الكتاب: شرح نهج البلاغة
المؤلف: ابن أبي الحديد
الجزء: ١٤
الوفاة: ٦٥٦
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ القسم العام
تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: مؤسسة إسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
ردمك:
ملاحظات:

شرح نهج البلاغة
لابن أبي الحديد
بتحقيق
محمد أبو الفضل إبراهيم
الجزء الرابع عشر
دار احياء الكتب العربية
عيسى البابي الحلبي وشركاه
1

الطبعة الثانية
(1967 م - 1387 ه‍)
جميع الحقوق محفوظة
منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
قم - إيران 1404 ه‍ ق
2

باب الكتب و الرسائل
3

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد العدل
* * *
الأصل:
باب المختار من كتب مولانا أمير المؤمنين عليه السلام ورسائله إلى
أعدائه و أولياء (1) بلاده، ويدخل في ذلك ما اختير من عهوده إلى عماله
ووصاياه لأهله وأصحابه.
الشرح:
لما فرغ من إيراد المختار من خطب أمير المؤمنين عليه السلام وكلامه الجاري مجرى
الخطب من المواعظ والزواجر، شرع في إيراد باب من مختار كلامه عليه السلام، وهو
ما كان جاريا مجرى الرسائل والكتب، ويدخل في ذلك العهود والوصايا وقد أورد
في هذا الباب ما هو بالباب الأول أشبه، نحو كلامه عليه السلام لشريح القاضي لما
اشترى دارا، وكلامه لشريح بن هانئ لما جعله على مقدمته إلى الشام.
وسمى ما يكتب للولاة عهدا اشتقاقا من قولهم عهدت إلى فلان، أي أوصيته

(1) ا: (وأمراء بلاده).
5

(1)
الأصل:
من كتاب له عليه السلام إلى أهل الكوفة عند مسيره من المدينة إلى البصرة:
من عبد الله على أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة، جبهة الأنصار وسنام العرب
أما بعد، فإني أخبركم عن أمر عثمان حتى يكون سمعه كعيانه
إن الناس طعنوا عليه، فكنت رجلا من المهاجرين أكثر استعتابه وأقل (1)
عتابه، وكان طلحة والزبير أهون سيرهما فيه الوجيف، وأرفق حدائهما العنيف وكان
من عائشة فيه فلتة غضب، فأتيح له قوم قتلوه، وبايعني الناس غير مستكرهين،
ولا مجبرين، بل طائعين مخيرين
واعلموا أن دار الهجرة قد قلعت بأهلها وقلعوا بها، وجاشت جيش المرجل،
وقامت الفتنة على القطب، فأسرعوا إلى أميركم، وبادروا جهاد عدوكم
إن شاء الله.
* * *
الشرح:
قوله (جبهة الأنصار)، يمكن أن يريد جماعة الأنصار، فان الجبهة في اللغة
الجماعة ويمكن أن يريد به سادة الأنصار وأشرافهم، لان جبهة الانسان أعلى أعضائه،
وليس يريد بالأنصار هاهنا بنى قيلة (2)، بل الأنصار هاهنا الأعوان.

(1) مخطوطة النهج: (فأقل).
(2) هي قيلة أم الأوس والخزرج.
6

قوله عليه السلام (وسنام العرب)، أي أهل الرفعة والعلو منهم، لان السنام
أعلى أعضاء البعير.
قوله عليه السلام (أكثر استعتابه وأقل عتابه)، الاستعتاب طلب العتبى،
وهي الرضا، قال: كنت أكثر طلب رضاه، وأقل عتابه وتعنيفه على الأمور، وأما
طلحة والزبير فكانا شديدين عليه.
والوجيف سير سريع، وهذا مثل للمشمرين (1) في الطعن عليه، حتى أن السير
السريع أبطا ما يسيران في أمره، والحداء العنيف أرفق ما يحرضان به عليه.
ودار الهجرة المدينة.
وقوله (قد قلعت بأهلها وقلعوا بها)، الباء هاهنا زائدة في أحد الموضعين،
وهو الأول، وبمعنى من في الثاني، يقول فارقت أهلها وفارقوها، ومنه قولهم
(هذا منزل قلعة) أي ليس بمستوطن.
وجاشت اضطربت والمرجل القدر.
ومن لطيف الكلام قوله عليه السلام (فكنت رجلا من المهاجرين)، فإن
في ذلك من التخلص والتبري ما لا يخفى على المتأمل، أ لا ترى أنه لم يبق عليه في ذلك
حجة لطاعن، حيث كان قد جعل نفسه كواحد من عرض المهاجرين، الذين بنفر يسير
منهم انعقدت خلافة أبى بكر، وهم أهل الحل والعقد، وإنما كان الاجماع حجة
لدخولهم فيه.
ومن لطيف الكلام أيضا قوله (فأتيح له قوم قتلوه)، ولم يقل (أتاح الله
له قوما)، ولا قال: (أتاح له الشيطان قوما)، وجعل الامر مبهما.
وقد ذكر أن خط الرضى رحمه الله (مستكرهين)، بكسر الراء والفتح أحسن
وأصوب، وإن كان قد جاء استكرهت الشئ بمعنى كرهته.

(1) ا: (وهذا مثل في العرب للمشمر في الطعن عليه).
7

وقال الراوندي: المراد بدار الهجرة هاهنا الكوفة التي ها جر أمير المؤمنين
عليه السلام إليها، وليس بصحيح، بل المراد المدينة، وسياق الكلام يقتضى ذلك،
ولأنه كان حين كتب هذا الكتاب إلى أهل الكوفة بعيدا عنهم، فكيف يكتب
إليهم يخبرهم عن أنفسهم.
* * *
[أخبار على عند مسيره إلى البصرة، ورسله إلى أهل الكوفة]
وروى محمد بن إسحاق عن عمه عبد الرحمن بن يسار القرشي، قال: لما نزل علي عليه
السلام الربذة متوجها إلى البصرة بعث إلى الكوفة محمد بن جعفر بن أبي طالب
ومحمد بن أبي بكر الصديق، وكتب إليهم هذا الكتاب، وزاد في آخره:
فحسبي بكم إخوانا، وللدين أنصارا، ف (انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم
وأنفسكم في سبيل الله ذلك خير لكم إن كنتم تعلمون) (1)
وروى أبو مخنف، قال: حدثني الصقعب، قال: سمعت عبد الله بن جنادة يحدث
أن عليا عليه السلام لما نزل الربذة بعث هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إلى أبي موسى
الأشعري، وهو الأمير يومئذ على الكوفة، لينفر إليه الناس، وكتب إليه معه
من عبد الله على أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس أما بعد، فإني قد بعثت إليك
هاشم بن عتبة لتشخص إلى من قبلك من المسلمين ليتوجهوا إلى قوم نكثوا بيعتي،
وقتلوا شيعتي، وأحدثوا في الاسلام هذا الحدث العظيم، فأشخص بالناس إلى معه حين
يقدم عليك، فإني لم أو لك المصر الذي أنت فيه، ولم أقرك عليه إلا لتكون من أعواني
على الحق، وأنصاري على هذا الامر، والسلام.

(1) سورة التوبة 41.
8

فأما رواية محمد بن إسحاق فإنه قال: لما قدم محمد بن جعفر ومحمد بن أبي بكر
الكوفة، استنفرا (1) الناس، فدخل قوم منهم على أبى موسى ليلا، فقالوا له أشر علينا
برأيك في الخروج مع هذين الرجلين إلى علي عليه السلام، فقال أما سبيل الآخرة
فالزموا بيوتكم، وأما سبيل الدنيا فاشخصوا معهما فمنع بذلك أهل الكوفة من الخروج
وبلغ ذلك المحمدين، فأغلظا لأبي موسى، فقال أبو موسى: والله إن بيعة عثمان لفي عنق
على وعنقي وأعناقكما، ولو أردنا قتالا ما كنا لنبدأ بأحد قبل قتله عثمان فخرجا من
عنده، فلحقا بعلي عليه السلام، فأخبراه الخبر.
وأما رواية أبى مخنف، فإنه قال: أن هاشم بن عتبة لما قدم الكوفة، دعا أبو موسى
السائب بن مالك الأشعري، فاستشاره، فقال اتبع ما كتب به إليك فأبى ذلك،
وحبس الكتاب، وبعث إلى هاشم يتوعده ويخوفه.
قال السائب: فأتيت هاشما فأخبرته برأي أبى موسى، فكتب إلى علي عليه
السلام:
لعبد الله على أمير المؤمنين من هاشم بن عتبة أما بعد يا أمير المؤمنين، فإني قدمت
بكتابك على امرئ مشاق بعيد الود، ظاهر الغل والشنان، فتهددني بالسجن، وخوفني
بالقتل، وقد كتبت إليك هذا الكتاب مع المحل بن خليفة، أخي طئ، وهو من شيعتك
وأنصارك، وعنده علم ما قبلنا، فاسأله عما بدا لك، واكتب إلى برأيك والسلام.
قال: فلما قدم المحل بكتاب هاشم على علي عليه السلام سلم عليه، ثم قال: الحمد لله
الذي أدى الحق إلى أهله، ووضعه موضعه، فكره ذلك قوم قد والله كرهوا نبوة محمد صلى
الله عليه وآله، ثم بارزوه وجاهدوه، فرد الله عليهم كيدهم في نحورهم، وجعل دائرة السوء
عليهم. والله يا أمير المؤمنين لنجاهدنهم معك في كل موطن، حفظا لرسول الله صلى الله عليه
وآله في أهل بيته، إذ صاروا أعداء لهم بعده.

(1) ا: (واستنفرا)، وما أثبته من ب.
9

فرحب به علي عليه السلام، وقال له خيرا، ثم أجلسه إلى جانبه، وقرأ كتاب هاشم،
وسأله عن الناس وعن أبي موسى، فقال والله يا أمير المؤمنين، ما أثق به ولا آمنه على
خلافك، إن وجد من يساعده على ذلك فقال علي عليه السلام والله ما كان عندي
بمؤتمن ولا ناصح، ولقد أردت عزله فأتاني الأشتر فسألني أن أقره، وذكر أن أهل
الكوفة به راضون فأقررته.
* * *
وروى أبو مخنف، قال: وبعث علي عليه السلام من الربذة بعد وصول المحل بن
خليفة، (1 أخي طئ 1)، عبد الله بن عباس ومحمد بن أبي بكر إلى أبى موسى، وكتب معهما
من عبد الله على أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس، أما بعد يا بن الحائك، يا عاض
أير أبيه، فوالله انى كنت لأرى أن بعدك من هذا الامر الذي لم يجعلك الله له أهلا،
ولا جعل لك فيه نصيبا، سيمنعك من رد أمري والانتزاء (2) على. وقد بعثت إليك ابن
عباس وابن أبي بكر فخلهما والمصر وأهله، واعتزل عملنا مذؤوما مدحورا. فإن فعلت
وإلا فإني قد أمرتهما أن ينابذاك على سواء، إن الله لا يهدى كيد الخائنين فإذا
ظهرا عليك قطعاك إربا إربا، والسلام على من شكر النعمة، ووفى بالبيعة، وعمل
برجاء العاقبة.
قال أبو مخنف: فلما أبطأ ابن عباس وابن أبي بكر عن علي عليه السلام، ولم يدر
ما صنعا، رحل عن الربذة إلى ذي قار فنزلها، فلما نزل ذا قار، بعث إلى الكوفة الحسن
ابنه عليه السلام وعمار بن ياسر وزيد بن صوحان وقيس بن سعد بن عبادة، ومعهم
كتاب إلى أهل الكوفة، فأقبلوا حتى كانوا بالقادسية، فتلقاهم الناس، فلما دخلوا
الكوفة قرأوا كتاب على، وهو
من عبد الله على أمير المؤمنين، إلى من بالكوفة من المسلمين:

(1 - 1) ساقط من ب.
(2) الإنتزاء: الوثوب.
10

أما بعد، فإني خرجت مخرجي هذا، إما ظالما، وإما مظلوما، وإما باغيا، وإما مبغيا
على، فأنشد الله رجلا بلغه كتابي هذا إلا نفر إلى، فإن كنت مظلوما أعانني، وإن كنت
ظالما استعتبني. والسلام.
قال أبو مخنف: فحدثني موسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه، قال: أقبلنا
مع الحسن وعمار بن ياسر من ذي قار، حتى نزلنا القادسية، فنزل الحسن وعمار، ونزلنا
معهما، فاحتبى عمار بحمائل سيفه، ثم جعل يسأل الناس عن أهل الكوفة وعن حالهم،
ثم سمعته يقول ما تركت في نفسي حزة أهم إلى من ألا نكون نبشنا عثمان من قبره،
ثم أحرقناه بالنار.
قال: فلما دخل الحسن وعمار الكوفة، اجتمع إليهما الناس، فقام الحسن، فاستنفر
الناس، فحمد الله وصلى على رسوله، ثم قال: أيها الناس، إنا جئنا ندعوكم إلى الله وإلى
كتابه وسنة رسوله، وإلى أفقه من تفقه من المسلمين، وأعدل من تعدلون، وأفضل من
تفضلون، وأوفى من تبايعون، من لم يعبه القرآن، ولم تجهله السنة ولم تقعد به السابقة،
إلى من قربه الله تعالى إلى (1) رسوله قرابتين: قرابة الدين وقرابة الرحم، إلى من سبق الناس إلى
كل مأثرة، إلى من كفى الله به رسوله والناس متخاذلون، فقرب منه وهم متباعدون، وصلى
معه وهم مشركون، وقاتل معه وهم منهزمون، وبارز معهم وهم محجمون، وصدقه وهم
يكذبون. إلى من لم ترد له رواية ولا تكفأ له سابقه، وهو يسألكم النصر، ويدعوكم إلى
الحق، ويأمركم بالمسير إليه، لتوازروه وتنصروه على قوم نكثوا بيعته، وقتلوا أهل
الصلاح من أصحابه، ومثلوا بعماله، وانتهبوا بيت ماله فاشخصوا إليه رحمكم الله، فمروا
بالمعروف وانهوا عن المنكر، واحضروا بما يحضر به الصالحون (2).
قال أبو مخنف: حدثني جابر بن يزيد، قال: حدثني تميم بن حذيم الناجي، قال: قدم علينا

(1) آ: (ورسوله).
(2) تاريخ الطبري....
11

الحسن بن علي عليه السلام وعمار بن ياسر، يستنفران الناس إلى علي عليه السلام، ومعهما
كتابه، فلما فرغا من قراءة كتابه، قام الحسن - وهو فتى حدث، والله انى لأرثى له من حداثة سنه
وصعوبة مقامه - فرماه الناس بأبصارهم وهم يقولون اللهم سدد منطق ابن بنت نبينا فوضع
يده على عمود يتساند إليه، وكان عليلا من شكوى به، فقال الحمد لله العزيز الجبار، الواحد
القهار، الكبير المتعال، (سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف
بالليل وسارب بالنهار). أحمده على حسن البلاء، وتظاهر النعماء، وعلى ما أحببنا وكرهنا
من شدة ورخاء. واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله،
أمتن علينا بنبوته، واختصه برسالته، وأنزل عليه وحيه، واصطفاه على جميع خلقه،
وأرسله إلى الإنس والجن، حين عبدت الأوثان وأطيع الشيطان، وجحد الرحمن، فصلى
الله عليه وعلى آله وجزاه أفضل ما جزى المسلمين. أما بعد فإني لا أقول لكم إلا
ما تعرفون، إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - أرشد الله امره، وأعز نصره - بعثني
إليكم يدعوكم إلى الصواب، وإلى العمل بالكتاب، والجهاد في سبيل الله، وإن كان في
عاجل ذلك ما تكرهون، فإن في آجله ما تحبون إن شاء الله. ولقد علمتم أن عليا صلى مع
رسول الله صلى الله عليه وآله وحده، وأنه يوم صدق به لفي عاشرة من سنه، ثم شهد مع
رسول الله صلى الله عليه وآله جميع مشاهده. وكان من اجتهاده في مرضاة الله وطاعة رسوله
وآثاره الحسنة في الاسلام ما قد بلغكم، ولم يزل رسول الله صلى الله عليه وآله راضيا عنه،
حتى غمضه بيده وغسله وحده، والملائكة أعوانه، والفضل ابن عمه ينقل إليه الماء،
ثم أدخله حفرته، وأوصاه بقضاء دينه وعداته، وغير ذلك من أموره، كل ذلك من من
الله عليه. ثم والله ما دعا إلى نفسه، ولقد تداك الناس عليه تداك الإبل الهيم عند ورودها،
فبايعوه طائعين، ثم نكث منهم ناكثون بلا حدث أحدثه، ولا خلاف أتاه حسدا
له وبغيا عليه. فعليكم عباد الله بتقوى الله وطاعته، والجد والصبر والاستعانة بالله
12

والخفوف إلى ما دعاكم إليه أمير المؤمنين. عصمنا الله وإياكم بما عصم به أولياءه وأهل
طاعته، وألهمنا وإياكم تقواه، وأعاننا وإياكم على جهاد أعدائه. واستغفر الله العظيم لي ولكم.
ثم مضى إلى الرحبة، فهيا منزلا لأبيه أمير المؤمنين.
قال جابر: فقلت لتميم كيف أطاق هذا الغلام ما قد قصصته من كلامه فقال ولما
سقط عنى من قوله أكثر، ولقد حفظت بعض ما سمعت.
* * *
قال: ولما نزل علي عليه السلام ذا قار، كتبت عائشة إلى حفصة بنت عمر، أما بعد
فإني أخبرك أن عليا قد نزل ذا قار، وأقام بها مرعوبا خائفا لما بلغه من عدتنا وجماعتنا،
فهو بمنزلة الأشقر، إن تقدم عقر، وإن تأخر نحر، فدعت حفصة جواري لها يتغنين
ويضربن بالدفوف، فأمرتهن أن يقلن في غنائهن ما الخبر ما الخبر، على في السفر،
كالفرس الأشقر، إن تقدم عقر، وإن تأخر نحر.
وجعلت بنات الطلقاء يدخلن على حفصة، ويجتمعن لسماع ذلك الغناء.
فبلغ أم كلثوم بنت علي عليه السلام، فلبست جلابيبها، ودخلت عليهن في نسوة
متنكرات، ثم أسفرت عن وجهها، فلما عرفتها حفصة خجلت، واسترجعت، فقالت
أم كلثوم لئن تظاهرتما عليه منذ اليوم، لقد تظاهرتما على أخيه من قبل، فأنزل الله
فيكما ما أنزل
فقالت حفصة كفى رحمك الله وأمرت بالكتاب فمزق، واستغفرت الله.
قال: أبو مخنف روى هذا جرير بن يزيد، عن الحكم، ورواه الحسن بن دينار،
عن الحسن البصري.
وذكر الواقدي مثل ذلك، وذكر المدائني أيضا مثله، قال: فقال: سهل بن حنيف
في ذلك هذه الاشعار:
13

عذرنا الرجال بحرب الرجال * فما للنساء وما للسباب
أما حسبنا ما أتينا به * لك الخير من هتك ذاك الحجاب
ومخرجها اليوم من بيتها * يعرفها الذنب نبح الكلاب
إلى أن أتانا كتاب لها * مشوم فيا قبح ذاك الكتاب.
قال: فحدثنا الكلبي، عن أبي صالح أن عليا عليه السلام، لما نزل ذا قار في قلة من
عسكره، صعد الزبير منبر البصرة، فقال أ لا ألف فارس أسير بهم إلى علي، فأبيته
بياتا، وأصبحه صباحا، قبل أن يأتيه المدد فلم يجبه أحد، فنزل واجما، وقال هذه والله
الفتنة التي كنا نحدث بها فقال له بعض مواليه رحمك الله يا أبا عبد الله تسميها فتنة
ثم نقاتل فيها فقال ويحك والله إنا لنبصر ثم لا نصبر فاسترجع المولى ثم خرج في
الليل فارا إلى علي عليه السلام فأخبره، فقال: اللهم عليك به.
* * *
قال أبو مخنف: ولما فرغ الحسن بن علي عليه السلام من خطبته، قام بعده عمار،
فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على رسوله، ثم قال: إيها الناس، أخو نبيكم وابن عمه
يستنفركم لنصر دين الله، وقد بلاكم الله بحق دينكم، وحرمة أمكم، فحق دينكم أوجب،
وحرمته أعظم. أيها الناس، عليكم بامام لا يؤدب، وفقيه لا يعلم، وصاحب باس لا ينكل،
وذي سابقة في الاسلام ليست لأحد، وإنكم لو قد حضرتموه بين لكم أمركم
إن شاء الله.
قال: فلما سمع موسى خطبة الحسن وعمار، قام فصعد المنبر وقال: الحمد لله
الذي أكرمنا بمحمد، فجمعنا بعد الفرقة، وجعلنا إخوانا متحابين بعد العداوة، وحرم
علينا دماءنا وأموالنا، قال الله سبحانه: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) (1).

(1) سورة البقرة 188.
14

وقال تعالى: (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها) (1). فاتقوا الله
عباد الله، وضعوا أسلحتكم، وكفوا عن قتال إخوانكم.
أما بعد يا أهل الكوفة، إن تطيعوا الله باديا، وتطيعوني ثانيا، تكونوا جرثومة
من جراثيم العرب، يأوى إليكم المضطر، ويأمن فيكم الخائف. إن عليا إنما يستنفركم
لجهاد أمكم عائشة وطلحة والزبير حواري رسول الله ومن معهم من المسلمين، وأنا اعلم
بهذه الفتن إنها إذا أقبلت شبهت، وإذا أدبرت أسفرت، إني أخاف عليكم أن يلتقي
غاران منكم فيقتتلا ثم يتركا كالأحلاس الملقاة بنجوة من الأرض، ثم يبقى رجرجة (2)
من الناس، لا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن منكر. انها قد جاءتكم فتنة كافرة
لا يدرى من أين تؤتى تترك الحليم حيران كأني أسمع رسول الله صلى الله عليه وآله
بالأمس يذكر الفتن، فيقول (أنت فيها نائما خير منك قاعدا، وأنت فيها جالسا خير
منك قائما، وأنت فيها قائما خير منك ساعيا) فثلموا سيوفكم وقصفوا رماحكم، وانصلوا (3)
سهامكم، وقطعوا أوتاركم، وخلوا قريشا ترتق فتقها، وتراب صدعها، فان فعلت
فلأنفسها ما فعلت، وإن أبت فعلى أنفسها ما جنت، سمنها في أديمها. استنصحوني
ولا تستغشوني، وأطيعوني ولا تعصوني، يتبين لكم رشدكم، ويصلى هذه الفتنة
من جناها.
فقام إليه عمار بن ياسر، فقال: أنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول
ذلك قال: نعم هذه يدي بما قلت، فقال إن كنت صادقا فإنما عناك بذلك وحدك،
واتخذ عليك الحجة، فالزم بيتك ولا تدخلن في الفتنة، أما إني اشهد أن رسول الله
صلى الله عليه وآله أمر عليا بقتال الناكثين، وسمى له فيهم من سمى، وأمره بقتال
القاسطين، وإن شئت لأقيمن لك شهودا يشهدون أن رسول الله صلى الله عليه وآله

(1) سورة النساء 93.
(2) الرجرجة: البقية وأصله في الماء.
(3) أنصل السهم: أزال عنه النصل.
15

إنما نهاك وحدك، وحذرك من الدخول في الفتنة. ثم قال: له أعطني يدك على
ما سمعت فمد إليه يده، فقال له عمار غلب الله من غالبه وجاهده ثم جذبه فنزل
عن المنبر.
* * *
وروى محمد بن جرير الطبري في التاريخ قال: لما أتى عليا عليه السلام الخبر
وهو بالمدينة بأمر عائشة وطلحة والزبير، وأنهم قد توجهوا نحو العراق، خرج يبادر (1)،
وهو يرجو أن يدركهم ويردهم، فلما انتهى إلى الربذة أتاه عنهم أنهم قد أمعنوا، فأقام
بالربذة أياما، وأتاه عنهم انهم يريدون البصرة، فسر بذلك وقال: إن أهل الكوفة
أشد لي حبا، وفيهم رؤساء العرب وأعلامهم. فكتب إليهم انى قد اخترتكم على
الأمصار، وإني بالأثر (2).
* * *
قال أبو جعفر محمد بن جرير رحمه الله: كتب علي عليه السلام من الربذة إلى أهل
الكوفة أما بعد، فإني قد اخترتكم، وآثرت النزول بين أظهركم، لما أعرف من
مودتكم وحبكم لله ورسوله، فمن جاءني ونصرني فقد أجاب الحق، وقضى
الذي عليه.
قال أبو جعفر: فأول من بعثه علي عليه السلام من الربذة إلى الكوفة محمد بن أبي
بكر ومحمد بن جعفر، فجاء أهل الكوفة إلى أبى موسى، وهو الأمير عليهم ليستشيروه (3)
في الخروج إلى علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال لهم أما سبيل الآخرة فأن تقعدوا،
وأما سبيل الدنيا فان تخرجوا.
وبلغ المحمدين قول أبى موسى الأشعري، فأتياه وأغلظا له، فأغلظ لهما، وقال:

(1) تاريخ الطبري: (يبادرهم).
(2) تاريخ الطبري 1: 3106 (طبعة أوروبا).
(3) ب: (يستشيرونه).
16

لا يحل لك القتال مع علي حتى لا يبقى أحد من قتلة عثمان إلا قتل حيث كان.
وقالت أخت علي بن عدي، من بنى عبد العزى بن عبد شمس، وكان أخوها على
ابن عدي من شيعة علي عليه السلام، وفي جملة عسكره:
لا هم فاعقر بعلي جمله * ولا تبارك في بعير حمله
* ألا علي بن عدي ليس له *
قال أبو جعفر: ثم أجمع علي عليه السلام على المسير من الربذة إلى البصرة، فقام إليه
رفاعة بن رافع، فقال يا أمير المؤمنين، أي شئ تريد وأين تذهب بنا قال:
أما الذي نريد وننوي فإصلاح، إن قبلوا منا وأجابوا إليه، قال: فإن لم يقبلوا، قال:
ندعوهم ونعطيهم من الحق ما نرجو أن يرضوا به (2) قال: فإن لم يرضوا قال: ندعهم
ما تركونا قال: فإن لم يتركونا، قال: نمتنع منهم، قال: فنعم إذا.
وقام الحجاج بن غزية الأنصاري، فقال والله يا أمير المؤمنين لأرضينك بالفعل،
كما أرضيتني منذ اليوم بالقول. ثم قال:
دراكها دراكها قبل الفوت * وانفر بنا واسم بنا نحو الصوت
* لا والت نفسي إن خفت الموت *
ولله لننصرن الله عز وجل كما سمانا أنصارا.
قال أبو جعفر رحمه الله: وسار علي عليه السلام نحو البصرة، ورأيته مع ابنه محمد
بن الحنفية، وعلى ميمنته عبد الله بن عباس، وعلى ميسرته عمر بن أبي سلمة، وعلي عليه
السلام في القلب على ناقة حمراء، يقود فرسا كميتا (3). فتلقاه بفيد غلام من

(1) تاريخ الطبري 1: 3139، مع تصرف واختصار.
(2) الطبري: (ونعطيهم الحق ونصبر).
(3) الكميت من الخيل: الذي خالط حمرته قنوء، أي سواد غير خالص.
17

