سلوني " إلا علي بن أبي طالب عليه السلام.
والفئة: الطائفة، والهاء عوض من " الياء " التي نقصت من وسطه، وأصله " فئ "
مثال " فيع " لأنه من فاء، ويجمع على فئات، مثل شيات وهبات ولدات.
وناعقها: الداعي إليها، من نعيق الراعي بغنمه، وهو صوته نعق ينعق بالكسر
نعيقا، ونعاقا أي صاح بها وزجرها. قال الأخطل:
فانعق بضأنك يا جرير فإنما منتك نفسك في الخلاء ضلالا (1).

(1) ديوانه 50
46

فأما الغراب، فيقال: نغق، بالغين المعجمة ينغق بالكسر أيضا، وحكى ابن كيسان
" نعق الغراب " أيضا بعين غير معجمة.
والركاب: الإبل، واحدتها راحلة، ولا واحد لها من لفظها، وجمعها ركب، مثل كتاب
وكتب. ويقال: زيت ركابي، لأنه يحمل من الشام عليها.
والمناخ، بضم الميم، ومحط بفتحها، يجوز أن يكونا مصدرين، وأن يكونا مكانين،
أما كون المناخ مصدرا، فلأنه كالمقام الذي بمعنى الإقامة، وأما كون المحط مصدرا فلأنه
كالمرد في قوله سبحانه: (وأن مردنا إلى الله) (1)، وأما كونهما موضعين فلان المناخ،
من أنخت الجمل، لا من ناخ الجمل، لأنه لم يأت، والفعل إذا جاوز الثلاثة فالموضع منه يأتي
مضموم الميم، لأنه مشبه ببنات الأربعة، نحو، دحرج، وهذا مدحرجنا، ومن قال: هذا
مقام بنى فلان، أي موضع مقامهم جعله كما جعلناه نحن، من أقام يقيم، لا من قام يقوم،
وأما المحط، فإنه كالمقتل موضع القتل، يقال: مقتل الرجل بين فكيه، ويقال للأعضاء
التي إذا أصيب الانسان فيها هلك: مقاتل، ووجه المماثلة كونهما مضمومي العين.
* * *
[فصل في ذكر أمور غيبية، أخبر بها الامام ثم تحققت]
واعلم أنه عليه السلام قد أقسم في هذا الفصل بالله الذي نفسه بيده، أنهم لا يسألونه عن
أمر يحدث بينهم وبين القيامة إلا أخبرهم به، وأنه ما صح من طائفة من الناس يهتدى
بها مائه وتضل بها مائة، إلا وهو مخبر لهم - إن سألوه - برعاتها، وقائدها وسائقها ومواضع
نزول ركابها وخيولها، ومن يقتل منها قتلا، ومن يموت منها موتا، وهذه الدعوى ليست
منه عليه عليه السلام ادعاء الربوبية، ولا ادعاء النبوة، ولكنه كان يقول: إن رسول الله صلى

(1) سورة غافر 43
47

الله عليه وآله أخبره بذلك، ولقد امتحنا إخباره فوجدناه موافقا، فاستدللنا بذلك على
صدق الدعوى المذكورة، كإخباره عن الضربة التي يضرب بها في رأسه فتخضب لحيته،
وإخباره عن قتل الحسين ابنه عليهما السلام، وما قاله في كربلاء حيث مر بها، وإخباره
بملك معاوية الامر من بعده، وإخباره عن الحجاج، وعن يوسف بن عمر، وما أخبر به
من أمر الخوارج بالنهروان، وما قدمه إلى أصحابه من إخباره بقتل من يقتل منهم،
وصلب من يصلب، وإخباره بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين، وإخباره بعدة الجيش
الوارد إليه من الكوفة لما شخص عليه السلام إلى البصرة لحرب أهلها، وإخباره عن
عبد الله بن الزبير، وقوله فيه: " خب ضب، يروم أمرا ولا يدركه، ينصب حبالة الدين
لاصطياد الدنيا، وهو بعد مصلوب قريش ". وكإخباره عن هلاك البصرة، بالغرق وهلاكها
تارة أخرى بالزنج، وهو الذي صحفه قوم فقالوا: بالريح، وكإخباره عن ظهور الرايات السود
من خراسان، وتنصيصه على قوم من أهلها يعرفون ببني رزيق، بتقديم المهملة، وهم آل
مصعب الذين منهم طاهر بن الحسين وولده وإسحاق بن إبراهيم، وكانوا هم وسلفهم دعاة
الدولة العباسية، وكإخباره عن الأئمة الذين ظهروا من ولده بطبرستان، كالناصر والداعي
وغيرهما، في قوله عليه السلام: " وإن لآل محمد بالطالقان لكنزا سيظهره الله إذا شاء دعاؤه
حق يقوم بإذن الله فيدعو إلى دين الله "، وكإخباره عن مقتل النفس الزكية بالمدينة، وقوله:
" إنه يقتل عند أحجار الزيت "، وكقوله عن أخيه إبراهيم المقتول بباب حمزة: " يقتل بعد أن
يظهر، ويقهر بعد أن يقهر "، وقوله فيه أيضا: " يأتيه سهم غرب (1) يكون فيه منيته فيا بؤسا للرامي
! شلت يده، ووهن عضده "، وكإخباره عن قتلى و ج، وقوله فيهم: " هم خير أهل الأرض ".
وكإخباره عن المملكة العلوية بالغرب، وتصريحه بذكر كتامة، وهم الذين نصروا
أبا عبد الله الداعي المعلم. وكقوله وهو يشير إلى أبى عبد الله المهدى: وهو أولهم ثم يظهر

(1) سهم غرب، أي لا يدرى راميه.
48

صاحب القيروان الغض البض، ذو النسب المحض، المنتجب من سلالة ذي البداء، المسجى
بالرداء، وكان عبيد الله المهدى أبيض (1) مترفا مشربا بحمرة، رخص البدن، تار (2) الأطراف.
وذو البداء إسماعيل بن جعفر بن محمد عليهما السلام، وهو المسجى بالرداء، لان أباه أبا عبد الله
جعفرا سجاه بردائه لما مات، وأدخل إليه وجوه الشيعة يشاهدونه، ليعلموا موته، وتزول
عنهم الشبهة في أمره.
وكإخباره عن بنى بويه وقوله فيهم: " ويخرج من ديلمان بنو الصياد "، إشارة إليهم.
وكان أبوهم صياد السمك يصيد منه بيده ما يتقوت هو وعياله بثمنه، فأخرج الله تعالى
من ولده لصلبه ملوكا ثلاثة، ونشر ذريتهم حتى ضربت الأمثال بملكهم. وكقوله عليه
السلام فيهم: " ثم يستشري أمرهم حتى يملكوا الزوراء، ويخلعوا الخلفاء ". فقال له قائل: فكم
مدتهم يا أمير المؤمنين؟ فقال: " مائة أو تزيد قليلا ". وكقوله فيهم: و " المترف ابن
الأجذم، يقتله ابن عمه على دجلة "، وهو إشارة إلى عز الدولة بختيار بن معز الدولة أبى
الحسين، وكان معز الدولة أقطع اليد، قطعت يده للنكوص في الحرب، وكان ابنه
عز الدولة بختيار مترفا، صاحب لهو وشرب، وقتله عضد الدولة فناخسرو، ابن عمه بقصر
الجص على دجلة في الحرب، وسلبه ملكه، فأما خلعهم للخلفاء فإن معز الدولة خلع
المستكفي، ورتب عوضه المطيع، وبهاء الدولة أبا نصر بن عضد الدولة، خلع الطائع ورتب
عوضه القادر، وكانت مدة ملكهم كما أخبر به عليه السلام.
وكإخباره عليه السلام لعبد الله بن العباس رحمه الله تعالى عن انتقال الامر إلى أولاده،
فإن علي بن عبد الله لما ولد، أخرجه أبوه عبد الله إلى علي عليه السلام، فأخذه وتفل في فيه

(1) ساقطه من ب.
(2) التار: الممتلئ جسمه وعظمه ريا.
49

وحنكه بتمرة قد لاكها، ودفعه إليه، وقال: خذ إليك أبا الأملاك، هكذا الرواية
الصحيحة، وهي التي ذكرها أبو العباس المبرد في " الكتاب الكامل " (1)، وليست
الرواية التي يذكر فيها العدد بصحيحة ولا منقولة من كتاب معتمد عليه.
وكم له من الاخبار عن الغيوب الجارية هذا المجرى، مما لو أردنا استقصاءه لكسرنا له
كراريس كثيرة، وكتب السير تشتمل عليها مشروحة.
فإن قلت: لماذا غلا الناس في أمير المؤمنين عليه السلام، فادعوا فيه الإلهية لاخباره
عن الغيوب التي شاهدوا صدقها عيانا، ولم يغلوا في رسول الله صلى الله عليه وآله فيدعوا له
الإلهية، وأخباره عن الغيوب الصادقة قد سمعوها وعلموها يقينا، وهو كان أولى بذلك، لأنه
الأصل المتبوع، ومعجزاته أعظم، وأخباره عن الغيوب أكثر؟
قلت: إن الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وآله، وشاهدوا معجزاته، وسمعوا
إخباره عن الغيوب الصادقة عيانا، كانوا أشد آراء، وأعظم أحلاما، وأوفر عقولا، من
تلك الطائفة الضعيفة العقول، السخيفة الأحلام، الذين رأوا أمير المؤمنين عليه السلام في آخر
أيامه، كعبد الله بن سبأ وأصحابه، فإنهم كانوا من ركاكة البصائر وضعفها على حال
مشهورة، فلا عجب عن مثلهم أن تستخفهم المعجزات، فيعتقدوا في صاحبها أن الجوهر
الإلهي قد حله، لاعتقادهم أنه لا يصح من البشر هذا إلا بالحلول، وقد قيل: إن جماعة
من هؤلاء كانوا، من نسل النصارى واليهود، وقد كانوا سمعوا من آبائهم وسلفهم القول
بالحلول في أنبيائهم ورؤسائهم، فاعتقدوا فيه عليه السلام مثل ذلك. ويجوز أن يكون أصل
هذه المقالة من قوم ملحدين أرادوا إدخال الالحاد في دين الاسلام، فذهبوا إلى ذلك،
ولو كانوا في أيام رسول الله صلى الله عليه وآله لقالوا فيه مثل هذه المقالة، إضلالا لأهل

(1) الكامل 2: 217
50

الاسلام، وقصدا لايقاع الشبهة في قلوبهم، ولم يكن في الصحابة (1) مثل هؤلاء، ولكن
قد كان فيهم منافقون وزنادقة، ولم يهتدوا إلى هذه الفتنة، ولا خطر لهم مثل
هذه المكيدة.
ومما ينقدح لي من الفرق بين هؤلاء القوم وبين العرب الذين عاصروا رسول الله صلى
الله عليه وآله، أن هؤلاء من العراق وساكني الكوفة، وطينة العراق ما زالت تنبت أرباب
الأهواء وأصحاب النحل العجيبة والمذاهب البديعة، وأهل هذا الإقليم أهل بصر وتدقيق
ونظر، وبحث عن الآراء والعقائد، وشبه معترضة في المذاهب، وقد كان منهم في أيام
الأكاسرة مثل ماني وديصان ومزدك وغيرهم، وليست طينة الحجاز هذه الطينة، ولا أذهان
أهل الحجاز هذه الأذهان، والغالب على أهل الحجاز الجفاء والعجرفية وخشونة الطبع، ومن
سكن المدن منهم كأهل مكة والمدينة والطائف فطباعهم قريبة من طباع أهل البادية
بالمجاورة، ولم يكن فيهم من قبل حكيم ولا فيلسوف ولا صاحب نظر وجدل، ولا موقع
شبهة، ولا مبتدع نحلة، ولهذا نجد مقالة الغلاة طارئة وناشئة من حيث سكن علي عليه
السلام بالعراق والكوفة، لا في أيام مقامة بالمدينة، وهي أكثر عمره.
فهذا ما لاح لي من الفرق بين الرجلين في المعنى المقدم ذكره.
* * *
فإن قلت: لماذا قال عن فئة تهدى مائة؟ وما فائدة التقييد بهذا العدد؟
قلت: لان ما دون المائة حقير تافه لا يعتد به ليذكر ويخبر عنه، فكأنه قال:
مائة فصاعدا.
قوله عليه السلام: " كرائه الأمور ": جمع كريهة وهي الشدة في الحرب. وحوازب
الخطوب: جمع حازب، وحزبه الامر، أي دهمه.

(1) كذا في ا، ب، ج، وفى د " أصحابه ".
51

وفشل: جبن. فإن قلت: أما فشل المسؤول فمعلوم، فما الوجه في إطراق السائل؟
قلت: لشدة الامر وصعوبته، حتى إن السائل ليبهت ويدهش فيطرق،
ولا يستطيع السؤال.
قوله عليه السلام: " إذا قلصت حربكم " يروى بالتشديد وبالتخفيف، ويروى: " عن
حربكم "، فمن رواه مشددا أراد انضمت واجتمعت، وذلك لأنه يكون أشد لها وأصعب من
أن تتفرق في مواطن متباعدة، ألا ترى أن الجيوش إذا اجتمعت كلها واصطدم الفيلقان،
كان الامر أصعب وأفظع من أن تكون كل كتيبة من تلك الجيوش تحارب كتيبة
أخرى في بلاد متفرقة متباعدة! وذلك لان اصطدام الفيلقين بأجمعهما هو الاستئصال الذي
لا شوى (1) له ولا بقيا بعده. ومن رواها بالتخفيف أراد كثرت وتزايدت، من قولهم:
قلصت البئر، أي ارتفع ماؤها إلى رأسها أو، دونه، وهو ماء قالص وقليص، ومن روى:
" إذا قلصت عن حربكم " أراد إذا قلصت كرائه الأمور وحوازب الخطوب عن حربكم،
أي انكشفت عنها، والمضارع من قلص يقلص بالكسر.
قوله: " وشمرت عن ساق "، استعارة وكناية، يقال للجاد في أمره: قد شمر عن
ساق، وذلك لان سبوغ الذيل معثرة، ويمكن أن يجرى اللفظ على حقيقته، وذلك أن
قوله تعالى: (يوم يكشف عن ساق) (2) فسروه فقالوا: الساق: الشدة، فيكون قد
أراد بقوله: " وشمرت عن ساق "، أي كشفت عن شدة ومشقة.
ثم قال: " تستطيلون أيام البلاء "، وذلك لان أيام البؤس طويلة، قال الشاعر:

(1) لا شوى له، أي لا إبقاء له، أو لا خطأ لها، قال الكميت:
أجيبوا رقى الآسي الطاسي واحذروا * مطفئة الرصف التي لا شوى لها
(2) سورة القلم 42.
52

فأيام الهموم مقصصات * وأيام السرور تطير طيرا
وقال أبو تمام:
ثم انبرت أيام هجر أردفت * بجوى أسى فكأنها أعوام (1)
قوله عليه السلام: " إن الفتن إذا أقبلت شبهت "، معناه أن الفتن عند إقبالها وابتداء
حدوثها، يلتبس أمرها ولا يعلم الحق منها من الباطل، إلى أن تنقضي وتدبر، فحينئذ
ينكشف حالها، ويعلم ما كان مشتبها منها. ثم أكد عليه السلام هذا المعنى بقوله:
" ينكرن مقبلات، ويعرفن مدبرات "، ومثال ذلك فتنة الجمل، وفتنة الخوارج، كان
كثير من الناس فيها في مبدأ الامر متوقفين، واشتبه عليهم الحال، ولم يعلموا موضع الحق
إلى أن انقضت الفتنة، ووضعت الحرب أوزارها، وبان لهم صاحب الضلالة من
صاحب الهداية.
ثم وصف الفتن، فقال: إنها تحوم حوم الرياح، يصبن بلدا، ويخطئن بلدا. حام
الطائر وغيره حول الشئ، يحوم حوما وحومانا، أي دار.
ثم ذكر أن أخوف ما يخاف عليهم فتنة بنى أمية. ومعنى قوله " عمت خطتها،
وخصت بليتها "، أنها عمت الناس كافة من حيث كانت رياسة شاملة لكل أحد، ولكن
حظ أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم من بليتها أعظم، ونصيبهم فيها أوفر.
ومعنى قوله: " وأصاب البلاء من أبصر فيها، وأخطأ البلاء من عمى عنها "، أن
العالم بارتكابهم المنكر مأثوم إذ لم ينكر، والجاهل بذلك لا إثم عليه إذا لم ينههم عن
المنكر، لان من لا يعلم المنكر منكرا لا يلزمه إنكاره، ولا يعنى بالمنكر هاهنا

(1) ديوانه 3: 152.
53

ما كان منكرا من الاعتقادات، ولا ما يتعلق بالأمانة، بل الزنا وشرب الخمر ونحوهما من
الأفعال القبيحة.
فإن قلت: أي فرق بين الامرين؟
قلت: لان تلك يلحق الاثم من لا يعلمها إذا كان متمكنا من العلم بها، وهذه لا يجب
إنكارها إلا مع العلم بها، ومن لا يعلمها لا يلحقه الاثم إذا كان متمكنا من العلم بها،
فافترق الموضوعان.
ثم أقسم عليه السلام فقال: " وأيم الله "، وأصله: وأيمن الله، واختلف النحويون
في هذه الكلمة فعند الأكثرين منهم أن ألفها ألف وصل، وأن " أيمن " اسم وضع
للقسم هكذا بألف وصل، وبضم الميم والنون، قالوا: ولم يأت في الأسماء ألف وصل مفتوحة
غيرها، وتدخل عليها اللام لتأكيد الابتداء، فتقول: ليمن الله فتذهب الألف،
قال الشاعر:
فقال فريق القوم لما نشدتهم * نعم، وفريق ليمن الله ما ندري (1)
وهذا الاسم مرفوع بالابتداء وخبره محذوف، والتقدير ليمن الله قسمي، فإذا خاطبت
قلت " ليمنك "، وفي حديث عروة بن الزبير. ليمنك لئن كنت ابتليت، لقد عافيت،
ولئن كنت أخذت لقد أبقيت " (2). وتحذف نونه فيصير " أيم الله " بألف وصل مفتوحة
وقد تكسر، وربما حذفوا الياء، فقالوا " أم الله "، وربما أبقوا الميم وحدها مضمومة،
فقالوا " م الله "، وقد يكسرونها لما صارت حرفا شبهوها بالباء، وربما قالوا " من الله "
بضم الميم والنون: " ومن الله " بكسرهما: " ومن الله " بفتحهما، وذهب أبو عبيد
وابن كيسان وابن درستويه إلى أن " أيمن " جمع يمين، والألف همزة قطع، وإنما خففت

(1) اللسان 7: 354، ونسبه إلى نصيب ص 178.
(2) النهاية لابن الأثير 4: 268
54

وطرحت في الوصل لكثرة الاستعمال، قالوا: وكانت العرب تحلف باليمين فتقول: يمين
الله لا أفعل، قال امرؤ القيس:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا * ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي (1)
قالوا: واليمين تجمع على " أيمن "، قال زهير:
فتجمع أيمن منا ومنكم * بمقسمة تمور بها الدماء (2).
ثم حلفوا به، فقالوا: أيمن الله، ثم كثر في كلامهم وخف على ألسنتهم، حتى
حذفوا منه النون كما حذفوا في قوله " لم يكن " فقالوا " لم يك " فأقسم عليه السلام
لأصحابه أنهم سيجدون بنى أمية بعده لهم أرباب سوء، وصدق صلوات الله عليه فيما
قال، فإنهم ساموهم سوء العذاب قتلا وصلبا، وحبسا وتشريدا في البلاد.
ثم شبه بنى أمية بالناب الضروس، والناب: الناقة المسنة، والجمع نيب، تقول:
لا أفعله ما حنت النيب، والضروس: السيئة الخلق تعض حالبها.
وتعذم بفيها: تكدم، والعذم: الاكل بجفاء، وفرس عذوم: يعض بأسنانه.
والزبن: الدفع، زبنت الناقة تزبن، إذا ضربت بثفناتها عند الحلب، تدفع
الحالب عنها. والدر: اللبن، وفي المثل " لا در دره " الأصل " لبنه "، ثم قيل لكل خير،
وناقة درور، أي كثيرة اللبن.
ثم قال: لا يزالون بكم قتلا وإفناء لكم حتى لا يتركوا منكم إلا من ينفعهم إبقاؤه،
أو لا يضرهم ولا ينفعهم، قال: حتى يكون انتصار أحدكم منهم كانتصار العبد من مولاه،
أي لا انتصار لكم منهم، لان العبد لا ينتصر من مولاه أبدا. وقد جاء في كلامه عليه

(1) ديوانه 32.
(2) ديوانه 78. مقسمة: موضع الحلف عند الأصنام، وقال بعضهم: مكة، لأنها تنحر بها البدن وتمور
بها الدماء. وتمور: تسيل (من شرح الديوان).
55

السلام في غير هذا الموضع تتمة هذا المعنى: " إن حضر أطاعه، وإن غاب سبعه "، أي
ثلبه وشتمه، وهذه أمارة الذل، كما قال أبو الطيب:
أبدو فيسجد من بالسوء يذكرني * ولا أعاتبه صفحا وإهوانا (1)
وهكذا كنت في أهلي وفي وطني * إن النفيس نفيس أينما كانا
قال عليه السلام: " والصاحب من مستصحبه "، أي والتابع من متبوعه.
والشوه: جمع شوهاء، وهي القبيحة الوجه، شاهت الوجوه تشوه شوها (2)، قبحت،
وشوهه الله فهو مشوه، وهي شوهاء، ولا يقال للذكر: أشوه. ومخشيه: مخوفة.
وقطعا جاهلية، شبهها بقطع السحاب لتراكمها على الناس، وجعلها جاهلية لأنها
كأفعال الجاهلية الذين لم يكن لهم دين يردعهم، ويروى: " شوهاء " و " قطعاء "، أي
نكراء، كالمقطوعة اليد.
قوله: " نحن أهل البيت منها بمنجاة "، أي بمعزل، والنجاة والنجوة: المكان المرتفع
الذي تظن أنه نجاك، ولا يعلوه السيل. ولسنا فيها بدعاة، أي لسنا من أنصار تلك
الدعوة، " وأهل البيت " منصوب على الاختصاص، كقولهم: نحن معشر العرب نفعل
كذا، ونحن آل فلان كرماء.
قوله: " كتفريج الأديم " الأديم الجلد، وجمعه أدم مثل أفيق وأفق، ويجمع أيضا
على " آدمة "، كرغيف وأرغفة، ووجه التشبيه أن الجلد ينكشف عما تحته، فوعدهم
عليه السلام بأن الله تعالى يكشف تلك الغماء كانكشاف الجلد عن اللحم، ويسومهم
خسفا، ويوليهم ذلا.

(1) ديوانه 4: 223.
(2) ساقطة من باء.
56

والعنف، بالضم: ضد الرفق. وكأس مصبرة ممزوجة بالصبر لهذا المر، ويجوز أن
يكون " مصبرة " مملوءة إلى أصبارها، وهي جوانبها، وفي المثل: " أخذها بأصبارها " أي
تامة، الواحد صبر، بالضم.
ويحلسهم: يلبسهم، أحلست البعير ألبسته الحلس، وهو كساء رقيق يكون تحت
البرذعة، يقال: له حلس وحلس، مثل شبه وشبه.
والجزور من الإبل: يقع على الذكر والأنثى، وجزرها: ذبحها.
* * *
وهذا الكلام إخبار عن ظهور المسودة، وانقراض ملك بنى أمية. ووقع الامر بموجب
إخباره صلوات الله عليه، حتى لقد صدق قوله: " لقد تود قريش.... " الكلام إلى
آخره، فإن أرباب السير كلهم نقلوا أن مروان بن محمد قال يوم الزاب لما شاهد عبد الله
ابن علي بن عبد الله بن العباس بإزائه في صف خراسان: لوددت أن علي بن أبي طالب
تحت هذه الراية بدلا من هذا الفتى، والقصة طويلة وهي مشهورة (1).
وهذه الخطبة ذكرها جماعة من أصحاب السير، وهي متداولة منقولة مستفيضة، خطب
بها علي عليه السلام بعد انقضاء أمر النهروان، وفيها ألفاظ لم يوردها الرضى رحمه الله. من
ذلك قوله عليه السلام: " ولم يكن ليجترئ عليها غيري، ولو لم أك فيكم ما قوتل
أصحاب الجمل والنهروان. وأيم الله لولا أن تتكلوا فتدعوا العمل لحدثتكم بما قضى الله
عز وجل على لسان نبيكم صلى الله عليه وآله: لمن قاتلهم مبصرا لضلالتهم، عارفا للهدى
الذي نحن عليه، سلوني قبل أن تفقدوني، فإني ميت عن قريب أو مقتول، بل قتلا ما ينتظر
أشقاها أن يخضب هذه بدم ". وضرب بيده إلى لحيته.

(1) تفصيل حوادثها في الكامل لابن الأثير 4: 327 - 334
57

ومنها في ذكر بنى أمية: " يظهر أهل باطلها على أهل حقها، حتى تملأ الأرض
عدوانا وظلما وبدعا إلى أن يضع الله عز وجل جبروتها، ويكسر عمدها، وينزع أوتادها.
ألا وإنكم مدركوها فانصروا قوما كانوا أصحاب رايات بدر وحنين، تؤجروا، ولا تمالئوا
عليهم عدوهم، فتصرعكم البلية، وتحل بكم النقمة ".
ومنها: " إلا مثل انتصار العبد من مولاه إذا رآه أطاعه، وإن توارى عنه شتمه. وأيم
الله لو فرقوكم تحت كل حجر، لجمعكم الله لشر يوم لهم ".
ومنها: " فانظروا أهل بيت نبيكم، فإن لبدوا فالبدوا، وإن استنصروكم فانصروهم،
فليفرجن الله الفتنة برجل منا أهل البيت "، بأبي ابن خيرة الإماء، لا يعطيهم إلا السيف
هرجا هرجا، موضوعا على عاتقه ثمانية أشهر، حتى تقول قريش: لو كان هذا من ولد
فاطمة لرحمنا، يغريه الله ببني أمية حتى يجعلهم حطاما ورفاتا، ملعونين أينما ثقفوا أخذوا
وقتلوا تقتيلا. سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا.
فإن قيل: لماذا قال: " ولو لم أك فيكم لما قوتل أهل الجمل وأهل النهروان "، ولم يذكر
صفين؟ قيل لان الشبهة كانت في أهل الجمل وأهل النهروان ظاهرة الالتباس، لان
الزبير وطلحة موعودان بالجنة، وعائشة موعودة أن تكون زوجة رسول الله صلى الله
عليه وآله في الآخرة، كما هي زوجته في الدنيا، وحال طلحة والزبير في السبق والجهاد والهجرة
معلومة، وحال عائشة في محبة الرسول صلى الله عليه وآله لها وثنائه عليها ونزول القرآن
فيها معلومة، وأما أهل النهروان فكانوا أهل قرآن وعبادة واجتهاد، وعزوف عن الدنيا
وإقبال على أمور الآخرة، وهم كانوا قراء أهل العراق وزهادها، وأما معاوية فكان
فاسقا، مشهورا بقلة الدين والانحراف عن الاسلام، وكذلك ناصره ومظاهره على أمره
عمرو بن العاص، ومن أتبعهما من طغام أهل الشام وأجلافهم وجهال الاعراب، فلم يكن
أمرهم خافيا في جواز محاربتهم واستحلال قتالهم، بخلاف حال من تقدم ذكره.
58

فإن قيل: ومن هذا الرجل الموعود به الذي قال عليه السلام عنه: " بأبي ابن خيرة
الإماء "؟ قيل: أما الامامية فيزعمون أنه إمامهم الثاني عشر، وأنه ابن أمة اسمها نرجس،
وأما أصحابنا فيزعمون أنه فاطمي يولد في مستقبل الزمان، لام ولد، وليس
بموجود الآن.
فإن قيل: فمن يكون من بنى أمية في ذلك الوقت موجودا، حتى يقول عليه السلام
في أمرهم
ما قال من انتقام هذا الرجل منهم، حتى يودوا لو أن عليا عليه السلام، كان
المتولي لأمرهم عوضا عنه؟
قيل: أما الامامية فيقولون بالرجعة، ويزعمون أنه سيعاد قوم بأعيانهم من بنى أمية
وغيرهم، إذا ظهر إمامهم المنتظر، وأنه يقطع أيدي أقوام وأرجلهم، ويسمل عيون بعضهم،
ويصلب قوما آخرين، وينتقم من أعداء آل محمد عليه السلام المتقدمين والمتأخرين.
وأما أصحابنا فيزعمون أنه سيخلق الله تعالى في آخر الزمان رجلا من ولد فاطمة عليها السلام
ليس موجود الآن، وأنه يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا وظلما، وينتقم من الظالمين
وينكل بهم أشد النكال، وأنه لام ولد، كما قد ورد في هذا الأثر وفي غيره من الآثار،
وأن، اسمه محمد، كاسم رسول الله صلى الله عليه وآله، وأنه إنما يظهر بعد أن يستولي على
كثير من الاسلام ملك من أعقاب بنى أمية، وهو السفياني الموعود به في الخبر الصحيح،
من ولد أبي سفيان بن حرب بن أمية، وأن الامام الفاطمي يقتله ويقتل أشياعه من بنى أمية
وغيرهم، وحينئذ ينزل المسيح عليه السلام من السماء، وتبدو أشراط الساعة، وتظهر دابة
الأرض، ويبطل التكليف، ويتحقق قيام الأجساد عند نفخ الصور، كما نطق به
الكتاب العزيز.
59

فإن قيل: فإنكم قلتم فيما تقدم: إن الوعد إنما هو بالسفاح وبعمه عبد الله بن علي،
والمسودة، وما قلتموه الآن مختلف لذلك!
قيل: إن ذلك التفسير هو تفسير ما ذكره الرضى رحمه الله تعالى من كلام أمير المؤمنين
عليه السلام في " نهج البلاغة " وهذا التفسير هو تفسير الزيادة التي لم يذكرها الرضى، وهي
قوله بأبي ابن خيرة الإماء. وقوله: " لو كان هذا من ولد فاطمة لرحمنا "، فلا مناقضة
بين التفسيرين.
60

(93)
ومن خطبة له عليه السلام:
الأصل:
فتبارك الله الذي لا يبلغه بعد الهمم، ولا يناله حدس الفطن، الأول الذي
لا غاية له فينتهي، ولا آخر له فينقضي.
* * *
الشرح:
البركة: كثرة الخير وزيادته، وتبارك الله منه، وبركت، أي دعوت بالبركة، وطعام
بريك أي مبارك. يقال: بارك الله لزيد وفي زيد وعلى زيد، وبارك الله زيدا، يتعدى
بنفسه، ومنه قوله تعالى: (أن بورك من في النار). ويحتمل " تبارك الله " معنيين:
أحدهما أن يراد: تبارك خيره وزادت نعمته وإحسانه، وهذا دعاء. وثانيهما أن يراد (1) به:
تزايد وتعالى في ذاته وصفاته عن أن يقاس به غيره، وهذا تمجيد.
قوله عليه السلام: " لا يبلغه بعد الهمم " أي بعد الأفكار والانظار، عبر عنها بالهمم
لمشابهتها إياها. وحدس الفطن: ظنها وتخمينها، حدست أحدس، بالكسر.
ويسأل عن قوله: " لا غاية له فينتهي، ولا آخر له فينقضي " فيقال: إنما تدخل الفاء
فيما إذا كان الثاني غير الأول، وكقولهم: ما تأتينا فتحدثنا، وليس الثاني هاهنا غير الأول،
لان الانقضاء هو الآخرية بعينها، فكأنه قال: لا آخر له، فيكون له آخر، وهذا لغو،
وكذلك القول اللفظة في الأولى.
وينبغي أن يقال في الجواب: إن المراد: لا آخر له بالامكان والقوة فينقضي بالفعل فيما

(1) ساقطة من ب
61

لا يزال: ولا هو أيضا ممكن الوجود فيما مضى، فيلزم أن يكون وجوده مسبوقا بالعدم،
وهو معنى قوله: " فينتهي " بل هو واجب الوجود في حالين: فيما مضى وفي المستقبل، وهذان
مفهومان متغايران، وهما العدم وإمكان العدم، فاندفع الاشكال.
* * *
منها:
الأصل:
فاستودعهم في أفضل مستودع، وأقرهم في خير مستقر، تناسختهم كرائم
الأصلاب إلى مطهرات الأرحام، كلما مضى منهم سلف، قام منهم بدين الله خلف،
حتى أفضت كرامة الله سبحانه وتعالى إلى محمد صلى الله عليه، فأخرجه من
أفضل المعادن منبتا وأعز الأرومات مغرسا، من الشجرة التي صدع منها أنبياءه،
وانتجب منها أمناءه، عترته خير العتر، وأسرته خير الأسر، وشجرته خير
الشجر، نبتت في حرم، وبسقت في كرم، لها فروع طوال، وثمر لا ينال، فهو
إمام من اتقى، وبصيرة من اهتدى.
سراج لمع ضوءه، وشهاب سطع نوره، وزند برق لمعه، سيرته القصد،
وسنته الرشد، وكلامه الفصل، وحكمه العدل، أرسله على حين فترة من الرسل،
وهفوة عن العمل، وغباوة من الأمم.
* * *
الشرح:
تناسختهم، أي تناقلتهم، والتناسخ في الميراث: أن يموت ورثة بعد ورثة، وأصل الميراث
62

قائم لم يقسم، كأن ذلك تناقل من واحد إلى آخر، ومنه: نسخت الكتاب وانتسخته
واستنسخته، أي نقلت ما فيه. ويروى " تناسلتهم ".
والسلف: المتقدمون، والخلف الباقون ويقال: خلف صدق بالتحريك، وخلف
سوء، بالتسكين.
وأفضت كرامة الله إلى محمد صلى الله عليه، أي انتهت. والأرومات: جمع أرومة،
وهي الأصل، ويقال أروم بغيرها. وصدع: شق، وانتجب، اصطفى. والأسرة:
رهط الرجل.
وقوله: " نبتت في حرم " يجوز أن يعنى به مكة، ويجوز أن يعنى به المنعة والعز.
وبسقت: طالت، ومعنى قوله: " وثمر لا ينال " ليس على أن يريد به أن ثمرها لا ينتفع
به، لان ذلك ليس بمدح بل يريد به أن ثمرها لا ينال قهرا، ولا يجنى غصبا، ويجوز أن
يريد بثمرها نفسه عليه السلام، ومن يجرى مجراه من أهل البيت عليهم السلام، لأنهم ثمرة
تلك الشجرة.
ولا ينال، أي لا ينال مساعيهم ومآثرهم ولا يباريهم أحد، وقد روى في الحديث
عن النبي صلى الله عليه وآله في فضل قريش وبنى هاشم الكثير المستفيض، نحو قوله عليه
السلام: " قدموا قريشا ولا تقدموها "، وقوله: " الأئمة من قريش "، وقوله: " إن
الله اصطفى من العرب معدا، واصطفى من معد بنى النضر بن كنانة، واصطفى هاشما من
بنى النضر، واصطفاني من بني هاشم "، وقوله: " إن جبرائيل عليه السلام قال لي:
يا محمد قد طفت الأرض شرقا وغربا فلم أجد فيها أكرم منك، ولا بيتا أكرم من
بني هاشم "، وقوله: " نقلنا من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الزكية "، وقوله عليه
السلام: " إن الله تعالى لم يمسسني بسفاح في أرومتي منذ إسماعيل بن إبراهيم إلى عبد الله
63

ابن عبد المطلب "، وقوله صلى الله عليه وآله: " سادة أهل محشر، سادة أهل الدنيا:
أنا وعلى وحسن وحسين وحمزة وجعفر "، وقوله وقد سمع رجلا ينشد:
يا أيها الرجل المحول رحله * هلا نزلت بآل عبد الدار!
أهكذا قال يا أبا بكر! منكرا لما سمع، فقال أبو بكر: لا، يا رسول الله، إنه لم يقل
هكذا ولكنه قال:
يا أيها الرجل المحول رحله * هلا نزلت بآل عبد مناف (1)
عمرو العلى هشم الثريد لقومه * ورجال مكة مسنتون عجاف
فسر صلى الله عليه وآله بذلك، وقوله: " أذل الله من أذل قريشا "، قالها ثلاثا،
وكقوله: " أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب " وكقوله: " الناس تبع لقريش،
برهم لبرهم، وفاجرهم لفاجرهم "، وكقوله: " أنا ابن الأكرمين "، وقوله لبني هاشم:
والله لا يبغضكم أحد إلا أكبه الله على منخريه في النار "، وقوله: " ما بال رجال
يزعمون أن قرابتي غير نافعة، بلى إنها لنافعة، وإنه لا يبغض أحد أهلي إلا حرمه
الله الجنة ".
والأخبار الواردة في فضائل قريش وبنى هاشم وشرفهم كثيرة جدا، ولا نرى الإطالة
هاهنا باستقصائها.
وسطع الصبح يسطع سطوعا، أي ارتفع، والسطيع: الصبح. والزند: العود تقدح
به النار، وهو الأعلى، والزندة: السفلى فيها ثقب، وهي الأنثى، فإذا اجتمعا قيل: زندان
ولم يقل: زندتان تغليبا للتذكير، والجمع زناد وأزند وأزناد.
والقصد: الاعتدال. وكلامه الفصل، أي الفاصل، والفارق بين الحق والباطل وهو
مصدر بمعنى الفاعل، كقولك: رجل عدل، أي عادل.
والهفوة: الزلة، هفا يهفو. والغباوة: الجهل وقلة، الفطنة، يقال: غبيت عن الشئ وغبيت

(1) لمطرود بن كعب الخزاعي. أمالي المرتضى 2: 268
64

الشئ أيضا، أغبى غباوة إذا لم يفطن له، وغبى على الشئ كذلك، إذا لم تعرفه، وفلان غبي
على " فعيل "، أي قليل الفطنة.
* * *
الأصل:
اعملوا - رحمكم الله - على أعلام بينة، فالطريق نهج يدعو إلى دار السلام،
وأنتم في دار مستعتب على مهل وفراغ، والصحف منشورة، والأقلام جارية،
والأبدان صحيحة، والألسن مطلقة، والتوبة مسموعة، والأعمال مقبولة.
* * *
الشرح:
الطريق: يذكر ويؤنث، يقال: هذا الطريق الأعظم وهذه الطريق العظمى، والجمع
أطرقة وطرق.
وأعلام بينة: أي منار واضح، ونهج، أي واضح، ودار السلام: الجنة، ويروى:
" والطريق نهج " بالواو: واو الحال.
وأنتم في دار مستعتب، أي في دار يمكنكم فيها استرضاء الخالق سبحانه، واستعتابه.
ثم شرح ذلك فقال: أنتم ممهلون متفرغون، وصحف أعمالكم لم تطو بعد، وأقلام
الحفظة عليكم لم تجف بعد، وأبدانكم صحيحة، وألسنتكم ما اعتقلت كما تعتقل ألسنة المحتضرين
عند الموت، وتوبتكم مسموعة وأعمالكم مقبولة، لأنكم في دار ا لتكليف
لم تخرجوا منها.
65

(94) الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام:
بعثه والناس ضلال في حيرة، وحاطبون في فتنة، قد استهوتهم الأهواء
واستزلتهم الكبرياء، واستخفتهم الجاهلية الجهلاء، حيارى في زلزال من الامر،
وبلاء من الجهل، فبالغ صلى الله عليه في النصيحة، ومضى على الطريقة، ودعا
إلى الحكمة والموعظة الحسنة (1).
* * *
الشرح:
حاطبون في فتنة: جمع حاطب، وهو الذي يجمع الحطب، ويقال لمن يجمع بين
الصواب والخطأ، أو يتكلم بالغث والسمين: حاطب ليل، لأنه لا يبصر ما يجمع في حبله.
ويروى: " خابطون ".
واستهوتهم الأهواء: دعتهم إلى نفسها.
واستزلتهم الكبرياء: جعلتهم ذوي زلل وخطأ. واستخفتهم الجاهلية: جعلتهم ذوي
خفة وطيش وخرق.
والزلزال، بالفتح: الاسم، وبالكسر: المصدر والزلازل: الشدائد، ومثله في الكسر
عند الإسمية، والفتح عند المصدر " القلقال ".

(1) ساقطة من مخطوطة النهج.
66

(95)
الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام:
الحمد لله الأول فلا شئ قبله، والآخر فلا شئ بعده، والظاهر فلا شئ
فوقه، والباطن فلا شئ دونه.
الشرح:
تقدير الكلام: والظاهر فلا شئ أجلى منه، والباطن فلا شئ أخفى منه، فلما كان
الجلاء يستلزم العلو والفوقية، والخفاء يستلزم الانخفاض والتحتية، عبر عنهما بما يلازمهما،
وقد تقدم الكلام في معنى الأول والآخر والظاهر والباطن.
وذهب أكثر المتكلمين إلى أن الله تعالى يعدم أجزاء العالم ثم يعيدها، وذهب قوم
منهم إلى أن الإعادة إنما هي جمع الاجزاء بعد تفريقها لا غير.
واحتج الأولون بقوله تعالى: (هو الأول والآخر) (1)، قالوا: لما كان أولا بمعنى
أنه الموجود ولا موجود معه، وجب أن يكون آخرا بمعنى أنه سيؤول الامر إلى عدم كل
شئ إلا ذاته تعالى، كما كان أولا، والبحث المستقصى في هذا الباب مشروح
في كتبنا الكلامية.
* * *

(1) سورة الحديد 3
67

الأصل:
ومنها في ذكر الرسول صلى الله عليه وآله:
مستقره خير مستقر، ومنبته أشرف منبت، في معادن الكرامة، ومماهد
السلامة، قد صرفت نحوه أفئدة الأبرار، وثنيت إليه أزمة الابصار، دفن الله به
الضغائن، وأطفأ به النوائر، ألف به إخوانا، وفرق به أقرانا، وأعز به الذلة،
وأذل به العزة، كلامه بيان، وصمته لسان.
* * *
الشرح:
المهاد: الفراش، ولما قال: " في معادن "، وهي جمع معدن، قال بحكم القرينة
والازدواج: " ومماهد "، وإن لم يكن الواحد منها " ممهدا "، كما قالوا: الغدايا والعشايا.
ومأجورات ومأزورات، ونحو ذلك. ويعنى بالسلامة هاهنا البراءة من العيوب،
أي في نسب طاهر غير مأفون ولا معيب.
ثم قال: " قد صرفت نحوه " أي نحو الرسول صلى الله عليه وآله، ولم يقل من صرفها،
بل جعله فعلا لم يسم فاعله، فإن شئت قلت: الصارف لها هو الله تعالى لا بالجبر كما يقوله
الأشعرية، بل بالتوفيق واللطف، كما يقوله أصحابنا، وإن شئت قلت: صرفها أربابها.
والضغائن: جمع ضغينة، وهي الحقد، ضغنت على فلان بالكسر ضغنا، والضغن
الاسم، كالضغينة، وقد تضاغنوا واضطغنوا: انطووا على الأحقاد. ودفنها: أكمنها وأخفاها.
وألف به إخوانا، لان الاسلام قد ألف بين المتباعدين، وفرق بين المتقاربين، وقال
68

تعالى: (فأصبحتم بنعمته إخوانا) (1)، قطع ما بين حمزة وأبى لهب مع تقاربهما،
وألف بين علي عليه السلام وعمار مع تباعدهما.
قوله عليه السلام: " وصمته لسان "، لا يعنى باللسان هاهنا الجارحة نفسهما بل الكلام
الصادر عنها، كقول الأعشى (2):
* إني أتتني لسان لا أسر بها * قالوا في تفسيره: أراد الكلمة، وجمعه على هذا ألسن، لأنه مؤنث، كقولك: ذراع وأذرع،
فأما جمع لسان للجارحة فالسنة، لأنه مذكر، كقولك: حمار وأحمرة، يقول عليه السلام:
إن كلام الرسول صلى الله عليه وآله بيان، والبيان إخراج الشئ من حيز الخفاء
إلى حيز الوضوح، وصمته صلى الله عليه وآله كلام وقول مفيد، أي أن صمته لا يخلو
من فائدة، فكأنه كلام، وهذا من باب التشبيه المحذوف الأداة، كقولهم: يده بحر
ووجهه بدر

(1) سورة آل عمران 103
(2) هو أعشى باهلة، وبقيته:
* من علو لا كذب فيها ولا سخر *
ديوان الأعشين 266.
69

(96) ومن كلام له عليه السلام:
الأصل:
ولئن أمهل الله الظالم فلن يفوت أخذه، وهو له بالمرصاد على مجاز طريقه،
وبموضع (1) الشجا من مساغ ريقه.
أما والذي نفسي بيده، ليظهرن هؤلاء القوم عليكم، ليس لأنهم أولى
بالحق منكم، ولكن لإسراعهم إلى باطلهم (2)، وإبطائكم عن حقي، ولقد أصحبت
الأمم تخاف ظلم رعاتها، وأصبحت أخاف ظلم رعيتي.
استنفرتكم للجهاد فلم تنفروا، وأسمعتكم فلم تسمعوا، ودعوتكم سرا وجهرا
فلم تستجيبوا، ونصحت لكم فلم تقبلوا.
شهود (3) كغياب، وعبيد كأرباب. أتلو عليكم الحكم فتنفرون منها،
وأعظكم بالموعظة البالغة فتتفرقون عنها، وأحثكم على جهاد أهل البغي فما آتي
على آخر قولي، حتى أراكم متفرقين أيادي سبا. ترجعون إلى مجالسكم، وتتخادعون
عن مواعظكم. أقومكم غدوة، وترجعون إلى عشية، كظهر الحنية عجز المقوم
وأعضل المقوم.
أيها القوم الشاهدة أبدانهم، الغائبة عنهم عقولهم، المختلفة أهواؤهم، المبتلى بهم
أمراؤهم، صاحبكم يطيع الله وأنتم تعصونه، وصاحب أهل الشام يعصى الله
وهم يطيعونه! لوددت والله أن معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم، فأخذ
منى عشرة منكم وأعطاني رجلا منهم!

(1) مخطوطة النهج: " وموضع ".
(2) مخطوطة النهج: " باطل صاحبهم ".
(3) مخطوطة النهج: " أشهود ".
70

يا أهل الكوفة، منيت منكم بثلاث واثنتين: صم ذوو أسماع، وبكم
ذوو كلام، وعمى ذوو أبصار، لا أحرار صدق عند اللقاء، ولا إخوان ثقة
عند البلاء.
تربت أيديكم! يا أشباه الإبل غاب عنها رعاتها! كلما جمعت من جانب تفرقت
من آخر.
والله لكأني بكم فيما إخالكم ألو حمس الوغى، وحمى الضراب، قد انفرجتم
عن ابن أبي طالب انفراج المرأة عن قبلها. وإني لعلى بينة من ربى، ومنهاج
من نبيي، وإني لعلى الطريق الواضح ألقطه لقطا.
* * *
الشرح:
أمهله: أخره، وأخذه فاعل، والمفعول محذوف تقديره: " فلن يفوته ". والمرصاد:
الطريق، وهي من ألفاظ الكتاب العزيز.
ومجاز طريقه: مسلكه وموضع جوازه. والشجا: ما ينشب في الحلق من عظم
أو غيره، وموضع الشجا: هو الحلق نفسه. ومساغ ريقه: موضع الإساغة، أسغت
الشراب: أوصلته إلى المعدة. ويجوز: سغت الشراب أسوغه وأسيغه، وساغ الشراب
نفسه يسوغ سوغا، أي سهل مدخله في الحلق، يتعدى ولا يتعدى. وهذا الكلام من
باب التوسع والمجاز، لان الله تعالى لا يجوز عليه الحصول في الجهات، ولكنه كقوله
تعالى: (وهو معكم أينما كنتم) (1). وقوله: (ونحن أقرب إليه من حبل
الوريد) (2).

(1) سورة الحديد 4
(2) سورة ق 16
71

ثم أقسم عليه السلام أن أهل الشام لا بد أن يظهروا على أهل العراق، وأن ذلك
ليس لأنهم على الحق وأهل العراق على الباطل، بل لأنهم أطوع لأميرهم، ومدار
النصرة في الحرب إنما هو على طاعة الجيش وانتظام أمره، لا على اعتقاد الحق، فإنه ليس
يغنى في الحرب أن يكون الجيش محقا في العقيدة إذا كان مختلف الآراء، غير مطيع لأمر
المدبر له، ولهذا تجد أهل الشرك كثيرا ما ينتصرون على أهل التوحيد.
ثم ذكر عليه السلام نكتة لطيفة في هذا المعنى، فقال: العادة أن الرعية تخاف ظلم
الوالي، وأنا أخاف ظلم رعيتي، ومن تأمل أحواله عليه السلام في خلافته، علم أنه كان
كالمحجور عليه، لا يتمكن من بلوغ ما في نفسه، وذلك لان العارفين بحقيقة حاله كانوا
قليلين، وكان السواد الأعظم، لا يعتقدون فيه الامر الذي يجب اعتقاده فيه، ويرون
تفضيل من تقدمه من الخلفاء عليه، ويظنون أن الأفضلية إنما هي الخلافة، ويقلد
أخلافهم أسلافهم، ويقولون: لولا أن الأوائل علموا فضل المتقدمين عليه لما قدموهم،
ولا يرونه إلا بعين التبعية لمن سبقه، وأنه كان رعية لهم، وأكثرهم إنما يحارب معه بالحمية،
وبنخوة العربية لا بالدين والعقيدة، وكان عليه السلام مدفوعا إلى مداراتهم ومقاربتهم،
ولم يكن قادرا على إظهار ما عنده، ألا ترى إلى كتابه إلى قضاته في الأمصار.!
وقوله: " فاقضوا كما كنتم تقضون، حتى تكون للناس جماعة، وأموت كما مات
أصحابي "، وهذا الكلام لا يحتاج إلى تفسير، ومعناه واضح، وهو أنه قال لهم: اتبعوا
عادتكم الآن بعاجل الحال في الاحكام والقضايا التي كنتم تقضون بها إلى أن يكون للناس
جماعة، أي إلى أن تسفر هذه الأمور والخطوب عن الاجتماع وزوال الفرقة، وسكون
الفتنة، وحينئذ أعرفكم ما عندي في هذه القضايا والاحكام التي قد استمررتم
عليها.
ثم قال: " أو أموت كما مات أصحابي "، فمن قائل يقول: عنى بأصحابه الخلفاء المتقدمين،
72

ومن قائل يقول: عنى بأصحابه شيعته كسلمان وأبي ذر والمقداد وعمار ونحوهم، ألا ترى
إلى قوله على المنبر في أمهات الأولاد: " كان رأيي ورأي عمر ألا يبعن، وأنا أرى الآن
بيعهن "، فقام عليه عبيدة السلماني فقال له: رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك
وحدك، فما أعاد عليه حرفا، فهل يدل هذا على القوة والقهر، أم على الضعف في السلطان
والرخاوة! وهل كانت المصلحة والحكمة تقتضي في ذلك الوقت غير السكوت والامساك!
ألا ترى أنه كان يقرأ في صلاة الصبح وخلفه جماعة من أصحابه، فقرأ واحد منهم رافعا
صوته، معارضا قراءة أمير المؤمنين عليه السلام: (إن الحكم إلا لله يقضى بالحق وهو
خير الفاصلين). فلم يضطرب عليه السلام، ولم يقطع صلاته ولم يلتفت وراءه، ولكنه
قرأ معارضا له على البديهة: (فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين
لا يوقنون) (2). وهذا صبر عظيم وأناة عجيبة وتوفيق بين، وبهذا ونحوه استدل أصحابنا
المتكلمون على حسن سياسته وصحة تدبيره، لان من منى بهذه الرعية المختلفة الأهواء،
وهذا الجيش العاصي له، المتمرد عليه، ثم كسر بهم الأعداء، وقتل بهم الرؤساء، فليس
يبلغ أحد في حسن السياسة وصحة التدبير مبلغه، ولا يقدر أحد قدره، وقد قال بعض
المتكلمين من أصحابنا: إن سياسة علي عليه السلام إذا تأملها المنصف متدبرا لها بالإضافة
إلى أحواله التي دفع إليها مع أصحابه، جرت مجرى المعجزات، لصعوبة الامر وتعذره،
فإن أصحابه كانوا فرقتين: إحداهما تذهب إلى أن عثمان قتل مظلوما وتتولاه وتبرأ من
أعدائه، والأخرى - وهم جمهور أصحاب الحرب وأهل الغناء والبأس - يعتقدون أن عثمان
قتل لاحداث أوجبت عليه القتل، وقد كان منهم من يصرح بتكفيره، وكل من
هاتين الفرقتين يزعم أن عليا عليه السلام موافق لها على رأيها، وتطالبه في كل وقت بأن
يبدي مذهبه في عثمان، وتسأله أن يجيب بجواب واضح في أمره، وكان عليه السلام،

(1) سورة الروم 60، وهذه قراءة على، وقراءة المصحف: (يقص الحق)، وانظر تفسير
القرطبي 6: 439.
73

يعلم أنه متى وافق إحدى الطائفتين باينته الأخرى، وأسلمته وتولت عنه وخذلته، فأخذ
عليه السلام يعتمد في جوابه ويستعمل في كلامه ما يظن به كل واحدة من الفرقتين أنه
يوافق رأيها ويماثل اعتقادها، فتارة يقول: الله قتله وأنا معه، وتذهب الطائفة الموالية لعثمان
إلى أنه أراد أن الله أماته وسميتني كما أماته، وتذهب الطائفة الأخرى إلى أنه أراد أنه
قتل عثمان مع قتل الله له أيضا، وكذلك قوله تارة أخرى: " ما أمرت به ولا نهيت عنه "،
وقوله: " لو أمرت به لكنت قاتلا، ولو نهيت عنه لكنت ناصرا "، وأشياء من هذا
الجنس مذكورة مروية عنه، فليزل على هذه الوتيرة حتى قبض عليه السلام، وكل من
الطائفتين موالية له معتقدة أن رأيه في عثمان كرأيها، فلو لم يكن له من السياسة إلا هذا القدر
- مع كثرة خوض الناس حينئذ في أمر عثمان والحاجة إلى ذكره في كل مقام - لكفاه في
الدلالة على أنه أعرف الناس بها، وأحذقهم فيها، وأعلمهم بوجوه مخارج الكلام،
وتدبير أحوال الرجال.
* * *
ثم نعود إلى الشرح:
قوله عليه السلام: " ونصحت لكم "، هو الأفصح، وعليه، ورد لفظ القرآن (1)، وقول
العامة: " نصحتك " ليس بالأفصح.
قوله: " وعبيد كأرباب " يصفهم بالكبر و التيه.
فإن قلت: كيف قال عنهم إنهم عبيد وكانوا عربا صلبية؟ قلت: يريد أن أخلاقهم
كأخلاق العبيد، من الغدر والخلاف ودناءة الأنفس، وفيهم مع ذلك كبر السادات والأرباب
وتيههم، فقد جمعوا خصال السوء كلها.
وأيادي سبأ، مثل يضرب للمتفرقين، وأصله قوله تعالى عن أهل سبأ: (ومزقناهم

(1) من قوله تعالى في سورة الأعراف 79: (وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربى
ونصحت لكم).
74

كل ممزق) (1) وسبأ مهموز، وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، ويقال:
ذهبوا أيدي سبا، وأيادي سبا، الياء ساكنة، وكذلك الألف، وهكذا نقل المثل، أي
ذهبوا متفرقين، وهما اسمان جعلا واحدا، مثل معدى كرب.
قوله: " تتخادعون عن مواعظكم "، أي تمسكون عن الاتعاظ والانزجار،
وتقلعون عن ذلك، من قولهم: كان فلان يعطى ثم خدع، أي أمسك وأقلع. ويجوز أن
يريد: تتلونون وتختلفون في قبول الموعظة، من قولهم: لق فلان خلق خادع، أي متلون،
وسوق خادعة، أي مختلفة متلونة، ولا يجوز أن يريد باللفظة المعنى المشهور منها، لأنه إنما
يقال: فلان يتخادع لفلان، إذا كان يريه أنه منخدع له، وليس بمنخدع في الحقيقة، وهذا
لا يطابق معنى الكلام.
والخية: القوس. وقوله: " كظهر الخية "، يريد اعوجاجهم، كما أن ظهر القوس معوج.
وأعظل المقوم، أي أعضل داؤه، أي أعيا. ويروى: " أيها الشاهدة أبدانهم "،
بحذف الموصوف.
ثم أقسم أنه يود أن معاوية صارفه بهم، فأعطاه من أهل الشام واحدا، وأخذ منه
عشرة، صرف الدينار بالدراهم، أخذ هذا اللفظ عبد الله بن الزبير لما وفد إليه أهل البصرة،
وفيهم، الأحنف فتكلم منهم أبو حاضر الأسدي، وكان خطيبا جميلا، فقال له عبد الله بن
الزبير: اسكت، فوالله لوددت أن لي بكل عشرة من أهل العراق واحدا من أهل الشام
صرف الدينار بالدراهم، فقال: يا أمير المؤمنين، إن لنا ولك مثلا، أفتأذن في ذكره؟ قال:
نعم. قال: مثلنا ومثلك ومثل أهل الشام قول الأعشى:
علقتها عرضا وعلقت رجلا * غيري، وعلق أخرى غيرها الرجل (2)

(1) سورة سبأ 19
(2) هو أعشى قيس، ديوانه 13
75

أحبك أهل العراق وأحببت أهل الشام وأحب أهل الشام عبد الملك فما تصنع؟
ثم ذكر عليه السلام أنه منى، أي بلى منهم بثلاث واثنتين، إنما لم يقل بخمس، لان
الثلاث إيجابية والاثنتين سلبية، فأحب أن يفرق بين الاثبات والنفي.
ويروى: " لا أحرار صدق عند اللقاء "، جمع صادق. ولا إخوان ثقة عند البلاء،
أي موثوق بهم.
تربت أيديكم، كلمة يدعى على الانسان بها، أي لا أصبتم خيرا، وأصل " ترب "
أصابه التراب، فكأنه يدعو عليه بأن يفتقر حتى يلتصق بالتراب.
قوله: " فما إخالكم " أي فما أظنكم، والأفصح كسر الألف وهو السماع، وبنو
أسد يفتحونها وهو القياس.
قوله: " ألو " أصله " أن لو " ثم أدغمت النون في الألف فصارت كلمة واحدة.
وحمس الوغى، بكسر الميم: اشتد وعظم، فهو حمس وأحمس، بين الحمس والحماسة.
والوغى في الأصل: الأصوات والجلبة، وسميت الحرب نفسها وغى لما فيها من ذلك.
وقوله: " انفراج المرأة عن قبلها "، أي وقت الولادة.
قوله: " ألقطه لقطا " يريد أن الضلال غالب على الهدى، فأنا التقط طريق الهدى
من بين طريق الضلال لقطا من هاهنا وهاهنا كما يسلك الانسان طريقا دقيقة،
قد اكتنفها الشوك والعوسج من جانبيهما كليهما، فهو يلتقط النهج التقاطا.
* * *
الأصل:
انظروا أهل بيت نبيكم فالزموا سمتهم، واتبعوا أثرهم، فلن يخرجوكم من
هدى، ولن يعيدوكم في ردى، فإن لبدوا فالبدوا وإن نهضوا فانهضوا، ولا
تسبقوهم فتضلوا، ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا.
76

لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وآله فما أرى أحدا يشبههم منكم، لقد
كانوا يصبحون شعثا غبرا، وقد باتوا سجدا وقياما، يراوحون بين جباههم وخدودهم،
ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم، كأن بين أعينهم ركب المعزى، من
طول سجودهم، إذا ذكر الله هملت أعينهم حتى تبل جيوبهم، ومادوا كما يميد
الشجر يوم الريح العاصف، خوفا من العقاب، ورجاء للثواب.
الشرح:
السمت: الطريق، ولبد الشئ بالأرض، يلبد بالضم لبودا: التصق بها. ويصبحون
شعثا غبرا، من قشف العبادة وقيام الليل وصوم النهار وهجر الملاذ، فيراوحون بين جباههم
وخدودهم، تارة يسجدون على الجباه، وتارة يضعون خدودهم على الأرض بعد الصلاة، تذللا
وخضوعا. والمراوحة بين العمل: أن يعمل هذا مرة وهذا مرة، ويراوح بين رجليه، إذا قام
على هذه تارة وعلى هذه أخرى.
ويقال معزى لهذا الجنس من الغنم ومعز ومعيز وأمعوز ومعز، بالتسكين، وواحد المعز
ماعز، كصحب وصاحب، والأنثى ماعزة والجمع مواعز.
وهملت أعينهم: سالت، تهمل وتهمل.
ويروى " حتى تبل جباههم " أي يبل موضع السجود فتبتل الجبهة بملاقاته. ومادوا:
تحركوا واضطربوا، إما خوفا من العقاب كما يتحرك الرجل ويضطرب، أو رجاء للثواب
كما يتحرك النشوان من الطرب، وكما يتحرك الجذل المسرور من الفرح.
77

(97) الأصل:
ومن كلام له عليه السلام:
والله لا يزالون حتى لا يدعو لله محرما إلا استحلوه، ولا عقدا إلا حلوه،
وحتى لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلا دخله ظلمهم، ونبا به سوء رعتهم (1)، وحتى
يقوم الباكيان يبكيان: باك يبكى لدينه، وباك يبكى لدنياه، وحتى تكون
نصرة أحدكم من أحدهم كنصرة العبد من سيده، إذا شهد أطاعه، وإذا غاب
اغتابه، وحتى يكون أعظمكم فيها غناء أحسنكم بالله ظنا، فإن أتاكم الله
بعافية فاقبلوا، وإن ابتليتم فاصبروا، فإن العاقبة للمتقين.
* * *
الشرح:
تقدير الكلام: لا يزالون ظالمين، فحذف الخبر وهو مراد، وسدت " حتى "
وما بعدها مسد الخبر، ولا يصح ما ذهب إليه بعض المفسرين من أن " زال " بمعنى تحرك
وانتقل، فلا تكون محتاجة إلى خبر، بل تكون تامة في نفسها، لان تلك مستقبلها يزول
بالواو، وهاهنا بالألف لا يزالون، فهي الناقصة التي لم تأت تامة قط، ومثلها في أنها لا تزال
ناقصة: ظل وما فتى وليس.
والمحرم: ما لا يحل انتهاكه، وكذلك المحرمة بفتح الراء وضمها.
وبيوت المدر: هي البيوت المبنية في القرى، وبيوت الوبر: ما يتخذ في البادية من وبر
الإبل والوبر لها كالصوف للضأن، وكالشعر للمعز.