بنى سعد بن ثعلبة، يدعى مرة، فقال من هؤلاء قيل هذا أمير المؤمنين، فقال
سفرة قانية، فيها دماء من نفوس فانية. فسمعها علي عليه السلام فدعاه، فقال ما اسمك
قال: مرة، قال: أمر الله عيشك أ كاهن سائر اليوم قال: بل عائف، فخلى سبيله.
ونزل بفيد فاتته أسد وطئ، فعرضوا عليه أنفسهم، فقال الزموا قراركم، ففي
المهاجرين كفاية.
وقدم رجل من الكوفة فيدا، فأتى عليا عليه السلام، فقال له من الرجل
قال عامر بن مطرف، قال الليثي: قال الشيباني، قال: أخبرني عما وراءك قال:
إن أردت الصلح فأبو موسى صاحبك، وإن أردت القتال فأبو موسى ليس لك بصاحب.
فقال عليه السلام ما أريد إلا الصلح إلا أن يرد علينا (1).
قال أبو جعفر: وقدم عليه عثمان بن حنيف، وقد نتف طلحة والزبير شعر رأسه
ولحيته وحاجبيه، فقال يا أمير المؤمنين، بعثتني ذا لحية، وجئتك أمرد، فقال أصبت
خيرا وأجرا. ثم قال: أيها الناس، إن طلحة والزبير بايعاني، ثم نكثاني بيعتي، وألبا
على الناس، ومن العجب انقيادهما لأبي بكر وعمر وخلافهما على، والله إنهما ليعلمان
إني لست بدونهما (2). اللهم فاحلل ما عقدا، ولا تبرم ما قد أحكما في أنفسهما، وأرهما المساءة
فيما قد عملا (3).
قال أبو جعفر: وعاد محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر إلى علي عليه السلام، فلقياه
وقد انتهى إلى ذي قار، فأخبراه الخبر، فقال علي عليه السلام لعبد الله بن العباس:
إذهب أنت إلى الكوفة، فادع أبا موسى إلى الطاعة، وحذره من العصيان والخلاف،
واستنفر الناس. فذهب عبد الله بن عباس حتى قدم الكوفة، فلقى أبا موسى، واجتمع
الرؤساء من أهل الكوفة، فقام أبو موسى فخطبهم، وقال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وآله صحبوه في مواطن كثيرة، فهم أعلم بالله ممن لم يصحبه، وإن لكم على حقا،

(1) تاريخ الطبري 1: 3141 - 3143.
(2) الطبري: (بدون رجل).
(3) تاريخ الطبري 1: 3143، 3144.
18

وأنا مؤديه إليكم، أمر ألا تستخفوا بسلطان الله، وألا تجترئوا [على الله] أن تأخذوا كل
من قدم عليكم من أهل المدينة في هذا الامر، فتردوه إلى المدينة، حتى تجتمع الأمة على إمام
ترتضي به، انها فتنة صماء، النائم فيها خير من اليقظان، واليقظان خير من القاعد،
والقاعد خير من القائم، والقائم خير من الراكب، فكونوا جرثومة من جراثيم العرب،
أغمدوا سيوفكم، وأنصلوا أسنتكم، واقطعوا أوتار قسيكم، حتى يلتئم هذا الامر،
وتنجلي هذه الفتنة.
قال أبو جعفر رحمه الله: فرجع ابن عباس إلى علي عليه السلام، فأخبره، فدعا الحسن
ابنه عليه السلام وعمار بن ياسر، وأرسلهما إلى الكوفة، فلما قدماها كان أول من أتاهما
مسروق بن الأجدع، فسلم عليهما، وأقبل على عمار، فقال يا أبا اليقظان، علام قتلتم
أمير المؤمنين قال: على شتم أعراضنا، وضرب أبشارنا. قال: فوالله ما عاقبتم بمثل
ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لكان خيرا للصابرين. ثم خرج أبو موسى فلقى الحسن عليه
السلام فضمه إليه، وقال لعمار: يا أبا اليقظان أغدوت فيمن غدا على أمير المؤمنين (1)،
وأحللت نفسك مع الفجار قال: لم أفعل، ولم تسوءني فقطع عليهما الحسن، وقال لأبي
موسى: يا أبا موسى لم تثبط الناس عنا، فوالله ما أردنا إلا الاصلاح، وما مثل أمير المؤمنين
يخاف على شئ، قال أبو موسى: صدقت بأبي وأمي ولكن المستشار مؤتمن، سمعت
رسول الله صلى الله عليه وآله يقول (ستكون فتنة (2)...) وذكر تمام الحديث. فغضب
عمار وساءه ذلك، وقال: أيها الناس، إنما قال رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك له خاصة،
وقام رجل من بنى تميم فقال لعمار أسكت أيها العبد أنت أمس مع الغوغاء، وتسافه
أميرنا اليوم وثار زيد بن صوحان وطبقته، فانتصروا لعمار، وجعل أبو موسى يكف
الناس ويردعهم عن الفتنة. ثم انطلق حتى صعد المنبر، واقبل زيد بن صوحان ومعه
كتاب من عائشة إليه خاصة، وكتاب منها إلى أهل الكوفة عامة، تثبطهم عن نصرة

(1) الطبري: (أغدوت فيمن غدا).
(2) بقية الحديث: القاعد فيها خير من النائم،
والقائم خير من الماشي والماشي خير من الراكب).
19

على، وتأمرهم بلزوم الأرض، وقال: أيها الناس، أنظروا إلى هذه، أمرت أن تقر في
بيتها، وأمرنا نحن أن نقاتل، حتى لا تكون فتنة، فأمرتنا بما أمرت به، وركبت
ما أمرنا به، فقام إليه شبث بن ربعي. فقال له: وما أنت وذاك أيها العماني الأحمق
سرقت أمس بجلولاء فقطعك الله، وتسب أم المؤمنين فقام زيد، وشال يده المقطوعة
وأوما بيده إلى أبى موسى وهو على المنبر، وقال له: يا عبد الله بن قيس، أترد الفرات
عن أمواجه دع عنك ما لست تدركه، ثم قرأ (ألم أحسب الناس أن يتركوا أن
يقولوا آمنا...) (1) الآيتين، ثم نادى سيروا إلى أمير المؤمنين وصراط سيد المرسلين،
وانفروا إليه أجمعين وقام الحسن بن علي عليه السلام، فقال أيها الناس، أجيبوا دعوة
إمامكم، وسيروا إلى إخوانكم، فإنه سيوجد لهذا الامر من ينفر إليه، والله لان يليه
أولو النهى أمثل في العاجلة، وخير في العاقبة، فأجيبوا دعوتنا، وأعينونا على أمرنا،
أصلحكم الله.
وقام عبد خير فقال يا أبا موسى، أخبرني عن هذين الرجلين، ألم يبايعا عليا قال:
بلى قال: أفأحدث على حدثا يحل به نقض بيعته قال: لا أدرى، قال: لا دريت
ولا أتيت إذا كنت لا تدرى فنحن تاركوك حتى تدرى أخبرني هل تعلم أحدا خارجا
عن هذه الفرق الأربع: على بظهر الكوفة، وطلحة والزبير بالبصرة، ومعاوية بالشام، وفرقة
رابعة بالحجاز قعود لا يجبى بهم فئ، ولا يقاتل بهم عدو فقال أبو موسى أولئك خير
الناس، قال: عبد خير أسكت يا أبا موسى، فقد غلب عليك غشك (2).
قال أبو جعفر: وأتت الاخبار عليا عليه السلام باختلاف الناس بالكوفة، فقال
للأشتر أنت شفعت في أبى موسى أن أقره على الكوفة، فاذهب فأصلح ما أفسدت،

(1) سورة العنكبوت 1 - 3.
(2) تاريخ الطبري 1: 3146 - 3142 مع تصرف واختصار.
20

فقام الأشتر، فشخص نحو الكوفة، فاقبل حتى دخلها والناس في المسجد الأعظم، فجعل
لا يمر بقبيلة إلا دعاهم، وقال: اتبعوني إلى القصر، حتى وصل القصر، فاقتحمه
وأبو موسى يومئذ يخطب الناس على المنبر، ويثبطهم، وعمار يخاطبه، والحسن
عليه السلام يقول اعتزل عملنا وتنح عن منبرنا، لا أم لك.
قال أبو جعفر: فروى أبو مريم الثقفي، قال: والله إني لفي المسجد يومئذ إذ دخل
علينا غلمان أبى موسى يشتدون ويبادرون (1) أبا موسى: أيها الأمير، هذا الأشتر قد
جاء، فدخل القصر، فضربنا وأخرجنا. فنزل أبو موسى من المنبر، وجاء حتى دخل
القصر، فصاح به الأشتر، اخرج من قصرنا لا أم لك، أخرج الله نفسك فوالله
إنك لمن المنافقين قديما. قال: أجلني هذه العشية، قال: قد أجلتك، ولا تبيتن في
القصر [الليلة] (2). ودخل الناس ينتهبون متاع أبى موسى، فمنعهم الأشتر، وقال:
إني قد أخرجته وعزلته عنكم فكف الناس حينئذ عنه (3).
قال أبو جعفر: فروى الشعبي، عن أبي الطفيل، قال: قال علي عليه السلام:
يأتيكم من الكوفة اثنا عشر ألف رجل ورجل واحد، فوالله لقعدت على نجفة (4)
ذي قار، فأحصيتهم واحدا واحدا، فما زادوا رجلا، ولا نقصوا رجلا (5).
[فصل في نسب عائشة وأخبارها]
وينبغي أن نذكر في هذا الموضع طرفا من نسب عائشة وأخبارها، وما يقوله أصحابنا
المتكلمون فيها، جريا على عادتنا في ذكر مثل ذلك كلما مررنا بذكر أحد من الصحابة

(1) الطبري: (ينادون).
(2) من الطبري.
(3) تاريخ الطبري 1: 3153، 3154.
(4) في الأصول: (لجفة)، والصواب ما أثبته من الطبري. والنجفة: المكان المشرف على ما حوله من الأرض.
(5) تاريخ الطبري 1: 3173، 3174.
21

أما نسبها، فإنها ابنة أبى بكر، وقد ذكرنا نسبه فيما تقدم، وأمها أم رومان ابنة
عامر بن عويمر بن عبد شمس بن عتاب بن أذينة بن سبيع بن دهمان بن الحارث بن تميم
ابن مالك بن كنانة. تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله بمكة قبل الهجرة بسنتين
- وقيل بثلاث - وهي بنت ست سنين - وقيل بنت سبع سنين - وبنى عليها بالمدينة
وهي بنت تسع، لم يختلفوا في ذلك.
وكانت تذكر لجبير بن مطعم وتسمى له، وورد في الأخبار الصحيحة أن
رسول الله صلى الله عليه وآله أرى عائشة في المنام في سرقة حرير، متوفى خديجة رضى
الله، عنها فقال إن يكن هذا من عند الله يمضه، فتزوجها بعد موت خديجة بثلاث
سنين، وتزوجها في شوال، وأعرس بها بالمدينة في شوال، على رأس ثمانية عشر شهرا
من مهاجره إلى المدينة (1).
وقال ابن عبد البر في كتاب " الاستيعاب ": كانت عائشة تحب أن تدخل
النساء من أهلها وأحبتها في شوال على أزواجهن، وتقول هل كان في نسائه أحظى
عنده منى وقد نكحني وبنى على في شوال (1).
قلت قرئ هذا الكلام على بعض الناس، فقال كيف رأت الحال بينها وبين
أحمائها وأهل بيت زوجها.
وروى أبو عمر بن عبد البر، في الكتاب المذكور: أن رسول الله صلى الله
عليه وآله توفى عنها وهي بنت ثمان عشرة سنة، فكان سنها معه تسع سنين، ولم ينكح
بكرا غيرها، واستأذنت رسول الله صلى الله عليه وآله في الكنية، فقال لها اكتني
بابنك عبد الله بن الزبير - يعنى ابن أختها - فكانت كنيتها أم عبد الله، وكانت فقيهة
عالمة بالفرائض والشعر والطب (1).

(1) الاستيعاب 474.
22

وروى أن النبي صلى الله عليه وآله، قال: (فضل عائشة على النساء كفضل الثريد
على الطعام)، وأصحابنا يحملون لفظة النساء في هذا الخبر على زوجاته، لان فاطمة عليه
السلام عندهم أفضل منها، لقوله صلى الله عليه وآله (إنها سيدة نساء العالمين).
وقذفت بصفوان بن المعطل السلمي في سنة ست، منصرف رسول الله صلى الله
عليه وآله من غزاة بنى المصطلق - وكانت معه - فقال فيها أهل الإفك ما قالوا، ونزل
القرآن ببراءتها.
وقوم من الشيعة زعموا أن الآيات التي في سورة النور لم تنزل فيها، وإنما أنزلت
في مارية القبطية، وما قذفت به مع الأسود القبطي، وجحدهم لإنزال ذلك في عائشة
جحد لما يعلم ضرورة من الأخبار المتواترة. ثم كان من أمرها وأمر حفصة وما جرى
لهما مع رسول الله صلى الله عليه وآله في الامر الذي أسره على إحداهما ما قد نطق
الكتاب العزيز به. واعتزل رسول الله صلى الله عليه وآله نساءه كلهن، واعتزلهما
معهن ثم صالحهن، وطلق حفصة ثم راجعها، وجرت بين عائشة وفاطمة إبلاغات،
وحديث يوغر الصدور، فتولد بين عائشة وبين علي عليه السلام نوع ضغينة، وانضم
إلى ذلك إشارته على رسول الله صلى الله عليه وآله في قصة الإفك بضرب الجارية
وتقريرها وقوله (إن النساء كثير).
ثم جرى حديث صلاة أبى بكر بالناس، فتزعم الشيعة أن رسول الله صلى الله
عليه وآله لم يأمر بذلك، وإنه إنما صلى بالناس عن أمر عائشة ابنته، وأن رسول الله
صلى الله عليه وآله خرج متحاملا وهو مثقل، فنحاه عن المحراب. وزعم معظم المحدثين
أن ذلك كان عن أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وقوله، ثم اختلفوا، فمنهم من قال:
نحاه وصلى هو بالناس، ومنهم من قال: بل ائتم بأبي بكر كسائر الناس، ومنهم
23

من قال: كان الناس يصلون بصلاة أبى بكر، وأبو بكر يصلى بصلاة رسول الله
صلى الله عليه وآله.
ثم كان منها في أمر عثمان، وتضريب الناس عليه، ما قد ذكرناه في مواضعه،
ثم تلا ذلك يوم الجمل.
واختلف المتكلمون في حالها وحال من حضر واقعة الجمل، فقالت الامامية كفر
أصحاب الجمل كلهم، الرؤساء والاتباع. وقال قوم من الحشوية والعامة: اجتهدوا فلا إثم
عليهم، ولا نحكم بخطئهم ولا خطأ علي عليه السلام وأصحابه.
وقال قوم من هؤلاء: بل نقول أصحاب الجمل أخطئوا، ولكنه خطأ مغفور،
وكخطأ المجتهد في بعض مسائل الفروع عند من قال بالأشبه، وإلى هذا القول يذهب
أكثر الأشعرية.
وقال أصحابنا المعتزلة: كل أهل الجمل هالكون إلا من ثبتت توبته منهم، قالوا
وعائشة ممن ثبتت توبتها، وكذلك طلحة والزبير، أما عائشة فإنها اعترفت لعلى
عليه السلام يوم الجمل بالخطأ، وسألته العفو، وقد تواترت الرواية عنها باظهار الندم،
وإنها كانت تقول ليته كان لي من رسول الله صلى الله عليه وآله بنون عشرة، كلهم
مثل عبد الرحمن بن الحارث بن هشام - وثكلتهم - ولم يكن يوم الجمل وإنها كانت
تقول ليتني مت قبل يوم الجمل، وإنها كانت إذا ذكرت ذلك اليوم تبكي حتى تبل
خمارها. وأما الزبير فرجع عن الحرب معترفا بالخطأ لما أذكره علي عليه السلام
ما أذكره. وأما طلحة فإنه مر به - وهو صريع - فارس فقال له قف، فوقف،
قال: من أي الفريقين أنت قال: من أصحاب أمير المؤمنين، قال: أقعدني، فأقعده،
فقال: امدد يدك أبايعك لأمير المؤمنين، فبايعه.
24

وقال شيوخنا: ليس لقائل أن يقول ما يروى من أخبار الآحاد بتوبتهم لا يعارض
ما علم قطعا من معصيتهم. قالوا لان التوبة إنما يحكم بها للمكلف على غالب الظن في جميع
المواضع، لا على القطع، أ لا ترى إنا نجوز أن يكون من أظهر التوبة منافقا وكاذبا، فبان
أن المرجع في قبولها في كل موضع إنما هو إلى الظن، فجاز أن يعارض ما علم من
معصيتهم بما يظن من توبتهم.
25

(2)
الأصل:
ومن كتاب له عليه السلام إليهم بعد فتح البصرة:
وجزاكم الله من أهل مصر عن أهل بيت نبيكم أحسن ما يجزى العاملين
بطاعته، والشاكرين لنعمته، فقد سمعتم وأطعتم، ودعيتم فأجبتم.
* * *
الشرح:
موضع قوله (من أهل مصر) نصب على التمييز، ويجوز أن يكون حالا.
فإن قلت كيف يكون تمييزا وتقديره: وجزاكم الله متمدنين أحسن ما يجزى
المطيع، والتمييز لا يكون إلا جامدا، وهذا مشتق.
قلت إنهم أجازوا كون التمييز مشتقا في نحو قولهم: (ما أنت جاره)، وقولهم:
(يا سيدا ما أنت من سيد).
وما يجوز أن تكون مصدرية، أي أحسن جزاء العاملين، ويجوز أن تكون
بمعنى الذي، ويكون قد حذف العائد إلى الموصول، وتقديره أحسن الذي
يجزى به العاملين.
26

(3)
الأصل:
ومن كتاب له عليه السلام كتبه لشريح بن الحارث قاضيه
روى أن شريح بن الحارث قاضى أمير المؤمنين عليه السلام اشترى على
عهده دارا بثمانين دينارا، فبلغه ذلك، فاستدعى شريحا، وقال له: بلغني
إنك ابتعت دارا بثمانين دينارا، وكتبت لها كتابا، وأشهدت فيه شهودا.
فقال له شريح قد كان ذلك يا أمير المؤمنين، قال: فنظر إليه نظر المغضب،
ثم قال له:
يا شريح، أما انه سيأتيك من لا ينظر في كتابك، ولا يسألك عن بينتك،
حتى يخرجك منها شاخصا، ويسلمك إلى قبرك خالصا. فانظر يا شريح لا تكون
ابتعت هذه الدار من غير مالك، أو نقدت الثمن من غير حلالك، فإذا أنت قد
خسرت دار الدنيا ودار الآخرة.
أما إنك لو كنت أتيتني عند شرائك ما اشتريت، لكتبت لك كتابا على
هذه النسخة، فلم ترغب في شراء هذه الدار بالدرهم (1) فما فوق، والنسخة هذه:
(هذا ما اشترى عبد ذليل، من ميت قد أزعج للرحيل. اشترى منه دارا
من دار الغرور، من جانب الفانين، وخطة الهالكين، وتجمع هذه الدار حدود
أربعة: الحد الأول ينتهى إلى دواعي الآفات، والحد الثاني ينتهى إلى دواعي
المصيبات، والحد الثالث ينتهى إلى الهوى المردي، والحد الرابع ينتهى إلى
الشيطان المغوي. وفيه يشرع باب هذه الدار. اشترى هذا المغتر بالأمل، من هذا

(1) مخطوطة النهج: (بدرهم).
27

المزعج بالأجل هذه الدار بالخروج من عز القناعة، والدخول في ذل الطلب
والضراعة، فما أدرك هذا المشترى فيما اشترى من درك. فعلى مبلبل أجسام
الملوك، وسالب نفوس الجبابرة، ومزيل ملك الفراعنة، مثل كسرى وقيصر،
وتبع وحمير، ومن جمع المال على المال فأكثر، ومن بنى وشيد، وزخرف
ونجد، وادخر واعتقد، ونظر بزعمه للولد - إشخاصهم جميعا إلى موقف
العرض والحساب، وموضع الثواب والعقاب، إذا وقع الامر بفصل القضاء،
(وخسر هنالك المبطلون).
شهد على ذلك العقل إذا خرج من أسر الهوى، وسلم من علائق الدنيا).
* * *
الشرح:
نسب شريح وذكر بعض أخباره
هو شريح بن الحارث بن المنتجع بن معاوية بن جهم بن ثور بن عفير (1) بن عدي
ابن الحارث بن مرة بن أدد الكندي، وقيل إنه حليف لكندة من بنى الرائش.
وقال ابن الكلبي ليس أسم أبيه الحارث، وإنما هو شريح بن معاوية
ابن ثور.
وقال قوم هو شريح بن هانئ.
وقال قوم هو شريح بن شراحيل، والصحيح انه شريح بن الحارث، ويكنى
أبا أمية. استعمله عمر بن الخطاب على القضاء بالكوفة، فلم يزل قاضيا ستين سنة، لم يتعطل
فيها إلا ثلاث سنين في فتنة ابن الزبير، امتنع فيها من القضاء، ثم استعفى الحجاج من

(1) ب: (عقر)، والصواب ما أثبته من الاستيعاب.
28

العمل فأعفاه، فلزم منزله إلى أن مات، وعمر عمرا طويلا، قيل إنه عاش مائة سنة وثمانيا
وستين، وقيل مائة سنة، وتوفى سنة سبع وثمانين.
وكان خفيف الروح، مزاحا، فقدم إليه رجلان، فأقر أحدهما بما ادعى به خصمه،
وهو لا يعلم فقضى عليه، فقال لشريح: من شهد عندك بهذا قال: ابن أخت خالك
وقيل إنه جاءته امرأته تبكي وتتظلم على خصمها، فما رق لها حتى قال له إنسان كان
بحضرته: ألا تنظر أيها القاضي إلى بكائها فقال إن إخوة يوسف جاءوا أباهم
عشاء يبكون.
وأقر علي عليه السلام شريحا على القضاء مع مخالفته له في مسائل كثيرة من الفقه
مذكورة في كتب الفقهاء.
واستأذنه شريح وغيره من قضاة عثمان في القضاء أول ما وقعت الفرقة، فقال
اقضوا كما كنتم تقضون حتى تكون للناس جماعة، أو أموت كما مات أصحابي.
وسخط علي عليه السلام مرة عليه فطرده عن الكوفة ولم يعزله عن القضاء، وأمره
بالمقام ببانقيا - وكانت قرية قريبة من الكوفة أكثر ساكنها اليهود - فأقام بها مدة،
حتى رضى عنه وأعاده إلى الكوفة.
وقال أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب أدرك شريح الجاهلية،
ولا يعد من الصحابة، بل من التابعين، وكان شاعرا محسنا، وكان سناطا لا شعر في
وجهه (1).
* * *
قوله عليه السلام (وخطة الهالكين) بكسر الخاء، وهي الأرض التي يختطها الانسان،

(1) الاستيعاب 590، وذكر إنه توفي سنة سبع وثمانين وهو ابن مائة سنة، وولي القضاء ستين
سنة من زمن عمر إلى زمن عبد الملك بن مروان.
29

أي يعلم عليها علامة بالخط ليعمرها، ومنه خطط الكوفة والبصرة.
وزخرف البناء، أي ذهب جدرانه بالزخرف، وهو الذهب.
ونجد فرش المنزل بالوسائد، والنجاد الذي يعالج الفرش والوسائد ويخيطهما،
والتنجيد التزيين بذلك، ويجوز أن يريد بقوله (نجد) رفع وعلا، من النجد، وهو
المرتفع من الأرض.
واعتقد جعل لنفسه عقدة كالضيعة أو الذخيرة من المال الصامت.
(وأشخاصهم) مرفوع بالابتداء وخبره الجار المجرور المقدم، وهو قوله (فعلى
مبلبل أجسام الملوك). وموضع الاستحسان من هذا الفصل - وإن كان كله حسنا - أمران:
أحدهما انه عليه السلام نظر إليه نظر مغضب، إنكارا لابتياعه دارا بثمانين دينارا،
وهذا يدل على زهد شديد في الدنيا واستكثار للقليل منها، ونسبه هذا المشترى إلى
الاسراف، وخوف من أن يكون ابتاعها بمال حرام.
الثاني إنه أملى عليه كتابا زهديا وعظيا، مماثلا لكتب الشروط التي تكتب في
ابتياع الأملاك، فإنهم يكتبون (هذا ما اشترى فلان من فلان، اشترى منه دارا من
شارع كذا وخطه كذا، ويجمع هذه الدار حدود أربعة، فحد منها ينتهى إلى دار فلان، وحد
آخر ينتهى إلى ملك فلان، وحد آخر ينتهى إلى ما كان يعرف بفلان، وهو الان معروف
بفلان، وحد آخر ينتهى إلى كذا. ومنه شروع باب هذه الدار، وطريقها: (اشترى هذا
المشترى المذكور من البائع المذكور جميع الدار المذكورة بثمن مبلغه كذا وكذا دينارا،
أو درهما، فما أدرك المشترى المذكور من درك فمرجوع به على من يوجب الشرع
الرجوع به عليه). ثم تكتب الشهود في آخر الكتاب. شهد فلان ابن فلان بذلك،
وشهد فلان ابن فلان به أيضا، وهذا يدل على أن الشروط المكتوبة الان قد كانت
30

في زمن الصحابة تكتب مثلها أو نحوها، إلا انا ما سمعنا عن أحد منهم نقل صيغة الشرط
الفقهي إلى معنى آخر كما قد نظمه هو عليه السلام ولا غرو فما زال سباقا إلى
العجائب والغرائب.
فإن قلت لم جعل الشيطان المغوي في الحد الرابع
قلت ليقول وفيه يشرع باب هذه الدار، لأنه إذا كان الحد إليه ينتهى كان
أسهل لدخوله إليها ودخوله أتباعه وأوليائه من أهل الشيطنة والضلال.
31

الأصل:
ومن كتاب له كتبه عليه السلام إلى بعض أمراء جيشه:
فإن عادوا إلى ظل الطاعة، فذاك الذي نحب، وإن توافت الأمور بالقوم
إلى الشقاق والعصيان فانهد بمن أطاعك إلى من عصاك، واستغن بمن انقاد معك،
عمن تقاعس عنك، فإن المتكاره مغيبه خير من مشهده، وقعوده أغنى
من نهوضه.
* * *
الشرح:
أنهد أي انهض وتقاعس، أي أبطأ وتأخر.
والمتكاره الذي يخرج إلى الجهاد من غير نية وبصيرة، وإنما يخرج كارها مرتابا،
ومثل قوله عليه السلام: (فإن المتكاره مغيبه خير من مشهده، وقعوده أغنى من
نهوضه) قوله تعالى: (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا) (1)

(1) سورة التوبة 47.
32

(5)
الأصل:
ومن كتاب له عليه السلام إلى الأشعث بن قيس، وهو عامل أذربيجان:
وإن عملك ليس لك بطعمة، ولكنه في عنقك أمانة، وأنت مسترعى لمن
فوقك، ليس لك أن تفتات في رعية، ولا تخاطر إلا بوثيقة، وفي يديك مال من
مال الله تعالى، وأنت من خزانة حتى تسلمه إلى، ولعلي ألا أكون شر
ولاتك لك. والسلام.
* * *
الشرح:
قد ذكرنا نسب أشعث بن قيس فيما تقدم.
وأذربيجان اسم أعجمي غير مصروف، الألف مقصورة، والذال ساكنة قال
حبيب:
وأذربيجان احتيال بعد ما * كانت معرس عبرة ونكال (1).
وقال الشماخ:
تذكرتها وهنا وقد حال دونها * قرى أذربيجان المسالح والجال (2)
والنسبة إليه أذرى بسكون الذال، هكذا القياس، ولكن المروى عن أبي بكر
في الكلام الذي قاله عند موته: (ولتألمن النوم على الصوف الآذري) بفتح الذال.
والطعمة بضم الطاء المهملة المأكلة، ويقال فلان خبيث الطعمة، أي ردئ الكسب.
والطعمة بالكسر لهيئة التطعم، يقول إن عملك لم يسوغه الشرع والوالي من قبلي إياه،

(1) ديوانه 3: 132.
(2) معجم البلدان 1: 159، ولم أجده في ديوانه.
33

ولا جعله لك أكلا، ولكنه أمانة في يدك وعنقك للمسلمين، وفوقك سلطان أنت له رعية
فليس لك أن تفتات في الرعية الذين تحت يدك، يقال افتات فلان على فلان، إذا فعل
بغير إذنه ما سبيله أن يستأذنه فيه، وأصله من الفوت وهو السبق، كأنه سبقه إلى ذلك الامر.
وقوله (ولا تخاطر إلا بوثيقة)، أي لا تقدم على أمر مخوف فيما يتعلق بالمال
الذي تتولاه إلا بعد أن تتوثق لنفسك، يقال أخذ فلان بالوثيقة في أمره، أي احتاط.
ثم قال له: (ولعلي لا أكون شر ولاتك)، وهو كلام يطيب به نفسه ويسكن به
جأشه، لان في أول الكلام إيحاشا له، إذ كانت ألفاظه تدل على أنه لم يره أمينا على المال،
فاستدرك ذلك بالكلمة الأخيرة، أي ربما تحمد خلافتي وولايتي عليك، وتصادف منى
إحسانا إليك، أي عسى ألا يكون شكرك لعثمان ومن قبله أكثر من شكرك لي،
وهذا من باب وعدك الخفي، وتسمية العرب الملث.
وأول هذا الكتاب:
(من عبد الله على أمير المؤمنين إلى الأشعث بن قيس. أما بعد، فلو لا هنات
وهنات كانت منك، كنت المقدم في هذا الامر قبل الناس، ولعل أمرا كان يحمل بعضه
بعضا إن اتقيت الله عز وجل، وقد كان من بيعة الناس إياي ما قد علمت، وكان من أمر
طلحة والزبير ما قد بلغك، فخرجت إليهما، فأبلغت في الدعاء، وأحسنت في البقية،
وإن عملك ليس لك بطعمة....)، إلى آخر الكلام، وهذا الكتاب كتبه إلى الأشعث
ابن قيس بعد انقضاء الجمل.
34

(6)
الأصل:
ومن كتاب له عليه السلام إلى معاوية:
إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه،
فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين
والأنصار، فان اجتمعوا على رجل وسموه إماما كان ذلك لله رضا، فان خرج عن
أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فان أبى قاتلوه على اتباعه
غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى.
ولعمري يا معاوية، لئن نظرت بعقلك دون هواك، لتجدني أبرأ الناس
من دم عثمان، ولتعلمن أنى كنت في عزله عنه، إلا أن تتجنى، فتجن
ما بدا لك! والسلام.
* * *
الشرح:
قد تقدم ذكر هذا الكلام في أثناء اقتصاص مراسلة أمير المؤمنين عليه السلام
معاوية بجرير بن عبد الله البجلي، وقد ذكره أرباب السيرة، كلهم وأورده شيوخنا
المتكلمون في كتبهم احتجاجا على صحة الاختيار، وكونه طريقا إلى الإمامة،
وأول الكتاب:
(أما بعد فإن بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام، لأنه بايعني القوم الذين بايعوا..)
إلى آخر الفصل.
35

و المشهور المروى: (فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو رغبة)، أي رغبة عن
ذلك الامام الذي وقع الاختيار له.
والمروي بعد قوله (ولاه الله بعد ما تولى)، (وأصلاه جهنم وساءت مصيرا)،
وإن طلحة والزبير بايعاني ثم نقضا بيعتي، فكان نقضهما كردتهما، فجاهدتهما على
ذلك حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون. فادخل فيما دخل فيه المسلمون، فان
أحب الأمور إلى فيك العافية، إلا أن تتعرض للبلاء، فان تعرضت له قاتلتك،
واستعنت بالله عليك، وقد أكثرت في قتلة عثمان، فادخل فيما دخل الناس فيه، ثم
حاكم القوم إلى أحملك وإياهم على كتاب الله، فاما تلك التي تريدها فخدعة الصبي
عن اللبن، ولعمري يا معاوية إن نظرت بعقلك..) إلى آخر الكلام.
وبعده (واعلم أنك من الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة، ولا تعترض بهم الشورى،
وقد أرسلت إليك جرير بن عبد الله البجلي، وهو من أهل الايمان والهجرة، فبايع
ولا قوة الا بالله).
واعلم إن هذا الفصل دال بصريحه على كون الاختيار طريقا إلى الإمامة كما يذكره
أصحابنا المتكلمون، لأنه احتج على معاوية ببيعة أهل الحل والعقد له، ولم يراع
في ذلك إجماع المسلمين كلهم، وقياسه على بيعة أهل الحل والعقد لأبي بكر،
فإنه ما روعي فيها إجماع المسلمين، لان سعد بن عبادة لم يبايع، ولا أحد
من أهل بيته وولده، ولان عليا وبنى هاشم ومن انضوى إليهم لم يبايعوا
في مبدأ الامر، وامتنعوا، ولم يتوقف المسلمون في تصحيح إمامة أبى بكر وتنفيذ
أحكامه على بيعتهم، وهذا دليل على صحة الاختيار وكونه طريقا إلى الإمامة،
وإنه لا يقدح في إمامته عليه السلام امتناع معاوية من البيعة وأهل الشام، فأما
الامامية فتحمل هذا الكتاب منه عليه السلام على التقية، وتقول: إنه ما كان يمكنه
36

أن يصرح لمعاوية في مكتوبه بباطن الحال، ويقول له: أنا منصوص على من رسول
الله صلى الله عليه وآله، ومعهود إلى المسلمين أن أكون خليفة فيهم بلا فصل، فيكون
في ذلك طعن على الأئمة المتقدمين، وتفسد حاله مع الذين بايعوه من أهل المدينة، وهذا
القول من الامامية دعوى لو عضدها دليل لوجب أن يقال بها، ويصار إليها، ولكن
لا دليل لهم على ما يذهبون إليه من الأصول التي تسوقهم إلى حمل هذا الكلام
على التقية.
فأما قوله عليه السلام (وقد أكثرت في قتلة عثمان، فادخل فيما دخل فيه المسلمون،
ثم حاكم القوم إلى أحملك وإياهم على كتاب الله)، فيجب أن يذكر في شرحه ما يقول
المتكلمون في هذه الواقعة.
قال أصحابنا المعتزلة رحمهم الله: هذا الكلام حق وصواب، لان أولياء الدم يجب
أن يبايعوا الامام ويدخلوا تحت طاعته، ثم يرفعوا خصومهم إليه، فان حكم بالحق
استديمت إمامته، وإن حاد عن الحق انقضت خلافته، وأولياء عثمان الذين هم بنوه لم
يبايعوا عليا عليه السلام، ولا دخلوا تحت طاعته ثم، وكذلك معاوية ابن عم عثمان لم يبايع
ولا أطاع، فمطالبتهم له بأن يقتص لهم من قاتلي عثمان قبل بيعتهم إياه وطاعتهم له ظلم
منهم وعدوان.
فان قلت: هب أن القصاص من قتلة عثمان موقوف على ما ذكره عليه السلام،
اما كان يجب عليه لا من طريق القصاص أن ينهى عن المنكر وأنتم تذهبون إلى أن
النهى عن المنكر واجب على من هو سوقة، فكيف على الامام الأعظم.
قلت هذا غير وارد هاهنا، لان النهى عن المنكر إنما يجب قبل وقوع المنكر،
لكيلا يقع، فإذا وقع المنكر، فأي نهى يكون عنه وقد نهى علي عليه السلام أهل
مصر وغيرهم عن قتل عثمان قبل قتله مرارا، ونابذهم بيده ولسانه وبأولاده فلم يغن
37

شيئا وتفاقم الامر حتى قتل، ولا يجب بعد القتل إلا القصاص، فإذا امتنع أولياء
الدم من طاعة الامام لم يجب عليه أن يقص من القاتلين، لان القصاص حقهم، وقد
سقط ببغيهم على الامام وخروجهم عن طاعته، وقد قلنا نحن فيما تقدم: إن القصاص
إنما يجب على من باشر القتل، والذين باشروا قتل عثمان قتلوا يوم قتل عثمان في دار عثمان،
والذين كان معاوية يطالبهم بدم عثمان لم يباشروا القتل، وإنما كثروا السواد وحصروه
عثمان في الدار، وأجلبوا عليه وشتموه وتوعدوه، ومنهم من تسور عليه داره ولم ينزل
إليه، ومنهم من نزل فحضر محضر قتله ولم يشرك فيه، وكل هؤلاء لا يجب عليهم
القصاص في الشرع.
* * *
[جرير بن عبد الله البجلي عند معاوية]
وقد ذكرنا فيما تقدم شرح حال جرير بن عبد الله البجلي في إرسال علي عليه السلام
إياه إلى معاوية مستقصى. وذكر الزبير بن بكار في الموفقيات أن عليا عليه السلام
لما بعث جريرا إلى معاوية، خرج وهو لا يرى أحدا قد سبقه إليه، قال: فقدمت على
معاوية فوجدته يخطب الناس وهم حوله يبكون حول قميص عثمان وهو معلق على رمح
مخضوب بالدم، وعليه أصابع زوجته نائلة بنت الفرافصة مقطوعة، فدفعت إليه كتاب
علي عليه السلام، وكان معي في الطريق رجل يسير بسيري، ويقيم بمقامي، فمثل بين
يديه في تلك الحال وأنشده
إن بنى عمك عبد المطلب * هم قتلوا شيخكم غير كذب
* وأنت أولى الناس بالوثب فثب *.
وقد ذكرنا تمام هذه الأبيات فيما تقدم.
38

قال: ثم دفع إليه كتابا من الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وهو أخو عثمان لامه،
كتبه مع هذا الرجل من الكوفة سرا أوله:
* معاوي أن الملك قد جب غاربه *.
الأبيات التي ذكرنا فيما تقدم.
قال فقال لي معاوية: أقم فان الناس قد نفروا عند قتل عثمان حتى يسكنوا.
فأقمت أربعة أشهر، ثم جاءه كتاب آخر من الوليد بن عقبه، أوله:
ألا أبلغ معاوية بن حرب * فإنك من أخي ثقة مليم (1)
قطعت الدهر كالسدم المعنى * تهدر في دمشق ولا تريم (2)
وإنك والكتاب إلى علي * كدابغة وقد حلم الأديم (3)
فلو كنت القتيل وكان حيا * لشمر لا ألف ولا سئوم (4).
قال: فلما جاءه هذا الكتاب وصل بين طومارين (5) أبيضين، ثم طواهما
وكتب عنوانهما

(1) المليم: من وقع منه ما يلام عليه.
(2) السدم في الأصل: الذي يرغب عن فحلته، فيحال بينه وبين الآفة، والبيت في اللسان 15: 176.
(3) يقول: أنت تسعى في إصلاح أمر قد تم فساده كالمرأة التي تدبغ الأديم الحلم الذي وقعت فيه الحلمة
(وهي دودة) فنقبته وأفسدته فلا ينتفع به. وقد وردت الأربعة في اللسان (حلم)، وذكر بعدها:
لك الويلات أقحمها عليهم * فخير الطالبي الترة الغشوم
فقومك بالمدينة قد تردوا * فهم صرعى كأنهم الهشيم
(4) رواية هذا البيت في اللسان:
فلو كنت المصاب وكان حيا * تجرد، لا ألف ولا سئوم
(5) الطومار: الصحيفة.
39

(من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب).
ودفعهما إلى لا اعلم ما فيهما، ولا أظنهما إلا جوابا، وبعث معي رجلا من بنى عبس
لا أدرى ما معه، فخرجنا حتى قدمنا إلى الكوفة، وأجتمع الناس في المسجد، لا يشكون
انها بيعة أهل الشام، فلما فتح علي عليه السلام الكتاب لم يجد شيئا، وقام العبسي، فقال:
من هاهنا من أحياء قيس، وأخص من قيس غطفان، وأخص من غطفان عبسا إني
أحلف بالله لقد تركت تحت قميص عثمان أكثر من خمسين ألف شيخ خاضبي لحاهم
بدموع أعينهم، متعاقدين متحالفين، ليقتلن قتلته في البر والبحر، وإني احلف بالله
ليقتحمنها عليكم ابن أبي سفيان بأكثر من أربعين ألفا من خصيان الخيل، فما ظنكم
بعد بما فيها من الفحول. ثم دفع إلى علي عليه السلام كتابا من معاوية ففتحه
فوجد فيه:
أتاني أمر فيه للنفس غمه * وفيه اجتداع للأنوف أصيل
مصاب أمير المؤمنين وهدة * تكاد لها صم الجبال تزول
وقد ذكرنا هذا الشعر فيما تقدم.
40

(7)
الأصل:
ومن كتاب منه عليه السلام إليه أيضا:
أما بعد فقد أتتني منك موعظة موصلة، ورسالة محبرة، نمقتها بضلالك،
وأمضيتها بسوء رأيك. وكتاب امرئ ليس له بصر يهديه، ولا قائد يرشده،
قد دعاه الهوى فأجابه، وقادة الضلال فاتبعه، فهجر لاغطا، وضل خابطا.
* * *
الشرح:
موعظة موصلة، أي مجموعة الألفاظ من هاهنا وهاهنا، وذلك عيب في الكتابة
والخطابة، وإنما الكاتب من يرتجل فيقول قولا فصلا، أو يروى فيأتي بالبديع المستحسن،
وهو في الحالين كليهما ينفق من كيسه، ولا يستعير كلام غيره.
والرسالة المحبرة المزينة الألفاظ، كأنه عليه السلام يشير إلى إنه قد كان يظهر عليها
أثر التكلف والتصنع.
والتنميق التزيين أيضا.
وهجر الرجل، أي هذى، ومنه قوله تعالى في أحد التفسيرين (إن قومي اتخذوا
هذا القرآن مهجورا) (1).
واللاغط ذو اللغط، وهو الصوت والجلبة.

(1) سورة الفرقان 30.
41

وخبط البعير فهو خابط، إذا مشى ضالا فخبط بيديه كل ما يلقاه، ولا يتوقى
شيئا.
* * *
وهذا الكتاب كتبه علي عليه السلام جوابا عن كتاب كتبه معاوية إليه في أثناء
حرب صفين بل في أواخرها، وكان كتاب معاوية:
(من عبد الله معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب، أما بعد، فان
الله تعالى يقول في محكم كتابه: (ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن
أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) (1)، وإني أحذرك الله أن
تحبط عملك وسابقتك بشق عصا هذه الأمة وتفريق جماعتها، فاتق الله واذكر موقف
القيامة، وأقلع عما أسرفت فيه من الخوض في دماء المسلمين، وإني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وآله يقول: (لو تمالا أهل صنعاء وعدن على قتل رجل واحد من المسلمين
لأكبهم الله على مناخرهم في النار)، فكيف يكون حال من قتل أعلام المسلمين وسادات
المهاجرين، بله ما طحنت رحا حربه من أهل القرآن، وذي العبادة والايمان، من شيخ
كبير، وشاب غرير، كلهم بالله تعالى مؤمن، وله مخلص، وبرسوله مقر عارف! فان كنت
أبا حسن إنما تحارب على الامرة والخلافة، فلعمري لو صحت خلافتك لكنت قريبا
من أن تعذر في حرب المسلمين، ولكنها ما صحت لك، إني بصحتها وأهل الشام لم
يدخلوا فيها، ولم يرتضوا بها وخف الله وسطواته، واتق بأسه، ونكاله، وأغمد سيفك
عن الناس، فقد والله أكلتهم الحرب، فلم يبق منهم إلا كالثمد في قرارة الغدير.
والله المستعان).
فكتب علي عليه السلام إليه جوابا عن كتابه.

(1) سورة الزمر: 65.
42

من عبد الله على أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان: (أما بعد فقد أتتني منك
موعظة موصلة، ورسالة محبرة، نمقتها بضلالك، وأمضيتها بسوء رأيك، وكتاب امرئ
ليس له بصر يهديه، ولا قائد يرشده، دعاه الهوى فأجابه، وقاده الضلال فاتبعه، فهجر
لاغطا، وضل خابطا، فاما أمرك لي بالتقوى فأرجو أن أكون من أهلها، وأستعيذ بالله
من أن أكون من الذين إذا أمروا بها أخذتهم العزة بالاثم، وأما تحذيرك إياي أن
يحبط عملي وسابقتي في الاسلام، فلعمري لو كنت الباغي عليك، لكان لك أن
تحذرني ذلك، ولكني وجدت الله تعالى يقول: (فقاتلوا التي تبغى حتى تفئ إلى
أمر الله) (1) فنظرنا إلى الفئتين، أما الفئة الباغية فوجدناها الفئة التي أنت فيها، لان بيعتي
بالمدينة لزمتك وأنت بالشام، كما لزمتك بيعة عثمان بالمدينة وأنت أمير لعمر على الشام،
وكما لزمت يزيد أخاك بيعة عمر وهو أمير لأبي بكر على الشام. وأما شق عصا هذه الأمة
فانا أحق أن أنهاك عنه. فاما تخويفك لي من قتل أهل البغي، فان رسول الله صلى الله
عليه وآله امرني بقتالهم وقتلهم، وقال لأصحابه: (إن فيكم من يقاتل على تأويل
القرآن كما قاتلت على تنزيله)، وأشار إلى وأنا أولى من أتبع امره.
وأما قولك أن بيعتي لم تصح لان أهل الشام لم يدخلوا فيها كيف وإنما هي بيعة
واحدة، تلزم الحاضر والغائب، لا يثنى فيها النظر، ولا يستأنف فيها الخيار، الخارج
منها طاعن، والمروي فيها مداهن. فأربع على ظلعك، وانزع سربال غيك، واترك
ما لا جدوى له عليك، فليس لك عندي إلا السيف، حتى تفئ إلى أمر الله صاغرا، وتدخل
في البيعة راغما. والسلام).

(1) سورة الحجرات 9.
43

الأصل:
ومن هذا الكتاب
لأنها بيعة واحدة لا يثنى فيها النظر، ولا يستأنف فيها الخيار، الخارج منها
طاعن، والمروي فيها مداهن.
* * *
الشرح:
لا يثنى فيها النظر، أي لا يعاود ولا يراجع ثانية. ولا يستأنف فيها الخيار ليس بعد
عقدها خيار لمن عقدها ولا لغيرهم، لأنها تلزم غير العاقدين كما تلزم العاقدين، فيسقط
الخيار فيها، الخارج منها طاعن على الأمة، لأنهم أجمعوا على أن الاختيار طريق الإمامة.
والمروي فيها مداهن، أي الذي يرتئي ويبطئ عن الطاعة ويفكر، وأصله من
الروية والمداهن المنافق.
44

(8)
الأصل:
ومن كتاب له عليه السلام إلى جرير بن عبد الله البجلي لما أرسله
إلى معاوية:
أما بعد، فإذا أتاك كتابي فاحمل معاوية على الفصل، وخذه بالامر الجزم،
ثم خيره بين حرب مجلية، أو سلم مخزية، فإن اختار الحرب فانبذ إليه،
وإن اختار السلم فخذ بيعته. والسلام.
* * *
الشرح:
قد تقدم ذكر نسب جرير بن عبد الله البجلي.
وقوله عليه السلام: (فاحمل معاوية على الفصل)، أي لا تتركه متلكئا مترددا،
يطمعك تارة ويؤيسك أخرى، بل أحمله على أمر فيصل، إما البيعة، أو أن
يأذن بالحرب.
وكذلك قوله: (وخذه بالامر الجزم)، أي الامر المقطوع به، لا تكن ممن
يقدم رجلا ويؤخر أخرى، وأصل الجزم القطع.
وحرب مجلية تجلى المقهورين فيها عن ديارهم، أي تخرجهم.
وسلم مخزية، أي فاضحة، وإنما جعلها مخزية لان معاوية أمتنع أولا من البيعة،
فإذا دخل في السلم فإنما يدخل فيها بالبيعة، وإذا بايع بعد الامتناع، فقد دخل تحت الهضم
ورضى بالضيم، وذلك هو الخزي.
45

قوله (فانبذ إليه) من قوله تعالى: (فانبذ إليهم على سواء) (1) وأصله العهد
والهدنة وعقد الحلف يكون بين الرجلين أو بين القبيلتين، ثم يبدو لهما في ذلك فينتقلان
إلى الحرب فينبذ أحدهما إلى الاخر عهده، كأنه كتاب مكتوب بينهما قد نبذه أحدهما
يوم الحرب وأبطله، فاستعير ذلك للمجاهرة بالعداوة والمكاشفة، ونسخ شريعة السلام
السابقة بالحرب المعاقبة لها.

(1) سورة الأنفال 58.
46

(9)
الأصل:
ومن كتاب له عليه السلام إلى معاوية:
فأراد قومنا قتل نبينا، واجتياح أصلنا، وهموا بنا الهموم، وفعلوا بنا
الأفاعيل، ومنعونا العذب، وأحلسونا الخوف، واضطرونا إلى جبل وعر، وأوقدوا
لنا نار الحرب.
فعزم الله لنا على الذب عن حوزته، والرمي من وراء حومته، مؤمننا يبغي
بذلك الاجر، وكافرنا يحامى عن الأصل، ومن أسلم من قريش خلو مما نحن فيه
بحلف يمنعه، أو عشيرة تقوم دونه، فهو من القتل بمكان أمن.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا احمر الباس، وأحجم الناس، قدم
أهل بيته فوقى بهم أصحابه حر السيوف والأسنة، فقتل عبيدة بن الحارث يوم
بدر، وقتل حمزة يوم أحد، وقتل جعفر يوم مؤتة، وأراد من لو شئت ذكرت
اسمه مثل الذي أرادوا من الشهادة، ولكن آجالهم عجلت، ومنيته أخرت.
فيا عجبا للدهر إذ صرت يقرن بي من لم يسع بقدمي، ولم تكن له كسابقتي
التي لا يدلى أحد بمثلها، إلا أن يدعى مدع ما لا أعرفه، ولا أظن الله يعرفه.
والحمد لله على كل حال.
وأما ما سألت من دفع قتلة عثمان، إليك فإني نظرت في هذا الامر، فلم
أره يسعني دفعهم إليك ولا إلى غيرك، ولعمري لم تنزع من غيك وشقاقك،
لتعرفنهم عن قليل يطلبونك، لا يكلفونك طلبهم في بر ولا بحر، ولا جبل
47

ولا سهل، إلا إنه طلب يسوءك وجدانه، وزور لا يسرك لقيانه.
والسلام لأهله.
* * *
الشرح:
قوله عليه السلام: (فأراد قومنا)، يعنى قريشا.
والاجتياح الاستئصال، ومنه الجائحة وهي السنة، أو الفتنة التي تجتاح المال
أو الأنفس.
قوله (ومنعونا العذب)، أي العيش العذب لا إنهم منعوهم الماء العذب، على
إنه قد نقل أنهم منعوا أيام الحصار في شعب بني هاشم من الماء العذب
وسنذكر ذلك.
قوله (وأحلسونا الخوف)، أي ألزموناه والحلس كساء رقيق يكون
تحت برذعة البعير وأحلاس البيوت ما يبسط تحت حر الثياب، وفي الحديث
(كن حلس بيتك)، أي لا تخالط الناس واعتزل عنهم، فلما كان الحلس ملازما
ظهر البعير، وأحلاس البيوت ملازمة لها، قال: (وأحلسونا الخوف)، أي جعلوه
لنا كالحلس الملازم.
قوله (واضطرونا إلى جبل وعر)، مثل ضربه عليه السلام لخشونة مقامهم
وشظف منزلهم، أي كانت حالنا فيه كحال من اضطر إلى ركوب جبل وعر، ويجوز
أن يكون حقيقة لا مثلا، لان الشعب الذي حصروهم فيه مضيق بين جبلين.
قوله (فعزم الله لنا)، أي قضى الله لنا، ووفقنا لذلك، وجعلنا عازمين عليه.
والحوزة الناحية، وحوزة الملك: بيضته.
48

وحومة الماء والرمل معظمه.
والرمي عنها المناضلة والمحاماة، ويروى (والرمي من وراء حرمته)، والضمير في
(حوزته) و (حومته) راجع إلى النبي صلى الله عليه وآله، وقد سبق ذكره وهو قوله
(نبينا) ويروى (والرميا).
وقال الراوندي (وهموا بنا الهموم)، أي هموا نزول الهم بنا، فحذف المضاف وأقام
المضاف إليه مقامه. وليس ما قاله بجيد بل (الهموم) منصوب هاهنا على المصدر، أي
هموا بنا هموما كثيرة، وهموا بنا أي أرادوا نهبنا، كقوله تعالى (وهم بها) (1)، على
تفسير أصحابنا، وإنما ادخل لام التعريف في الهموم، أي هموا بنا تلك الهموم التي
تعرفونها، فأتى باللام ليكون أعظم وأكبر في الصدور من تنكيرها، أي تلك الهموم
معروفة مشهورة بين الناس لتكرر عزم المشركين في أوقات كثيرة مختلفة
على الايقاع.
وقوله (وفعلوا بنا الأفاعيل)، يقال لمن أثروا آثار منكره فعلوا بنا الأفاعيل،
وقل أن يقال ذلك في غير الضرر والأذى، ومنه قول أمية بن خلف لعبد الرحمن بن عوف
وهو يذكر حمزة بن عبد المطلب يوم بدر (ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل).
قوله (يحامى عن الأصل)، أي يدافع عن محمد ويذب عنه حمية ومحافظة
على النسب.
قوله (خلو مما نحن فيه)، أي خال. والحلف العهد.
واحمر البأس، كلمة مستعارة، أي اشتدت الحرب حتى احمرت الأرض من الدم،
فجعل البأس هو الأحمر مجازا، كقولهم الموت الأحمر.

(1) سورة يوسف 24.
49

قوله (وأحجم الناس)، أي كفوا عن الحرب وجبنوا عن الاقدام، يقال حجمت
فلانا عن كذا أحجمه بالضم، فأحجم هو، وهذه اللفظة من النوادر، كقولهم
(كببته فأكب).
ويوم مؤتة بالهمز، ومؤتة أرض معروفة.
وقوله (وأراد من لو شئت لذكرت اسمه)، يعنى به نفسه.
قوله (إذ صرت يقرن بي من لم يسع بقدمي) إشارة إلى معاوية في الظاهر، وإلى
من تقدم عليه من الخلفاء في الباطن، والدليل عليه قوله (التي لا يدلى أحد بمثلها)،
فأطلق القول اطلاقا عاما مستغرقا لكل الناس أجمعين.
ثم قال: (إلا أن يدعى مدع ما لا أعرفه، ولا أظن الله يعرفه)، أي كل من
أدعى خلاف ما ذكرته فهو كاذب، لأنه لو كان صادقا لكان علي عليه السلام يعرفه
لا محالة، فإذا قال عن نفسه: إن كل دعوة تخالف ما ذكرت فإني لا أعرف صحتها،
فمعناه أنها باطلة.
وقوله (ولا أظن الله يعرفه)، فالظن هاهنا بمعنى العلم، كقوله تعالى: (ورأي
المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها) (1)، واخرج هذه الكلمة مخرج قوله تعالى
(قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض) (2)، وليس المراد
سلب العلم بل العلم بالسلب، كذلك ليس مراده عليه السلام سلب الظن الذي هو بمعنى
العلم، بل ظن السلب، أي علم السلب، أي واعلم أن الله سبحانه يعرف انتفاءه، وكل
ما يعلم الله انتفاءه فليس بثابت.
وقال الراوندي: قوله عليه السلام: (ولا أظن الله يعرفه)، مثل قوله تعالى:
(ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين) (3).