(1) زاد في مخطوطة النهج بعدها: " ونزل به غيهم ".
(2) مخطوطة النهج: " فإذا ".
78

وقد وبر البعير بالكسر، فهو وبر، وأوبر، إذا كثر وبره. ونبا به منزله: إذا
ضره لم يوافقه، وكذلك نبا به فراشه، فالفعل لازم، فإذا أردت تعديته بالهمزة قلت: قد أنبى
فلان على منزلي، أي جعله نابيا، وإن عديته بحرف الجر قلت: قد نبا بمنزلي فلان، أي
أنباه على، وهو في هذا الموضع معدى بحرف الجر.
وسوء رعتهم، أي سوء ورعهم، أي تقواهم. والورع بكسر الراء: الرجل التقى، ورع
يرع بالكسر فيهما ورعا ورعة، ويروى: " سوء رعيهم " أي سوء سياستهم وإمرتهم.
ونصرة أحدكم من أحدهم، أي انتصاره منه وانتقامه، فهو مصدر مضاف إلى الفاعل، وقد تقدم
شرح هذا المعنى، وقد حمل قوم هذا المصدر على الإضافة إلى المفعول وكذلك نصرة العبد،
وتقدير الكلام حتى يكون نصرة أحد هؤلاء الولاة لأحدكم كنصرة سيد العبد السيئ
الطريقة إياه، " ومن " في الموضعين مضافة إلى محذوف تقديره من جانب أحدهم ومن
جانب سيده، وهذا ضعيف لما فيه من الفصل بين العبد وبين قوله: " إذا شهد أطاعه "،
وهو الكلام الذي إذا استمر المعنى جعل حالا من العبد بقوله: " من سيده ". والضمير في
قوله: " فيها " يرجع إلى غير مذكور لفظا، ولكنه كالمذكور، يعنى الفتنة، أي حتى
يكون أعظمكم في الفتنة غناء.
ويروى برفع: " أعظمكم " ونصب " أحسنكم " والأول أليق، وهذا الكلام كله
إشارة إلى بنى أمية
79

(98) الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام:
نحمده على ما كان، ونستعينه من أمرنا على ما يكون، ونسأله المعافاة في
الأديان، كما نسأله المعافاة في الأبدان.
أوصيكم بالرفض لهذه الدنيا التاركة لكم وإن لم تحبوا تركها،
والمبلية لأجسامكم وإن كنتم تحبون تجديدها، فإنما مثلكم ومثلها كسفر
سلكوا سبيلا فكأنهم قد قطعوه، وأموا علما فكأنهم قد بلغوه. وكم عسى
المجرى إلى الغاية أن يجرى إليها حتى يبلغها! وما عسى أن يكون بقاء من له يوم
لا يعدوه، وطالب حثيث من الموت يحدوه، ومزعج في الدنيا عن الدنيا حتى
يفارقها رغما!
فلا تنافسوا في عز الدنيا وفخرها، ولا تعجبوا بزينتها ونعيمها، ولا تجزعوا
من ضرائها وبؤسها، فإن عزها وفخرها إلى انقطاع، وزينتها ونعيمها إلى زوال،
وضراءها وبؤسها إلى نفاد، وكل مدة فيها إلى انتهاء، وكل حي فيها إلى فناء.
أوليس لكم في آثار الأولين مزدجر، وفي آبائكم الأولين تبصرة ومعتبر،
إن كنتم تعقلون!
أولم تروا إلى الماضين منكم لا يرجعون، وإلى الخلف الباقين لا يبقون!
أولستم ترون أهل الدنيا يمسون ويصبحون على أحوال شتى: فميت يبكى،
وآخر يعزى، وصريع مبتلى، وعائد يعود، وآخر بنفسه يجود، وطالب للدنيا
80

والموت يطلبه، وغافل وليس بمغفول عنه، وعلى أثر الماضي ما يمضى الباقي!
ألا فاذكروا هاذم اللذات، ومنغص الشهوات، وقاطع الأمنيات، عند
المساورة للأعمال القبيحة، واستعينوا الله على أداء واجب حقه، وما لا يحصى من
أعداد نعمه وإحسانه.
* * *
الشرح:
لما كان الماضي معلوما جعل الحمد بإزائه، لان المجهول لا يحمد عليه، ولما كان المستقبل
غير معلوم جعل الاستعانة بإزائه، لان الماضي لا يستعان عليه، ولقد ظرف وأبدع عليه
السلام في قوله: " ونسأله المعافاة في الأديان، كما نسأله المعافاة في الأبدان "، وذلك أن
للأديان سقما وطبا وشفاء، كما أن للأبدان سقما وطبا وشفاء، قال محمود الوراق:
وإذا مرضت من الذنوب فداوها * بالذكر إن الذكر خير دواء
والسقم في الأبدان ليس بضائر * والسقم في الأديان شر بلاء
وقيل لأعرابي: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي، قيل: فما تشتهى؟ قال: الجنة، قيل:
أفلا ندعو لك طبيبا؟ قال: الطبيب أمرضني.
سمعت عفيرة بنت الوليد البصرية العابدة رجلا يقول: ما أشد العمى على من كان
بصيرا! فقالت: عبد الله! غفلت عن مرض الذنوب، واهتممت بمرض الأجساد، عمى
القلوب عن الله أشد من عمى العين عن الدنيا، وددت أن الله وهب لي كنه محبته، ولم يبق
منى جارحة إلا تبلها (1).
قيل لحسان بن أبي سنان في مرضه: ما مرضك؟ قال: مرض لا يفهمه الأطباء، قيل:

(1) تبلها: أسقمها.
81

وما هو؟ قال: مرض الذنوب، فقيل: كيف تجدك الآن، قال: بخير إن نجوت من النار،
قيل: فما تشتهى؟ قال ليلة طويلة بعيدة ما بين الطرفين أحييها بذكر الله.
ابن شبرمة: عجبت ممن يحتمى من الطعام مخافة الداء، كيف لا يحتمى من الذنوب
مخافة النار!
قوله عليه السلام: " الدنيا التاركة لكم وإن لم تحبوا تركها " معنى حسن، ومنه
قول أبى الطيب:
كل دمع يسيل منها عليها * وبفك اليدين عنها تخلى (1)
والرفض: الترك، وإبل رفض: متروكة ترعى حيث شاءت، وقوم سفر، أي
مسافرون. وأموا: قصدوا، والعلم: الجبل أو المنار في الطريق يهتدى به.
وكأن في هذه المواضع كهي في قوله: " كأنك بالدنيا لم تكن، وكأنك بالآخرة
لم تزل، ما أقرب ذلك وأسرعه! "، وتقدير الكلام هاهنا: كأنهم في حال كونهم غير قاطعين
له قاطعون له، وكأنهم في حال كونهم غير بالغين له بالغون له، لأنه لما قرب زمان إحدى
الحالتين من زمان الأخرى شبهوا وهم في الحال الأولى بهم أنفسهم وهم على الحال الثانية.
قوله عليه السلام: " وكم عسى المجرى " أجرى فلان فرسه إلى الغاية إذا أرسلها،
ثم نقل ذلك إلى كل من يقصد بكلامه معنى أو بفعله غرضا، فقيل: فلان يجرى بقوله إلى
كذا، أو يجرى بحركته الفلانية إلى كذا، أي يقصد وينتهي بإرادته وأغراضه ولا يعدوه
ولا يتجاوزه.
والحثيث: السريع. ويحدوه: يسوقه. والمنافسة: المحاسدة، ونفست عليه بكذا، أي
أي ضننت. والبؤس: الشدة. والنفاد: الفناء.

(1) ديوانه 3: 131.
82

وما في قوله: " على أثر الماضي ما يمضى الباقي "، إما زائدة أو مصدرية. وقد أخذ هذا
اللفظ الوليد بن يزيد بن عبد الملك يوم مات مسلمة بن عبد الملك، قيل: لما مات مسلمة بن
عبد الملك، واجتمع بنو أمية ورؤساء العرب ينظرون جنازته، خرج الوليد بن يزيد على
الناس وهو نشوان ثمل يجر مطرف خز، وهو يندب مسلمة ومواليه حوله، فوقف على
هشام، فقال: يا أمير المؤمنين، إن عقبى من بقي لحوق من مضى، وقد أقفر بعد مسلمة
الصيد لمن رمى، واختل الثغر فوهى، وارتج الطود فهوى، وعلى أثر من سلف ما يمضى
من خلف، فتزودوا فإن خير الزاد التقوى.
قوله عليه السلام: " عند مساورة الأعمال القبيحة " العامل في " عند " قوله:
" اذكروا " أي ليكن ذكركم الموت وقت مساورتكم، والمساورة: المواثبة، وسار إليه
يسور سورا: وثب، قال الأخطل يصف خمرا له.
لما أتوها بمصباح ومبزلهم * سارت إليهم سور الأبجل الضاري (1)
أي كوثوب العرق الذي قد فصد أو قطع فلا يكاد ينقطع دمه، ويقال: أن لغضبه
لسورة، وهو سوار، أي وثاب معربد.

(1) ديوانه 118. المبزل: الثقب في جانب الخابية تجرى منه الخمر صافية. والأبجل: عرق يكون في
الدواب، ورواية الديوان: " سؤر الأبجل ".
83

(99) ومن خطبة له عليه السلام:
الأصل:
الحمد لله الناشر في الخلق فضله، والباسط فيهم بالجود يده. نحمده في جميع
أموره، ونستعينه على رعاية حقوقه، ونشهد أن لا إله غيره، وأن محمدا عبده
ورسوله، أرسله بأمره صادعا، وبذكره ناطقا، فأدى أمينا، ومضى رشيدا،
وخلف فينا راية الحق، من تقدمها مرق، ومن تخلف عنها زهق، ومن لزمها لحق.
دليلها مكيث الكلام، بطئ القيام، سريع إذا قام، فإذا أنتم ألنتم له رقابكم،
وأشرتم إليه بأصابعكم، جاءه الموت فذهب به، فلبثتم بعده ما شاء الله، حتى
يطلع الله لكم من يجمعكم ويضم نشركم، فلا تطمعوا في غير مقبل، ولا تيأسوا
من مدبر، فإن المدبر عسى أن تزل به إحدى قائمتيه، وتثبت الأخرى فترجعا
حتى تثبتا جميعا.
ألا إن مثل آل محمد صلى الله عليه كمثل نجوم السماء، إذا خوى نجم طلع
نجم، فكأنكم قد تكاملت من الله فيكم الصنائع، وأراكم ما كنتم تأملون.
* * *
الشرح:
يده هاهنا: نعمته، يقال: لفلان عندي يد، أي نعمة وإحسان، قال الشاعر:
فإن ترجع الأيام بيني وبينها * فإن لها عندي يدا لا أضيعها
84

وصادعا، أي مظهرا ومجاهرا للمشركين، قال تعالى: (فاصدع بما تؤمر) (1).
وراية الحق: الثقلان المخلفان بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، وهما
الكتاب والعترة.
ومرق: خرج، أي فارق الحق، ومرق السهم عن الرمية: خرج من جانبها الآخر،
وبه سميت الخوارج مارقة.
وزهقت نفسه، بالفتح زهوقا، أي خرجت قال تعالى: (وتزهق أنفسهم وهم
كافرون) (2). وزهقت الناقة، إذا سبقت وتقدمت أمام الركاب، وزهق الباطل:
اضمحل، يقول عليه السلام: من خالفها متقدما لها أو متأخرا عنها فقد خرج عن الحق،
ومن لازمها فقد أصاب الحق.
ثم قال: " دليلها مكيث الكلام "، يعنى نفسه عليه السلام، لأنه المشار إليه من
العترة، وأعلم الناس بالكتاب. ومكيث الكلام: بطيئه، ورجل مكيث أي رزين،
والمكث: اللبث والانتظار، مكث ومكث بالفتح والضم، والاسم المكث والمكثة
بالضم وكسرها يعنى أنه ذو أناة وتؤدة، ثم أكد ذلك بقوله: " بطئ القيام ".
ثم قال: " سريع إذا قام "، أي هو متأن متثبت في أحواله، فإذا نهض جد وبالغ،
وهذا المعنى كثير جدا، قال أبو الطيب:
وما قلت للبدر أنت اللجين * ولا قلت للشمس أنت الذهب (3)
فيقلق منه البعيد الأناة * ويغضب منه البطئ الغضب
يعنى سيف الدولة.

(1) سورة الحجر 94
(2) سورة التوبة 85
(3) ديوانه 1: 97
85

[أقوال مأثورة في مدح الأناة وذم العجلة]
ومن أمثالهم: " يريك الهوينى والأمور تطير "، يضرب لمن ظاهره الأناة وباطنه
إبرام الأمور وتنفيذها والحاضرون لا يشعرون، ويقولون لمن هو كذلك: (وترى الجبال
تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب) (1).
ووقع ذو الرياستين إلى عامل له: إن أسرع النار التهابا أسرعها خمودا، فتأن في أمرك.
ويقال: إن آدم عليه السلام أوصى ولده عند موته فقال: كل عمل تريدون أن تعملوه
فتوقفوا فيه ساعة، فإني لو توقفت لم يصبني ما أصابني.
بعض الاعراب يوصى ولده: إياكم والعجلة، فإن أبى كان يكنيها: أم الندم.
وكان يقال: من ورد عجلا صدر خجلا.
وقال ابن هانئ المغربي:
وكل أناة في المواطن سؤدد * ولا كأناة من قدير محكم (2)
ومن يتبين أن للصفح موضعا * من السيف يصفح عن كثير ويحلم
وما الرأي إلا بعد طول تثبت * ولا الحزم إلا بعد طول تلوم (3).
وقوله عليه السلام " بطئ القيام، سريع إذا قام " فيه شبه من قول الشنفري:
مسبل في الحي أحوى رفل * وإذا يغزو فسمع أزل.
ومن أمثالهم في مدح الأناة وذم العجلة: أخطأ مستعجل أو كاد، وأصاب متثبت
أو كاد.

(1) سورة النمل 88
(2) ديوانه. 67
(3) تلوم في الامرة: تمكث فيه وانتظر.
86

ومنها:
* وقد يكون مع المستعجل الزلل (1) *
ومنها: رب عجلة تهب ريثا (2).
وقال البحتري:
حليم إذا القوم استخفت حلومهم * وقور إذا ما حادث الدهر أجلبا (3)
قال الأحنف لرجل سبه فأفرط: يا هذا إنك منذ اليوم تحدو بجمل ثقال.
وقال الشاعر:
أحلامنا تزن الجبال رجاحة * وتخالنا جنا إذا ما نجهل
[فصل في مدح قلة الكلام وذم كثرته]
فأما قوله عليه السلام: " مكيث الكلام "، فإن قلة الكلام من صفات المدح، وكثرته
من صفات الذم. قالت جارية ابن السماك له: ما أحسن كلامك لولا أنك تكثر ترداده! فقال:
أردده حتى يفهمه من لم يفهمه، قالت: فإلى أن يفهمه من لم يفهمه قد مله من فهمه.
بعث عبد العزيز بن مروان بن الحكم إلى ابن أخيه الوليد بن عبد الملك قطيفة حمراء
وكتب إليه: أما بعد، فقد بعثت إليك بقطيفة حمراء، حمراء، حمراء، فكتب إليه
الوليد: أما بعد، فقد وصلت القطيفة، وأنت يا عم أحمق، أحمق، أحمق.

(1) صدره:
* قد يدرك المتأني بعض حاجته *
وبعده:
وربما فات قوما جل أمرهم * لو توانوا وكان الرأي لو عجلوا
(2) أول من قاله مالك بن عوف الشيباني. مجمع الأمثال 1: 294
(3) ديوانه 1: 55
87

وقال المعتضد لأحمد بن الطيب السرخسي: طول لسانك دليل على قصر عقلك.
قيل للعتابي: ما البلاغة؟ قال: كل من أفهمك حاجته من غير إعادة ولا خلسة
ولا استعانة فهو بليغ. قيل له: ما الاستعانة؟ قال: ألا ترى الرجل إذا حدث قال:
يا هناه، واستمع إلى، وافهم، وألست تفهم؟.. هذا كله عي وفساد.
دخل على المأمون جماعة من بنى العباس، فاستنطقهم فوجدهم لكنا مع يسار وهيئة
ومن تكلم منهم أكثر وهذر، فكانت حاله أفحش من حال الساكتين، فقال: ما أبين
الخلة في هؤلاء! لا خلة الأيدي بل خلة الألسنة والأحلام.
وسئل علي عليه السلام عن اللسان، فقال: معيار أطاشه الجهل، وأرجحه العقل.
سمع خالد بن صفوان مكثارا يتكلم، فقال له: يا هذا، ليست البلاغة بخفة اللسان،
ولا بكثرة الهذيان، ولكنها إصابة المعنى والقصد إلى الحجة.
قال أبو سفيان بن حرب لعبد الله بن الزبعرى: ما لك لا تسهب في شعرك؟ قال: حسبك
من الشعر غرة لائحة، أو وصمة فاضحة.
وفي خطبة كتاب " البيان والتبيين "، لشيخنا أبى عثمان: " ونعوذ بك من شر السلاطة
والهذر، كما نعوذ بك من العي والحصر، قال أحيحة بن الجلاح:
والصمت أجمل بالفتى * ما لم يكن عي يشينه (1)
والقول ذو خطل إذا * ما لم يكن لب يعينه
وقال الشاعر يرثي رجلا:
لقد وارى المقابر من شريك * كثير تحلم وقليل عاب (2)

(1) البيان والتبيين 1: 5
(2) البيان والتبيين، ونسبهما إلى محرز بن علقمة.
88

صموتا في المجالس غير عي * جديرا حين ينطق بالصواب.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يكره التشادق والإطالة والهذر، وقال: إياك
والتشادق، وقال صلى الله عليه وآله: " أبغضكم إلى الثرثارون المتفيهقون ".
وروى عمرو بن عبيد رحمه الله تعالى، عن النبي صلى الله عليه وآله: " إنا معاشر الأنبياء
بكاءون قليلو الكلام "، رجل بكئ على " فعيل ".
قال: وكانوا يكرهون أن يزيد منطق الرجل على عقله.
وقيل للخليل، وقد اجتمع بابن المقفع: كيف رأيته؟ فقال: لسانه أرجح من عقله.
وقيل لابن المقفع: كيف رأيت الخليل؟ قال: عقله أرجح من لسانه. فكان عاقبتهما
أن عاش الخليل مصونا مكرما، وقتل ابن المقفع تلك القتلة.
وسأل حفص بن سالم عمرو بن عبيد عن البلاغة: فقال ما بلغك الجنة، وباعدك عن
النار، وبصرك مواقع رشدك، وعواقب غيك. قال: ليس عن هذا أسأل، فقال كانوا
يخافون من فتنة القول، ومن سقطات الكلام، ولا يخافون من فتنة السكوت
وسقطات الصمت.
قال أبو عثمان الجاحظ: وكان عمرو بن عبيد رحمه الله تعالى: لا يكاد يتكلم، فإن تكلم
لم يكد يطيل، وكان يقول: لا خير في المتكلم إذا كان كلامه لمن شهده دون نفسه، وإذا
أطال المتكلم الكلام عرضت له أسباب التكلف، ولا خير في شئ يأتيك
بالتكلف.
وقال بعض الشعراء:
وإذا خطبت على الرجال فلا تكن * خطل الكلام تقوله مختالا
89

واعلم بأن من السكوت إبانة ومن التكلف ما يكون خبالا (1)
وكان يقال: لسان العاقل من وراء قلبه، فإذا أراد الكلام تفكر، فإن كان له قال،
وإن كان عليه سكت، وقلب الجاهل من وراء لسانه، فإن هم بالكلام تكلم به.
وقال سعد بن أبي وقاص لعمرو ابنه حين نطق مع القوم فبذهم، وقد كان غضب
عليه، فكلموه في الرضا عنه: هذا الذي أغضبني عليه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله
يقول: " يكون قوم يأكلون الدنيا بألسنتهم كما تلحس الأرض البقر بألسنتها ".
وقال معاوية لعمرو بن العاص في أبى موسى: قد ضم إليك رجل طويل اللسان قصير
الرأي فأجد الحز، وطبق المفصل، ولا تلقه برأيك كله.
وكان يقال: لو كان الكلام من فضة لكان السكوت من ذهب.
وكان يقال: مقتل الرجل بين فكيه، وقيل: بين لحييه.
وكان يقال: ما شئ بأحق بسجن من لسان.
وقالوا: اللسان سبع عقور.
وأخذ أبو بكر بطرف لسانه، وقال: هذا الذي أوردني الموارد.
لما أنكح ضرار بن عمرو ابنته من معبد بن زرارة، أوصاها حين أخرجها إليه فقال:
أمسكي عليك الفضلين، قالت: وما هما؟ قال: فضل الغلمة، وفضل الكلام.
وسئل أعرابي كان يجالس الشعبي عن طول صمته، فقال: أسمع فأعلم،
وأسكت فأسلم.
وقال النبي صلى الله عليه وآله: " وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد
ألسنتهم " (2)!

(1) البيان والتبيين 1: 135، ونسبهما إلى بعض الكلبين.
(2) النهاية لابن الأثير 1: 233، قال في شرحه: أي ما يقتطعونه من الكلام الذي لا خير فيه،
واحدتها حصيدة، تشبيها بما يحصد من الزرع، وتشبيها باللسان وما يقتطعه بحد المنجل الذي يحصد به "
90

وتكلم رجل في مجلس النبي صلى الله عليه وآله فخطل في كلامه، فقال عليه السلام:
" ما أعطى العبد شرا من ذلاقة لسان ".
قال عمر بن عبد العزيز يوم بويع بالخلافة لخالد بن عبد الله القسري، وقد أنشده متمثلا:
وإذا الدر زان حسن نحور * كان للدر حسن نحرك زينا
إن صاحبكم أعطى مقولا، وحرم معقولا.
وقيل لإياس بن عمر: أدع لنا، فقال: اللهم ارحمنا وعافنا وارزقنا، فقالوا: زدنا
يا أبا الرحمن، فقال: أعوذ بالله من الإسهاب.
وكان القباع - وهو الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي - مسهابا،
سريع الحديث كثيره، فقال فيه أبو الأسود الدؤلي:
أمير المؤمنين جزيت خيرا * أرحنا من قباع بنى المغيرة (1)
بلوناه ولمناه فأعيا * علينا ما يمر لنا مريره
على أن الفتى نكح أكول * ومسهاب، مذاهبه كثيره
وقال أبو العتاهية:
كل امرئ في نفسه * أعلى وأشرف من قرينه (2)
والصمت أجمل بالفتى * من منطق في غير حينه
وقال الشاعر:
وإياك إياك المراء فإنه * إلى الشر دعاء وللشر جالب
وكان يقال: العجلة قيد الكلام.

(1) ملحق ديوانه 47
(2) ديوانه 282.
91

أطال خطيب بين يدي الإسكندر فزبره، قال: ليس حسن الخطبة على حسب طاقة
الخاطب، ولكن على حسب طاقة السامع.
محمد الباقر عليه السلام: إني لأكره أن يكون مقدار لسان الرجل فاضلا على مقدار
علمه، كما أكره أن يكون مقدار علمه فاضلا على مقدار عقله.
أطال ربيعة الرأي الكلام، وعنده أعرابي، فلما فرغ من كلامه قال للأعرابي:
ما تعدون العي والفهاهة فيكم؟ قال: ما كنت فيه أصلحك الله منذ اليوم!
ومن كلام أمير المؤمنين عليه السلام: إذا تم العقل نقص الكلام.
واصل بن عطاء: لان يقول الله لي يوم القيامة: هلا قلت: أحب إلى، من أن تقول
لي: لم قلت؟ لأني إذا قلت طالبني بالبرهان، وإذا سكت لم يطالبني بشئ.
نزل النعمان بن المنذر برابية، فقال له رجل من أصحابه: أبيت اللعن! لو ذبح رجل على
رأس هذه الرابية، إلى أين كان يبلغ دمه؟ فقال النعمان: المذبوح والله أنت، ولأنظرن
إلى أين يبلغ دمك! فذبحه. فقال رجل: رب كلمة تقول: دعني.
أعرابي: رب منطق صدع جمعا، ورب سكوت شعب صدعا.
قالت امرأة لبعلها: ما لك إذا خرجت تطلقت وتحدثت، وإذا دخلت قعدت
وسكت؟ قال: لأني أدق عن جليلك، وتجلين عن دقيقي.
النخعي: كانوا يتعلمون السكوت كما يتعلمون الكلام.
علي بن هشام:
لعمرك إن الحلم زين لأهله * وما الحلم إلا عادة وتحلم
إذا لم يكن صمت الفتى من بلادة * وعى، فإن الصمت أهدى وأسلم
وهيب بن الورد: إن الحكمة عشرة أجزاء، تسعة منها في الصمت، والعاشرة العزلة
عن الناس.
92

مكث الربيع بن خثيم عشرين سنة لا يتكلم إلى أن قتل الحسين عليه السلام،
فسمعت منه كلمة واحدة، قال لما بلغه ذلك: أو قد فعلوها! ثم قال: اللهم فاطر السماوات
والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون. ثم عاد
إلى السكوت حتى مات.
الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب:
زعم ابن سلمى أن حلمي ضرني * ما ضر قبلي أهله الحلم
إنا أناس من سجيتهم * صدق الحديث ورأيهم حتم
لبسوا الحياء فإن نظرت حسبتهم * سقموا ولم يمسسهم سقم
إني وجدت العدم أكبره * عدم العقول وذلك العدم
والمرء أكثر عيبه ضررا * خطل اللسان وصمته حكم
جاء في الحديث المرفوع عن النبي صلى الله عليه وآله: " إذا رأيتم المؤمن صموتا فأدنوا
منه، فإنه يلقى الحكمة ".
سفيان بن عيينة: من حرم العلم فليصمت، فإن حرمها فالموت خير له.
وكان يقال: إذا طلبت صلاح قلبك فاستعن عليه بحفظ لسانك.
* * *
واعلم أن هذه الخطبة خطب بها أمير المؤمنين عليه السلام في الجمعة الثالثة من خلافته،
وكنى فيها عن حال نفسه، وأعلمهم فيها أنهم سيفارقونه ويفقدونه بعد اجتماعهم عليه،
وطاعتهم له، وهكذا وقع الامر، فإنه نقل أن أهل العراق لم يكونوا أشد اجتماعا عليه
من الشهر الذي قتل فيه عليه السلام.
وجاء في الاخبار أنه عقد للحسن ابنه عليه السلام على عشرة آلاف، ولأبي أيوب
93

الأنصاري على عشرة آلاف، ولفلان وفلان، حتى اجتمع له مائة ألف سيف، وأخرج
مقدمته أمامه يريد الشام فضربه اللعين ابن ملجم، وكان من أمره ما كان، وانفضت
تلك الجموع، وكانت كالغنم فقد راعيها.
ومعنى قوله: " ألنتم له رقابكم " أطعتموه، ومعنى " أشرتم إليه بأصابعكم "
أعظمتموه وأجللتموه، كالملك الذي يشار إليه بالإصبع، ولا يخاطب باللسان. ثم
أخبرهم أنهم يلبثون بعده ما شاء الله، ولم يحدد ذلك بوقت معين.
ثم يطلع الله لهم من يجمعهم ويضمهم، يعنى من أهل البيت عليه السلام، وهذا
إشارة إلى المهدى الذي يظهر في آخر الوقت. وعند أصحابنا أنه غير موجود الآن وسيوجد،
وعند الإمامية أنه موجود الآن.
قوله عليه السلام: " فلا تطمعوا في غير مقبل، ولا تيأسوا من مدبر "، ظاهر هذا
الكلام متناقض، وتأويله أنه نهاهم عن أن يطمعوا في صلاح أمورهم على يد رئيس غير
مستأنف الرياسة، وهو معنى مقبل أي قادم، تقول: سوف أفعل كذا في الشهر المقبل،
وفي السنة المقبلة، أي القادمة، يقول: كل الرئاسات التي تشاهدونها فلا تطمعوا في صلاح
أموركم بشئ منها، وإنما تنصلح أموركم على يد رئيس يقدم عليكم، مستأنف الرياسة
خامل الذكر، ليس أبوه بخليفة، ولا كان هو ولا أبوه مشهورين بينكم برياسة، بل
يتبع ويعلو أمره، ولم يكن قبل معروفا هو ولا أهله الأدنون، وهذه صفة المهدى
الموعود به.
ومعنى قوله: " ولا تيأسوا من مدبر "، أي وإذا مات هذا المهدى وخلفه بنوه بعده،
فاضطرب أمر أحدهم فلا تيأسوا وتتشككوا، وتقولوا: لعلنا أخطأنا في اتباع هؤلاء،
فإن المضطرب الامر منا ستثبت دعائمه، وتنتظم أموره، وإذا زلت إحدى رجليه ثبتت
94

الأخرى فثبتت الأولى أيضا. ويروى: " فلا تطعنوا في عين مقبل "، أي لا تحاربوا أحدا
منا ولا تيأسوا من إقبال من يدبر أمره منا.
ثم ذكر عليه السلام أنهم كنجوم السماء، كلما خوى نجم طلع نجم، خوى:
مال للمغيب.
ثم وعدهم بقرب الفرج، فقال: إن تكامل صنائع الله عندكم، ورؤية ما تأملونه
أمر قد قرب وقته، وكأنكم به وقد حضر وكان، وهذا على نمط المواعيد الإلهية بقيام
الساعة، فإن الكتب المنزلة كلها صرحت بقربها، وإن كانت بعيدة عندنا، لان البعيد
في معلوم الله قريب، وقد قال سبحانه: (إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا).
95

(100) الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام:
الحمد لله الأول قبل كل أول، والآخر بعد كل آخر، وبأوليته وجب
أن لا أول له، وبآخريته وجب أن لا آخر له.
* * *
الشرح:
يقول: الباري تعالى موجود قبل كل شئ، يشير العقل إليه ويفرضه أول
الموجودات، وكذلك هو موجود بعد كل شئ، يشير العقل إليه ويفرضه آخر ما يبقى
من جميع الموجودات، فإن البارئ سبحانه بالاعتبار الأول يكون أولا قبل كل ما يفرض
أولا، وبالاعتبار الثاني يكون آخرا بعد كل ما يفرض آخرا.
فأما قوله: " بأوليته وجب أن لا أول له... "، إلى آخر الكلام، فيمكن أن
يفسر على وجهين:
أحدهما أنه تعالى لما فرضناه أولا مطلقا، تبع هذا الفرض أن يكون قديما أزليا، وهو
المعنى بقوله: " وجب أن لا أول " وإنما تبعه ذلك، لأنه لو لم يكن أزليا لكان محدثا
فكان له محدث، والمحدث متقدم على المحدث، لكنا فرضناه أولا مطلقا، أي لا يتقدم
عليه شئ، فيلزم المحال والخلف. وهكذا القول في آخريته، لأنا إذا فرضناه آخرا مطلقا،
تبع هذا الفرض أن يكون مستحيل العدم، وهو المعنى بقوله: " وجب أن لا آخر له "،
96

وإنما تبعه ذلك، لأنه لو لم يستحل عدمه لصح عدمه، لكن كل صحيح
وممكن فليفرض وقوعه، لأنه لا يلزم من فرض وقوعه محال، مع فرضنا إياه صحيحا
وممكنا، لكن فرض تحقق عدمه محال، لأنه لو عدم لما عدم بعد استمرار الوجودية إلا
بضد لكن الضد المعدم يبقى بعد تحقق عدم الضد المعدوم لاستحالة أن يعدمه، ويعدم
معه في وقت واحد، لأنه لو كان وقت عدم الطارئ هو وقت عدم الضد المطروء عليه،
لامتنع عدم الضد المطروء عليه، لان حال عدمه الذي هو الأثر المتجدد تكون العلة الموجبة
للأثر معدومة، والمعدوم يستحيل أن يكون مؤثرا البتة، فثبت أن الضد الطارئ لابد
أن يبقى بعد عدم المطروء عليه ولو وقتا واحدا، لكن بقاؤه بعده ولو وقتا واحدا يناقض
فرضنا كون المطروء عليه آخرا مطلقا، لان الضد الطارئ قد بقي بعده، فيلزم من الخلف
والمحال ما لزم في المسألة الأولى.
والتفسير الثاني: ألا تكون الضمائر الأربعة راجعة إلى البارئ سبحانه، بل يكون
منها ضميران راجعين إلى غيره، ويكون تقدير الكلام بأولية الأول الذي فرضنا كون
البارئ سابقا عليه، علمنا أن البارئ لا أول له، وبآخرية الاخر الذي فرضنا أن البارئ
متأخر عنه، علمنا أن البارئ لا آخر له، وإنما علمنا ذلك لأنه لو كان سبحانه أولا لأول
الموجودات وله مع ذلك أول لزم التسلسل، وإثبات محدثين ومحدثين إلى غير نهاية،
وهذا محال.
ولو كان سبحانه آخرا لآخر الموجودات وله مع ذلك آخر لزم التسلسل، وإثبات
أضداد تعدم ويعدمها غيرها إلى غير نهاية، وهذا أيضا محال.
* * *
الأصل:
وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة يوافق فيها السر الاعلان، والقلب اللسان
97

أيها الناس لا يجرمنكم شقاقي، ولا يستهوينكم عصياني، ولا تتراموا
بالابصار عندما تسمعونه منى، فوالذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، أن الذي
أنبئكم به عن النبي الأمي (1) صلى الله عليه، والله (2) ما كذب المبلغ، ولا جهل
السامع.
لكأني أنظر إلى ضليل قد نعق بالشام، وفحص براياته في ضواحي كوفان،
فإذا فغرت فاغرته، واشتدت شكيمته، وثقلت في الأرض وطأته، عضت الفتنة
أبناءها بأنيابها، وماجت الحرب بأمواجها، وبدا من الأيام كلوحها، ومن الليالي
كدوحها، فإذا أينع زرعه، وقام على ينعه (3)، وهدرت شقاشقه، وبرقت بوارقه،
عقدت رايات الفتن المعضلة، وأقبلن كالليل المظلم، والبحر الملتطم.
هذا وكم يخرق الكوفة من قاصف، ويمر عليها من عاصف! وعن قليل تلتف
القرون بالقرون، ويحصد القائم ويحطم المحصود!
* * *
الشرح:
في الكلام محذوف، وتقديره: " لا يجرمنكم شقاقي على أن تكذبوني "، والمفعول
فضلة وحذفه كثير، نحو قوله تعالى: (الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) (4)،
فحذف العائد إلى الموصول، ومنها قوله سبحانه: (لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من
رحم) (5) أي من رحمه، ولا بد من تقدير العائد إلى الموصول، وقد قرئ قوله: (وما عملته
أيديهم) و (ما عملت أيديهم) (6)، بحذف المفعول.
لا يجرمنكم: لا يحملنكم، وقيل: لا يكسبنكم وهو من الألفاظ القرآنية.

(1) مخطوطة النهج بعد هذه الكلمة " القرشي "
(2) ساقطة من مخطوطة النهج.
(3) مخطوطة النهج: " ساقه "
(4) سورة العنكبوت 62.
(5) سورة هود 43
(6) سورة يس 35.
98

ولا يستهوينكم: أي لا يستهيمنكم يجعلكم هائمين.
ولا تتراموا بالابصار، أي لا يلحظ بعضكم بعضا، فعل المنكر المكذب.
ثم أقسم بالذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، فلق الحبة من البر، أي شقها وأخرج منها
الورق الأخضر، قال تعالى: إن الله فالق الحب والنوى) (1).
وبرأ النسمة، أي خلق الانسان، وهذا القسم لا يزال أمير المؤمنين يقسم به، وهو من
مبتكراته ومبتدعاته.
والمبلغ والسامع هو نفسه عليه السلام، يقول: ما كذبت على الرسول تعمدا،
ولا جهلت ما قاله فأنقل عنه غلطا.
والضليل: الكثير الضلال، كالشريب والفسيق ونحوهما.
وهذا كناية عن عبد الملك بن مروان، لأن هذه الصفات والأمارات فيه أتم
منها في غيره، لأنه قام بالشام حين دعا إلى نفسه، وهو معنى نعيقه، وفحصت
راياته بالكوفة، تارة حين شخص بنفسه إلى العراق وقتل مصعبا، وتارة لما استخلف
الامراء على الكوفة كبشر بن مروان أخيه، وغيره حتى انتهى الامر إلى الحجاج، وهو
زمان اشتداد شكيمة عبد الملك وثقل وطأته، وحينئذ صعب الامر جدا، وتفاقمت
الفتن مع الخوارج وعبد الرحمن بن الأشعث، فلما كمل أمر عبد الملك - وهو معنى " أينع
زرعه " هلك، وعقدت رايات الفتن المعضلة من بعده، كحروب أولاده مع بنى المهلب،
وكحروبهم مع زيد بن علي عليه السلام، وكالفتن الكائنة بالكوفة أيام يوسف بن عمر
وخالد القسري وعمر بن هبيرة وغيرهم، وما جرى فيها من الظلم واستئصال الأموال،
وذهاب النفوس.

(1) سورة الأنعام 95
99

وقد قيل: إنه كنى عن معاوية وما حدث في أيامه من الفتن، وما حدث بعده من
فتنة يزيد وعبيد الله بن زياد، وواقعة الحسين عليه السلام، والأول أرجح، لان معاوية
في أيام أمير المؤمنين عليه السلام كان قد نعق بالشام، ودعاهم إلى نفسه، والكلام يدل
على إنسان ينعق فيما بعد، ألا تراه يقول: لكأني أنظر إلى ضليل قد نعق بالشام!
* * *
ثم نعود إلى تفسير الألفاظ والغريب.
النعيق: صوت الراعي بغنمه، وفحص براياته. من قولهم: ما له مفحص قطاة، أي
مجثمها، كأنهم جعلوا ضواحي الكوفة مفحصا ومجثما لراياتهم.
وكوفان: اسم الكوفة، والكوفة في الأصل: اسم الرملة الحمراء، وبها سميت الكوفة.
وضواحيها: نواحيها القريبة منها البارزة عنها، يريد رستاقها.
وفغرت فاغرته: فتح فاه، وهذا من باب الاستعارة، أي إذا فتك فتح فاه وقتل، كما
يفتح الأسد فاه عند الافتراس والتأنيف للفتنة.
والشكيمة في الأصل: حديدة معترضة في اللجام في فم الدابة، ثم قالوا: فلان شديد
الشكيمة، إذا كان شديد المراس شديد النفس عسر الانقياد.
وثقلت وطأته: عظم جوره وظلمه. وكلوح الأيام: عبوسها، والكدوح: الآثار
من الجراحات.
والقروح: الواحد الكدح، أي الخدش.
والمراد من قوله: " من الأيام "، ثم قال: " ومن الليالي " أن هذه الفتنة مستمرة الزمان
كله، لان الزمان ليس إلا النهار والليل.
وأينع الزرع: أدرك ونضج، وهو الينع والينع، بالفتح والضم، مثل النضج والنضج
100

ويجوز ينع الزرع بغير همز، ينع ينوعا، ولم تسقط الياء في المضارع لأنها تقوت بأختها،
وزرع ينيع ويانع، مثل نضيج وناضج. وقد روى أيضا هذا الموضع بحذف الهمز.
وقوله عليه السلام: " وقام على ينعه " الأحسن أن يكون " ينع " هاهنا جمع يانع كصاحب
وصحب، ذكر ذلك ابن كيسان، ويجوز أن يكون أراد المصدر، أي وقام على صفة وحالة
هي نضجه وإدراكه.
وهدرت شقاشقه، قد مر تفسيره في الشقشقية وبرقت بوارقه: سيوفه ورماحه.
والمعضلة: العسرة العلاج داء معضل.
ويخرق الكوفة: يقطعها. والقاصف: الريح القوية تكسر كل ما تمر عليه وتقصفه.
ثم وعد عليه السلام بظهور دولة أخرى، فقال: " وعن قليل تلتف القرون بالقرون "،
وهذا كناية عن الدولة العباسية التي ظهرت على دولة بنى أمية. والقرون: الأجيال من
الناس، واحدها قرن، بالفتح.
ويحصد القائم، ويحطم المحصود: كناية عن قتل الامراء من بنى أمية في الحرب،
ثم قتل المأسورين منهم صبرا، فحصد القائم قتل المحاربة، وحطم الحصيد: القتل صبرا، وهكذا
وقعت الحال مع عبد الله بن علي، وأبى العباس السفاح
101

(101) ومن خطبة له عليه السلام تجرى هذا المجرى:
* * *
الأصل:
وذلك يوم يجمع الله فيه الأولين والآخرين لنقاش الحساب وجزاء الأعمال
خضوعا قياما قد ألجمهم العرق، ورجفت بهم الأرض، فأحسنهم حالا من وجد
لقدميه موضعا، ولنفسه متسعا.
الشرح:
هذا شرح حال يوم القيامة، والنقاش: مصدر ناقش، أي استقصى في الحساب،
وفي الحديث: " من نوقش الحساب عذب ".
وألجمهم العرق: سال منهم حتى بلغ إلى موضع اللجام من الدابة، وهو الفم.
ورجفت بهم: تحركت واضطربت، رجف يرجف بالضم، والرجفة: الزلزلة
والرجاف من أسماء البحر، سمى بذلك لاضطرابه.
ثم وصف الزحام الشديد الذي يكون هناك، فقال: أحسن الناس حالا هناك من
وجد لقدميه موضعا، ومن وجد مكانا يسعه.
* * *
الأصل:
ومنها:
فتن كقطع الليل المظلم، لا تقوم لها قائمة، ولا ترد لها راية، تأتيكم
مزمومة مرحولة يحفزها قائدها، ويجهدها راكبها، أهلها قوم شديد كلبهم، قليل
102

سلبهم، يجاهدهم في الله قوم أذلة عند المتكبرين، في الأرض مجهولون، وفي السماء
معروفون، فويل لك يا بصرة عند ذلك من جيش من نقم الله! لا رهج له ولا حس،
وسيبتلى أهلك بالموت الأحمر، والجوع الأغبر!
* * *
الشرح:
قطع الليل: جمع قطع، وهو الظلمة، قال تعالى: (فأسر بأهلك بقطع من
الليل). (1)
قوله: " لا تقوم لها قائمة "، أي لا تنهض بحربها فئة ناهضة، أو لا تقوم لتلك الفتن
قائمة من قوائم الخيل، يعنى لا سبيل إلى قتال أهلها، ولا يقوم لها قلعة قائمة أو بنية قائمة
بل تنهدم.
قوله: " ولا يرد لها راية "، أي لا تنهزم ولا تفر، لأنها إذا فرت فقد ردت
على أعقابها.
قوله: " مزمومة مرحولة "، أي تامة الأدوات كاملة الآلات، كالناقة التي عليها
رحلها وزمامها قد استعدت لان تركب.
يحفزها: يدفعها. ويجهدها: يحمل عليها في السير فوق طاقتها، جهدت دابتي، بالفتح،
ويجوز: أجهدت، والمراد أن أرباب تلك الفتن يجتهدون ويجدون في إضرام نارها، رجلا
وفرسانا، فالرجل كنى عنهم بالقائد، والفرسان كنى عنهم بالراكب.
والكلب: الشدة من البرد وغيره، ومثله الكلبة، وقد كلب الشتاء، وكلب القحط،
وكلب العدو، والكلب أيضا: الشر، دفعت عنك كلب فلان، أي
شره وأذاه.

(1) سورة هود 81
103

وقوله: " قليل سلبهم " أي همهم القتل لا السلب، كما قال أبو تمام.
إن الأسود أسود الغاب همتها يوم الكريهة في المسلوب لا السلب (1)
ثم ذكر عليه السلام أن هؤلاء أرباب الفتن يجاهدهم قوم أذلة، كما قال الله تعالى:
(أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) (2)، وذلك من صفات المؤمنين.
ثم قال: هم مجهولون عند أهل الأرض لخمولهم قبل هذا الجهاد، ولكنهم معروفون
عند أهل السماء، وهذا إنذار بملحمة تجرى في آخر الزمان، وقد أخبر النبي صلى الله عليه
وآله بنحو ذلك، وقد فسر هذا الفصل قوم وقالوا إنه أشار به إلى الملائكة لأنهم مجهولون
في الأرض، معروفون في السماء، واعتذروا عن لفظة " قوم "، فقالوا: يجوز أن يقال في الملائكة
قوم كما قيل في الجن، قوم قال سبحانه: (فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين) (3)،
إلا أن لفظ " أذلة عند المتكبرين " يبعد هذا التفسير.
ثم أخبر بهلاك البصرة بجيش من نقم الله لا رهج له ولا حس، الرهج: الغبار، وكنى
بهذا الجيش عن جدب وطاعون يصيب أهلها حتى يبيدهم. والموت الأحمر، كناية عن
الوباء والجوع.
الأغبر: كناية عن المحل، وسمى الموت الأحمر لشدته، ومنه الحديث: كنا إذا احمر
البأس اتقينا برسول الله، ووصف الجوع بأنه أغبر، لان الجائع يرى الآفاق كأن عليها
غبرة وظلاما، وفسر قوم هذا الكلام بوقعة صاحب الزنج، وهو بعيد، لان جيشه كان
ذا حس ورهج، ولأنه أنذر البصرة بهذا الجيش عند حدوث تلك الفتن، ألا تراه قال:
" فويل لك يا بصرة عند ذلك "، ولم يكن قبل خروج صاحب الزنج فتن شديدة على
الصفات التي ذكرها أمير المؤمنين عليه السلام.

(1) ديوانه 1: 71
(2) سورة المائدة 54
(3) سورة الأحقاف 29.
104

(102) الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام:
انظروا إلى الدنيا نظر الزاهدين فيها، الصادفين عنها، فإنها والله عما قليل
تزيل الثاوي الساكن، وتفجع المترف الآمن، لا يرجع ما تولى منها فأدبر،
ولا يدرى ما هو آت منها فينتظر.
سرورها مشوب بالحزن، وجلد الرجال فيها إلى الضعف والوهن، فلا يغرنكم
كثرة ما يعجبكم فيها لقلة ما يصحبكم منها.
رحم الله امرأ تفكر فاعتبر، واعتبر فأبصر، فكأن ما هو كائن من الدنيا
عن قليل لم يكن، وكأن ما هو كائن من الآخرة عما قليل لم يزل، وكل
معدود منقض، وكل متوقع آت، وكل آت قريب دان.
* * *
الشرح:
الصادفين عنها، أي المعرضين، وامرأة صدوف: التي تعرض وجهها عليك ثم
تصدف عنك.
وعما قليل: عن قليل، وما زائدة.
والثاوي: المقيم ثوى يثوي ثواء وثويا، مثل مضى يمضى مضاء ومضيا، ويجوز:
ثويت بالبصرة، وثويت البصرة، وجاء " أثويت بالمكان "، لغة في " ثويت "،
قال الأعشى:
105

أثوى وقصر ليله ليزودا * فمضت وأخلف من قتيلة موعدا (1)
والمترف: الذي قد أترفته النعمة، أي أطغته، يقول عليه السلام: لا يعود على الناس
ما أدبر وتولى عنهم من أحوالهم الماضية، كالشباب والقوة، ولا يعلم حال المستقبل من صحة
أو مرض، أو حياة أو موت لينتظر، وينظر إلى هذا المعنى قول الشاعر:
وأضيع العمر لا الماضي انتفعت به * ولا حصلت على علم من الباقي.
ومشوب: مخلوط. شبته أشوبه فهو مشوب، وجاء " مشيب " في قول الشاعر:
* وماء قدور في القصاع مشيب *
فبناه على " شيب " لم يسم فاعله، وفي المثل: " هو يشوب ويروب "، يضرب لمن
يخلط في القول أو العمل.
والجلد: الصلابة والقوة. والوهن: الضعف نفسه، وإنما عطف للتأكيد، كقوله تعالى:
(لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) (2) وقوله: (لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا
فيها لغوب) (3).
ثم نهى عن الاغترار بكثرة العجب من الدنيا، وعلل حسن هذا النهى، وقبح
الاغترار بما نشاهده عيانا من قلة ما يصحب مفارقيها منها. وقال الشاعر:
فما تزود مما كان يجمعه * إلا حنوطا غداة البين في خرق
وغير نفحة أعواد شببن له * وقل ذلك من زاد لمنطلق
ثم جعل التفكر علة الاعتبار، وجعل الاعتبار علة الابصار، وهذا حق، لان
الفكر يوجب الاتعاظ، والاتعاظ يوجب الكشف، والمشاهدة بالبصيرة التي نورها الاتعاظ.

(1) ديوانه 150، وروايته: " ومضى ".
(2) سورة المائدة 48
(3) سورة فاطر 35
106

ثم ذكر أن ما هو كائن موجود من الدنيا سيصير عن قليل - أي بعد زمان قصير - معدوما،
والزمان القصير هاهنا: انقضاء الأجل وحضور الموت.
ثم قال: إن الذي هو كائن وموجود من الآخرة سيصير عن قليل - أي بعد زمان
قصير أيضا - كأنه لم يزل، والزمان القصير هاهنا هو حضور القيامة، وهي وإن كانت تأتى
بعد زمان طويل، إلا أن الميت لا يحس بطوله، ولا فرق بين ألف ألف سنة عنده إذا
عاد حيا، وبين يوم واحد، لان الشعور بالبطء في الزمان مشروط بالعلم بالحركة، ويدل
على ذلك حال النائم. ثم قال: كل معدود منقض، وهذا تنبيه بطريق الاستدلال النظري
على أن الدنيا زائلة ومنصرفة، وقد استدل المتكلمون بهذا على أن حركات الفلك يستحيل
ألا يكون لها أول، فقالوا لأنها داخلة تحت العدد، وكل معدود يستحيل أن يكون غير
متناه، والكلام في هذا مذكور في كتبنا العقلية.
ثم ذكر أن كل ما يتوقع لا بد أن يأتي، وكل ما سيأتي فهو قريب وكأنه قد أتى،
وهذا مثل قول قس بن ساعدة الأيادي: ما لي أرى الناس يذهبون ثم لا يرجعون!
أرضوا بالمقام فأقاموا، أم تركوا هناك فناموا! أقسم قس قسما، إن في السماء لخبرا، وإن في
الأرض لعبرا، سقف مرفوع، ومهاد موضوع، ونجوم تمور، وبحار لا تغور. اسمعوا أيها
الناس وعوا! من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت.
* * *
الأصل:
ومنها:
العالم من عرف قدره، وكفى بالمرء جهلا ألا يعرف قدره، وإن من أبغض
الرجال إلى الله تعالى لعبدا وكله الله إلى نفسه، جائرا عن قصد السبيل، سائرا بغير
107

دليل، إن دعى إلى حرث الدنيا عمل، وإن دعى إلى حرث الآخرة كسل،
كأن ما عمل له واجب عليه، وكأن ما وني فيه ساقط عنه.
* * *
الشرح:
قوله عليه السلام: " العالم من عرف قدره "، من الأمثال المشهورة عنه عليه السلام،
وقد قال الناس بعده في ذلك فأكثروا، نحو قولهم: إذا جهلت قدر نفسك فأنت لقدر غيرك
أجهل. ونحو قولهم: من لم يعرف قدر نفسه، فالناس أعذر منه إذا لم يعرفوه، ونحو قول
الشاعر أبى الطيب:
ومن جهلت نفسه قدره * رأى غيره منه ما لا يرى
ثم عبر عن هذا المعنى بعبارة أخرى، فصارت مثلا أيضا، وهي قوله: " كفى بالمرء
جهلا ألا يعرف قدره "، ومن الكلام المروى عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام
مرفوعا: " ما هلك امرؤ عرف قدره "، رواه أبو العباس المبرد عنه في الكامل.
قال: ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: وما إخال رجلا يرفع نفسه فوق قدرها
إلا من خلل في عقله.
وروى صاحب " الكامل " أيضا عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، قال:
لما حضرت وفاة علي بن الحسين عليه السلام أبى ضمني إلى صدره، ثم قال: يا بنى
أوصيك بما أوصاني به أبى يوم قتل، وبما ذكر لي أن أباه عليا عليه السلام أوصاه به: يا بنى
عليك ببذل نفسك، فإنه لا يسر أباك بذل نفسه حمر النعم.
وكان يقال: من عرف قدره استراح.
108

وفي الحديث المرفوع: ما رفع امرؤ نفسه في الدنيا درجة إلا حطه الله تعالى في
الآخرة درجات.
وكان يقال: من رضى عن نفسه كثر الساخطون عليه. ثم ذكر عليه السلام أن من
أبغض البشر إلى الله عبدا وكله الله إلى نفسه، أي لم يمده بمعونته وألطافه، لعلمه أنه
لا ينجع ذلك فيه، وأنه لا ينجذب إلى الخير والطاعة، ولا يؤثر شئ ما في تحريك دواعيه
إليها، فيكله الله حينئذ إلى نفسه.
والجائر: العادل عن السمت، ولما كان هذا الشقي خابطا فيما يعتقده ويذهب إليه
مستندا إلى الجهل وفساد النظر جعله كالسائر بغير دليل.
والحرث هاهنا: كل ما يفعل ليثمر فائدة، فحرث الدنيا كالتجارة والزراعة، وحرث
الآخرة فعل الطاعات واجتناب المقبحات والمعاصي، وسمى حرثا على جهة المجاز،
تشبيها بحرث الأرض، وهو من الألفاظ القرآنية.
وكسل الرجل بكسر السين، يكسل أي يتثاقل عن الأمور، فهو كسلان، وقوم
كسالى وكسالى بالفتح والضم.
قال عليه السلام: حتى كأن ما عمله من أمور الدنيا هو الواجب عليه، لحرصه وجده
فيه، وكأن ما وني عنه، أي فتر فيه من أمور الآخرة ساقط عنه وغير واجب عليه لإهماله
وتقصيره فيه
* * *
الأصل:
ومنها:
وذلك زمان لا ينجو فيه إلا كل مؤمن نومة، إن شهد لم يعرف، وإن غاب
109

لم يفتقد أولئك مصابيح الهدى وأعلام السرى، ليسوا بالمساييح ولا المذاييع
البذر، أولئك يفتح الله لهم أبواب رحمته، ويكشف عنهم ضراء نقمته.
أيها الناس، سيأتي عليكم زمان يكفأ فيه الاسلام، كما يكفأ الاناء
بما فيه.
أيها الناس، إن الله قد أعاذكم من أن يجور عليكم، ولم يعذكم من أن
يبتليكم، وقد قال جل من قائل: (إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين) (1).
* * *
قال الرضى رحمه الله تعالى:
أما قوله عليه السلام: " كل مؤمن نومة " فإنما أراد به الخامل الذكر القليل
الشر، والمساييح: جمع مسياح، وهو الذي يسيح بين الناس بالفساد والنمائم،
والمذاييع: جمع مذياع، وهو الذي إذا سمع لغيره بفاحشة أذاعها، ونوه بها.
والبذر: جمع بذور، وهو الذي يكثر سفهه ويلغو منطقه.
* * *
الشرح:
شهد: حضر، وكفأت الاناء، أي قلبته وكببته. وقال ابن الاعرابي: يجوز أكفأته
أيضا، والبذر: جمع بذور مثل صبور وصبر، وهو الذي يذيع الاسرار، وليس كما قال
الرضى رحمه الله تعالى، فقد يكون الانسان بذورا وإن لم يكثر سفهه ولم يلغ منطقه، بأن
يكون علنة مذياعا من غير سفه ولا لغو. والضراء: الشدة، ومثلها البأساء، وهما اسمان مؤنثان
من غير تذكير، وأجاز الفراء أن يجمع على آضر وأبؤس، كما يجمع النعماء على أنعم.
* * *

(1) سورة المؤمنين 30
110

واعلم أنه قد جاء في التواضع وهضم النفس شئ كثير، ومن ذلك الحديث المرفوع:
" من تواضع لله رفعه الله، ومن تكبر على الله وضعه ".
ويقال: إن الله تعالى قال لموسى: إنما كلمتك لان في أخلاقك خلقا أحبه
الله، وهو التواضع.
ورأي محمد بن واسع ابنه يمشى الخيلاء، فناداه فقال: ويلك! أتمشي هذه المشية،
وأبوك أبوك، وأمك أمك! أما أمك فأمة، ابتعتها بمائتي درهم، وأما أبوك فلا كثر الله
في الناس مثله.
ومثل قوله عليه السلام: " كل مؤمن نومة إن شهد لم يعرف وإن غاب لم يفتقد "،
قول رسول الله صلى الله عليه وآله: " رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم
على الله لأبر قسمه ".
وقال عمر لابنه عبد الله: " التمس الرفعة بالتواضع والشرف بالدين، والعفو من الله بالعفو
عن الناس، وإياك والخيلاء فتضع من نفسك ولا تحقرن أحدا فإنك لا تدرى لعل
من تزدريه عيناك أقرب إلى الله وسيلة منك.
وقال الأحنف: عجبت لمن جرى في مجرى البول مرتين، من فرجين، كيف يتكبر!
وقد جاء في كلام رسول الله صلى الله عليه وآله ما يناسب كلام أمير المؤمنين عليه
السلام هذا: " إن الله يحب الأخفياء الأتقياء الأبرياء، الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإذا
حضروا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل غبراء مظلمة ".
* * *
وأما إفشاء السر وإذاعته، فقد ورد فيه أيضا ما يكثر، ولو لم يرد فيه إلا قوله سبحانه:
(ولا تطع كل حلاف مهين. هماز مشاء بنميم) (1) لكفى.