(1) سورة الكهف 53.
(2) سورة يونس 18.
(3) سورة محمد 31.
50

والله يعلم كل شئ قبل وجوده، وإنما معناه حتى نعلم جهادهم موجودا، وليست
هذه الكلمة من الآية بسبيل لتجعل مثالا لها، ولكن الراوندي يتكلم بكل ما يخطر
له من غير أن يميز ما يقول.
وتقول أدلى فلان بحجته، أي احتج بها، وفلان مدل برحمه، أي مت بها
وأدلى بماله إلى الحاكم دفعه إليه ليجعله وسيلة إلى قضاء حاجته منه، فأما الشفاعة فلا
يقال فيها (أدليت)، ولكن (دلوت بفلان) أي استشفعت به، وقال عمر: لما
استسقى بالعباس رحمه الله (اللهم إنا نتقرب إليك بعم نبيك وقفية آبائه، وكبر رجاله،
دلونا به إليك مستشفعين) (1).
قوله عليه السلام (فلم أره يسعني) أي لم أر انه يحل لي دفعهم إليك والضمير
في (أره) ضمير الشأن والقصة، و (أره) من الرأي، لا من الرؤية، كقولك لم أر
الرأي الفلاني.
ونزع فلان عن كذا، أي فارقه وتركه، ينزع بالكسر، والغي الجهل والضلال.
والشقاق الخلاف.
الوجدان مصدر وجدت كذا، أي أصبته والزور الزائر.
واللقيان مصدر لقيت، تقول لقيته لقاء ولقيانا.
ثم قال: (والسلام لأهله) لم يستجز في الدين أن يقول له (والسلام عليك)
لأنه عنده فاسق لا يجوز إكرامه، فقال (والسلام لأهله) أي على أهله.
ويجب أن نتكلم في هذا الفصل في مواضع
منها ذكر ما جاء في السيرة من إجلاب قريش على رسول الله صلى الله عليه وآله
وبنى هاشم وحصرهم في الشعب.

(1) الفائق 2: 366. قفية آبائه: تلوهم. وكبر قومه أقعدهم في النسب.
51

ومنها الكلام في المؤمنين والكافرين من بني هاشم الذين كانوا في الشعب
محصورين معه صلى الله عليه وآله من هم.
ومنها شرح قصة بدر.
ومنها شرح غزاة أحد.
ومنها شرح غزاة مؤتة
* * *
[إجلاب قريش على بني هاشم وحصرهم في الشعب]
فاما الكلام في الفصل الأول فنذكر منه ما ذكره محمد بن إسحاق بن يسار في
كتاب السيرة والمغازي، فإنه كتاب معتمد عند أصحاب الحديث والمؤرخين،
ومصنفه شيخ الناس كلهم.
قال محمد بن إسحاق رحمه الله: لم يسبق عليا عليه السلام إلى الايمان بالله ورسالة محمد
صلى الله عليه وآله أحد من الناس، اللهم إلا أن تكون خديجة زوجة رسول الله صلى
الله عليه وآله. قال وقد كان صلى الله عليه وآله يخرج ومعه على مستخفين من
الناس، فيصليان الصلوات في بعض شعاب مكة، فإذا أمسيا رجعا فمكثا بذلك ما شاء
الله أن يمكثا، لا ثالث لهما. ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوما وهما يصليان، فقال لمحمد
صلى الله عليه وآله يا بن أخي، ما هذا الذي تفعله فقال (أي عم، هذا دين الله ودين
ملائكته ورسله، ودين أبينا إبراهيم - أو كما قال عليه السلام: - بعثني الله به رسولا إلى
العباد، وأنت أي عم أحق من بذلت له النصيحة، ودعوته إلى الهدى، وأحق من أجابني
إليه، وأعانني عليه). أو كما قال. فقال أبو طالب: إني لا أستطيع يا بن أخي أن أفارق
52

ديني ودين آبائي وما كانوا عليه، ولكن والله لا يخلص (1) إليك شئ تكرهه ما بقيت
فزعموا (2) إنه قال لعلي: أي بنى، ما هذا الذي تصنع قال: يا أبتاه، آمنت بالله ورسوله
وصدقته فيما جاء به، وصليت إليه، واتبعت قول نبيه. فزعموا أنه قال له: اما إنه لا
يدعوك - أو لن يدعوك - إلا إلى خير، فألزمه.
قال ابن إسحاق: ثم أسلم زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وآله، فكان
أول من أسلم، وصلى معه بعد علي بن أبي طالب عليه السلام.
ثم أسلم أبو بكر بن أبي قحافة، فكان ثالثا لهما، ثم أسلم عثمان بن عفان، وطلحة،
والزبير، وعبد الرحمن، وسعد بن أبي وقاص، فصاروا ثمانية، فهم الثمانية الذين سبقوا الناس
إلى الاسلام بمكة، ثم أسلم بعد هؤلاء الثمانية أبو عبيدة بن الجراح وأبو سلمة بن عبد الأسد
وأرقم بن أبي أرقم، ثم انتشر الاسلام بمكة، وفشا ذكره، وتحدث الناس به، وأمر الله
رسوله أن يصدع بما أمر به، فكانت مدة إخفاء رسول الله صلى الله عليه وآله نفسه
وشأنه إلى أن أمر بإظهار الدين ثلاث سنين فيما بلغني (3).
قال محمد بن إسحاق: ولم تكن قريش تنكر أمره حينئذ كل الانكار، حتى
ذكر آلهتهم وعابها، فأعظموا ذلك وأنكروه، وأجمعوا على عداوته وخلافه، وحدب عليه
عمه أبو طالب فمنعه، وقام دونه حتى مضى مظهرا لأمر الله لا يرده عنه شئ. قال: فلما
رأت قريش محاماة أبى طالب عنه وقيامه دونه، وامتناعه من أن يسلمه، مشى إليه رجال
من أشراف قريش، منهم عتبة بن ربيعة، وشيبة أخوه، وأبو سفيان بن حرب،
وأبو البختري بن هشام، والأسود بن المطلب، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل عمرو بن هشام،

(1) لا يخلص إليك بشئ، اي لا يوصل إليك، يقال: خلصت إليه، اي وصلت إليه.
(2) ابن هشام: (وذكروا).
(3) سيرة ابن هشام 1: 265.
53

والعاص بن وائل، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وأمثالهم من رؤساء قريش فقالوا يا أبا طالب،
إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آراءنا، فإما أن تكفه
عنا، وإما أن تخلى بيننا وبينه. فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا، وردهم ردا جميلا،
فانصرفوا عنه، ومضى رسول الله صلى الله عليه وآله على ما هو عليه، يظهر دين الله،
ويدعو إليه، ثم شرق (1) الامر بينه وبينهم، تباعدا وتضاغنا (2)، حتى أكثرت قريش
ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله بينها، وتذامروا فيه، وحض بعضهم بعضا عليه،
فمشوا إلى أبى طالب مره ثانية، فقالوا يا أبا طالب، إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا، وانا
قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على شتم آبائنا، وتسفيه
أحلامنا، وعيب آلهتنا، فاما أن تكفه عنا أو ننازله وإياك (3) حتى يهلك أحد
الفريقين. ثم انصرفوا، فعظم على أبى طالب فراق قومه وعداوتهم، ولم تطب نفسه
باسلام ابن أخيه لهم وخذلانه، فبعث إليه فقال يا بن أخي، إن قومك قد جاؤوني، فقالوا
لي كذا وكذا - للذي قالوا - فابق على وعلى نفسك، ولا تحملني من الامر ما لا أطيقه.
قال: فظن رسول الله صلى الله عليه وآله إنه قد بدا لعمه فيه بداء، وإنه خاذله ومسلمه،
وإنه قد ضعف عن نصرته والقيام دونه، فقال يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني
والقمر في شمالي على إن أترك هذا الامر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك. ثم استعبر
باكيا وقام، فلما ولى ناداه أبو طالب أقبل يا بن أخي، فاقبل راجعا، فقال له اذهب
يا بن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشئ أبدا (4).

(1) ابن هشام: (ثم شرى الامر بينه وبينهم)، قال أبو ذر: معناه (كثر وتزايد)، وأصله في
البرق، يقال: شرى البرق: إذا كثر لمعانه.
(2) التضاغن: المعاداة.
(3) ننازله وإياك: أي نحاربكما.
(4) سيرة ابن هشام 1: 276 - 287.
54

قال ابن إسحاق: وقال أبو طالب يذكر ما أجمعت عليه قريش من حربه لما قام بنصر
محمد صلى الله عليه وآله:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم * حتى أوسد في التراب دفينا (1)
فانفذ لأمرك ما عليك مخافة * وأبشر وقر بذاك منه عيونا
ودعوتني وزعمت أنك ناصحي * ولقد صدقت وكنت قبل أمينا
وعرضت دينا قد علمت بأنه * من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذاري سبة * لوجدتني سمحا بذاك مبينا.
قال محمد بن إسحاق: ثم إن قريشا حين عرفت أن أبا طالب قد أبى خذلان
رسول الله صلى الله عليه وآله وإسلامه إليهم ورأوا إجماعه على مفارقتهم وعداوتهم، مشوا إليه
بعمارة بن الوليد بن المغيرة المخزومي - وكان أجمل فتى في قريش - فقالوا له يا أبا طالب،
هذا عمارة بن الوليد، أبهى (2) فتى في قريش وأجمله، فخذه إليك (3) فاتخذه ولدا فهو
لك، وأسلم لنا هذا ابن أخيك الذي قد خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك
لنقتله، فإنما هو رجل برجل. فقال أبو طالب والله ما أنصفتموني (4) تعطوني ابنكم
أغذوه لكم، وأعطيكم بنى تقتلونه هذا والله ما لا يكون أبدا، فقال له المطعم بن عدي بن
نوفل - وكان له صديقا مصافيا - والله يا أبا طالب ما أراك تريد إن تقبل من قومك شيئا لعمري
قد جهدوا في التخلص مما تكره وأراك لا تنصفهم فقال أبو طالب والله ما أنصفوني
ولا أنصفتني، ولكنك قد أجمعت على خذلاني ومظاهرة (5) القوم على فاصنع
ما بدا لك (6)!

(1) ديوانه 176، 177.
(2) ابن هشام: (أنهد فتى) اي أشده وأقواه.
(3) بن هشام: (فخذه فلك عقله ونصره).
(4) ابن هشام: (والله لبئس ما تسومونني).
(5) مظاهرة القوم، يريد إعانتهم.
(6) سيرة ابن هشام 1: 275.
55

قال: فعند ذلك تنابذ القوم وصارت الأحقاد، ونادى بعضهم بعضا، وتذامروا بينهم على
من في القبائل من المسلمين الذين اتبعوا محمدا صلى الله عليه وآله. فوثبت كل قبيلة على من
فيها منهم، يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم، ومنع الله رسوله منهم بعمه أبى طالب، وقام
في بني هاشم وبنى عبد المطلب حين رأى قريشا تصنع ما تصنع، فدعاهم إلى ما هو عليه
من منع رسول الله صلى الله عليه وآله، والقيام دونه، فاجتمعوا إليه، وقاموا معه،
وأجابوه إلى ما دعاهم إليه من الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وآله إلا ما كان من
أبى لهب، فإنه لم يجتمع معهم على ذلك، فكان أبو طالب يرسل إليه الاشعار، ويناشده
النصر، منها القطعة التي أولها:
حديث عن أبي لهب أتانا * وكانفه على ذاكم رجال
ومنها القطعة التي أولها:
أظننت عنى قد خذلت وغالني * منك الغوائل بعد شيب المكبر
ومنها القطعة التي أولها:
تستعرض الأقوام توسعهم * عذرا وما إن قلت من عذر
قال محمد بن إسحاق: فلم يؤثر عن أبي لهب خير قط إلا ما يروى أن أبا سلمة بن
عبد الأسد المخزومي، لما وثب عليه قومه ليعذبوه ويفتنوه عن الاسلام هرب منهم،
فاستجار بأبي طالب، وأم أبى طالب مخزومية، وهي أم عبد الله والد رسول الله صلى الله
عليه وآله فأجاره، فمشى إليه رجال من بنى مخزوم، وقالوا له يا أبا طالب، هبك منعت
منا ابن أخيك محمدا، فما لك ولصاحبنا تمنعه منا قال: إنه استجار بي وهو ابن أختي،
وإن أنا لم أمنع ابن أختي لم أمنع ابن أخي، فارتفعت أصواتهم وأصواته، فقام أبو لهب
ولم ينصر أبا طالب قبلها ولا بعدها، فقال يا معشر قريش، والله لقد أكثرتم على هذا
56

الشيخ، لا تزالون تتوثبون عليه في جواره من بين قومه أما والله لتنتهن عنه أو لنقومن
معه فيما قام فيه حتى يبلغ ما أراد. فقالوا بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة. فقاموا
فانصرفوا، وكان وليا لهم ومعينا على رسول الله صلى الله عليه وآله وأبى طالب، فاتقوه
وخافوا أن تحمله الحمية على الاسلام، فطمع فيه أبو طالب حيث سمعه قال ما قال، وأمل
أن يقوم معه في نصرة رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال يحرضه على ذلك:
وإن امرأ أبو عتيبة عمه * لفي معزل من أن يسام المظالما (1)
ولا تقبلن الدهر ما عشت خطة * تسب بها إما هبطت المواسما
أقول له وأين منه نصيحتي * أبا عتبة ثبت سوادك قائما
وول سبيل العجز غيرك منهم * فإنك لم تخلق على العجز لازما
وحارب فإن الحرب نصف ولن ترى * أخا الحرب يعطى الخسف حتى يسالما
كذبتم وبيت الله نبزى محمدا * ولما تروا يوما من الشعب قائما
وقال يخاطب أبا لهب أيضا:
عجبت لحلم يا بن شيبة عازب * وأحلام أقوام لديك سخاف (2)
يقولون شايع من أراد محمدا * بظلم وقم في أمره بخلاف
أضاميم إما حاسد ذو خيانة * وإما قريب عنك غير مصاف
فلا تركبن الدهر منه ذمامة * وأنت امرؤ من خير عبد مناف
ولا تتركنه ما حييت لمعظم * وكن رجلا ذا نجده وعفاف
يذود العدا عن ذروة هاشمية * إلا فهم في الناس خير إلاف
فإن له قربى لديك قريبة * وليس بذي حلف ولا بمضاف
ولكنه من هاشم ذي صميمها * إلى أبحر فوق البحور طواف

(1) ديوانه 162، 163.
(2) ديوانه 90.
57

وزاحم جميع الناس عنه وكن له * وزيرا على الأعداء غير مجاف
وإن غضبت منه قريش فقل لها * بنى عمنا ما قومكم بضعاف
وما بالكم تغشون منه ظلامة * وما بال أحقاد هناك خوافي
فما قومنا بالقوم يخشون ظلمنا * وما نحن فيما ساءهم بخفاف
ولكننا أهل الحفائظ والنهى * وعز ببطحاء المشاعر واف
قال محمد بن إسحاق: فلما طال البلاء على المسلمين والفتنة والعذاب، وارتد كثير
عن الدين باللسان لا بالقلب، كانوا إذا عذبوهم يقولون نشهد أن هذا الله وإن اللات
والعزى هي الآلهة، فإذا خلوا عنهم عادوا إلى الاسلام، فحبسوهم وأوثقوهم بالقد وجعلوهم
في حر الشمس على الصخر والصفا، وامتدت أيام الشقاء عليهم ولم يصلوا إلى محمد صلى
الله عليه وآله لقيام أبى طالب دونه، فأجمعت قريش على أن يكتبوا بينهم وبين بني هاشم
صحيفة يتعاقدون فيها ألا يناكحوهم ولا يبايعوهم، ولا يجالسوهم، فكتبوها وعلقوها
في جوف الكعبة تأكيدا على أنفسهم، وكان كاتبها منصور بن عكرمة بن هاشم بن
عبد مناف بن عبد الدار بن قصي. فلما فعلوا ذلك انحازت هاشم والمطلب، فدخلوا كلهم
مع أبي طالب في الشعب. فاجتمعوا إليه، وخرج منهم أبو لهب إلى قريش فظاهرها
على قومه..
قال محمد بن إسحاق: فضاق الامر ببني هاشم وعدموا القوت، إلا ما كان يحمل
إليهم سرا وخفية، وهو شئ قليل لا يمسك أرماقهم، وأخافتهم قريش، فلم يكن يظهر
منهم أحد، ولا يدخل إليهم أحد، وذلك أشد ما لقى رسول الله صلى الله عليه وآله وأهل
بيته بمكة.
قال محمد بن إسحاق: فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا حتى جهدوا ألا يصل إليهم
58

شئ إلا القليل سرا ممن يريد صلتهم من قريش، وقد كان أبو جهل بن هشام لقى حكيم
بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى، معه غلام يحمل قمحا يريد به عمته خديجة
بنت خويلد - وهي عند رسول الله محاصرة في الشعب - فتعلق به، وقال: أتحمل الطعام إلى
بني هاشم والله لا تبرح أنت و طعامك حتى أفضحك بمكة فجاءه أبو البختري العاص
ابن هشام بن الحارث بن أسد بن عبد العزى، فقال ما لك وله قال: إنه يحمل الطعام
إلى بني هاشم، فقال أبو البختري يا هذا، إن طعاما كان لعمته عنده بعثت إليه فيه، أفتمنعه
أن يأتيها بطعامها خل سبيل الرجل، فأبى أبو جهل حتى نال كل منهما من صاحبه،
فاخذ له أبو البختري لحى بعير فضربه به فشجه ووطئه وطأ شديدا، فانصرف وهو يكره
أن يعلم رسول الله صلى الله عليه وآله وبنو هاشم بذلك، فيشمتوا، فلما أراد الله تعالى من
إبطال الصحيفة، والفرج عن بني هاشم من الضيق والأزل الذي كانوا فيه، قام هشام بن
عمرو بن الحارث بن حبيب بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي في ذلك
أحسن قيام، وذلك أن أباه عمرو بن الحارث كان أخا لنضلة بن هاشم بن عبد مناف بن
قصي من أمه، فكان هشام بن عمرو يحسب لذلك واصلا ببني هاشم، وكان ذا شرف
في قومه بنى عامر بن لؤي، فكان يأتي بالبعير ليلا وقد أوقره طعاما، وبنو هاشم
وبنو المطلب في الشعب، حتى إذا أقبل به فم الشعب فمنع بخطامه من رأسه، ثم يضربه
على جنبه، فيدخل الشعب عليهم ثم يأتي به مرة أخرى، وقد أوقره تمرا، فيصنع به
مثل ذلك.
ثم إنه مشى إلى زهير بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي، فقال يا زهير، أرضيت أن
تأكل الطعام وتشرب الشراب وتلبس الثياب، وتنكح النساء، وأخوالك حيث قد
علمت لا يبتاعون ولا يبتاع منهم، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم، ولا يواصلون
ولا يزارون أما إني أحلف لو كان أخوك أبو الحكم بن هشام ودعوته إلى مثل ما دعاك
59

إليه منهم ما أجابك أبدا قال: ويحك يا هشام فماذا أصنع إنما أنا رجل واحد،
والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقض هذه الصحيفة القاطعة. قال: قد وجدت
رجلا، قال: من هو قال: أنا، قال زهير: أبغنا ثالثا، فذهب إلى المطعم بن عدي بن
نوفل بن عبد مناف، فقال له يا مطعم، أرضيت أن يهلك بطنان من عبد مناف جوعا
وجهدا وأنت شاهد على ذلك موافق لقريش فيه أما والله لئن أمكنتموهم من هذا لتجدن
قريشا إلى مساءتكم في غيره سريعة. قال: ويحك ما ذا أصنع إنما أنا رجل واحد، قال:
قد وجدت ثانيا، قال: من هو قال: أنا، قال: أبغني ثالثا، قال: قد وجدت، قال: من هو
قال: زهير بن أمية، قال: أنا، قال: أبغنا رابعا، فذهب إلى أبى البختري بن هشام، فقال
له نحو ما قال للمطعم، قال: وهل من أحد يعين على هذا قال، نعم وذكرهم، قال: فابغنا
خامسا، فمضى إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى فكلمه، فقال
وهل يعين على ذلك من أحد قال: نعم، ثم سمى له القوم، فاتعدوا خطم الحجون ليلا
بأعلى مكة، فأجمعوا أمرهم، وتعاقدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها. وقال زهير:
أنا أبدؤكم وأكون أولكم يتكلم، فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير بن أبي
أمية، عليه حلة له. فطاف بالبيت سبعا، ثم أقبل على الناس، فقال يا أهل مكة،
أنأكل الطعام، ونشرب الشراب، ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى والله لا أقعد
حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة وكان أبو جهل في ناحية المسجد، فقال كذبت
والله لا تشق فقال زمعة بن الأسود لأبي جهل والله أنت أكذب، ما رضينا والله بها
حين كتبت. فقال أبو البختري معه صدق والله زمعة، لا نرضى بها ولا نقر بما
كتب فيها فقال المطعم بن عدي صدقا والله، وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله
منها ومما كتب فيها. وقال هشام بن عمرو مثل قولهم، فقال أبو جهل: هذا أمر قضى
بليل، وقام مطعم بن عدي إلى الصحيفة فحطها وشقها، فوجد الأرضة قد أكلتها، إلا
60

ما كان من (باسمك اللهم) قالوا وأما كاتبها منصور بن عكرمة فشلت يده فيما يذكرون.
فلما مزقت الصحيفة خرج بنو هاشم من حصار الشعب.
قال محمد بن إسحاق: فلم يزل أبو طالب ثابتا صابرا مستمرا على نصر رسول الله صلى
الله عليه وآله وحمايته والقيام دونه، حتى مات في أول السنة الحادية العشرة من مبعث
رسول الله صلى الله عليه وآله فطمعت فيه قريش حينئذ، ونالت منه، فخرج عن مكة
خائفا يطلب أحياء العرب، يعرض عليهم نفسه، فلم يزل كذلك حتى دخل مكة في جوار
المطعم بن عدي، ثم كان من أمره مع الخزرج ما كان ليلة العقبة.
قال: ومن شعر أبى طالب الذي يذكر فيه رسول الله صلى الله عليه وآله
وقيامه دونه:
أرقت وقد تصوبت النجوم * وبت ولا تسالمك الهموم (1)
لظلم عشيرة ظلموا وعقوا * وغب عقوقهم لهم وخيم
هم انتهكوا المحارم من أخيهم * وكل فعالهم دنس ذميم
وراموا خطة جورا وظلما * وبعض القول ذو جنف مليم
لتخرج هاشما فتكون منها * بلاقع بطن مكة فالحطيم
فمهلا قومنا لا تركبونا * بمظلمة لها خطب جسيم
فيندم بعضكم ويذل بعض * وليس بمفلح أبدا ظلوم
أرادوا قتل أحمد زاعميه * وليس بقتله منهم زعيم
ودون محمد منا ندى * هم العرنين والعضو الصميم
ومن ذلك قوله:
وقالوا لأحمد أنت امرؤ * خلوف الحديث، ضعيف السبب

(1) ديوانه 149.
61

وإن كان أحمد قد جاءهم * بصدق ولم يأتهم بالكذب
فانا ومن حج من راكب * وكعبة مكة ذات الحجب
تنالون أحمد أو تصطلوا * ظباه الرماح وحد القضب
وتغترفوا بين أبياتكم * صدور العوالي وخيلا شزب
تراهن من بين ضافي السبيب * قصير الحزام طويل اللبب
عليها صناديد من هاشم * هم الأنجبون مع المنتجب.
وروى عبد الله بن مسعود، قال: لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله من قتلى
بدر، وأمر بطرحهم في القليب، جعل يتذكر من شعر أبى طالب بيتا فلا يحضره،
فقال له أبو بكر لعله قوله يا رسول الله:
وإنا لعمر الله إن جد جدنا * لتلتبسن أسيافنا بالأماثل (1).
فسر بظفره بالبيت، وقال أي لعمر الله لقد التبست.
ومن شعر أبى طالب قوله:
ألا أبلغا عنى لؤيا رسالة * بحق وما تغنى رسالة مرسل (2)
بنى عمنا الأدنين فيما يخصهم * وإخواننا من عبد شمس ونوفل
أظاهرتم قوما علينا سفاهة * وأمرا غويا من غواة وجهل
يقولون لو أنا قتلنا محمدا * أقرت نواصي هاشم بالتذلل
كذبتم ورب الهدى تدمى نحوره * بمكة والبيت العتيق المقبل
تنالونه أو تصطلوا دون نيله * صوارم تفري كل عضو ومفصل
فمهلا ولما تنتج الحرب بكرها * بخيل تمام أو بآخر معجل

(1) ديوانه 111.
(2) ديوانه 137.
62

وتلقوا بيع الأبطحين محمدا * على ربوة في رأس عنقاء عيطل
وتأوي إليه هاشم، إن هاشما * عرانين كعب آخر بعد أول
فان كنتم ترجون قتل محمد * فروموا بما جمعتم نقل يذبل
فانا سنحميه بكل طمرة * وذي ميعة نهد المراكل هيكل
وكل رديني ظماء كعوبه * وعضب كإيماض الغمامة مفصل
* * *
قلت كان صديقنا علي بن يحيى البطريق رحمه الله، يقول لولا خاصة النبوة
وسرها لما كان مثل أبى طالب - وهو شيخ قريش ورئيسها وذو شرفها - يمدح
ابن أخيه محمدا، وهو شاب قد ربى في حجره وهو يتيمه ومكفوله، وجار مجرى أولاده
بمثل قوله:
وتلقوا ربيع الأبطحين محمدا * على ربوة في رأس عنقاء عيطل
وتأوي إليه هاشم، إن هاشما * عرانين كعب آخر بعد أول.
ومثل قوله:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمه للأرامل
يطيف به الهلاك من آل هاشم * فهم عنده في نعمة وفواضل.
فإن هذا الأسلوب من الشعر لا يمدح به التابع والذنابي من الناس، وإنما هو من
مديح الملوك والعظماء، فإذا تصورت إنه شعر أبى طالب، ذاك الشيخ المبجل العظيم في
محمد صلى الله عليه وآله، وهو شاب مستجير به، معتصم بظله من قريش، قد رباه في
حجره غلاما، وعلى عاتقه طفلا، وبين يديه شابا، يأكل من زاده، ويأوى إلى داره،
علمت موضع خاصية النبوة وسرها، وإن أمره كان عظيما، وإن الله تعالى أوقع في
القلوب والأنفس له منزلة رفيعة ومكانا جليلا.
63

وقرأت في أمالي أبى جعفر بن حبيب رحمه الله، قال: كان أبو طالب
إذا رأى رسول الله صلى الله عليه وآله أحيانا يبكى ويقول إذا رأيته ذكرت أخي،
وكان عبد الله أخاه لأبويه، وكان شديد الحب والحنو عليه، وكذلك كان عبد المطلب
شديد الحب له، وكان أبو طالب كثيرا ما يخاف على رسول الله صلى الله عليه وآله
البيات إذا عرف مضجعه، يقيمه ليلا من منامه، ويضجع ابنه عليا مكانه، فقال له
على ليلة: يا أبت، إني مقتول، فقال له:
اصبرن يا بنى فالصبر أحجى * كل حي مصيره لشعوب (1)
قدر الله والبلاء شديد * لفداء الحبيب وابن الحبيب
لفداء الأغر ذي الحسب الثاقب * والباع والكريم النجيب
إن تصبك المنون فالنبل تبرى * فمصيب منها، وغير مصيب
كل حي وإن تملى بعمر * آخذ من مذاقها بنصيب.
فأجاب علي عليه السلام، فقال له:
أتأمرني بالصبر في نصر أحمد * ووالله ما قلت الذي قلت جازعا (2)
ولكنني أحببت أن ترى نصرتي * وتعلم أنى لم أزل لك طائعا
سأسعى لوجه الله في نصر أحمد * نبي الهدى المحمود طفلا ويافعا
* * *
[القول في المؤمنين والكافرين من بني هاشم]
الفصل الثاني في تفسير قوله عليه السلام (مؤمننا ينبغي بذلك الاجر، وكافرنا
يحامى عن الأصل، ومن أسلم من قريش خلو مما نحن فيه لحلف يمنعه، أو عشيرة تقوم دونه

(1) ديوانه 41، وشعوب: المنية.
(2) ديوان أبي طالب 41.
64

فهم من القتل بمكان أمن)، فنقول إن بني هاشم لما حصروا في الشعب بعد أن منعوا
رسول الله صلى الله عليه وآله من قريش، كانوا صنفين مسلمين وكفارا، فكان علي عليه
السلام وحمزة بن عبد المطلب مسلمين.
واختلف في جعفر بن أبي طالب هل حصر في الشعب معهم أم لا فقيل حصر
في الشعب معهم، وقيل بل كان قد هاجر إلى الحبشة، ولم يشهد حصار الشعب، وهذا
هو القول الأصح. وكان من المسلمين المحصورين في الشعب مع بني هاشم عبيدة بن
الحارث بن المطلب بن عبد مناف، وهو وإن لم يكن من بني هاشم إلا إنه يجرى
مجراهم، لان بني المطلب وبنى هاشم كانوا يدا واحدة، لم يفترقوا في جاهلية
ولا إسلام.
وكان العباس رحمه الله في حصار الشعب معهم إلا إنه كان على دين قومه، وكذلك
عقيل بن أبي طالب، وطالب بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وأبو سفيان
ابن الحارث بن عبد المطلب، وابنه الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب -
وكان شديدا على رسول الله صلى الله عليه وآله، يبغضه ويهجوه بالاشعار، إلا إنه كان
لا يرضى بقتله، ولا يقار قريشا في دمه، محافظة على النسب - وكان سيد المحصورين
في الشعب ورئيسهم وشيخهم أبو طالب بن عبد المطلب، وهو الكافل والمحامي.
* * *
[اختلاف الرأي في إيمان أبى طالب]
واختلف الناس في إيمان أبى طالب (1)، فقالت الامامية وأكثر الزيدية: ما مات
إلا مسلما.