(1) سورة القلم 10، 11.
111

وفى الحديث المرفوع: " من أكل أخيه أكلة أطعمه الله مثلها من نار جهنم "
قيل في تفسيره: هو أن يسعى بأخيه ويجر نفعا بسعايته.
الجنيد: ستر ما عاينت أحسن من إشاعة ما ظننت.
عبد الرحمن بن عوف: من سمع بفاحشة فأفشاها فهو كالذي أتاها.
قال رجل لعمرو بن عبيد: إن عليا الأسواري لم يزل منذ اليوم يذكرك بسوء
ويقول: الضال فقال عمرو: يا هذا، ما رعيت حق مجالسة الرجل حين نقلت إلينا
حديثه، ولا وفيتني حقي حين أبلغتني عن أخي ما أكرهه! اعلم أن الموت يعمنا، والبعث
يحشرنا، والقيامة تجمعنا، والله يحكم بيننا.
وكان يقال: من نم إليك نم عليك.
وقالوا في السعاة: يكفيك أن الصدق محمود إلا منهم، وإن أصدقهم أخبثهم.
وشى واش برجل إلى الإسكندر، فقال له أتحب أن أقبل منك ما قلت فيه،
على أن أقبل منه ما قال فيك؟ قال: لا، قال: فكف عن الشر يكف عنك.
قال رجل لفيلسوف: عابك فلان بكذا، قال: لقيتني لقحتك بما لم يلقني
به لحيائه.
عاب مصعب بن الزبير الأحنف عن شئ بلغه عنه، فأنكره، فقال: أخبرني بذلك
الثقة، فقال: كلا أيها الأمير إن الثقة لا ينم.!
عرض بعض عمال الفضل بن سهل عليه رقعة ساع في طي كتاب كتبه إليه، فوقع
الفضل: قبول السعاية شر من السعاية، لان السعاية دلالة، والقبول إجازة، وليس من
دل على قبيح كمن أجازه وعمل به، فاطرد هذا الساعي عن عملك، واقصه عن بابك،
فإنه لو لم يكن في سعايته كاذبا لكان في صدقه لئيما، إذ لم يرع الحرمة، ولم يستر
العورة والسلام.
112

صالح بن عبد القدوس:
من يخبرك بشتم عن أخ * فهو الشاتم، لا من شتمك
ذاك شئ لم يواجهك به * إنما اللوم على من أعلمك
كيف لم ينصرك إن كان أخا * ذا حفاظ عند من قد ظلمك!
طريح بن إسماعيل الثقفي (1):
إن يعلموا الخير يخفوه وإن علموا شرا أذاعوا، وإن لم يعلموا كذبوا
ومعنى قوله عليه السلام: " وإن غاب لم يفتقد "، أي لا يقال: ما صنع فلان، ولا أين
هو؟ أي هو خامل لا يعرف.
وقوله: " أولئك يفتح الله بهم أبواب الرحمة، ويكشف بهم ضراء النقمة "، وروى:
أولئك يفتح الله بهم أبواب رحمته، ويكشف بهم ضراء نقمته "، أي ببركاتهم يكون
الخير ويندفع الشر.
ثم ذكر عليه السلام أنه سيأتي على الناس زمان تنقلب فيه الأمور الدينية إلى
أضدادها ونقائضها، وقد شهدنا ذلك عيانا.
ثم أخبر عليه السلام أن الله لا يجور على العباد، لأنه تعالى عادل (1) ولا يظلم ولكنه
يبتلى عباده، أي يختبرهم، ثم تلا قوله تعالى: (إن في ذلك لآيات وإن كنا
لمبتلين) (3)، والمراد أنه تعالى، إذا فسد الناس لا يلجئهم إلى الصلاح، لكن يتركهم
واختيارهم امتحانا لهم، فمن أحسن أثيب ومن أساء عوقب!

(1) ساقطة من ب
(2) ب: " عال "
(3) سورة المؤمنون 30
113

(103) الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام:
أما بعد، فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمدا صلى الله عليه، وليس أحد من
العرب يقرأ كتابا، ولا يدعى نبوة ولا وحيا، فقاتل بمن أطاعه من عصاه، يسوقهم
إلى منجاتهم، ويبادر بهم الساعة أن تنزل بهم، يحسر الحسير، ويقف الكسير،
فيقيم عليه حتى يلحقه غايته، إلا هالكا لا خير فيه. حتى أراهم منجاتهم،
وبوأهم محلتهم، فاستدارت رحاهم، واستقامت قناتهم. وأيم الله لقد كنت من
ساقتها حتى تولت بحذافيرها، واستوسقت في قيادها، ما ضعفت ولا جبنت، ولا
خنت ولا وهنت. وأيم الله لأبقرن الباطل حتى أخرج الحق من خاصرته!
* * *
قال الرضى رحمه الله تعالى:
وقد تقدم مختار هذه الخطبة، إلا أنني وجدتها في هذه الرواية على خلاف ما سبق من
زيادة ونقصان، فأوجبت الحال إثباتها ثانية.
* * *
الشرح:
لقائل أن يقول: ألم يكن في العرب نبي قبل محمد، وهو خالد بن (1) سنان العبسي؟
وأيضا فقد كان فيها هود وصالح وشعيب.

(1) هو خالد بن سنان بن غيث العبسي، ذكره الرسول عليه السلام، وقال: " وذلك نبي أضاعه قومه ".
وانظر أخباره في مروج الذهب 1: 131 (طبع أوروبا).
114

ونجيب هذا القائل بأن مراده عليه السلام أنه لم يكن في زمان محمد صلى الله عليه وآله
وما قاربه من ادعى النبوة، فأما هود وصالح وشعيب، فكانوا في دهر قديم جدا، وأما
خالد بن سنان فلم يقرأ كتابا، ولا يدعى شريعة وإنما كانت نبوة مشابهة لنبوة جماعة
من أنبياء بني إسرائيل الذين لم يكن لهم كتب ولا شرائع، وإنما ينهون عن الشرك،
ويأمرون (1) بالتوحيد.
ومنجاتهم: نجاتهم، نجوت من كذا نجاء، ممدود، ونجا مقصور، ومنجاة على
" مفعلة "، ومنه قولهم: " الصدق منجاة ".
قوله عليه السلام: " ويبادر بهم الساعة "، كأنه كان يخاف أن تسبقه القيامة، فهو
يبادرها بهدايتهم وإرشادهم قبل أن تقوم، وهم على ضلالهم.
والحسير: المعيا، حسر البعير بالفتح يحسر بالكسر حسورا، واستحسر مثله،
وحسرته أنا، يتعدى ولا يتعدى، حسرا فهو حسير، ويجوز أحسرته بالهمزة، والجمع
حسرى، مثل قتيل وقتلى، ومنه حسر البصر، أي كل، يحسر، قال تعالى: (ينقلب
إليك البصر خاسئا وهو حسير) (2). وهذا الكلام من باب الاستعارة والمجاز، يقول
عليه السلام كان النبي صلى الله عليه وآله لحرصه على الاسلام وإشفاقه على المسلمين،
ورأفته بهم، يلاحظ حال من تزلزل اعتقاده، أو عرضت له شبهة، أو حدث عنده ريب،
ولا يزال يوضح له ويرشده حتى يزيل ما خامر سره من وساوس الشيطان، ويلحقه
بالمخلصين من المؤمنين، ولم يكن ليقصر في مراعاة أحد من المكلفين في هذا المعنى إلا من
كان يعلم أنه لا خير فيه أصلا لعناده وإصراره على الباطل، ومكابرته للحق.
ومعنى قوله: " حتى يلحقه غايته "، حتى يوصله إلى الغاية التي هي الغرض بالتكليف،
يعنى اعتقاد الحق وسكون النفس إلى الاسلام، وهو أيضا معنى قوله: " وبوأهم محلتهم ".

(1) ساقطة من ب
(2) سورة الملك 4
115

ومعنى قوله: " فاستدارت رحاهم "، انتظم أمرهم، لان الرحا إنما تدور إذا تكاملت
أدواتها وآلاتها كلها، وهو أيضا معنى قوله: " واستقامت قناتهم "، وكل هذا من
باب الاستعارة.
ثم أقسم أنه عليه السلام كان من ساقتها، الساقة: جمع سائق، كقادة جمع قائد،
وحاكة جمع حائك، وهذا الضمير المؤنث يرجع إلى غير مذكور لفظا، والمراد الجاهلية، كأنه
جعلها مثل كتيبة مصادمة لكتيبة الاسلام، وجعل نفسه من الحاملين عليها بسيفه، حتى
فرت وأدبرت، واتبعها يسوقها سوقا، وهي مولية بين يديه.
حتى أدبرت بحذافيرها، أي كلها عن آخرها.
ثم أتى بضمير آخر إلى غير مذكور لفظا، وهو قوله: " واستوسقت في قيادها "، يعنى
الملة الاسلامية أو الدعوة، أو ما يجرى هذا المجرى. واستوسقت: اجتمعت، يقول لما ولت
تلك الدعوة الجاهلية استوسقت هذه في قيادها كما تستوسق الإبل المقودة إلى أعطانها.
ويجوز أن يعود هذا الضمير الثاني إلى المذكور الأول وهو الجاهلية، أي ولت بحذافيرها
واجتمعت كلها تحت ذل المقادة.
ثم أقسم أنه ما ضعف يومئذ ولا وهن ولا جبن ولا خان، وليبقرن الباطل الآن حتى
يخرج الحق من خاصرته، كأنه جعل الباطل كالشئ المشتمل على الحق غالبا عليه،
ومحيطا به، فإذا بقر ظهر الحق الكامن (1) فيه، وقد تقدم منا شرح ذلك.

(1) ب: " الكائن ".
116

(104) الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام:
حتى بعث محمدا صلى الله عليه شهيدا وبشيرا ونذيرا، خير البرية طفلا،
وأنجبها كهلا، وأطهر المطهرين شيمة، وأجود المستمطرين ديمة، فما احلولت
لكم الدنيا في لذتها (1)، ولا تمكنتم من رضاع أخلافها، إلا من بعده، صادفتموها
جائلا خطامها، قلقا وضينها، قد صار حرامها عند أقوام بمنزلة السدر المخضود،
وحلالها بعيدا غير موجود، وصادفتموها والله ظلا ممدودا إلى أجل معدود.
فالأرض لكم شاغرة، وأيديكم فيها مبسوطة، وأيدي القادة عنكم مكفوفة،
وسيوفكم عليهم مسلطة، وسيوفهم عنكم مقبوضة.
ألا وإن لكل دم ثائرا، ولكل حق طالبا، وإن الثائر في دمائنا كالحاكم في
حق نفسه، وهو الله الذي لا يعجزه من طلب، ولا يفوته من هرب. فأقسم بالله
يا بنى أمية عما قليل لتعرفنها في أيدي غيركم، وفي دار عدوكم!
* * *
الشرح:
معنى كون النبي صلى الله عليه وآله شهيدا، أنه يشهد على الأمة بما فعلته من طاعة وعصيان.
أنجبها: أكرمها، ورجل نجيب، أي كريم بين النجابة، والنجبة مثل الهمزة،

(1) مخطوطة النهج: " لذتها ".
117

ويقال هو نجبة القوم، أي النجيب منهم، وأنجب الرجل، أي ولد ولدا نجيبا، وامرأة منجبة
ومنجاب، تلد النجباء، ونسوة مناجيب.
والشيمة: الخلق. والديمة: مطر يدوم. والمستمطرون: المستجدون والمستماحون.
واحلولت: حلت، وقد عداه حميد بن ثور في قوله (1):
فلما أتى عامان بعد انفصاله * عن الضرع، واحلولي دماثا يرودها (2)
ولم يجئ " افعوعل " متعديا إلا هذا الحرف وحرف آخر، وهو اعروريت الفرس.
وهو الرضاع، بفتح الراء: رضع الصبي أمه، بكسر الضاد يرضعها رضاعا، مثل سمع يسمع
سماعا، وأهل نجد يقولون: رضع بالفتح يرضع بالكسر، مثل ضرب يضرب ضربا.
وقال الأصمعي: أخبرني عيسى بن عمر أنه سمع العرب تنشد هذا البيت:
وذموا لنا الدنيا وهم يرضعونها * أفاويق حتى ما يدر لها ثعل (3)
بكسر الضاد. والإخلاف للناقة، بمنزلة الأطباء للكلبة، واحدها خلف بالكسر،
وهو حلمة الضرع. والخطام: زمام الناقة، خطمت البعير زممته، وناقة مخطومة،
ونوق مخطمة.
والوضين للهودج، بمنزله البطان للقتب، والتصدير للرحل، والحزام للسرج، وهو
سيور تنسج مضاعفة بعضها على بعض، يشد بها الهودج منه إلى بطن البعير، والجمع وضن.
والمخضود: الذي خضد شوكه، أي قطع.
وشاغرة: خالية، شغر المكان، أي خلا، وبلدة (4) شاغرة. إذا لم تمتنع من
غارة أحد. والثائر: طالب الثأر، لا يبقى على شئ حتى يدرك ثأره.

(1) ديوانه 703
(2) احلولى: استحلى واستمرأ، الدماث: جمع دمث، وهو السهل اللين الكثير النبات من الأرض،
ويرودها: يأتيها للرعي.
(3) اللسان 9: 484، ونسبه إلى ابن همام السلولي.
(4) ساقطة من ب
118

يقول عليه السلام مخاطبا لمن في عصره من بقايا الصحابة ولغيرهم من التابعين، الذين
لم يدركوا عصر رسول الله صلى الله عليه وآله: إن الله بعث محمدا، وهو أكرم الناس
شيمة، وأنداهم يدا، وخيرهم طفلا، وأنجبهم كهلا، فصانه الله تعالى في أيام حياته عن أن يفتح
عليه الدنيا، وأكرمه عن ذلك فلم تفتح عليكم البلاد، ولا درت عليكم الأموال، ولا أقبلت
الدنيا نحوكم، وما دالت الدولة لكم إلا بعده، فتمكنتم من أكلها والتمتع بها، كما يتمكن
الحالب من احتلاب الناقة فيحلبها، وحلت لذاتها لكم، واستطبتم العيشة، ووجدتموها
حلوة خضرة.
ثم ذكر أنهم صادفوها - يعنى الدنيا - وقد صعبت على من يليها ولاية حق،
كما تستصعب الناقة على راكبها إذا كانت جائلة الخطام، ليس زمامها بممكن راكبها من
نفسه، قلقة الوضين، لا يثبت هودجها تحت الراكب، حرامها سهل التناول على من
يريده، كالسدر الذي خضد عنه شوكه، فصار ناعما أملس، وحلالها غير موجود لغلبة
الحرام عليه، وكونه صار مغمورا مستهلكا بالنسبة إليه، وهذا إشارة إلى ما كان يقوله
دائما من استبداد الخلفاء قبله دونه بالامر، وإنه كان الأولى والأحق.
* * *
فإن قلت: إذا كانت الدنيا قلقة الوضين، جائلة الخطام، فهي صعبة الركوب، وهذا
ضد قوله: " حرامها بمنزلة السدر المخضود "، لأنه من الأمثال المضروبة للسهولة!
قلت: فحوى كلامه أن الدنيا جمحت به عليه السلام، فألقته عن ظهرها بعد أن كان
راكبا لها أو كالراكب لها لاستحقاقه ركوبها، وأنها صارت بعده كالناقة التي خلعت
زمامها، أو أجالته فلا يتمكن راكبها من قبضه، واسترخى وضينها لشدة ما كان صدر
عنها من النفار والتقحم، حتى أذرت راكبها، فصارت على حال لا يركبها إلا من هو
موصوف بركوب غير طبيعي، لأنه ركب ما لا ينبغي أن يركب، فالذين ولوا أمرها ولوه
119

على غير الوجه، كما أن راكب هذه الناقة يركبها على غير الوجه، ولهذا لم يقل: " فصار
حرامها بمنزلة السدر المخضود " بل قال " عند أقوام "، فخصص.
وهذا الكلام كله محمول عند أصحابنا على التألم من كون المتقدمين تركوا الأفضل،
كما قدمناه في أول الكتاب.
ثم ذكر عليه السلام أن الدنيا فانية، وأنها ظل ممدود إلى أجل معدود. ثم ذكر
أن الأرض بهؤلاء السكان فيها صورة خالية من معنى، كما قال الشاعر:
ما أكثر الناس، لا بل ما أقلهم * الله يعلم أنى لم أقل فندا (1)
إني لأفتح عيني ثم أغمضها * على كثير، ولكن لا أرى أحدا.
* * *
ثم أعاد الشكوى والتألم فقال: أيديكم في الدنيا مبسوطة، وأيدي مستحقي الرياسة
ومستوجبي الامر مكفوفة، وسيوفكم مسلطة على أهل البيت الذين هم القادة والرؤساء،
وسيوفهم مقبوضة عنكم، وكأنه كان يرمز إلى ما سيقع من قتل الحسين عليه السلام
وأهله، وكأنه يشاهد ذلك عيانا، ويخطب عليه ويتكلم على الخاطر الذي سنح له،
والامر الذي كان أخبر به، ثم قال: إن لكل دم ثائرا يطلب القود والثائر بدمائنا
ليس إلا الله وحده، الذي لا يعجزه مطلوب، ولا يفوته هارب.
ومعنى قوله عليه السلام: " كالحاكم في حق نفسه "، أنه تعالى لا يقصر في طلب
دمائنا كالحاكم الذي يحكم لنفسه، فيكون هو القاضي وهو الخصم، فإنه إذا كان كذلك
يكون مبالغا جدا في استيفاء حقوقه.
ثم أقسم وخاطب بنى أمية، وصرح بذكرهم أنهم ليعرفن الدنيا عن قليل في أيدي
غيرهم وفي دورهم، وأن الملك سينتزعه منهم أعداؤهم، ووقع الامر بموجب إخباره عليه

(1) البيتان لدعبل، العقد لابن عبد ربه 2: 295
120

السلام، فإن الامر بقي في أيدي بنى أمية قريبا من تسعين سنة، ثم عاد إلى البيت
الهاشمي، وانتقم الله تعالى منهم على أيدي أشد الناس عداوة لهم
[هزيمة مروان بن محمد في موقعة الزاب، ثم مقتله بعد ذلك]
سار عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس في جمع عظيم للقاء مروان بن محمد
ابن مروان، وهو آخر خلفاء الأمويين، فالتقيا بالزاب (1) من أرض الموصل، ومروان
في جموع عظيمة، وأعداد كثيرة، فهزم مروان، واستولى عبد الله بن علي على عسكره، وقتل
من أصحابه خلقا (2) عظيما، وفر مروان هاربا حتى أتى الشام وعبد الله يتبعه، فصار إلى
مصر، فاتبعه عبد الله بجنوده، فقتله ببوصير الأشمونين من صعيد مصر، وقتل خواصه
وبطانته كلها، وقد كان عبد الله قتل من بنى أمية على نهر أبى فطرس (3) من بلاد
فلسطين قريبا من ثمانين رجلا، قتلهم مثلة (4) واحتذى أخوه داود بن علي بالحجاز
فعله، فقتل منهم قريبا من هذه العدة بأنواع المثل.
وكان مع مروان حين قتل ابناه عبد الله وعبيد الله - وكانا ولي عهده - فهربا في
خواصهما إلى أسوان من صعيد مصر ثم صارا إلى بلاد النوبة ونالهم جهد شديد وضر
عظيم، فهلك عبد الله بن مروان في جماعة ممن كان معه قتلا وعطشا وضرا، وشاهد من
بقي منهم أنواع الشدائد وضروب المكاره، ووقع عبيد الله في عدة ممن نجا معه في أرض
البجه (5) وقطعوا البحر إلى ساحل جدة، وتنقل فيمن نجا معه من أهله ومواليه في البلاد
مستترين راضين أن يعيشوا سوقة بعد أن كانوا ملوكا، فظفر بعبد الله أيام السفاح، فحبس

(1) هو الزاب الأعلى، بين الموصل وإربل.
(2) ب: " قتلا " تصحيف.
(3) فطرس، ضبطه صاحب مراصد الاطلاع بضم الفاء وسكون الطاء وضم الراء وسين مهملة، وقال:
موضع قرب الرملة من أرض فلسطين.
(4) يقال: مثل فلان بالقتيل مثلة ومثلا، أي جدعه وظهرت آثار فعله عليه.
(5) انظر تاريخ الطبري 3: 1428 (طبع أوروبا).
121

فلم يزل في السجن بقية أيام السفاح، وأيام المنصور، وأيام المهدى، وأيام الهادي وبعض
أيام الرشيد، وأخرجه الرشيد وهو شيخ ضرير، فسأله عن خبره، فقال: يا أمير المؤمنين،
حبست غلاما بصيرا، وأخرجت شيخا ضريرا! فقيل إنه هلك في أيام الرشيد، وقيل:
عاش إلى أن أدرك خلافة الأمين.
* * *
شهد يوم الزاب مع مروان في إحدى الروايتين إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك
المخلوع، الذي خطب له بالخلافة بعد أخيه يزيد بن الوليد بن عبد الملك فقتل فيمن قتل.
وفي الرواية الثانية إن إبراهيم قتله مروان الحمار قبل ذلك.
* * *
لما انهزم مروان يوم الزاب مضى نحو الموصل، فمنعه أهلها من الدخول، فأتى
حران، وكانت داره ومقامه، وكان أهل حران حين أزيل لعن أمير المؤمنين عن المنابر
في أيام الجمع امتنعوا من إزالته، وقالوا: لا صلاة إلا بلعن أبى تراب! فاتبعه عبد الله بن علي
بجنوده، فلما شارفه خرج مروان عن حران هاربا بين يديه وعبر الفرات، ونزل عبد الله
ابن علي على حران، فهدم قصر مروان بها، وكان قد أنفق على بنائه عشرة آلاف ألف
درهم، واحتوى على خزائن مروان وأمواله، فسار مروان بأهله وعترته من بنى أمية
وخواصه، حتى نزل بنهر أبى فطرس، وسار عبد الله بن علي حتى نزل دمشق، فحاصرها
وعليها من قبل مروان الوليد بن معاوية بن عبد الملك بن مروان في خمسين ألف مقاتل،
فألقى الله تعالى بينهم العصبية في فضل نزار على اليمن، وفضل اليمن على نزار، فقتل الوليد
- وقيل بل قتل في حرب عبد الله بن علي - وملك عبد الله دمشق، فأتى يزيد
ابن معاوية بن عبد الملك بن مروان وعبد الجبار بن يزيد بن عبد الملك بن مروان، فحملهما،
مأسورين إلى أبى العباس السفاح، فقتلهما وصلبهما بالحيرة، وقتل عبد الله بن علي بدمشق
خلقا كثيرا من أصحاب مروان وموالي بنى أمية، وأتباعهم، ونزل عبد الله على نهر
122

أبى فطرس، فقتل من بنى أمية هناك بضعا وثمانين رجلا، وذلك في ذي القعدة من سنة
ثنتين وثلاثين ومائة.
* * *
[شعر عبد الله بن عمرو العبلي في رثاء قومه]
وفي قتلى نهر أبى فطرس وقتلى الزاب يقول أبو عدى عبد الله بن عمرو العبلي، وكان
أموي الرأي:
تقول أمامة لما رأت * نشوزي عن المضجع الأملس (1)
و قلة نومي على مضجعي * لدى هجعة الأعين النعس:
أبى ما عراك؟ فقلت: الهموم * عرين أباك فلا تبلسي (2)
عرين أباك فحبسنه * من الذل في شر ما محبس
لفقد الأحبة إذ نالها * سهام من الحدث المبئس (3)
رمتها المنون بلا نكل * ولا طائشات ولا نكس
بأسهمها المتلفات النفوس * متى ما تصب مهجة تخلس
فصر عنهم بنواحي البلاد * فملقى بأرض ولم يرمس (4)
نقى أصيب وأثوابه * من العيب والعار لم تدنس (5)
وآخر قد رس في حفره * وآخر طار فلم يحسس (6)
أفاض المدامع قتلى كدى * وقتلى بكثوة لم ترمس (7)
وقتلى بوج وباللابتين من * يثرب خير ما أنفس (8)

(1) الأغاني 4: 340 (طبعة الدار)، وروايته: " المضجع الأنفس ".
(2) لا تبلسي: لا تحزن.
(3) في الأصل " المبلس " وأثبت رواية الأغاني
(4) الأغاني: " ولم يرسس "، والرس والرمس: الدفن.
(5) الأغاني: " تقى ".
(6) الأغاني: " قد دس ".
(7) كدى: موضع بالطائف، وكثوة: موضع بعينه.
(8) و ج: اسم واد بالطائف.
123

وبالزابيين نفوس ثوت * وقتلى بنهر أبى فطرس (1)
أولئك قومي بهم * نوائب من زمن متعس
إذا ركبوا زينو الموكبين * وإن جلسوا زينة المجلس (2)
وإن عن ذكرهم لم ينم * أبوك، وأوحش في المأنس
فذاك الذي غالني فاعلمي * ولا تسألي بامرئ متعس
هم أضرعوني لريب الزمان * وهم ألصقوا الخد بالمعطس (3)
[أنفة عبد الله بن مسلمة بن عبد الملك]
وروى أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني، قال: نظر عبد الله بن علي في الحرب
إلى فتى عليه أبهة الشرف، وهو يحارب مستقتلا (4)، فناداه: يا فتى، لك الأمان،
ولو كنت مروان بن محمد! قال: إلا أكنه فلست بدونه: فقال: ولك الأمان، ولو كنت
من كنت! فأطرق، ثم أنشد:
لذل الحياة وكره الممات (5) * وكلا أراه طعاما وبيلا (6)
وإن لم يكن غير إحداهما * فسيرا إلى الموت سيرا جميلا
ثم قاتل حتى قتل، فإذا هو ابن مسلمة بن عبد الملك (7).

(1) الزابيان: تثنية زاب، وهو الزاب الأعلى والزاب الأسفل، ويريد به الأعلى، وبه كانت الموقعة
(2) الأغاني: " الزين في المجلس ".
(3) رواية الأغاني:
هم أضرعوني لريب الزمان * وهم ألصقوا الرغم بالمعطس
(4) الأغاني: " مستنقلا "، وهو الخارج من الصف المتقدم على أصحابه.
(5) الأغاني: " أذل الحياة ".
(6) إحدى روايتي الأغاني:
* وكلا أرى لك شرا وبيلا *
(7) الأغاني 4: 343، 344 (طبعة الدار).
124

[مما قيل من الشعر في التحريض على قتل بنى أمية]
وروى أبو الفرج أيضا، عن محمد بن خلف وكيع، قال: دخل سديف مولى آل أبي
(1) لهب على أبى العباس بالحيرة، وأبو العباس جالس على سريره، وبنو هاشم دونه
على الكراسي وبنو أمية حوله على وسائد قد ثنيت لهم، وكانوا في أيام دولتهم يجلسونهم
والخليفة (2) منهم على الأسرة، ويجلس بنو هاشم على الكراسي، فدخل الحاجب،
فقال: يا أمير المؤمنين، بالباب رجل حجازي أسود راكب على نجيب متلثم، يستأذن
ولا يخبر باسمه، ويحلف لا يحسر اللثام عن وجهه حتى يرى أمير المؤمنين! فقال: هذا
سديف مولانا، أدخله، فدخل فلما نظر إلى أبى العباس وبنو أمية حوله حسر اللثام عن
وجهه، ثم أنشد:
أصبح الملك ثابت الآساس * بالبهاليل من بنى العباس (3)
بالصدور المقدمين قديما * والبحور القماقم الرؤاس
يا إمام المطهرين من الذم ويا رأس منتهى كل رأس
أنت مهدي هاشم وفتاها * كم أناس رجوك بعد أناس (5)
لا تقيلن عبد شمس عثارا * واقطعن كل رقلة وغراس

(1) الأغاني: " وهو مولى لآل أبى لهب ".
(2) الأغاني: " والخلفاء ".
(3) قال في الكامل: الآساس: جمع أس، وتقديرها " فعل " (بضم العين وسكون اللام)،
و " إفعال "، وقد يقال للواحد أساس، وجمعه أسس. والبهلول: الضحاك. وقال المرصفي: الأجود
تفسيره بالعزيز الجامع لكل خير.
(4) الأغاني: " وهداها ".
(5) الأغاني: " بعد إياس ".
125

أنزلوها بحيث أنزلها الله بدار الهوان والإتعاس
خوفها أظهر التودد منها * وبها منكم كحز المواسي (1)
أقصهم أيها الخليفة واحسم * عنك بالسيف شأفة الأرجاس
واذكرن مصرع الحسين وزيد * وقتيلا بجانب المهراس (2)
والقتيل الذي بحران أمسى * ثاويا بين غربة وتناس (3)
فلقد ساءني وساء سوائي * قربهم من نمارق وكراسي (4)
نعم كلب الهراش مولاك شبل * لو نجا من حبائل الافلاس
قال: فتغير لون أبى العباس، وأخذه زمع (5) ورعدة، فالتفت بعض ولد سليمان بن
عبد الملك إلى آخر فيهم كان إلى جانبه، فقال: قتلنا والله العبد! فأقبل أبو العباس عليهم،
فقال: يا بنى الزواني، (6) لا أرى قتلاكم من أهلي قد سلفوا وأنتم أحياء تتلذذون في
الدنيا، خذوهم، فأخذتهم الخراسانية بالكافر كوبات، فأهمدوا
إلا ما كان من عبد العزيز
ابن عمر بن عبد العزيز، فإنه استجار بداود بن علي، وقال إن أبى لم يكن كآبائهم،

(1) رواية الأغاني:
خوفهم أظهر التودد منكم * وبهم منكم كحز المواسي
(2) ذكر المبرد في شرح هذا البيت قوله: " مصرع الحسين وزيد "، يعنى زيد بن علي بن الحسين،
كان خرج على هشام بن عبد الملك، وقتله يوسف بن عمر الثقفي، وصلبه بالكناسة عريانا هو وجماعة
من أصحابه... وإنما نسب قتل حمزة إلى بنى أمية، لان أبا سفيان بي حرب كان قائد الناس يوم أحد ".
(3) القتيل الذي بحران هو إبراهيم بن محمد بن علي، وهو الذي يقال له الامام، وفى رواية الأغاني:
" والامام الذي "
(4) سوائي، أي سواي، والنمارق: واحدتها نمرقة، وهي الوسائد.
(5) الزمع: شدة الرعدة.
(6) الأغاني: " يا بنى الفواعل ".
126

وقد علمت صنيعته إليكم فأجاره واستوهبه من السفاح وقال له قد: علمت صنيع أبيه إلينا،
فوهبه له، وقال: لا يريني وجهه، وليكن بحيث نأمنه، وكتب إلى عماله في الآفاق
بقتل بنى أمية (1).
* * *
فأما أبو العباس المبرد، فإنه روى في الكامل (2) هذا الشعر على غير هذا الوجه،
ولم ينسبه إلى سديف، بل إلى شبل مولى بني هاشم.
قال أبو العباس: دخل شبل بن عبد الله مولى بني هاشم على عبد الله بن علي، وقد
أجلس ثمانين من بنى أمية على سمط الطعام، فأنشده:
أصبح الملك ثابت الآساس * بالبهاليل من بنى العباس
طلبوا وتر هاشم وشفوها * بعد ميل من الزمان وياس (3)
لا تقيلن عبد شمس عثارا * واقطعن كل رقلة وأواسي (4)
ذلها أظهر التودد منها * وبها منكم كحز المواسي (5)
ولقد غاظني وغاظ سوائي * قربها من نمارق وكراسي
أنزلوها بحيث أنزلها الله بدار الهوان والإتعاس
واذكروا مصرع الحسين وزيد * وقتلا بجانب المهراس
والقتيل الذي بحران أضحى * ثاويا بين غربة وتناسي
نعم شبل الهراش مولاك شبل * لو نجا من حبائل الافلاس
فأمر بهم عبد الله فشدخوا بالعمد، وبسطت البسط عليهم، وجلس عليها، ودعا

(1) الأغاني 4: 244 - 246
(2) الكامل 8: 134، 135 بشرح المرصفي.
(3) قال أبو العباس: يقال: " في فيك ميل علينا (بسكون الياء)، وفى الحائط ميل بفتحها ".
(4) قال أبو العباس: الأواسي: ياؤه مشددة في الأصل، وتخفيفها يجوز، ولو لم يجز في الكلام
لجاز في الشعر ".
(5) مروج الذهب 3: 261 وما بعدها، مع تصرف في الرواية.
127

بالطعام، وإنه ليسمع أنين بعضهم حتى ماتوا جميعا. وقال لشبل: لولا أنك خلطت
شعرك بالمسألة لأغنمتك أموالهم، ولعقدت لك على جميع موالي بني هاشم.
قال أبو العباس: الرقلة النخلة الطويلة، والأواسي: جمع آسية، وهي أصل البناء
كالأساس. وقتيل المهراس: حمزة عليه السلام، والمهراس: ماء بأحد. وقتيل حران:
إبراهيم الامام.
قال أبو العباس: فأما سديف، فإنه لم يقم هذا المقام، وإنما قام مقاما آخر، دخل
على أبى العباس السفاح، وعنده سليمان بن هشام بن عبد الملك، وقد أعطاه يده فقبلها
وأدناه، فأقبل على السفاح، وقال له:
لا يغرنك ما ترى من رجال * إن تحت الضلوع داء دويا
فضع السيف وارفع السوط حتى * لا ترى فوق ظهرها أمويا.
فقال سليمان: ما لي ولك أيها الشيخ قتلتني قتلك الله! فقام أبو العباس، فدخل وإذا
المنديل قد ألقى في عنق سليمان، ثم جر فقتل.
فأما سليمان بن يزيد بن عبد الملك بن مروان فقتل بالبلقاء، وحمل رأسه إلى عبد الله
ابن علي.
* * *
[أخبار متفرقة في انتقال الملك من بنى أمية إلى بنى العباس]
وذكر صاحب مروج الذهب أنه أرسل عبد الله أخاه صالح بن علي ومعه عامر بن
إسماعيل أحد الشيعة الخراسانية إلى مصر، فلحقوا مروان ببوصير، فقتلوه وقتلوا كل
من كان معه من أهله وبطانته، وهجموا على الكنيسة التي فيها بناته ونساؤه، فوجدوا
خادما بيده سيف مشهور يسابقهم على الدخول، فأخذوه وسألوه عن أمره، فقال: إن
128

أمير المؤمنين أمرني إن هو قتل أن أقتل بناته ونساءه كلهن، قبل أن تصلوا إليهن، فأرادوا
قتله، فقال: لا تقتلوني، فإنكم إن قتلتموني فقدتم ميراث رسول الله صلى الله عليه وآله،
فقالوا: وما هو؟ فأخرجهم من القرية إلى كثبان من الرمل، فقال: اكشفوا هاهنا، فإذا البردة
والقضيب وقعب (1) مخضب قد دفنها مروان ضنا بها أن تصير إلى بني هاشم. فوجه به
عامر بن إسماعيل إلى صالح بن علي، فوجه به صالح إلى أخيه عبد الله، فوجه به عبد الله إلى
أبى العباس، وتداوله خلفاء بنى العباس من بعد.
وأدخل بنات مروان وحرمه ونساؤه على صالح بن علي، فتكلمت ابنة مروان
الكبرى، فقالت: يا عم أمير المؤمنين، حفظ الله لك من أمرك ما تحب حفظه، وأسعدك
في أحوالك كلها، وعمك بخواص نعمه، وشملك بالعافية في الدنيا والآخرة! نحن بناتك
وبنات أخيك وابن عمك، فليسعنا من عدلكم ما وسعنا من جوركم. قال: إذا لا نستبقي
منكم أحدا، لأنكم قد قتلتم إبراهيم الامام، وزيد بن علي، ويحيى بن زيد، ومسلم بن
عقيل، وقتلتم خير أهل الأرض حسينا وإخوته وبنيه وأهل بيته، وسقتم نساءه سبايا - كما
يساق ذراري الروم - على الأقتاب إلى الشام. فقالت: يا عم أمير المؤمنين، فليسعنا عفوكم
إذا. قال: أما هذا فنعم، وأن أحببت زوجتك من ابني الفضل بن صالح، قالت: يا عم
أمير المؤمنين، وأي ساعة عرس ترى! بل تلحقنا بحران، فحملهن إلى حران (2).
* * *
كان عبد الرحمن بن حبيب بن مسلمة الفهري، عامل إفريقية لمروان، فلما حدثت
الحادثة، هرب عبد الله والعاص ابنا الوليد بن يزيد بن عبد الملك إليه، فاعتصما به فخاف

(1) مروج الذهب: " ومخصر ".
(2) الخبر في مروج الذهب: 261 - 263 مع اختصار وتصرف، وفى آخره: " فعلت أصواتهن
عند دخولهن بالبكاء على مروان، وشققن جيوبهن، وأعولن بالصياح النحيب، حتى ارتج العسكر
بالبكاء منهن على مروان.
129

على نفسه منهما، ورأي ميل الناس إليهما فقتلهما، وكان عبد الرحمن بن معاوية بن هشام
ابن عبد الملك يريد أن يقصده ويلتجئ إليه، فلما علم ما جرى لابني الوليد بن يزيد، خاف
منه، فقطع المجاز بين: إفريقية والأندلس، وركب البحر حتى حصل بالأندلس، فالأمراء
الذين ولوها كانوا من ولده.
ثم زال أمرهم ودولتهم على أيدي بني هاشم أيضا، وهم بنو حمود الحسنيون، من
ولد إدريس بن الحسن عليه السلام.
* * *
لما قتل عامر بن إسماعيل مروان ببوصير، واحتوى على عسكره دخل إلى الكنيسة
التي كان فيها، فقعد على فراشه، وأكل من طعامه، فقالت له ابنة مروان الكبرى -
وتعرف بأم مروان: يا عامر، إن دهرا أنزل مروان عن فرشه حتى أقعدك عليها، تأكل
من طعامه ليلة قتله، محتويا على أمره، حاكما في ملكه وحرمه وأهله، لقادر أن يغير
ذلك. فأنهى هذا الكلام إلى أبى العباس السفاح، فاستهجن ما فعله عامر بن إسماعيل
وكتب إليه: أما كان لك في أدب الله ما يزجرك أن تقعد في مثل تلك الساعة على مهاد
مروان، وتأكل من طعامه! أما والله لولا أن أمير المؤمنين أنزل ما فعلته على غير اعتقاد
منك [لذلك (1)]، ولا نهم (2) على طعام، لمسك من غضبه وأليم أدبه، ما يكون لك
زاجرا، ولغيرك واعظا. فإذا أتاك كتاب أمير المؤمنين: فتقرب إلى الله بصدقة تطفئ بها
غضبه، وصلاة تظهر فيها الخشوع والاستكانة له، وصم ثلاثة أيام، وتب إلى الله من جميع
ما يسخطه ويغضبه، ومر جميع أصحابك أن يصوموا مثل صيامك.
ولما أتى أبو العباس برأس مروان، سجد فأطال، ثم رفع رأسه، وقال: الحمد لله الذي

(1) من مروج الذهب
(2) في مروج الذهب: ولا شهوة.
130

لم يبق ثأرنا قبلك وقبل رهطك، الحمد لله الذي أظفرنا بك، وأظهرنا عليك. ما أبالي متى
طرقني الموت، وقد قتلت بالحسين عليه السلام ألفا من بنى أمية، وأحرقت شلو هشام بابن
عمى زيد بن علي كما أحرقوا شلوه! وتمثل (1):
لو يشربون دمى لم يرو شاربهم * ولا دماؤهم جمعا ترويني.
ثم حول وجهه إلى القبلة فسجد ثانية ثم جلس، فتمثل:
أبى قومنا أن ينصفونا فأنصفت * قواطع في أيماننا تقطر الدما (2)
إذا خالطت هام الرجال تركتها * كبيض نعام في الثرى قد تحطما
ثم قال: أما مروان فقتلناه بأخي إبراهيم، وقتلنا سائر بنى أمية بحسين، ومن قتل معه
وبعده من بنى عمنا أبى طالب (3).
* * *
وروى المسعودي في كتاب " مروج الذهب " عن الهيثم بن عدي قال: حدثني
عمرو بن هانئ، الطائي قال: خرجت مع عبد الله بن علي لنبش قبور بنى أمية في أيام أبى
العباس السفاح، فانتهينا إلى قبر هشام بن عبد الملك، فاستخرجناه صحيحا، ما فقدنا، منه
إلا عرنين أنفه، فضربه عبد الله بن علي ثمانين سوطا ثم أحرقه، واستخرجنا سليمان بن
عبد الملك من أرض دابق فلم نجد منه شيئا إلا صلبه ورأسه وأضلاعه فأحرقناه، وفعلنا
مثل ذلك بغيرهما من بنى أمية، وكانت قبورهم بقنسرين، ثم انتهينا إلى دمشق، فاستخرجنا
الوليد بن عبد الملك، فما وجدنا في قبره قليلا ولا كثيرا، واحتفرنا عن عبد الملك فما وجدنا
إلا شؤون (4) رأسه، ثم احتفرنا عن يزيد بن معاوية فلم نجد منه إلا عظما واحدا، ووجدنا

(1) في مروج الذهب: " فتمثل بقول العباس بن عبد المطلب من أبيات له...
(2) في مروج الذهب بعده:
تورثن من أشياخ صدق تقربوا * بهن إلى يوم الوغى فتقدما
(3) مروج الذهب 3000: 271 - 272
(4) الشؤون: موصل قبائل الرأس، واحد شأن.
131

من موضع نحره إلى قدمه خطا واحدا أسود، كأنما خط بالرماد في طول لحده، وتتبعنا
قبورهم في جميع البلدان، فأحرقنا ما وجدنا فيها منهم.
قلت: قرأت هذا الخبر على النقيب أبى جعفر يحيى بن أبي زيد العلوي بن عبد الله
في سنة خمس وستمائة، وقلت له: أما إحراق هشام بإحراق زيد فمفهوم، فما معنى جلده
ثمانين سوطا؟ فقال رحمه الله تعالى: أظن عبد الله بن علي ذهب في ذلك إلى حد القذف
لأنه يقال: إنه قال لزيد: يا بن الزانية، لما سب أخاه محمدا الباقر عليه السلام، فسبه زيد،
وقال له: سماه رسول الله صلى الله عليه وآله الباقر وتسميه أنت البقرة! لشد ما اختلفتما!
ولتخالفنه في الآخرة كما خالفته في الدنيا فيرد الجنة وترد النار.
وهذا استنباط لطيف.
* * *
قال مروان لكاتبه عبد الحميد بن يحيى حين أيقن بزوال ملكه: قد احتجت إلى
أن تصير مع عدوى وتظهر الغدر بي! فإن إعجابهم ببلاغتك وحاجتهم إلى كتابتك،
تدعوهم إلى اصطناعك وتقريبك، فإن استطعت أن تسعى لتنفعني في حياتي، وإلا فلن
تعجز عن حفظ حرمي بعد وفاتي. فقال عبد الحميد: إن الذي أشرت به هو أنفع الامرين
لي، وأقبحهما بي، وما عندي إلا الصبر معك حتى يفتح الله لك أو أقتل بين يديك،
ثم أنشد:
أسر وفاء ثم أظهر غدرة * فمن لي بعذر يوسع الناس ظاهره!
فثبت على حاله، ولم يصر إلى بني هاشم حتى قتل مروان، ثم قتل هو بعده
صبرا (1).
* * *

(1) مروج الذهب 3: 263
132

وقال إسماعيل بن عبد الله القسري: دعاني مروان، وقد انتهت به الهزيمة إلى حران،
فقال: يا أبا هاشم - وما كان يكنيني قبلها: قد ترى ما جاء من الامر، وأنت الموثوق به،
ولا عطر بعد عروس، ما الرأي عندك؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، علام أجمعت؟ قال:
أرتحل بموالي ومن تبعني حتى آتي الدرب (1)، وأميل إلى بعض مدن الروم فأنزلها، وأكاتب
ملك الروم وأستوثق منه، فقد فعل ذلك جماعة من ملوك الأعاجم، وليس هذا عارا على
الملوك، فلا يزال يأتيني من الأصحاب الخائف والهارب والطامع فيكثر من معي، ولا أزال
على ذلك حتى يكشف الله أمري، وينصرني على عدوى، فلما رأيت ما أجمع عليه من ذلك،
وكان الرأي، ورأيت آثاره في قومه من نزار وعصبيته على قومي من قحطان، غششته فقلت:
أعيذك بالله يا أمير المؤمنين من هذا الرأي أن تحكم أهل الشرك في بناتك وحرمك! وهم
الروم لا وفاء لهم، ولا يدرى ما تأتى به الأيام، وإن حدث عليك حدث من أرض النصرانية
- ولا يحدثن الله عليك إلا خيرا - ضاع من بعدك، ولكن اقطع الفرات، واستنفر الشام
جندا جندا، فإنك في كنف وعدة، ولك في كل جند صنائع وأصحاب، إلى أن تأتى
مصر، فهي أكثر أرض الله مالا وخيلا ورجالا، والشام أمامك، وإفريقية خلفك، فإن
رأيت ما تحب انصرفت إلى الشام، وإن كانت الأخرى مضيت إلى إفريقية، فقال:
صدقت وأستخير الله. فقطع الفرات والله ما قطعه معه من قيس إلا رجلان: ابن حديد السلمي
- وكان أخاه من الرضاعة - والكوثر بن الأسود الغنوي، وغدر به سائر النزارية مع تعصبه
كان لهم، فلما اجتاز ببلاد قنسرين وخناصرة، أوقعوا بساقته، ووثب به أهل حمص،
وصار إلى دمشق، فوثب به الحارث بن عبد الرحمن الحرشي ثم العقيلي، ثم أتى الأردن
فوثب به هاشم بن عمرو التميمي، ثم مر بفلسطين، فوثب به أهلها، وعلم مروان أن
إسماعيل بن عبد الله قد غشه في الرأي، ولم يمحضه النصيحة، وإنه فرط في مشورته إياه

(1) يطلق الدرب ما بين طرطوس وبلاد الروم.
133

إذ شاور رجلا من قحطان موتورا شائنا له، وإن الرأي كان الأول الذي هم به من قطع
الدرب والنزول ببعض مدن الروم ومكاتبته ملكها (1). ولله أمر هو بالغه!
* * *
لما نزل مروان بالزاب، جرد من رجاله ممن اختاره من أهل الشام والجزيرة وغيرها
مائة ألف فارس على مائة ألف قارح، ثم نظر إليهم، وقال: إنها لعدة ولا تنفع العدة،
إذا انقضت المدة (2).
* * *
لما أشرف عبد الله بن علي يوم الزاب في المسودة، وفي أوائلهم البنود السود، تحملها
الرجال على الجمال البخت، وقد جعل لها بدلا من القنا خشب الصفصاف والغرب،
قال مروان لمن قرب منه: أما ترون رماحهم كأنها النخل غلظا! أما ترون أعلامهم فوق
هذه الإبل كأنها قطع الغمام السود! فبينما هو ينظرها ويعجب، إذ طارت قطعة عظيمة من
الغربان السود، فنزلت على أول عسكر عبد الله بن علي، واتصل سوادها بسواد تلك الرايات
والبنود، ومروان ينظر فازداد تعجبه، وقال: أما ترون إلى السواد قد اتصل بالسواد،
حتى صار الكل كالسحب السود المتكاثفة! ثم أقبل على رجل إلى جنبه فقال: ألا تعرفني
من صاحب جيشهم؟ فقال: عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب. قال:
ويحك! أمن ولد العباس هو؟ قال: نعم، قال: والله لوددت أن علي بن أبي طالب عليه السلام
مكانه في هذا الصف، قال: يا أمير المؤمنين، أتقول هذا لعلى مع شجاعته التي ملا
الدنيا ذكرها! قال: ويحك إن عليا مع شجاعته صاحب دين، وإن الدين غير الملك،
وإنا نروي عن قديمنا أنه لا شئ لعلى ولا لولده في هذا. ثم قال: من هو من ولد العباس،

(1) مروج الذهب 3: 264، 265
(2) مروج الذهب 3: 265 مع اختصار وتصرف.
134

فإني لا أثبت شخصه؟ قال: هو الرجل الذي كان يخاصم بين يديك عبد الله بن معاوية
ابن عبد الله بن جعفر. فقال أذكرني صورته وحليته، قال: هو الرجل الأقنى الحديد
العضل المعروق الوجه، الخفيف اللحية، الفصيح اللسان، الذي قلت لما سمعت كلامه
يومئذ: يرزق الله البيان من يشاء، فقال: وإنه لهو! قال: نعم، فقال: أنا لله وإنا إليه
راجعون! أتعلم لم صيرت الامر بعدي لولدي عبد الله، وابني محمد أكبر سنا منه؟ قال:
لا، قال: إن آباءنا أخبرونا أن الامر صائر بعدي إلى رجل اسمه عبد الله
فوليته دونه.
ثم بعث مروان بعد أن حدث صاحبه بهذا الحديث إلى عبد الله بن علي سرا فقال:
يا ابن عم، إن هذا الامر صائر إليك، فاتق الله واحفظني في حرمي، فبعث إليه عبد الله،
إن الحق لنا في دمك، وإن الحق علينا في حرمك (1).
قلت: إن مروان ظن أن الخلافة تكون لعبد الله بن علي، لان اسمه عبد الله، ولم
يعلم أنها تكون لآخر اسمه عبد الله، وهو أبو العباس السفاح.
* * *
كان العلاء بن رافع سبط ذي الكلاع الحميري مؤنسا لسليمان بن هشام بن عبد الملك
لا يكاد يفارقه، وكان أمر المسودة بخراسان قد ظهر، ودنوا من العراق، واشتد إرجاف
الناس، ونطق العدو بما أحب في بنى أمية وأوليائهم.
قال العلاء: فإني لمع سليمان، وهو يشرب تجاه رصافة أبيه، وذلك في آخر أيام يزيد
الناقص، وعنده الحكم الوادي (2)، وهو يغنيه بشعر العرجي (3):
إن الحبيب تروحت أجماله * أصلا، فدمعك دائم إسباله (4)
فاقن الحياء فقد بكيت بعولة * لو كان ينفع باكيا إعواله (5)

(1) مروج الذهب: 3: 274، 275
(2) في الأصول: " الأودي " تصحيف، وصوابه في مروج الذهب.
(3) في الأصول: " البرجمي "
(4) ديوانه 69
(5) اقن الحياء: احفضه.
135

يا حبذا تلك الحمول وحبذا * شخص هناك، وحبذا أمثاله!
فأجاد ما شاء، وشرب سليمان بن هشام بالرطل، وشربنا معه حتى توسدنا أيدينا،
فلم أنتبه إلا بتحريك سليمان إياي، فقمت مسرعا، وقلت: ما شأن الأمير؟ فقال: على
رسلك، رأيت كأني في مسجد دمشق، وكأن رجلا على يده حجر، وعلى رأسه تاج أرى
بصيص ما فيه من الجوهر، وهو رافع صوته بهذا الشعر:
أبني أمية قد دنا تشتيتكم * وذهاب ملككم وليس براجع
وينال صفوته عدو ظالم * كأسا لكم بسمام موت ناقع
فقلت: أعيذ الأمير بالله وساوس الشيطان الرجيم! هذا من أضغاث الأحلام،
ومما يقتضيه ويجلبه الفكر، وسماع الأراجيف. فقال: الامر كما قلت لك، ثم وجم
ساعة، وقال: يا حميري، بعيد ما يأتي به الزمان قريب!
قال العلاء: فوالله ما اجتمعنا على شراب بعد ذلك اليوم (1).
* * *
سئل بعض شيوخ بنى أمية عقيب زوال الملك عنهم: ما كان سبب زوال ملككم؟
فقال: جار عمالنا على رعيتنا، فتمنوا الراحة منا، وتحومل على أهل خراجنا فجلوا عنا،
وخربت ضياعنا فخلت بيوت أموالنا، ووثقنا بوزرائنا فآثروا مرافقهم على منافعنا،
وأمضوا أمورا دوننا، أخفوا علمها عنا، وتأخر عطاء جندنا فزالت طاعتهم لنا، واستدعاهم
عدونا فظافروه على حربنا، وطلبنا أعداءنا فعجزنا عنهم لقلة أنصارنا، وكان استتار الاخبار
عنا من أوكد أسباب زوال ملكنا.
* * *
كان سعيد بن عمر بن جعدة بن هبيرة المخزومي، أحد وزراء مروان وسماره فلما ظهر

(1) مروج الذهب 3: 240
136

أمر أبى العباس السفاح، انحاز إلى بني هاشم، ومت إليهم بأم هانئ بنت أبي طالب،
وكانت تحت هبيرة بن أبي وهب، فأتت منه بجعدة، فصار من خواص السفاح وبطانته،
فجلس السفاح يوما، وأمر بإحضار رأس مروان وهو بالحيرة يومئذ، ثم قال للحاضرين:
أيكم يعرف هذا؟ فقال سعيد: أنا أعرفه، هذا رأس أبى عبد الملك مروان بن محمد بن مروان
خليفتنا بالأمس، رحمه الله تعالى. قال سعيد: فحدقت إلى الشيعة، ورمتني بأبصارها، فقال
لي أبو العباس: في أي سنة كان مولده؟ قلت: سنة ست وسبعين، فقام وقد تغير لونه
غضبا على وتفرق الناس من المجلس، وتحدثوا به، فقلت: زلة والله لا تستقال ولا ينساها
القوم أبدا! فأتيت منزلي، فلم أزل باقي يومى أعهد وأوصى، فلما كان الليل اغتسلت وتهيأت
للصلاة - وكان أبو العباس إذا هم بأمر بعث فيه ليلا - فلم أزل ساهرا حتى أصبحت
وركبت بغلتي، وأفكرت فيمن أقصد في أمري، فلم أجد أحدا أولى من سليمان بن مجالد
مولى بنى زهرة، وكانت له من أبى العباس منزلة عظيمة، وكان من شيعة القوم، فأتيته،
فقلت له: أذكرني أمير المؤمنين البارحة؟ قال: نعم، جرى ذكرك، فقال: هو ابن أختنا،
وفي لصاحبه، ونحن لو أوليناه خيرا لكان لنا أشكر. فشكرت لسليمان بن مجالد ما أخبرني
به، وجزيته خيرا، وانصرفت. فلم أزل من أبى العباس على ما كنت عليه، لا أرى
منه إلا خيرا.
ونما ذلك المجلس إلى عبد الله بن علي وإلى أبى جعفر المنصور، فأما عبد الله بن علي
فكتب إلى أبى العباس يغريه بي، ويعاتبه على الامساك عنى، ويقول له: إنه ليس
مثل هذا مما يحتمل، وكتب إليه أبو جعفر يعذر لي، وضرب الدهر ضربه، فأتى ذات
يوم عند أبي العباس، فنهض ونهضت، فقال لي: على رسلك يا بن هبيرة! فجلست، فرفع
الستر، ودخل وثبت في مجلسه قليلا، ثم خرج في ثوبي وشى ورداء وجبة، فما رأيت
والله أحسن منه ولا مما عليه قط، فقال لي: يا بن هبيرة، إني ذاكر لك أمرا، فلا
137

يخرجن من رأسك إلى أحد من الناس. قلت: نعم، قال: قد علمت ما جعلنا من هذا
الامر وولاية العهد لمن قتل مروان، وإنما قتله عمى عبد الله بجيشه وأصحابه ونفسه وتدبيره،
وأنا شديد الفكر في أمر أخي أبى جعفر، في فضله وعلمه وسنه وإيثاره لهذا الامر،
كيف أخرجه عنه! فقلت: أصلح الله أمير المؤمنين! إني أحدثك حديثا تعتبر به،
وتستغني بسماعه عن مشاورتي، قال: هاته، فقلت: كنا مع مسلمة بن عبد الملك عام
الخليج بالقسطنطينية، إذ ورد علينا كتاب عمر بن عبد العزيز ينعى سليمان، ومصير الامر
إليه، قد خلت إليه، فرمى الكتاب إلى فقرأته، واسترجعت، واندفع يبكى وأطال،
فقلت: أصلح الله الأمير وأطال بقاءه! إن البكاء عل الامر الفائت عجز، والموت
منهل لا بد من وروده، فقال: ويحك! إني لست أبكى على أخي، لكني أبكى لخروج
الامر عن ولد أبى إلى ولد عمى! فقال أبو العباس: حسبك، فقد فهمت عنك، ثم قال:
إذا شئت فانهض، فلما نهضت لم أمض بعيدا حتى قال لي: يا بن هبيرة! فالتفت إليه،
فقال: أما إنك قد كافأت أحدهما، وأخذت بثأرك من الآخر، قال سعيد: فوالله
ما أدرى من أي الامرين أعجب! من فطنته أم من ذكره (1).
* * *
لما كان ساير عبد الله بن علي في آخر أيام بنى أمية عبد الله بن حسن بن حسن،
ومعهما داود بن علي، فقال داود لعبد الله بن الحسن: لم لا تأمر ابنيك بالظهور؟ فقال
عبد الله بن حسن: لم يأن لهما بعد، فالتفت إليه عبد الله بن علي، فقال: أظنك ترى
أن ابنيك قاتلا مروان! فقال عبد الله بن حسن: إنه ذلك، قال: هيهات!
ثم تمثل:

(1) مروج الذهب 3: 272 - 274
138

سيكفيك الجعالة مستميت * خفيف الحاذ من فتيان جرم
أنا والله أقتل مروان، وأسلبه ملكه، لا أنت ولا ولداك (1)!
* * *
وقد روى أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني رواية أخرى في سبب قتل السفاح
لمن كان أمنه من بنى أمية، قال: حدث الزبير بن بكار، عن عمه أن السفاح أنشد يوما
قصيدة مدح بها، وعنده قوم من بنى أمية كان آمنهم على أنفسهم، فأقبل على بعضهم،
فقال: أين هذا مما مدحتم به! فقال: هيهات! لا يقول والله أحد فيكم مثل قول
أين قيس الرقيات فينا:
ما نقموا من بنى أمية إلا * أنهم يحلمون إن غضبوا (2)
وأنهم معدن الملوك فما * تصلح إلا عليهم العرب
فقال له: يا ماص كذا من أمه! وإن الخلافة لفي نفسك بعد! خذوهم. فأخذوا
وقتلوا (3).
* * *
وروى أبو الفرج أيضا أن أبا العباس دعا بالغداء حين قتلوا وأمر ببساط فبسط
عليهم، وجلس فوقه يأكل وهم يضطربون تحته، فلما فرغ، قال: ما أعلم
أنى أكلت أكلة قط كانت أطيب ولا أهنأ في نفسي من هذه (4). فلما فرغ من الاكل
قال: جروا بأرجلهم وألقوهم في الطريق ليلعنهم الناس أمواتا، كما لعنوهم أحياء.