(1) ب: (فيه)، وما أثبته من ا.
65

وقال بعض شيوخنا المعتزلة بذلك، منهم الشيخ أبو القاسم البلخي وأبو جعفر
الإسكافي وغيرهما.
وقال أكثر الناس من أهل الحديث والعامة من شيوخنا البصريين وغيرهم: مات
على دين قومه، ويروون في ذلك حديثا مشهورا، أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال له
عند موته: قل يا عم كلمة أشهد لك بها غدا عند الله تعالى، فقال لولا أن تقول العرب:
إن أبا طالب جزع عند الموت لأقررت بها عينك.
وروى أنه قال: أنا على دين الأشياخ.
وقيل إنه قال: انا على دين عبد المطلب وقيل غير ذلك.
وروى كثير من المحدثين أن قوله تعالى: (ما كان للنبي والذين آمنوا معه أن
يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم *
وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعده وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو
لله تبرأ منه) (1) الآية، أنزلت في أبى طالب، لان رسول الله استغفر له بعد موته.
ورووا أن قوله تعالى (إنك لا تهدى من أحببت) (2) نزلت في أبى طالب.
ورووا إن عليا عليه السلام جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله بعد موت أبى طالب،
فقال له إن عمك الضال قد قضى، فما الذي تأمرني فيه.
واحتجوا بأنه لم ينقل أحد عنه إنه رآه يصلى، والصلاة هي المفرقة بين المسلم والكافر،
وإن عليا وجعفرا لم يأخذا من تركته شيئا، ورووا عن النبي صلى الله عليه وآله إنه قال:
(إن الله قد وعدني بتخفيف عذابه لما صنع في حقي، وإنه في ضحضاح من نار).
ورووا عنه أيضا انه قيل له لو استغفرت لأبيك وأمك فقال (لو استغفرت لهما
لاستغفرت لأبي طالب، فإنه صنع إلى ما لم يصنعا، وإن عبد الله وآمنة وأبا طالب جمرات
من جمرات جهنم).

(1) سورة التوبة 113، 114.
(2) سورة القصص 56.
66

فأما الذين زعموا أنه كان مسلما، فقد رووا خلاف ذلك، وأسندوا خبرا إلى أمير المؤمنين
عليه السلام، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: قال لي جبرائيل: إن الله مشفعك في ستة
بطن حملتك، آمنة بنت وهب، وصلب أنزلك، عبد الله بن عبد المطلب، وحجر
كفلك، أبى طالب وبيت آواك، عبد المطلب، وأخ كان لك في الجاهلية - قيل يا رسول
الله، وما كان فعله قال: كان سخيا يطعم الطعام، ويجود بالنوال - وثدي أرضعتك،
حليمة بنت أبي ذؤيب.
قلت سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن أبي زيد عن هذا الخبر، وقد قرأته عليه
هل كان لرسول الله صلى الله عليه وآله أخ من أبيه أو من أمه أو منهما في الجاهلية، فقال
لا، إنما يعنى أخا له في المودة والصحبة، قلت له: فمن هو قال: لا أدرى.
قالوا وقد نقل الناس كافة عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: نقلنا من
الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الزكية. فوجب بهذا أن يكون آباؤه كلهم منزهين عن
الشرك، لأنهم لو كانوا عبدة أصنام لما كانوا طاهرين.
قالوا وأما ما ذكر في القرآن من إبراهيم وأبيه آزر، وكونه كان ضالا مشركا،
فلا يقدح في مذهبنا، لان آزر كان عم إبراهيم، فأما أبوه فتارخ بن ناحور، وسمى
العم أبا، كما قال: (أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه: ما تعبدون
من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك) (1)، ثم عد فيهم إسماعيل وليس من آبائه،
ولكنه عمه.
قلت وهذا الاحتجاج عندي ضعيف، لان المراد من قوله (نقلنا من الأصلاب
الطاهرة إلى الأرحام الزكية) تنزيه آبائه وأجداده وأمهاته عن السفاح لا غير، هذا مقتضى

(1) سورة البقرة 133.
67

سياقة الكلام، لان العرب كان يعيب بعضها بعضا باختلاط المياه واشتباه الأنساب
ونكاح الشبهة.
وقولهم لو كانوا عبدة أصنام لما كانوا طاهرين، يقال لهم لم قلتم أنهم لو كانوا
عبدة أصنام لما كانوا طاهري الأصلاب فإنه لا منافاة بين طهارة الأصلاب وعبادة الصنم،
ألا ترى إنه لو أراد ما زعموه لما ذكر الأصلاب والأرحام، بل جعل عوضها العقائد
واعتذارهم عن إبراهيم وأبيه يقدح في قولهم في أبى طالب، لأنه لم يكن أبا محمد صلى الله
عليه وآله، بل كان عمه، فإذا جاز عندهم أن يكون العم - وهو آزر - مشركا كما قد
اقترحوه في تأويلهم - لم يكن لهم حجة من هذا الوجه على إسلام أبى طالب.
واحتجوا في إسلام الاباء بما روى عن جعفر بن محمد عليه السلام إنه قال: يبعث الله
عبد المطلب يوم القيامة وعليه سيماء الأنبياء وبهاء الملوك
وروى أن العباس بن عبد المطلب قال لرسول الله صلى الله عليه وآله بالمدينة: يا رسول
الله، ما ترجو لأبي طالب فقال أرجو له كل خير من الله عز وجل
وروى أن رجلا من رجال الشيعة، و هو إبان بن محمود كتب إلى علي بن موسى
الرضا عليه السلام جعلت فداك إني قد شككت في إسلام أبى طالب فكتب إليه
(ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين) (1) الآية،
وبعدها إنك إن لم تقر بايمان أبى طالب كان مصيرك إلى النار
وقد روى عن علي بن محمد الباقر عليه السلام أنه سئل عما يقوله الناس أن أبا طالب
في ضحضاح من نار، فقال لو وضع ايمان أبى طالب في كفة ميزان وإيمان هذا الخلق في
الكفة الأخرى لرجح إيمانه. ثم قال: ألم تعلموا أن أمير المؤمنين عليا عليه السلام كان
يأمر أن يحج عن عبد الله وأبيه (2) أبى طالب في حياته، ثم أوصى في وصيته بالحج عنهم.
وروى أن أبا بكر جاء بأبي قحافة إلى النبي صلى الله عليه وآله عام الفتح يقوده

(1) سورة النساء
(2) في الأصول: (وابنه).
68

وهو شيخ كبير أعمى، فقال رسول الله إلا تركت الشيخ حتى نأتيه فقال أردت
يا رسول الله أن يأجره الله أما والذي بعثك بالحق لأنا كنت أشد فرحا بإسلام عمك
أبى طالب منى باسلام أبى، ألتمس بذلك قرة عينك، فقال صدقت.
وروى أن علي بن الحسين عليه السلام سئل عن هذا، فقال وا عجبا إن الله تعالى
نهى رسوله أن يقر مسلمة على نكاح كافر، وقد كانت فاطمة بنت أسد من السابقات
إلى الاسلام، ولم تزل تحت أبى طالب حتى مات.
ويروى قوم من الزيدية أن أبا طالب أسند المحدثون عنه حديثا ينتهى إلى أبى رافع
مولى رسول الله صلى الله عليه وآله، قال: سمعت أبا طالب يقول بمكة: حدثني
محمد ابن أخي أن ربه بعثه بصلة الرحم، وإن يعبده وحده لا يعبد معه غيره، ومحمد
عندي الصادق الأمين.
وقال قوم: إن قول النبي صلى الله عليه وآله: (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة)
إنما عنى به أبا طالب.
وقالت الامامية إن ما يرويه العامة من أن عليا عليه السلام وجعفرا لم يأخذا
من تركة أبى طالب شيئا حديث موضوع، ومذهب أهل البيت بخلاف ذلك، فان
المسلم عندهم يرث الكافر، ولا يرث الكافر المسلم، ولو كان أعلى درجة منه
في النسب.
قالوا وقوله صلى الله عليه وآله (لا توارث بين أهل ملتين)، نقول بموجبه،
لان التوارث تفاعل، ولا تفاعل عندنا في ميراثهما، واللفظ يستدعى الطرفين،
كالتضارب لا يكون إلا من اثنين، قالوا وحب رسول الله صلى الله عليه وآله
69

لأبي طالب معلوم مشهور، ولو كان كافرا ما جاز له حبه، لقوله تعالى (لا تجد قوما
يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله...) (1) الآية.
قالوا وقد اشتهر واستفاض الحديث وهو قوله صلى الله عليه وآله لعقيل: (أنا
أحبك حبين حبا لك وحبا لحب أبى طالب فإنه كان يحبك).
قالوا وخطبة النكاح مشهورة، خطبها أبو طالب عند نكاح محمد صلى الله عليه
وآله خديجة، وهي قوله: (الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل،
وجعل لنا بلدا حراما وبيتا محجوجا، وجعلنا الحكام على الناس. ثم إن محمد بن عبد الله
أخي من لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح عليه برا وفضلا، وحزما وعقلا، ورأيا
ونبلا، وإن كان في المال قل فإنما المال ظل زائل، وعارية مسترجعة، وله في خديجة
بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك، وما أحببتم من الصداق فعلى، وله والله بعد
نبأ شائع وخطب جليل).
قالوا أفتراه يعلم نباه الشائع وخطبه الجليل، ثم يعانده ويكذبه، وهو من أولى
الألباب هذا غير سائغ في العقول.
قالوا وقد روى عن أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام أن رسول الله صلى الله
عليه وآله قال: (إن أصحاب الكهف أسروا الايمان، وأظهروا الكفر فأتاهم الله أجرهم
مرتين، وإن أبا طالب أسر الايمان، وأظهر الشرك، فاتاه الله أجره مرتين).
وفي الحديث المشهور إن جبرائيل عليه السلام قال له ليلة مات أبو طالب: (اخرج
منها فقد مات ناصرك).
قالوا وأما حديث الضحضاح من النار، فإنما يرويه الناس كلهم عن رجل واحد،
وهو المغيرة بن شعبة، وبغضه لبني هاشم وعلى الخصوص لعلى عليه السلام مشهور
معلوم، وقصته وفسقه أمر غير خاف.

(1) سورة المجادلة 22.
70

وقالوا وقد روى بأسانيد كثيرة بعضها عن العباس بن عبد المطلب، وبعضها عن أبي
بكر بن أبي قحافة، أن أبا طالب ما مات حتى قال لا إله إلا الله محمد رسول الله. والخبر مشهور
أن أبا طالب عند الموت قال كلاما خفيا، فأصغى إليه أخوه العباس، ثم رفع رأسه إلى رسول
الله صلى الله عليه وآله فقال: يا بن أخي، والله لقد قالها عمك، ولكنه ضعف عن أن
يبلغك صوته.
وروى عن علي عليه السلام أنه قال: ما مات أبو طالب حتى أعطى رسول الله
صلى الله عليه وآله من نفسه الرضا.
* * *
قالوا وأشعار أبى طالب تدل على إنه كان مسلما، ولا فرق بين الكلام المنظوم
والمنثور إذا تضمنا إقرارا بالاسلام، ألا ترى أن يهوديا لو توسط جماعة من المسلمين،
وأنشد شعرا قد ارتجله ونظمه يتضمن الاقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله، لكنا نحكم
بإسلامه كما لو قال اشهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله فمن تلك الاشعار قوله (1):
يرجون منا خطة دون نيلها * ضراب وطعن بالوشيج المقوم
يرجون أن نسخي بقتل محمد * ولم تختضب سمر العوالي من الدم
كذبتم وبيت الله حتى تفلقوا (2) * جماجم تلقى بالحطيم وزمزم
وتقطع أرحام وتنسى حليلة * حليلا، ويغشى محرم بعد محرم
على ما مضى من مقتكم وعقوقكم * وغشيانكم في أمركم كل مأثم
وظلم نبي جاء يدعو إلى الهدى * وأمر أتى من عند ذي العرش قيم

(1) ديوانه 152 - 154، من قصيدة أولها:
ألا من لهم آخر الليل معتم * طواني، وأخرى النجم لما تفحم
(2) الديوان: (تعرفوا).
71

فلا تحسبونا مسلميه فمثله * إذا كان في قوم فليس بمسلم.
* * *
ومن شعر أبى طالب في أمر الصحيفة التي كتبتها قريش في قطيعة بني هاشم:
ألا أبلغا عنى على ذات بينها * لؤيا وخصا من لؤي بنى كعب (1)
ا لم تعلموا إنا وجدنا محمدا * رسولا كموسى خط في أول الكتب
وأن عليه في العباد محبة * ولا حيف فيمن خصه الله بالحب (2)
وأن الذي رقشتم في كتابكم * يكون لكم يوما كراغية السقب (3)
أفيقوا أفيقوا قبل أن تحفر الزبى * ويصبح من لم يجن ذنبا كذي ذنب
ولا تتبعوا أمر الغواة وتقطعوا * أواصرنا بعد المودة والقرب
وتستجلبوا حربا عوانا وربما * أمر على من ذاقه حلب الحرب
فلسنا وبيت الله نسلم أحمدا * لعزاء من عض الزمان ولا كرب
ولما تبن منا ومنكم سوالف * وأيد أترت بالمهندة الشهب (4)
بمعترك ضيق ترى قصد القنا * به والضباع العرج تعكف كالشرب (5)
كأن مجال الخيل في حجراته * وغمغمة الابطال معركة الحرب
أليس أبونا هاشم شد أزره * وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب
ولسنا نمل الحرب حتى تملنا * ولا نشتكي مما ينوب من النكب (6)

(1) ديوانه 20 - 24.
(2) الديوان: (ولا خير ممن خصه الله).
(3) الرغاء: صوت الإبل. والسقب: ولد الناقة.
(4) أترت: قطعت. والمهندة: السيوف.
(5) قصد القنا: قطع الرماح المتكسرة.
(6) النكب والنكبة: المصيبة.
72

ولكننا أهل الحفائظ والنهى * إذا طار أرواح الكماة من الرعب.
ومن ذلك قوله:
فلا تسفهوا أحلامكم في محمد * ولا تتبعوا أمر الغواة الأشائم (1)
تمنيتم أن تقتلوه وإنما * أمانيكم هذى كأحلام نائم
وإنكم والله لا تقتلونه * ولما تروا قطف اللحى والجماجم (2)
زعمتم بأنا مسلمون محمدا * ولما نقاذف دونه ونزاحم
من القوم مفضال أبى على العدا * تمكن في الفرعين من آل هاشم
أمين حبيب في العباد مسوم * بخاتم رب قاهر في الخواتم
يرى الناس برهانا عليه وهيبة * وما جاهل في قومه مثل عالم
نبي أتاه الوحي من عند ربه * ومن قال لا يقرع بها سن نادم
ومن ذلك قوله - وقد غضب لعثمان بن مظعون الجمحي، حين عذبته قريش
ونالت منه:
أمن تذكر دهر غير مأمون * أصبحت مكتئبا تبكي كمحزون (3)
أم من تذكر أقوام ذوي سفه * يغشون بالظلم من يدعو إلى الدين
ألا يرون - أذل الله جمعهم * أنا غضبنا لعثمان بن مظعون
ونمنع الضيم من يبغي مضامتنا * بكل مطرد في الكف مسنون
ومرهفات كأن الملح خالطها * يشفى بها الداء من هام المجانين
حتى تقر رجال لا حلوم لها * بعد الصعوبة بالإسماح واللين

(1) ديوانه 155 - 158، من قصيدة مطلعها:
لمن أربع أقوين بين القدائم * أقمن بمدحاة الرياح التوائم
(2) الديوان: (القلاصم).
(3) ديوانه 173.
73

أو تؤمنوا بكتاب منزل عجب * على نبي موسى أو كذي النون (1).
قالوا وقد جاء في الخبر أن أبا جهل بن هشام جاء مرة إلى رسول الله صلى الله
عليه وآله وهو ساجد وبيده حجر أن يرضخ به رأسه، فلصق الحجر بكفه فلم
يستطع ما أراد، فقال أبو طالب في ذلك من جملة أبيات:
أفيقوا بنى عمنا وانتهوا عن * الغي من بعض ذا المنطق (2)
والا فإني إذا خائف * بوائق في داركم تلتقي (3)
كما ذاق من كان من قبلكم * ثمود وعاد وما ذا بقي!
ومنها:
واعجب من ذاك في أمركم * عجائب في الحجر الملصق
بكف الذي قام من حينه * إلى الصابر الصادق المتقى
فأثبته الله في كفه * على رغمه الخائن الأحمق
قالوا وقد اشتهر عن عبد الله المأمون رحمه الله إنه كان يقول: أسلم أبو طالب
والله بقوله:
نصرت الرسول رسول المليك * ببيض تلألأ كلمع البروق (4)
أذب وأحمى رسول الاله * حماية حام عليه شفيق
وما إن أدب لأعدائه * دبيب البكار حذار الفنيق (5)
ولكن أزير لهم ساميا * كما زار ليث بغيل مضيق.

(1) بعده في الديوان:
يأتي بأمر جلي غير ذي عوج * كما تبين في آيات ياسين
(2) ديوانه 94.
(3) بعده في الديوان:
تكون لغيركم عبرة * ورب المغارب والمشارق
(4) ديوانه 98.
(5) الفنيق: الفحل المكرم على أهله.
74

قالوا وقد جاء في السيرة، وذكره أكثر المؤرخين، أن عمرو بن العاص لما خرج
إلى بلاد الحبشة ليكيد جعفر بن أبي طالب وأصحابه عند النجاشي، قال:
تقول ابنتي: أين أين الرحيل * وما البين منى بمستنكر
فقلت دعيني فإني امرؤ * أريد النجاشي في جعفر
لأكويه عنده كية * أقيم بها نخوة الأصعر
ولن أنثني عن بني هاشم * بما اسطعت في الغيب والمحضر
وعن عائب اللات في قوله * ولولا رضا اللات لم تمطر
وإني لأشنى قريش له * وإن كان كالذهب الأحمر
قالوا فكان عمرو يسمى الشانئ ابن الشانئ، لان أباه كان إذا مر عليه رسول الله
صلى الله عليه وآله بمكة يقول له والله إني لأشنؤك، وفيه انزل (إن شانئك هو
الأبتر) (1). قالوا فكتب أبو طالب إلى النجاشي شعرا يحرضه فيه على إكرام جعفر
وأصحابه والاعراض عما يقوله عمرو فيه وفيهم، من جملته:
ألا ليت شعري كيف في الناس جعفر * وعمرو وأعداء النبي الأقارب (2)
وهل نال إحسان النجاشي جعفرا * وأصحابه أم عاق عن ذاك شاغب
في أبيات كثيرة.
* * *
قالوا وروى عن علي عليه السلام أنه قال: قال لي أبى: يا بنى الزم أبن عمك، فإنك
تسلم به من كل بأس عاجل وآجل، ثم قال لي:
إن الوثيقة في لزوم محمد * فاشدد بصحبته على أيديكا

(1) سورة الكوثر 3.
(2) ديوانه 25.
75

ومن شعره المناسب لهذا المعنى قوله:
إن عليا وجعفرا ثقتي * عند ملم الزمان والنوب (1)
لا تخذلا وانصرا ابن عمكما * أخي لأمي من بينهم وأبى
والله لا أخذل النبي ولا * يخذله من بنى ذو حسب
* * *
قالوا وقد جاءت الرواية أن أبا طالب لما مات جاء علي عليه السلام إلى رسول الله
صلى الله عليه وآله، فآذنه بموته، فتوجع عظيما وحزن شديدا، ثم قال له: امض فتول
غسله، فإذا رفعته على سريره فأعلمني، ففعل، فاعترضه رسول الله صلى الله عليه وآله وهو
محمول على رؤوس الرجال، فقال وصلتك رحم يا عم، وجزيت خيرا فلقد ربيت
وكفلت صغيرا، ونصرت وآزرت كبيرا، ثم تبعه إلى حفرته، فوقف عليه، فقال
أما والله لاستغفرن لك ولأشفعن فيك شفاعة يعجب لها الثقلان.
قالوا والمسلم لا يجوز أن يتولى غسل الكافر، ولا يجوز للنبي أن يرق لكافر،
ولا أن يدعو له بخير، ولا أن يعده بالاستغفار والشفاعة، وإنما تولى علي عليه السلام،
غسله لان طالبا وعقيلا لم يكونا أسلما بعد، وكان جعفر بالحبشة، ولم تكن صلاة
الجنائز شرعت بعد، ولا صلى رسول الله صلى الله عليه وآله على خديجة، وإنما كان
تشييع ورقة ودعاء.
قالوا ومن شعر أبى طالب يخاطب أخاه حمزة، وكان يكنى أبا يعلى:
فصبرا أبا يعلى على دين أحمد * وكن مظهرا للدين وفقت صابرا
وحط من أتى بالحق من عند ربه * بصدق وعزم لا تكن حمز كافرا
فقد سرني إذ قلت أنك مؤمن * فكن لرسول الله في الله ناصرا

(1) ديوانه 42.
76

وباد قريشا بالذي قد أتيته * جهارا وقل ما كان أحمد ساحرا
قالوا: ومن شعره المشهور:
أنت النبي محمد * قرم أعز مسود (1)
لمسودين أكارم * طابوا وطاب المولد
نعم الأرومة أصلها * عمرو الخضم الأوحد (2)
هشم الربيكة في الجفان * وعيش مكة أنكد (3)
فجرت بذلك سنة * فيها الخبيزة تثرد (4)
ولنا السقاية للحجيج بها يماث العنجد (5)
والمأزمان وما حوت * عرفاتها والمسجد
أنى تضام ولم أمت * وأنا الشجاع العربد (6)
وبطاح مكة لا يرى * فيها نجيع أسود
وبنو أبيك كأنهم * أسد العرين توقد
ولقد عهدتك صادقا * في القول لا تتزيد
ما زلت تنطق بالصواب * وأنت طفل أمرد
قالوا ومن شعره المشهور أيضا قوله يخاطب محمدا، ويسكن جأشه، ويأمره
بإظهار الدعوة:
لا يمنعنك من حق تقوم به أيد تصول ولا سلق بأصوات (7)

(1) ديوانه 70 - 72.
(2) الخضم: الكثير العطاء.
(3) الربيكة: طعام يعمل من تمر وأقط وسمن.
(4) الخبيزة: الخبز، وفي الأساس: (ثردت الخبز أثرده، وهو أن تفته ثم تبله بمرق).
(5) العنجد: الزبيب.
(6) العربد في الأصل: الحية، وهو كناية عن الشجاعة.
(7) ديوانه 50.
77

فان كفك كفى إن بليت بهم * ودون نفسك نفسي في الملمات.
ومن ذلك قوله، ويقال إنها لطالب بن أبي طالب:
إذا قيل من خير هذا الورى * قبيلا وأكرمهم أسرة (1)
أناف لعبد مناف أب * وفضله هاشم العزة
لقد حل مجد بني هاشم * مكان النعائم والنثره
وخير بني هاشم أحمد * رسول الاله على فتره
ومن ذلك قوله:
لقد أكرم الله النبي محمدا * فأكرم خلق الله في الناس أحمد (2)
وشق له من اسمه ليجله * فذو العرش محمود وهذا محمد
وقوله أيضا، وقد يروى لعلى عليه السلام:
يا شاهد الله على فاشهد (3) * أني على دين النبي احمد
* من ضل في الدين فإني مهتد *.
قالوا فكل هذه الاشعار قد جاءت مجئ التواتر، لأنه إن لم تكن آحادها متواترة،
فمجموعها يدل على أمر واحد مشترك، وهو تصديق محمد صلى الله عليه وآله، ومجموعها
متواتر، كما إن كل واحدة من قتلات علي عليه السلام الفرسان منقولة آحادا، ومجموعها
متواتر، يفيدنا العلم الضروري بشجاعته، و كذلك القول فيما روى من سخاء حاتم،
وحلم الأحنف ومعاوية، وذكاء أياس وخلاعة أبى نواس، وغير ذلك، قالوا واتركوا
هذا كله جانبا، ما قولكم في القصيدة اللامية، التي شهرتها كشهرة " قفا نبك " وإن
جاز الشك فيها أو في شئ من أبياتها، جاز الشك في " قفا نبك " وفي بعض أبياتها،
ونحن نذكر منها هاهنا قطعة وهي قوله:

(1) ديوانه 50.
(2) ديوانه 75.
(3) ديوانه 75.
78

أعوذ برب البيت من كل طاعن * علينا بسوء أو يلوح بباطل (1)
ومن فاجر يغتابنا بمغيبة * ومن ملحق في الدين ما لم نحاول
كذبتم وبيت الله يبزى محمد * ولما نطاعن دونه ونناضل (2)
وننصره حتى نصرع دونه * ونذهل عن أبنائنا والحلائل
وحتى نرى ذا الردع يركب ردعه * من الطعن فعل الأنكب المتحامل (3)
وينهض قوم في الحديد إليكم * نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل (4)
وإنا وبيت الله من جد جدنا * لتلتبسن أسيافنا بالأماثل (5)
بكل فتى مثل الشهاب سميدع * أخي ثقة عند الحفيظة باسل
وما ترك قوم لا أبالك سيدا * يحوط الذمار غير نكس مواكل (6)
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل (7)
يلوذ به الهلاك من آل هاشم * فهم عنده في نعمة وفواضل
وميزان صدق لا يخيس شعيره * ووزان صدق وزنه غير عائل (8)
ألم تعلموا أن ابننا لا مكذب * لدينا ولا يعبأ بقول الا باطل
لعمري لقد كلفت وجدا بأحمد * وأحببته حب الحبيب المواصل
وجدت بنفسي دونه فحميته * ودافعت عنه بالذرى والكواهل
فلا زال للدنيا جمالا لأهلها * وشينا لمن عادى وزين المحافل
وأيده رب العباد بنصره * وأظهر دينا حقه غير باطل

(1) ديوانه 100 - 134.
(2) يبزي، أي يغلب.
(3) يركب ردعه: يخر لوجهه على دمه، والردع: اللطخ والأثر من الدم.
(4) الروايا: جمع راوية، وهو البعير يستقى عليه. وذات الصلاصل: المزادة التي ينقل فيها الماء،
والصلاصل جمع صلصلة، وهي بقية الماء في الإدواة.
(5) الأماثل: الاشراف.
(6) الديوان: (غير ذرب).
(7) ثمال اليتامى: عمادهم.
(8) يقال: عال الميزان يعول، إذا مال.
79