(1) مروج الذهب 3: 274
(2) ديوانه 4
(3) الأغاني 4: 346 (طبعة الدار).
(4) الأغاني: " منها ".
139

قال: فلقد رأينا الكلاب تجرهم بأرجلهم، وعليهم سراويلات الوشي حتى أنتنوا،
ثم حفرت لهم بئر فألقوا فيها (1).
* * *
قال أبو الفرج: وروى عمر بن شبه، قال: حدثني محمد بن معن الغفاري، عن معبد
الأنباري، عن أبيه، قال: لما أقبل داود بن علي من مكة أقبل معه بنو حسن جميعا،
وفيهم عبد الله بن حسن بن حسن، وأخوه حسن بن الحسن، ومعهم محمد بن عبد الله
ابن عمر بن عثمان بن عفان - وهو أخو عبد الله بن الحسن لامه - فعمل داود مجلسا ببعض
الطريق، جلس فيه هو والهاشميون كلهم، وجلس الأمويون تحتهم، فجاء ابن هرمة
فأنشده قصيدة يقول فيها:
فلا عفا الله عن مروان مظلمة ولا أمية، بئس المجلس النادي!
كانوا كعاد فأمسى الله أهلكهم بمثل ما أهلك الغاوين من عاد
فلن يكذبني من هاشم أحد فيما أقول، ولو أكثرت تعدادي
قال: فنبذ داود نحو عبد الرحمن بن عنبسة بن سعيد بن العاص ضحكة كالكشرة،
فلما قاموا قال عبد الله بن الحسن لأخيه الحسن بن الحسن: أما رأيت ضحك (2) داود إلى
ابن عنبسة! الحمد لله الذي صرفها عن أخي - يعنى العثماني - قال: فما هو إلا أن قدم
المدينة، حتى قتل ابن عنبسة (3).
* * *
قال أبو الفرج: وحدثني محمد بن معن، قال: حدثني محمد بن عبد الله بن عمرو

(1) الأغاني 4: 347 (طبعة الدار).
(2) الأغاني: " ضحكته إلى ابن عنبسة ".
(3) الأغاني 4: 348 (طبعة الدار).
140

ابن عثمان، قال: استحلف أخي عبد الله بن الحسن داود بن علي - وقد حج معه سنة
اثنتين وثلاثين ومائة، بطلاق امرأته مليكة بنت داود بن الحسن، ألا يقتل أخويه
محمدا والقاسم ابني عبد الله بن عمرو بن عثمان، قال: فكنت أختلف إليه آمنا، وهو يقتل
بنى أمية، وكان يكره أن يراني أهل خراسان، ولا يستطيع إلى سبيلا ليمينه، فاستدناني
يوما، فدنوت منه، فقال: ما أكثر الغفلة، وأقل الحزمة! فأخبرت بها أخي عبد الله
ابن الحسن، فقال: يا بن أم، تغيب عن الرجل، وأقل عنه، فتغيب حتى مات (1).
قلت: إلا أن ذلك الدين الذي لم يقضه داود، قضاه أبو جعفر المنصور.
* * *
وروى أبو الفرج في الكتاب المذكور أن سديفا أنشد أبا العباس، وعنده رجال
من بنى أمية، فقال:
يا بن عم النبي أنت ضياء * استبنا بك اليقين الجليا
[فلما بلغ قوله] (2):
جرد السيف وارفع العفو حتى * لا ترى فوق ظهرها أمويا (3)
قطن البغض في القديم وأضحى (4) * ثابتا في قلوبهم مطويا
وهي طويلة، فقال أبو العباس: يا سديف، خلق الانسان من عجل! ثم أنشد
أبو العباس متمثلا:
أحيا الضغائن آباء لنا سلفوا * فلن تبيد وللآباء أبناء

(1) الأغاني 4: 348 (طبعة الدار).
(2) من الأغاني.
(3) ذكره بعده في الأغاني:
لا يغرنك ما ترى من رجال * إن تحت الضلوع داء دويا
(4) في الأغاني: " بطن البغض ".
141

ثم أمر بمن عنده فقتلوا (1).
* * *
وروى أبو الفرج أيضا، عن علي بن محمد بن سليمان النوفلي، عن أبيه، عن عمومته،
أنهم حضروا سليمان بن علي بالبصرة، وقد حضر جماعة من بنى أمية عنده، عليهم
الثياب الموشاة (2) المرتفعة - قال أحد الرواة المذكورين: فكأني أنظر إلى أحدهم وقد
أسود شيب في عارضيه من الغالية (3) - فأمر بهم فقتلوا وجروا بأرجلهم، فألقوا على
الطريق، وإن عليهم لسراويلات الوشي والكلاب تجرهم بأرجلهم.
* * *
وروى أبو الفرج أيضا عن طارق بن المبارك، عن أبيه، قال: جاءني رسول عمرو
ابن معاوية بن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان، قال: يقول لك [عمرو] (4): قد جاءت هذه
الدولة، وأنا حديث السن، كثير العيال، منتشر الأموال، فما أكون في قبيلة إلا شهر
أمري وعرفت. وقد عزمت على أن أخرج من الاستتار، وأفدى حرمي بنفسي،
وأنا صائر إلى باب الأمير سليمان بن علي، فصر إلى. فوافيته فإذا عليه طيلسان أبيض
مطبق، وسراويل وشى مسدول، فقلت: يا سبحان الله! ما تصنع الحداثة بأهلها! أبهذا
اللباس تلقى هؤلاء القوم لما تريد لقاءهم [فيه] (4)! فقال: لا والله، ولكن ليس عندي ثوب إلا
أشهر مما ترى. فأعطيته طيلساني وأخذت طيلسانه، ولويت سراويله إلى ركبتيه. فدخل
إلى سليمان، ثم خرج مسرورا فقلت له: حدثني ما جرى بينك وبين الأمير، قال:
دخلت عليه ولم يرني (5) قط فقلت: أصلح الله الأمير! لفظتني البلاد إليك، ودلني فضلك

(1) الأغاني 4: 349 (طبعة الدار).
(2) الأغاني: " الموشية ".
(3) الغالية: ضرب من الطيب.
(4) من الأغاني.
(5) الأغاني: " ولم نتراء "
142

عليك، إما قتلتني [غانما] (1) وإما أمنتني [سالما] (2)، فقال: ومن أنت حتى أعرفك؟
فانتسبت له، فقال: مرحبا بك! اقعد فتكلم سالما آمنا، ثم أقبل على فقال: حاجتك يا بن
أخي؟ فقلت: إن الحرم اللواتي أنت أقرب الناس إليهن معنا، وأولى الناس بهن بعدنا، قد
خفن لخوفنا، ومن خاف خيف عليه. فوالله ما أجابني إلا بدموعه على خديه، ثم قال:
يا بن أخي، يحقن الله دمك، ويحفظك في حرمك، ويوفر عليك مالك، فوالله
لو أمكنني ذلك في جميع قومك لفعلت، فكن متواريا كظاهر، وآمنا كخائف، ولتأتني
رقاعك. قال: فوالله لقد كنت أكتب إليه كما يكتب الرجل إلى أبيه وعمه. قال: فلما
فرغ من الحديث، رددت عليه طيلسانه، فقال: مهلا، فإن ثيابنا إذا فارقتنا لم ترجع
إلينا (3).
* * *
وروى أبو الفرج الأصفهاني، قال: أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري، عن عمر بن
شبة، قال: قال سديف لأبي العباس يحضه عل بنى أمية، ويذكر من قتل مروان وبنو
أمية من أهله:
كيف بالعفو عنهم وقديما * قتلوكم وهتكوا الحرمات
أين زيد وأين يحيى بن زيد! * يا لها من مصيبة وترات!
والامام الذي أصيب بحران * إمام الهدى ورأس الثقات
قتلوا آل أحمد لا عفا الذنب لمروان غافر السيئات
* * *
قال أبو الفرج: وأخبرني علي بن سليمان الأخفش، قال: أنشدني محمد بن يزيد المبرد
لرجل من شيعة بنى العباس، يحضهم على بنى أمية:

(1) من الأغاني
(2) ن الأغاني، وروايته: " وإما رددتني سالما ".
(3) الأغاني 4: 349 - 350 (طبعة الدار).
143

إياكم أن تلينوا لاعتذارهم * فليس ذلك إلا الخوف والطمع
لو أنهم أمنوا أبدوا عداوتهم * لكنهم قمعوا بالذل فانقمعوا
أليس في ألف شهر قد مضت لهم * سقيتم جرعا من بعدها جرع
حتى إذا ما انقضت أيام مدتهم * متوا إليكم بالأرحام التي قطعوا
هيهات لا بد أن يسقوا بكأسهم * ريا وأن يحصدوا والزرع الذي زرعوا
إنا وإخواننا الأنصار شيعتكم * إذا تفرقت الأهواء والشيع (1)
* * *
قال أبو الفرج: وروى ابن المعتز في قصة سديف مثل ما ذكرناه من قبل، إلا أنه
قال فيها: فلا أنشده ذلك التفت إليه أبو الغمر سليمان بن هشام، فقال: يا ماص بظر أمه،
أتجبهنا بمثل هذا ونحن سروات الناس! فغضب أبو العباس - وكان سليمان بن هشام
صديقه قديما وحديثا، يقضى حوائجه في أيامهم ويبره - فلم يلتفت إلى ذلك، وصاح، بالخراسانية:
[خذوهم] (2)! فقتلوهم جميعا إلا سليمان بن هشام، فأقبل عليه أبو العباس، فقال: يا أبا
الغمر: ما أرى لك في الحياة بعد هؤلاء خيرا. قال: لا والله، قال: فاقتلوه، وكان إلى جنبه
فقتل وصلبوا في بستانه، حتى تأذى جلساؤه بريحهم، فكلموه في ذلك، فقال: والله
إن ريحهم عندي لألذ وأطيب من ريح المسك والعنبر غيظا عليهم [وحنقا] (2).
* * *
قال أبو الفرج: وكان أبو سعيد مولى فائد من مواليهم يعد في موالي عثمان بن عفان
واسم أبي سعيد إبراهيم، وهو من شعرائهم الذين رثوهم، وبكوا على دولتهم وأيامهم،
فمن شعره بعد زوال أمرهم:

(1) بعده في الأغاني 4: 351
إياكم أن يقول الناس إنهم * قد ملكوا ثم ما ضروا ولا نفعوا
(2) من الأغاني 4: 351 وانظر طبقات الشعواء لابن المعتز 39، 40
144

بكيت وماذا يرد البكاء * وقل البكاء لقتلى كداء
أصيبوا معا فتولوا معا * كذلك كانوا معا في رخاء
بكت لهم الأرض من بعدهم * وناحت عليهم نجوم السماء
وكانوا ضياء فلما انقضى الزمان بقومي تولى الضياء
ومن شعره فيهم:
أثر الدهر في رجالي فقلوا * بعد جمع فراح عظمي مهيضا
ما تذكرتهم فتملك عيني * فيض دمع، وحق لي أن تفيضا
ومن شعره فيهم:
أولئك قومي بعد عز وثروة * تداعوا فإلا تذرف العين أكمد
كأنهم لا ناس للموت غيرهم * وإن كان فيهم منصفا غير معتدى (1)
* * *
وقال أبو الفرج: ركب المأمون بدمشق يتصيد، حتى بلغ جبل الثلج، فوقف في
بعض الطريق على بركة عظيمة، في جوانبها أربع سروات (2)، لم ير أحسن منها، فنزل
هناك، وجعل ينظر إلى آثار بنى أمية ويعجب منها، ويذكرهم. ثم دعا بطبق عليه
طعام، فأكل وأمر علوية فغنى:
أولئك قومي بعد عز ومنعة * تفانوا فإلا تذرف العين أكمد
وكان علوية من موالي بنى أمية، فغضب المأمون، وقال: يا بن الفاعلة، ألم يكن لك
وقت تبكي فيه على قومك إلا هذا الوقت! قال: كيف لا أبكى عليهم ومولاكم زرياب،
كان في أيام دولتهم يركب معهم في مائة غلام، وأنا مولاهم معكم أموت جوعا! فقام المأمون

(1) الأغاني 4: 353 (طبعة الدار).
(2) السرور: شجر حسن الهيئة قويم الساق، واحده سروة.
145

فركب وانصرف الناس، وغضب علوية عشرين يوما، وكلم فيه فرضى عنه، ووصله
بعشرين ألف درهم (1).
* * *
لما ضرب عبد الله بن علي أعناق بنى أمية، قال له قائل من أصحابه: هذا والله جهد
البلاء، فقال عبد الله: كلا، ما هذا وشرطة (2) حجام إلا سواء، إنما جهد البلاء فقر مدقع،
بعد غنى موسع (3).
* * *
خطب سليمان بن علي لما قتل بنى أمية بالبصرة، فقال: (ولقد كتبنا في الزبور
من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) (4) قضاء فصل، وقول مبرم،
فالحمد لله الذي صدق عبده، وأنجز وعده، وبعدا للقوم الظالمين، الذين اتخذوا الكعبة
غرضا، والدين هزوا، والفئ إرثا، والقرآن عضين، لقد حاق بهم ما كانوا به يستهزئون.
وكأين ترى لهم من بئر معطلة وقصر مشيد، ذلك بما قدمت أيديهم، وما ربك بظلام
للعبيد، أمهلهم حتى اضطهدوا العترة، ونبذوا السنة، واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد،
ثم أخذهم فهل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا!
* * *
ضرب الوليد بن عبد الملك علي بن عبد الله بن العباس بالسياط، وشهره بين الناس
يدار به على بعير، ووجهه مما يلي ذنب البعير، وصائح يصيح أمامه: هذا علي بن عبد الله
الكذاب، فقال له قائل، وهو على تلك الحال: ما الذي نسبوك إليه من الكذب
يا أبا محمد؟ قال: بلغهم قولي: أن هذا الامر سيكون في ولدى، والله ليكونن فيهم

(1) الأغاني 14: 353، 354
(2) الشرط: بزغ الحجام بالمشرط.
(3) الخبر في اللسان 9: 25، مع اختلاف في الرواية.
(4) سورة الأنبياء: 5
146

حتى يملكه عبيدهم الصغار العيون، العراض الوجوه، الذين كأن وجوههم
المجان المطرقة.
* * *
وروى أن علي بن عبد الله دخل على هشام ومعه ابنا ابنه: الخليفتان أبو العباس
وأبو جعفر، فكلمه فيما أراد، ثم ولى فقال هشام: إن هذا الشيخ قد خرف وأهتر،
يقول: إن هذا الامر سينتقل إلى ولده! فسمع علي بن عبد الله كلامه، فالتفت إليه،
وقال: أي والله ليكونن ذلك، وليملكن هذان.
وقد روى أبو العباس المبرد في كتاب " الكامل " هذا الحديث، فقال: دخل
علي بن عبد الله بن العباس على سليمان بن عبد الملك فيما رواه محمد بن شجاع البلخي،
ومعه ابنا ابنه الخليفتان بعد: أبو العباس وأبو جعفر، فأوسع له على سريره وبره، وسأله
عن حاجته، فقال: ثلاثون ألف درهم عل دين، فأمر بقضائها، قال واستوص بابني
هذين خيرا، ففعل، فشكره علي بن عبد الله، وقال: وصلتك رحم، فلما ولى قال
سليمان لأصحابه: إن هذا الشيخ قد اختل وأسن وخلط، وصار يقول: إن هذا الامر
سينتقل إلى ولده. فسمع ذلك علي بن عبد الله، فالتفت إليه، وقال: أي والله ليكونن
ذلك، وليملكن هذان (1).
قال أبو العباس المبرد: وفى هذه الرواية غلط، لان الخليفة في ذلك الوقت لم يكن
سليمان، وإنما ينبغي أن يكون دخل على هشام، لان محمد بن علي بن عبد الله بن العباس
كان يحاول التزويج في بنى الحارث بن كعب، ولم يكن سليمان بن عبد الملك يأذن له، فلما
قام عمر بن عبد العزيز جاء فقال: إني أردت أن أتزوج ابنة خالي من بنى الحارث

(1) الكامل 361 (طبع أوروبا) مع اختلاف في الرواية.
147

ابن كعب، فتأذن لي! فقال عمر بن عبد العزيز: تزوج يرحمك الله من أحببت. فتزوجها
فأولدها أبا العباس السفاح، وعمر بن عبد العزيز بعد سليمان، وأبو العباس ينبغي ألا يكون
تهيأ لمثله أن يدخل على خليفة حتى يترعرع، ولا يتم مثل هذا إلا في أيام هشام
ابن عبد الملك.
* * *
قال أبو العباس المبرد: وقد جاءت الرواية أن أمير المؤمنين عليا عليه السلام لما ولد
لعبد الله بن العباس مولود فقده وقت صلاة الظهر، فقال: ما بال ابن العباس لم يحضر!
قالوا: ولد له ولد ذكر، يا أمير المؤمنين. قال: فامضوا بنا إليه، فأتاه فقال له: شكرت
الواهب، وبورك لك في الموهوب! ما سميته؟ فقال: يا أمير المؤمنين، أو يجوز لي أن
أسميه حتى تسميه! فقال: أخرجه إلى، فأخرجه، فأخذه فحنكه ودعا له ثم رده إليه،
وقال: خذ إليك أبا الأملاك، قد سميته عليا، وكنيته أبا الحسن. قال: فلما قدم معاوية
خليفة، قال لعبد الله بن العباس: لا أجمع لك بين الاسم والكنية، قد كنيته أبا محمد،
فجرت عليه (1).
قلت: سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن محمد بن أبي زيد رحمه الله تعالى، فقلت له:
من أي طريق عرف بنو أمية أن الامر سينتقل عنهم، وأنه سيليه بنو هاشم، وأول
من يلي منهم يكون اسمه عبد الله؟ ولم منعوهم عن مناكحة بنى الحارث بن كعب لعلمهم
أن أول من يلي الامر من بني هاشم تكون أمه حارثية؟ وبأي طريق عرف بنو هاشم
أن الامر سيصير إليهم، ويملكه عبيد أولادهم، حتى عرفوا صاحب الامر بعينه، كما قد
جاء في الخبر!

(1) الكامل 360 (طبع أوروبا).
148

فقال: أصل هذا كله محمد بن الحنفية، ثم ابنه عبد الله المكنى أبا هاشم.
قلت له: أفكان محمد بن الحنفية مخصوصا من أمير المؤمنين عليه السلام بعلم
يستأثر به على أخويه حسن وحسين عليهما السلام؟ قال: لا، ولكنهما كتما وأذاع.
ثم قال: قد صحت الرواية عندنا عن أسلافنا وعن غيرهم من أرباب الحديث، أن عليا
عليه السلام لما قبض أتى محمد ابنه أخويه حسنا وحسينا عليهما السلام، فقال لهما: أعطياني
ميراثي من أبى، فقالا له: قد علمت أن أباك لم يترك صفراء ولا بيضاء، فقال: قد علمت
ذلك، وليس ميراث المال أطلب، إنما أطلب ميراث العلم.
قال أبو جعفر رحمه الله تعالى: فروى أبان بن عثمان عمن يروى له ذلك، عن جعفر بن
محمد عليه السلام، قال: فدفعا إليه صحيفة، لو أطلعاه على أكثر منها لهلك، فيها ذكر
دولة بنى العباس.
قال أبو جعفر: وقد روى أبو الحسن علي بن محمد النوفلي، قال: حدثني عيسى
ابن علي بن عبد الله بن العباس، قال: لما أردنا الهرب من مروان بن محمد، لما قبض على
إبراهيم الامام جعلنا نسخة الصحيفة التي دفعها أبو هاشم بن محمد بن الحنفية إلى محمد بن علي
ابن عبد الله بن العباس، وهي التي كان آباؤنا يسمونها صحيفة الدولة، في صندوق من
نحاس صغير، ثم دفناه تحت زيتونات بالشراة (1) لم يكن بالشراة من الزيتون
غيرهن، فلما أفضى السلطان إلينا، وملكنا الامر، أرسلنا إلى ذلك الموضع فبحث وحفر،
فلم يوجد فيه شئ، فأمرنا بحفر جريب من الأرض في ذلك الموضع، حتى بلغ الحفر الماء
ولم نجد شيئا.
قال أبو جعفر: وقد كان محمد بن الحنفية صرح بالامر لعبد الله بن العباس وعرفه
تفصيله، ولم يكن أمير المؤمنين عليه السلام قد فصل لعبد الله بن العباس الامر، وإنما أخبره به

(1) الشراة: صقع بالشام بين المدينة ودمشق، ومن بعض نواحيه القرية المعروفة بالحمية، كان يسكنها
ولد علي بن عباس في أيام بنى مروان. ياقوت
149

مجملا، كقوله في هذا الخبر: " خذ إليك أبا الأملاك "، ونحو ذلك مما كان يعرض له به،
ولكن الذي كشف القناع، وأبرز المستور عليه هو محمد بن الحنفية.
وكذلك أيضا ما وصل إلى بنى أمية من علم هذا الامر، فإنه وصل من جهة محمد
ابن الحنفية، وأطلعهم على السر الذي علمه، ولكن لم يكشف لهم كشفه لبني العباس،
فإن كشفه الامر لبني العباس كان أكمل.
قال أبو جعفر: فأما أبو هاشم، فإنه قد كان أفضى بالامر إلى محمد بن علي بن عبد الله
ابن العباس وأطلعه عليه، وأوضحه له، فلما حضرته الوفاة عقيب انصرافه من عند الوليد
ابن عبد الملك مر بالشراة، وهو مريض و محمد بن علي بها، فدفع إليه كتبه، وجعله
وصيه، وأمر الشيعة بالاختلاف إليه.
قال أبو جعفر: وحضر وفاة أبى هاشم ثلاثة نفر من بني هاشم: محمد بن علي
هذا، ومعاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن الحارث بن نوفل
ابن الحارث بن عبد المطلب، فلما مات خرج محمد بن معاوية بن عبد الله بن جعفر من عنده،
وكل واحد منهما يدعى وصايته، فأما عبد الله بن الحارث فلم يقل شيئا.
قال أبو جعفر رحمه الله تعالى: وصدق محمد بن علي، أنه إليه أوصى أبو هاشم، وإليه
دفع كتاب الدولة، وكذب معاوية بن عبد الله بن جعفر، لكنه قرأ الكتاب، فوجد لهم
فيه ذكرا يسيرا، فادعى الوصية بذلك، فمات وخرج ابنه عبد الله بن معاوية يدعى وصاية
أبيه، ويدعى لأبيه وصاية أبى هاشم، ويظهر الانكار على بنى أمية، وكان له في ذلك
شيعة يقولون بإمامته سرا حتى قتل.
* * *
دخلت إحدى نساء بنى أمية على سليمان بن علي، وهو يقتل بنى أمية بالبصرة،
150

فقالت: أيها الأمير، إن العدل ليمل من الاكثار منه، والاسراف فيه، فكيف لا تمل
أنت من الجور وقطيعة الرحم! فأطرق ثم قال لها:
سننتم علينا القتل لا تنكرونه * فذوقوا كما ذقنا على سالف الدهر
ثم قال: يا أمة الله
* وأول راض سنة من يسيرها * (1).
ألم تحاربوا عليا وتدفعوا حقه؟ ألم تسموا حسنا وتنقضوا شرطه؟ ألم تقتلوا حسينا
وتسيروا رأسه؟ ألم تقتلوا زيدا وتصلبوا جسده؟ ألم تقتلوا يحيى وتمثلوا به؟ ألم تلعنوا عليا
على منابركم؟ ألم تضربوا أبانا علي بن عبد الله بسياطكم؟ ألم تخنقوا الامام بجراب النورة
في حبسكم؟ ثم قال: ألك حاجة؟ قالت قبض عمالك أموالي، فأمر برد
أموالها عليها.
* * *
لما سار مروان إلى الزاب، حفر خندقا، فسار إليه أبو عون عبد الله بن يزيد الأزدي،
وكان قحطبة بن شبيب قد وجهه وأمده أبو سلمة الخلال بأمداد كثيرة، فكان بإزاء
مروان. ثم إن أبا العباس السفاح قال لأهله وهو بالكوفة حينئذ: من يسير إلى مروان
من أهل بيتي وله ولاية العهد إن قتله؟ فقال عبد الله عمه: أنا، قال: سر على بركة الله،
فسار فقدم على أبى عون، فتحول له أبو عون عن سرادقه وخلاه له بما فيه، ثم سأل
عبد الله عن مخاضة في الزاب، فدل عليها، فأمر قائدا من قواده فعبرها في خمسة آلاف،
فانتهى إلى عسكر مروان فقاتلهم، حتى أمسوا وتحاجزوا، ورجع القائد بأصحابه، فعبر
المخاضة إلى عسكر عبد الله بن علي، وأصبح مروان، فعقد جسرا، وعبر بالجيش كله إلى

(1) من بيت لأبي ذؤيب الهذلي، ديوان الهذليين 1: 156 والبيت بتمامه:
فلا تجزعن من سنة أنت سرتها * وأول راض سنة من يسيرها
151

عبد الله بن علي، فكان ابنه عبد الله بن مروان في مقدمته، وعلى الميمنة الوليد
ابن معاوية بن عبد الملك بن مروان، وعلى الميسرة عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز
ابن مروان، وعبى عبد الله بن علي جيشه، وتراءى الجمعان، فقال مروان لعبد العزيز
ابن عمر: انظر، فإن زالت الشمس اليوم ولم يقاتلونا كنا نحن الذين ندفعها إلى عيسى
ابن مريم، وإن قاتلونا قبل الزوال، فإنا لله وإنا إليه راجعون! ثم أرسل إلى عبد الله
ابن علي يسأله الكف عن القتال نهار ذلك اليوم، فقال عبد الله: كذب ابن زربي
إنما يريد المدافعة إلى الزوال، لا والله لا تزول الشمس حتى أوطئه الخيل إن شاء الله.
ثم حرك أصحابه للقتال، فنادى مروان في أهل الشام: لا تبدءوهم بالحرب، فلم يسمع الوليد
ابن معاوية منه، وحمل على ميسرة عبد الله بن علي، فغضب مروان وشتمه، فلم يسمع
له واضطرمت الحرب، فأمر عبد الله الرماة أن ينزلوا، ونادى: الأرض الأرض! فنزل
الناس، ورمت الرماة، وأشرعت الرماح وجثوا على الركب، فاشتد القتال، فقال مروان
لقضاعة: أنزلوا، قالوا: حتى تنزل كندة، فقال لكندة أنزلوا، فقالوا: حتى تنزل
السكاسك، فقال لبني سليم: أنزلوا، فقالوا: حتى تنزل عامر، فقال لتميم: احملوا،
فقالوا: حتى تحمل بنو أسد، فقال لهوازن احملوا، قالوا حتى تحمل غطفان، فقال
لصاحب شرطته: احمل ويلك! قال: ما كنت لأجعل نفسي غرضا، قال: أما والله
لأسوأنك، قال: وددت أن أمير المؤمنين يقدر على ذلك! فانهزم عسكر مروان
وانهزم مروان معهم، وقطع الجسر، فكان من هلك غرقا أكثر ممن هلك تحت السيف،
واحتوى عبد الله بن علي على عسكر مروان بما فيه، وكتب إلى أبى العباس يخبره الواقعة.
* * *
كان مروان سديد الرأي، ميمون النقيبة، حازما، فلما ظهرت المسودة، ولقيهم كان
152

ما يدبر أمرا إلا كان فيه خلل، ولقد وقف يوم الزاب، وأمر بالأموال فأخرجت، وقال
للناس: اصبروا وقاتلوا، وهذه الأموال لكم، فجعل ناس يصيبون من ذلك المال ويشتغلون به
عن الحرب، فقال لابنه عبد الله: سر في أصحابك فامنع من يتعرض لاخذ المال، فمال
عبد الله برايته، ومعه أصحابه، فتنادى الناس: الهزيمة! الهزيمة! فانهزموا، وركب أصحاب
عبد الله بن علي أكتافهم.
* * *
لما قتل مروان ببوصير، قال الحسن بن قحطبة: أخرجوا إلى إحدى بنات مروان،
فأخرجوها إليه وهي ترعد، قال: لا بأس عليك! قالت: وأي بأس أعظم من
إخراجك إياي حاسرة، ولم أر رجلا قبلك قط! فأجلسها ووضع رأس مروان في حجرها،
فصرخت واضطربت فقيل له: ما أردت بهذا؟ قال: فعلت بهم فعلهم بزيد بن علي لما
قتلوه، جعلوا رأسه في حجر زينب بنت علي بن الحسين عليه السلام.
دخلت زوجة مروان بن محمد، وهي عجوز كبيرة على الخيزران في خلافة المهدى،
وعندها زينب بنت سليمان بن علي، فقالت لها زينب: الحمد لله الذي أزال نعمتك،
وصيرك عبرة! أتذكرين يا عدوة الله، حين أتاك نساؤنا يسألنك أن تكلمي صاحبك في
أمر إبراهيم بن محمد، فلقيتهن ذلك اللقاء، وأخرجتهن ذلك الاخراج! فضحكت، وقالت:
أي بنت عمى! وأي شئ أعجبك من حسن صنيع الله بي عقيب ذلك، حتى أردت أن
تتأسى بي فيه! ثم ولت خارجة.
* * *
بويع أبو العباس السفاح بالخلافة يوم الجمعة، لثلاث عشرة ليلة خلون من شهر ربيع
153

الأول سنة اثنتين وثلاثين ومائة، فصعد المنبر بالكوفة فخطب، فقال: الحمد لله الذي
اصطفى الاسلام لنفسه، وكرمه وشرفه وعظمه، واختاره لنا، وأيده بنا، وجعلنا أهله
وكهفه، وحصنه والقوام به، والذابين عنه، والناصرين له، وخصنا برحم رسول الله صلى
الله عليه وآله، وأنبتنا من شجرته، واشتقنا من نبعته، وأنزل بذلك كتابا يتلى، فقال
سبحانه: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) (1)، فلما قبض رسول
الله صلى الله عليه وآله، قام بالامر أصحابه (وأمرهم شورى بينهم) (2) فعدلوا،
وخرجوا خماصا (3)، ثم وثب بنو حرب وبنو مروان فابتزوها وتداولوها، واستأثروا بها،
وظلموا أهلها، فأملى الله لهم حينا، فلما آسفوه (4) انتقم منهم بأيدينا، ورد علينا حقنا، فأنا السفاح المبيح، والثائر المبير (5).
* * *
وكان موعوكا فاشتدت عليه الوعكة، فجلس على المنبر ولم يستطع الكلام، فقام عمه
داود بن علي وكان بين يديه، فقال:
يا أهل العراق، إنا والله ما خرجنا لنحفر نهرا، ولا لنكنز لجينا ولا عقيانا، وإنما
أخرجتنا الأنفة من ابتزاز الظالمين حقنا، ولقد كانت أموركم تتصل بنا فترمضنا ونحن على
فرشنا، لكم ذمة الله وذمة رسوله، وذمة العباس، أن نحكم فيكم بما أنزل الله، ونعمل فيكم
بكتاب الله، ونسير فيكم بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله. واعلموا أن هذا الامر ليس
بخارج عنا حتى نسلمه إلى عيسى بن مريم.

(1) الشورى 23
(2) سورة الشورى 38
(3) خماصا: جياعا.
(4) آسفوه: أغضبوه.
(5) المبير: المهلك: وقد وردت هذه الخطبة برواية أوسع من هذه في الطبري 9.
154

يا أهل الكوفة، إنه لم يخطب على منبركم هذا خليفة حق إلا علي بن أبي طالب وأمير
المؤمنين هذا، فاحمدوا الله الذي رد إليكم أموركم. ثم نزل.
وقد روى حديث خطبة داود بن علي برواية أخرى، وهي الأشهر، قالوا: لما صعد
أبو العباس منبر الكوفة، حصر فلم يتكلم، فقام داود بن علي، وكان تحت منبره حتى
قام بين يديه تحته بمرقاة، فاستقبل الناس، وقال:
أيها الناس، إن أمير المؤمنين يكره أن يتقدم قوله فعله، ولأثر الفعال أجدى عليكم
من تشقيق المقال، وحسبكم كتاب الله تمثلا فيكم، وابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله
خليفة عليكم، أقسم بالله قسما برا ما قام هذا المقام أحد بعد رسول الله صلى الله عليه
وآله أحق به من علي بن أبي طالب وأمير المؤمنين هذا فليهمس هامسكم، ولينطق
ناطقكم. ثم نزل.
* * *
ومن خطب داود التي خطب بها بعد قتل مروان:
شكرا شكرا! أظن عدو الله أن لن يظفر به، أرخى له في زمامه، حتى عثر في فضل
خطامه، فالآن عاد الحق إلى نصابه، وطلعت الشمس من مطلعها، وأخذ القوس باريها،
وصار الامر إلى النزعة (1)، ورجع الحق إلى مستقره، أهل بيت نبيكم، أهل الرأفة والرحمة.
* * *
وخطب عيسى بن علي بن عبد الله بن العباس، لما قتل مروان، فقال: الحمد لله الذي
لا يفوته من طلب، ولا يعجزه من هرب، خدعت والله الأشقر نفسه، إذ ظن أن الله
ممهله، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، فحتى متى، وإلى متى! أما والله

(1) النزعة: جمع نازع، وهو الرامي يشد إليه السهم، يريد: رجع الحق إلى أهله.
155

لقد كرهتهم العيدان (1) التي افترعوها، وأمسكت السماء درها (2)، والأرض ريعها (3)
وقحل (4) الضرع، وجفز الفنيق (5)، وأسمل (6) جلباب الدين، وأبطلت الحدود،
وأهدرت الدماء، وكان ربك بالمرصاد، فدمدم (7) عليهم ربهم بذنبهم فسواها،
ولا يخاف عقباها، وملكنا الله أمركم.
عباد الله لينظر كيف تعملون، فالشكر الشكر، فإنه من دواعي المزيد، أعاذنا الله
وإياكم من مضلات الأهواء، وبغتات الفتن فإنما نحن به وله!
* * *
لما أمعن داود بن علي في قتل بنى أمية بالحجاز قال له عبد الله بن حسن عليه السلام:
يا بن عمى، إذا أفرطت في قتل أكفائك فمن تباهى بسلطانك! وما يكفيك منهم أن
يروك غاديا ورائحا فيما يسرك ويسؤهم!
* * *
كان داود بن علي يمثل ببني أمية، يسمل العيون، ويبقر البطون، ويجدع الأنوف
ويصطلم الآذان. وكان عبد الله بن علي بنهر أبى فطرس يصلبهم منكسين، ويسقيهم
النورة والصبر، والرماد والخل، ويقطع الأيدي والأرجل. وكان سليمان بن علي بالبصرة
يضرب الأعناق.
* * *
خطب السفاح في الجمعة الثانية بالكوفة، فقال:

(1) العيدان، يريد أعواد المنابر، وافترعوا: اعتلوها.
(2) درها، أي مطرها.
(3) الريع: النماء.
(4) قحل: يبس جلده على لحمه.
(5) الفنيق: الفحل المكرم لا يؤذى لكرامته، والحفز: السرعة في المشي.
(6) أسمل: خلق وبلى.
(7) دمدم عليهم، طحنهم فأهلكهم.
156

يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود، والله لا أعدكم شيئا ولا أتوعدكم إلا وفيت بالوعد
والوعيد، ولأعملن اللين حتى لا تنفع إلا الشدة، ولأغمدن السيف إلا في إقامة حد،
أو بلوغ حق، ولأعطينكم حتى أرى العطية ضياعا. إن أهل بيت اللعنة والشجرة الملعونة
في القرآن، كانوا لكم أعداء لا يرجعون معكم من حالة إلا إلى ما هو أشد منها، ولا يلي
عليكم منهم وال إلا تمنيتم من كان قبله، وإن كان لا خير في جميعهم، منعوكم الصلاة في
أوقاتها، وطالبوكم بأدائها في غير وقتها، وأخذوا المدبر بالمقبل والجار بالجار، وسلطوا
شراركم على خياركم، فقد محق الله جورهم، وأزهق باطلهم بأهل بيت نبيكم، فما نؤخر
لكم، عطاء ولا نضيع لأحد منكم حقا، ولا نجهزكم في بعث ولا نخاطر بكم في قتال،
ولا نبذ لكم دون أنفسنا، والله على ما نقول وكيل بالوفاء والاجتهاد، وعليكم
بالسمع والطاعة.
ثم نزل.
* * *
كان يقال: لو ذهبت دولة بنى أمية على يد غير مروان بن محمد، لقيل: لو كان لها
مران لما ذهبت.
كان يقال: إن دولة بنى أمية آخرها خليفة، أمه أمة، فلذلك كانوا لا يعهدون إلى
بنى الإماء منهم، ولو عهدوا إلى ابن أمة لكان مسلمة بن عبد الملك أولاهم بها، وكان
انقراض أمرهم على يد مروان وأمه أمة، كانت لمصعب بن الزبير، وهبها من إبراهيم بن
الأشتر، فأصابها محمد بن مروان يوم قتل ابن الأشتر، فأخذها من ثقله فقيل: إنها
كانت حاملا بمروان، فولدته على فراش محمد بن مروان، ولذلك كان أهل خراسان ينادونه
في الحرب: يا بن الأشتر.
قيل أيضا: إنها كانت حاملا به من مصعب بن الزبير، وإنه لم تطل مدتها عند
157

إبراهيم بن الأشتر، حتى قتل فوضعت حملها على فراش محمد بن مروان، ولذلك كانت
المسودة تصيح به في الحرب: يا بن مصعب! ثم يقولون: يا بن الأشتر! فيقول: ما أبالي أي
الفحلين غلب على!
* * *
لما بويع أبو العباس جاءه ابن عياش المنتوف، فقبل يده وبايعه، وقال: الحمد لله
الذي أبدلنا بحمار الجزيرة، وابن أمة النخع، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله،
وابن عبد المطلب.
* * *
لما صعد السفاح منبر الكوفة يوم بيعته، وخطب الناس، قام إليه السيد
الحميري، فأنشده:
دونكموها يا بني هاشم * فجددوا من آيها الطامسا (1)
دونكموها لا علا كعب من * أمسى عليكم ملكها نافسا
دونكموها فالبسوا تاجها * لا تعدموا منكم له لابسا
خلافة الله وسلطانه * وعنصر كان لكم دارسا
قد ساسها من قبلكم ساسة * لم يتركوا رطبا ولا يابسا
لو خير المنبر فرسانه * ما اختار إلا منكم فارسا
والملك لو شوور في سائس * لما ارتضى غيركم سائسا
لم يبق عبد الله بالشام من * آل أبي العاص امرأ عاطسا
فلست من أن تملكوها إلى * هبوط عيسى منكم آيسا
* * *
قال داود بن علي لإسماعيل بن عمرو بن سعيد بن العاص بعد قتله من قتل من بنى

(1) الأبيات في الأغاني 7: 240 (طبع الدار) مع اختلاف في الرواية.
158

أمية: هل علمت ما فعلت بأصحابك؟ قال: نعم كانوا يدا فقطعتها، وعضدا ففتت (1)
فيها ومرة (2) فنقضتها، وجناحا فحصصتها (3)، قال: إني لخليق أن ألحقك فيهم، قال:
إني إذا لسعيد!
* * *
لما استوثق الامر لأبي العباس السفاح، وفد إليه عشرة من أمراء الشام، فحلفوا له
بالله وبطلاق نسائهم، وبأيمان البيعة بأنهم لا يعلمون - إلى أن قتل مروان - أن لرسول
الله صلى الله عليه وآله أهلا ولا قرابة إلا بنى أمية.
* * *
وروى أبو الحسن المدائني، قال: حدثني رجل قال: كنت بالشام، فجعلت لا أسمع
أحدا يسمى أحدا أو يناديه: يا علي أو يا حسن، أو يا حسين، وإنما أسمع: معاوية، والوليد
ويزيد، حتى مررت برجل، فاستسقيته ماء، فجعل ينادى: يا علي، يا حسن، يا حسين، فقلت:
يا هذا إن أهل الشام لا يسمون بهذه الأسماء! قال: صدقت، إنهم يسمون أبناءهم بأسماء
الخلفاء، فإذا لعن أحدهم ولده أو شتمه فقد لعن اسم بعض الخلفاء، وأنا سميت أولادي
بأسماء أعداء الله، فإذا شتمت أحدهم أو لعنته، فإنما ألعن أعداء الله.
* * *
كانت أم إبراهيم بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس
أموية من ولد عثمان بن عفان.
قال إبراهيم: فدخلت على جدي عيسى بن موسى مع أبي موسى، فقال لي جدي:
أتحب بنى أمية؟ فقال له موسى أبى: نعم، إنهم أخواله، فقال: والله لو رأيت جدك على

(1) فت في عضده، أي كسر قوته وفرق عنه أعوانه.
(2) المرة في الأصل: طاقة الحبل.
(3) يقال: حص الجناح، أي قطعه.
159

ابن عبد الله بن العباس يضرب بالسياط ما أحببتهم، ولو رأيت إبراهيم بن محمد يكره على
إدخال رأسه في جراب النورة (1) لما أحببتهم، وسأحدثك حديثا إن شاء الله أن ينفعك
به نفعك: لما وجه سليمان بن عبد الملك ابنه أيوب بن سليمان إلى الطائف وجه معه جماعة،
فكنت أنا ومحمد بن علي بن عبد الله جدي معهم، وأنا حينئذ حديث السن، وكان مع أيوب
مؤدب له يؤدبه، فدخلنا عليه يوما أنا وجدي، وذلك المؤدب يضربه، فلما رآنا الغلام
أقبل على مؤدبه فضربه، فنظر بعضنا إلى بعض، وقلنا: ما له قاتله الله! حين رآنا كره أن
نشمت به، ثم التفت أيوب إلينا، فقال: ألا أخبركم يا بني هاشم بأعقلكم وأعقلنا، أعقلنا
من نشأ منا يبغضكم، وأعقلكم من نشأ منكم يبغضنا، وعلامة ذلك أنكم لم تسموا
بمروان، ولا الوليد، ولا عبد الملك، ولم نسم نحن بعلي ولا بحسن ولا بحسين.
* * *
لما انتهى عامر بن إسماعيل - وكان صالح بن علي قد أنفذه لطلب مروان - إلى بوصير
مصر، هرب مروان بين يديه في نفر يسير من أهله وأصحابه، ولم يكن قد تخلف معه
كثير عدد، فانتهوا في غبش الصبح إلى قنطرة هناك على نهر عميق، ليس للخيل عبور
إلا على تلك القنطرة، وعامر بن إسماعيل من ورائهم، فصادف مروان على تلك القنطرة
بغالا قد استقبلته، تعبر القنطرة وعليها زقاق عسل، فحبسته عن العبور حتى أدركه
عامر بن إسماعيل ورهقه، فلوى مروان دابته إليهم وحارب فقتل، فلما بلغ صالح بن علي
ذلك، قال: إن لله جنودا من عسل.
* * *
لما نقف رأس مروان ونفض مخه، قطع لسانه وألقى مع لحم عنقه، فجاء كلب فأخذ
اللسان، فقال قائل:
* * *
160

إن من عبر الدنيا أن رأينا لسان مروان في فم كلب.
* * *
خطب أبو مسلم بالمدينة في السنة التي حج فيها في خلافة السفاح، فقال: الحمد لله الذي
حمد نفسه، واختار الاسلام دينا لعباده، ثم أوحى إلى محمد رسول الله صلى الله عليه
من ذلك ما أوحى، واختاره من خلقه، نفسه من أنفسهم، وبيته من بيوتهم، ثم أنزل عليه
في كتابه الناطق الذي حفظه بعلمه، وأشهد ملائكته على حقه، قوله: (إنما يريد الله
ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (1)، ثم جعل الحق بعد
محمد عليه السلام في أهل بيته، فصبر من صبر منهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه
على اللاواء والشدة، وأغضى على الاستبداد والإثرة. ثم إن قوما من أهل بيت
الرسول صلى الله عليه، جاهدوا على ملة نبيه وسنته بعد عصر من الزمان من عمل
بطاعة الشيطان وعداوة الرحمن، بين ظهراني قوم آثروا العاجل على الآجل، والفاني على
الباقي، إن رتق جور فتقوه، أو فتق حق رتقوه، أهل خمور وماخور، وطنابير (2) ومزامير،
إن ذكروا لم يذكروا، أو قدموا إلى الحق أدبروا، وجعلوا الصدقات في الشبهات، والمغانم
في المحارم، والفئ في الغي، هكذا كان زمانهم، وبه كان يعمل سلطانهم. وزعموا أن غير
آل محمد أولى بالامر منهم، فلم وبم أيها الناس! ألكم الفضل بالصحابة دون ذوي القرابة،
الشركاء في النسب، والورثة، في السلب (3) مع ضربهم على الدين جاهلكم، وإطعامهم في
الجدب جائعكم! والله ما اخترتم من حيث اختار الله لنفسه ساعة قط، وما زلتم بعد نبيه
تختارون تيميا مرة، وعدويا مرة، وأمويا مرة، وأسديا مرة، وسفيانيا مرة، ومروانيا

(1) سورة الأحزاب 33.
(2) الماخور: بيت الريبة. والطنابير: جمع طنبور، وهو آلة من آلات الطرب: ذو عنق طويل
وستة أوتار من نحاس.
(3) السلب: ما يسلب.
161

مرة حتى جاءكم من لا تعرفون اسمه ولا بيته، يضربكم بسيفه، فأعطيتموها عنوة وأنتم
صاغرون. ألا إن آل محمد أئمة الهدى، ومنار سبيل التقى القادة الذادة السادة، بنو عم
رسول الله، ومنزل جبريل بالتنزيل، كم قصم الله بهم (1) من جبار طاغ، وفاسق باغ،
شيد الله بهم الهدى، وجلا بهم العمى، لم يسمع بمثل العباس! وكيف لا تخضع له الأمم
لواجب حق الحرمة! أبو رسول الله بعد أبيه، وإحدى يديه، وجلدة بين عينيه. أمينه
يوم العقبة وناصره بمكة، ورسوله إلى أهلها، وحاميه يوم حنين، عند ملتقى الفئتين،
لا يخالف له رسما، ولا يعصى له حكما، الشافع يوم نيق (2) العقاب، إلى رسول الله في الأحزاب
ها إن في هذا أيها الناس لعبرة لأولي الابصار (3)!
قلت: الأسدي عبد الله بن الزبير. ومن لا يعرفون اسمه ولا بيته، يعنى نفسه،
لأنه لم يكن معلوم النسب، وقد اختلف فيه هل هو مولى أم عربي.
ويوم العقبة: يوم مبايعة الأنصار السبعين لرسول الله صلى الله عليه وآله بمكة. ويوم
نيق العقاب يوم فتح مكة، شفع العباس ذلك اليوم في أبي سفيان وفي أهل مكة، فعفا
النبي صلى الله عليه وآله عنهم.
* * *
اجتمع عند المنصور أيام خلافته جماعة من ولد أبيه، منهم عيسى بن موسى والعباس
ابن محمد وغيرهما، فتذاكروا خلفاء بنى أمية، والسبب الذي به سلبوا عزهم، فقال المنصور:
كان عبد الملك جبارا لا يبالي ما صنع، وكان الوليد لحانا مجنونا، وكان سليمان همته بطنه
وفرجه، وكان عمر أعور بين عميان، وكان هشام رجل القوم. ولم يزل بنو أمية ضابطين
لما مهد لهم من السلطان، يحوطونه ويصونونه ويحفظونه، ويحرسون ما وهب الله لهم منه،
مع تسنمهم معالي الأمور، ورفضهم أدانيها، حتى أفضى أمرهم إلى أحداث مترفين من
أبنائهم فغمطوا النعمة، ولم يشكروا العافية، وأساءوا الرعاية، فابتدأت النقمة منهم،

(1) ساقه من ب
(2) نيق العقاب: موضع بين مكة والمدينة قرب الجحفة.
(3) د: الألباب.
162

باستدراج الله إياهم آمنين مكره، مطرحين صيانة الخلافة، مستخفين بحق الرياسة،
ضعيفين عن رسوم السياسة، فسلبهم الله العزة، وألبسهم، الذلة، وأزال عنهم
النعمة
* * *
سأل المنصور ليلة عن عبد الله بن مروان بن محمد، فقال له الربيع: إنه في سجن
أمير المؤمنين حيا، فقال المنصور: قد كان بلغني كلام خاطبه به ملك النوبة، لما قدم
دياره، وأنا أحب أن أسمعه من فيه، فليؤمر بإحضاره. فأحضر فلما دخل خاطب
المنصور بالخلافة، فأمره المنصور، بالجلوس، فجلس وللقيد في رجليه خشخشة. قال: أحب
أن تسمعني كلاما قاله لك ملك النوبة حيث غشيت بلاده، قال: نعم، قدمت إلى بلد
النوبة، فأقمت أياما، فاتصل خبرنا بالملك، فأرسل إلينا فرشا وبسطا وطعاما كثيرا، وأفرد
لنا منازل واسعة، ثم جاءني ومعه خمسون من أصحابه، بأيديهم الحراب، فقمت إليه
فاستقبلته، وتنحيت له عن صدر المجلس، فلم يجلس فيه، وقعد على الأرض، فقلت له:
ما منعك من القعود على الفرش؟ قال: إني ملك، وحق الملك أن يتواضع لله ولعظمته
إذا رأى نعمة متجددة عنده، ولما رأيت تجدد نعمة الله عندي بقصدكم بلادي،
واستجارتكم بي، بعد عزكم وملككم، قابلت هذه النعمة بما ترى من الخضوع والتواضع.
ثم سكت وسكت، فلبثنا ما شاء الله، لا يتكلم ولا أتكلم، وأصحابه قيام بالحراب على
رأسه. ثم قال لي: لما ذا شربتم الخمر وهي محرمة عليكم في كتابكم؟ فقلت: اجترأ على
ذلك عبيدنا بجهلهم، قال: فلم وطئتم الزروع بدوابكم والفساد محرم عليكم في كتابكم
ودينكم (1)؟ قلت: فعل ذلك أتباعنا وعمالنا جهلا منهم، قال فلم لبستم الحرير والديباج
والذهب، وهو محرم عليكم في كتابكم ودينكم؟ قلت: استعنا في أعمالنا بقوم من

(1) ساقطة من ب
163

أبناء العجم كتاب، دخلوا في ديننا فلبسوا ذلك اتباعا لسنة سلفهم، على كره منا
فأطرق مليا إلى الأرض يقلب يده وينكت الأرض. ثم قال: عبيدنا وأتباعنا وعمالنا
وكتابنا! ما الامر كما ذكرت، ولكنكم قوم استحللتم ما حرم الله عليكم، وركبتم
ما عنه نهيتم، وظلمتم فيما ملكتم، فسلبكم الله العز، وألبسكم الذل، وإن له سبحانه
فيكم لنقمة لم تبلغ غايتها بعد، وأنا خائف أن يحل بكم العذاب وأنتم بأرضي فينالني
معكم، والضيافة ثلاث، فاطلبوا ما احتجتم إليه، وارتحلوا عن أرضى.
فأخذنا منه ما تزودنا به، وارتحلنا عن بلده. فعجب المنصور لذلك وأمر بإعادته
إلى الحبس.
* * *
وقد جاءنا في بعض الروايات أن السفاح لما أراد أن يقتل القوم الذين انضموا إليه
من بنى أمية جلس يوما على سرير بهاشمية الكوفة (1) وجاء بنو أمية وغيرهم من بني هاشم،
والقواد والكتاب، فأجلسهم في دار تتصل بداره، وبينه وبينهم ستر مسدول، ثم أخرج
إليهم أبا الجهم بن عطية، وبيده كتاب ملصق، فنادى بحيث يسمعون: أين رسول الحسين
ابن علي بن أبي طالب عليه السلام؟ فلم يتكلم أحد، فدخل ثم خرج ثانية فنادى: أين
رسول زيد بن علي بن الحسين؟ فلم يجبه أحد، فدخل ثم خرج ثالثة، فنادى:
أين رسول يحيى بن زيد بن علي؟ فلم يرد أحد عليه، فدخل ثم خرج رابعة، فنادى: أين
رسول إبراهيم بن محمد الامام؟ والقوم ينظر بعضهم إلى بعض، وقد أيقنوا بالشر، ثم دخل
وخرج، فقال: لهم إن أمير المؤمنين يقول لكم: هؤلاء أهلي ولحمي، فماذا صنعتم بهم؟
ردوهم إلى أو فأقيدوني من أنفسكم. فلم ينطقوا بحرف، وخرجت الخراسانية بالأعمدة
فشدخوهم عن آخرهم.
* * *

(1) هاشمية الكوفة، مدينة بناها السفاح.
164

قلت: وهذا المعنى مأخوذ من قول الفضل بن عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن
الحارث بن عبد المطلب لما قتل زيد بن علي عليه السلام في سنة اثنتين وعشرين ومائة
في خلافة هشام بن عبد الملك، وذلك أن هشاما كتب إلى عامله بالبصرة - وهو القاسم
ابن محمد الثقفي - أن يشخص كل من بالعراق من بني هاشم إلى المدينة خوفا من خروجهم،
وكتب إلى عامل المدينة أن يحبس قوما منهم، وأن يعرضهم في كل أسبوع مرة، ويقيم لهم
الكفلاء، على ألا يخرجوا منها، فقال الفضل بن عبد الرحمن من قصيدة
له طويلة:
كلما حدثوا بأرض نقيقا * ضمنونا السجون أو سيرونا
أشخصونا إلى المدينة أسرى * لا كفاهم ربى الذي يحذرونا
خلفوا أحمد المطهر فينا * بالذي لا يحب، واستضعفونا
قتلونا بغير ذنب إليهم * قاتل الله أمة قتلونا!
ما رعوا حقنا ولا حفظوا * فينا وصاة الاله بالأقربينا
جعلونا أدنى عدو إليهم * فهم في دمائنا يسبحونا
أنكروا حقنا وجاروا علينا * وعلى غير إحنة أبغضونا
غير أن النبي منا وأنا * لم نزل في صلاتهم راغبينا
إن دعونا إلى الهدى لم يجيبونا *، وكانوا عن الهدى ناكبينا
أو أمرنا بالعرف لم يسمعوا منا وردوا نصيحة الناصحينا
ولقدما ما رد نصح ذوي الرأي * فلم يتبعهم الجاهلونا
فعسى الله أن يديل أناسا * من أناس فيصبحوا ظاهرينا!
فتقر العيون من قوم سوء * قد أخافوا وقتلوا المؤمنينا
165

ليت شعري هل توجفن بي الخيل عليها الكماة مستلئمينا (1)
من بني هاشم ومن كل حي * ينصرون الاسلام مستنصرينا
في أناس آباؤهم نصروا الدين *، وكانوا لربهم ناصرينا
تحكم المرهفات في الهام منهم * بأكف المعاشر الثائرينا (2)
أين قتلى منا بغيتم عليهم * ثم قتلتموهم ظالمينا
ارجعوا هاشما وردوا أبا اليقظان * وابن البديل في آخرينا
وارجعوا ذا الشهادتين وقتلى * أنتم في قتالهم فاجرونا
ثم ردوا حجرا وأصحاب حجر * يوم أنتم في قتلهم معتدونا
ثم ردوا أبا عمير وردوا * لي رشيدا وميثما والذينا:
قتلوا بالطف يوم حسين * من بني هاشم، وردوا حسينا
أين عمرو وأين بشر وقتلى * معهم بالعراء ما يدفنونا
ارجعوا عامرا وردوا زهير * ثم عثمان، فارجعوا عازمينا
وارجعوا الحر وابن قين وقوما * قتلوا حين جاوزوا صفينا
وارجعوا هانئا وردوا إلينا * مسلما والرواع في آخرينا
ثم ردوا زيدا إلينا وردوا * كل من قد قلتم أجمعينا
لن تردوهم إلينا ولسنا * منكم غير ذلكم قابلينا
* * *

(1) الكماة: الشجعان. والمستلئم: لابس اللامة، وهي الدرع في الحرب.
(2) المرهفات: السيوف. والهام: الرؤوس.
166

الأصل:
ألا إن أبصر الابصار ما نفذ في الخير طرفه! ألا إن أسمع الاسماع ما وعى
التذكير وقبله!
أيها الناس، استصبحوا من شعلة مصباح واعظ متعظ، وامتاحوا من صفي عين
قد روقت من الكدر.
عباد الله، لا تركنوا إلى جهالتكم، ولا تنقادوا إلى أهوائكم، فإن النازل
بهذا المنزل نازل بشفا جرف هار، ينقل الردى على ظهره من موضع إلى موضع،
لرأى يحدثه بعد رأى، يريد أن يلصق ما لا يلتصق، ويقرب ما لا يتقارب!
فالله الله أن تشكوا إلى من لا يشكي شجوكم، ولا ينقض برأيه ما قد
أبرم لكم.
إنه ليس على الامام إلا ما حمل من أمر ربه: الإبلاغ في الموعظة، والاجتهاد
في النصيحة، والاحياء للسنة، وإقامة الحدود على مستحقيها، وإصدار السهمان
على أهلها.
فبادروا العلم من قبل تصويح نبته، ومن قبل أن تشغلوا بأنفسكم عن مستثار
العلم من عند أهله، وانهوا عن المنكر وتناهوا عنه، فإنما أمرتم بالنهي
بعد التناهي!
* * *
الشرح:
هار الجرف يهور هورا وهئورا فهو هائر، وقالوا: " هار "، خفضوه في موضع
الرفع، كقاض، وأرادوا " هائر "، وهو مقلوب من الثلاثي إلى الرباعي، كما قلبوا " شائك
السلاح " إلى " شاكي السلاح "، وهورته، فتهور وانهار: أي انهدم.
167

وأشكيت زيدا: أزلت شكايته. والشجو: الهم والحزن.
وصوح النبت، أي جف أعلاه، قال:
ولكن البلاد إذا اقشعرت * وصوح نبتها رعى الهشيم (1).
يقول عليه السلام: أشد العيون إدراكا ما نفذ طرفها في الخير، وأشد الاسماع إدراكا
ما حفظ الموعظة وقبلها.
ثم أمر الناس أن يستصبحوا، أي يسرجوا مصابيحهم من شعلة سراج.
متعظ في نفسه واعظ لغيره، وروى بالإضافة من " شعلة مصباح واعظ " بإضافة
" مصباح " إلى " واعظ "، وإنما جعله متعظا واعظا، لان من لم يتعظ في نفسه فبعيد أن يتعظ
به غيره، وذلك لان القبول لا يحصل منه، والأنفس تكون نافرة عنه، ويكون داخلا
في حيز قوله تعالى: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) (2) وفي قول الشاعر:
* لا تنه عن خلق وتأتي مثله (3) *
وعنى بهذا المصباح نفسه عليه السلام.
ثم أمرهم أن يمتاحوا من عين صافية قد انتفى عنها الكدر، كما يروق الشراب بالراووق
فيزول عنه كدره، والامتياح: نزول البئر وملء الدلاء منها، ويكنى بهذا أيضا عن نفسه
عليه السلام.

(1) لأبي على البصير، وقبله:
لعمر أبيك ما نسب المعلى * إلى كرم وفى الدنيا كريم
أمالي القالي 2: 287
(2) سورة البقرة 44
(3) لأبي الأسود الدؤلي، وبقيته:
* عار عليك إذا فعلت عظيم *
والبيت من شواهد المغني، وانظر شرح شواهد المغني 264.
168

ثم نهاهم عن الانقياد لأهوائهم والميل إلى جهالتهم، وقال: إن من يكون كذلك،
فإنه على جانب جرف متهدم، ولفظة " هار " من الألفاظ القرآنية (1).
ثم قال: ومن يكون كذلك، فهو أيضا ينقل الهلاك على ظهره من موضع
إلى موضع، ليحدث رأيا فاسدا بعد رأى، فاسد، أي هو ساع في ضلال يروم أن يحتج
لما لا سبيل إلى إثباته، وينصر مذهبا لا انتصار له.
ثم نهاهم وحذرهم أن يشكوا إلى من لا يزيل شكايتهم ومن لا رأى له في الدين
ولا بصيرة. لينقض ما قد أبرمه الشيطان في صدورهم لإغوائهم. ويروى: " إلى من
لا يشكي شجوكم، ومن ينقض برأيه ما قد أبرم لكم "، وهذه الرواية أليق، أي
لا تشكوا إلى من لا يدفع عنكم ما تشكون منه، وإنما ينقض برأيه الفاسد ما قد أبرمه الحق
والشرع لكم.
ثم ذكر أنه ليس على الامام إلا ما قد أوضحه من الأمور الخمسة.
ثم أمرهم بمبادرة أخذ العلم من أهله - يعنى نفسه عليه السلام - قبل أن يموت،
فيذهب العلم. وتصويح النبت، كناية عن ذلك.
ثم قال: وقبل أن تشغلوا بالفتن وما يحدث عليكم من خطوب الدنيا عن استثارة العلم
من معدنه واستنباطه من قرارته.
ثم أمرهم بالنهي عن المنكر، وإن يتناهوا عنه قبل أن ينهوا عنه، وقال: إنما النهى
بعد التناهي.