وورد في السيرة والمغازي أن عتبة بن ربيعة أو شيبة لما قطع رجل عبيدة بن الحارث
بن المطلب يوم بدر أشبل (1) عليه على وحمزة فاستنقذاه منه وخبطا عتبة بسيفيهما حتى
قتلاه، واحتملا صاحبهما من المعركة إلى العريش، فألقياه بين يدي رسول الله صلى الله عليه
وآله، وإن مخ ساقه ليسيل، فقال يا رسول الله، لو كان أبو طالب حيا لعلم أنه قد
صدق في قوله:
كذبتم وبيت الله نخلي محمدا * ولما نطاعن دونه ونناضل
وننصره حتى نصرع حوله * ونذهل عن أبنائنا والحلائل
فقالوا إن رسول الله صلى الله عليه وآله استغفر له ولأبي طالب يومئذ، وبلغ عبيدة
مع النبي صلى الله عليه وآله إلى الصفراء فمات فدفن بها.
قالوا وقد روى أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله في عام جدب،
فقال أتيناك يا رسول الله ولم يبق لنا صبي يرتضع، ولا شارف (2) يجتر ثم أنشده:
أتيناك والعذراء تدمى لبانها * وقد شغلت أم الرضيع عن الطفل
وألقى بكفيه الفتى لاستكانة * من الجوع حتى ما يمر ولا يحلى
ولا شئ مما يأكل الناس عندنا * سوى الحنظل العامي والعلهز الفسل
وليس لنا إلا إليك فرارنا * وأين فرار الناس إلا إلى الرسل
فقام النبي صلى الله عليه وآله يجر رداءه، حتى صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه،
وقال: (اللهم اسقنا غيثا مغيثا، مرئيا هنيئا، مريعا سحا سجالا، غدقا طبقا قاطبا دائما،
درا تحيى به الأرض، وتنبت به الزرع، وتدر به الضرع، واجعله سقيا نافعا عاجلا غير
رائث، فوالله ما رد رسول الله صلى الله عليه وآله يده إلى نحره حتى ألقت السماء

(1) أشبل: عطف.
(2) الشارف: الناقة.
80

أرواقها، وجاء الناس يضجون الغرق الغرق يا رسول الله فقال اللهم حوالينا ولا علينا،
فانجاب السحاب عن المدينة حتى استدار حولها كالإكليل
فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه، ثم قال: لله در أبى طالب لو كان حيا
لقرت عينه. من ينشدنا قوله فقام على فقال يا رسول الله، لعلك أردت:
* وأبيض يستسقى الغمام بوجهه *
قال: أجل، فأنشده أبياتا من هذه القصيدة، ورسول الله يستغفر لأبي طالب على
المنبر، ثم قام رجل من كنانة فأنشده:
لك الحمد والحمد ممن شكر * سقينا بوجه النبي المطر
دعا الله خالقه دعوه * إليه، وأشخص منه البصر
فما كان إلا كما ساعة * أو أقصر حتى رأينا الدرر
دفاق العزالى وجم البعاق (1) * أغاث به الله عليا مضر
فكان كما قاله عمه * أبو طالب ذو رواء غرر
به يسر الله صوب الغمام * فهذا العيان وذاك الخبر
فمن يشكر الله يلق المزيد * ومن يكفر الله يلق الغير
فقال رسول الله إن يكن شاعر أحسن فقد أحسنت.
قالوا وإنما لم يظهر أبو طالب الاسلام ويجاهر به، لأنه لو أظهره لم يتهيأ له من
نصرة النبي صلى الله عليه وآله ما تهيا له، وكان كواحد من المسلمين الذين اتبعوه، نحو
أبى بكر وعبد الرحمن بن عوف، وغيرهما ممن أسلم، ولم يتمكن من نصرته والقيام دونه

(1) العزالى: جمع عزلاء، وهي في الأصل: مصب الماء من القربة والراوية، ويقال للسحابة إذا انهمرت
بالمطر قد حلت عزاليها. والبعاق: المطر الذي ينبعق بالماء.
81

حينئذ، وإنما تمكن أبو طالب من المحاماة عنه بالثبات في الظاهر على دين قريش وإن
أبطن الاسلام، كما لو إن إنسانا كان يبطن التشيع مثلا، وهو في بلد من بلاد الكرامية،
وله في ذلك البلد وجاهه وقدم، وهو يظهر مذهب الكرامية، ويحفظ ناموسه بينهم بذلك،
وكان في ذلك البلد نفر يسير من الشيعة لا يزالون ينالون بالأذى والضرر من أهل ذلك
البلد ورؤسائه، فإنه ما دام قادرا على إظهار مذهب أهل البلد، يكون أشد تمكنا من
المدافعة والمحاماة عن أولئك النفر، فلو أظهر ما يجوز من التشيع، وكاشف أهل البلد بذلك،
صار حكمه حكم واحد من أولئك النفر، ولحقه من الأذى والضرر ما يلحقهم، ولم يتمكن
من الدفاع أحيانا عنهم كما كان أولا.
قلت فإما أنا فإن الحال ملتبسه عندي، والاخبار متعارضة، والله أعلم بحقيقة حاله
كيف كانت (1).
ويقف صدري رسالة النفس الزكية (2) إلى المنصور، وقوله فيها (فأنا ابن
خير الأخيار، وأنا ابن شر الأشرار، وأنا ابن سيد أهل الجنة، وأنا ابن سيد أهل النار).
فإن هذه شهادة منه على أبى طالب بالكفر، وهو ابنه وغير متهم عليه، وعهده
قريب من عهد النبي صلى الله عليه وآله، لم يطل الزمان فيكون الخبر مفتعلا.
وجملة الامر أنه قد روى في إسلامه أخبار كثيرة، وروى في موته على دين قومه أخبار
كثيرة، فتعارض الجرح والتعديل، فكان كتعارض البينتين عند الحاكم، وذلك يقتضى
التوقف، فأنا في أمره من المتوقفين.

(1) وضع الشيخ المفيد رسالة في ايمان أبي طالب، طبعت في مجموعة نفائس المخطوطات، العدد الثالث
من المجموعة الأولى. طبعت في النجف سنة 1956.
(2) هو محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب، والملقب بالأرقط وبالمهدي وبالنفس
الزكية، خرج على المنصور ثائرا لمقتل أبيه بالكوفة في مائتين وخمسين رجلا، فقبض على أمير المدينة،
وبايعه أهلها فانتدب المنصور لقتاله ولي عهده عيسى بن موسى، فسار إليه، وانتهى الامر بمقتله سنة 145. (مقاتل الطالبيين 232).
82

فاما الصلاة وكونه لم ينقل عنه انه صلى، فيجوز أن يكون لان الصلاة لم تكن
بعد قد فرضت، وإنما كانت نفلا غير واجب، فمن شاء صلى، ومن شاء ترك، ولم
تفرض الا بالمدينة. ويمكن أن يقول أصحاب الحديث: إذا تعارض الجرح و التعديل كما
قد أشرتم إليه، فالترجيح عند أصحاب أصول الفقه لجانب الجرح، لان الجارح قد أطلع
على زيادة لم يطلع عليها المعدل.
و لخصومهم أن يجيبوا عن هذا فنقول أن هذا إنما يقال ويذكر في أصول الفقه في
طعن مفصل في مقابله تعديل مجمل، مثاله أن يروى شعبة مثلا حديثا عن رجل، فهو
بروايته عنه قد وثقه، ويكفي في توثيقه له أن يكون مستور الحال، ظاهره العدالة،
فيطعن فيه الدارقطني مثلا بأن يقول كان مدلسا، أو كان يرتكب الذنب الفلاني،
فيكون قد طعن طعنا مفصلا في مقابله تعديل مجمل، وفيما نحن فيه وبصدده الروايتان
متعارضتان تفصيلا لا إجمالا، لان هؤلاء يروون أنه تلفظ بكلمتي الشهادة عند الموت،
وهؤلاء يروون إنه قال عند الموت: أنا على دين الأشياخ.
وبمثل هذا يجاب على من يقول من الشيعة: روايتنا في إسلامه أرجح، لأنا نروي
حكما إيجابيا ونشهد على اثبات، وخصومنا يشهدون على النفي، ولا شهادة على النفي،
وذلك أن الشهادة في الجانبين معا، إنما هي على أثبات، ولكنه اثبات متضاد.
وصنف بعض الطالبيين في هذا العصر كتابا في إسلام أبى طالب، وبعثه إلى
وسألني أن اكتب عليه (1) بخطى نظما أو نثرا، أشهد فيه بصحة ذلك، وبوثاقة الأدلة
عليه، فتحرجت أن أحكم بذلك حكما قاطعا، لما عندي من التوقف فيه، ولم أستجز
أن أقعد عن تعظيم أبى طالب، فإني أعلم أنه لولاه لما قامت للاسلام دعامة. واعلم أن
حقه واجب على كل مسلم في الدنيا إلى أن تقوم الساعة، فكتبت على ظاهر المجلد:

(1) ساقطة من ب.
83

ولولا أبو طالب وابنه * لما مثل الدين شخصا فقاما
فذاك بمكة آوى وحامى * وهذا بيثرب جس الحماما (1)
تكفل عبد مناف بأمر * وأودى فكان على تماما
فقل في ثبير مضى بعد ما * قضى ما قضاه وأبقى شماما
فلله ذا فاتحا للهدى * ولله ذا للمعالي ختاما
وما ضر مجد أبى طالب * جهول لغا أو بصير تعامى
كما لا يضر إياة الصباح (2) * من ظن ضوء النهار الضلاما.
فوفيته حقه من التعظيم والإجلال، ولم أجزم بأمر عندي فيه وقفه
* * *
[قصة غزوة بدر]
الفصل الثالث في شرح القصة في غزاة بدر، ونحن نذكر ذلك من كتاب المغازي
لمحمد بن عمر الواقدي، ونذكر ما عساه زاده محمد بن إسحاق في كتاب المغازي،
وما زاده [أحمد بن يحيى] (3) بن جابر البلاذري في تاريخ الاشراف.
قال الواقدي: بلغ (4) رسول الله صلى الله عليه وآله أن عير قريش قد فصلت من
مكة تريد الشام، وقد جمعت قريش فيها أموالها، فندب لها أصحابه، وخرج يعترضها على
رأس ستة عشر شهرا من مهاجره عليه السلام، فخرج في خمسين ومائة - ويقال في
مائتين - فلم يلق العير، وفاتته ذاهبة إلى الشام... وهذه غزاة ذي العشيرة، رجع منها
إلى المدينة فلم يلق حربا، فلما تحين انصراف العير من الشام قافلة ندب أصحابه لها، وبعث
طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل قبل خروجه من المدينة بعشر ليال،

(1) ا: (حسن).
(2) إياة الصبح: ضوءه، وأصله في الشمس.
(3) من ا.
(4) مغازي الواقدي ص 11 وما بعدها.
84

يتجسسان خبر العير، حتى نزلا على كشد (1) الجهني بالموضع المعروف بالنخبار (2)، وهو
من وراء ذي المروة على الساحل، فأجارهما وأنزلهما، فلم يزالا مقيمين في خباء وبر حتى
مرت العير، فرفعهما على نشز من الأرض، فنظرا إلى القوم وإلى ما تحمل العير، وجعل
أهل العير يقولون لكشد يا كشد، هل رأيت أحدا من عيون محمد فيقول أعوذ بالله،
وأنى لمحمد عيون بالنخبار فلما راحت العير باتا حتى أصبحا ثم خرجا، وخرج معهما كشد
خفيرا، حتى أوردهما ذا المروة، وساحلت العير فأسرعت، وسار بها أصحابها ليلا ونهارا،
فرقا من الطلب، وقدم طلحة وسعيد المدينة في اليوم الذي لقى رسول الله صلى الله عليه
وآله قريشا ببدر، فخرجا يعترضان رسول الله صلى الله عليه وآله، فلقياه بتربان - وتربان
بين ملل والسالة على المحجة، وكانت منزل عروة بن أذينة الشاعر - وقدم كشد بعد
ذلك على النبي صلى الله عليه وآله، وقد أخبر طلحة وسعيد رسول الله صلى الله عليه وآله
بما صنع بهما، فحباه وأكرمه، وقال: ألا أقطع لك ينبع قال: إني كبير، وقد نفد
عمري. ولكن اقطعها لابن أخي، فأقطعها له (3).
قالوا وندب رسول الله صلى الله عليه وآله المسلمين، وقال هذه عير قريش، فيها
أموالهم لعل الله أن يغنمكموها. فأسرع من أسرع، حتى أن كان الرجل ليساهم أباه
في الخروج، فكان ممن ساهم أباه سعد بن خيثمة، فقال سعد لأبيه إنه لو كان غير الجنة
آثرتك به، إني لأرجو الشهادة في وجهي هذا، فقال خيثمة آثرني وقر مع نسائك،
فأبى سعد، فقال خيثمة إنه لا بد لأحدنا من أن يقيم، فاستهما، فخرج سهم سعد،
فقتل ببدر. وأبطأ عن النبي صلى الله عليه وآله بشر كثير من أصحابه، وكرهوا خروجه،
وكان في ذلك كلام كثير واختلاف، وبعضهم تخلف من أهل النيات والبصائر، لم يظنوا
أنه يكون قتال، إنما هو الخروج للغنيمة، ولو ظنوا أنه يكون قتال لما تخلفوا، منهم أسيد

(1) في الإصابة: كسد بالسين المهملة وما أثبته من الأصول يوافق ما في المغازي.
(2) في مغازي الواقدي: (النخبار من وراء ذي المروة على الساحل). ولم أجده في ياقوت.
(3) الخبر في الإصابة 3: 377.
85

ابن حضير، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله، قال أسيد: الحمد لله الذي سرك
وأظهرك على عدوك، والذي بعثك بالحق ما تخلفت عنك رغبة بنفسي عن نفسك،
ولا ظننت أنك تلاقى عدوا، ولا ظننت إلا أنها العير فقال له رسول الله صلى الله
عليه وآله صدقت.
قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله، حتى انتهى إلى المكان المعروف
بالبقع (1) وهي بيوت السقيا (2)، وهي متصلة ببيوت المدينة، فضرب عسكره هناك،
وعرض المقاتلة، فعرض عبد الله بن عمر، وأسامة زيد، ورافع بن خديج، والبراء بن
عازب، وأسيد بن ظهير، وزيد بن أرقم، وزيد بن ثابت، فردهم ولم يجزهم.
قال الواقدي: فحدثني أبو بكر بن إسماعيل، عن أبيه، عن عامر بن سعد، عن
أبيه، قال: رأيت أخي عمير بن أبي وقاص قبل أن يعرضنا رسول الله صلى الله عليه و
آله يتوارى، فقلت: ما لك يا أخي قال: انى أخاف أن يراني رسول الله صلى الله
عليه وآله فيستصغرني، فيردني، وأنا أحب الخروج، لعل الله أن يرزقني الشهادة.
قال: فعرض على رسول الله صلى الله عليه، وآله فاستصغره، فقال ارجع، فبكى
[عمير] (3)، فأجازه.
قال: فكان سعد يقول كنت أعقد له حمائل سيفه من صغره، فقتل ببدر وهو
ابن ست عشرة سنة.
قال: فلما نزل عليه السلام بيوت السقيا أمر أصحابه أن يستقوا (4) من بئرهم: وشرب
عليه السلام منها، كان أول من شرب وصلى عندها، ودعا يومئذ لأهل المدينة، فقال:

(1) قال ياقوت: (البقع: اسم بئر بالمدينة)، وقال الواقدي: (البقع من السقيا التي بنقب بني دينار بالمدينة)
(2) في ياقوت: (عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستقي الماء العذب
من بيوت السقيا، وفي حديث آخر: كان يستعذب الماء العذب من بيوت السقيا، والسقيا: قرية جامعة من عمل الفرع، بينهما مما يلي الجحفة تسعة عشر ميلا... وقال ابن الفقيه: السقيا من أسافل أودية تهامة.
(3) من ا والواقدي.
(4) ب: (يستسقوا)، وأثبت ما في ا والواقدي.
86

اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، دعاك لأهل مكة، وإني محمد عبدك ونبيك،
أدعوك لأهل المدينة، أن تبارك لهم في صاعهم ومدهم وثمارهم، اللهم حبب إلينا المدينة،
واجعل ما بها من الوباء بخم. اللهم إني حرمت ما بين لابتيها، كما حرم إبراهيم
خليلك مكة.
قال الواقدي: وخم على ميلين من الجحفة.
وقدم رسول الله أمامة عدى بن أبي الزغباء وبسيس بن عمرو،
وجاء إليه عبد الله بن عمرو بن حرام، فقال يا رسول الله، لقد سرني منزلك هذا،
وعرضك فيه أصحابك، وتفاءلت به، إن هذا منزلنا في بنى سلمة، حيث كان بيننا وبين
أهل حسيكة ما كان.
قال الواقدي: هي حسيكة (1) الذباب، والذباب (2): جبل بناحية المدينة، وكان
بحسيكة يهود، وكان لهم بها منازل.
قال عبد الله بن عمرو بن حرام: فعرضنا يا رسول الله هاهنا أصحابنا، فأجزنا من كان
يطيق السلاح، ورددنا من صغر عن حمل السلاح، ثم سرنا إلى يهود حسيكة، وهم
أعز يهود كانوا يومئذ، فقتلناهم كيف شئنا، فذلت لنا سائر (3) يهود إلى اليوم، وأنا
أرجو يا رسول الله أن نلتقي نحن وقريش، فيقر الله عينك منهم.
قال الواقدي: وكان خلاد بن عمرو بن الجموح لما كان من النهار رجع إلى أهله
بخرباء، فقال له أبوه عمرو بن الجموح ما ظننت إلا أنكم قد سرتم، فقال إن
رسول الله صلى الله عليه وآله يعرض الناس بالبقيع، فقال عمرو نعم الفأل والله إني
لأرجو أن تغنموا وأن تظفروا بمشركي قريش، إن هذا منزلنا يوم سرنا إلى حسيكة.

(1) حسيكة، ضبطه ياقوت بالتصغير، وقال: (هو موضع بالمدينة في طرف ذباب).
(2) ضبطه ياقوت: (بكسر أوله وبائين)، وقال: (جبل بالمدينة له ذكر في المغازي والاخبار).
(3) ب: (اليهود).
87

قال: فان رسول الله صلى الله عليه وآله قد غير اسمه، وسماه السقيا قال: فكانت
في نفسي أن أشتريها، حتى اشتراها سعد بن أبي وقاص ببكرين، ويقال بسبع أواق،
فذكر للنبي صلى الله عليه وآله إن سعدا اشتراها، فقال ربح البيع.
قال الواقدي: فراح رسول الله صلى الله عليه وآله من بيوت السقيا، لاثنتي عشرة
ليلة (1) مضت من رمضان، وخرج المسلمون معه ثلاثمائة وخمسة، وتخلف ثمانية، ضرب
لهم بسهامهم وأجورهم، فكانت الإبل سبعين بعيرا، وكانوا يتعاقبون الإبل: الاثنين،
والثلاثة، والأربعة، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وعلي بن أبي طالب عليه السلام
ومرثد بن أبي مرثد - ويقال زيد بن حارثة مكان مرثد - يتعاقبون بعيرا واحدا،
وكان حمزة بن عبد المطلب، وزيد بن حارثة وأبو كبشة وأنسة، موالي النبي صلى الله
عليه وآله على بعير، وكان عبيدة بن الحارث والطفيل والحصين ابنا الحارث، ومسطح
ابن أثاثة على بعير لعبيدة بن الحارث ناضح (2) ابتاعه من أبى داود المازني، وكان
معاذ وعوف ومعوذ بنو عفراء ومولاهم أبو الحمراء على بعير، وكان أبي بن كعب
وعمارة بن حزام وحارثة بن النعمان على بعير، وكان خراش بن الصمة وقطبة بن عامر
ابن حديدة وعبد الله بن عمرو بن حزام على بعير، وكان عتبة بن غزوان وطليب بن
عمير على جمل لعتبة بن غزوان يقال له العبس، وكان مصعب بن عمير وسويبط بن
حرملة ومسعود بن ربيع على جمل لمصعب، وكان عمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود
على بعير، وكان عبد الله بن كعب وأبو داود المازني وسليط بن قيس على جمل
لعبد الله بن كعب، وكان عثمان بن عفان وقدامة بن مظعون وعبد الله بن مظعون
والسائب بن عثمان على بعير يتعاقبون، وكان أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف
على بعير، وكان سعد بن معاذ وأخوه وابن أخيه الحارث بن أوس والحارث بن أنس
على جمل لسعد بن معاذ ناضح يقال له الذيال، وكان سعيد بن زيد، وسلمة بن

(1) ساقطة من ب.
(2) الناضح: البعير يستقى عليه الماء.
88

سلامة بن وقش وعباد بن بشر ورافع بن يزيد على ناضح لسعيد بن زيد، ما تزودوا
إلا صاعا من تمر.
قال الواقدي: فروى معاذ بن رفاعة، عن أبيه، قال: خرجت مع النبي صلى الله
عليه وآله إلى بدر، وكان كل ثلاثة يتعاقبون بعيرا، فكنت أنا وأخي خلاد بن رافع
على بكر لنا ومعنا عبيدة بن يزيد بن عامر، فكنا نتعاقب، فسرنا حتى إذا كنا بالروحاء
إذ مر بنا بكرنا وبرك علينا وأعيا، فقال أخي اللهم إن لك على نذرا، لئن رددتنا إلى
المدينة لأنحرنه، فمر بنا النبي صلى الله عليه وآله ونحن على تلك الحال، فقلنا: يا رسول الله،
برك علينا بكرنا، فدعا بماء فتمضمض وتوضأ في إناء، ثم قال: افتحا فاه، ففعلنا فصبه
في فيه، ثم على رأسه ثم على عنقه ثم على حاركه، ثم على سنامه، ثم على عجزه، ثم على
ذنبه، ثم قال: اركبا، ومضى رسول الله صلى الله عليه وآله فلحقناه أسفل من المنصرف،
وإن بكرنا لينفر بنا، حتى إذا كنا بالمصلى راجعين من بدر، برك علينا، فنحره أخي،
فقسم لحمه وتصدق به.
قال الواقدي: وقد روى أن سعد بن عباده حمل في بدر على عشرين جملا.
قال: وروى عن سعد بن أبي وقاص، أنه قال: فخرجنا إلى بدر مع رسول الله
صلى الله عليه وآله ومعنا سبعون بعيرا، فكانوا يتعاقبون الثلاثة والأربعة والاثنان على
بعير، وكنت أنا من أعظم أصحاب النبي عليه السلام عنه غناء، وأرجلهم رجلة (1)،
وأرماهم لسهم، لم أركب خطوة ذاهبا ولا راجعا.
قال الواقدي: وقال رسول الله صلى الله عليه وآله حين فصل من بيوت السقيا:
اللهم إنهم حفاة فاحملهم، وعراة فاكسهم، وجياع فأشبعهم، وعالة فأغنهم من فضلك،
فما رجع أحد منهم يريد أن يركب إلا وجد ظهرا، للرجل البعير والبعيران، واكتسى

(1) الرجلة بالضم: القوة على المشي.
89

من كان عاريا، وأصابوا طعاما من أزوادهم، وأصابوا فداء الأسرى (1)، فأغنى به
كل عائل.
قال: واستعمل رسول الله صلى الله عليه وآله على المشاة قيس بن أبي
صعصعة - واسم أبى صعصعة عمر بن يزيد بن عوف بن مبذول - وأمره النبي صلى الله عليه وآله حين فصل
من بيوت السقيا أن يعد المسلمين، فوقف لهم ببئر أبى عبيدة يعدهم، ثم أخبر النبي صلى
الله عليه وآله، وخرج من بيوت السقيا، حتى سلك بطن العقيق، ثم سلك طريق
المكيمن (2)، حتى خرج على بطحاء بن أزهر، فنزل تحت شجرة هناك، فقام أبو بكر
إلى حجارة هناك، فبنى منها مسجدا، فصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وآله، وأصبح
يوم الاثنين وهو هناك، ثم صار إلى بطن ملل وتربان بين الحفيرة وملل.
قال الواقدي: فكان سعد بن أبي وقاص، يقول لما كنا بتربان، قال لي رسول
الله صلى الله عليه وآله: يا سعد، انظر إلى الظبي، فأفوق له بسهم، وقام رسول الله صلى
الله عليه وآله فوضع رأسه بين منكبي وأذني، ثم قال: اللهم سدد رميته - قال: فما أخطأ
سهمي عن نحره، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله، وخرجت أعدو فأخذته وبه رمق
فذكيته (3)، فحملناه حتى نزلنا قريبا، وأمر به رسول الله صلى الله عليه وآله فقسم
بين أصحابه.
قال الواقدي: وكان معهم فرسان فرس لمرثد بن أبي مرثد الغنوي، وفرس للمقداد
بن عمرو البهراني، حليف بنى زهرة، ويقال فرس للزبير، ولم يكن إلا فرسان
لاختلاف عندهم، أن المقداد له فرس، وقد روى عن ضباعة بنت الزبير عن المقداد،

(1) ا: (للأسرى).
(2) المكيمن، ضبطه ياقوت على التصغير، وقال: عقيق المدينة) وفي الواقدي: (المكتمن).
(3) ذكيته. ذبحته.
90

قال: كان معي يوم بدر فرس يقال له سبحة وقد روى سعد بن مالك الغنوي عن آبائه
أن مرثد بن أبي مرثد الغنوي شهد بدرا على فرس له يقال له السيل.
قال الواقدي: ولحقت قريش بالشام في عيرها، وكانت العير ألف بعير، وكان فيها
أموال عظام، ولم يبق بمكة قرشي ولا قرشية له مثقال فصاعدا إلا بعث به في العير، حتى
إن المرأة لتبعث بالشئ التافه، وكان يقال أن فيها لخمسين ألف دينار وقالوا أقل،
وإن كان ليقال أن أكثر ما فيها من المال لآل سعيد بن العاص لأبي أحيحة إما مال لهم
أو مال مع قوم قراض على النصف، وكان عامة العير لهم، ويقال بل كان لبني مخزوم
فيها مائتا بعير وخمسة أو أربعة آلاف مثقال ذهبا، وكان يقال للحارث بن عامر بن نوفل
فيها ألفا مثقال.
قال الواقدي: وحدثني هشام بن عمارة بن أبي الحويرث، قال: كان لبني عبد مناف
فيها عشرة آلاف مثقال، وكان متجرهم إلى غزة من أرض الشام.
قال الواقدي: وحدثني عبد الله بن جعفر، عن أبي عون مولى المسور، عن مخرمة
ابن نوفل، قال: لما لحقنا بالشام أدركنا رجل من جذام، فأخبرنا أن محمدا قد كان
عرض لعيرنا في بدأتنا، وإنه تركه مقيما ينتظر رجعتنا، قد حالف علينا أهل الطريق
ووادعهم. قال مخرمة: فخرجنا خائفين نخاف الرصد، فبعثنا ضمضم بن عمرو حين
فصلنا من الشام.
قال الواقدي: وكان عمرو بن العاص مع العير، وكان يحدث بعد ذلك يقول
لما كنا بالزرقاء - والزرقاء بالشام من أذرعات على مرحلتين - ونحن منحدرون إلى مكة
لقينا رجلا من جذام، فقال قد كان عرض محمد لكم في بدأتكم في أصحابه، فقلنا:
ما شعرنا، قال: بلى، فأقام شهرا، ثم رجع إلى يثرب، وأنتم يوم عرض محمد لكم مخفون
فهو الان أحرى أن يعرض لكم، إنما يعد لكم الأيام عدا، فاحذروا على عيركم،
91