(1) من قوله تعالى في سورة التوبة 109 (أمن أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به
في نار جهنم).
169

وفي هذا الموضع إشكال، وذلك أن لقائل أن يقول: النهى عن المنكر واجب على
العدل والفاسق، فكيف قال: " إنما أمرتم بالنهي بعد التناهي "، وقد روى أن الحسن البصري
قال للشعبي: هلا نهيت عن كذا! فقال: يا أبا سعيد، إني أكره أن أقول ما لا أفعل.
قال الحسن: غفر الله لك! وأينا يقول ما يفعل! ود الشيطان لو ظفر منكم بهذه فلم يأمر
أحد بمعروف ولم ينه عن منكر!
والجواب أنه عليه السلام لم يرد أن وجود النهى عن المنكر مشروط بانتهاء ذلك
الناهي عن المنكر، وإنما أراد: أنى لم آمركم بالنهي عن المنكر إلا بعد أن أمرتكم بالانتهاء عن
المنكر، فالترتيب إنما هو في أمره عليه السلام لهم بالحالتين المذكورتين، لا في
نهيهم وتناهيهم.
فإن قلت: فلماذا قدم أمرهم بالانتهاء على أمرهم بالنهي؟
قلت: لان إصلاح المرء نفسه أهم من الاعتناء بإصلاحه لغيره.
170

(105) ومن خطبة له عليه السلام:
الأصل:
الحمد لله الذي شرع الاسلام فسهل شرائعه لمن ورده، وأعز أركانه على من
غالبه، فجعله أمنا لمن علقه، وسلما لمن دخله، وبرهانا لمن تكلم به، وشاهدا
لمن خاصم عنه، ونورا لمن استضاء به، وفهما لمن عقل، ولبا لمن تدبر، وآية لمن
توسم، وتبصرة لمن عزم، وعبرة لمن اتعظ، ونجاة لمن صدق، وثقة لمن توكل،
وراحة لمن فوض، وجنة لمن صبر.
فهو أبلج المناهج، وأوضح الولائج، مشرف المنار، مشرق الجواد، مضئ
المصابيح، كريم المضمار، رفيع الغاية، جامع الحلبة متنافس السبقة،
شريف الفرسان.
التصديق منهاجه، والصالحات مناره، والموت غايته، والدنيا مضماره، والقيامة
حلبته، والجنة سبقته.
* * *
الشرح:
هذا باب من الخطابة شريف، وذلك لأنه ناط بكل واحدة من اللفظات لفظة
تناسبها وتلائمها لو نيطت بغيرها لما انطبقت عليها، ولا استقرت في قرارها، ألا تراه قال:
" أمنا لمن علقه "! فالأمن مرتب على الاعتلاق، وكذلك في سائر الفقر كالسلم المرتب
على الدخول، والبرهان المرتب على الكلام، والشاهد المرتب على الخصام، والنور المرتب
171

على الاستضاءة..... إلى آخرها، ألا ترى أنه لو قال: " وبرهانا لمن دخله، ونورا لمن
خاصم عنه، وشاهدا لمن استضاء به "، لكان قد قرن باللفظة ما لا يناسبها، فكان قد
خرج عن قانون الخطابة، ودخل في عيب ظاهر!
وتوسم: تفرس. والولائج: جمع وليجة، وهو المدخل إلى الوادي وغيره.
والجنة: الترس. وأبلج المناهج: معروف الطريق.
والحلبة: الخيل المجموعة للمسابقة.
والمضمار: موضع تضمير الخيل، وزمان تضميرها. والغاية: الراية المنصوبة، وهو هاهنا
خرقة تجعل على قصبة وتنصب في آخر المدى الذي تنتهى إليه المسابقة، كأنه عليه السلام
جعل الاسلام كخيل السباق التي مضمارها كريم، وغايتها رفيعة عالية، وحلبتها جامعة
حاوية، وسبقتها متنافس فيها، وفرسانها أشراف.
ثم وصفه بصفات أخرى، فقال: التصديق طريقه، والصالحات أعلامه، والموت
غايته، أي أن الدنيا سجن المؤمن، وبالموت يخلص من ذلك السجن، ويحظى
بالسعادة الأبدية.
قال: والدنيا مضماره، كأن الانسان يجرى إلى غاية هي الموت، وإنما جعلها مضمار
الاسلام لان، المسلم يقطع دنياه لا لدنياه بل لآخرته، فالدنيا له كالمضمار للفرس إلى
الغاية المعينة.
قال: والقيامة حلبته، أي ذات حلبته فحذف المضاف، كقوله تعالى: (هم درجات
عند الله) أي ذوو درجات.
ثم قال: والجنة سبقته أي جزاء سبقته، فحذف أيضا.
* * *
172

الأصل:
منها في ذكر النبي صلى الله عليه وآله:
حتى أورى قبسا لقابس، وأنار علما لحابس، فهو أمينك المأمون، وشهيدك
يوم الدين، وبعيثك نعمة، ورسولك بالحق رحمة.
اللهم أقسم له مقسما من عدلك، واجزه مضعفات الخير من فضلك. اللهم
وأعل على بناء البانين بناءه! وأكرم لديك نزله، وشرف عندك منزله، وآته
الوسيلة، وأعطه السناء والفضيلة، واحشرنا في زمرته غير خزايا، ولا نادمين
ولا ناكبين ولا ناكثين، ولا ضالين، ولا مضلين، ولا مفتونين!
* * *
قال الرضى رحمه الله تعالى:
وقد مضى هذا الكلام فيما تقدم، إلا أننا كررناه هاهنا لما في الروايتين
من الاختلاف.
* * *
الشرح:
قبسا، منصوب بالمفعولية، أي أورى رسول الله صلى الله عليه وآله قبسا، والقبس:
شعلة من النار، والقابس: طالب الاستصباح منها، والكلام مجاز، والمراد الهداية
في الدين.
وعلما، منصوب أيضا بالمفعولية، أي وأنار رسول الله صلى الله عليه وآله علما.
لحابس، أي نصب لمن قد حبس ناقته - ضلالا، فهو يخبط لا يدرى كيف يهتدى
إلى المنهج - علما يهتدى به.
173

فإن قلت: فهل يجوز أن ينصب " قبسا " و " علما " على أن يكون كل واحد
منهما حالا، أي حتى أورى رسول الله في حال كونه قبسا وأنار في حال كونه علما؟
قلت: لم أسمع " أورى الزند " وإنما المسموع " ورى " و " ورى " ولم يجئ
" أورى " إلا متعديا، أورى زيد زنده، فإن حمل هاهنا على المتعدى احتيج إلى حذف
المفعول، ويصير تقديره: حتى أورى رسول الله الزند حال كونه قبسا، فيكون فيه نوع
تكلف واستهجان.
والبعيث: المبعوث. ومقسما: نصيبا، وإن جعلته مصدرا جاز.
والنزل: طعام الضيف. والوسيلة: ما يتقرب به، وقد فسر قولهم في دعاء الاذان:
" اللهم آته الوسيلة "، بأنها درجة رفيعة في الجنة. والسناء بالمد: الشرف.
وزمرته: جماعته.
وخزايا: جمع خزيان، وهو الخجل المستحي، مثل سكران وسكارى، وحيران
وحيارى، وغيران وغيارى.
وناكبين، أي عادلين عن الطريق، وناكثين، أي ناقضين للعهد.
* * *
قلت: سألت النقيب أبا جعفر رحمه الله - وكان منصفا بعيدا عن الهوى والعصبية عن
هذا الموضع - فقلت له: وقد وقفت على كلام الصحابة وخطبهم فلم أر فيهم من يعظم
رسول الله صلى الله عليه وآله تعظيم هذا الرجل، ولا يدعو كدعائه، فإنا قد وقفنا من
" نهج البلاغة " ومن غيره على فصول كثيرة مناسبة لهذا الفصل، تدل على إجلال
عظيم، وتبجيل شديد منه لرسول الله صلى الله عليه وآله. فقال: ومن أين لغيره من
الصحابة كلام مدون يتعلم منه كيفية ذكرهم للنبي صلى الله عليه وآله؟ وهل وجد لهم إلا
كلمات مبتدرة، لا طائل تحتها! ثم قال: إن عليا عليه السلام كان قوى الايمان برسول
الله صلى الله عليه وآله والتصديق له، ثابت اليقين، قاطعا بالامر، متحققا له، وكان
174

مع ذلك يحب رسول الله صلى الله عليه وآله لنسبته منه، وتربيته له، واختصاصه به من
دون أصحابه، وبعد، فشرفه له، لأنهما نفس واحدة في جسمين، الأب واحد، والدار
واحدة، والأخلاق متناسبة، فإذا عظمه فقد عظم نفسه، وإذا دعا إليه فقد دعا إلى نفسه،
ولقد كان يود أن تطبق دعوة الاسلام مشارق الأرض ومغاربها، لان جمال ذلك
لاحق به، وعائد عليه، فكيف لا يعظمه ويبجله ويجتهد في إعلاء كلمته!
فقلت له: قد كنت اليوم أنا وجعفر بن مكي الشاعر نتجاذب هذا الحديث،
فقال جعفر: لم ينصر رسول الله صلى الله عليه وآله أحد نصرة أبى طالب وبنيه له،
أما أبو طالب فكفله ورباه، ثم حماه من قريش عند إظهار الدعوة، بعد إصفاقهم
وإطباقهم على قتله، وأما ابنه جعفر فهاجر بجماعة من المسلمين إلى أرض الحبشة، فنشر
دعوته بها، وأما على فإنه أقام عماد الملة بالمدينة، ثم لم يمن أحد من القتل
والهوان والتشريد بما منى به بنو أبى طالب، أما جعفر فقتل يوم مؤتة، وأما على
فقتل بالكوفة بعد أن شرب نقيع الحنظل، وتمنى الموت، ولو تأخر قتل ابن ملجم له
لمات أسفا وكمدا، ثم قتل ابناه بالسم والسيف، وقتل بنوه الباقون مع أخيهم
بالطف، وحملت نساؤهم على الأقتاب سبايا إلى الشام، ولقيت ذريتهم وأخلافهم
بعد ذلك من القتل والصلب والتشريد في البلاد والهوان والحبس والضرب ما لا يحيط
الوصف بكنهه، فأي خير أصاب هذا البيت من نصرته، ومحبته وتعظيمه
بالقول والفعل!
فقال رحمه الله - وأصاب فيما قال -: فهلا قلت: (يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا
على إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للايمان إن كنتم صادقين) (1).
ثم قال: وهلا قلت له فقد نصرته الأنصار، وبذلت مهجها دونه، وقتلت بين يديه في

(1) سورة آل عمران 163.
175

مواطن كثيرة، وخصوصا يوم أحد ثم اهتضموا بعده، واستؤثر عليهم، ولقوا من المشاق
والشدائد ما يطول شرحه، ولو لم يكن إلا يوم الحرة، فإنه اليوم الذي لم يكن في العرب
مثله، ولا أصيب قوم قط بمثل ما أصيب به الأنصار ذلك اليوم!
ثم قال: إن الله تعالى زوى الدنيا عن صالحي عباده وأهل الاخلاص له، لأنه لم يرها
ثمنا لعبادتهم، ولا كفؤا لإخلاصهم، وأرجأ جزاءهم إلى دار أخرى غير هذه الدار، في
مثلها يتنافس المتنافسون!
* * *
الأصل:
منها في خطاب أصحابه:
وقد بلغتم من كرامة الله تعالى لكم منزلة تكرم بها إماؤكم، وتوصل بها
جيرانكم، ويعظمكم من لا فضل لكم عليه، ولا يد لكم عنده، ويهابكم
من لا يخاف لكم سطوة، ولا لكم عليه إمرة.
وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تغضبون، وأنتم لنقض ذمم آبائكم تأنفون،
وكانت أمور الله عليكم ترد، وعنكم تصدر، وإليكم ترجع، فمكنتم الظلمة
من منزلتكم، وألقيتم إليهم أزمتكم، وأسلمتم أمور الله في أيديهم، يعملون
بالشبهات، ويسيرون في الشهوات. وأيم الله لو فرقوكم تحت كل كوكب، لجمعكم
الله لشر يوم لهم!
* * *
الشرح:
هذا خطاب لأصحابه الذين أسلموا مدنهم ونواحيهم إلى جيوش معاوية، التي كان
176

يغير بها على أطراف أعمال علي عليه السلام كالأنبار وغيرها، مما تقدم ذكرنا له، قال لهم:
إن الله أكرمكم بالاسلام بعد أن كنتم مجوسا، أو عباد أصنام، وبلغتم من كرامته إياكم
بالاسلام منزلة عظيمة، أكرم بها إماؤكم وعبيدكم، ومن كان مظنة المهنة والمذلة.
ووصل بها جيرانكم، أي من التجأ إليكم من معاهد أو ذمي، فإن الله تعالى حفظ
لهم ذمام المجاورة لكم، حتى عصم دماءهم وأموالهم، وصرتم إلى حال يعظمكم بها من
لا فضل لكم عليه، ولا نعمة لكم عنده، كالروم والحبشة، فإنهم عظموا مسلمي العرب
لتقمصهم لباس الاسلام والدين، ولزومهم ناموسه، وإظهارهم شعاره.
ويهابكم من لا يخاف لكم سطوة، ولا لكم عليه إمرة، كالملوك الذين في أقاصي البلاد،
نحو الهند والصين وأمثالها، وذلك لأنهم هابوا دولة الاسلام، وإن لم يخافوا سطوة سيفها،
لأنه شاع وذاع أنهم قوم صالحون، إذا دعوا الله استجاب لهم، وأنهم يقهرون الأمم بالنصر
السماوي وبالملائكة، لا بسيوفهم ولا بأيديهم. قيل: إن العرب لما عبرت دجلة إلى
القصر الأبيض الشرقي بالمدائن عبرتها في أيام مدها، وهي كالبحر الزاخر على خيولها
وبأيديها رماحها، ولا دروع عليها ولا بيض، فهربت الفرس بعد رمى شديد منها للعرب
بالسهام، وهم يقدمون ويحملون، ولا تهولهم السهام، فقال فلاح نبطي، بيده مسحاته
وهو يفتح الماء إلى زرعه لأسوار من الأساورة معروف بالبأس وجودة الرماية: ويلكم!
أمثلكم في سلاحكم يهرب من هؤلاء القوم الحاسرين! ولذعه باللوم والتعنيف: فقال له:
أقم مسحاتك، فأقامها فرماها، فخرق الحديد حتى عبر النصل إلى جانبها الآخر، ثم قال:
انظر الآن، ثم رمى بعض العرب المارين عليه عشرين سهما لم يصبه ولا فرسه منها بسهم
واحد، وإنه لقريب منه غير بعيد. ولقد كان بعض السهام يسقط بين يدي الأسوار،
فقال له بالفارسية: أعلمت أن القوم مصنوع لهم! قال: نعم.
177

ثم قال عليه السلام: ما لكم لا تغضبون، وأنتم ترون عهود الله منقوضة! وإن من
العجب أن يغضب الانسان ويأنف من نقض عهد أبيه، ولا يغضب ولا يأنف لنقض
عهود إلهه وخالقه!
ثم قال لهم: كانت الأحكام الشرعية إليكم ترد منى ومن تعليمي إياكم، وتثقيفي
لكم، ثم تصدر عنكم إلى من تعلمونه إياها من اتباعكم وتلامذتكم، ثم يرجع إليكم
بأن يتعلمها بنوكم وإخوتكم من هؤلاء الاتباع والتلامذة، ففررتم من الزحف لما أغارت
جيوش الشام عليكم، وأسلمتم منازلكم وبيوتكم وبلادكم إلى أعدائكم، ومكنتم الظلمة
من منزلتكم، حتى حكموا في دين الله بأهوائهم، وعملوا بالشبهة لا بالحجة، واتسعوا
في شهواتهم ومآرب أنفسهم.
ثم أقسم بالله: إن أهل الشام لو فرقوكم تحت كل كوكب ليجمعنكم الله ليوم،
وهو شر يوم لهم، وكنى بذلك عن ظهور المسودة وانتقامها من أهل الشام وبنى أمية،
وكانت المسودة المنتقمة منهم عراقية وخراسانية.
178

(106) ومن كلام له عليه السلام في بعض أيام صفين:
وقد رأيت جولتكم، وانحيازكم عن صفوفكم، تحوزكم الجفاة الطغام،
وأعراب أهل الشام، وأنتم لهاميم العرب، ويآفيخ الشرف، والأنف المقدم،
والسنام الأعظم.
ولقد شفا وحاوح صدري أن رأيتكم بأخرة، تحوزونهم كما حازوكم،
وتزيلونهم عن مواقفهم كما أزالوكم، حسا بالنصال، وشجرا بالرماح، تركب أولاهم
أخراهم كالإبل الهيم المطرودة، ترمى عن حياضها، وتذاد عن مواردها!
* * *
الشرح:
جولتكم: هزيمتكم. فأجمل في اللفظ، وكنى عن اللفظ المنفر، عادلا عنه إلى لفظ
لا تنفير فيه، كما قال تعالى: (كانا يأكلان الطعام) (1)، قالوا: هو كناية عن إتيان
الغائط، وإجمال في اللفظ.
وكذلك قوله: " وانحيازكم عن صفوفكم " كناية عن الهرب أيضا، وهو من قوله
تعالى: (إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة) (2).

(1) سورة الفرقان 7.
(2) سورة الأنفال 16
179

وهذا باب من أبواب البيان لطيف، وهو حسن التوصل بإيراد كلام غير مزعج،
عوضا عن لفظ يتضمن جبها وتقريعا.
وتحوزكم: تعدل بكم عن مراكزكم. والجفاة: جمع جاف، وهو الفدم الغليظ.
والطغام: الأوغاد، واللهاميم، جمع لهموم وهو الجواد من الناس والخيل، قال الشاعر:
لا تحسبن بياضا في منقصة * إن اللهاميم في أقرابها بلق (1)
واليآفيخ: جمع يافوخ وهو معظم الشئ، تقول: قد ذهب يافوخ الليل، أي أكثره،
ويجوز أن يريد به اليافوخ، وهو أعلى الرأس، وجمعه يآفيخ أيضا. وأفخت الرجل: ضربت
يافوخه، وهذا أليق، لأنه ذكر بعده الانف والسنام، فحمل اليافوخ على العضو
إذا أشبه.
والوحاوح: الحرق والحزازات. ولقيته بأخرة على " فعلة " أي أخيرا.
والحس القتل، قال الله تعالى: (إذ تحسونهم بإذنه) (2).
وشجرت زيدا بالرمح: طعنته، والتأنيث في " أولاهم " و " أخراهم " للكتائب.
والهيم: العطاش. وتذاد تصد وتمنع، وقد روى: " الطغاة " عوض " الطغام ".
وروى " حشأ " بالهمز من حشأت الرجل أي أصبت حشاه.
وروى " بالنضال " بالضاد المعجمة، وهو المناضلة والمراماة.
وقد ذكرنا نحن هذا الكلام فيما اقتصصناه من أخبار صفين فيما تقدم من
هذا الكتاب.

(1) اللسان 16: 29، من غير نسبة.
(2) سورة آل عمران 152
180

(107) الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام، وهي من خطب الملاحم:
الحمد لله المتجلي لخلقه بخلقه، والظاهر لقلوبهم بحجته، خلق الخلق من
غير روية، إذ كانت الرويات لا تليق إلا بذوي الضمائر، وليس بذي ضمير في
نفسه. خرق علمه باطن غيب السترات، وأحاط بغموض عقائد السريرات.
* * *
الشرح:
الملاحم: جمع ملحمة، وهي الوقعة العظيمة في الحرب، ولما كانت دلائل إثبات الصانع
ظاهرة ظهور الشمس، وصفه عليه السلام بكونه ظهر وتجلى لخلقه، ودلهم عليه بخلقه
إياهم وإيجاده لهم.
ثم أكد ذلك بقوله: " والظاهر لقلوبهم بحجته " ولم يقل " لعيونهم " لأنه غير
مرئي، ولكنه ظاهر للقلوب بما أودعها من الحجج الدالة عليه.
ثم نفى عنه الروية والفكر والتمثيل بين خاطرين، ليعمل على أحدهما، لان ذلك إنما
يكون لأرباب الضمائر والقلوب أولى النوازع المختلفة والبواعث المتضادة.
ثم وصفه بأن علمه محيط بالظاهر والباطن والماضي والمستقبل، فقال: إن علمه
خرق باطن الغيوب المستورة، وأحاط بالغامض من عقائد السرائر.
* * *
181

الأصل:
منها في ذكر النبي صلى الله عليه وآله:
اختاره من شجرة الأنبياء، ومشكاة الضياء، وذؤابة العلياء، وسرة البطحاء،
ومصابيح الظلمة، وينابيع الحكمة.
* * *
الشرح:
شجرة الأنبياء أولاد إبراهيم عليه السلام، لان أكثر الأنبياء منهم. والمشكاة:
كوة غير نافذة، يجعل فيها المصباح. والذؤابة. طائفة من شعر الرأس، وسرة البطحاء:
وسطها، وبنو كعب بن لؤي يفخرون على بنى عامر بن لؤي بأنهم سكنوا البطاح،
وسكنت عامر بالجبال المحيطة بمكة، وسكن معها بنو فهر بن مالك، رهط أبى عبيدة
ابن الجراح وغيره، قال الشاعر:
فحللت منها بالبطاح * وحل غيرك بالظواهر.
وقال طريح بن إسماعيل:
أنت ابن مسلنطح البطاح ولم * تطرق عليك الحني والولج (1).
وقال بعض الطالبيين.
وأنا ابن معتلج البطاح إذا غدا * غيري، وراح على متون ظواهر

(1) قيل في الوليد بن زيد بن عبد الملك، وكان من أخواله. الحني: ما انخفض من الأرض، والولوج:
ما اتسع من الأودية، أي لم تكن بينهما فيختفي حسبك، والبيت في معجم البلدان 2: 214.
182

يفتر عنى ركنها وحطيمها * كالجفن يفتح عن سواد الناظر
كجبالها شرفي، ومثل سهولها * خلقي، ومثل ظبائهن مجاوري
* * *
الأصل:
منها:
طبيب دوار بطبه، قد أحكم مراهمه، وأحمى مواسمه، يضع ذلك حيث
الحاجة إليه، من قلوب عمى، وآذان صم، وألسنة بكم، متتبع بدوائه مواضع
الغفلة، ومواطن الحيرة.
* * *
الشرح:
إنما قال: " دوار بطبه "، لان الطبيب الدوار أكثر تجربة، أو يكون عنى به أنه يدور
على من يعالجه، لان الصالحين يدورون على مرضى القلوب، فيعالجونهم. ويقال: إن المسيح
رئي خارجا من بيت مومسة، فقيل له: يا سيدنا، أمثلك يكون هاهنا! فقال: إنما يأتي
الطبيب المرضى.
والمراهم: الأدوية المركبة للجراحات والقروح. والمواسم: حدائد يوسم بها
الخيل وغيرها.
ثم ذكر أنه إنما يعالج بذلك من يحتاج إليه، وهم أولو القلوب العمى، والآذان،
الصم، والألسنة البكم، أي الخرس. وهذا تقسيم صحيح حاصر، لان الضلال ومخالفة
183

الحق يكون بثلاثة أمور إما بجهل القلب، وبعدم سماع المواعظ والحجج، أو بالإمساك
عن شهادة التوحيد وتلاوة الذكر، فهذه أصول الضلال، وأما أفعال المعاصي
ففروع عليها.
[فصل في التقسيم، وما ورد فيه من الشعر]
وصحة التقسيم باب من أبواب علم البيان، ومنه قوله سبحانه: (ثم أورثنا الكتاب
الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات) (1).
وهذه قسمة صحيحة، لان المكلفين: إما كافر، أو مؤمن، أو ذو المنزلة بين المنزلتين، هكذا
قسم أصحابنا الآية على مذهبهم في الوعيد.
وغيرهم يقول: العباد: إما عاص ظالم لنفسه، أو مطيع مبادر إلى الخير،
أو مقتصد بينهما.
ومن التقسيم أيضا قوله: (وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب
الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون) (2)
ومثل ذلك.
وقوله تعالى: (هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا) (3)، لان الناس عند رؤية البرق
بين خائف وطامع.
ووقف سائل على مجلس الحسن البصري، فقال: رحم الله عبدا أعطى من سعة،
أو واسى من كفاف، أو آثر من قلة! فقال الحسن: لم تترك لأحد عذرا.

(1) سورة فاطر 32
(2) سورة الواقعة 7 - 10
(3) سورة الرعد 12
184

ومن التقسيمات الفاسدة في الشعر قول البحتري:
ذاك وادي الأراك فاحبس قليلا * مقصر في ملامة أو مطيلا (1)
قف مشوقا، أو مسعدا، أو حزينا * أو معينا، أو عاذرا، أو عذولا
فالتقسيم في البيت الأول صحيح، وفي الثاني غير صحيح، لان المشوق يكون حزينا،
والمسعد يكون معينا، فكذلك يكون عاذرا، ويكون مشوقا، ويكون حزينا.
وقد وقع المتنبي في مثل، ذلك، فقال:
فافخر، فإن الناس فيك ثلاثة * مستعظم أو حاسد أو جاهل (2)
فان المستعظم يكون حاسدا، والحاسد يكون مستعظما.
ومن الأبيات التي ليس تقسيمها بصحيح، ما ورد في شعر الحماسة:
وأنت امرؤ إما ائتمنتك خاليا * فخنت، وإما قلت قولا بلا علم (3)
فأنت من الامر الذي قد أتيته * بمنزلة بين الخيانة والاثم
وذلك لان الخيانة أخص من الاثم، والاثم شامل لها، لأنه أعم منها، فقد دخل أحد
القسمين في الآخر. ويمكن أن يعتذر له، فيقال: عنى بالاثم الكذب نفسه، وكذلك
هو المعنى أيضا بقوله: " قولا بلا علم "، كأنه قال له: إما أن أكون أفشيت سرى إليك
فخنتني، أو لم أفش فكذبت على، فأنت فيما أتيت بين أن تكون خائنا أو كاذبا.
ومما جاء من ذلك في النثر قول بعضهم: " من جريح مضرج بدمائه، أو هارب لا يلتفت
إلى ورائه "، وذلك أن الجريح قد يكون هاربا، والهارب قد يكون جريحا.
وقد أجاد البحتري لما قسم هذا المعنى، وقال:

(1) ديوانه 2: 210
(2) ديوانه 3: 259
(3) لعبد الله بن همام السلولي، حماسة أبى تمام بشرح المرزوقي 3: 1139
185

غادرتهم أيدي المنية صبحا * للقنا بين ركع وسجود
فهم فرقتان بين قتيل * قبضت نفسه بحد الحديد
أو أسير غدا له السجن لحدا * فهو حي في حاله الملحود
فرقة للسيوف ينفذ فيها * الحكم قسرا وفرقة للقيود
ومن ذلك قول بعض الاعراب: النعم ثلاث: نعمة في حال كونها، ونعمة ترجى مستقبلة،
ونعمة تأتى غير محتسبة، فأبقى الله عليك ما أنت فيه، وحقق ظنك فيما ترتجيه، وتفضل
عليك بما لم تحتسبه. وذلك أنه أغفل النعمة الماضية. وأيضا فإن النعمة التي تأتى غير محتسبة
داخلة في قسم النعمة المستقبلة.
وقد صحح القسمة أبو تمام، فقال:
جمعت لنا فرق الأماني منكم * بأبر من روح الحياة وأوصل (1)
كالمزن من ماضي الرباب ومقبل * متنظر ومخيم متهلل
فصنيعة في يومها وصنيعة * قد أحولت، وصنيعة لم تحول.
* * *
فإن قلت: فإن ما عنيت به فساد التقسيم على البحتري والمتنبي يلزمك مثله فيما
شرحته، لان الأعمى القلب قد يكون أبكم اللسان، أصم السمع.
قلت: إن الشاعرين ذكرا التقسيم ب‍ " أو "، وأمير المؤمنين عليه السلام قسم بالواو
والواو للجمع، فغير منكر أن تجتمع الأقسام لواحد، أو أن تعطى معنى الانفراد فقط،
فافترق الموضعان
* * *

(1) ديوانه 3: 51، وهناك البيت الثالث قبل الثاني.
186

الأصل:
لم يستضيئوا بأضواء الحكمة، ولم يقدحوا بزناد العلوم الثاقبة، فهم في
ذلك كالأنعام السائمة، والصخور القاسية، قد انجابت السرائر لأهل البصائر،
ووضحت محجة الحق لخابطها، وأسفرت الساعة عن وجهها، وظهرت العلامة
لمتوسمها.
ما لي أراكم أشباحا بلا أرواح، وأرواحا بلا أشباح، ونساكا بلا صلاح،
وتجارا بلا أرباح، أيقاظا نوما، وشهودا غيبا، وناظرة عمياء، وسامعة صماء،
وناطقة بكماء!
* * *
الشرح:
انجابت: انكشفت. والمحجة: الطريق. والخابط: السائر على غير سبيل واضحة.
وأسفرت الساعة: أضاءت وأشرقت، وعن متعلقة بمحذوف، وتقديره: كاشفة
عن وجهها.
والمتوسم: المتفرس. أشباحا بلا أرواح، أي أشخاصا لا أرواح لها ولا عقول،
وأرواحا بلا أشباح، يمكن أن يريد به الخفة والطيش، تشبيها بروح بلا جسد. ويمكن
أن يعنى به نقصهم، لان الروح غير ذات الجسد ناقصة عن الاعتمال، والتحريك اللذين
كانا من فعلها حيث كانت تدير الجسد.
ونساكا بلا صلاح، نسبهم إلى النفاق. وتجارا بلا أرباح، نسبهم إلى الرياء وإيقاع
الأعمال على غير وجهها.
ثم وصفهم بالأمور المتضادة ظاهرا، وهي مجتمعة في الحقيقة، فقال: أيقاظا نوما،
187

لأنهم أولو يقظة، وهم غفول عن الحق كالنيام، وكذلك باقيها، قال تعالى: (فإنها
لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) (1).
* * *
الأصل:
راية ضلال قد قامت على قطبها، وتفرقت بشعبها، تكيلكم بصاعها،
وتخبطكم بباعها، قائدها خارج من الملة، قائم على الضلة، فلا يبقى يومئذ منكم
إلا ثفالة كثفالة القدر، أو نفاضة كنفاضة العكم، تعرككم عرك الأديم،
وتدوسكم دوس الحصيد، وتستخلص المؤمن من بينكم استخلاص الطير الحبة
البطينة من بين هزيل الحب.
* * *
الشرح:
هذا كلام منقطع عما قبله، لان الشريف الرضى رحمه الله كان يلتقط الفصول التي في
الطبقة العليا من الفصاحة من كلام أمير المؤمنين عليه السلام فيذكرها، ويتخطى
ما قبلها وما بعدها، وهو عليه السلام يذكر هاهنا ما يحدث في آخر الزمان من الفتن،
كظهور السفياني وغيره.
والقطب في قوله عليه السلام: " قامت على قطبها ": الرئيس الذي عليه يدور أمر
الجيش. والشعب: القبيلة العظيمة، وليس التفرق للراية نفسها، بل لنصارها وأصحابها،
فحذف المضاف، ومعنى تفرقهم، أنهم يدعون إلى تلك الدعوة المخصوصة في بلاد متفرقة،
أي تفرق ذلك الجمع العظيم في الأقطار، داعين إلى أمر واحد. ويروى " بشعبها " جمع شعبة.

(1) سورة الحج 46
188

وتقدير " تكيلكم بصاعها " تكيل لكم، فحذف اللام، كما في قوله تعالى:
(وإذا كالوهم أو وزنوهم) (1) أي: كالوا لهم، أو وزنوا لهم، والمعنى تحملكم على دينها
ودعوتها، وتعاملكم بما يعامل به من استجاب لها، ويجوز أن يريد بقوله: " تكيلكم
بصاعها " يقهركم أربابها على الدخول في أمرهم، ويتلاعبون بكم، ويرفعونكم
ويضعونكم كما يفعل كيال البر به إذا كاله بصاعه.
وتخبطكم بباعها: تظلمكم وتعسفكم، قائدها ليس على ملة الاسلام بل مقيم على
الضلالة، يقال: ضله لك، وإنه ليلومني ضلة، إذا لم يوفق للرشاد في عذله.
والثفالة: ما ثفل في القدر من الطبيخ. والنفاضة: ما سقط من الشئ المنفوض.
والعكم: العدل، والعكم أيضا نمط تجعل فيه المرأة ذخيرتها.
وعركت الشئ: دلكته بقوة والحصيد: الزرع المحصود.
ومعنى استخلاص الفتنة المؤمن أنها تخصه بنكايتها وأذاها، كما قيل: المؤمن ملقى
والكافر موقي، وفي الخبر المرفوع: " آفات الدنيا أسرع إلى المؤمن من النار في
يبيس العرفج ".
* * *
الأصل: أين تذهب بكم المذاهب، وتتيه بكم الغياهب، وتخدعكم الكواذب؟
ومن أين تؤتون، وأنى تؤفكون! فلكل أجل كتاب، ولكل غيبة أياب.
فاستمعوا من ربانيكم، وأحضروه قلوبكم، واستيقظوا إن هتف بكم.

(1) سورة المطففين 3
189

وليصدق رائد أهله، وليجمع شمله، وليحضر ذهنه، فلقد فلق لكم الامر فلق
الخرزة، وقرفه قرف الصمغة.
* * *
الشرح الغياهب: الظلمات، الواحد غيهب، وتتيه بكم: تجعلكم تائهين، عدى الفعل اللازم
بحرف الجر، كما تقول في ذهب ذهبت به. والتائه: المتحير.
والكواذب هاهنا: الأماني، فحذف الموصوف وأبقى الصفة كقوله:
* إلا بكفي كان من أرمى البشر *
أي بكفي غلام هذه صفته.
وقوله: " ولكل أجل كتاب " أظنه منقطعا أيضا عن الأول مثل الفصل الذي
تقدم، وقد كان قبله ما ينطبق عليه ويلتئم معه لا محالة. ويمكن على بعد أن يكون
متصلا بما هو مذكور هاهنا.
وقوله " ولكل غيبة إياب " قد قاله عبيد بن الأبرص، واستثنى من العموم
الموت، فقال:
وكل ذي غيبة يؤوب وغائب الموت لا يؤوب (1)
وهو رأى زنادقة العرب، فأما أمير المؤمنين، وهو ثاني صاحب الشريعة التي جاءت
بعود الموتى، فإنه لا يستثنى، ويحمق عبيدا في استثنائه.
والرباني: الذي أمرهم بالاستماع منه، إنما يعنى به نفسه عليه السلام، ويقال: رجل

(1) ديوانه 13
190

رباني أي متأله عارف بالرب سبحانه. وفي وصف الحسن لأمير المؤمنين عليه السلام
" كان والله رباني هذه الأمة وذا فضلها، وذا قرابتها، وذا سابقتها ".
ثم قال: وأحضروه قلوبكم، أي اجعلوا قلوبكم حاضرة عنده، أي لا تقنعوا لأنفسكم
بحضور الأجساد وغيبة القلوب، فإنكم لا تنتفعون بذلك. وهتف بكم: صاح، والرائد:
الذي يتقدم المنتجعين لينظر لهم الماء والكلأ. وفي المثل: الرائد لا يكذب أهله.
وقوله: " وليجمع شمله "، أي وليجمع عزائمه وأفكاره لينظر، فقد فلق هذا الرباني
لكم الامر، أي شق ما كان مبهما، وفتح ما كان مغلقا، كما تفلق الخرزة
فيعرف باطنها.
وقرفه، أي قشره، كما تقشر الصمغة عن عود الشجرة، وتقلع.
* * *
الأصل:
فعند ذلك أخذ الباطل مآخذه، وركب الجهل مراكبه، وعظمت الطاغية،
وقلت الداعية، وصال الدهر صيال السبع العقور، وهدر فنيق الباطل بعد
كظوم، وتواخي الناس على الفجور، وتهاجروا على الدين، وتحابوا على
الكذب، وتباغضوا على الصدق. فإذا كان ذلك كان الولد غيظا، والمطر قيظا،
وتفيض اللئام فيضا، وتغيض الكرام، غيضا وكان أهل ذلك الزمان ذئابا،
وسلاطينه سباعا، وأوساطه أكالا، وفقراؤه أمواتا، وغار الصدق، وفاض
الكذب، واستعملت المودة باللسان، وتشاجر الناس بالقلوب، وصار الفسوق
نسبا، والعفاف عجبا، ولبس الاسلام لبس الفرو مقلوبا.
* * *
191

الشرح:
تقول: أخذ الباطل مأخذه، كما تقول عمل عمله، أي قوى سلطانه وقهر، ومثله
" ركب الجهل مراكبه ".
وعظمت الطاغية، أي الطغيان، فاعله بمعنى المصدر، كقوله تعالى: (ليس لوقعتها
كاذبة) (1) أي تكذيب ويجوز أن تكون الطاغية هاهنا صفة فاعل محذوف، أي
عظمت الفئة الطاغية. وقلت الداعية مثله، أي الفرقة الداعية.
وصال: حمل ووثب، صولا وصولة، يقال: رب قول أشد من صول، والصيال
والمصاولة هي المواثبة، صايله صيالا وصيالة والفحلان يتصاولان، أي يتواثبان.
والفنيق: فحل الإبل. وهدر: ردد صوته في حنجرته، وإبل هوادر، وكذلك
هدر بالتشديد تهديرا، وفي المثل: " هو كالمهدر في العنة " يضرب للرجل يصيح ويجلب،
وليس وراء ذلك شئ كالبعير الذي يحبس في العنة، وهي الحظيرة، ويمنع من الضراب،
وهو يهدر، وقال الوليد بن عقبة لمعاوية:
قطعت الدهر كالسدم المعنى تهدر في دمشق ولا تريم (2)
والكظوم: الامساك والسكوت، كظم البعير يكظم كظوما، إذا أمسك الجرة،
وهو كاظم، وإبل كظوم لا تجتر، وقوم كظم ساكتون.
وتواخي الناس: صاروا إخوة، والأصل تآخى الناس، فأبدلت الهمزة واوا، كآزرته أي
أعنته، ووازرته.
يقول اصطلحوا على الفجور. وتهاجروا على الدين، أي تعادوا وتقاطعوا.
فإن قلت: فإن من شعار الصالحين أن يهجروا في الدين ويعادوا فيه!

(1) سورة الواقعة 2
(2) اللسان 15: 176، وقال: " السدم الذي يرغب عن فحلته، فيحال بينه وبين ألافه، ويقيد
إذا هاج، فيرعى حوالي الدار ".
192

قلت: لم يذهب أمير المؤمنين حيث ظننت، وإنما أراد أن صاحب الدين مهجور
عندهم، لان صاحب الدين مهجور وصاحب الفجور جار عندهم مجرى الأخ في الحنو عليه،
والحب له، لأنه صاحب فجور.
ثم قال: " كان الولد غيظا "، أي لكثرة عقوق الأبناء للآباء، " وصار المطر قيظا "
يقال إنه من علامات الساعة وأشراطها.
وأوساطه أكالا، أي طعاما، يقال: ما ذقت أكالا، وفي هذا الموضع إشكال، لأنه
لم ينقل هذا الحرف إلا في الجحد خاصة، كقولهم: ما بها صافر، فالأجود الرواية الأخرى،
وهي " آكالا " بمد الهمزة على " أفعال " جمع أكل، وهو ما أكل، كقفل وأقفال. وقد
روى " أكالا " بضم الهمزة على " فعال "، وقالوا: إنه جمع " أكل " للمأكول كعرق
وعراق، وظئر وظؤار، إلا أنه شاذ عن القياس، ووزن وأحدهما مخالف لوزن واحد " أكال "
لو كان جمعا، يقول: صار أوساط الناس طعمة للولاة وأصحاب السلاطين، وكالفريسة للأسد.
وغار الماء: سفل لنقصه، وفاض: سال.
وتشاجر الناس تنازعوا وهي المشاجرة، وشجر بين القوم، إذا اختلف الامر بينهم،
واشتجروا، مثل تشاجروا.
وصار الفسوق نسبا يصير الفاسق صديق الفاسق، حتى يكون ذلك كالنسب بينهم،
وحتى يعجب الناس من العفاف لقلته وعدمه.
ولبس الاسلام لبس الفرو، وللعرب عادة بذلك، وهي أن تجعل الخمل إلى الجسد،
وتظهر الجلد، والمراد انعكاس الاحكام الاسلامية في ذلك الزمان.
193

(108) الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام:
كل شئ خاشع له، وكل شئ قائم به، غنى كل فقير، وعز كل ذليل،
وقوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف.
من تكلم سمع نطقه، ومن سكت علم سره، ومن عاش فعليه رزقه،
ومن مات فإليه منقلبه.
لم ترك العيون فتخبر عنك، بل كنت قبل الواصفين من خلقك.
لم تخلق الخلق لوحشة، ولا استعملتهم لمنفعة، ولا يسبقك من طلبت،
ولا يفلتك من أخذت، ولا ينقص سلطانك من عصاك، ولا يزيد في ملكك من
أطاعك، ولا يرد أمرك من سخط قضاءك، ولا يستغنى عنك من تولى عن أمرك.
كل سر عندك علانية، وكل غيب عندك شهادة.
أنت الأبد فلا أمد لك، وأنت المنتهى فلا محيص عنك، وأنت الموعد فلا منجى
منك إلا إليك.
بيدك ناصية كل دابة، وإليك مصير كل نسمة.
سبحانك ما أعظم شأنك سبحانك ما أعظم ما نرى من خلقك! وما أصغر عظيمة
في جنب قدرتك! وما أهول ما نرى من ملكوتك! وما أحقر ذلك فيما غاب عنا
من سلطانك! وما أسبغ نعمك في الدنيا وما أصغرها في نعم الآخرة!
* * *
194

الشرح:
قال: كل شئ خاضع لعظمة الله سبحانه، وكل شئ قائم به، وهذه هي صفته
الخاصة، أعني كونه غنيا عن كل شئ، ولا شئ من الأشياء يغنى عنه أصلا.
ثم قال: " غنى كل فقير، وعز كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف ".
جاء في الأثر: من اعتز بغير الله ذل، ومن تكثر بغير الله قل، وكان يقال: ليس
فقيرا من استغنى بالله. وقال الحسن: وا عجبا للوط نبي الله! قال: (لو أن لي بكم قوة
أو آوى إلى ركن شديد) (1)، أتراه أراد ركنا أشد وأقوى من الله!
واستدل العلماء على ثبوت الصانع سبحانه بما دل عليه فحوى قوله عليه السلام:
" ومفزع كل ملهوف "، وذلك أن النفوس ببدائهها تفزع عند الشدائد والخطوب
الطارقة إلى الالتجاء إلى خالقها وبارئها، ألا ترى راكبي السفينة عند تلاطم الأمواج، كيف
يجأرون إليه سبحانه اضطرارا لا اختيارا، فدل ذلك على أن العلم به مركوز في النفس،
قال سبحانه: (وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه) (2).
ثم قال عليه السلام: " من تكلم سمع نطقه، ومن سكت علم سره " يعنى أنه يعلم
ما ظهر وما بطن.
ثم قال: " ومن عاش فعليه رزقه، ومن مات فإليه منقلبه "، أي هو مدبر الدنيا
والآخرة، والحاكم فيهما.
ثم انتقل عن الغيبة إلى الخطاب، فقال: " لم ترك العيون ".

(1) سورة هود 80
(2) سورة الإسراء 67
195

[فصل في الكلام على الالتفات]
واعلم أن باب الانتقال من الغيبة إلى الخطاب، ومن الخطاب إلى الغيبة باب كبير من
أبواب علم البيان، وأكثر ما يقع ذلك إذا اشتدت عناية المتكلم بذلك المعنى المنتقل إليه،
كقوله سبحانه: (الحمد لله رب. العالمين الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين) فأخبر عن
غائب، ثم انتقل إلى خطاب الحاضر فقال: (إياك نعبد وإياك نستعين)، قالوا: لان
منزلة الحمد دون منزلة العبادة، فإنك تحمد نظيرك ولا تعبده، فجعل الحمد للغائب وجعل
العبادة لحاضر يخاطب بالكاف، لان كاف الخطاب أشد تصريحا به سبحانه من الاخبار
بلفظ الغيبة. قالوا: ولما انتهى إلى آخر السورة، قال: (صراط الذين أنعمت عليهم)
فأسند النعمة إلى مخاطب حاضر. وقال في الغضب: (غير المغضوب عليهم)، فأسنده إلى
فاعل غير مسمى ولا معين، وهو أحسن من أن يكون قال: " لم تغضب عليهم، وفي "
النعمة " الذين أنعم عليهم ".
ومن هذا الباب قوله تعالى: (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا) فأخبر ب‍ " قالوا " عن
غائبين، ثم قال: (لقد جئتم شيئا إدا) (1) فأتى بلفظ الخطاب استعظاما للامر
كالمنكر على قوم حاضرين عنده.
ومن الانتقال عن الخطاب إلى الغيبة قوله تعالى: (هو الذي يسيركم في البر
والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح
عاصف...) (2) الآية.
* * *

(1) سورة مريم 88، 89
(2) سورة يونس 22
196

وفائدة ذلك أنه صرف الكلام من خطاب الحاضرين إلى إخبار قوم آخرين بحالهم،
كأنه يعدد على أولئك ذنوبهم ويشرح لهؤلاء بغيهم وعنادهم الحق، ويقبح عندهم ما فعلوه،
ويقول: ألا تعجبون من حالهم كيف دعونا، فلما رحمناهم، واستجبنا دعاءهم، عادوا إلى
بغيهم! وهذه الفائدة لو كانت الآية كلها على صيغة خطاب الحاضر مفقودة.
* * *
قال عليه السلام: " ما رأتك العيون فتخبر عنك "، كما يخبر الانسان عما شاهده، بل
أنت أزلي قديم موجود قبل الواصفين لك.
فإن قلت: فأي منافاة بين هذين الامرين، أليس من الممكن أن يكون سبحانه قبل
الواصفين له، ومع ذلك يدرك بالابصار إذا خلق خلقه، ثم يصفونه رأى عين!
قلت: بل هاهنا منافاة ظاهرة، وذلك لأنه إذا كان قديما لم يكن جسما ولا عرضا،
وما ليس بجسم ولا عرض تستحيل رؤيته، فيستحيل أن يخبر عنه على سبيل المشاهدة.
ثم ذكر عليه السلام أنه لم يخلق الخلق لاستيحاشه وتفرده، ولا استعملهم بالعبادة
لنفعه، وقد تقدم شرح هذا.
ثم قال: لا تطلب أحدا فيسبقك، أي يفوتك، ولا يفلتك من أخذته.
فإن قلت: أي فائدة في قوله: " ولا يفلتك من أخذته "، لأن عدم الإفلات هو
الاخذ، فكأنه قال: لا يفلتك من لم يفلتك!
قلت: المراد أن من أخذت لا يستطيع أن يفلت، كما يستطيع المأخوذون مع ملوك
الدنيا أن يفلتوا بحيلة من الحيل.
فإن قلت: أفلت فعل لازم، فما باله عداه؟
قلت: تقدير الكلام: " لا يفلت منك " فحذف حرف الجر، كما قالوا: " استجبتك "
أي استجبت لك، قال:
197

* فلم يستجبه عند ذاك مجيب (1) *
وقالوا: استغفرت الله الذنوب، أي من الذنوب، وقال الشاعر:
أستغفر الله ذنبا لست محصيه * رب العباد إليه الوجه والعمل
قوله عليه السلام: " ولا يرد أمرك من سخط قضاءك، ولا يستغنى عنك من تولى
عن أمرك "، تحته سر عظيم، وهو قول أصحابنا في جواب قول المجبرة: " لو وقع منا
ما لا يريده لاقتضى ذلك نقصه ": إنه لا نقص في ذلك، لأنه لا يريد الطاعات منا إرادة
قهر وإلجاء، ولو أرادها إرادة قهر لوقعت وغلبت إرادته إرادتنا، ولكنه تعالى أراد منا
أن نفعل نحن الطاعة واختيارا، فلا يدل عدم وقوعها منا على نقصه وضعفه، كما لا يدل
بالاتفاق بيننا وبينكم عدم وقوع ما أمر به على ضعفه ونقصه.
ثم قال عليه السلام: " كل سر عندك علانية "، أي لا يختلف الحال عليه في
الإحاطة بالجهر والسر، لأنه عالم لذاته، ونسبة ذاته إلى كل الأمور واحدة.
ثم قال: " أنت الأبد فلا أمد لك "، هذا كلام علوي شريف، لا يفهمه إلا
الراسخون في العلم، وفيه سمة من قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تسبوا الدهر، فإن
الدهر هو الله "، وفي مناجاة الحكماء لمحة منه أيضا، وهو قولهم: " أنت الأزل السرمد،
وأنت الأبد الذي لا ينفد "، بل قولهم: " أنت الأبد الذي لا ينفد "، هو قوله: أنت
الأبد فلا أمد لك "، بعينه، ونحن نشرحه هاهنا على موضوع هذا الكتاب، فإنه كتاب أدب
لا كتاب نظر، فنقول: إن له في العربية محملين: أحدهما أن المراد به: أنت ذو الأبد،
كما قالوا: رجل خال، أي ذو خال، والخال الخيلاء، ورجل داء، أي به داء ورجل

(1) صدره:
* وداع دعا يا من يجيب إلى الندى *
أمالي القالي 2: 151، من قصيدة لكعب بن سعد الغنوي يرثي بها أبا المغوار.
198

مال، أي ذو مال. والمحمل الثاني، أنه لما كان الأزل والأبد لا ينفكان عن وجوده
سبحانه جعله عليه السلام، كأنه أحدهما بعينه، كقولهم: أنت الطلاق، لما أراد المبالغة
في البينونة جعلها كأنها الطلاق نفسه، ومثله قول الشاعر:
* فإن المندى رحلة فركوب (1) *
وقال أبو الفتح في " الدمشقيات " استدل أبو علي على صرف " منى " للموضع
المخصوص، بأنه مصدر " منى يمنى "، قال: فقلت له: أتستدل بهذا على أنه مذكر، لان
المصدر إلى التذكير! فقال: نعم، فقلت: فما تنكر ألا يكون فيه دلالة عليه، لأنه
لا ينكر أن يكون مذكر سمى به البقعة المؤنثة، فلا ينصرف، كامرأة سميتها بحجر
وجبل وشبع ومعي، فقال: إنما ذهبت إلى ذلك، لأنه جعل كأنه المصدر بعينه، لكثرة
ما يعاني فيه ذلك. فقلت: الآن نعم.
ومن هذا الباب قوله:
* فإنما هي إقبال وإدبار (2) *
وقوله:
* وهن من الاخلاف قبلك والمطل *
وقوله: " فلا منجى منك إلا إليك " قد أخذه الفرزدق فقال لمعاوية:
إليك فررت منك ومن زياد * ولم أحسب دمى لكما حلالا (3)
ثم استعظم واستهول خلقه الذي يراه، وملكوته الذي يشاهده، واستصغر واستحقر

(1) لعلقمة وصدره:
* تراد على دمن الحياض فإن تعف *
(2) للخنساء، ديوانها 78، وصدره:
* ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت *
199

ذلك، بالإضافة إلى قدرته تعالى، وإلى ما غاب عنا سلطانه. ثم تعجب من سبوغ
نعمه تعالى في الدنيا، واستصغر ذلك بالنسبة إلى نعم الآخرة، وهذا حق لأنه لا نسبة
للمتناهي إلى غير المتناهي
* * *
الأصل:
منها:
من ملائكة أسكنتهم سماواتك، ورفعتهم عن أرضك، هم أعلم خلقك بك،
وأخوفهم لك، وأقربهم منك، لم يسكنوا الأصلاب، ولم يضمنوا الأرحام،
ولم يخلقوا من ماء مهين، ولم يتشعبهم ريب المنون، وإنهم على مكانهم منك،
ومنزلتهم عندك، واستجماع أهوائهم فيك، وكثرة طاعتهم لك، وقلة غفلتهم
عن أمرك، لو عاينوا كنه ما خفى عليهم منك، لحقروا أعمالهم، ولزروا على أنفسهم،
ولعرفوا أنهم لم يعبدوك حق عبادتك، ولم يطيعوك حق طاعتك.
سبحانك خالقا ومعبودا! بحسن بلائك عند خلقك خلقت دارا، وجعلت فيها
مأدبة مشربا ومطعما وأزواجا، وخدما وقصورا، وأنهارا وزروعا وثمارا.
ثم أرسلت داعيا يدعو إليها، فلا الداعي أجابوا، ولا فيما رغبت رغبوا،
ولا إلى ما شوقت إليه اشتاقوا. أقبلوا على جيفة قد افتضحوا بأكلها، واصطلحوا
على حبها، ومن عشق شيئا أعشى بصره، وأمرض قلبه، فهو (1) ينظر بعين غير
صحيحة، ويسمع بأذن غير سميعة، قد خرقت الشهوات عقله، وأماتت الدنيا قلبه،
وولهت عليها نفسه، فهو عبد لها، ولمن في يديه شئ منها، حيثما زالت زال إليها، وحيثما
أقبلت أقبل عليها، لا ينزجر من الله بزاجر، ولا يتعظ منه بواعظ، وهو يرى المأخوذين

(1) ساقطة من ب
200

على الغرة، حيث لا إقالة لهم ولا رجعة، كيف نزل بهم ما كانوا يجهلون، وجاءهم من فراق
الدنيا ما كانوا يأمنون، وقدموا من الآخرة على ما كانوا. يوعدون. فغير موصوف
ما نزل بهم، اجتمعت عليهم سكرة الموت، وحسرة الفوت، ففترت لها أطرافهم،
وتغيرت لها ألوانهم، ثم أزداد الموت فيهم ولوجا، فحيل بين أحدهم وبين منطقه،
وإنه لبين أهله ينظر ببصره، ويسمع بأذنه على صحة من عقله، وبقاء من لبه،
يفكر فيم أفنى عمره، وفيم أذهب دهره! ويتذكر أموالا جمعها أغمض في
مطالبها، وأخذها من مصرحاتها ومشتبهاتها، قد لزمته تبعات جمعها، وأشرف على
فراقها، تبقى لمن وراءه ينعمون فيها، ويتمتعون بها، فيكون المهنأ لغيره، والعبء
على ظهره، والمرء قد غلقت رهونه بها، فهو يعض يده ندامة على ما أصحر له عند
الموت من أمره، ويزهد فيما كان يرغب فيه أيام عمره، ويتمنى أن الذي كان
يغبطه بها ويحسده عليها قد حازها دونه، فلم يزل الموت يبالغ في جسده، حتى
خالط سمعه، فصار بين أهله لا ينطق بلسانه، ولا يسمع بسمعه، يردد طرفه
بالنظر في وجوههم، يرى حركات ألسنتهم، ولا يسمع رجع كلامهم، ثم ازداد
الموت التياطا، فقبض بصره كما قبض سمعه، وخرجت الروح من جسده، فصار
جيفة بين أهله، قد أوحشوا من جانبه، وتباعدوا من قربه، لا يسعد باكيا،
ولا يجيب داعيا، ثم حملوه إلى محط في الأرض، فأسلموه فيه إلى عمله، وانقطعوا
عن زورته.
حتى إذا بلغ الكتاب أجله، والامر مقاديره، وألحق آخر الخلق بأوله،
وجاء من أمر الله ما يريده من تجديد خلقه، أماد السماء وفطرها، وأرج الأرض
وأرجفها، وقلع جبالها ونسفها، ودك بعضها بعضا من هيبة جلالته، ومخوف سطوته،
وأخرج من فيها فجددهم بعد إخلاقهم، وجمعهم بعد تفرقهم، ثم ميزهم لما يريده من
201

مسألتهم عن خفايا الأعمال، وخبايا الافعال، وجعلهم فريقين: أنعم على هؤلاء وانتقم من
هؤلاء. فأما أهل الطاعة فأثابهم بجواره، وخلدهم في داره، حيث لا يظعن النزال،
ولا تتغير بهم الحال، ولا تنوبهم الأفزاع، ولا تنالهم الأسقام، ولا تعرض لهم
الاخطار، ولا تشخصهم الاسفار. وأما أهل المعصية، فأنزلهم شر دار، وغل الأيدي
إلى الأعناق، وقرن النواصي بالاقدام، وألبسهم سرابيل القطران، ومقطعات
النيران، في عذاب قد اشتد حره، وباب قد أطبق على أهله، في نار لها كلب
ولجب، ولهب ساطع، وقصيف هائل، لا يظعن مقيمها، ولا يفادى أسيرها،
ولا تفصم كبولها، لا مدة للدار فتفنى، ولا أجل للقوم فيقضى.
* * *
الشرح:
هذا موضع المثل: " في كل شجرة نار، واستمجد المرخ والعفار "، الخطب الوعظية
الحسان كثيرة، ولكن هذا حديث يأكل الأحاديث:
محاسن أصناف المغنين جمة * وما قصبات السبق إلا لمعبد.
من أراد أن يتعلم الفصاحة والبلاغة، ويعرف فضل الكلام بعضه على بعض،
فليتأمل هذه الخطبة، فإن نسبتها إلى كل فصيح من الكلام - عدا كلام الله ورسوله - نسبة
الكواكب المنيرة الفلكية إلى الحجارة المظلمة الأرضية، ثم لينظر الناظر إلى ما عليها
من البهاء، والجلالة والرواء، والديباجة، وما تحدثه من الروعة والرهبة، والمخافة والخشية،
حتى لو تليت على زنديق ملحد مصمم على اعتقاد نفى البعث والنشور لهدت قواه،
وأرعبت قلبه، وأضعفت على نفسه، وزلزلت، اعتقاده، فجزى الله قائلها عن الاسلام أفضل
202

ما جزى به وليا من أوليائه! فما أبلغ نصرته له! تارة بيده وسيفه، وتارة بلسانه ونطقه،
وتارة بقلبه وفكره! إن قيل جهاد وحرب فهو سيد المجاهدين والمحاربين، وإن قيل
وعظ وتذكير، فهو أبلغ الواعظين والمذكرين، وإن قيل فقه وتفسير، فهو رئيس
الفقهاء والمفسرين، وإن قيل عدل وتوحيد، فهو إمام أهل العدل والموحدين:
ليس على الله بمستنكر * أن يجمع العالم في واحد
ثم نعود إلى الشرح، فنقول: قوله عليه السلام: " أسكنتهم سمواتك "، لا يقتضى
أن جميع الملائكة في السماوات، فإنه قد ثبت أن الكرام الكاتبين في الأرض، وإنما
لم يقتض ذلك، لان قوله: " من ملائكة " ليس من صيغ العموم، فإنه نكرة في سياق
الاثبات. وقد قيل أيضا: إن ملائكة الأرض تعرج إلى السماء ومسكنها بها،
ويتناوبون على أهل الأرض.
قوله: " هم أعلم خلقك بك "، ليس يعنى به أنهم يعلمون من ماهيته تعالى
ما لا يعلمه البشر، أما على قول المتكلمين فلان ذاته تعالى معلومة للبشر، والعلم لا يقبل
الأشد والأضعف، وأما على قول الحكماء، فلان ذاته تعالى غير معلومة للبشر
ولا للملائكة، ويستحيل أن تكون معلومة لأحد، منهم فلم يبق وجه
يحمل عليه.
قوله عليه السلام: " هم أعلم خلقك بك " إلا أنهم يعلمون من تفاصيل مخلوقاته
وتدبيراته ما لا يعلمه غيرهم، كما يقال: وزير الملك أعلم بالملك من الرعية، ليس المراد أنه
أعلم بذاته وماهيته، بل بأفعاله وتدبيره ومراده وغرضه.
قوله: " وأخوفهم لك "، لان قوتي الشهوة والغضب مرفوعتان عنهم، وهما منبع
203

الشر، وبهما يقع الطمع والاقدام على المعاصي. وأيضا فإن منهم من يشاهد الجنة والنار
عيانا، فيكون أخوف لأنه ليس الخبر كالعيان.
قوله: " وأقربهم منك " لا يريد القرب المكاني لأنه تعالى منزه عن المكان
والجهة، بل المراد كثرة الثواب وزيادة التعظيم والتبجيل، وهذا يدل على صحة مذهب أصحابنا
في أن الملائكة أفضل من الأنبياء.
ثم نبه على مزية لهم تقتضي أفضلية جنسهم على جنس البشر، بمعنى الأشرفية،
لا بمعنى زيادة الثواب وهو قوله " لم يسكنوا الأصلاب ولم يضمنوا الأرحام، ولم يخلقوا من
ماء مهين، ولم يتشعبهم ريب المنون "، وهذه خصائص أربع:
فالأولى أنهم لم يسكنوا الأصلاب، والبشر سكنوا الأصلاب، ولا شبهة أن ما ارتفع
عن مخالطة الصورة اللحمية والدموية أشرف مما خالطها ومازجها.
والثانية أنهم لم يضمنوا الأرحام، ولا شبهة أن من لم يخرج من ذلك الموضع المستقذر
أشرف ممن خرج منه، وكان أحمد بن سهل بن هاشم بن الوليد بن كامكاو بن يزد جرد
ابن شهريار، يفخر على أبناء الملوك بأنه لم يخرج من بضع امرأة، لان أمه ماتت وهي حامل
به، فشق بطنها عنه وأخرج، قال أبو الريحان البيروني في كتاب " الآثار الباقية عن القرون
الخالية " عن هذا الرجل: إنه كان يتيه على الناس، وإذا شتم أحدا، قال: ابن البضع،
قال أبو الريحان: وأول من اتفق له ذلك الملك المعروف بأغسطس ملك الروم، وهو أول
من سمى فيهم قيصر، لان تفسير " قيصر " بلغتهم، شق عنه، وأيامه تاريخ، كما أن أيام
الإسكندر تاريخ لعظمه وجلالته عندهم.
والثالثة أنهم لم يخلقوا من ماء مهين، وقد نص القرآن العزيز على أنه مهين، وكفى
ذلك في تحقيره وضعته، فهم لا محالة أشرف ممن خلق منه، لا سيما وقد ذهب كثير من العلماء
إلى نجاسته.
204

والرابعة أنهم لا يتشعبهم المنية، ولا ريب أن من لا تتطرق إليه الأسقام والأمراض
ولا يموت، أشرف ممن هو في كل ساعة ولحظة بعرض سقام، وبصدد موت وحمام.
* * *
واعلم أن مسأله تفضيل الملائكة على الأنبياء لها صورتان: إحداهما أن " أفضل "
بمعنى كونهم أكثر ثوابا، والأخرى كونهم أفضل بمعنى أشرف، كما تقول: إن الفلك
أفضل من الأرض، أي أن الجوهر الذي منه جسمية الفلك أشرف من الجوهر الذي منه
جسمية الأرض.
وهذه المزايا الأربع، دالة على تفضيل الملائكة بهذا الاعتبار الثاني.
قوله عليه السلام: " يتشعبهم ريب المنون "، أي يتقسمهم، والشعب: التفريق، ومنه
قيل للمنية: شعوب، لأنها تفرق الجماعات، وريب المنون: حوادث الدهر، وأصل الريب
ما راب الانسان، أي جاءه بما يكره، والمنون الدهر نفسه، والمنون أيضا المنية، لأنها تمن
المدة أي تقطعها، والمن: القطع، ومنه قوله تعالى: " لهم أجر غير ممنون " (1).
وقال لبيد:
* غبس كواسب لا يمن طعامها (2) *
ثم ذكر أنهم كثرة عبادتهم وإخلاصهم لو عاينوا كنه ما خفى عليهم من الباري
تعالى لحقروا أعمالهم. وزروا على أنفسهم، أي عابوها: تقول زريت على فلان، أي عبته،
وأزريت بفلان أي قصرت به.

(1) سورة فصلت 8.
(2) صدره:
* لمعفر قهد تنازع شلوه *
المعفر: الذي سحب في العفر، وهو التراب. والقهد: الأبيض. والغبس: الذئاب، والعيسة لون
فيه شبيه بالغيرة، وكواسب: تكسب الصيد. وقوله: " ما يمن طعامها "، أي ما ينقص. (المعلقات
بشرح التبريزي 145).
205

فإن قلت: ما هذا الكنه الذي خفى عن الملائكة، حتى قال: " لو عاينوه لحقروا
عبادتهم، ولعلموا أنهم قد قصروا فيها "؟
قلت: إن علوم الملائكة بالباري تعالى نظرية كعلوم البشر، والعلوم النظرية دون
العلوم الضرورية في الجلاء والوضوح، فأمير المؤمنين عليه السلام يقول: لو كانت علومهم
بك وبصفاتك الاثباتية والسلبية والإضافية ضرورية، عوض علومهم هذه المتحققة الآن،
التي هي نظرية، ولا نكشف لهم ما ليس الآن على حد ذلك الكشف والوضوح. ولا شبهة
أن العبادة والخدمة على قدر المعرفة بالمعبود، فكلما كان العابد به أعرف، كانت عبادته
له أعظم، ولا شبهة أن العظيم عند الأعظم حقير.
فإن قلت: فما معنى قوله: " واستجماع أهوائهم فيك "، وهل للملائكة هوى؟
وهل تستعمل الأهواء إلا في الباطل؟
قلت: الهوى: الحب وميل النفس، وقد يكون في باطل وحق، وإنما يحمل على
أحدهما بالقرينة، والأهواء تستعمل فيهما، ومعنى استجماع أهوائهم فيه أن دواعيهم إلى
طاعته وخدمته لا تنازعها الصوارف، وكانت مجتمعة مائلة إلى شق واحد.
فإن قلت: الباء في قوله: " بحسن بلائك " بماذا تتعلق؟
قلت: الباء هاهنا للتعليل بمعنى اللام، كقوله تعالى: (ذلك بأنهم كانت تأتيهم
رسلهم) (1)، أي لأنهم، فتكون متعلقة بما في " سبحانك " من معنى الفعل، أي أسبحك
لحسن بلائك. ويجوز أن تتعلق بمعبود، أي يعبد لذلك.
ثم قال: " خلقت دارا " يعنى الجنة. والمأدبة والمأدبة، بفتح الدال وضمها: الطعام الذي
يدعى الانسان إليه، أدب زيد القوم، يأدبهم بالكسر، أي دعاهم إلى طعامه، والآدب:
" الداعي إلى طعامه، قال طرفة:

(1) سورة غافر 22.
206

نحن في المشتاة ندعو الجفلى * لا ترى الآدب فينا ينتقر (1)
وفي هذا الكلام دلالة على أن الجنة الآن مخلوقة، وهو مذهب أكثر أصحابنا.
ومعنى قوله: " وزروعا " أي وغروسا من الشجر، يقال: زرعت الشجر، كما يقال:
زرعت البر والشعير، ويجوز أن يقال: الزروع: جمع زرع وهو الانبات، يقال: زرعه الله
أي أنبته، ومنه قوله تعالى: (أفرأيتم ما تحرثون. أأنتم تزرعونه أم نحن
الزارعون) (2). ولو قال قائل: إن في الجنة زروعا من البر والقطنية (3) لم يبعد.
قوله: ثم أرسلت داعيا يعنى الأنبياء، وأقبلوا على جيفة، يعنى الدنيا، ومن كلام الحسن
رضي الله عنه: إنما يتهارشون على جيفة.
وإلى قوله: " ومن عشق شيئا أعشى بصره " نظر الشاعر فقال:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة * كما أن عين السخط تبدى المساويا (4)
وقيل لحكيم: ما بال الناس لا يرون عيب أنفسهم، كما يرون عيب غيرهم؟ قال: إن
الانسان عاشق لنفسه، والعاشق لا يرى عيوب المعشوق.
قد خرقت الشهوات عقله، أي أفسدته كما تخرق الثوب فيفسد.
وإلى قوله: " فهو عبد لها ولمن في يديه شئ منها " نظر ابن دريد، فقال:
عبيد ذي المال وإن لم يطمعوا * من ماله في نغبة تشفى الصدا
وهم لمن أملق أعداء وإن * شاركهم فيما أفاد وحوى

(1) ديوانه 68. المشتاة: يريد الشتاء. والبرد، والجفلى: أن يعم بدعوته إلى طعام ولا يخص أحدا
والإنتقار، أن يدعو النقرى، وهي أن يخصهم ولا يعمهم.
(2) سورة الواقعة 63، 64
(3) القطنية: ما سوى الحنطة والشعير والزبيب والتمر. القاموس.
(4) لعبد الله بن معاوية، زهر الآداب 85
207

وإلى قوله: " حيثما زالت زال إليها، وحيثما أقبلت أقبل عليها " نظر الشاعر، فقال:
ما الناس إلا مع الدنيا وصاحبها * فكيفما انقلبت يوما به انقلبوا
يعظمون أخا الدنيا فإن وثبت * يوما عليه بما لا يشتهى وثبوا
والغرة: الاغترار والغفلة، والغار: الغافل، وفد اغتررت بالرجل، واغتره زيد، أي
أتاه على غرة منه، ويجوز أن يعنى بقوله: " المأخوذين على الغرة " الحداثة والشبيبة، يقول:
كان ذلك في غرارتي وغرتي، أي في حداثتي وصباي.
قوله: " سكرة الموت وحسرة الفوت "، أي الحسرة على ما فاتهم من الدنيا ولذتها،
والحسرة على ما فاتهم من التوبة والندم واستدراك فارط المعاصي.
والولوج: الدخول، ولج يلج.
قوله: " وبقاء من لبه " أي لبه باق لم يعدم، ويروى " ونقاء " بالنون، والنقاء:
النظافة، أي لبه غير مغمور.
أغمض في مطالبها، أي تساهل في دينه في اكتسابه إياها، أي كان يفنى نفسه
بتأويلات ضعيفة في استحلال تلك المطالب والمكاسب، فذاك هو الاغماض، قال تعالى:
(ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه) (1) ويمكن أن يحمل على وجه آخر، وهو
أنه قد كان يحتال بحيل غامضة دقيقة في تلك المطالب حتى حصلها واكتسبها.
قوله عليه السلام: " وأخذها من مصرحاتها ومشتبهاتها "، أي من وجوه مباحة
وذوات شبهة، وهذا يؤكد المحمل الأول في " أغمض ".
والتبعات: الآثام، الواحدة تبعة ومثلها التباعة، قال:

(1) سورة البقرة 267
208

لم يحذروا من ربهم * سوء العواقب والتباعه (1)
والمهنأ: المصدر من هنئ الطعام وهنؤ بالكسر والضم، مثل فقه وفقه، فإن
كسرت قلت: " يهنأ "، وإن ضممت قلت: " يهنؤ "، والمصدر " هناءة " و " مهنأ "، أي
صار هنيئا، وهنأني الطعام " يهنؤني " ويهنئني، ولا نظير له في المهموز، هنأ وهناء،
وهنئت الطعام، أي تهنأت به، ومنه قوله تعالى: (فكلوه هنيئا مريئا).
والعبء: الحمل، والجمع أعباء.
وغلق الرهن، أي استحقه المرتهن، وذلك إذا لم يفتكك في الوقت المشروط،
قال زهير:
وفارقتك برهن لا فكاك له * يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا (1).
فإن قلت فما معنى قوله عليه السلام: " قد غلقت رهونه بها " في هذا الموضع؟
قلت: لما كان قد شارف الرحيل وأشفى على الفراق، وصارت تلك الأموال التي جمعها
مستحقة لغيرة، ولم يبق له فيها تصرف، أشبهت الرهن الذي غلق على صاحبه، فخرج عن
كونه مستحقا له، وصار مستحقا لغيره، وهو المرتهن.
أصحر: انكشف، وأصله الخروج إلى الصحراء والبروز من المكمن.
رجع كلامهم: ما يتراجعونه بينهم (3) من الكلام. ازداد الموت التياطا به، أي التصاقا.
قد أوحشوا، أي جعلوا مستوحشين، والمستوحش: المهموم الفزع، ويروى " أوحشوا من
جانبه "، أي خلوا منه وأقفروا، تقول: قد أوحش المنزل من أهله، أي أقفر.
وخلا إلى مخط في الأرض، أي إلى خط، سماه مخطا أو خطا لدقته، يعنى اللحد،

(1) اللسان 9: 275، وقبله:
أكلت حنيفة ربها * زمن التقحم والمجاعة
(2) ديوانه 33
(3) ساقطة من ب.
209

ويروى: " إلى محط " بالحاء المهملة، وهو المنزل، وحط القوم، أي نزلوا.
وألحق آخر الخلق بأوله، أي تساوى الكل في شمول الموت والفناء لهم، فالتحق
الآخر بالأول.
أماد السماء: حركها، ويروى: " أمار "، والموران، الحركة: وفطرها: شقها. وأرج
الأرض: زلزلها، تقول رجت الأرض، وأرجها الله، ويجوز " رجها "، وقد روى " رج
الأرض " بغير همزة، وهو الأصح، وعليه ورد القرآن: (كلا إذا رجت الأرض
رجا) (1).
أرجفها: جعلها راجفة، أي مرتعدة متزلزلة، رجفت الأرض، ترجف، والرجفان:
الاضطراب الشديد، وسمى البحر رجافا لاضطرابه، قال الشاعر:
* حتى تغيب الشمس في الرجاف (2) *
ونسفها: قلعها من أصولها. ودك بعضها بعضا: صدمه ودقه حتى يكسره ويسويه
بالأرض، ومنه قوله سبحانه: (وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة) (3).
ميزهم، أي فصل بينهم، فجعلهم فريقين: سعداء وأشقياء، ومنه قوله تعالى:
(وامتازوا اليوم أيها المجرمون) (4) أي انفصلوا من أهل الطاعة.
يظعن: يرحل. تنوبهم الأفزاع: تعاودهم، وتعرض لهم الاخطار: جمع خطر، وهو
ما يشرف به على الهلكة.

(1) سورة الواقعة 4
(2) لمطرود بن كعب الخزاعي، من أبيات يرثي فيها عبد المطلب، أوردها صاحب اللسان 11: 12
وابن هشام 1: 117 (على هامش الروض الأنف)، وصدره:
* المطعمون اللحم كل عشية *
(3) سورة الحاقة 14
(4) سورة يس 59
210

وتشخصهم الاسفار: تخرجهم من منزل إلى منزل، شخص الرجل وأشخصه غيره.
وغل الأيدي: جعلها في الأغلال، جمع غل بالضم، وهو القيد. والقطران: الهناء،
قطرت البعير أي طليته بالقطران، قال:
* كما قطر المهنوءة الرجل الطالي (1) *
وبعير مقطور، وهذا من الألفاظ القرآنية، قال الله تعالى: (سرابيلهم من قطران
وتغشى وجوههم النار) (2)، والمعنى أن النار إلى القطران سريعة جدا.
ومقطعات النيران، أي ثياب من النيران، قد قطعت وفصلت لهم، وقيل: المقطعات:
قصار الثياب. والكلب: الشدة. والجلب واللجب: الصوت. والقصيف:
الصوت الشديد.
لا يقصم كبولها: لا يكسر قيودها، الواحد كبل.
ثم ذكر أن عذابهم سرمدي، وأنه لا نهاية له، نعوذ بالله من عذاب ساعة واحدة،
فكيف من العذاب الأبدي!
[موازنة بين كلام الامام على وخطب ابن نباته]
ونحن نذكر في هذا الموضع فصولا من خطب الخطيب الفاضل عبد الرحيم بن نباتة
رحمه الله، وهو الفائز بقصبات السبق من الخطباء، وللناس غرام عظيم بخطبه وكلامه،
ليتأمل الناظر كلام أمير المؤمنين عليه السلام في خطبه ومواعظه، وكلام هذا الخطيب المتأخر

(1) لامرئ القيس، ديوانه 33، وصدره:
* أيقتلني وقد شغفت فؤادها *
(2) سورة إبراهيم 50
211

الذي قد وقع الاجماع على خطابته وحسنها، وأن مواعظه هي الغاية التي ليس بعدها غاية.
فمن ذلك قوله:
" أيها الناس، تجهزوا فقد ضرب فيكم بوق الرحيل، وابرزوا فقد قربت لكم نوق
التحويل، ودعوا التمسك بخدع الأباطيل، والركون إلى التسويف والتعليل، فقد سمعتم
ما كرر الله عليكم من قصص أبناء القرى، وما وعظكم به من مصارع من سلف من
الورى، مما لا يعترض لذوي البصائر فيه شك ولا مرا، وأنتم معرضون عنه إعراضكم عما
يختلق ويفترى، حتى كأن ما تعلمون منه أضغاث أحلام الكرى، وأيدي المنايا قد فصمت
من أعماركم أوثق العرى، وهجمت بكم على هول مطلع كريه القرى، فالقهقري رحمكم الله
عن حبائل العطب القهقرى! واقطعوا مفاوز الهلكات بمواصلة السرى، وقفوا على
أجداث المنزلين من شناخيب الذرا، المنجلين بوازع أم حبو كرى، المشغولين بما
عليهم من الموت جرى، واكشفوا عن الوجوه المنعمة أطباق الثرى، تجدوا ما بقي منها عبرة
لمن يرى. فرحم الله امرأ رحم نفسه فبكاها، وجعل منها إليها مشتكاها! قبل أن تعلق به
خطاطيف المنون، وتصدق فيه أراجيف الظنون، وتشرق عليه بمائها مقل العيون، ويلحق
بمن دثر من القرون، قبل أن يبدوا على المناكب محمولا، ويغدو إلى محل المصائب منقولا،
ويكون عن الواجب مسؤولا، وبالقدوم على الطالب الغالب مشغولا. هناك يرفع الحجاب،
ويوضع الكتاب، وتقطع الأسباب، وتذهب الأحساب، ويمنع الأعتاب، ويجمع من حق
عليه العقاب، ومن وجب له الثواب، فيضرب بينهم بسور له باب، باطنه فيه الرحمة
وظاهره من قبله العذاب ".
فلينظر المنصف هذا الكلام وما عليه من أثر التوليد أولا بالنسبة إلى ذلك الكلام
العربي المحض، ثم لينظر فيما عليه من الكسل والرخاوة، والفتور والبلادة، حتى كأن ذلك
212

الكلام لعامر بن الطفيل (1) مستلئما شكته (2)، راكبا جواده، وهذا الكلام الدلال
المديني (3) المخنث، آخذا زمارته، متأبطا دفة.
والمح ما في " بوق الرحيل " من السفسفة واللفظ العامي الغث.
واعلم أنهم كلهم عابوا على أبى الطيب قوله:
فإن كان بعض الناس سيفا لدولة ففي الناس بوقات لها وطبول (4)
وقالوا: لا تدخل لفظة " بوق " في كلام يفلح أبدا.
والمح ما على قوله: " القهقرى القهقرى " متكررة من الهجنة، وأهجن منها
" أم حبو كرى " (5). وأين هذا اللفظ الحوشي الذي تفوح منه روائح الشيح والقيصوم، وكأنه من
أعرابي قح قد قدم من نجد لا يفهم محاورة أهل الحضر، ولا أهل الحضر يفهمون حواره،
من هذه الخطبة اللينة الألفاظ التي تكاد أن تتثنى من لينها، وتتساقط من ضعفها!
ثم المح هذه الفقر والسجعات، التي أولها " القرى " ثم " المرا " ثم " يفترى " ثم
" الكرى " إلى قوله: " عبرة لمن يرى "، هل ترى تحت هذا الكلام معنى لطيفا،
أو مقصدا رشيقا! أو هل تجد اللفظ نفسه لفظا جزلا فصيحا، أو عذبا معسولا! وإنما هي
ألفاظ قد ضم بعضها إلى بعض، والطائل تحتها قليل جدا. وتأمل لفظة " مرا " فإنها ممدودة في
اللغة، فإن كان قصرها فقد ركب ضرورة مستهجنة، وإن أراد جمع " مرية " فقد خرج

(1) عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب العامري، ابن عم لبيد، أحد فرسان العرب
وفتاكهم. وانظر أخباره في خزانة الأدب 1: 473.
(2) الشكة بالكسر: السلاح.
(3) الدلال المديني، واسمه ناقد، وكنيته أبو زيد، كان من أهل المدينة، وأحد ظرفاء ثلاثة كانوا بها:
طويس، والدلال، وهنب، كان هنب أقدمهم، والدلال أصغرهم، وانظر أخباره في الأغاني 4:
269 - 301
(4) ديوانه 3: 108
(5) أم حبو كرى: من أسماء الداهية عندهم.
213

عن الصناعة، لأنه يكون قد عطف الجمع المفرد، فيصير مثل قول القائل: " ما أخذت
منه دينارا ولا دراهم "، في أنه ليس بالمستحسن في فن البيان.
ومن ذلك قوله:
" أيها الناس، حصحص الحق، فما من الحق مناص، وأشخص الخلق فما لأحد من
الخلق خلاص، وأنتم على ما يباعدكم من الله حراص، ولكم على موارد الهلكة اغتصاص،
وفيكم عن مقاصد البركة انتكاص، كأن ليس أمامكم جزاء ولا قصاص، ولجوارح الموت
في وحش نفوسكم اقتناص، ليس بها عليها تأب ولا اعتياص ".
فليتأمل أهل المعرفة بعلم الفصاحة والبيان هذا الكلام بعين الانصاف، يعلموا أن
سطرا واحدا من كلام " نهج البلاغة " يساوى ألف سطر منه، بل يزيد ويربى على ذلك،
فإن هذا الكلام ملزق عليه آثار كلفة وهجنة ظاهرة، يعرفها العامي فضلا عن العالم.
ومن هذه الخطبة:
" فاهجروا رحمكم الله وثير المراقد، وادخروا طيب المكتسب، تخلصوا من انتقاد الناقد،
واغتنموا فسحة المهل قبل انسداد المقاصد، واقتحموا سبل الآخرة على قلة المرافق والمساعد ".
فهل يجد متصفح الكلام لهذا الفصل عذوبة، أو معنى يمدح الكلام لأجله؟
وهل هو إلا ألفاظ مضموم بعضها إلى بعض، ليس لها حاصل، كما قيل في شعر ذي الرمة:
" بعر ظباء ونقط عروس " (1)!
ومن ذلك قوله:
" فيا له من واقع في كرب الحشارج، مصارع لسكرات الموت معالج! حتى درج على
تلك المدارج، وقدم بصحيفته على ذي المعارج ".

(1) من كلام جرير في وصف شعر ذي الرمة، وانظر الموشح للمرزباني 171.
214

وغير خاف ما في هذا الكلام من التكلف.
ومن ذلك قوله:
" فكأنكم بمنادي الرحيل قد نادى في أهل الإقامة، فاقتحموا بالصغار محجة القيامة،
يتلو الأوائل منهم الأواخر، ويتبع الأكابر منهم الأصاغر، ويلتحق الغوامر من ديارهم
بالغوامر، حتى تبتلع جميعهم الحفر والمقابر ".
فإن هذا الكلام ركيك جدا، لو قاله خطيب من خطباء قرى السواد لم يستحسن
منه، بل ترك واسترذل.
ولعل عائبا يعيب علينا فيقول: شرعتم في المقايسة والموازنة بين كلام أمير المؤمنين
عليه السلام، وبين كلام ابن نباتة، وهل هذا إلا بمنزلة قول من يقول: السيف أمضى من
العصا، وفي هذه غضاضة على السيف!
فنقول: إنه قد اشتملت كتب المتكلمين على المقايسة بين كلام الله تعالى وبين كلام
البشر، ليبينوا فضل القرآن وزيادة فصاحته على فصاحة كلام العرب، نحو مقايستهم بين
قوله تعالى: (ولكم في القصاص حياة) (1) وبين قول القائل: " القتل أنفى للقتل "
ونحو مقايستهم بين قوله تعالى: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) (2)
وبين قول الشاعر:
فإن عرضوا بالشر فاصفح تكرما * وإن كتموا عنك الحديث فلا تسل
* * *
ونحو إيرادهم كلام مسيلمة، وأحمد بن سليمان المعرى، وعبد الله بن المقفع، فصلا
فصلا، والموازنة والمقايسة بين ذلك وبين القرآن المجيد، وإيضاح أنه لا يبلغ ذلك إلى درجة

(1) سورة البقرة 179
(2) سورة الأعراف 199.
215

القرآن العزيز، ولا يقاربها، فليس بمستنكر منا أن نذكر كلام ابن نباتة في
معرض إيرادنا كلام أمير المؤمنين عليه السلام لتظهر فضيلة كلامه عليه السلام، بالنسبة إلى
هذا الخطيب الفاضل، الذي قد اتفق الناس على أنه أوحد عصره في فنه.
واعلم أنا لا ننكر فضل ابن نباتة وحسن أكثر خطبه، ولكن قوما من أهل
العصبية والعناد، يزعمون أن كلامه يساوى كلام أمير المؤمنين عليه السلام ويماثله، وقد
ناظر بعضهم في ذلك، فأحببت أن أبين للناس في هذا الكتاب أنه لا نسبة لكلامه إلى
كلام أمير المؤمنين عليه السلام، وأنه بمنزلة شعر الأبله وابن المعلم بالإضافة إلى
زهير والنابغة.
* * *
واعلم أن معرفة الفصيح والأفصح، والرشيق والأرشق، والحلو والأحلى، والعالي
والأعلى من الكلام أمر لا يدرك إلا بالذوق، ولا يمكن إقامة الدلالة المنطقية عليه، وهو
بمنزلة جاريتين: أحداهما بيضاء مشربة حمرة دقيقة الشفتين، نقية الثغر، كحلاء العينين،
أسيلة الخد، دقيقة الانف، معتدلة القامة، والأخرى دونها في هذه الصفات والمحاسن،
لكنها أحلى في العيون والقلوب منها، وأليق وأصلح، ولا يدرى لأي سبب كان ذلك،
ولكنه بالذوق والمشاهدة يعرف، ولا يمكن تعليله، وهكذا الكلام، نعم يبقى الفرق بين
الموضعين. إن حسن الوجوه وملاحتها وتفضيل بعضها على بعض يدركه كل من له عين
صحيحة، وأما الكلام فلا يعرفه إلا أهل الذوق، وليس كل من اشتغل بالنحو واللغة
أو بالفقه كان من أهل الذوق، وممن يصلح لانتقاد الكلام، وإنما أهل الذوق هم الذين
اشتغلوا بعلم البيان، وراضوا أنفسهم بالرسائل والخطب والكتابة والشعر، وصارت لهم
216

بذلك دربة وملكة تامة، فإلى أولئك ينبغي أن ترجع في معرفة الكلام وفضل بعضه
على بعض، إن كنت عادما لذلك من نفسك.
* * *
الأصل:
منها في ذكر النبي صلى الله عليه وآله:
قد حقر الدنيا وصغرها، وأهون بها وهونها، وعلم أن الله زواها عنه اختيارا،
وبسطها لغيره احتقارا، فأعرض عن الدنيا بقلبه، وأمات ذكرها عن نفسه، وأحب
أن تغيب زينتها عن عينه، لكيلا يتخذ منها رياشا، أو يرجو فيها مقاما. بلغ عن
ربه معذرا، ونصح لامته منذرا، ودعا إلى الجنة مبشرا، وخوف من النار محذرا.
* * *
الشرح:
فعل، مشدد، للتكثير، " قتلت " أكثر من " قتلت "، فيقتضى قوله عليه
السلام: " قد حقر الدنيا " زيادة تحقير النبي صلى الله عليه وآله لها، وذلك أبلغ في الثناء
عليه وتقريظه.
قوله " وصغرها " أي وصغرها عند غيره، ليكون قوله: " وأهون بها وهونها "
مطابقا له، أي أهون هو بها وهونها عند غيره.
وزواها: قبضها، قال عليه الصلاة والسلام: " زويت لي الأرض فرأيت مشارقها
ومغاربها ".
وقوله: " اختيارا " أي قبض الدنيا عنه باختيار ورضا من النبي صلى الله عليه وآله بذلك،
وعلم بما فيه من رفعة قدره، ومنزلته في الآخرة.
217

" والرياش والريش " بمعنى، وهو اللباس الفاخر كالحرم والحرام واللبس واللباس،
وقرئ " ريشا ورياشا " (ولباس التقوى ذلك خير) (1) ويقال: الريش والرياش: المال
والخصب والمعاش، وارتاش فلان: حسنت حاله. ومعذرا: أي مبالغا، أعذر فلان في
الامر، أي بالغ فيه.
* * *
الأصل:
نحن شجرة النبوة، ومحط الرسالة، ومختلف الملائكة، ومعادن العلم، وينابيع
الحكم، ناصرنا ومحبنا ينتظر الرحمة، وعدونا ومبغضنا ينتظر السطوة.
* * *
الشرح:
هذا الكلام غير ملتصق بالأول كل الالتصاق، وهو من النمط الذي ذكرناه مرارا،
لان الرضى رحمه الله يقتضب فصولا من خطبة طويلة، فيوردها إيرادا واحدا، وبعضها
منقطع عن البعض.
قوله عليه الصلاة والسلام: " نحن شجرة النبوة "، كأنه جعل النبوة كثمرة أخرجتها
شجرة بني هاشم. ومحط الرسالة: منزلها. ومختلف الملائكة: موضع اختلافها في صعودها
ونزولها، وإلى هذا المعنى نظر بعض الطالبيين، فقال: يفتخر على بنى عم له ليسوا
بفاطميين:
هل كان يقتعد البراق أبوكم * أم كان جبريل عليه ينزل
أم هل يقول له الاله مشافها * بالوحي قم يا أيها المزمل

(1) سورة الأعراف 26
218

وقال آخر يمدح قوما فاطميين:
ويطرقه بالوحي وهنا وأنتم * ضجيعان بين يدي جبريلا
يعنى حسنا عليه السلام وحسينا عليه السلام.
واعلم أنه إن أراد بقوله: " نحن مختلف الملائكة " جماعة من جملتها رسول الله صلى الله
عليه وآله، فلا ريب في صحة القضية وصدقها، وإن أراد بها نفسه وابنيه فهي أيضا صحيحة،
ولكن مدلوله مستنبط، فقد جاء في الأخبار الصحيحة، أنه قال: " يا جبريل، إنه منى
وأنا منه "، فقال جبريل: وأنا منكما. وروى أبو أيوب الأنصاري مرفوعا: " لقد صلت
الملائكة على وعلى على سبع سنين لم تصل على ثالث لنا "، وذلك قبل أن يظهر أمر
الاسلام ويتسامع الناس به.
وفي خطبة الحسن بن علي عليه السلام لما قبض أبوه: " لقد فارقكم في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون ولا يدركه الآخرون، كان يبعثه رسول الله صلى الله عليه وآله للحرب
وجبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره ".
وجاء في الحديث انه سمع يوم أحد صوت من الهواء من جهة السماء، يقول:
" لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا على "، وإن رسول الله الله عليه وآله قال: " هذا
صوت جبريل ".
فأما قوله: " ومعادن العلم، وينابيع الحكم " يعنى الحكمة أو الحكم الشرعي، فإنه
وإن عنى بها نفسه وذريته، فإن الامر فيها ظاهر جدا، قال رسول الله صلى الله عليه وآله:
" أنا مدينة العلم وعلى بابها، فمن أراد المدينة فليأت الباب "، وقال: " أقضاكم على "
والقضاء أمر يستلزم علوما كثيرة.
وجاء في الخبر أنه بعثه إلى اليمن قاضيا، فقال: يا رسول الله، إنهم كهول وذوو أسنان
219

وأنا فتى، وربما لم أصب فيما أحكم به بينهم، فقال له: " اذهب فإن الله سيثبت قلبك
ويهدى لسانك ".
وجاء في تفسير قوله تعالى: (وتعيها أذن واعية) (1): سألت الله أن يجعلها أذنك
ففعل. وجاء في تفسير قوله تعالى: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله) (2)
أنها أنزلت في علي عليه السلام، وما خص به من العلم. وجاء في تفسير قوله تعالى: (أفمن
كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه) (3): أن الشاهد علي عليه السلام.
وروى المحدثون أنه قال لفاطمة: " زوجتك أقدمهم سلما، وأعظمهم حلما، وأعلمهم
علما ". وروى المحدثون أيضا عنه عليه السلام أنه قال: " من أراد أن ينظر إلى نوح في
عزمه، وموسى في علمه، وعيسى في ورعه، فلينظر إلى علي بن أبي طالب ".
وبالجملة فحاله في العلم حال رفيعة جدا لم يلحقه أحد فيها ولا قاربه، وحق له أن يصف
نفسه بأنه معادن العلم وينابيع الحكم، فلا أحد أحق بها منه بعد رسول الله صلى الله
عليه وآله.
فإن قلت: كيف قال: " عدونا ومبغضنا ينتظر السطوة "، ونحن نشاهد أعداءه
ومبغضيه، لا ينتظرونها!
قلت: لما كانت منتظرة لهم ومعلوما بيقين حلولها بهم، صاروا كالمنتظرين لها. وأيضا
فإنهم ينتظرون الموت لا محالة الذي كل إنسان ينتظره، ولما كان الموت مقدمة العقاب
وطريقا إليه جعل انتظاره انتظار ما يكون بعده.

(1) سورة الحاقة 12
(2) سورة النساء 54
(3) سورة هود 17
220

(109) الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام:
إن أفضل ما توسل به المتوسلون إلى الله سبحانه وتعالى، الايمان به وبرسوله،
والجهاد في سبيله، فإنه ذروة الاسلام، وكلمة الاخلاص فإنها الفطرة وإقام
الصلاة فإنها الملة، وإيتاء الزكاة فإنها فريضة واجبة، وصوم شهر رمضان فإنه
جنة من العقاب، وحج البيت واعتماره، فإنهما ينفيان الفقر ويرحضان الذنب،
وصلة الرحم، فإنها مثراة في المال ومنسأة في الاجل، وصدقة السر، فإنها تكفر
الخطيئة، وصدقة العلانية فإنها تدفع ميتة السوء، وصنائع المعروف فإنها تقى
مصارع الهوان.
أفيضوا في ذكر الله فإنه أحسن الذكر، وارغبوا فيما وعد المتقين فإن وعده
أصدق الوعد، واقتدوا بهدى نبيكم فإنه أفضل الهدى، واستنوا بسنته فإنها
أهدى السنن، وتعلموا القرآن فإنه أحسن الحديث، وتفقهوا فيه فإنه ربيع
القلوب، واستشفوا بنوره فإنه شفاء الصدور، وأحسنوا تلاوته فإنه أنفع القصص.
وإن العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله، بل الحجة
عليه أعظم، والحسرة له ألزم، وهو عند الله ألوم.
* * *
الشرح:
ذكر عليه السلام ثمانية أشياء، كل منها واجب.
221

أولها الايمان بالله وبرسوله، ويعنى بالايمان هاهنا مجرد التصديق بالقلب، مع قطع
النظر عما عدا ذلك من التلفظ بالشهادة، ومن الأعمال الواجبة، وترك القبائح. وقد ذهب
إلى أن ماهية الايمان هو مجرد التصديق القلبي جماعة من المتكلمين، وهو وإن لم يكن
مذهب أصحابنا، فإن لهم أن يقولوا: إن أمير المؤمنين عليه السلام جاء بهذا اللفظ على أصل
الوضع اللغوي، لان الايمان في أصل اللغة هو التصديق، قال سبحانه وتعالى: (وما أنت
بمؤمن لنا ولو كنا صادقين) (1) أي لست بمصدق لنا لا إن كنا صادقين، ولا إن كنا
كاذبين. ومجيئه عليه السلام به على أصل الوضع اللغوي لا يبطل مذهبنا في مسمى الايمان،
لأنا نذهب إلى أن الشرع استجد لهذه اللفظة مسمى ثانيا، كما نذهب إليه في الصلاة والزكاة
وغيرهما، فلا منافاة إذا بين مذهبنا وبين ما أطلقه عليه السلام.
وثانيها الجهاد في سبيل الله، وإنما قدمه على التلفظ بكلمتي الشهادة، لأنه من باب
دفع الضرر عن النفس، ودفع الضرر عن النفس مقدم على سائر الأعمال المتعلقة بالجوارح،
والتلفظ بكلمتي الشهادة من أعمال الجوارح، وإنما أخره عن الايمان، لان الايمان من
أفعال القلوب، فهو خارج عما يتقدم عليه، ودفع الضرر من الافعال المختصة بالجوارح،
وأيضا فإن الايمان أصل الجهاد، لأنه ما لم يعلم الانسان على ماذا يجاهد، لا يجاهد، وإنما جعله
ذروة الاسلام، أي أعلاه، لأنه ما لم تتحصن دار الاسلام بالجهاد لا يتمكن المسلمون من القيام
بوظائف الاسلام، فكان إذا من الاسلام بمنزلة الرأس من البدن.
وثالثها كلمة الاخلاص، يعنى شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله،
قال: فإنها الفطرة، يعنى هي التي فطر الناس عليها، والأصل الكلمة الأولى، لأنها
التوحيد، وعليها فطر البشر كلهم، والكلمة الثانية تبع لها فأجريت مجراها، وإنما أخرت

(1) سورة يوسف 217
222

هذه الخصلة عن الجهاد، لان الجهاد كان هو السبب في إظهار الناس لها ونطقهم بها، فصار
كالأصل بالنسبة إليها.
ورابعها إقام الصلاة أي إدامتها، والأصل " أقام إقواما "، فحذفوا عين الفعل،
وتارة يعوضون عن العين المفتوحة هاء، فيقولون: " إقامة ". قال: فإنها الملة، وهذا مثل
قول النبي صلى الله عليه وآله: " الصلاة عماد الدين، فمن تركها فقد هدم الدين ".
وخامسها إيتاء الزكاة، وإنما أخرها عن الصلاة لان الصلاة آكد افتراضا منها،
وإنما قال في الزكاة " فإنها فريضة واجبة "، لان الفريضة لفظ يطلق على الجزء المعين المقدر في
السائمة، باعتبار غير الاعتبار الذي يطلق به على صلاة الظهر لفظ الفريضة، والاعتبار الأول
من القطع، والثاني من الوجوب، وقال: فإنها فريضة واجبة، مثل أن يقول: فإنها شئ
مقتطع من المال موصوف بالوجوب.
وسادسها صوم شهر رمضان، وهو أضعف وجوبا من الزكاة، وجعله جنة من
العقاب، أي سترة.
وسابعها الحج والعمرة، وهما دون فريضة الصوم، وقال: إنهما ينفيان الفقر،
ويرحضان الذنب، أي يغسلانه، رحضت الثوب، وثوب رحيض، وهذا الكلام يدل
على وجوب العمرة، وقد ذهب إليه كثير من الفقهاء العلماء.
وثامنها صلة الرحم وهي واجبة، وقطيعة الرحم محرمة، قال: فإنها مثراة في المال، أي
تثريه وتكثره.
ومنسأة في الاجل، أي تنسؤه وتؤخره، ويقال: نسأ الله في أجلك. ويجوز
إنساء بالهمزة.
فإن قلت: فما الحجة على تقديم وجوب الصلاة، ثم الزكاة، ثم الصوم، ثم الحج؟
223

قلت: أما الصلاة فلان تاركها يقتل، وإن لم يجحد وجوبها، وغيرها ليس
كذلك، وإنما قدمت الزكاة على الصوم، لان الله تعالى قرنها بالصلاة في كثير من
الكتاب العزيز، ولم يذكر صوم شهر رمضان إلا في موضع واحد، وكثرة تأكيد
الشئ وذكره دليل على أنه أهم، وإنما قدم الصوم على الحج، لأنه يتكرر وجوبه،
والحج لا يجب في العمر إلا مرة واحدة، فدل على أنه أهم عند الشارع من الحج.
ثم قال عليه السلام: " وصدقه السر "، فخرج من الواجبات إلى النوافل. قال:
" فإنها تكفر الخطيئة "، والتكفير هو إسقاط عقاب مستحق بثواب أزيد منه
أو توبة، وأصله في اللغة الستر والتغطية، ومنه الكافر، لأنه يغطى الحق، وسمى البحر كافرا
لتغطيته ما تحته، وسمى الفلاح كافرا لأنه يغطى الحب في الأرض المحروثة.
ثم قال: " وصدقة العلانية "، فإنها تدفع ميتة السوء كالغرق والهدم وغيرها.
قال: " وصنائع المعروف، فإنها تقى مصارع الهوان "، كأسر الروم للمسلم، أو كأخذ الظلمة
لغير المستحق للاخذ.
ثم شرع في وصايا أخر عددها. والهدى: السيرة، وفي الحديث. " واهدوا هدى
عمار " يقال: هدى فلان هدى فلان، أي سار سيرته.
وسمى القرآن حديثا اتباعا لقول الله تعالى (نزل أحسن الحديث كتابا
متشابها) (1) واستدل أصحابنا بالآية على أنه محدث، لأنه لا فرق بين حديث ومحدث
في اللغة. فإن قالوا. إنما أراد أحسن الكلام، قلنا: لعمري إنه كذلك، ولكنه لا يطلق
على الكلام القديم لفظة حديث، لأنه إنما سمى الكلام والمحاورة والمخاطبة حديثا، لأنه أمر
يتجدد حالا فحالا، والقديم ليس كذلك.

(1) سورة الزمر 23
224

ثم قال: " تفقهوا فيه فإنه ربيع القلوب "، من هذا أخذ ابن عباس قوله: " إذا
قرأت ألم، حم، وقعت في روضات دمثات ".
ثم قال: " فإنه شفاء الصدور ". وهذا من الألفاظ القرآنية (1).
ثم سماه قصصا، اتباعا لما ورد في القرآن من قوله: (نحن نقص عليك أحسن
القصص) (2).
ثم ذكر أن العالم الذي لا يعمل بعلمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله.
ثم قال: " بل الحجة عليه أعظم "، لأنه يعلم الحق ولا يعمل، به فالحجة عليه أعظم من
الحجة على الجاهل، وإن كانا جميعا محجوجين، أما أحدهما فبعلمه، وأما الآخر فبتمكنه
من أن يعلم.
ثم قال: " والحسرة له ألزم "، لأنه عند الموت يتأسف ألا يكون عمل
بما علم، والجاهل لا يأسف ذلك الأسف.
ثم قال: " وهو عند الله ألوم "، أي أحق أن يلام، لان المتمكن عالم بالقوة، وهذا
عالم بالفعل، فاستحقاقه اللوم والعقاب أشد.

(1) وهو قوله تعالى في سورة الإسراء 82: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة
للمؤمنين).
(2) سورة يوسف 3
225

(110) ومن خطبة له عليه السلام:
الأصل:
أما بعد، فإني أحذركم الدنيا، فإنها حلوة خضرة، حفت بالشهوات، وتحببت
بالعاجلة، وراقت بالقليل، وتحلت بالآمال، وتزينت بالغرور. لا تدوم حبرتها
ولا تؤمن فجعتها، غرارة ضرارة، حائلة زائلة، نافدة بائدة، أكالة غوالة،
لا تعدو - إذا تناهت إلى أمنية أهل الرغبة فيها والرضا بها - أن تكون كما قال
الله تعالى: (كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه
الرياح وكان الله على كل شئ مقتدرا) (1).
لم يكن امرؤ منها في حبرة إلا أعقبته بعدها عبرة، ولم يلق من سرائها بطنا،
إلا منحته من ضرائها ظهرا، ولم تطله فيها ديمة رخاء، إلا هتنت عليه مزنة بلاء.
وحري إذا أصبحت له منتصرة، أن تمسي له متنكرة، وإن جانب منها
اعذوذب واحلولى، أمر منها جانب فأوبى!
لا ينال امرؤ من غضارتها رغبا، إلا أرهقته من نوائبها تعبا، ولا يمسي منها في
جناح أمن، إلا أصبح على قوادم خوف.
غرارة، غرور ما فيها فانية، فإن من عليها، لا خير في شئ من أزوادها
إلا التقوى

(1) سورة الكهف 45
226

من أقل منها استكثر مما يؤمنه، ومن استكثر منها استكثر مما يوبقه،
وزال عما قليل عنه.
كم من واثق بها قد فجعته، وذي طمأنينة قد صرعته، وذي أبهة قد جعلته
حقيرا، وذي نخوة قد ردته ذليلا!
سلطانها دول، وعيشها رنق، وعذبها أجاج، وحلوها صبر، وغذاؤها سمام،
و أسبابها رمام. حيها بعرض موت وصحيحها بعرض سقم. ملكها مسلوب،
وعزيزها مغلوب، وموفورها منكوب، وجارها محروب.
ألستم في مساكن من كان قبلكم أطول أعمارا، وأبقى آثارا، وأبعد آمالا،
وأعد عديدا، وأكثف جنودا! تعبدوا للدنيا أي تعبد، وآثروها أي إيثار، ثم
ظعنوا عنها بغير زاد مبلغ، ولا ظهر قاطع. فهل بلغكم أن الدنيا سخت لهم
نفسا بفدية، أو أعانتهم بمعونة، أو أحسنت لهم صحبة! بل أرهقتهم بالفوادح،
وأوهنتهم بالقوارع، وضعضعتهم بالنوائب، وعفرتهم للمناخر، ووطئتهم بالمناسم،
وأعانت عليهم ريب المنون. فقد رأيتم تنكرها لمن دان لها، وآثرها وأخلد
إليها، حين ظعنوا عنها لفراق الأبد.
وهل زودتهم إلا السغب، أو أحلتهم إلا الضنك، أو نورت لهم إلا الظلمة،
أو أعقبتهم إلا الندامة!
أفهذه تؤثرون، أم إليها تطمئنون، أم عليها تحرصون!
فبئست الدار لمن لم يتهمها، ولم يكن فيها على وجل منها!
فاعلموا - وأنتم تعلمون - بأنكم تاركوها، وظاعنون عنها. واتعظوا فيها بالذين
قالوا: (من أشد منا قوة) (1)، حملوا إلى قبورهم فلا يدعون ركبانا، وأنزلوا

(1) سورة فصلت 15
227

الأجداث فلا يدعون ضيفانا. وجعل لهم من الصفيح أجنان، ومن التراب
أكفان، ومن الرفات جيران. فهم جيرة لا يجيبون داعيا، ولا يمنعون ضيما،
ولا يبالون مندبة. إن جيدوا لم يفرحوا، وإن قحطوا لم يقنطوا، جميع وهم آحاد،
وجيرة وهم أبعاد، متدانون لا يتزاورون، وقريبون لا يتقاربون.
حلماء قد ذهبت أضغانهم، وجهلاء قد ماتت أحقادهم، لا يخشى فجعهم،
ولا يرجى دفعهم، استبدلوا بظهر الأرض بطنا، وبالسعة ضيقا، وبالأهل غربة،
وبالنور ظلمة، فجاءوها كما فارقوها، حفاة عراة، قد ظعنوا عنها بأعمالهم، إلى
الحياة الدائمة، والدار الباقية، كما قال سبحانه وتعالى: (كما بدأنا أول خلق نعيده
وعدا علينا إنا كنا فاعلين) (1).
* * *
الشرح:
خضرة، أي ناضرة، وهذه اللفظة من الألفاظ النبوية، قال النبي صلى الله عليه وآله:
" إن الدنيا حلوة، خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فناظر كيف تعملون! ".
وحفت بالشهوات، كأن الشهوات مستديرة حولها، كما يحف الهودج بالثياب،
وحفوا حوله يحفون حفا: أطافوا به، قال الله تعالى: (وترى الملائكة حافين من
حول العرش) (2).
قوله: " وتحببت بالعاجلة "، أي تحببت إلى الناس بكونها لذة عاجلة، والنفوس مغرمة
مولعة بحب العاجل، فحذف الجار والمجرور القائم مقام المفعول.
قوله: " وراقت بالقليل "، أي أعجبت أهلها، وإنما أعجبتهم بأمر قليل ليس بدائم.

(1) سورة الأنبياء 104
(2) سورة الزمر 75
228

قوله: " وتحلت بالآمال " من الحلية، أي تزينت عند أهلها بما يؤملون منها.
قوله: " وتزينت بالغرور "، أي تزينت عند الناس بغرور لا حقيقة له.
والحبرة: السرور: وحائلة: متغيرة: ونافدة: فانية. وبائدة: منقضية. وأكالة:
قتالة، وغوالة: مهلكة. والغول: ما غال، أي أهلك، ومنه المثل: " الغضب غول الحلم ".
ثم قال: إنها إذا تناهت إلى أمنية ذوي الرغبات فيها لا تتجاوز أن تكون كما
وصفها الله تعالى به وهو قوله: (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء
فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل
شئ مقتدرا).
فاختلط، أي فالتف بنبات الأرض. وتكاثف به، أي بسبب ذلك الماء وبنزوله
عليه، ويجوز أن يكون تقديره: فاختلط بنبات الأرض، لأنه لما غذاه وأنماه، فقد
صار مختلطا به، ولما كان كل واحد من المختلطين مشاركا لصاحبه في مسمى الاختلاط
جاز " فاختلط به نبات الأرض "، كما يجوز: فاختلط هو بنبات الأرض.
والهشيم: ما تهشم وتحطم، الواحدة هشيمة. وتذروه الرياح: تطيره. وكان الله على
ما يشاء، من الانشاء والإفناء مقتدرا.
قوله: " من يلق من سرائها بطنا " إنما خص السراء بالبطن، والضراء بالظهر،
لان الملاقى لك بالبطن ملاق بالوجه، فهو مقبل عليك، والمعطيك ظهره مدبر عنك.
وقيل: لان الترس بطنه إليك وظهره إلى عدوك، وقيل: لان المشي في بطون الأودية
أسهل من السير على الظراب والآكام.
وطله السحاب يطله، إذا أمطره مطرا قليلا، يقول: إذا أعطت قليلا من الخير أعقبت ذلك
بكثير من الشر، لان التهتان الكثير المطر، هتن يهتن بالكسر، هتنا وهتونا وتهتانا.
229

قوله: " وحري "، أي جدير وخليق، يقال: بالحري أن يكون هذا الامر كذا،
وهذا الامر محراة لذلك، أي مقمنة، مثل محجاة، وما أحراه مثل ما أحجاه، وأحر به،
مثل أحج به، وتقول: هو حرى أن يفعل ذلك بالفتح، أي جدير وقمين، لا يثنى
ولا يجمع، قال الشاعر:
وهن حرى ألا يثبنك نقرة * وأنت حرى بالنار حين تثيب (1)
فإذا قلت: هو حر بكسر الراء، وحري بتشديدها على " فعيل " ثنيت وجمعت، فقلت:
هما حريان وحريان، وحرون مثل عمون، وأحراء أيضا، وفي المشدد حريون وأحرياء،
وهي حرية وحرية، وهن حريات وحريات وحرايا.
فإن قلت: فهلا قال: " وحرية إذا أصبحت "، لأنه يخبر عن الدنيا!
قلت: أراد شأنها، فذكر، أي وشأنها خليق أن يفعل كذا.
واعذوذب: صار عذبا. واحلولى: صار حلوا، ومن هاهنا أخذ الشاعر قوله:
ألا إنما الدنيا غضارة أيكة * إذا اخضر منها جانب جف جانب
فلا تكتحل عيناك منها بعبرة * على ذاهب منها فإنك ذاهب.
وارتفع " جانب " المذكور بعد " إن " لأنه فاعل فعل مقدر يفسره الظاهر، أي
وإن اعذوذب جانب منها، لان " إن " تقتضي الفعل وتطلبه فهي: ك‍ " إذا " في
قوله تعالى: (إذا السماء انشقت) (2).
وأمر الشئ، أي صار مرا. وأوبى: صار وبيا، ولين الهمز، لأجل السجع.
والرغب: مصدر رغبت في الامر رغبة ورغبا، أي أردته.
يقول: لا ينال الانسان منها إرادته إلا أرهقته تعبا، يقال: أرهقه إثما، أي حمله، وكلفه.

(1) البيت في اللسان 18: 188، من غير نسبة.
(2) سورة الانشقاق 1
230

فإن قلت: لم خص الامن بالجناح والخوف بالقودام؟
قلت: لان القوادم مقاديم الريش، والراكب عليها بعرض خطر عظيم وسقوط
قريب، والجناح يستر ويقي البرد والأذى، قال أبو نواس:
تغطيت من دهري بظل جناحه * فصرت أرى دهري وليس يراني (1)
فلو تسأل الأيام ما اسمي لما درت * وأين مكاني ما عرفن مكاني
والهاء في " جناحه " ترجع إلى الممدوح (2) بهذا الشعر.
وتوبقه: تهلكه، والأبهة الكبر. والرنق، بفتح النون، مصدر رنق الماء، أي
تكدر وبالكسر الكدر وقد روى هاهنا بالفتح والكسر، فالكسر ظاهر، والفتح
على تقدير حذف المضاف، أي ذو رنق.
وماء أجاج: قد جمع المرارة والملوحة، أج الماء يؤج أجاجا. والصبر، بكسر الباء:
هذا النبات المر نفسه، ثم سمى كل مر صبرا، والسمام: جمع سم لهذا القاتل، يقال سم
وسم، بالفتح والضم، والجمع سمام وسموم.
ورمام: بالية، وأسبابها: حبالها. وموفورها: وذو الوفر والثروة منها، والمحروب: المسلوب،
أي لا تحمى جارا ولا تمنعه.
ثم أخذ قوله تعالى: (وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم
كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال) (3) فقال: " ألستم في مساكن من كان قبلكم
أطول أعمارا "، نصب " أطول " بأنه خبر كان، وقد دلنا الكتاب الصادق على أنهم كانوا أطول

(1) ديوانه 97
(2) هو محمد بن الفضل بن الربيع.
(3) سورة إبراهيم 45
231

أعمارا بقوله: (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما) (1)، وثبت بالعيان أنهم أبقى
آثارا، فإن من آثارهم الأهرام والإيوان ومنارة الإسكندرية وغير ذلك. وأما بعد
الآمال فمرتب على طول الأعمار، فكلما كانت أطول كانت الآمال أبعد،
وإن عنى به علو الهمم، فلا ريب أنهم كانوا أعلى همما من أهل هذا الزمان، وقد كان فيهم
من ملك معمورة الأرض كلها، وكذلك القول في " أعد عديدا، وأكثف جنودا "،
والعديد: العدو الكثير، وأعد منهم، أي أكثر.
قوله: " ولا ظهر قاطع "، أي قاطع لمسافة الطريق.
والفوادح المثقلات، فدحه الدين أثقله، ويروى " بالقوادح " بالقاف، وهي آفة تظهر
في الشجر، وصدوع تظهر في الأسنان.
وأوهقتهم جعلتهم في الوهق، بفتح الهاء، وهو حبل كالطول (2) ويجوز التسكين،
مثل نهر ونهر.
والقوارع: المحن والدواهي، وسميت القيامة قارعة في الكتاب العزيز من هذا المعنى.
وضعضعتهم: أذلتهم، قال أبو ذؤيب:
* أنى لريب الدهر لا أتضعضع * (3)
وضعضعت البناء: أهدمته.
وعفرتهم للمناخر. ألصقت أنوفهم بالعفر، وهو التراب. والمناسم: جمع منسم، بكسر
السين، وهو خف البعير.

(1) سورة العنكبوت 14
(2) الطول، أو الطيل: حبل طويل يشد به قائمة الدابة.
(3) ديوان الهذليين 1: 3، وصدره:
* وتجلدي للشامتين أريهم *
232

ودان لها: أطاعها، ودان لها أيضا: ذل. وأخلد إليها: مال، قال تعالى: (ولكنه
أخلد إلى الأرض) (1)، والسغب: الجوع، يقول: إنما زودتهم الجوع، وهذا مثل،
كما قال:
* ومدحته فأجازني الحرمانا *
ومعنى قوله: " أو نورت لهم إلا الظلمة "، أي بالظلمة، وهذا كقوله: " هل زودتهم
إلا السغب ". وهو من باب إقامة الضد مقام الضد، أي لم تسمح لهم بالنور بل بالظلمة.
والضنك: الضيق.
ثم قال: فبئست الدار، وحذف الضمير العائد إليها وتقديره " هي " كما قال تعالى:
(نعم العبد) (2) وتقديره: " هو ".
ومن لم يتهمها: من لم يسوء ظنا بها. والصفيح: الحجارة. والأجنان: القبور، الواحد
جنن، والمجنون: المقبور، ومنه قول الاعرابية " لله درك من مجنون في جنن! ". والأكنان:
جمع كن: وهو الستر، قال تعالى: (وجعل لكم من الجبال أكنانا) (3).
والرفات: العظام البالية. والمندبة: الندب على الميت. لا يبالون بذلك: لا يكترثون
به. وجيدوا: مطروا. وقحطوا: انقطع المطر عنهم فأصابهم القحط، وهو الجدب. وإلى
معنى قوله عليه السلام: " فهم جيرة لا يجيبون داعيا، ولا يمنعون ضيما، جميع وهم آحاد،
وجيرة وهم أبعاد، متدانون لا يتزاورون، وقريبون لا يتقاربون " نظر البحتري، فقال:

(1) سورة الأعراف 176
(2) سورة ص 30
(3) سورة النحل 81
233

بنا أنت من مجفوة لم تؤنب * ومهجورة في هجرها لم تعتب (1)
ونازحة والدار منها قريبة * وما قرب ثاو في التراب مغيب!
وقد قال الشعراء والخطباء في هذا المعنى كثيرا، فمن ذلك قول الرضى أبى الحسن رحمه
الله في مرثيته لأبي إسحاق الصابي:
أعزز على بأن نزلت بمنزل * متشابه الأمجاد بالأوغاد (2)
في عصبة جنبوا إلى آجالهم * والدهر يعجلهم عن الإرواد
ضربوا بمدرجة الفناء قبابهم * من غير أطناب ولا أوتاد
ركب أناخوا لا يرجى منهم * قصد لاتهام ولا إنجاد
كرهوا النزول فأنزلتهم وقعة * للدهر نازلة بكل مقاد
فتهافتوا عن رحل كل مذلل * وتطاوحوا عن سرج كل جواد
بأدون في صور الجميع وإنهم * متفردون تفرد الآحاد
فقوله: " بأدون في صور الجمع... " البيت، هو قوله عليه السلام: " جمع وهم آحاد " بعينه.
وقال الرضى رحمه الله تعالى أيضا:
متوسدين على الخدود كأنما * كرعوا على ظمأ من الصهباء (3)
صور ضننت على العيون بحسنها * أمسيت أوقرها من البوغاء (4)
ونواظر كحل التراب جفونها * قد كنت أحرسها من الأقذاء
قربت ضرائحهم على زوارها * ونأوا عن الطلاب أي تناء (5)

(1) ديوانه 1: 49
(2) ديوانه لوحة 129 مع اختلاف في الرواية وترتيب الأبيات
(3) ديوانه لوحة 116، من مرثية لوالدته.
(4) لحظها: ملاحظتها. والبوغاء: التربة الرخوة.
(5) الضرائح: جمع ضريح، وهو القبر.
234

قوله: " قربت ضرائحهم... " البيت هو معنى قوله عليه السلام: " وجيرة وهم
أبعاد " بعينه.
ومن هذا المعنى قول بعض الاعراب:
لكل أناس مقبر في ديارهم (2) * فهم ينقصون، والقبور تزيد
فكائن ترى من دار حي قد أخرجت * وقبر بأكناف التراب جديد (3)
هم جيرة الاحياء، أما مزارهم (4) * فدان، وأما الملتقى فبعيد
ومن كلام ابن نباته. " وحيدا على كثرة الجيران، بعيدا على قرب المكان "
ومنه قوله: " أسير وحشة الانفراد، فقير إلى اليسير من الزاد، جار من لا يجير،
وضيف من لا يمير، حملوا ولا يرون ركبانا، وأنزلوا ولا يدعون ضيفانا، واجتمعوا
ولا يستمعون جيرانا، واحتشدوا ولا يعدون أعوانا ". وهذا كلام أمير المؤمنين عليه السلام
بعينه المذكور في هذه الخطبة، وقد أخذه مصالتة.
ومنه قوله: " طحنتهم طحن الحصيد، وغيبتهم تحت الصعيد، فبطون الأرض لهم
أوطان، وهم في خرابها قطان، عمروا فأخربوا، واقتربوا فاغتربوا، واصطحبوا
وما اصطحبوا ".
ومنه قوله: " غيبا كأشهاد، عصبا كآحاد، همودا في ظلم الالحاد، إلى
يوم التناد ".

(1) لعبد الله بن ثعلبة الحنفي، حماسة أبى تمام - بشرح المرزوقي 891
(2) الحماسة:
* لكل أناس مقبر بفنائهم *
(3) رواية الحماسة:
وما إن يزال رسم دار قد أخلقت * وبيت لميت بالفناء جديد
(4) الحماسة: " أما جوارهم ".
235

واعلم أن هذه الخطبة ذكرها شيخنا أبو عثمان الجاحظ في كتاب " البيان
والتبيين (1)،، ورواها لقطري بن الفجاءة، والناس يروونها لأمير المؤمنين عليه السلام،
وقد رأيتها فكتاب " المونق " لأبي عبيد الله المرزباني مروية لأمير المؤمنين عليه السلام، وهي
بكلام أمير المؤمنين أشبه وليس يبعد عندي أن يكون قطري قد خطب بها بعد أن
أخذها عن بعض أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام، فإن الخوارج كانوا أصحابه وأنصاره،
وقد لقى قطري أكثرهم.