وارتئوا آراءكم، فوالله ما أرى من عدد ولا كراع ولا حلقة (1). فأجمع القوم أمرهم،
فبعثوا ضمضم بن عمرو، وكان في العير، وقد كانت قريش مرت به وهو بالساحل، معه
بكران، فاستأجروه بعشرين مثقالا، وأمره أبو سفيان أن يخبر قريشا أن محمدا قد عرض
لعيرهم، وأمره أن يجدع بعيره إذا دخل، ويحول رحله، ويشق قميصه من قبله ودبره،
ويصيح الغوث الغوث ويقال إنما بعثوه من تبوك، وكان في العير ثلاثون رجلا من قريش، فيهم عمرو بن العاص، ومخرمة بن نوفل.
قال الواقدي: وقد كانت عاتكة بنت عبد المطلب رأت قبل مجئ ضمضم بن عمرو
رؤيا أفزعتها، وعظمت في صدرها، فأرسلت إلى أخيها العباس، فقالت يا أخي، لقد
والله رأيت رؤيا أفزعتني (2)، وتخوفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة، فاكتم على
ما أحدثك منها، رأيت راكبا اقبل على بعير حتى وقف بالأبطح، ثم صرخ بأعلى صوته
يا آل غدر، انفروا إلى مصارعكم في ثلاث، فصرخ بها ثلاث مرات، فأرى الناس اجتمعوا
إليه، ثم دخل المسجد، والناس يتبعونه إذ مثل به بعيره على ظهر الكعبة، فصرخ
مثلها ثلاثا ثم مثل به بعيره على رأس أبى قبيس، فصرخ بمثلها ثلاثا، ثم أخذ صخرة من
أبى قبيس فأرسلها، فأقبلت تهوى، حتى إذا كانت في أسفل الجبل أرفضت، فما بقي
بيت من بيوت مكة ولا دار من دورها إلا دخلته منها فلذة (3).
قال الواقدي: وكان عمرو بن العاص يحدث بعد ذلك فيقول لقد رأيت كل
هذا، ولقد رأيت في دارنا فلقة من الصخرة التي انفلقت من أبى قبيس، ولقد كان ذلك
عبرة، ولكن الله لم يرد أن نسلم يومئذ، لكنه أخر إسلامنا إلى ما أراد.
قلت كان بعض أصحابنا يقول لم يكف عمرا أن يقول رأيت الصخرة في دور
مكة عيانا، فيخرج ذلك مخرج الاستهزاء باطنا على وجه النفاق واستخفافه بعقول المسلمين

(1) الحلقة هنا: السلاح.
(2) الواقدي: (أفظعتها).
(3) الفلذة: القطعة من الحجارة.
92

زعم، حتى يضيف إلى ذلك القول بالخبر الصراح فيقول إن الله تعالى لم يكن أراد منه
الاسلام يومئذ.
قال الواقدي: قالوا ولم يدخل دارا ولا بيتا من دور بني هاشم ولا بنى زهرة من تلك
الصخرة شئ قال: فقال العباس: إن هذه لرؤيا، فخرج مغتما، حتى لقى الوليد بن عتبة
ابن ربيعة - وكان له صديقا - فذكرها له واستكتمه، ففشا الحديث في الناس، قال
العباس: فغدوت أطوف بالبيت، وأبو جهل في رهط من قريش يتحدثون برؤيا عاتكة،
فقال أبو جهل ما رأت عاتكة هذه فقلت وما ذاك فقال يا بنى عبد المطلب،
أما رضيتم بان تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساءكم زعمت عاتكة أنها رأت في المنام كذا وكذا
- للذي رأت - فسنتربص بكم ثلاثا، فإن يكن ما قالت حقا فسيكون، وإن مضت الثلاث
ولم يكن، نكتب عليكم إنكم أكذب أهل بيت في العرب فقال له العباس
يا مصفر أسته، أنت أولى بالكذب واللؤم منا فقال أبو جهل إنا استبقنا المجد وأنتم،
فقلتم فينا السقاية، فقلنا لا نبالي، تسقون الحجاج، ثم قلتم فينا الحجابة، فقلنا لا نبالي
تحجبون البيت، ثم قلتم فينا الندوة، قلنا لا نبالي يكون الطعام فتطعمون الناس
ثم قلتم فينا الرفادة، فقلنا لا نبالي، تجمعون عندكم ما ترفدون به الضعيف، فلما أطعمنا
الناس وأطعمتم، وازدحمت الركب واستبقنا المجد، فكنا كفرسي رهان، قلتم منا نبي
، ثم قلتم منا نبية فلا واللات والعزى لا كان هذا أبدا.
قلت لا أرى كلام أبى جهل منتظما، لأنه إذا سلم للعباس أن هذه الخصال كلها
فيهم، وهي الخصال التي تشرف بها القبائل بعضها على بعض، فكيف يقول
لا نبالي لا نبالي وكيف يقول فلما أطعمنا للناس وأطعمتم، وقد كان الكلام منتظما، لو قال
: ولنا بإزاء هذه المفاخر كذا وكذا، ثم يقول بعد ذلك استبقنا المجد فكنا كفرسي
رهان، وازدحمت الركب، ولم يقل شيئا ولا عد مآثره ولعل أبا جهل قد قال
ما لم ينقل.
93

قال الواقدي: قال العباس: فوالله ما كان منى غير أنى جحدت ذلك، وأنكرت
أن تكون عاتكة رأت شيئا، فلما أمسيت لم تبق امرأة أصابتها ولادة عبد المطلب إلا
جاءت، فقلن لي أرضيتم بهذا الفاسق الخبيث يقع في رجالكم، ثم قد تناول نساءكم
ولم تكن لك عند ذلك غيره فقلت والله ما قلت إلا لأني لا أبالي به، ولأيم الله
لأعرضن له غدا، فان عاد كفيتكن إياه فلما أصبحوا من ذلك اليوم الذي رأت
فيه عاتكة ما رأت، قال أبو جهل: هذه ثلاثة أيام ما بقي قال العباس: وغدوت في اليوم
الثالث، وأنا حديد مغضب، أرى أن قد فاتني منه أمر أحب أن أدركه، وأذكر ما أحفظني به
النساء من مقالتهن، فوالله إني لأمشي نحوه - وكان رجلا خفيفا حديد الوجه حديد اللسان
حديد النظر - إذ خرج نحو باب بنى سهم يشتد، فقلت ما باله لعنه الله أكل هذا فرقا
من أن أشاتمه فإذا هو قد سمع صوت ضمضم بن عمرو وهو يقول يا معشر قريش،
يا آل لؤي بن غالب، اللطيمة قد عرض لها محمد في أصحابه الغوث الغوث والله ما أرى
أن تدركوها، وضمضم ينادى بذلك في بطن الوادي وقد جدع أذني بعيره وشق قميصه
قبلا ودبرا، وحول رحله، وكان يقول لقد رأيتني قبل أن أدخل مكة وإني لأرى في
النوم وأنا على راحلتي كان وادي مكة يسيل من أسفله إلى أعلاه دما، فاستيقظت فزعا
مذعورا، فكرهتها لقريش، ووقع في نفسي أنها مصيبة في أنفسهم.
قال الواقدي: وكان عمير بن وهب الجمحي يقول ما رأيت أعجب من أمر ضمضم
قط، وما صرح على لسانه إلا شيطان كأنه لم يملكنا من أمورنا شيئا، حتى نفرنا على
الصعب والذلول، وكان حكيم بن حزام يقول ما كان الذي جاءنا فاستنفرنا إلى العير إنسانا إن
هو إلا شيطان، قيل كيف يا أبا خالد قال: إني لأعجب منه، ما ملكنا من أمرنا شيئا.
قال الواقدي: فجهز الناس وشغل بعضهم عن بعض، وكان الناس بين رجلين
إما خارج وإما باعث مكانه رجلا، وأشفقت قريش لرؤيا عاتكة، وسر بنو هاشم.
94

وقال قائلهم: كلا، زعمتم أنا كذبنا وكذبت عاتكة فأقامت قريش ثلاثا تتجهز
- ويقال يومين - وأخرجت أسلحتها واشتروا سلاحا، وأعان قويهم ضعيفهم، وقام سهيل
ابن عمرو في رجال من قريش، فقال يا معشر قريش، هذا محمد والصباة معه من شبانكم
وأهل يثرب قد عرضوا لعيركم ولطيمتكم (1)، فمن أراد ظهرا فهذا ظهر، ومن أراد قوة فهذه
قوة. وقام زمعة بن الأسود، فقال إنه واللات والعزى ما نزل بكم أمر أعظم من أن
طمع محمد وأهل يثرب أن يعرضوا لعيركم فيها خزائنكم، فأوعبوا (2) ولا يتخلف منكم
أحد، ومن كان لا قوة له فهذه قوة، والله لئن أصابها محمد وأصحابه لا يروعكم منهم
ألا وقد دخلوا عليكم بيوتكم. وقال طعيمة بن عدي يا معشر قريش، والله ما نزل بكم
أمر أجل من هذه أن يستباح عيركم، ولطيمة قريش فيها أموالكم وخزائنكم، والله ما أعرف
رجلا ولا امرأة من بنى عبد مناف له نش (3) فصاعدا، إلا وهو في هذه العير، فمن كان لا قوة به
فعندنا قوة نحمله ونقويه. فحمل على عشرين بعيرا وقوى بهم، وخلفهم في أهلهم بمعونة وقام
حنظلة بن أبي سفيان وعمرو بن أبي سفيان فحضا الناس على الخروج، ولم يدعوا إلى قوة
ولا حملان، فقيل لهما أ لا تدعوان إلى ما دعا إليه قومكما من الحملان قالا والله ما لنا
مال، وما المال إلا لأبي سفيان. ومشى نوفل بن معاوية الديلمي إلى أهل القوة من قريش،
وكلمهم في بذل النفقة والحملان لمن خرج، فكلم عبد الله بن أبي ربيعة، فقال هذه
خمسمائة دينار تضعها حيث رأيت، وكلم حويطب بن عبد العزى، فاخذ منه مائتي دينار
أو ثلاثمائة، ثم قوى بها في السلاح والظهر.
قال الواقدي: وذكروا إنه كان لا يتخلف أحد من قريش إلا بعث مكانه بعثا،
فمشت قريش إلى أبى لهب، فقالوا له إنك سيد من سادات قريش، وإنك إن تخلفت عن

(1) اللطيمة: التجارة، وقيل: اللطيمة: العطر خاصة.
(2) أوعبوا: استعدوا.
95

النفير يعتبر بك غيرك من قومك، فأخرج أو أبعث رجلا، فقال و اللات والعزى لا أخرج
ولا أبعث أحدا، فجاءه أبو جهل فقال أقم يا أبا عتبة، فوالله ما خرجنا إلا غضبا لدينك ودين
آبائك وخاف أبو جهل أن يسلم أبو لهب، فسكت أبو لهب ولم يخرج ولم يبعث، وما منع
أبا لهب أن يخرج إلا الاشفاق من رؤيا عاتكة، كان يقول إنما رؤيا عاتكة اخذ باليد،
ويقال إنه بعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة وكان له عليه دين، فقال اخرج وديني
عليك لك، فخرج عنه.
وقال محمد بن إسحاق في المغازي كان دين أبى لهب على العاص بن هشام أربعة
آلاف درهم، فمطله بها وأفلس، فتركها له على أن يكون مكانه، فخرج مكانه.
قال الواقدي: وأخرج عتبة وشيبة دروعا لهما، فنظر إليهما مولاهما عداس وهما يصلحان
دروعهما وآله حربهما، فقال ما تريدان فقالا أ لم تر إلى الرجل الذي أرسلناك إليه
بالعنب في كرمنا بالطائف قال: نعم، قالا نخرج فنقاتله، فبكى، وقال: لا تخرجا، فوالله
إنه لنبي، فأبيا فخرجا، وخرج معهما فقتل ببدر معهما.
قلت حديث العنب في كرم ابني ربيعة بالطائف قد ذكره أرباب السيرة، وشرحه
الطبري في التاريخ، قال: لما مات أبو طالب بمكة طمعت قريش في رسول الله صلى الله
عليه وآله ونالت منه ما لم تكن تناله في حياة أبى طالب، فخرج من مكة خائفا على نفسه
مهاجرا إلى ربه يؤم الطائف، راجيا أن يدعو أهلها إلى الاسلام فيجيبوه، وذلك في
شوال من سنة عشر من النبوة، فأقام بالطائف عشرة أيام، وقيل شهرا، لا يدع أحدا
من أشراف ثقيف الا جاءه وكلمه، فلم يجيبوه، وأشاروا عليه أن يخرج عن أرضهم،
ويلحق بمجاهل الأرض وبحيث لا يعرف، وأغروا به سفهاءهم، فرموه بالحجارة، حتى
إن رجليه لتدميان، فكان معه زيد بن حارثة، فكان يقيه بنفسه، حتى لقد شج
في رأسه.
96

والشيعة تروى أن علي بن أبي طالب كان معه أيضا في هجرة الطائف، فانصرف
رسول الله صلى الله عليه وآله عن ثقيف وهو محزون، بعد أن مشى إلى عبد يا ليل ومسعود
وحبيب ابني عمرو بن عمير، وهم يومئذ سادة ثقيف، فجلس إليهم، ودعاهم إلى الله وإلى
نصرته والقيام معه على قومه، فقال له أحدهم أنا أمرط (1) بباب الكعبة، إن كان الله
أرسلك وقال الآخر: أما وجد الله أحدا أرسله غيرك وقال الثالث: والله لا أكلمك
كلمة أبدا، لئن كنت رسولا من الله كما تقول، لانت أعظم خطرا من أن أرد عليك
الكلام ولئن كنت كاذبا على الله ما ينبغي أن أكلمك فقام رسول الله صلى الله عليه
وآله من عندهم، وقد يئس من خير ثقيف، واجتمع عليه صبيانهم وسفهاؤهم، وصاحوا به
وسبوه وطردوه، حتى اجتمع عليه الناس يعجبون منه، وألجأوه بالحجارة والطرد والشتم
إلى حائط (2) لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، وهما يومئذ في الحائط، فلما دخل الحائط
رجع عنه سفهاء ثقيف، فعمد إلى ظل حبلة (3) منه فجلس فيه، وابنا ربيعة ينظران
ويريان ما لقى من سفهاء ثقيف.
قال الطبري: فلما اطمأن به قال - فيما ذكر لي: اللهم إليك أشكو ضعف قوتي
وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربى،
إلى من تكلني إلى بعيد فيتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، فإن لم يكن منك
غضب على فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به
الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن ينزل بي غضبك، أو يحل على سخطك،
لك العتبى حتى ترضى، لا حول ولا قوة إلا بك.
فلما رأى عتبة وشيبة ما لقى تحركت له رحمهما، فدعوا غلاما نصرانيا لهما، يقال له

(1) في الطبري: (هو يمرط ثياب الكعبة)، اي يمزقها.
(2) الحائط هنا: البستان.
(3) الحبلة: الكرمة.
97

عداس، فقالا له خذ قطفا (1) من هذا العنب وضعه في ذلك الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك
الرجل، وقل له فليأكل منه ففعل واقبل به حتى وضعه بين يديه، فوضع يده فيه
فقال بسم الله، وأكل، فقال عداس والله إن هذه الكلمة لا يقولها أهل هذه البلدة،
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله من أي البلاد أنت وما دينك قال: أنا نصراني
من أهل نينوى، قال: أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى قال: وما يدريك من
يونس بن متى قال: ذاك أخي، كان نبيا وأنا نبي فأكب عداس على يديه ورجليه ورأسه
يقبلها، قال: يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه: أما غلامك فقد أفسده عليك، فلما جاءهما
قالا ويلك ويلك يا عداس ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه قال: يا سيدي،
ما في الأرض خير من هذا، فقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي (2).
قال الواقدي: واستقسمت قريش بالأزلام عند هبل للخروج، واستقسم أمية بن
خلف وعتبة وشيبة بالامر والناهي، فخرج القدح (3) الناهي، فاجمعوا المقام حتى أزعجهم
أبو جهل، فقال ما استقسمت ولا نتخلف عن عيرنا.
قال الواقدي: لما توجه زمعة بن الأسود خارجا، فكان بذي طوى أخرج قداحه،
واستقسم بها، فخرج الناهي عن الخروج، فلقى غيظا، ثم أعادها الثانية فخرج مثل ذلك
فكسرها، وقال: ما رأيت كاليوم قدحا أكذب ومر به سهيل بن عمرو وهو على
تلك الحال، فقال ما لي أراك غضبان يا أبا حكيمة فأخبره زمعة، فقال امض عنك
أيها الرجل، قد أخبرني عمير بن وهب أنه لقيه مثل الذي أخبرتني، فمضوا على هذا
الحديث (4).

(1) القطف: عنقود العنب. وهو في الأصل: اسم لكل ما يقطف.
(2) تاريخ الطبري 2: 345، 346 (طبعة المعارف).
(3) القدح هنا: السهم الذي كانوا يستقسمون به.
(4) مغازي الواقدي 27.
98

قال الواقدي: وحدثني موسى بن ضمرة بن سعيد، عن أبيه، قال: قال أبو سفيان
ابن حرب لضمضم: إذا قدمت على قريش فقل لها لا تستقسم بالأزلام.
قال الواقدي: وحدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن أبي بكر بن سليم
بن أبي خيثمة، قال: سمعت حكيم بن حزام يقول ما توجهت وجها قط كان أكره
إلى من مسيري إلى بدر، ولا بان لي في وجه قط ما بان لي قبل أن اخرج، ثم قال: قدم
ضمضم، فصاح بالنفير فاستقسمت بالأزلام، كل ذلك يخرج الذي أكره، ثم خرجت على
ذلك حتى نزلنا مر الظهران، فنحر ابن الحنظلية جزورا منها بها حياة، فما بقي خباء من
أخبية العسكر إلا أصابه من دمها، فكان هذا بين (1)، ثم هممت بالرجوع، ثم أذكر
ابن الحنظلية وشؤمه، فيردني حتى مضيت لوجهي. وكان حكيم يقول لقد رأينا حين
بلغنا الثنية البيضاء - وهي الثنية التي تهبطك على فخ وأنت مقبل من المدينة - إذا
عداس (2) جالس عليها والناس يمرون، إذ مر علينا ابنا ربيعة، فوثب إليهما، فأخذ
بأرجلهما في غرزهما، وهو يقول بأبي أنتما وأمي والله إنه لرسول الله صلى الله عليه وآله،
وما تساقان إلا إلى مصارعكما وإن عينيه لتسيل دمعا على خديه، فأردت أن أرجع
أيضا، ثم مضيت ومر به العاص بن منبه بن الحجاج، فوقف عليه حين ولى عتبة
وشيبة، فقال: ما يبكيك قال: يبكيني سيدي - أو سيدا أهل (3) الوادي -
يخرجان إلى مصارعهما، ويقاتلان رسول الله صلى الله عليه وآله فقال العاص وإن
محمدا لرسول الله فانتفض عداس انتفاضة واقشعر جلده، ثم بكى، وقال: أي والله،
إنه لرسول الله إلى الناس كافة. قال: فأسلم العاص بن منبه، ومضى وهو على الشك،
حتى قتل مع المشركين على شك وارتياب ويقال رجع عداس ولم يشهد بدرا، ويقال
شهد بدرا وقتل.
قال الواقدي: والقول الأول أثبت عندنا.

(1) في الأصول: (بينه) والتصويب من الواقدي.
(2) قال صاحب القاموس: عداس، كشداد.
(3) الواقدي 28: (يبكيني سيداي وسيدا أهل الوادي).
99

قال الواقدي: وخرج سعد بن معاذ معتمرا قبل بدر، فنزل على أمية بن خلف،
فأتاه أبو جهل، وقال: أتترك هذا وقد آوى محمدا وآذننا بالحرب فقال سعد بن معاذ
قل ما شئت، أما إن طريق عيركم علينا، قال أمية بن خلف: مه لا تقل هذا لأبي الحكم
فإنه سيد أهل الوادي قال سعد بن معاذ: وأنت تقول ذلك يا أمية أما والله لسمعت
محمدا يقول لأقتلن أمية بن خلف، قال أمية: أنت سمعته قال سعد بن معاذ: فقلت:
نعم قال: فوقع في نفسه، فلما جاء النفير أبى أمية أن يخرج معهم إلى بدر، فأتاه عقبة
بن أبي معيط وأبو جهل، ومع عقبة مجمرة فيها بخور، ومع أبى جهل مكحلة ومرود،
فأدخلها عقبة تحته، فقال تبخر، فإنما أنت امرأة، وقال أبو جهل: اكتحل فإنما أنت
امرأة فقال أمية: ابتاعوا لي أفضل بعير في الوادي، فابتاعوا له جملا بثلاثمائة دينار من
نعم بنى قشير، فغنمه المسلمون يوم بدر، فصار في سهم خبيب (1) بن يساف.
قال الواقدي: وقالوا ما كان أحد ممن خرج إلى العير أكره للخروج من الحارث
ابن عامر، وقال: ليت قريشا تعزم على القعود وإن مالي في العير تلف ومال بنى عبد مناف
أيضا فيقال له إنك سيد من ساداتها، أفلا تردعها عن الخروج قال: إني أرى قريشا
قد أزمعت على الخروج، ولا أرى أحدا به طرق (2) تخلف إلا من علة، وأنا أكره
خلافها، وما أحب أن تعلم قريش ما أقول، على أن ابن الحنظلية رجل مشئوم على قومه،
ما أعلمه إلا يحرز قومه أهل يثرب، ولقد قسم الحارث (3) مالا من ماله بين ولده، ووقع
في نفسه أنه لا يرجع إلى مكة، وجاءه ضمضم بن عمرو، وكانت للحارث عنده أياد، فقال
أبا عامر، إني رأيت رؤيا كرهتها، وإني لكاليقظان على راحلتي وأراكم أن واديكم يسيل
دما من أسفله إلى أعلاه، فقال الحارث ما خرج أحد وجها من الوجوه أكره له من
وجهي هذا، قال: يقول ضمضم: والله إني لأرى لك أن تجلس، فقال لو سمعت

(1) الواقدي 29، وفي الأصول (حبيب)، والتصويب من الواقدي والإصابة.
(2) طرق، أي قوة.
(3) ساقطة من الواقدي.
100

هذا منك قبل أن اخرج ما سرت خطوة، فاطو هذا الخبر أن تعلمه قريش، فإنها
تتهم كل من عوقها عن المسير - وكان ضمضم قد ذكر هذا الحديث للحارث ببطن
يأجج (1) - قالوا وكرهت قريش أهل الرأي منهم المسير، ومشى بعضهم إلى بعض،
وكان ممن أبطأ بهم عن ذلك الحارث بن عامر، وأمية بن خلف، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة،
وحكيم بن حزام وأبو البختري، وعلي بن أمية بن خلف، والعاص بن منبه، حتى
بكتهم أبو جهل بالجبن، وأعانه عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث بن كلدة،
وحضوهم على الخروج، وقالوا هذا فعل النساء. فأجمعوا المسير، وقالت قريش
لا تدعوا أحدا من عدوكم خلفكم (2).
قال الواقدي: ومما استدل به على كراهة الحارث بن عامر للخروج وعتبة وشيبة،
إنه ما عرض رجل منهم حملانا، ولا حملوا أحدا من الناس، وإن كان الرجل ليأتيهم
حليفا أو عديدا، ولا قوة له، فيطلب الحملان منهم، فيقولون إن كان لك مال وأحببت
أن تخرج فافعل وإلا فأقم، حتى كانت قريش تعرف ذلك منهم.
قال الواقدي: فلما اجتمعت قريش إلى الخروج والمسير، ذكروا الذي بينهم وبين
بنى بكر من العداوة، وخافوهم على من يخلفونه، وكان أشدهم خوفا عتبة بن ربيعة،
وكان يقول يا معشر قريش، أنكم وإن ظفرتم بالذي تريدون، فإنا لا نأمن على من نخلف، إنما
نخلف نساء ولا ذرية ومن لا طعم به فارتأوا آراءكم (3)، فتصور لهم إبليس في
صورة سراقة بن جعشم المدلجي فقال يا معشر قريش، قد عرفتم شرفي ومكاني في قومي،
أنا لكم جار أن تأتيكم كنانة بشئ تكرهونه، فطابت نفس عتبة، وقال له أبو جهل:

(1) الأصول: (تأجج) وأثبت ما في الواقدي.
(2) الواقدي 30.
(3) الواقدي: (رأيكم).
101

فما تريد هذا سيد كنانة، هو لنا جار على (1) من نخلف، فقال عتبة: لا شئ،
أنا خارج (2).
قال الواقدي: وكان الذي بين بنى كنانة وقريش أن ابنا لحفص بن الأحنف أحد
بنى معيط بن عامر بن لؤي، خرج يبغي ضالة، وهو غلام في رأسه ذؤابة، وعليه حلة،
وكان غلاما وضيئا، فمر بعامر بن يزيد بن عامر بن الملوح بن يعمر، أحد رؤساء بنى كنانة -
وكان بضجنان - فقال من أنت يا غلام قال: ابن لحفص بن الأحنف، فقال: يا بنى
بكر، ألكم في قريش دم قالوا نعم، قال: ما كان رجل يقتل هذا برجله إلا استوفى،
فأتبعه رجل من بنى بكر فقتله بدم له في قريش، فتكلمت فيه قريش فقال عامر
ابن يزيد قد كانت لنا فيكم دماء، فإن شئتم فأدوا ما لنا قبلكم ونؤدي إليكم ما كان
فينا، وإن شئتم فإنما هو الدم، رجل برجل، وإن شئتم فتجافوا عنا فيما قبلنا، ونتجافى
عنكم فيما قبلكم. فهان ذلك الغلام على قريش، وقالوا صدق رجل برجل، فلهوا
عنه أن يطلبوا بدمه، فبينا أخوه مكرز بن حفص بمر الظهران، إذ نظر عامر بن يزيد
وهو سيد بنى بكر على جمل له، فلما رآه قال: ما اطلب أثرا بعد عين وأناخ بعيره، وهو
متوشح سيفه، فعلاه به حتى قتله، ثم أتى مكة من الليل، فعلق سيف عامر بن يزيد،
بأستار الكعبة فلما أصبحت قريش رأوا سيف عامر بن يزيد، فعرفوا أن مكرز بن
حفص قتله، وقد كانت تسمع من مكرز في ذلك قولا، وجزعت بنو بكر من قتل سيدها،
فكانت معدة لقتل رجلين من قريش سيدين أو ثلاثة من ساداتها، فجاء النفير وهم على
هذا الامر، فخافوهم على من تخلف بمكة من ذراريهم، فلما قال سراقة ما قال، وهو ينطق
بلسان إبليس شجع القوم (2).