(1) البيان والتبيين 2: 126 - 129، وهي أيضا بنسبتها إلى قطري في العقد 1: 141،
وصبح الأعشى 1: 223، وعيون الأخبار 2: 250، ونهاية الأدب 7: 250.
236

(111) ومن خطبة له عليه السلام يذكر فيها ملك الموت وتوفية الأنفس:
هل يحس به إذا دخل منزلا، أم هل تراه إذا توفى أحدا بل كيف يتوفى
الجنين في بطن أمه! أيلج عليه من بعض جوارحها، أم الروح أجابته بإذن ربها،
أم هو ساكن معه في أحشائها!
كيف يصف إلهه من يعجز عن صفة مخلوق مثله!
الشرح:
أما مذهب جمهور أصحابنا، وهم النافون للنفس الناطقة، فعندهم أن الروح جسم لطيف
بخارى، يتكون من ألطف أجزاء الأغذية، ينفذ في العروق الضوارب، والحياة عرض
قائم بالروح وحال فيها، فللدماغ روح دماغية وحياة حالة فيها، وكذلك للقلب، وكذلك
للكبد، وعندهم أن لملك الموت أعوانا تقبض الأرواح بحكم النيابة عنه، لولا ذلك لتعذر
عليه وهو جسم أن يقبض روحين في وقت واحد في المشرق والمغرب، لان الجسم الواحد
لا يكون في مكانين في وقت واحد. قال أصحابنا: ولا يبعد أن يكون الحفظة الكاتبون
هم القابضين للأرواح عند انقضاء الأجل، قالوا: وكيفية القبض ولوج الملك من الفم إلى
القلب، لأنه جسم لطيف هوائي لا يتعذر عليه النفوذ في المخارق الضيقة، فيخالط الروح
237

التي هي كالشبيهة به، لأنها جسم لطيف بخارى، ثم يخرج من حيث دخل وهي معه، وإنما
يكون ذلك في الوقت الذي يأذن الله تعالى له فيه، وهو حضور الاجل، فألزموا على ذلك
أن يغوص الملك في الماء مع الغريق، ليقبض روحه تحت الماء، فالتزموا ذلك، وقالوا: ليس
بمستحيل أن يتخلل الملك الماء في مسام الماء، فإن فيه مسام ومنافذ، وفي كل جسم على
قاعدتهم في إثبات الماء في الأجسام.
قالوا: ولو فرضنا أنه لا مسام فيه، لم يبعد أن يلجه الملك فيوسع لنفسه مكانا كما يلجه
الحجر والسمك وغيرهما، وكالريح الشديدة التي تقرع ظاهر البحر فتقعره وتحفره، وقوة
الملك أشد من قوة الريح.
ثم نعود إلى الشرح فنقول:
الملك أصله " مالك " بالهمز، ووزنه " مفعل " والميم زائدة، لأنه من الألوكة
والألوك، وهي الرسالة، ثم قلبت الكلمة وقدمت اللام فقيل ملاك، قال الشاعر:
فلست لإنسي ولكن لملاك * تنزل من جو السماء يصوب (1)
ثم تركت همزته لكثرة الاستعمال، فقيل: " ملك "، فلما جمع ردت الهمزة إليه، فقالوا:
ملائكة وملائك، قال أمية بن أبي الصلت:
وكأن برقع والملائك حولها * سدر تواكله القوائم أجرد (2)
والتوفي: الإماتة وقبض الأرواح، قال الله تعالى: (الله يتوفى الأنفس حين
موتها) (3).
والتقسيم الذي قسمة في وفاة الجنين حاصر، لأنه مع فرضنا إياه جسما يقبض الأرواح
التي في الأجسام، أما أن يكون مع الجنين في جوف أمه فيقبض روحه عند حضور أجله،

(1) اللسان 12: 274 من غير نسبة.
(2) اللسان 6: 30
(3) سورة الزمر 42
238

أو خارجا عنها. والقسم الثاني ينقسم قسمين: أحدهما أن يلج جوف أمه لقبض روحه
فيقبضها، والثاني أن يقبضها من غير حاجة إلى الولوج إلى جوفها، وذلك بأن تطيعه الروح
وتكون مسخرة إذا أراد قبضها امتدت إليه فقبضها. وهذه القسمة لا يمكن الزيادة عليها،
ولو قسمها واضع المنطق لما زاد.
ثم خرج إلى أمر آخر أعظم وأشرف مما ابتدأ به، فقال: " كيف يصف إلهه من
يعجز عن وصف مخلوق مثله "! وإلى هذا الغرض كان يترامى وإياه كان يقصد، وإنما مهد
حديث الملك والجنين توطئة لهذا المعنى الشريف، والسر الدقيق.
[فصل في التخلص وسباق كلام للشعراء فيه]
وهذا الفن يسميه أرباب علم البيان التخلص، وأكثر ما يقع في الشعر، كقول
أبى نواس:
تقول التي من بيتها خف مركبي * عزيز علينا أن نراك تسير (1)
أما دون مصر للغنى متطلب! * بلى، إن أسباب الغنى لكثير
فقلت لها واستعجلتها بوادر * جرت، فجرى في جريهن عبير
ذريني أكثر حاسديك برحلة * إلى بلد فيه الخصيب أمير
ومن ذلك قول أبى تمام:
يقول في قومس صحبي وقد أخذت * منا السرى وخطا المهرية القود (2)
مطلع الشمس تبغى أن تؤم بنا * فقلت كلا ولكن مطلع الجود

(1) ديوانه 99، من قصيدة يمدح فيها الخصيب بن عبد الرحمن المرادي، أمير مصر.
(2) ديوانه 2: 130، قومس: بلد بين العراق وخراسان.
239

ومنه قول البحتري:
هل الشباب ملم بي فراجعة * أيامه لي في أعقاب أيامي! (1)
لو أنه نائل غمر يجاد به * إذن تطلبته عند ابن بسطام
ومنه قول المتنبي، وهو يتغزل بأعرابية، ويصف بخلها وجبنها وقلة مطعمها، وهذه
كلها من الصفات الممدوحة في النساء خاصة (2):
في مقلتي رشأ تديرهما * بدوية فتنت بها الحلل (3)
تشكو المطاعم طول هجرتها * وصدودها، ومن الذي تصل!
ما أسأرت في القعب من لبن * تركته، وهو المسك والعسل
قالت: ألا تصحو فقلت لها * أعلمتني أن الهوى ثمل
لو أن فناخسر صبحكم * وبرزت وحدك عاقه الغزل (4)
وتفرقت عنكم كتائبه * إن الملاح خوادع قتل
ما كنت فاعلة وضيفكم * ملك الملوك وشأنك البخل
أتمنعين قرى فتفتضحي * أم تبذلين له الذي يسل
بل لا يحل بحيث حل به * بخل ولا جور ولا وجل
وهذا من لطيف التخلص ورشيقه، والتخلص مذهب الشعراء، والمتأخرون يستعملونه
كثيرا، ويتفاخرون فيه ويتناضلون، فأما التخلص في الكلام المنثور فلا يكاد يظهر لمتصفح
الرسالة أو الخطبة إلا بعد تأمل شديد، وقد وردت منه مواضع في القرآن العزيز، فمن

(1) المثل السائر 2: 265
(2) ديوانه 3: 301، من قصيدة يمدح فيها ركن الدولة.
(3) الرشأ: ولد الظبية الصغير. والحلل: جمع حلة، وهي القوم المجتمعون في بيوت مجتمعة للنزول.
والبدوية: الساكنة البدو.
(4) فناخسر، هو اسم عضد الدولة. وصبحكم: أتاكم صباحا للغارة.
240

أبينها وأظهرها أنه تعالى ذكر في سورة الأعراف الأمم الخالية، والأنبياء الماضين من لدن
آدم عليه الصلاة والسلام، إلى أن انتهى إلى قصة موسى، فقال في آخرها بعد أن شرحها
وأوضحها: (واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب
لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك
تضل بها من تشاء وتهدى من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين.
واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به
من أشاء ورحمتي وسعت كل شئ فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة
والذين هم بآياتنا يؤمنون. الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه
مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر
ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي
كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه
أولئك هم المفلحون) (1).
وهذا من التخلصات اللطيفة المستحسنة.
[فصل في الاستطراد وإيراد شواهد للشعراء فيه]
واعلم أن من أنواع علم البيان نوعا يسمى الاستطراد، وقد يسمى الالتفات وهو من
جنس التخلص وشبيه به، إلا أن الاستطراد هو أن تخرج بعد أن تمهد ما تريد أن تمهده
إلى الامر الذي تروم ذكره فتذكره، وكأنك غير قاصد لذكره بالذات، بل قد
حصل ووقع ذكره بالعرض عن غير قصد، ثم تدعه وتتركه، وتعود إلى الامر الذي كنت
في تمهيده، كالمقبل عليه، وكالملغى عما استطردت بذكره، فمن ذلك قول البحتري
وهو يصف فرسا:

(1) سورة الأعراف 155 - 157
241

وأغر في الزمن البهيم محجل * قد رحت منه على أغر محجل (1)
كالهيكل المبنى إلا أنه * في الحسن جاء كصورة في هيكل
وافى الضلوع يشد عقد حزامه * يوم اللقاء على معم مخول
أخواله للرستمين بفارس * وجدوده للتبعين بموكل
يهوى كما هوت العقاب وقد رأت * صيدا، وينتصب انتصاب الأجدل
متوجس برقيقتين كأنما * تريان من ورق عليه مكلل
ما إن يعاف قذى ولو أوردته * يوما خلائق حمدويه الأحول
ذنب كما سحب الرشاء يذب عن * عرف، وعرف كالقناع المسبل
جذلان ينفض عذرة في غرة * يقق تسيل حجولها في جندل
كالرائح النشوان أكثر مشيه * عرضا على السنن البعيد الأطول
ذهب الأعالي حيث تذهب مقلة * فيه بناظرها حديد الأسفل
هزج الصهيل كأن في نغماته * نبرات معبد في الثقيل الأول
ملك القلوب، فإن بدا أعطينه * نظر المحب إلى الحبيب المقبل
ألا تراه كيف استطرد بذكر حمدويه الأحول الكاتب، وكأنه لم يقصد ذلك،
ولا أراده وإنما جرته القافية، ثم ترك ذكره وعاد إلى وصف الفرس، ولو أقسم إنسان أنه
ما بنى القصيدة منذ افتتحها إلا على ذكره، ولذلك أتى بها على روى اللام، لكان
صادقا. فهذا هو الاستطراد.
ومن الفرق بينه وبين التخلص أنك في التخلص متى شرعت في ذكر الممدوح

(1) ديوانه 2: 217، 218 (طبع الجوائب).
242

أو المهجو تركت ما كنت فيه من قبل بالكلية، وأقبلت على ما تخلصت إليه من المديح
والهجاء بيتا بعد بيت، حتى تنقضي القصيدة، وفي الاستطراد تمر على ذكر الامر الذي
استطردت به مرورا كالبرق الخاطف، ثم تتركه وتنساه، وتعود إلى ما كنت فيه كأنك
لم تقصد قصد ذاك، وإنما عرض عروضا. وإذا فهمت الفرق فاعلم أن الآيات التي تلوناها
إذا حققت وأمعنت النظر، من باب الاستطراد، لا من باب التخلص، وذلك لأنه
تعالى قال بعد قوله: (واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون. قل
يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله
إلا هو يحيى ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته
واتبعوه لعلكم تهتدون ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون وقطعناهم
اثنتي عشرة أسباطا أمما وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك
الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغمام
وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا
أنفسهم يظلمون) (1). فعاد إلى ما كان فيه أولا، ثم مر في هذه القصة، وفي أحوال
موسى وبنى إسرائيل حتى قارب الفراغ من السورة.
ومن لطيف التخلص الذي يكاد يكون استطرادا، لولا أنه أفسده بالخروج إلى المدح،
قول أبى تمام في قصيدته التي يمدح بها محمد بن الهيثم التي أولها:
أسقى طلولهم أجش هزيم * وغدت عليهم نضرة ونعيم (2)
ظلمتك ظالمة البرئ ظلوم * والظلم من ذي قدرة مذموم
زعمت هواك عفا الغداة كما عفت * منها طلول باللوى ورسوم

(1) سورة الأعراف 158 - 160
(2) ديوانه 3: 289
243

لا والذي هو عالم أن النوى * صبر وأن أبا الحسين كريم
ما حلت عما تعهدين ولا غدت (1) * نفسي على إلف سواك تحوم
فلو أتم متغزلا لكان مستطردا لا محالة، ولكنه نقض الاستطراد، وغمس يده في
المدح، فقال بعد هذا البيت:
لمحمد بن الهيثم بن شبانة * مجد إلى جنب السماك مقيم
ملك إذا نسب الندى من ملتقى * طرفيه فهو أخ له وحميم
ومضى على ذلك إلى آخرها.
* * *
ومن الاستطراد أن يحتال الشاعر لذكر ما يروم ذكره، بوصف أمر ليس من غرضه،
ويدمج الغرض الأصلي في ضمن ذلك وفي غضونه، وأحسن ما يكون ذلك إذا صرح بأنه
قد استطرد ونص في شعره على ذلك، كما قال أبو إسحاق الصابي في أبيات كتبها إلى أبى
القاسم عبد العزيز بن يوسف كاتب عضد الدولة، كتبها إليه إلى شيراز وأبو إسحاق في بغداد،
وكانت أخبار فتوح عضد الدولة بفارس وكرمان وما والاها متواصلة مترادفة إلى العراق،
وكتب عبد العزيز واصلة بها إلى عز الدولة بختيار والصابي يجيب عنها:
يا راكب الجسرة العيرانة الأجد * يطوى المهامه من سهل إلى جلد
أبلغ أبا قاسم - نفسي الفداء له - * مقالة من أخ للحق معتمد
في كل يوم لكم فتح يشاد به * بين الأنام بذكر السيد العضد
وما لنا مثله لكننا أبدا * نجيبكم بجواب الحاسد الكمد
فأنت أكتب منى في الفتوح وما * تجرى مجيبا إلى شأوي ولا أمدى

(1) الديوان:
* ما زلت عن سنن الوداد ولا غدت *
244

وما ذممت ابتدائي في مكاتبة * ولا جوابكم في القرب والبعد
لكنني رمت أن أثنى على ملك * مستطرد بمديح فيه مطرد
ولقد ظرف وملح أبو إسحاق في هذه الأبيات، ومتى خلا أو عرى عن الظرف
والملاحة، ولقد كان ظرفا ولباقة كله!
وليس من الاستطراد ما زعم ابن الأثير الموصلي في كتابه المسمى " بالمثل (1) السائر " أنه
استطراد، وهو قول بعض شعراء الموصل يمدح قرواش بن المقلد، وقد أمره أن يعبث بهجاء
وزيره سليمان بن فهد، وحاجبه أبى جابر ومغنيه المعروف بالبرقعيدي، في ليلة من ليالي الشتاء
وأراد بذلك الدعابة والولع بهم، وهم في مجلس في شراب وأنس، فقال وأحسن
فيما قال:
وليل كوجه البرقعيدي ظلمة * وبرد أغانيه وطول قرونه
سريت ونومي فيه نوم مشرد * كعقل سليمان بن فهد ودينه
على أولق فيه التفات كأنه * أبو جابر في خبطه وجنونه
إلى أن بدا ضوء الصباح كأنه * سنا وجه قراوش وضوء جبينه
وذلك لان الشاعر قصد إلى هجاء كل واحد منهم، ووضع الأبيات لذلك، وأمره
قرواش رئيسهم وأميرهم بذلك، فهجاهم ومدحه ولم يستطرد. وهذه الأبيات تشبيهات
كلها مقصود بها الهجاء، لم يأت بالعرض في الشعر كما يأتي الاستطراد.
وهذا غلط من مصنف الكتاب.

(1) المثل السائر 2: 271
245

(112) الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام:
وأحذركم الدنيا فإنها منزل قلعة، وليست بدار نجعة، قد تزينت بغرورها،
وغرت بزينتها. دار هانت على ربها فخلط حلالها بحرامها، وخيرها بشرها، وحياتها
بموتها، وحلوها بمرها. لم يصفها الله تعالى لأوليائه، ولم يضن بها عن أعدائه.
خيرها زهيد، وشرها عتيد، وجمعها ينفد، وملكها يسلب، وعامرها يخرب. فما
خير دار تنقض نقض البناء، وعمر يفنى فيها فناء الزاد، ومده تنقطع انقطاع
السير!
اجعلوا ما افترض الله عليكم من طلبتكم، واسألوه من أداء حقه ما سألكم،
وأسمعوا دعوة الموت آذانكم قبل أن يدعى بكم.
إن الزاهدين في الدنيا تبكي قلوبهم وإن ضحكوا، ويشتد حزنهم وإن
فرحوا، ويكثر مقتهم أنفسهم وإن اغتبطوا بما رزقوا.
قد غاب عن قلوبكم ذكر الآجال، وحضرتكم كواذب الآمال، فصارت
الدنيا أملك بكم من الآخرة، والعاجلة أذهب بكم من الآجلة، وإنما أنتم
إخوان على دين الله، ما فرق بينكم إلا خبث السرائر، وسوء الضمائر، فلا
توازرون ولا تناصحون، ولا تباذلون ولا توادون.
ما بالكم تفرحون باليسير من الدنيا تدركونه، ولا يحزنكم الكثير من
الآخرة تحرمونه! ويقلقكم اليسير من الدنيا يفوتكم، حتى يتبين ذلك في
246

وجوهكم، وقلة صبركم عما زوى منها عنكم! كأنها دار مقامكم، وكأن متاعها
باق عليكم.
وما يمنع أحدكم أن يستقبل أخاه بما يخاف من عيبه، إلا مخافة أن
يستقبله بمثله.
قد تصافيتم على رفض الآجل، وحب العاجل، وصار دين أحدكم لعقة على
لسانه، صنيع من فرغ من عمله، وأحرز رضا سيده.
* * *
الشرح:
قوله عليه السلام: " فإنها منزل قلعة " بضم القاف وسكون اللام، أي ليست
بمستوطنة. ويقال: هذا مجلس قلعة، إذا كان صاحبه يحتاج إلى أن يقوم مرة بعد مرة.
ويقال: هم على قلعة، أي على رحلة، ومن هذا الباب. قولهم: فلان قلعة، إذا كان
ينقلع عن سرجه، ولا يثبت في البطش والصراع، والقلعة أيضا: المال العارية، وفي
الحديث: " بئس المال القلعة ".
والنجعة: طلب الكلأ في موضعه، وفلان ينتجع الكلأ، ومنه انتجعت فلانا، إذا
أتيته تطلب معروفه.
ثم وصف هوان الدنيا على الله تعالى، فقال: " من هوانها أنه خلط حلالها بحرامها... "
الكلام، مراده تفضيل الدار الآتية على هذه الحاضرة، فإن تلك صفو كلها وخير كلها،
وهذه مشوبة، والكدر والشر فيها أغلب من الصفو والخير. ومن كلام بعض الصالحين:
من هوان الدنيا على الله أنه لا يعصى إلا فيها، ولا ينال ما عنده إلا بتركها. ويروى: " ولم
" يضن بها على أعدائه "، والرواية المشهورة " عن أعدائه "، وكلاهما مستعمل.
247

والزهيد: القليل، والعتيد: الحاضر. والسير: سير المسافر.
ثم أمرهم بأن يجعلوا الفرائض الواجبة عليهم من جملة مطلوباتهم، وأن يسألوا الله من
الإعانة والتوفيق على القيام بحقوقه الواجبة. كما سألهم، أي كما ألزمهم وافترض عليهم، فسمى
ذلك سؤالا لأجل المقابلة بين اللفظين، كما قال سبحانه: (وجزاء سيئة سيئة مثلها) (1)،
وكما قال النبي صلى الله عليه وآله: " فإن الله لا يمل حتى تملوا " وكما قال الشاعر:
ألا لا يجهلن أحد علينا * فنجهل فوق جهل الجاهلينا (2)
ثم أمرهم أن يسمعوا أنفسهم دعوة الموت قبل أن يحضر الموت، فيحل بهم. ومثل
قوله: " تبكي قلوبهم وإن ضحكوا " قول الشاعر، وإن لم يكن هذا المقصد بعينه قصد:
كم فاقة مستورة بمروءة * وضرورة قد غطيت بتجمل
ومن ابتسام تحته قلب شج * قد خامرته لوعة ما تنجلي.
والمقت: البغض: واغتبطوا: فرحوا.
وقوله: " أملك بكم " مثل " أولى بكم ". وقوله: " والعاجلة أذهب بكم من الآجلة "
أي ذهبت العاجلة بكم واستولت عليكم أكثر مما ذهبت بكم الآخرة، واستولت عليكم.
ثم ذكر أن الناس كلهم مخلوقون على فطرة واحدة، وهي دين الله وتوحيده، وإنما
اختلفوا وتفرقوا باعتبار أمر خارجي عن ذلك، وهو خبث سرائرهم وسوء ضمائرهم، فصاروا
إلى حال لا يتوازرون، أي لا يتعاونون، والأصل الهمز، آزرته، ثم تقلب الهمزة واوا، وأصل
قوله: " فلا توازرون " فلا تتوازرون " فحذفت إحدى التاءين، كقوله تعالى: (ما لكم
لا تناصرون) (3)، أي لا تتناصرون، والتبادل: أن يجود بعضهم على بعض بماله ويبذله له.

(1) سورة الشورى 40
(2) لعمر بن كلثوم، من المعلقات بشرح التبريزي 238
(3) سورة الصافات 25:
248

ومثل قوله عليه السلام " ما بالكم تفرحون بكذا، ولا تحزنون لكذا، ويقلقكم
اليسير من الدنيا يفوتكم " من هذا قول الرضى رحمه الله:
نقص الجديدين من عمري يزيد * على ما ينقصان على الأيام من مالي (1)
دهر تؤثر في جسمي نوائبه * فما اهتمامي أن أودى بسربالي
والضمير في " يخاف " راجع إلى الأخ لا إلى المستقبل له، أي ما يخافه الأخ من
مواجهته بعينه.
قوله: " وصار دين أحدكم لعقة على لسانه " أخذه الفرزدق، فقال للحسين بن علي
عليه السلام، وقد لقيه قادما إلى العراق، وسأله عن الناس " أما قلوبهم فمعك، وأما
سيوفهم فعليك، والدين لعقة على ألسنتهم، فإذا امتحصوا قل الديانون "، واللفظة مجاز،
وأصل اللعقة شئ قليل يؤخذ بالملعقة من الاناء، يصف بالنزارة والقلة كتلك
اللعقة، ولم يقنع بأن جعله لعقة حتى جعله على ألسنتهم فقط، أي ليس في قلوبهم.

(4) ديوانه، لوحة 150، من قصيدة يرثى فيها صديقا له.
249

(113)
الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام:
الحمد لله الواصل الحمد بالنعم، والنعم بالشكر، نحمده على آلائه، كما
نحمده على بلائه، ونستعينه على هذه النفوس البطاء عما أمرت به، السراع إلى
ما نهيت عنه. ونستغفره مما أحاط به علمه، وأحصاه كتابه، علم غير قاصر،
وكتاب غير مغادر. ونؤمن به إيمان من عاين الغيوب، ووقف على الموعود،
إيمانا نفى إخلاصه الشرك، ويقينه الشك. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك
له، وأن محمدا صلى الله عليه عبده ورسوله، شهادتين تصعدان القول،
وترفعان العمل، لا يخف ميزان توضعان فيه، ولا يثقل ميزان ترفعان منه.
* * *
أوصيكم عباد الله بتقوى الله التي هي الزاد وبها المعاذ، زاد مبلغ، ومعاذ،
منجح، دعا إليها أسمع داع، ووعاها خير واع، فأسمع داعيها، وفاز واعيها.
عباد الله، إن تقوى الله حمت أولياء الله محارمه، وألزمت قلوبهم مخافته، حتى
أسهرت لياليهم، وأظمأت هواجرهم، فأخذوا الراحة بالنصب، والري بالظمأ،
واستقربوا الاجل فبادروا العمل، وكذبوا الامل فلاحظوا الاجل.
ثم إن الدنيا دار فناء وعناء، وغير وعبر، فمن الفناء أن الدهر موتر (1) قوسه،
لا تخطئ سهامه، ولا تؤسى جراحه، يرمى الحي بالموت، والصحيح بالسقم،
والناجي بالعطب، آكل لا يشبع، وشارب لا ينقع. ومن العناء أن المرء يجمع

(1) مخطوطة النهج: " موتور " بالتشديد.
250

ما لا يأكل، ويبنى ما لا يسكن، ثم يخرج إلى الله تعالى، لا مالا حمل،
ولا بناء نقل.
ومن غيرها أنك ترى المرحوم مغبوطا، والمغبوط مرحوما، ليس ذلك إلا نعيما
زل، وبؤسا نزل.
ومن عبرها أن المرء يشرف على أمله، فيقتطعه حضور أجله، فلا أمل يدرك،
ولا مؤمل يترك. فسبحان الله ما أعز سرورها! وأظمأ ريها! وأضحى فيئها!
لا جاء يرد، ولا ماض يرتد، فسبحان الله، ما أقرب الحي من الميت للحاقه به!
وأبعد الميت من الحي لانقطاعه عنه!
إنه ليس شئ بشر من الشر إلا عقابه، وليس شئ بخير من الخير إلا ثوابه،
وكل شئ من الدنيا سماعه أعظم من عيانه، وكل شئ من الآخرة عيانه أعظم
من سماعه، فليكفكم من العيان السماع، ومن الغيب الخبر.
واعلموا أن ما نقص من الدنيا وزاد في الآخرة، خير مما نقص من الآخرة وزاد
في الدنيا، فكم من منقوص رابح، ومزيد خاسر!
إن الذي أمرتم به أوسع من الذي نهيتم عنه، وما أحل لكم أكثر مما
حرم عليكم، فذروا ما قل لما كثر، وما ضاق لما اتسع، قد تكفلكم بالرزق،
وأمرتم بالعمل، فلا يكونن المضمون لكم طلبه أولى بكم من المفروض عليكم.
عمله، مع أنه والله لقد اعترض الشك، ودخل اليقين، حتى كأن الذي ضمن لكم
قد فرض عليكم، وكأن الذي فرض عليكم قد وضع عنكم. فبادروا العمل،
وخافوا بغتة الاجل، فإنه لا يرجى من رجعة العمر، ما يرجى من رجعة الرزق.
ما فات اليوم من الرزق رجى غدا زيادته، وما فات أمس من العمر لم يرج اليوم
251

رجعته. الرجاء مع الجائي، واليأس مع الماضي، فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن
إلا وأنتم مسلمون!
* * *
الشرح:
لقائل أن يقول: أما كونه واصل الحمد له من عباده بالنعم منه عليهم في ملوم، فكيف قال:
إنه يصل النعم المذكورة بالشكر، والشكر، من أفعال العباد، وليس من أفعاله ليكون
واصلا للنعم به؟
وجواب هذا القائل، هو أنه لما وفق العباد للشكر بعد أن جعل وجوبه في عقولهم
مقررا، وبعد أن أقدرهم عليه، صار كأنه الفاعل له، فأضافه إلى نفسه توسعا، كما يقال:
أقام الأمير الحد، وقتل الوالي اللص، فأما حمده سبحانه على البلاء، كحمده على الآلاء
فقد تقدم القول فيه. ومن الكلام المشهور: " سبحان من لا يحمد على المكروه سواه "،
والسر فيه أنه تعالى إنما يفعل المكروه بنا لمصالحنا، فإذا حمدناه عليه فإنما حمدناه على
نعمة أنعم بها، وإن كانت في الظاهر بلية وألما.
فإن قلت: فقد كان الأحسن في البيان أن يقول: " نحمده على بلائه، كما نحمده على آلائه ".
قلت: إنما عكس لأنه جاء باللفظين في معرض ذكر النعم والشكر عليها، فاستهجن
أن يلقبها بلفظة الحمد على البلاء للمنافرة التي تكون بينهما، فقال: نحمده على هذه الآلاء
التي أشرنا إليها، التي هي آلاء في الحقيقة وهذا ترتيب صحيح منتظم.
ثم سأل الله أن يعينه على النفس البطيئة عن المأمور به، السريعة إلى المنهي عنه. ومن
دعاء بعض الصالحين: اللهم إني أشكو إليك عدوا بين جنبي قد غلب على.
وفسر قوم من أهل الطريقة والحقيقة قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا
252

الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة) (1) قالوا: أراد مجاهدة النفوس.
ومن كلام رسول الله صلى الله عليه وآله: " أبت الأنفس إلا حب المال والشرف، وإن
حبهما لأذهب بدين أحدكم من ذئبين ضاريين باتا في زريبة غنم إلى الصباح، فماذا
يبقيان منها "!
ثم شرع في استغفار الله سبحانه من كل ذنب، وعبر عن ذلك بقوله: " مما أحاط به
علمه، وأحصاه كتابه "، لأنه تعالى عالم بكل شئ، ومحيط بكل شئ، وقد أوضح ذلك
بقوله: " علم غير قاصر، وكتاب غير مغادر "، أي غير مبق شيئا لا يحصيه، قال تعالى:
(ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها) (2).
ثم قال: " ونؤمن به إيمان من عاين وشاهد "، لان إيمان العيان أخلص
وأوثق من إيمان الخبر، فإنه ليس الخبر كالعيان، وهذا إشارة إلى إيمان العارفين الذين هو
عليه السلام سيدهم ورئيسهم، ولذلك قال " لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا ".
وقوله: " تصعدان القول " إشارة إلى قوله تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب
والعمل الصالح يرفعه) (3) وروى: " تسعدان القول " بالسين، أي هما شهادتان
بالقلب يعاضدان الشهادة باللسان، ويسعدانها.
ثم ذكر أنهما شهادتان لا يخف ميزان هما فيه، ولا يثقل ميزان رفعا عنه.
أما إنه لا يثقل ميزان رفعا عنه، فهذا لا كلام فيه، وإنما الشأن في القضية الأولى، لان
ظاهر هذا القول يشعر بمذهب المرجئة الخلص، وهم أصحاب مقاتل بن سليمان، القائلون إنه
لا يضر مع الشهادتين معصية أصلا، وإنه لا يدخل النار من في قلبه ذرة من الايمان،

(1) سورة التوبة 123
(2) سورة الكهف 49
(3) سورة فاطر 10.
253

ولهم على ذلك احتجاج قد ذكرناه في كتبنا الكلامية، فنقول في تأويل ذلك إنه لم يحكم
بهذا على مجرد الشهادتين، وإنما حكم بهذا على شهادتين مقيدتين، قد وصفهما بأنهما
يصعدان القول، ويرفعان العمل، وتانك الشهادتان المقيدتان بذلك القيد، إنما
هو الشهادتان اللتان يقارنهما فعل الواجب وتجنب القبيح، لأنه إن لم يقارنهما ذلك لم يرفعا
العمل، وإذا كان حكمه عليه السلام بعد خفة ميزان هما فيه، إنما هو على شهادتين مقيدتين لا مطلقتين،
فقد بطل قول من يجعل هذا الكلام حجة للمرجئة.
ثم أخذ في الوصاة بالتقوى، وقال: " إنها الزاد في الدنيا الذي يزود منه لسفر
الآخرة وبها المعاذ، مصدر من عذت بكذا، أي لجأت إليه واعتصمت به.
ثم وصفهما - أعني الزاد والمعاذ - فقال: " زاد مبلغ "، أي يبلغك المقصد والغاية التي
تسافر إليها، ومعاذ منجح، أي يصادف عنده النجاح.
دعا إليها: أسمع داع، يعنى البارئ سبحانه، لأنه أشد الاحياء إسماعا لما يدعوهم إليه
وبناء " أفعل " هاهنا من الرباعي، كما جاء ما أعطاه للمال، وما أولاه للمعروف! وأنت
أكرم لي من زيد، أي أشد إكراما، وهذا المكان أقفر من غيره، أي أشد إقفارا،
وفي المثل " أفلس من ابن المذلق " (1)، وروى: " دعا إليها أحسن داع " أي أحسن داع دعا،
ولا بد من تقرير هذا المميز لأنه تعالى لا توصف ذاته بالحسن، وإنما يوصف
بالحسن أفعاله.
ووعاها خير واع، أي من وعاها عنه تعالى وعقلها وأجاب تلك الدعوة، فهو خير واع.
وقيل: عنى بقوله: " أسمع داع " رسول الله صلى الله عليه وآله، وعنى بقوله: " خير واع "
نفسه، لأنه أنزل فيه: (وتعيها أذن واعية) (2) والأول أظهر.

(1) في القاموس: " وابن المذلق من عبد شمس لم يكن يجد بيت ليلة، ولا أبوه ولا أجداده، فقيل:
" أفلس من ابن المذلق ".
(2) سورة الحاقة 12
254

ثم قال: " فأسمع داعيها " أي لم يبق أحدا من المكلفين إلا وقد أسمعه تلك الدعوة
وفاز واعيها، أفلح من فهمها وأجاب إليها، لا بد من تقدير هذا، وإلا فأي فوز يحصل لمن
فهم ولم يجب! والتقوى: خشية الله سبحانه ومراقبته في السر والعلن، والخشية أصل
الطاعات، وإليها وقعت الإشارة بقوله تعالى: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (1)
وقوله سبحانه: (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) (2).
وقوله: " حتى أسهرت لياليهم، وأظمأت هواجرهم " من قول العرب " نهاره
صائم، وليله قائم "، نقلوا الفعل إلى الظرف، وهو من باب الاتساع الذي يجرون فيه الظروف
مجرى المفعول به، فيقولون: الذي سرته يوم الجمعة، أي سرت فيه، وقال:
* ويوم شهدناه سليما وعامرا (3) *
أي شهدنا فيه سليما، وقد اتسعوا فأضافوا إلى الظروف فقالوا:
يا سارق الليلة أهل الدار (4) *
وقال تعالى: (بل مكر الليل والنهار) (5) فأخرجوا بالإضافة عن الظرفية.
قوله عليه السلام: " فأخذوا الراحة النصب " يروى: " فاستبدلوا الراحة " والنصب:
التعب.
واستقربوا الاجل: رأوه قريبا.
فإن قلت: لماذا كرر لفظة " الاجل " وفي تكرارها مخالفة لفن البيان؟
قلت: إنه استعملها في الموضعين بمعنيين مختلفين، فقوله: " استقربوا الاجل " يعنى
المدة. وقوله: " فلاحظوا الاجل " يعنى الموت نفسه.

(1) سورة الحجر 13
(2) سورة الطارق 2
(3) الكتاب 1: 9، ونسبه لبعض بنى عامر، وبقيته:
* قليل سوى طعن النهال نوافله *
(4) الكتاب لسيبويه 1: 89، ونسبه إلى بعض الرجاز.
(5) سورة سبأ 33.
255

ويروى: " موتر " و " موتور " بالتشديد. ولا تؤسى جراحه: لا تطب
ولا تصلح، أسوت الجرح، أي أصلحته. ولا ينقع: لا يروى، شرب حتى نقع، أي شفى
غليله، وماء ناقع، وهو كالناجع، وما رأيت شربة أنقع منها.
وإلى قوله عليه السلام: " يجمع ما لا يأكل، ويبنى ما لا يسكن " نظر الشاعر، فقال:
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها
وقال آخر:
ألم تر حوشبا أمسى يبنى * بناء نفعه لبني بقيله
يؤمل أن يعمر عمر نوح * وأمر الله يطرق كل ليله
قوله: " ومن غيرها أنك ترى المرحوم مغبوطا والمغبوط مرحوما "، أي يصير الفقير غنيا
والغنى فقيرا، وقد فسره قوم فقالوا: أراد أنك ترى من هو في باطن الامر مرحوم، مغبوطا،
وترى من هو في باطن الامر مغبوط، مرحوما، أي تحسب ذاك وتتخيله، وهذا التأويل
غير صحيح، لان قوله بعده: " ليس ذلك إلا نعيما زل، وبؤسا نزل "، يكذبه ويصدق
التفسير الأول.
وأضحى فيها، من أضحى الرجل إذا برز للشمس. ثم قال: " لا جاء يرد ولا ماض
يرتد " أي يسترد ويسترجع، أخذه أبو العتاهية فقال:
فلا أنا راجع ما قد مضى لي * ولا أنا دافع ما سوف يأتي
وإلى قوله: " ما أقرب الحي من الميت للحاقه به، وما أبعد الميت من الحي
لانقطاعه عنه " نظر الشاعر، فقال:
يا بعيدا عنى وليس بعيدا * من لحاقي به سميع قريب
256

صرت بين الورى غريبا كما أنك تحت الثرى وحيد غريب
فإن قلت: ما وجه تقسيمه عليه السلام الأمور التي عددها إلى الفناء والعناء،
والغير والعبر؟
قلت: لقد أصاب الثغرة وطبق المفصل، ألا تراه ذكر في الفناء رمى الدهر الانسان
عن قوس الردى، وفي العناء جمع ما لا يأكل، وبناء ما لا يسكن، وفي الغير الفقر بعد الغنى
والغنى بعد الفقر، وفي العبر اقتطاع الاجل الامل، فقد ناط بكل لفظة ما يناسبها.
وقد نظر بعض الشعراء إلى قوله عليه السلام: " ليس شئ بشر من الشر إلا عقابه،
وليس شئ بخير من الخير إلا ثوابه " فقال:
خير البضائع للانسان مكرمة * تنمى وتزكو إذا بارت بضائعه
فالخير خير، وخير منه فاعله * والشر شر، وشر منه صانعه
إلا أن أمير المؤمنين عليه السلام استثنى العقاب والثواب، والشاعر جعل مكانهما
فاعل الخير والشر.
ثم ذكر أن كل شئ من أمور الدنيا المرغبة والمرهبة، سماعه أعظم من عيانه،
والآخرة بالعكس، وهذا حق، أما القضية الأولى فظاهرة، وقد قال القائل:
أهتز عند تمنى وصلها طربا * ورب أمنية أحلى من الظفر
ولهذا يحرص الواحد منا على الامر، فإذا بلغه برد وفتر، ولم يجده كما كان يظن في
اللذة. ويوصف لنا البلد البعيد عنا، بالخصب والامن والعدل، وسماح أهله، وحسن نسائه،
وظرف رجاله، فإذا سافرنا إليه لم نجده كما وصف، بل ربما وجدنا القليل من ذلك، ويوصف
لنا الانسان الفاضل بالعلم بفنون من الآداب والحكم، ويبالغ الواصفون في ذلك. فإذا
اختبرناه وجدناه دون ما وصف، وكذلك قد يخاف الانسان حبسا أو ضربا أو نحوهما فإذا
257

وقع فيهما هان ما كان يتخوفه، ووجد الامر دون ذلك، وكذلك القتل والموت، فإن
ما يستعظمه الناس منهما دون أمرهما في الحقيقة، وقد قال أبو الطيب - وهو
حكيم الشعراء:
كل ما لم يكن من الصعب في * الأنفس سهل فيها إذا هو كانا (1)
ويقال في المثل: لج الخوف تأمن. وأما أحوال الآخرة فلا ريب أن الامر فيها بالضد
من ذلك، لان الذي يتصوره الناس من الجنة أنها أشجار وأنهار ومأكول ومشروب، وجماع،
وأمرها في الحقيقة أعظم من هذا وأشرف، لان ملاذها الروحانية المقارنة لهذه الملاذ
المضادة لها أعظم من هذه الملاذ بطبقات عظيمة، وكذلك أكثر الناس يتوهمون أن
عذاب النار يكون أياما وينقضي، كما يذهب إليه المرجئة، أو أنه لا عذاب بالنار لمسلم أصلا،
كما هو قول الخلص من المرجئة، وأن أهل النار يألفون عذابها فلا يستضرون به إذا تطاول
الأمد عليهم، وأمر العذاب أصعب مما يظنون، خصوصا على مذهبنا في الوعيد، ولو لم يكن إلا
آلام النفوس باستشعارها سخط الله تعالى عليها، فإن ذلك أعظم من ملاقاة جرم النار
لبدن الحي.
وفي هذا الموضع أبحاث شريفة دقيقة، ليس هذا الكتاب موضوعا لها.
ثم أمرهم بأن يكتفوا من عيان الآخرة وغيبها بالسماع والخبر، لأنه لا سبيل ونحن في
هذه الدار إلى أكثر من ذلك.
وإلى قوله: " ما نقص من الدنيا وزاد في الآخرة، خير مما نقص من الآخرة وزاد في
الدنيا " نظر أبو الطيب، فقال، إلا أنه أخرجه في مخرج آخر:
بلاد ما اشتهيت رأيت فيها * فليس يفوتها إلا كرام (2)

(1) ديوانه 4: 241
(2) ديوانه 4: 73
258

فهلا كان نقص الأهل فيها * وكان لأهلها منها التمام
ثم قال: " فكم من منقوص في دنياه وهو رابح في آخرته، وكم من مزيد في دنياه
وهو خاسر في آخرته ". ثم قال: إن الذي أمرتم به أوسع من الذي نهيتم عنه، وما أحل
لكم أكثر مما حرم عليكم "، الجملة الأولى هي الجملة الثانية بعينها، وإنما أتى بالثانية
تأكيدا للأولى وإيضاحا لها، ولان فن الخطابة والكتابة هكذا هو، وينتظم كلتا الجملتين معنى
واحد، وهو أن فيما أحل الله غنى عما حرم، بل الحلال أوسع، ألا ترى أن المباح من
المآكل والمشارب أكثر عددا وأجناسا من المحرمات! فإن المحرم ليس إلا الكلب
والخنزير وأشياء قليلة غيرهما، والمحرم من المشروب الخمر ونحوها من المسكر، وما عدا ذلك
حلال أكله وشربه، وكذلك القول في النكاح والتسري فإنهما طريقان مهيعان إلى قضاء
الوطر، والسفاح طريق واحد، والطريقان أكثر من الطريق الواحد.
فإن قلت: فكيف قال: " إن الذي أمرتم به " فسمى المباح مأمورا به؟
قلت: سمى كثير من الأصوليين المباح مأمورا به، وذلك لاشتراكه مع المأمور به
في إنه لا حرج في فعله، فأطلق عليه اسمه. وأيضا فإنه لما كان كثير من الأمور التي عددناها
مندوبا أطلق عليه لفظ الامر، لان المندوب مأمور به، وذلك كالنكاح والتسري وأكل
اللحوم، التي هي سبب قوة البدن، وشرب ما يصلح المزاج من الأشربة التي لا حرج في
استعمالها. وقال بعض العقلاء لبنيه: يا بنى، إنه ليس شئ من اللذة ناله أهل الخسارة
بخسارتهم إلا ناله أهل المروءة والصيانة بمروءتهم وصيانتهم، فاستتروا بستر الله. ودخل
إنسان على علي بن موسى الرضا عليه السلام، وعليه ثياب مرتفعة القيمة، فقال: يا بن
رسول الله، أتلبس مثل هذا؟ فقال له: من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات
من الرزق!
259

ثم أمر بالعمل والعبادة، ونهى عن الحرص على طلب الرزق، فقال: إنكم أمرتم
بالأول وضمن لكم الثاني، فلا تجعلوا المضمون حصوله لكم هو المخصوص بالحرص
والاجتهاد، بل ينبغي أن يكون الحرص والاجتهاد فيما أمرتم بعمله وهو العبادة. وقد يتوهم
قوم أنه ارتفع " طلبه " ب‍ " المضنون "، كقولك: المضروب أخوه، وهذا غلط لأنه لم يضمن
طلبه، وإنما ضمن حصوله، ولكنه ارتفع، لأنه مبتدأ وخبره أولى، وهذا المبتدأ والخبر في
موضع نصب، لأنه خبر " يكونن " أو ارتفع لأنه بدل من " المضنون "، وهذا أحسن وأولى
من الوجه الأول، وهو بدل الاشتمال.
ثم ذكر أن رجعة العمر غير مرجوة، ورجعة الرزق مرجوة، أوضح ذلك بأن
الانسان قد يذهب منه اليوم درهم فيستعيضه، أي يكتسب عوضه في الغد دينارا،
وأما " أمس " نفسه فمستحيل أن يعود ولا مثله، لان الغد وبعد الغد محسوب من عمره،
وليس عوضا من الأمس الذاهب. وهذا الكلام يقتضى أن العمر مقدور، وأن
المكاسب والأرزاق إنما هي بالاجتهاد، وليست محصورة مقدرة، وهذا يناقض في الظاهر
ما تقدم من قوله: " إن الرزق مضمون فلا تحرصوا عليه "، فاحتاج الكلام إلى
تأويل، وهو أن العمر هو الظرف الذي يوقع المكلف فيه الأعمال الموجبة له السعادة
العظمى، والمخلصة له من الشقاوة العظمى، وليس له ظرف يوقعها فيه إلا هو خاصة،
فكل جزء منه إذا فات من غير عمل لما بعد الموت، فقد فات على الانسان بفواته
ما لا سبيل له إلى استدراكه بعينه ولا اغترام مثله، لان المثل الذي له إنما هو زمان آخر،
وليس ذلك في مقدور الانسان، والزمان المستقبل الذي يعيش فيه الانسان لم يكتسبه هو
لينسب إليه، فيقال: إنه حصله عوضا مما انقضى وذهب من عمره، وإنما هو فعل غيره،
ومع ذلك فهو معد ومهيأ لأفعال من العبادة توقع فيه، كما كان الجزء الماضي معدا لأفعال
260

توقع فيه فليس أحدهما عوضا عن الآخر ولا قائما مقامه، وأما المنافع
الدنيوية كالمأكل
والمشارب والأموال، فإن الانسان إذا فاته شئ منها قدر على ارتجاعه بعينه، إن كانت
عينه باقية، وما لا تبقى عينه يقدر على اكتساب مثله، والرزق وإن كان مضمونا من الله
إلا إن للحركة فيه نصيبا، أما أن يكون شرطا أو أن يكون هو بذاته من أثر قدرة
الانسان، كحركته واعتماده وسائر أفعاله، ويكون الامر بالتوكل والنهى عن الاجتهاد في
طلب الرزق على هذا القول، إنما هو نهى عن الحرص والجشع والتهالك في الطلب،
فإن ذلك قبيح يدل على دناءة الهمة وسقوطها.
ثم هذه الأغراض الدنيوية إذا حصلت أمثالها بعد ذهابها قامت مقام الذاهب، لان
الامر الذي يراد الذاهب له يمكن حصوله بهذا المكتسب، وليس كذلك الزمان الذاهب
من العمر، لان العبادات والأعمال التي كان أمس متعينا لها، لا يمكن حصولها اليوم، على
حد حصولها أمس، فافترق البابان: باب الأعمال، وباب الأرزاق.
وقوله: " الرجاء مع الجائي، واليأس مع الماضي "، كلام يجرى مجرى المثل، وهو
تأكيد للمعنى الأول، وجعل الجائي مرجوا لأنه لا يعلم غيبه، قال الشاعر:
ما مضى فات والمقدر غيب ولك الساعة التي أنت فيها
وقوله: " حق تقاته " أي حق تقيته، أي خوفه، اتقى يتقى تقية وتقاة، ووزنها
" فعلة " وأصلها الياء، ومثلها أتخم تخمة، واتهم تهمة.
261

(114) ومن خطبة له عليه السلام في الاستسقاء:
الأصل:
اللهم قد انصاحت جبالنا، واغبرت أرضنا، وهامت دوابنا، وتحيرت في مرابضها،
وعجت عجيج الثكالى على أولادها، وملت التردد في مراتعها، والحنين إلى مواردها!
اللهم فارحم أنين الآنة، وحنين الحانة!
اللهم فارحم حيرتها في مذاهبها، وأنينها في موالجها!
اللهم خرجنا إليك حين اعتكرت علينا حدابير السنين، وأخلفتنا مخايل
الجود، فكنت الرجاء للمبتئس، والبلاغ للملتمس.
ندعوك حين قنط الأنام، ومنع الغمام، وهلك السوام، ألا تؤاخذنا بأعمالنا،
ولا تأخذنا بذنوبنا، وانشر علينا رحمتك بالسحاب المنبعق، والربيع المغدق،
والنبات المونق، سحا وابلا، تحيى به ما قد مات، وترد به ما قد فات.
اللهم سقيا منك محيية مروية، تامة عامة، طيبة مباركة، هنيئة مريئة مريعة،
زاكيا نبتها، ثامرا فرعها، ناضرا ورقها، تنعش بها الضعيف من عبادك، وتحيى بها
الميت من بلادك!
اللهم سقيا منك تعشب بها نجادنا، وتجري بها وهادنا، ويخصب بها جنابنا،
وتقبل بها ثمارنا، وتعيش بها مواشينا، وتندى بها أقاصينا، وتستعين بها ضواحينا،
من بركاتك الواسعة، وعطاياك الجزيلة، على بريتك المرملة، ووحشك المهملة. وأنزل
علينا سماء مخضلة، مدرارا هاطلة، يدافع الودق منها الودق، ويحفز القطر منها
262

القطر، غير خلب برقها، ولا جهام عارضها، ولا قزع ربابها، ولا شفان ذهابها،
حتى يخصب لامراعها المجدبون، ويحيا ببركتها المسنتون، فإنك تنزل الغيث
من بعد ما قنطوا، وتنشر رحمتك وأنت الولي الحميد.
* * *
قال الشريف الرضى رحمه الله تعالى:
قوله عليه السلام: " انصاحت جبالنا "، أي تشققت من المحول، يقال: انصاح
الثوب، إذا انشق. ويقال أيضا: انصاح النبت، وصاح وصوح، إذا جف ويبس،
كله بمعنى.
وقوله: " وهامت دوابنا " أي عطشت، والهيام: العطش.
وقوله: " حدابير السنين "، جمع حدبار، وهي الناقة التي أنضاها السير، فشبه
بها السنة التي فشا فيها الجدب، قال ذو الرمة:
حدابير ما تنفك إلا مناخة * على الخسف أو نرمي بها بلدا قفرا (1)
وقوله: " ولا قزع ربابها "، القزع: القطع الصغار المتفرقة من السحاب.
وقوله: " ولا شفان ذهابها " فإن تقديره: " ولا ذات شفان ذهابها "، والشفان
الريح الباردة، والذهاب: الأمطار اللينة، فحذف " ذات " لعلم السامع به.
* * *

(1) ديوانه 173، وروايته: " حراجيج ما تنفك ".
263

الشرح:
يجوز أن يريد بقوله: " وهامت دوابنا " معنى غير ما فسره الشريف الرضى رحمه
الله به، وهو ندودها وذهابها على وجوهها لشدة المحل، يقول: هام على وجهه، يهيم
هيما وهيمانا.
والمرابض: مبارك الغنم، وهي لها كالمواطن للإبل، واحدها مربض، بكسر الباء
مثل مجلس، وعجت: صرخت. ويحتمل الضمير في " أولادها " أن يرجع إلى الثكالى،
أي كعجيج الثكالى على أولادهن، ويحتمل أن يرجع إلى الدواب، أي وعجت على
أولادها كعجيج الثكالى، وإنما وصفها بالتحير في مرابضها، لأنها لشدة المحل تتحير
في مباركها، ولا تدرى ما ذا تصنع، إن نهضت لترعى لم تجد رعيا، وإن أقامت كانت
إلى انقطاع المادة أقرب!
قوله: " وملت التردد في مراتعها، والحنين إلى مواردها "، وذلك لأنها أكثرت
من التردد في الأماكن التي كانت تعهد مراتعها فيها فلم تجد مرتعا، فملت الترداد إليها،
وكذلك ملت الحنين إلى الغدران والموارد التي كانت تعتادها للشرب، فإنها حنت إليها
لما فقدتها، حتى ضجرت ويئست فملت مما لا فائدة لها فيه.
والآنة والحانة: الشاه والناقة، ويقال: ماله حانة ولا آنة. وأصل الأنين صوت
المريض وشكواه من الوصب، يقال: أن يئن أنينا وأنانا وتأنانا.
والموالج: المداخل، وإنما ابتدأ عليه السلام بذكر الانعام وما أصابها من الجدب
اقتفاء بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله، ولعادة العرب، أما سنة رسول الله صلى الله
عليه وآله فإنه قال: " لولا البهائم الرتع، والصبيان الرضع، والشيوخ الركع، لصب
264

عليكم العذاب صبا "، وقد ذهب كثير من الفقهاء إلى استحباب إخراج البهائم في صلاة
الاستسقاء. وتقدير دعائه عليه السلام: اللهم إن كنت حرمتنا الغيث لسوء أعمالنا،
فارحم هذه الحيوانات التي لا ذنب لها ولا تؤاخذها بذنوبنا. وأما عادة العرب فإنهم كانوا
إذا أصابهم المحل استسقوا بالبهائم، ودعوا الله بها واسترحموه لها، ومنهم من كان يجعل
في أذناب البقر السلع والعشر (1)، ويصعد بها في الجبال والتلاع العالية، وكانوا يسقون
بذلك، وقال الشاعر:
أجاعل أنت بيقورا مسلعة * ذريعة لك بين الله والمطر (2)
فاعتكرت: ردف بعضها بعضا، وأصل عكر عطف. والعكرة. الكرة، وفي
الحديث: قال له قوم: يا رسول الله، نحن الفرارون. فقال: " بل أنتم العكارون إن
شاء الله (3).
والبيت الذي ذكره الرضى رحمه الله لذي الرمة، لا أعرفه إلا " حراجيج "، وهكذا
رأيته بخط ابن الخشاب رحمه الله، والحرجوج: الناقة الضامرة في طول.
وفيه مسألة نحوية، وهي أنه كيف نقض النفي من ما " تنفك " وهو غير جائز،
كما لا يجوز ما زال زيد إلا قائما؟ وجوابها أن تنفك هاهنا تامة، أي ما تنفصل، ومناخة
منصوب على الحال.
قوله: " وأخلفتنا مخايل الجود "، أي كلما شمنا برقا، واختلنا سحابا، أخلفنا ولم يمطر.
والجود: المطر الغزير. ويروى: " مخايل الجود " بالضم.

(1) السلع: نبات، وقيل شجر مر. والعشر: شجر من العضاه، وله صمغ حلو.
(2) اللسان 10: 25، ونسبه إلى الورك الطائي.
(3) النهاية لابن الأثير 3: 120، قال في شرحه: " أي الكرارون إلى الحرب، والعطافون نحوها،
يقال للرجل الذي يولى عن الحرب ثم يكر راجعا إليها: عكر واعتكر ".
265

والمبتئس: ذو البؤس. والبلاغ للملتمس، أي الكفاية للطالب. وتقول: قنط فلان،
بالفتح، يقنط ويقنط، بالسكر والضم، فهو قانط. وفيه لغة أخرى قنط بالكسر،
يقنط قنطا، مثل تعب يتعب تعبا، وقناطة أيضا، فهو قنط. وقرئ: (ولا تكن من
القنطين) (1).
وإنما قال: " ومنع الغمام "، فبنى الفعل للمفعول به، لأنه كره أن يضيف المنع إلى الله
تعالى، وهو منبع النعم، فاقتضى حسن الأدب أنه لم يسم الفاعل. وروى " منع الغمام "،
أي ومنع الغمام القطر، فحذف المفعول. والسوام: المال الراعي.
فإن قلت: ما الفرق بين " تؤاخذنا " وبين " تأخذنا "؟
قلت: المؤاخذة دون الاخذ، لان الاخذ الاستئصال، والمؤاخذة عقوبة
وإن قلت.
والسحاب المنبعق: المتبعج بالمطر، ومثله المتبعق، ومثله البعاق. والربيع المغدق:
الكثير. والنبات المونق: المعجب.
وانتصب " سحا " على المصدر. والوابل: المطر الشديد.
ثم قال: " تحيى به ما قد مات "، أي يكاد يتلف بها من الزرع. وترد به ما قد فات،
أي يستدرك به الناس ما فاتهم من الزرع والحرث.
والسقيا مؤنثة، وهي الاسم من سقى. والمريعة: الخصيبة.
و " ثامرا فرعها ": ذو ثمر، كما قالوا: لابن وتامر، ذو لبن وتمر.
وتنعش: ترفع. والنجاد: جمع نجد، وهو ما ارتفع من الأرض. والوهاد: جمع وهد،
وهو المطمئن منها، وروى: " نجادنا " بالنصب على أنه مفعول.

(1) سورة الحجر 55
266

قوله: " وتندى بها أقاصينا "، أي الأباعد منا. ويندى بها: ينتفع، نديت بكذا،
أي انتفعت.
والضواحي: النواحي القريبة من المدينة العظمى. والمرملة: الفقيرة، أرمل افتقر
ونفد زاده. ووحشك المهملة: التي لا راعى لها ولا صاحب ولا مشفق.
وسماء مخضلة: تخضل النبت أي تبله، وروى " مخضلة " أي ذات نبات وزروع
مخضلة، يقال: اخضل النبت اخضلالا، أي ابتل، وإنما أنث السماء وهو المطر وهو
مذكر، لأنه أراد الأمطار. والودق: المطر. ويحفز: يدفع بشدة، وإذا دفع القطر القطر،
كان أعظم وأغزر له.
وبرق خلب: لا مطر معه، وسحاب جهام: لا ماء فيه. والمجدبون: أهل الجدب.
والمسنتون: الذين أصابتهم السنة وهي المحل والقحط الشديد.
* * *
[صلاة الاستسقاء وآدابها]
واعلم أن صلاة الاستسقاء عند أكثر الفقهاء سنة.
وقال أبو حنيفة: لا صلاة للاستسقاء. قال أصحابه: يعنى ليست سنة في جماعة، وإنما
يجوز أن يصلى الناس وحدانا، قالوا: وإنما الاستسقاء هو الدعاء والاستغفار.
وقال باقي الفقهاء كالشافعي وأبى يوسف ومحمد وغيرهم بخلاف ذلك. قالوا: وقد روى
أن رسول الله صلى الله عليه وآله صلى بالناس جماعة في الاستسقاء، فصلى ركعتين، جهر بالقراءة
فيهما وحول رداءه ورفع يديه واستسقى. قالوا: والسنة أن يكون في المصلى، وإذا
أراد الامام الخروج لذلك وعظ الناس، وأمرهم بالخروج من المظالم والتوبة من المعاصي،
لان ذلك يمنع القطر.
267

قالوا: وقد روى عن عبد الله بن مسعود أنه قال: إذا بخس المكيال حبس القطر.
وقال مجاهد في قوله تعالى: (ويلعنهم اللاعنون) (1)، قال: دواب الأرض تلعنهم،
يقولون: منعنا القطر بخطاياهم.
قالوا: ويأمر الامام الناس بصوم ثلاثة أيام قبل الخروج، ثم يخرج في اليوم الرابع
وهم صيام ويأمرهم بالصدقة، ويستسقي بالصالحين من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه
وآله كما فعل عمر، ويحضر معه أهل الصلاح والخير، ويستسقي بالشيوخ والصبيان.
واختلفوا في إخراج البهائم، فمنهم من استحب ذلك، ومنهم من كرهه. ويكره
إخراج أهل الذمة، فإن حضروا من عند أنفسهم لم يمنعوا. والغسل والسواك في صلاة
الاستسقاء عندهم مسنونان، ولا يستحب فيهما التطيب، لان الحال لا يقتضيه.
وينبغي أن يكون الخروج بتواضع وخشوع وإخبات، كما خرج رسول الله صلى الله
عليه وآله للاستسقاء.
قالوا: ولا يؤذن لهذه الصلاة ولا يقام، وإنما ينادى لها: الصلاة جامعه! وهي ركعتان
كصلاة العيد، يكبر في الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية خمس تكبيرات.
قالوا: ويخطب بعد الصلاة خطبتين، ويكون دعاء الاستسقاء في الخطبة الأولى.
قالوا: فيقول: اللهم اسقنا غيثا مغيثا، هنيئا مريئا مريعا، غدقا مجللا طبقا، سحا دائما.
اللهم اسقنا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين. اللهم إن بالعباد والبلاد من اللاواء والضنك
والجهد ما لا نشكوه إلا إليك. اللهم أنبت لنا الزرع وأدر لنا الضرع، واسقنا من
بركات السماء. اللهم اكشف عنا الجهد والجوع والعرى، واكشف عنا ما لا يكشفه
غيرك. اللهم إنا نستغفرك، إنك كنت غفارا، فأرسل السماء علينا مدرارا.

(1) سورة البقرة 159
268

قالوا: ويستحب أن يستقبل القبلة في أثناء الخطبة الثانية، ويحول رداءه فيجعل ما على
الأيمن على الأيسر، وما على الأيسر على الأيمن تفاؤلا بتحول الحال. وكذا روى أن
رسول الله صلى الله عليه وآله فعل، ويستحب للناس أن يحولوا أرديتهم مثله، ويتركوها
كما هي، ولا يعيدوها إلى حالها الأولى إلا إذا رجعوا إلى منازلهم.
ويستحب أن يدعو في الخطبة الثانية سرا فيجمع بين الجهر والسر، كما قال سبحانه
وتعالى: (إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا (1)) وكقوله تعالى: (واذكر ربك
في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول (2)). قالوا: ويستحب رفع اليد في هذا
الدعاء، وأن يكثروا من الاستغفار، لقوله تعالى: (استغفروا ربكم إنه كان غفارا.
يرسل السماء عليكم مدرارا (3))، فإن صلوا واستسقوا فلم يسقوا عادوا من الغد، وصلوا
واستسقوا، وإن سقوا قبل الصلاة صلوا شكرا وطلبا للزيادة.
قالوا: ويستحب أن يقفوا تحت المطر حتى يصيبهم، وأن يحسروا له عن رؤوسهم،
وقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وآله حسر عن رأسه حتى أصابه مطر الاستسقاء.
ويستحب إذا سال الوادي أن يغتسلوا فيه، ويتوضئوا منه.
وقد استحب قوم من الفقهاء أن يخرج الناس للاستسقاء حفاة حاسرين، والأكثرون
على خلاف ذلك.
فأما مذهب الشيعة في هذه المسألة فأن يستقبل الامام القبلة بعد صلاة الركعتين، فيكبر
الله مائة تكبيرة، ويرفع بها صوته ويكبر من حضر معه، ثم يلتفت عن يمينه فيسبح الله
مائة تسبيحة، يرفع بها صوته، ويسبح معه من حضر، ثم يلتفت عن يساره فيهلل الله

(1) سورة نوح 9
(2) سورة الأنعام 63
(3) سورة نوح 10، 11
269

مائة مرة، يرفع بها صوته، ويقول من حضر مثل ذلك، ثم يستقبل الناس بوجهه،
فيحمد الله مائة مرة، يرفع بها صوته ويقول معه من حضر مثل ذلك، ثم يخطب بهذه
الخطبة المروية عن أمير المؤمنين عليه السلام في الاستسقاء، فإن لم يتمكن منها اقتصر
على الدعاء.
[أخبار وأحاديث في الاستسقاء]
وجاء في الأخبار الصحيحة رؤيا رقيقة في الجاهلية، وهي رقيقة بنت أبي صيفي
ابن هاشم بن عبد مناف (1)، قالت رقيقة: تتابعت على قريش سنون أقحلت (2)
الضرع وأرقت العظم، فبينا أنا راقدة (3) اللهم أو مهومة (4) [ومعي صنوي] (5)،
إذا أنا بهاتف صيت (6) يصرخ بصوت صحل (7): يا معشر قريش! إن هذا
النبي المبعوث فيكم قد أظلتكم أيامه، وهذا إبان نجومه (8)، فحيهلا (9) بالخصب
والحيا (10). ألا فانظروا رجلا منكم عظاما جساما (11)، أبيض بضا، أوطف الأهداب (12)،

(1) وكانت لدة عبد المطلب بن هاشم.
(2) أقحلت، من قحل قحولا، وقحل قحلا إذا يبس.
(3) الرقود: النوم بالليل المستحكم الممتد، ومنه قولهم: طريق مرقد، إذا كانت بينا ممتدا.
(4) هوموا وتهوموا، إذا هزوا هامهم من النعاس.
(5) من الفائق.
(6) الصيت: فيعل، من صات يصوت ويصات كالميت من مات، ويقال في معناه: صائت وصات
ومصوات.
(7) الصحل: الذي في صوته ما يذهب بجدته، وهو مستلذ في السمع.
(8) إبان نجومه: وقت ظهوره، وهو فعلان من أب الشئ إذا تهيأ.
(9) فحيهلا، بألف مزيدة، ويجوز التنوين والتنكير، أي عجل.
(10) الحيا: المطر، لأنه حياة الأرض.
(11) الفائق: " طوالا ".
(12) أوطف الأهداب: طويلها.
270

سهل الخدين، أشم العرنين، له سنة (1) تهدى إليه. ألا فليخلص (2) هو وولده،
وليدلف إليه من كل بطن رجل، ألا فليشنوا (3) عليهم من الماء، وليمسوا من الطيب،
وليطوفوا بالبيت سبعا، وليكن فيهم الطيب الطاهر [لداته] (4) فليستق الرجل،
وليؤمن القوم. ألا فغثتم إذا ما شئتم.
قالت: فأصبحت - علم الله - مذعورة قد (6) قف جلدي، ووله عقلي، فاقتصصت
رؤياي على الناس، فذهبت في شعاب مكة، فوالحرمة والحرم، إن بقي أبطحي إلا
وقال: هذا شيبة الحمد (7).
فتتامت (8) رجال قريش، وانقض إليه من كل بطن رجل، فشنوا عليهم ماء،
ومسوا طيبا، واستلموا واطوفوا، ثم ارتقوا أبا قبيس، وطفق القوم يدفون حول (9)
عبد المطلب، ما إن يدرك سعيهم مهله (10)، حتى استقروا بذروة الجبل،
واستكفوا (11) جانبيه.
فقام فاعتضد ابن ابنه محمدا صلى الله عليه وآله، فرفعه على عاتقه، وهو يومئذ غلام

(1) الفائق: له فخر.
(2) فليخلص: فليتميز هو وولده من الناس.
(3) شن الماء: صبه على رأسه.
(4) زيادة من الفائق، قال في شرحه: يعنى أن مولده ومولد من مضى من آبائه كلها موصوف بالطهر
والزكاء، أو يراد أترابه، وذكر الأتراب أسلوب من أساليبهم في تثبيت الصفة وتمكينها.
(5) غثتم: مطرتم.
(6) قف شعري: تقبض.
(7) قال الزمخشري: اسم عبد المطلب عامر، وإنما قيل له شيبة الحمد لشيبة كانت في رأسه،
وعبد المطلب، لان هاشما تزوج سلمى بنت زيد النجارية، فولدته، فلما توفى هاشم وشب الغلام انتزعه
المطلب عمه من أمه، وأردفه على راحلته، وقدم به مكة. فقال الناس: أردف المطلب عبده.
(8) التتام: التوافر.
(9) الدفيف: المر السريع.
(10) المهل، بالاسكان: التؤدة، أي لا يدرك إسراعهم إبطاءه.
(11) استكفوا: أحدقوا، من الكفة وهي ما استدار.
271

قد أيقع أو كرب (1)، ثم قال: اللهم ساد الخلة وكاشف الكربة، أنت عالم غير معلم،
ومسئول غير مبخل، وهذه عبداؤك (2) وإماؤك بعذارات (3) حرمك، يشكو إليك سنتهم
التي أذهبت الخف والظلف، فاسمعن اللهم، وأمطرن علينا غيثا مغدقا مريعا سحا طبقا دراكا.
قالت: فورب الكعبة ما راموا حتى انفجرت السماء بمائها واكتظ الوادي ثجثجه (4)
وانصرف الناس يقولون لعبد المطلب: هنيئا لك سيد البطحاء!
وفي رواية أبى عبيدة معمر بن المثنى قال: فسمعنا شيخان (5) قريش وجلتها: عبد الله
بن جدعان وحرب بن أمية وهشام بن المغيرة، يقولون لعبد المطلب: هنيئا لك،
أبا البطحاء (6)!
وفي ذلك قال شاعر من قريش وقد روى هذا الشعر لرقيقة:
بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنا * وقد فقدنا الحيا واجلوذ المطر (7)
فجاد بالماء وسمى له سبل * سحا، فعاشت به الانعام والشجر (8)
* * *
وفي الحديث من رواية أنس بن مالك: أصاب أهل المدينة قحط على عهد رسول
الله صلى الله عليه وآله، فقام إليه رجل وهو يخطب يوم جمعة، فقال: يا رسول الله، هلك
الشاء، هلك الزرع (9)، ادع الله لنا أن يسقينا، فمد عليه السلام يده ودعا واستسقى،

(1) كرب، أي قرب من الإيفاع.
(2) العبداء والعبدي: العبيد.
(3) العذرات: جمع العذرة، وهي الفناء
(4) الثجيج: المثجوج، أي المصبوب.
(5) الشيخان: جمع شيخ، كالضيفان في جمع ضيف.
(6) الخبر في الفائق بشرح 2: 214 - 317
(7) اجلوذ المطر، أي امتد وقت تأخره وانقطاعه.
(8) سبل، أي مطر جود هاطل.
(9) سنن أبي داود: " هلك الكراع، هلك الشاء ".
272

وإن السماء كمثل الزجاجة، فهاجت ريح ثم أنشأت سحابا، ثم اجتمع، ثم أرسلت
عزاليها (1)، فخرجنا نخوض الماء حتى أتينا منازلنا، ودام القطر، فقام إليه الرجل في
اليوم الثالث: فقال: يا رسول الله، تهدمت البيوت، ادع الله أن يحبسه عنا. فتبسم
رسول الله صلى الله عليه وآله، ثم رفع يده: وقال: " اللهم حوالينا ولا علينا ".
قال أنس: فوالذي بعث محمدا بالحق، لقد نظرت إلى السحاب، وإنه لقد انجاب
حول المدينة كالإكليل (2).
* * *
وفي حديث عائشة أنه عليه السلام استسقى حين بدأ قرن الشمس، فقعد على المنبر،
وحمد الله وكبره، ثم قال: إنكم شكوتم جدب دياركم، وقد أمركم الله أن تدعوه،
ووعدكم أن يستجيب لكم فادعوه. ثم رفع صوته فقال: " اللهم إنك أنت الغنى، ونحن
الفقراء، فأنزل علينا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين. اللهم اجعل ما تنزله علينا قوة لنا،
وبلاغا إلى حين، برحمتك يا أرحم الراحمين ". فأنشأ الله سحابا، فرعدت وبرقت، ثم
أمطرت، فلم يأت عليه السلام منزله، حتى سالت السيول، فلما رأى سرعتهم إلى الكن
ضحك حتى بدت نواجذه، وقال: أشهد أنى عبد الله ورسوله، وأن الله على كل شئ قدير (3).
* * *
ومن دعائه عليه السلام في الاستسقاء، وقد رواه الفقهاء وغيرهم: " اللهم اسقنا وأغثنا،
اللهم اسقنا غيثا مغيثا وحيا ربيعا، [وجدا] (4) طبقا، غدقا مغدقا (5)، مونقا (6)، عاما،

(1) العزالى في الأصل: جمع عزلاء، وهو مصب الماء من الراوية، ويريد شدة وقع المطر، على
التشبيه.
(2) الحديث في سنن أبي داود 1: 416، مع اختلاف في الرواية.
(3) الحديث في سنن أبي داود 1: 416، مع اختلاف الرواية أيضا.
(4) من الفائق، والجدا: والطبق مثله.
(5) المغدق: الكثير المطر.
(6) مونقا: معجبا.
273

هنيئا مريئا، مريعا مربعا (1) مرتعا (2) وابلا سابلا (3) مسيلا، مجللا (4)، درا، نافعا
غير ضار، عاجلا غير رائث (5). غيثا اللهم تحيى به العباد، وتغيث به البلاد، وتجعله
بلاغا للحاضر منا والباد، اللهم أنزل علينا في أرضنا زينتها، وأنزل علينا في أرضنا سكنها.
اللهم أنزل علينا ماء طهورا، فأحيى به بلدة ميتا، واسقه مما خلقت لنا أنعاما وأناسي
كثيرا " (6).
* * *
وروى عبد الله بن مسعود أن عمر بن الخطاب خرج يستسقى بالعباس، فقال: اللهم
إنا نتقرب إليك بعم نبيك وقفية (7) آبائه وكبر (8) رجاله، فإنك قلت، وقولك الحق:
(وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة...) الآية، فحفظتهما لصلاح أبيهما،
فاحفظ اللهم نبيك في عمه فقد دلونا به إليك مستشفعين ومستغفرين. ثم أقبل على
الناس، فقال: استغفروا ربكم إنه كان غفارا.
قال ابن مسعود: رأيت العباس يومئذ وقد طال عمر، وعيناه تنضحان، وسبائبه
تجول على صدره، وهو يقول: اللهم أنت الراعي فلا تهمل الضالة، ولا تدع الكسير بدار
مضيعة فقد ضرع الصغير، ورق الكبير، وارتفعت الشكوى، وأنت تعلم السر
وأخفى. اللهم أغثهم بغياثك من قبل أن يقنطوا فيهلكوا، إنه لا ييأس من رحمة الله
إلا القوم الكافرون (9).

(1) المريع: ذو المراعة، وهي الخصب. والمربع: الذي يربعهم عن الارتياد، من ربعت بالمكان
وأربعني.
(2) المرتع: المنبت ما يرتع فيه.
(3) السابل، من قولهم: سبل سابل، أي مطر ماطر.
(4) المجلل: الذي يجلل الأرض بمائه أو بنباته.
(5) الرائث: البطئ.
(6) الفائق للزمخشري 1: 317، 318
(7) قفية آبائه: تلوهم وتابعهم
(8) كبر قومه: أقعدهم في النسب.
(9) الخبر في الفائق 2: 366.
274

قال: فنشأت طريرة (1) من سحاب، وقال الناس: ترون ترون! ثم تلاءمت واستتمت
ومشت فيها ريح، ثم هدت (2) ودرت، فوالله ما برحوا حتى اعتلقوا الأحذية، وقلصوا
المآزر، وطفق الناس يلوذون بالعباس، يمسحون أركانه، ويقولون: هنيئا لك ساقى
الحرمين (3)!

(1) الطريرة: تصغير طرة، وهي القطعة المستطيلة من السحاب، شبهت بطرة الثوب.
(2) هدت من الهدة، وهي صوت ما يقع من السماء
(3) قال الزمخشري: " سمى ساقى الحرمين بهذه السقيا.
275

(115) الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام:
أرسله داعيا إلى الحق، وشاهدا على الخلق، فبلغ رسالات ربه، غير وان
ولا مقصر، وجاهد في الله أعداءه، غير واهن ولا معذر، إمام من اتقى، وبصر
من اهتدى.
* * *
الشرح:
قوله: " وشاهدا على الخلق "، أي يشهد على القوم الذين بعث إليهم، وشهد لهم، فيشهد
على العاصي بالعصيان والخلاف، ويشهد للمطيع بالإطاعة والاسلام، وهذا من قوله سبحانه
وتعالى: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) (1).
ومن قوله تعالى: (وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم) (2).
فإن قلت: إذا كان الله تعالى عالما بكل شئ، ومالكا لكل أحد، فأي حاجة
إلى الشهادة؟
قلت: ليس بمنكر أن يكون في ذلك مصلحة للمكلفين في أديانهم، من حيث إنه
قد تقرر في عقول الناس، أن من يقوم عليه شاهد بأمر منكر قد فعله، فإنه يخزي

(1) سورة النساء 41
(2) سورة المائدة 117
276

ويخجل وتنقطع حجته، فإذا طرق أسماعهم أن الأنبياء تشهد عليهم، والملائكة الحافظين
تكتب أعمالهم، كانوا عن مواقعة القبيح أبعد.
والواني: الفاتر الكال. والواهن: الضعيف.
والمعذر: الذي يعتذر عن تقصيره بغير عذر، قال تعالى: (وجاء المعذرون من
الاعراب) (1).
* * *
الأصل:
منها:
ولو تعلمون ما أعلم مما طوى عنكم غيبه، إذا لخرجتم إلى الصعدات،
تبكون على أعمالكم، وتلتدمون على أنفسكم، ولتركتم أموالكم لا حارس
لها، ولا خالف عليها، ولهمت كل امرئ منكم نفسه، لا يلتفت إلى غيرها،
ولكنكم نسيتم ما ذكرتم، وأمنتم ما حذرتم، فتاه عنكم رأيكم، وتشتت
عليكم أمركم.
ولوددت أن الله فرق بيني وبينكم، وألحقني بمن هو أحق بي منكم،
قوم والله ميامين الرأي، مراجيح الحلم، مقاويل بالحق، متاريك للبغي، مضوا
قدما على الطريقة، وأوجفوا على المحجة، فظفروا بالعقبى الدائمة والكرامة
الباردة.
أما والله ليسلطن عليكم غلام ثقيف الذيال الميال، يأكل خضرتكم،
ويذيب شحمتكم. إيه أبا وذحة!

(1) سورة التوبة 90
277

قال الرضى رحمه الله تعالى:
الوذحة: الخنفساء، وهذا القول يومئ به إلى الحجاج، وله مع الوذحة حديث
ليس هذا موضع ذكره.
* * *
الشرح:
الصعيد: التراب، ويقال وجه الأرض، والجمع صعد وصعدات، كطريق وطرق
وطرقات. والالتدام: ضرب النساء صدورهن في النياحة. ولا خالف عليها: لا مستخلف.
قوله: " ولهمت كل امرئ منكم نفسه "، أي أذابته وأنحلته، هممت الشحم،
أي أذبته. ويروى: " ولأهمت كل امرئ "، وهو أصح من الرواية الأولى، أهمنى
الامر، أي أحزنني.
وتاه عن فلان رأيه، أي عزب وضل.
ثم ذكر أنه يود ويتمنى أن يفرق الله بينه وبينهم، ويلحقه بالنبي صلى الله عليه وآله
وبالصالحين من أصحابه، كحمزة وجعفر عليهما السلام وأمثالهما، ممن كان أمير المؤمنين يثنى
عليه. ويحمد طريقته من الصحابة. فمضوا قدما، أي متقدمين غير معرجين ولا معردين (1).
وأوجفوا: أسرعوا. ويقال: غنيمة باردة وكرامة باردة، أي لم تؤخذ بحرب ولا عسف،
وذلك لان المكتسب بالحرب جار في المعنى لما يلاقى ويعاني في حصوله من المشقة.
وغلام ثقيف المشار إليه، هو الحجاج بن يوسف. والذيال: التائه، وأصله من " ذال "
أي تبختر، وجر ذيله على الأرض. والميال: الظالم.
ويأكل خضرتكم: يستأصل أموالكم. ويذيب شحمتكم مثله، وكلتا
اللفظتين استعارة.

(1) يقال: عرد الرجل عن قرنه، إذا أحجم ونكل.
278

ثم قال له كالمخاطب لانسان حاضر بين يديه: " إيه أبا وذحة "، إيه: كلمة يستزاد بها
من الفعل، تقديره: زد وهات أيضا ما عندك، وضدها إيها، أي كف وأمسك.
قال الرضى رحمه الله: والوذحة الخنفساء، ولم أسمع هذا من شيخ من أهل الأدب،
ولا وجدته في كتاب من كتب اللغة، ولا أدرى من أين نقل الرضى رحمه الله ذلك!
ثم إن المفسرين بعد الرضى رحمه الله قالوا في قصة هذه الخنفساء وجوها:
منها أن الحجاج رأى خنفساء تدب إلى مصلاه، فطردها فعادت، ثم طردها فعادت،
فأخذها بيده، وحذف بها، فقرصته قرصا ورمت يده منها ورما كان فيه حتفه، قالوا:
وذلك لان الله تعالى قتله بأهون مخلوقاته، كما قتل نمرود بن كنعان بالبقة التي دخلت
في أنفه، فكان فيها هلاكه.
ومنها أن الحجاج كان إذا رأى خنفساء تدب قريبة منه، يأمر غلمانه بإبعادها،
ويقول: هذه وذحة من وذح الشيطان، تشبيها لها بالبعرة، قالوا: وكان مغرى بهذا القول،
والوذح: ما يتعلق بأذناب الشاة من أبعارها فيجف.
ومنها أن الحجاج قال وقد رأى خنفساوات مجتمعات: وا عجبا لمن يقول إن الله خلق
هذه! قيل: فمن خلقها أيها الأمير؟ قال: الشيطان، إن ربكم لأعظم شأنا أن يخلق هذه
الوذح! قالوا: فجمعها على " فعل " كبدنة وبدن، فنقل قوله هذا إلى الفقهاء في
عصره، فأكفروه.
ومنها أن الحجاج كان مثفارا (1)، وكان يمسك الخنفساء حية ليشفي بحركتها في
الموضع حكاكه. قالوا: ولا يكون صاحب هذا الداء إلا شائنا مبغضا لأهل البيت. قالوا:
ولسنا نقول كل مبغض فيه هذا الداء، وإنما قلنا: كل من فيه هذا الداء فهو مبغض.
قالوا: وقد روى أبو عمر الزاهد - ولم يكن من رجال الشيعة - في أماليه وأحاديثه عن السياري

(1) رجل مثفار: نعت سوء.
279

عن أبي خزيمة الكاتب، قال: ما فتشنا أحدا فيه هذا الداء إلا وجدناه ناصبيا.
قال أبو عمر: وأخبرني العطافي عن رجاله، قالوا:
سئل جعفر بن محمد عليه السلام عن هذا الصنف من الناس، فقال رحم منكوسة
يؤتى ولا يأتي، وما كانت هذه الخصلة في ولى لله تعالى قط، ولا تكون أبدا، وإنما
تكون في الكفار والفساق والناصب للطاهرين.
وكان أبو جهل عمرو بن هشام المخزومي من القوم، وكان أشد الناس عداوة
لرسول الله صل عليه وآله، قالوا: ولذلك قال له عتبة بن ربيعة يوم بدر:
يا مصفر استه.
فهذا مجموع ما ذكره المفسرون، وما سمعته من أفواه الناس في هذا الموضع، ويغلب
على ظني أنه أراد معنى آخر، وذلك أن عادة العرب أن تكنى الانسان إذا أرادت
تعظيمه بما هو مظنة التعظيم، كقولهم: أبو الهول، وأبو المقدام، وأبو المغوار، فإذا أرادت
تحقيره والغض منه كنته بما يستحقر ويستهان به، كقولهم في كنية يزيد بن معاوية: أبو زنة،
يعنون القرد، وكقولهم في كنية سعيد بن حفص البخاري المحدث: أبو الفار، وكقولهم
للطفيلي: أبو لقمة، وكقولهم لعبد الملك: أبو الذبان لبخره، وكقول ابن بسام
لبعض الرؤساء:
فأنت لعمري أبو جعفر * ولكننا نحذف الفاء منه
وقال أيضا:
لئيم درن الثوب * نظيف القعب والقدر
أبو النتن، أبو الدفر * أبو البعر أبو الجعر
فلما كان أمير المؤمنين عليه السلام يعلم من حال الحجاج نجاسته بالمعاصي والذنوب،
280

التي لو شوهدت بالبصر لكانت بمنزلة البعر الملتصق بشعر الشاء، كناه " أبو
وذحة ".
ويمكن أيضا أن يكنيه بذلك لدمامته في نفسه، وحقارة منظره، وتشويه خلقته، فإنه
كان قصيرا دميما نحيفا، أخفش العينين معوج الساقين، قصير الساعدين، مجدور الوجه،
أصلع الرأس، فكناه بأحقر الأشياء، وهو البعرة.
وقد روى قوم هذه اللفظة بصيغة أخرى، فقالوا: " إيه أبا ودجة "، قالوا: واحدة
الأوداج، كناه بذلك لأنه كان قتالا يقطع الأوداج بالسيف، ورواه قوم " أبا وحرة "،
وهي دويبة تشبه الحرباء قصيرة الظهر، شبهه بها.
وهذا وما قبله ضعيف، وما ذكرناه نحن أقرب إلى الصواب.
281

(116) الأصل:
ومن كلام له عليه السلام:
فلا أموال بذلتموها للذي رزقها، ولا أنفس خاطرتم بها للذي خلقها،
تكرمون بالله على عباده، ولا تكرمون الله في عباده!
فاعتبروا بنزولكم منازل من كان قبلكم، وانقطاعكم عن أوصل إخوانكم!
* * *
الشرح:
انتصاب " الأموال " بفعل مقدر دل عليه " بذلتموها " وكذلك " أنفس "، يقول:
لم تبذلوا أموالكم في رضا من رزقكم إياها، ولم تخاطروا بأنفسكم في رضا الخالق لها،
والأولى بكم أن تبذلوا المال في رضا رازقه، والنفس في رضا خالقها، لأنه ليس أحد
أحق منه بالمال والنفس وبذلهما في رضاه.
ثم قال: من العجب أنكم تطلبون من عباد الله أن يكرموكم ويطيعوكم لأجل الله،
وانتمائكم إلى طاعته، ثم إنكم لا تكرمون الله ولا تطيعونه في نفع عباده،
والاحسان إليهم.
ومحصول هذا القول: كيف تسيمون الناس أن يطيعوكم لأجل الله، ثم إنكم أنتم
لا تطيعون الله، الذي تكلفون الناس أن يطيعوكم لأجله!
ثم أمرهم باعتبارهم بنزولهم منازل من كان قبلهم، وهذا مأخوذ من قوله
282

تعالى: (وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم
وضربنا لكم الأمثال) (1).
وروى عن " أصل إخوانكم " وذلك بموت الأب، فإنه ينقطع أصل الأخ الواشج
بينه وبين أخيه، والرواية الأولى أظهر.

(1) سورة إبراهيم 45
283

(117) الأصل:
ومن كلام له عليه السلام:
أنتم الأنصار على الحق، والاخوان في الدين، والجنن يوم البأس، والبطانة
دون الناس، بكم أضرب المدبر، وأرجو طاعة المقبل، فأعينوني بمناصحة خلية
من الغش، سليمة من الريب، فوالله إني لأولى الناس بالناس!
* * *
الشرح:
الجنن: جمع جنة، وهي ما يستر به. وبطانة الرجل: خواصه وخالصته الذين
لا يطوى عنهم سره.
فإن قلت: أما ضربه بهم المدبر فمعلوم، يعنى الحرب، فما معنى قوله عليه السلام:
" وأرجو طاعة المقبل "؟
قلت: لان من ينضوي إليه من المخالفين إذا رأى ما عليه شيعته وبطانته من
الأخلاق الحميدة، والسيرة الحسنة، أطاعه بقلبه باطنا، بعد أن كان انضوى
إليه ظاهرا.
واعلم أن هذا الكلام قاله أمير المؤمنين عليه السلام للأنصار بعد فراغه من حرب
الجمل، وقد ذكره المدائني والواقدي في كتابيهما (1).

(1) كتاب الجمل للمدائني، ذكره ابن النديم في الفهرست 10، وكتاب الجمل للواقدي ذكره أيضا
ابن النديم في ص 99.
284

(118) الأصل:
ومن كلام له عليه السلام وقد جمع الناس، وحضهم على الجهاد، فسكتوا مليا، فقال عليه
السلام: ما بالكم! أمخرسون أنتم؟ فقال قوم منهم: يا أمير المؤمنين، إن سرت سرنا معك.
فقال عليه السلام:
ما بالكم، لا سددتم لرشد! ولا هديتم لقصد أفي مثل هذا ينبغي لي أن أخرج!
وإنما يخرج في مثل هذا رجل ممن أرضاه من شجعانكم، وذوي بأسكم، ولا ينبغي
لي أن أدع الجند والمصر وبيت المال وجباية الأرض، والقضاء بين المسلمين، والنظر
في حقوق المطالبين، ثم أخرج في كتيبة أتبع أخرى، أتقلقل تقلقل القدح في
الجفير الفارغ.
وإنما أنا قطب الرحى، تدور على وأنا بمكاني، فإذا فارقته استحار مدارها،
واضطرب ثفالها. هذا لعمر الله الرأي السوء، والله لولا رجائي الشهادة عند لقائي
العدو، ولو قد حم لي لقاؤه، لقربت ركابي، ثم شخصت عنكم فلا أطلبكم،
ما اختلف جنوب وشمال، طعانين عيابين، حيادين رواغين.
إنه لا غناء في كثرة عددكم، مع قلة اجتماع قلوبكم، لقد حملتكم على
الطريق الواضح التي لا يهلك عليها إلا هالك.
من استقام فإلى الجنة، ومن زل فإلى النار!
* * *
285

الشرح:
سكتوا مليا، أي ساعة طويلة، ومضى ملي من النار كذلك، قال الله تعالى:
(واهجرني مليا) (1).
وأقمت عند فلان ملاوة، وملاوة، وملاوة من الدهر، بالحركات الثلاث، أي حينا
وبرهة، وكذلك أقمت ملوة وملوة وملوة، بالحركات الثلاث.
وقوله: " أمخرسون أنتم؟ " اسم المفعول من أخرسه الله، وخرس الرجل،
والخرس المصدر.
والكتيبة: قطعة من الجيش. والتقلقل: الحركة في اضطراب. والقدح: السهم.
والجفير: الكنانة، وقيل وعاء للسهام أوسع من الكنانة.
واستحار مدارها: اضطرب، والمدار هاهنا مصدر. والثفال بكسر الثاء: جلد يبسط
وتوضع الرحا فوقه، فيطحن باليد ليسقط عليه الدقيق.
وحم: أي قدر، والركاب: الإبل، وشخصت عنكم: خرجت.
ثم وصفهم بعيب الناس والطعن فيهم، وأنهم يحيدون عن الحق وعن الحرب، أي
ينحرفون ويروغون كما يروغ الثعلب.
ثم قال: إنه لا غناء عندكم وإن اجتمعتم بالأبدان مع تفرق القلوب. والغناء،
بالفتح والمد: النفع.
وانتصب " طعانين " على الحال من الضمير المنصوب في " أطلبكم ".
* * *

(1) سورة مريم 46.
286

وهذا كلام قاله أمير المؤمنين عليه السلام في بعض غارات أهل الشام على أطراف
أعماله بالعراق بعد انقضاء أمر صفين والنهروان، وقد ذكرنا سببه و وقعته فيما تقدم.
فإن قلت: كيف قال: الطريق الواضح، فذكره، ثم قال: " لا يهلك فيها "
فأنثه؟
قلت: لان الطريق يذكر ويؤنث، تقول: الطريق الأعظم والطريق العظمى، فاستعمل
اللغتين معا.
287

(119)
الأصل:
ومن كلام له عليه السلام:
تالله لقد علمت تبليغ الرسالات، وإتمام العدات، وإتمام الكلمات، وعندنا
- أهل البيت - أبواب الحكم، وضياء الامر.
ألا وإن شرائع الدين واحدة، وسبله قاصدة، من أخذ بها لحق وغنم، ومن
وقف عنها ضل وندم.
اعملوا ليوم تذخر له الذخائر، وتبلى فيه السرائر، ومن لا ينفعه حاضر
لبه فعازبه عنه أعجز، وغائبه أعوز.
واتقوا نارا حرها شديد، وقعرها بعيد، وحليتها حديد، وشرابها صديد.
ألا وإن اللسان الصالح يجعله الله تعالى للمرء في الناس، خير له من المال
يورثه من لا يحمده.
* * *
الشرح:
رواها قوم " لقد علمت " بالتخفيف وفتح العين، والرواية الأولى أحسن، فتبليغ
الرسالات تبليغ الشرائع بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله إلى المكلفين، وفيه إشارة إلى
قوله تعالى: (يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله) (1)، وإلى
قول النبي صلى الله عليه وآله في قصة براءة: " لا يؤدى عنى إلا أنا ورجل منى ".

(1) سورة الأحزاب 39.
288

وإتمام العدات: إنجازها، وفيه إشارة إلى قوله تعالى: (من المؤمنين رجال صدقوا
ما عاهدوا الله عليه) (1)، وإلى قول النبي صلى الله عليه وآله في حقه عليه السلام: " قاضى
ديني ومنجز موعدي ".
وتمام الكلمات تأويل القرآن، وفيه إشارة إلى قوله تعالى: (وتمت كلمة ربك
صدقا وعدلا) (2)، وإلى قول النبي في حقه عليه السلام: اللهم اهد
قلبه، وثبت لسانه ".
وخلاصة: هذا أنه أقسم بالله أنه قد علم، أو علم - على اختلاف الروايتين - أداء الشرائع
إلى المكلفين، والحكم بينهم بما أنزله الله، وعلم مواعيد رسول الله التي وعد بها، فمنها ما هو
وعد لواحد من الناس بأمر، نحو أن يقول له: سأعطيك كذا، ومنها ما هو وعد بأمر
يحدث، كإخبار الملاحم والأمور المتجددة، وعلم تمام كلمات الله تعالى، أي تأويلها
وبيانها الذي يتم به، لان في كلامه تعالى المجمل الذي لا يستغنى عن متمم ومبين يوضحه.
ثم كشف الغطاء وأوضح المراد فقال: " وعندنا - أهل البيت. أبواب الحكم "، يعنى
الشرعيات والفتاوى. وضياء الامر يعنى العقليات والعقائد، وهذا مقام عظيم لا يجسر أحد
من المخلوقين يدعيه سواه عليه السلام، ولو أقدم أحد على إدعائه غيره لكذب وكذبه الناس.
و " أهل البيت " منصوب على الاختصاص.
وسبله قاصدة، أي قريبة سهلة، ويقال: بيننا وبين الماء ليلة قاصدة ورافهة، أي
هينة المسير لا تعب ولا بطء.
وتبلى فيه السرائر، أي تختبر.
ثم قال: من لا ينفعه لبه الحاضر وعقله الموجود فهو بعدم الانتفاع بما هو غير حاضر

(1) سورة الأحزاب 23
(2) سورة الأنعام 115
289

ولا موجود من العقل عنده أولى وأحرى، أي من لم يكن له من نفسه ومن ذاته وازع
وزاجر عن القبيح، فبعيد أن ينزجر، وأن يرتدع بعقل غيره وموعظة غيره له كما قيل:
......... وزاجر (1).
ثم ذكر النار فحذر منها. وقوله: " حليتها حديد " يعنى القيود والأغلال.
ثم ذكر أن الذكر الطيب يخلفه الانسان بين الناس خير له من مال يجمعه ويورثه
من لا يحمده، وجاء في الأثر أن أمير المؤمنين عليه السلام جاءه مخبر فأخبره أن مالا له قد
انفجرت فيه عين خرارة، يبشره بذلك، فقال: بشر الوارث، بشر الوارث، يكررها،
ثم وقف ذلك المال على الفقراء، وكتب به كتابا في تلك الساعة.

(1) كذا في الأصول.
290

(120) الأصل:
ومن خطبة له عليه السلام:
وقد قام إليه رجل من أصحابه، فقال: نهيتنا عن الحكومة ثم أمرتنا بها، فما ندر
أي الامرين أرشد. فصفق عليه السلام إحدى يديه على الأخرى، ثم قال:
هذا جزاء من ترك العقدة! أما والله لو أنى حين أمرتكم بما أمرتكم به حملتكم على
المكروه الذي يجعل الله فيه خيرا، فإن استقمتم هديتكم، وإن اعوججتم
قومتكم، وإن أبيتم تداركتكم، لكانت الوثقى، ولكن بمن وإلى من!
أريد أن أداوى بكم وأنتم دائي، كناقش الشوكة بالشوكة، وهو يعلم أن
ضلعها معها!
اللهم قد ملت أطباء هذا الداء الدوي، وكلت النزعة بأشطان الركى!
أين القوم الذين دعوا إلى الاسلام فقبلوه، وقرأوا القرآن فأحكموه،
وهيجوا إلى الجهاد فولهوا وله اللقاح إلى أولادها، وسلبوا السيوف أغمادها، وأخذوا
بأطراف الأرض زحفا زحفا، وصفا وصفا، بعض هلك، وبعض نجا، لا يبشرون
بالاحياء، ولا يعزون عن الموتى، مره العيون من البكاء، خمص البطون من الصيام،
ذبل الشفاه من الدعاء، صفر الألوان من السهر، على وجوههم غبرة الخاشعين،
أولئك إخواني الذاهبون، فحق لنا أن نظمأ إليهم، ونعض الأيدي على فراقهم.
إن لشيطان يسني لكم طرقه، ويريد أن يحل دينكم عقدة عقدة، ويعطيكم
291

بالجماعة الفرقة، وبالفرقة الفتنة، فاصدفوا عن نزغاته ونفثاته، واقبلوا النصيحة
ممن أهداها إليكم، واعقلوها على أنفسكم.
* * *
الشرح:
هذه شبهة من شبهات الخوارج، ومعناها أنك نهيت عن الحكومة أولا ثم أمرت
بها ثانيا، فإن كانت قبيحة كنت بنهيك عنها مصيبا، وبأمرك بها مخطئا، وإن كانت
حسنة، كنت بنهيك عنها مخطئا، وبأمرك بها مصيبا، فلا بد من خطئك على كل حال.
وجوابها أن للامام أن يعمل بموجب ما يغلب على ظنه من المصلحة، فهو عليه السلام
لما نهاهم عنها كان نهيه عنها مصلحة حينئذ، ولما أمرهم بها كانت المصلحة في ظنه قد
تغيرت، فأمرهم على حسب ما تبدل وتغير في ظنه، كالطبيب الذي ينهى المريض اليوم
عن أمر ويأمره بمثله غدا.
وقوله: " هذا جزاء من ترك العقدة "، يعنى الرأي الوثيق، وفي هذا الكلام اعتراف
بأنه بان له وظهر فيما بعد أن الرأي الأصلح كان الاصرار والثبات على الحرب، وأن ذلك
وإن كان مكروها، فإن الله تعالى كان يجعل الخيرة فيه، كما قال سبحانه: (فعسى أن
تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا) (1).
ثم قال: كنت أحملكم على الحرب وترك الالتفات إلى مكيدة معاوية وعمرو، من
رفع المصاحف، فإن استقمتم لي اهتديتم بي، وإن لم تستقيموا فذلك ينقسم إلى قسمين:
أحدهما أن تعوجوا، أي يقع منكم بعض الالتواء، ويسير من العصيان، كفتور الهمة وقلة
الجد في الحرب. والثاني التأني والامتناع المطلق من الحرب، فإن كان الأول قومتكم

(1) سورة النساء 19.
292

بالتأديب والارشاد وإرهاق الهمم والعزائم، بالتبصير والوعظ والتحريض والتشجيع، وإن
كان الثاني تداركت الامر معكم، إما بالاستنجاد بغيركم من قبائل العرب وأهل خراسان
والحجاز، فكلهم كانوا شيعته وقائلين بإمامته، أو بما أراه في ذلك الوقت من المصلحة التي
تحكم بها الحال الحاضرة.
قال: لو فعلت ذلك لكانت هي العقدة الوثقى، أي الرأي الأصوب الأحزم.
فإن قلت: أفتقولون إنه أخطأ في العدول عن هذا الرأي؟
قلت: لا نقول إنه أخطأ بمعنى الاثم، لأنه إنما فعل ما تغلب على ظنه أنه
المصلحة، وليس الواجب عليه إلا ذلك، ولكنه ترك الرأي الأصوب كما قال الحسن:
" هلا مضيت قدما لا أبالك! "، ولا يلحق الاثم من غلب على ظنه في حكم السياسة أمر
فاعتمده، ثم بان له أن الأصوب كان خلافه، وقد قيل إن قوله:
لقد عثرت عثرة لا تنجبر * سوف أكيس بعدها وأستمر
* وأجمع الرأي الشتيت المنتشر *
إشارة إلى هذا المعنى، وقيل: فيه غير ذلك مما قدمنا ذكره قبل.
وقال شيخنا أبو عثمان الجاحظ رضي الله عنه: من عرفه عرف أنه غير ملوم في
الانقياد معهم إلى التحكيم، فإنه مل من القتل وتجريد السيف ليلا ونهارا، حتى ملت
الدماء من إراقته لها، وملت الخيل من تقحمه الأهوال بها، وضجر من دوام تلك
الخطوب الجليلة، والأرزاء العظيمة، واستلاب الأنفس، وتطاير الأيدي والأرجل بين يديه،
وأكلت الحرب أصحابه وأعداءه، وعطلت السواعد، وخدرت الأيدي التي سلمت من وقائع
السيوف بها، ولو أن أهل الشام لم يستعفوا من الحرب، ويستقيلوا من المقارعة والمصادمة،
293

لأدت الحال إلى قعود الفيلقين معا، ولزومهم الأرض وإلقائهم السلاح، فإن الحال أفضت
بعظمها وهو لها إلى ما يعجز اللسان عن وصفه.
* * *
واعلم أنه عليه السلام لما قال هذا القول، واستدرك بكلام آخر حذرا أن يثبت
على نفسه الخطأ في الرأي، فقال: لقد كان هذا رأيا لو كان لي من يطيعني فيه، ويعمل
بموجبه، وأستعين به على فعله، ولكن بمن كنت أعمل ذلك، وإلى من أخلد في فعله!
أما الحاضرون لنصري فأنتم وحالكم معلومة في الخلاف والشقاق والعصيان، وأما الغائبون
من شيعتي كأهل البلاد النائية فإلى أن يصلوا يكون قد بلغ العدو غرضه منى، ولم يبق من أخلد
إليه في إصلاح الامر وإبرام هذا الرأي الذي كان صوابا لو اعتمد، إلا أن أستعين ببعضكم
على بعض، فأكون كناقش الشوكة بالشوكة، وهذا مثل مشهور: " لا تنقش الشوكة
بالشوكة ". فإن ضلعها لها، والضلع الميل، يقول: لا تستخرج الشوكة الناشبة في رجلك
بشوكة مثلها، فإن إحداهما في القوة والضعف كالأخرى، فكما أن الأولى انكسرت
لما وطئتها فدخلت في لحمك، فالثانية إذا حاولت استخراج الأولى بها تنكسر، وتلج
في لحمك.
ثم قال: " اللهم إن هذا الداء الدوي، قد ملت أطباؤه "، والدوي: الشديد،
كما تقول: ليل أليل.
وكلت النزعة، جمع نازع، وهو الذي يستقى الماء، والأشطان: جمع شطن، وهو
الحبل. والركى: الآبار، جمع ركية، وتجمع أيضا على ركايا.
ثم قال: أين القوم! هذا كلام متأسف على أولئك، متحسر على فقدهم.
والوله: شدة الحب حتى يذهب العقل، وله الرجل.
واللقاح: بكسر اللام: الإبل، والواحدة لقوح، وهي الحلوب، مثل قلاص وقلوص.
294

قوله: " وأخذوا بأطراف الأرض "، أي أخذوا على الناس بأطراف الأرض، أي
حصروهم، يقال لمن استولى على غيره وضيق عليه: قد أخذ عليه بأطراف الأرض،
قال الفرزدق:
أخذنا بأطراف السماء عليكم * لنا قمراها والنجوم الطوالع (1)
وزحفا زحفا، منصوب على المصدر المحذوف الفعل، أي يزحفون زحفا، والكلمة
الثانية تأكيد للأولى. وكذلك قوله: " وصفا صفا ".
ثم ذكر أن بعض هؤلاء المتأسف عليهم هلك، وبعض نجا، وهذا ينحى قوله تعالى:
(فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر) (2).
ثم ذكر أن هؤلاء قوم وقذتهم العبادة، وانقطعوا عن الناس، وتجردوا عن العلائق
الدنيوية، فإذا ولد لأحدهم مولود لم يبشر به، وإذا مات له ميت لم يعز عنه.
ومرهت عين فلان، بكسر الراء، إذا فسدت لترك الكحل، لكن أمير المؤمنين
عليه السلام جعل مره عيون هؤلاء من البكاء من خوف خالقهم سبحانه. وذكر أن
بطونهم خماص من الصوم، وشفاههم ذابلة من الدعاء، ووجوههم مصفرة من السهر،
لأنهم يقومون الليل وعلى وجوههم غبرة الخشوع.
ثم قال: " أولئك إخواني الذاهبون ". فإن قلت: من هؤلاء الذين يشير عليه
السلام إليهم؟
قلت: هم قوم كانوا في نأنأة الاسلام وفي زمان ضعفه وخموله أرباب زهد وعبادة
وجهاد شديد في سبيل الله، كمصعب بن عمير من بنى عبد الدار، وكسعد بن معاذ من
الأوس، وكجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة، وغيرهم ممن استشهد من الصالحين

(1) ديوانه 515
(2) سورة الأحزاب 23.
295

أرباب الدين والعبادة والشجاعة في يوم أحد، وفي غيره من الأيام في حياة رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وكعمار، وأبي ذر، والمقداد، وسلمان، وخباب، وجماعة من أصحاب
الصفة وفقراء المسلمين أرباب العبادة، الذين قد جمعوا بين الزهد والشجاعة. وقد جاء في
الأخبار الصحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الجنة لتشتاق إلى أربعة:
على، وعمار، وأبي ذر، والمقداد "، وجاء في الأخبار الصحيحة أيضا، أن جماعة من
أصحاب الصفة مر بهم أبو سفيان بن حرب بعد إسلامه فعضوا أيديهم عليه، وقالوا: وا أسفاه
كيف لم تأخذ السيوف مأخذها من عنق عدو الله! وكان معه أبو بكر فقال لهم: أتقولون
هذا لسيد البطحاء! فرفع قوله إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فأنكره، وقال لأبي بكر:
" انظر لا تكون أغضبتهم، فتكون قد أغضبت ربك "، فجاء أبو بكر إليهم وترضاهم وسألهم
أن يستغفروا له، فقالوا: غفر الله لك.
قوله: " فحق لنا " يقال: حق له أن يفعل كذا، وهو حقيق به، وهو محقوق به،
أي خليق له، والجمع أحقاء ومحقوقون.
ويسنى: يسهل. وصدف عن الامر يصدف أي انصرف عنه. ونزغات الشيطان:
ما ينزغ به، بالفتح أي يفسد ويغرى. ونفثاته: ما ينفث به وينفث، بالضم والكسر،
أي يخيل ويسحر.
واعقلوها على أنفسكم، أي اربطوها والزموها
296

(121) الأصل:
ومن كلام له عليه السلام قاله للخوارج، وقد خرج إلى معسكرهم وهم مقيمون على إنكار
الحكومة، فقال عليه السلام:
أكلكم شهد معنا صفين؟ فقالوا: منا من شهد ومنا من لم يشهد. قال:
فامتازوا فرقتين، فليكن من شهد صفين فرقة، ومن لم يشهدها فرقة، حتى أكلم
كل منكم بكلامه، ونادى الناس، فقال:
أمسكوا عن الكلام، وانصتوا لقولي، وأقبلوا بأفئدتكم إلى، فمن نشدناه
شهادة فليقل بعلمه فيها.
ثم كلمهم عليه السلام بكلام طويل، من جملته أن قال عليه السلام:
ألم تقولوا عند رفعهم المصاحف حيلة وغيلة، ومكرا وخديعة: إخواننا
وأهل دعوتنا، استقالونا واستراحوا إلى كتاب الله سبحانه، فالرأي القبول منهم،
والتنفيس عنهم. فقلت لكم: هذا أمر ظاهره إيمان، وباطنه عدوان، وأوله
رحمة، وآخره ندامة. فأقيموا على شأنكم، والزموا طريقتكم، وعضوا على الجهاد
بنواجذكم، ولا تلتفتوا إلى ناعق نعق، إن أجيب أضل، وإن ترك ذل.
وقد كانت هذه الفعلة وقد رأيتكم أعطيتموها. والله لئن أبيتها ما وجبت
على فريضتها، ولا حملني الله ذنبا، ووالله إن جئتها إني للمحق الذي يتبع،
وإن الكتاب لمعي، ما فارقته مذ صحبته، فلقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه،
297

وإن القتل ليدور على الآباء والأبناء والاخوان والقرابات، فما نزداد على كل مصيبة
وشدة إلا إيمانا ومضيا على الحق، وتسليما للامر، وصبرا على مضض الجراح.
* * *
ولكنا إنما أصبحنا نقاتل إخواننا في الاسلام على ما دخل فيه من الزيغ
والاعوعاج، والشبهة والتأويل، فإذا طمعنا في خصلة يلم الله بها شعثنا، ونتدانى بها
إلى البقية فيما بيننا، رغبنا فيها، وأمسكنا عما سواها!
* * *
الشرح:
هذا الكلام يتلو بعضه بعضا، ولكنه ثلاثة فصول لا يلتصق أحدها بالآخر، وهذه
عادة الرضى، تراه ينتخب من جملة الخطبة الطويلة كلمات فصيحة، يوردها على سبيل التتالي،
وليست متتالية حين تكلم بها صاحبها، وسنقطع كل فصل منها عن صاحبه إذا مررنا
على متنها.
قوله: " إلى معسكرهم " الكاف مفتوحة، ولا يجوز كسرها، وهو موضع
العسكر ومحطه.
وشهد صفين: حضرها، قال تعالى: (فمن شهد منكم الشهر) (1).
قوله: " فامتازوا أي انفردوا "، قال الله تعالى: (وامتازوا اليوم أيها المجرمون) (2).
قوله: " حتى أكلم كلا منكم بكلامه "، أي بالكلام الذي يليق به.
والغيلة: الخداع، والناعق: المصوت.
قوله: " إن أجيب ضل، وإن ترك ذل... "
هو آخر الفصل الأول. وقوله: " ضل "،
أي ازداد ضلالا، لأنه قد ضل قبل أن يجاب.

(1) سورة البقرة 158
(2) سورة يس 59
298

فأما قوله: " فلقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه "، فهو من كلام آخر، وهو قائم
بنفسه، إلى قوله: " وصبرا على مضض الجراح "، فهذا آخر الفصل الثاني.
فأما قوله: " لكنا إنما أصبحنا "، فهو كلام ثالث غير منوط بالأولين ولا ملتصق
بهما، وهو في الظاهر مخالف ومناقض للفصل الأول، لان الفصل الأول فيه إنكار الإجابة
إلى التحكيم، وهذا يتضمن تصويبها، وظاهر الحال أنه بعد كلام طويل. وقد قال الرضى
رحمه الله في أول الفصل إنه من جملة كلام طويل، وإنه لما ذكر التحكيم، قال ما كان
يقوله دائما، وهو أنى إنما حكمت على أن نعمل في هذه الواقعة بحكم الكتاب، وإن كنت
أحارب قوما ما أدخلوا في الاسلام زيغا وأحدثوا به اعوجاجا، فلما دعوني إلى تحكيم الكتاب
أمسكت عن قتلهم، وأبقيت عليهم، لأني طمعت في أمر يلم الله به شعث المسلمين،
ويتقاربون بطريقة إلى البقية، وهي الابقاء والكف.
فإن قلت: إنه قد قال " نقاتل إخواننا من المسلمين " وأنتم لا تطلقون على أهل الشام
المحاربين له لفظة " المسلمين "؟
قلت: إنا وإن كنا نذهب إلى أن صاحب الكبيرة لا يسمى مؤمنا ولا مسلما، فإنا
نجيز أن يطلق عليه هذا اللفظ إذا قصد به تمييزه عن أهل الذمة وعابدي الأصنام، فيطلق
مع قرينه حال أو لفظ يخرجه عن أن يكون مقصودا به التعظيم والثناء والمدح، فإن لفظة
" مسلم " و " مؤمن " تستعمل في أكثر الأحوال كذلك، وأمير المؤمنين عليه السلام
لم يقصد بذلك إلا تمييزهم من كفار العرب وغيرهم من أهل الشرك، ولم يقصد مدحهم بذلك،
فلم ينكر مع هذا القصد إطلاق لفظ المسلمين عليهم.
299

(122) ومن كلام له عليه السلام قاله لأصحابه في ساعة الحرب:
وأي امرئ منكم أحس من نفسه رباطة جأش عند اللقاء، ورأي من أحد
من إخوانه فشلا، فليذب عن أخيه بفضل نجدته التي فضل بها عليه، كما يذب
عن نفسه، فلو شاء الله لجعله مثله.
إن الموت طالب حثيث لا يفوته المقيم، ولا يعجزه الهارب.
إن أكرم الموت القتل، والذي نفس ابن أبي طالب بيده، لألف ضربة بالسيف
أهون على من ميتة على الفراش في غير طاعة الله!
* * *
الشرح:
أحس: علم ووجد. ورباطة جأش، أي شدة قلب، والماضي " ربط "، كأنه يربط نفسه
عن الفرار. والمروي: " رباطة " بالكسر، ولا أعرفه نقلا وإنما القياس لا يأباه، مثل
عمر عمارة، وخلب خلابة.
والفشل: الجبن. وذب الرجل عن صاحبه، أي أكثر الذب، وهو الدفع والمنع.
والنجدة: الشجاعة. والحثيث: السريع، وفي بعض الروايات: " فليذب عن صاحبه "
بالإدغام، وفي بعضها " فليذبب " بفك الادغام. والميتة، بالكسر: هيئة الميت كالجلسة
والركبة هيئة الجالس والراكب، يقال: مات فلان ميتة حسنة، والمروي في " نهج
300

البلاغة " بالكسر في أكثر الروايات، وقد روى: " من موتة " وهو الأليق، يعنى المرة
الواحدة، ليقع في مقابلة الألف.
* * *
واعلم أنه عليه السلام أقسم أن القتل أهون من الموت حتف الانف، وذلك على
مقتضى ما منحه الله تعالى من الشجاعة الخارقة لعادة البشر، وهو عليه السلام يحاول أن
يحض أصحابه، ويحرضهم ليجعل طباعهم مناسبة لطباعه، وإقدامهم على الحرب مماثلا
لاقدامه، على عادة الامراء في تحريض جندهم وعسكرهم وهيهات! إنما هو كما قال
أبو الطيب:
يكلف سيف الدولة الجيش همه * وقد عجزت عنه الجيوش الخضارم (1)
ويطلب عند الناس ما عند نفسه * وذلك ما لا تدعيه الضراغم
ليست النفوس كلها من جوهر واحد، ولا الطباع والأمزجة كلها من نوع واحد،
وهذه خاصية توجد لمن يصطفيه الله تعالى من عباده، في الأوقات المتطاولة، والدهور
المتباعدة، وما اتصل بنا نحن من بعد الطوفان، فإن التواريخ من قبل الطوفان مجهولة، عندنا
إن أحدا أعطى من الشجاعة والاقدام ما أعطيه هذا الرجل من جميع فرق العالم على اختلافها،
من الترك والفرس والعرب والروم وغيرهم، والمعلوم من حاله أنه كان يؤثر الحرب على السلم،
والموت على الحياة، والموت الذي كان يطلبه ويؤثره، إنما هو القتل بالسيف، لا الموت
على الفراش، كما قال الشاعر:
لو لم يمت بين أطراف الرماح إذا * لمات إذ لم يمت من شدة الحزن

(1) ديوانه 3: 379، والخضارم: جمع خضرم، وهو العظيم الكبير من كل شئ.
301

وكما قال الآخر:
يستعذبون مناياهم كأنهم * لا ييأسون من الدنيا إذا قتلوا
فإن قلت: فما قولك فيما أقسم عليه: هل ألف ضربة بالسيف أهون ألما على المقتول
من موتة واحدة على الفراش بالحقيقة، أم هذا قول قاله على سبيل المبالغة والتجوز، ترغيبا
لأصحابه في الجهاد؟
قلت: الحالف يحلف على أحد أمرين: أحدهما أن يحلف على ظنه واعتقاده، نحو
أن يحلف أن زيدا في الدار، أنا حالف ومقسم على أنى أظن أن زيدا في الدار، أو أنى
أعتقد كون زيد في الدار. والثاني إن يحلف، لا على ظنه بل يحلف على نفس الامر في
الخارج، فإن حملنا قسم أمير المؤمنين عليه السلام على المحمل الأول فقد اندفع السؤال،
لأنه عليه السلام قد كان يعتقد ذلك. فحلف أنه يعتقد وأنه يظن ذلك، وهذا لا كلام
فيه، وإن حملناه على الثاني فالامر في الحقيقة يختلف، لان المقتول بسيف صارم معجل
للزهوق لا يجد من الألم وقت الضربة ما يجده الميت دون النزع من المد والكف، نعم،
قد يجد المقتول قبل الضربة ألم التوقع لها، وليس كلامنا في ذلك، بل في ألم الضربة
نفسها، وألف سيف صارم مثل سيف واحد، إذا فرضنا سرعة الزهوق، وأما في غير هذه
الصورة، نحو أن يكون السيف كالا، وتتكرر الضربات به، والحياة باقية بعد، وقايسنا
بينه وبين ميت يموت حتف أنفه موتا سريعا، إما بوقوف القوة الغاذية كما يموت
الشيوخ، أو بإسهال ذريع تسقط معه القوة، ويبقى العقل والذهن، إلى وقت الموت، فإن
الموت هاهنا أهون وأقل ألما، فالواجب أن يحمل كلام أمير المؤمنين عليه السلام إما على
جهة التحريض، فيكون قد بالغ كعادة العرب، والخطباء في المبالغات المجازية، وإما أن
يكون أقسم على أنه يعتقد ذلك، وهو صادق فيما أقسم، لأنه هكذا كأن يعتقد بناء على
302

ما هو مركوز في طبعه من محبة القتال، وكراهية الموت على الفراش، وقد روى أنه قيل
لأبي مسلم الخراساني: إن في بعض الكتب المنزلة: من قتل بالسيف فبالسيف يقتل،
فقال: القتل أحب إلى من اختلاف الأطباء، والنظر في الماء، ومقاساة الدواء والداء،
فذكر ذلك للمنصور بعد قتل أبى مسلم فقال: قد أبلغناه محبته!
303

(123) الأصل:
ومن كلام له عليه السلام:
وكأني أنظر إليكم تكشون كشيش الضباب، لا تأخذون حقا، ولا
تمنعون ضيما، قد خليتم والطريق، فالنجاة للمقتحم، والهلكة للمتلوم.
* * *
الشرح:
الكشيش: الصوت يشوبه خور، مثل الخشخشة، وكشيش الأفعى: صوتها من
جلدها لا من فمها، وقد كشت تكش، قال الراجز:
كشيش أفعى أجمعت لعض وهي تحك بعضها ببعض (1)
يقرع عليه السلام أصحابه بالجبن والفشل، ويقول لهم: لكأني أنظر إليكم
وأصواتكم غمغمة بينكم من الهلع الذي قد اعتراكم، فهي أشبه شئ بأصوات
الضباب المجتمعة.
ثم أكد وصف جبنهم حقا وخوفهم، فقال: لا تأخذون حقا، ولا تمنعون ضيما، وهذه
غاية ما يكون من الذل.
ثم ترك هذا الكلام وابتدأ فقال: قد خليتم وطريق النجاة عند الحرب، ودللتم عليها،
وهي أن تقتحموا وتلحجوا، ولا تهنوا، فإنكم متى فعلتم ذلك نجوتم، ومتى تلومتم
وتثبطتم وأحجمتم هلكتم، ومن هذا المعنى قول الشاعر:

(1) اللسان 8: 233، من غير نسبة.
304

تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد * لنفسي حياة مثل أن أتقدما (1)
وقال قطري بن الفجاءة:
لا يركنن أحد إلى الاحجام * يوم الوغى متخوفا لحمام (2)
فلقد أراني للرماح دريئة * من عن يميني تارة وأمامي
حتى خضبت بما تحدر من دمى * أكناف سرجي أو عنان لجامي
ثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب * جذع البصيرة قارح الاقدام (3)
وكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد: واعلم أن عليك عيونا من الله ترعاك وتراك،
فإذا لقيت العدو، فاحرص على الموت توهب لك الحياة، ولا تغسل الشهداء من دمائهم،
فإن دم الشهيد نور له يوم القيامة، وقال أبو الطيب:
يقتل العاجز الجبان وقد يعجز * عن قطع بخنق المولود (4)
ويوقى الفتى المخش وقد خوض في * ماء لبة الصنديد (5)
ولهذا المعنى الذي أشار إليه عليه السلام سبب معقول، وهو أن المقدم على خصمه
، يرتاع له خصمه، وتنخذل عنه نفسه، فتكون النجاة والظفر للمقدم، وأما المتلوم عن خصمه،
المحجم المتهيب له، فإن نفس خصمه تقوى عليه، ويزداد طمعه فيه، فيكون الظفر له،
ويكون العطب والهلاك للمتلوم الهائب.
(تم الجزء السابع من شرح نهج البلاغة ويليه الجزء الثامن)

(1) للحصين بن الحمام المري، ديوان الحماسة - بشرح التبريزي 1: 192
(2) ديوان الحماسة، بشرح التبريزي 1: 130
(3) قال التبريزي في شرح البيت: " يقول: أنا جذع البصيرة، أي استبصاري ويقيني لا يحتاجان إلى
تهذيب ولا تأديب، كما لا يحتاج الجذع إلى الرياضة، وإقدامي قارح، أي قد بلغ النهاية، كما أن القروح
نهاية سن الفرس، ولا سن بعده ".
(4) ديوانه 1: 322، البخنق: ما يجعل على رأس الصبي، وتلبسه المرأة عند إدهان رأسها.
(5) المخش: الرجل الجرئ على الليل. والصنديد: السيد الكريم. وخوض: أكثر الخوض.
305