(1) الواقدي: (علام نختلف!).
(2) الواقدي 31، 32.
102

قال الواقدي: وخرجت قريش سراعا، وخرجوا بالقيان والدفوف، سارة مولاة
عمرو بن هاشم بن عبد المطلب وعزة مولاة أسود بن المطلب، وفلانة مولاة أمية بن
خلف، يغنين في كل منهل، وينحرون الجزر، وخرجوا بالجيش يتقاذفون بالحراب،
وخرجوا بتسعمائة وخمسين مقاتلا، وقادوا مائة فرس، بطرا ورئاء الناس، كما ذكر الله
تعالى في كتابه (1)، وأبو جهل يقول أيظن محمد أن يصيب منا ما أصاب بنخلة وأصحابه،
سيعلم أنمنع (2) عيرنا أم لا.
قلت سرية نخلة سرية قبل بدر، وكان أميرها عبد الله بن جحش قتل فيها عمرو
ابن الحضرمي، حليف بنى عبد شمس، قتله واقد بن عبد الله التميمي، رماه بسهم فقتله،
وأسر الحكم بن كيسان وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، واستاق المسلمون العير، وكانت
خمسمائة بعير فخمسها رسول الله صلى الله عليه وآله، وقسم أربعمائة فيمن شهدها من المسلمين،
وهم مائتا رجل، فأصاب كل رجل بعيران.
قال الواقدي: وكانت الخيل لأهل القوة منهم، وكان في بنى مخزوم منها ثلاثون
فرسا، وكانت الإبل سبعمائة بعير، وكان أهل الخيل كلهم دارع، وكانوا مائة، وكان في
الرجالة دروع سوى ذلك (3).
قال الواقدي: وأقبل أبو سفيان بالعير، وخاف هو وأصحابه خوفا شديدا حين دنوا
من المدينة، واستبطؤوا ضمضما والنفير، فلما كانت الليلة التي يصبحون فيها على ماء بدر،
جعلت العير تقبل بوجوهها إلى ماء بدر، وكانوا باتوا من وراء بدر آخر ليلتهم، وهم على

(1) ذكر الواقدي بعدها الآية: (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء
الناس...). إلى آخر الآية.
(2) الواقدي: (أمنع).
(3) الواقدي 32، 33.
103

أن يصبحوا بدرا، إن لم يعترض لهم، فما أقرتهم العير حتى ضربوها بالعقل (1) على أن
بعضها ليثنى بعقالين، وهي ترجع (2) الحنين، تواردا إلى ماء بدر، وما إن بها إلى الماء
من حاجة، لقد شربت بالأمس، وجعل أهل العير يقولون إن هذا شئ ما صنعته الإبل
منذ خرجنا، قالوا وغشينا تلك الليلة ظلمة شديدة حتى ما نبصر شيئا (3).
قال الواقدي: وكان بسبس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء وردا على مجدي بدرا
يتجسسان (4) الخبر، فلما نزلا ماء بدر، أناخا راحلتيهما إلى قريب من الماء، ثم أخذ
أسقيتهما، يسقيان من الماء، فسمعا جاريتين من جواري جهينة، يقال لأحداهما برزة
وهي تلزم صاحبتها في درهم، كان لها عليها وصاحبتها تقول إنما العير غدا أو بعد غد قد
نزلت، ومجدي بن عمر يسمعها، فقال صدقت، فلما سمع ذلك بسبس وعدى انطلقا
راجعين إلى النبي صلى الله عليه وآله حتى أتياه بعرق الظبية، فأخبراه الخبر (3).
قال الواقدي: وحدثني كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه،
عن جده - وكان أحد البكائين - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لقد سلك فج
الروحاء موسى النبي عليه السلام في سبعين ألفا من بني إسرائيل وصلوا في المسجد الذي
بعرق الظبية.
قال الواقدي: وهي من الروحاء على ميلين مما يلي المدينة، إذا خرجت
على يسارك.
قال الواقدي: وأصبح أبو سفيان ببدر، قد تقدم العير وهو خائف من الرصد
فقال يا مجدي، هل أحسست أحدا تعلم والله ما بمكة قرشي ولا قرشية له نش

(1) العقل: جمع عقال، وهو الرباط الذي تعقل به الدابة.
(2) الواقدي: (ترجع).
(3) الواقدي 33، 34.
(4) الواقدي: (يتحسسان).
104

فصاعدا - والنش نصف أوقية وزن عشرين درهما - إلا وقد بعث به معنا ولئن كتمتنا
شأن عدونا لا يصالحك رجل من قريش ما بل بحر صوفه (1). فقال مجدي والله ما رأيت
أحدا أنكره، ولا بينك وبين يثرب من عدو، ولو كان بينك وبينها عدو لم يخف علينا،
وما كنت لأخفيه عنك، إلا إني قد رأيت راكبين أتيا إلى هذا المكان - وأشار إلى مناخ
عدى وبسبس - فأناخا به، ثم استقيا بأسقيتهما، ثم انصرفا فجاء أبو سفيان مناخهما،
فاخذ أبعارا من أبعار بعيريهما ففتها، فإذا فيها نوى، فقال هذه والله علائف يثرب
هذه والله عيون محمد وأصحابه، ما أرى القوم إلا قريبا، فضرب وجه عيره فساحل (2) بها،
وترك بدرا يسارا وانطلق سريعا، وأقبلت قريش من مكة ينزلون كل منهل يطعمون
الطعام من أتاهم، وينحرون الجزور، فبينا هم كذلك في مسيرهم إذ تخلف عتبة وشيبة، وهما
يترددان، قال أحدهما لصاحبه: ألم تر إلى رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب لقد خشيت (3)
منها، قال الآخر: فاذكرها وذكرها فأدركهما أبو جهل، فقال ما تتحادثون به قالا
نذكر رؤيا عاتكة، قال: يا عجبا من بنى عبد المطلب لم يرضوا أن تتنبأ علينا رجالهم حتى
تنبأت علينا النساء أما والله لئن رجعنا إلى مكة لنفعلن بهم ولنفعلن قال عتبه: إن لهم
أرحاما وقرابة قريبة ثم قال أحدهما لصاحبه: هل لك أن ترجع قال أبو جهل: أترجعان
بعد ما سرنا فتخذلان قومكما، وتقطعان بهم بعد أن رأيتم ثأركم بأعينكم أتظنان أن
محمدا وأصحابه يلاقونكما كلا والله، إن معي من قومي مائة وثمانين كلهم من أهل
بيتي يحلون إذا أحللت، ويرحلون إذا رحلت، فارجعا إن شئتما قالا والله لقد هلكت
وأهلكت قومك.
ثم قال عتبة لأخيه شيبة: إن هذا رجل مشئوم - يعنى أبا جهل - وإنه لا يمسه من قرابة
محمد ما يمسنا، مع أن محمدا معه الولد فارجع بنا ودع قوله (4).

(1) في اللسان: (صوف البحر شئ على شكل هذا الصوف الحيواني واحدته صوفة، ومن الأمثال
قولهم: (لا آتيك ما بل بحر صوفه).
(2) سار بها نحو الساحل.
(3) ب: (سمعت) وأثبت ما في ا الواقدي.
(4) الواقدي 33، 35.
105

قلت مراده بقوله (مع أن محمدا معه الولد)، أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، كان أسلم
وشهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وآله.
قال الواقدي: فقال شيبة: والله تكون علينا سبه يا أبا الوليد إن نرجع الان بعد
ما سرنا فمضينا ثم انتهى إلى الجحفة عشاء، فنام جهيم بن الصلت بن مخرمة
بن عبد المطلب بن عبد مناف، فقال إني لأرى بين النائم واليقظان، أنظر إلى رجل أقبل على فرس
معه بعير له، حتى وقف على، فقال قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وزمعة بن
الأسود، وأمية بن خلف، وأبو البختري، وأبو الحكم، ونوفل بن خويلد، في رجال
سماهم من أشراف قريش، وأسر سهيل بن عمرو، وفر الحارث بن هشام عن أخيه، قال:
وكأن قائلا يقول والله إني لأظنهم الذين يخرجون إلى مصارعهم ثم قال: أراه ضرب في لبة بعيره فأرسله في العسكر، فقال أبو جهل وهذا نبي آخر من بنى عبد مناف ستعلم
غدا من المقتول، نحن أو محمد وأصحابه وقالت قريش لجهيم إنما يلعب بك الشيطان
في منامك، فسترى غدا خلاف ما رأيت يقتل أشراف محمد ويؤسرون قال: فخلا عتبة
بأخيه شيبة، فقال له هل لك في الرجوع فهذه الرؤيا مثل رؤيا عاتكة، ومثل قول
عداس، والله ما كذبنا عداس، ولعمري لئن كان محمد كاذبا إن في العرب لمن يكفيناه، ولئن
كان صادقا إنا لأسعد العرب به للحمته فقال شيبة هو على ما تقول، أفنرجع من بين أهل
العسكر فجاء أبو جهل وهما على ذلك فقال ما تريدان قالا الرجوع ألا ترى إلى رؤيا
عاتكة، وإلى رؤيا جهيم بن الصلت مع قول عداس لنا فقال لا تخذلان والله قومكما
وتقطعان بهم قالا هلكت والله وأهلكت قومك فمضيا على ذلك.
قال الواقدي: فلما أفلت أبو سفيان بالعير، ورأي أن قد أحرزها وأمن عليها، أرسل
إلى قريش قيس بن امرئ القيس - وكان مع أصحاب العير - خرج معهم من مكة، فأرسله
أبو سفيان يأمرهم بالرجوع، ويقول قد نجت عيركم وأموالكم، فلا تحرزوا أنفسكم
106

أهل يثرب، فلا حاجة لكم فيما وراء ذلك، إنما خرجتم لتمنعوا عيركم وأموالكم، وقد
نجاها الله فإن أبوا عليك فلا يأبون خصلة واحدة، يردون القيان (1). فعالج قيس بن
امرئ القيس قريشا، فأبت الرجوع قالوا أما القيان فسنردهن، فردوهن من
الجحفة (2).
قلت لا أعلم مراد أبي سفيان برد القيان، وهو الذي أخرجهن مع الجيش يوم أحد
يحرضن قريشا على أدراك الثأر، ويغنين، ويضربن الدفوف، فكيف نهى عن ذلك
في بدر وفعله في أحد وأقول من تأمل الحال علم أن قريشا لم يمكن أن تنتصر يوم بدر،
لان الذي خالطها من التخاذل والتواكل وكراهية الحرب وحب الرجوع وخوف اللقاء
وخفوق الهمم وفتور العزائم، ورجوع بنى زهرة وغيرهم من الطريق، واختلاف آرائهم
في القتال، يكفي بعضه في هلاكهم وعدم فلاحهم، لو كانوا قد لقوا قوما جبناء، فكيف
وإنما لقوا الأوس والخزرج، وهم أشجع العرب، وفيهم علي بن أبي طالب عليه السلام
وحمزة بن عبد المطلب، وهما أشجع البشر، وجماعة من المهاجرين أنجاد أبطال، ورئيسهم
محمد بن عبد الله، رسول الله، الداعي إلى الحق والعدل والتوحيد، المؤيد بالقوة الإلهية،
دع ما أضيف إلى ذلك من ملائكة السماء، كما نطق به الكتاب.
قال الواقدي: ولحق الرسول أبا سفيان بالهدة - والهدة على سبعة أميال من عقبة
عسفان، على تسعة وثلاثين ميلا من مكة - فأخبره بمضي قريش، فقال وا قوماه هذا
عمل عمرو بن هشام، يكره أن يرجع لأنه قد ترأس على الناس وبغى، والبغي منقصة
وشؤم، والله لئن أصاب أصحاب محمد النفير ذللنا إلى أن يدخل مكة علينا.
قال الواقدي: وقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد بدرا - وكانت بدر موسما

(1) بعدها في الواقدي: (فإن الحرب إذا أكلت انكلت).
(2) الواقدي 36.
107

من مواسم العرب في الجاهلية، يجتمعون بها وفيها سوق - تسمع بنا العرب وبمسيرنا،
فنقيم على بدر ثلاثا، ننحر الجزر ونطعم الطعام، ونشرب الخمر، وتعزف علينا القيان، فلن
تزال العرب تهابنا أبدا.
قال الواقدي: وكان الفرات بن حيان العجلي أرسلته قريش حين فصلت من
مكة إلى أبي سفيان بن حرب يخبره بمسيرها وفصولها، وما قد حشدت فحالف
أبا سفيان في الطريق، وذلك أن أبا سفيان لصق بالبحر، ولزم الفرات بن حيان المحجة،
فوافى المشركين بالجحفة، فسمع كلام أبى جهل، وهو يقول لا نرجع، فقال ما بأنفسهم
عن نفسك رغبة وإن الذي يرجع بعد أن رأى ثاره من كثب لضعيف، فمضى مع
قريش، فترك أبا سفيان وجرح يوم بدر جراحات كثيرة، وهرب على قدميه، وهو
يقول ما رأيت كاليوم أمرا أنكد (1) إن ابن الحنظلية لغير مبارك الامر.
قال الواقدي: وقال الأخنس بن شريق (2) - واسمه أبى، وكان حليفا لبني زهرة:
يا بنى زهرة، قد نجى الله عيركم، وخلص أموالكم، ونجى صاحبكم مخرمة بن نوفل،
وإنما خرجتم لتمنعوه وماله، وإنما محمد رجل منكم، ابن أختكم، فان يك نبيا فأنتم
أسعد به، وإن يك كاذبا يلي قتله غيركم خير من أن تلوا قتل ابن أختكم، فارجعوا
واجعلوا خبثها لي، فلا حاجة لكم أن تخرجوا في غير ما يهمكم، ودعوا ما يقوله هذا
الرجل - يعنى أبا جهل - فإنه مهلك قومه، سريع في فسادهم، فأطاعته بنو زهرة، وكان
فيهم مطاعا، وكانوا يتيمنون به، فقالوا فكيف نصنع بالرجوع حتى نرجع فقال
الأخنس نسير مع القوم، فإذا أمسيت سقطت عن بعيري، فيقولون نحل (3) الأخنس،
فإذا أصبحوا فقالوا سيروا، فقولوا: لا نفارق صاحبنا، حتى نعلم أحي هو أم ميت،

(1) في الأصول آكد، وأثبت ما في الواقدي 36.
(2) الواقدي: (وكان أعرابيا).
(3) الواقدي: (نهش).
108

فندفنه، فإذا مضوا رجعنا إلى مكة ففعلت بنو زهرة ذلك، فلما أصبحوا بالأبواء راجعين
تبين للناس أن بنى زهرة رجعوا فلم يشهدها زهري (1) البتة، وكانوا مائة، وقيل أقل
من مائة وهو أثبت وقال قوم: كانوا ثلاثمائة ولم يثبت ذلك.
قال الواقدي: وقال عدى بن أبي الزغباء منحدره (2) من بدر إلى المدينة، [وانتشرت
الركاب عليه فجعل عدى يقول] (3):
أقم لها صدورها يا بسسبس * إن مطايا القوم لا تحبس
وحملها على الطريق أكيس * قد نصر الله وفر الأخنس (4)
قال الواقدي: وذكر أبو بكر بن عمر بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن الخطاب،
إن بنى عدى خرجوا من النفير حتى كانوا بثنية لفت (5)، فلما كان في السحر عدلوا في
الساحل منصرفين إلى مكة، فصادفهم أبو سفيان فقال كيف رجعتم يا بنى عدى
ولا في العير ولا في النفير قالوا أنت أرسلت إلى قريش أن ترجع، فرجع من رجع
ومضى من مضى، فلم يشهدها أحد من بنى عدى ويقال أنه لاقاهم بمر الظهران، فقال
تلك المقالة لهم.
قال الواقدي: وأما رسول الله صلى الله عليه وآله (5)، فكان صبيحة أربع عشرة
من شهر رمضان بعرق الظبية، فجاء أعرابي قد أقبل من تهامة، فقال له أصحاب النبي
صلى الله عليه وآله هل لك علم بأبي سفيان بن حرب قال: ما لي بأبي سفيان علم، قالوا
تعال، فسلم على رسول الله صلى الله عليه وآله، قال: أو فيكم رسول الله قالوا نعم،
قال: فأيكم رسول الله قالوا: هذا، فقال: أنت رسول الله قال: نعم، قال: فما في

(1) الواقدي: (أحد من بني زهرة).
(2) الواقدي: (في منحدره).
(3) من الواقدي.
(4) الواقدي 38.
(5) الواقدي: (ومضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم).
109

بطن ناقتي هذه إن كنت صادقا فقال سلمة بن سلامة بن وقش: نكحتها وهي حبلى
منك فكره رسول الله صلى الله عليه وآله مقالته، وأعرض عنه.
قال الواقدي: وسار رسول الله صلى الله عليه وآله حتى أتى الروحاء ليلة الأربعاء،
للنصف من شهر رمضان، فقال لأصحابه هذا سجاسج - يعنى وادي الروحاء - هذا
أفضل أودية العرب (1).
قال الواقدي: وصلى رسول الله صلى الله عليه وآله بالروحاء، فلما رفع رأسه من
الركعة الأخيرة من وتره لعن الكفرة، ودعا عليهم فقال اللهم لا تفلتن أبا جهل
ابن هشام فرعون هذه الأمة، اللهم لا تفلتن زمعة بن الأسود، اللهم أسخن عين
أبى زمعة اللهم أعم بصر أبى دبيلة (2). اللهم لا تفلتن سهيل بن عمرو ثم دعا
لقوم من قريش، فقال اللهم انج سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين
من المؤمنين، ولم يدع للوليد بن المغيرة يومئذ، وأسر ببدر، ولكنه لما رجع إلى مكة
بعد بدر أسلم، وأراد أن يخرج إلى المدينة فحبس، فدعا له النبي صلى الله عليه وآله
بعد ذلك.
قال الواقدي: وكان خبيب بن يساف (3) رجلا شجاعا، وكان يأبى الاسلام، فلما خرج
النبي صلى الله عليه وآله إلى بدر خرج هو وقيس بن محرث - ويقال ابن الحارث - وهما
على دين قومهما، فأدركا رسول الله صلى الله عليه وآله بالعقيق، وخبيب مقنع في الحديد،
فعرفه رسول الله صلى الله عليه وآله من تحت المغفر، فالتفت إلى سعد بن معاذ وهو
يسير إلى جنبه، فقال: أليس بخبيب بن يساف قال: بلى، فاقبل خبيب حتى اخذ

(1) الواقدي 39.
(2) الواقدي: (واعم بصر أبي زمعة).
(3) يساف بالكسر، وقد يفتح، وانظر القاموس.
110

ببطان (1) ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال له ولقيس بن محرث ما أخرجكما
قال: كنت ابن أختنا وجارنا، وخرجنا مع قومنا للغنيمة، فقال صلى الله عليه وآله
لا يخرجن معنا رجل ليس على ديننا، فقال خبيب لقد علم قومي أنى عظيم الغناء في
الحرب، شديد النكاية، فأقاتل معك للغنيمة ولا أسلم فقال رسول الله صلى الله عليه
وآله لا ولكن أسلم ثم قاتل، فلما كان بالروحاء جاء فقال يا رسول الله، أسلمت
لرب العالمين، وشهدت أنك رسول الله، فسر بذلك، وقال امضه، فكان عظيم
الغناء في بدر وفى غير بدر وأما قيس بن الحارث فأبى أن يسلم، فرجع إلى المدينة، فلما
قدم النبي صلى الله عليه وآله من بدر أسلم وشهد أحدا فقتل.
قال الواقدي: ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله صام يوما أو يومين، ثم
نادى مناديه يا معشر العصاة، انى مفطر، فأفطروا، وذلك أنه قد كان قال: لهم قبل
ذلك أفطروا فلم يفعلوا (2).
قلت هذا هو سر النبوة وخاصيتها، إذا تأمل المتأملون ذلك، وهو أن يبلغ بهم
حبه وطاعته وقبول قوله على أن يكلفهم ما يشق عليهم فيمتثلوه امتثالا صادرا عن حب
شديد وحرص عظيم على الطاعة، حتى إنه لينسخه عنهم ويسقط وجوبه عليهم،
فيكرهون ذلك ولا يسقطونه عن أنفسهم، إلا بعد الانكار التام، وهذا أحسن من
المعجزات الخارقة للعادات، بل هذا بعينه معجزة خارقة للعادة أقوى وآكد من شق
البحر وقلب العصا حية.
قال الواقدي: ومضى رسول الله صلى الله عليه وآله حتى إذا كان دوين بدر،
أتاه الخبر بمسير قريش، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله بمسيرهم، واستشار الناس

(1) البطان: حزام القتب.
(2) الواقدي 40، 41.
111

فقام أبو بكر فقال فأحسن ثم قام عمر فقال فأحسن، ثم قال: يا رسول الله، إنها
قريش وعزها والله ما ذلت منذ عزت، ولا آمنت منذ كفرت، والله لا تسلم عزها أبدا،
ولتقاتلنك فاتهب لذلك أهبته، وأعد عدته، ثم قام المقداد بن عمرو، فقال:
يا رسول الله لأمر الله، فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيها
(أذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون) (1)، ولكن أذهب أنت وربك
فقاتلا إنا معكم مقاتلون، والذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا.
قال الواقدي: برك الغماد من وراء مكة بخمس ليال من وراء الساحل مما يلي البحر،
وهو على ثمان ليال من مكة إلى اليمن.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله خيرا، ودعا له بخير، ثم قال صلى الله عليه
وآله: أشيروا على أيها الناس - وإنما يريد الأنصار، وكان يظن أن الأنصار لا تنصره
إلا في الدار، وذلك أنهم شرطوا أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأولادهم، فقال
رسول الله صلى الله عليه وآله: أشيروا على، فقام سعد بن معاذ، فقال: أنا أجيب
عن الأنصار، كأنك يا رسول الله تريدنا قال: أجل، قال: إنك عسى أن تكون
خرجت عن أمر قد أوحى إليك، وإنا قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به
حق، وأعطيناك مواثيقنا وعهودنا على السمع والطاعة، فامض يا نبي الله لما أردت،
فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما بقي منا رجل،
وصل من شئت، وخذا من أموالنا ما أردت، فما أخذته من أموالنا أحب إلينا مما
تركت، والذي نفسي بيده ما سلكت هذه الطريق قط، وما لي بها من علم، وإنا
لا نكره أن نلقى عدونا غدا، إنا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، لعل الله يريك
منا بعض ما تقر به عينك (2).

(1) سورة المائدة 24.
(2) الواقدي 44 وفيه: (ما تقر به عينك).
112

قال الواقدي: وحدثني محمد بن صالح عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد
قال: قال سعد بن معاذ يومئذ: يا رسول الله، إنا قد خلفنا من قومنا قوما ما نحن بأشد
حبا لك منهم، ولا أطوع لهم رغبة ونية في الجهاد، ولو ظنوا أنك يا رسول الله ملاق
عدوا ما تخلفوا عنك، ولكن إنما ظنوا أنها العير. نبني لك عريشا، فتكون فيه ونعد
عندك رواحلك، ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا، كان ذلك ما أحببنا،
وإن تكن الأخرى، جلست على رواحلك، فلحقت من وراءنا فقال له النبي صلى الله
عليه وآله خيرا، ثم قال: أو يقضى الله خيرا يا سعد (1).
قال الواقدي: فلما فرغ سعد من المشورة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله:
سيروا على بركة الله، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى
مصارع القوم.
قال الواقدي: وقالوا لقد أرانا رسول الله صلى الله عليه وآله مصارعهم يومئذ، هذا
مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، فما عدا كل رجل منهم مصرعه، قال: فعلم القوم انهم
يلاقون القتال، وإن العير تفلت، ورجا القوم النصر لقول النبي صلى الله عليه وآله (1).
قال الواقدي: فمن يومئذ عقد رسول الله صلى الله عليه وآله الألوية، وكانت ثلاثة،
وأظهر السلاح، وكان خرج من المدينة على غير لواء معقود، وسار فلقى سفيان الضمري،
ومع رسول الله صلى الله عليه وآله قتادة بن النعمان ومعاذ بن جبل، فقال رسول الله صلى الله
عليه وآله من الرجل فقال الضمري بل ومن أنتم فقال رسول الله صلى الله عليه
وآله تخبرنا ونخبرك، فقال الضمري: وذلك بذاك قال: نعم، قال: الضمري فاسألوا
عما شئتم، فقال له صلى الله عليه وآله أخبرنا عن قريش، قال الضمري: بلغني أنهم
خرجوا يوم كذا من مكة، فإن كان الخبر صادقا، فإنهم بجنب هذا الوادي، ثم قال

(1) مغازي الواقدي 45.
113

الضمري: فمن أنتم فقال النبي صلى الله عليه وآله نحن من ماء، وأشار بيده نحو العراق،
فجعل الضمري يقول: من ماء من أي ماء من العراق أم من غيره ثم انصرف رسول
الله صلى الله عليه وآله إلى أصحابه.
قال الواقدي: فبات الفريقان كل منهم لا يعلم بمنزل، صاحبه إنما بينهم قوز (1)
من رمل (2).
قال الواقدي: ومر رسول الله صلى الله عليه وآله بجبلين، فسأل عنهما فقالوا هذا
مسلح (3) ومخرئ، فقال من ساكنهما فقيل بنو النار وبنو حراق، فانصرف عنهما
وجعلهما يسارا (4)، ولقيه بسبس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء فأخبراه خبر قريش، ونزل
رسول الله صلى الله عليه وآله وادي بدر عشاء ليلة الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان، فبعث
عليا عليه السلام والزبير وسعد بن أبي وقاص وبسبس بن عمرو يتحسسون (5) على الماء، وأشار
لهم إلى ظريب (6)، وقال: أرجو أن تجدوا الخير عند القليب (7) الذي يلي هذا الظريب (8)،
فاندفعوا تلقاءه، فوجدوا على تلك القليب روايا قريش فيها سقاؤهم، فأسروهم، وأفلت
بعضهم، فكان ممن عرف أنه أفلت عجير، فكان أول من جاء قريشا بخبر النبي صلى الله
عليه وآله وأصحابه، فنادى يا آل غالب هذا ابن أبي كبشة وأصحابه، وقد أخذوا
سقاءكم، فماج العسكر وكرهوا ما جاء به (9).

(1) القوز من الرمل: العالي كأنه جبل، وتشبه به أرداف النساء.
(2) الواقدي 46، وبعدها: (وكان قد صلى بالدبة، ثم صلى بسيل، ثم صلى بذات أجدال، صلى بخيف عين
العلا، ثم صلى بالخبيرين، ثم نظر إلى جبلين...).
(3) الأصول: (مصلح)، والتصويب من الواقدي.
(4) الواقدي: (فانصرف من عند الخبيرين، فمضى حتى قطع الخيرف، وجعلها يسارا حتى سلك
في المعترضة).
(5) كذا في الواقدي: وفي الأصول (يتجسسون) بالجيم، تصحيف.
(6) كذا في الواقدي.
(7) الأصول: (التي)، والتصويب من الواقدي.
(8) قال الواقدي: (والقليب بئر بأصل الظريب، والظريب: جبل صغير.
(9) الواقدي 46، 47.
114

قال الواقدي: فكان حكيم بن حزام يحدث، قال: كنا يومئذ في خباء لنا على
جزور نشوي من لحمها، فما هو إلا أن سمعنا الخبر، فامتنع الطعام منا، ولقى بعضنا بعضا،
ولقيني عتبة بن ربيعة، فقال يا أبا خالد ما أعلم أحدا يسير أعجب من مسيرنا، إن عيرنا
قد نجت، وإنا جئنا إلى قوم في بلادهم بغيا عليهم، فقلت أراه لأمر حم، ولا رأى
لمن لا يطاع هذا شؤم ابن الحنظلية، فقال عتبة أبا خالد، أتخاف أن تبيتنا القوم قلت
لانت آمن من ذلك، قال: فما الرأي يا أبا خالد قلت نتحارس حتى نصبح
وترون رأيكم.
قال عتبة: هذا الرأي، قال: فتحارسنا حتى أصبحنا، فقال أبو جهل هذا عن أمر
عتبة كره قتال محمد وأصحابه، أن هذا لهو العجب، أتظنون أن محمدا وأصحابه يعترضون
لجمعكم والله لأنتحين ناحية بقومي فلا يحرسنا أحد، فتنحى ناحية، وإن السماء لتمطر
عليه، قال: يقول عتبة: إن هذا لهو النكد (1).
قال الواقدي: أخذ من السقاء من على القليب يسار غلام سعيد بن العاص، وأسلم
غلام منبه بن الحجاج، وأبو رافع غلام أمية بن خلف، فأتى بهم النبي صلى الله عليه وآله
وهو قائم يصلى، فسألهم المسلمون، فقالوا نحن سقاء قريش، بعثونا نسقيهم من الماء،
فكره القوم خبرهم، ورجوا أن يكونوا لأبي سفيان وأصحاب العير، فضربوهم، فلما
أذلقوهم (2) بالضرب قالوا نحن لأبي سفيان، ونحن في العير، وهذا العير بهذا القوز،
فكانوا إذا قالوا ذلك يمسكون عن ضربهم، فسلم رسول الله صلى الله عليه وآله من
صلاته، ثم قال: إن صدقوكم ضربتموهم، وإن كذبوكم تركتموهم فقال أصحابه عليه
السلام إنهم يا رسول الله يقولون إن قريشا قد جاءت، فقال لقد صدقوكم خرجت
قريش تمنع عيرها وخافوكم عليها، ثم أقبل صلى الله عليه وآله على السقاء، فقال: أين

(1) الواقدي 47.
(2) أذلقوهم: أوجعوهم ضربا.
115

قريش فقالوا خلف هذا الكثيب الذي ترى، قال: كم هم قالوا كثير، قال: كم
عددهم قالوا: لا ندري، قال: كم ينحرون قالوا يوما عشرة ويوما تسعة، فقال القوم:
ما بين الألف والتسعمائة، ثم قال للسقاء: كم خرج من أهل مكة قالوا لم يبق أحد به طعم
إلا خرج، فاقبل رسول الله صلى الله عليه وآله على الناس، فقال هذه مكة قد ألقت إليكم
أفلاذ كبدها، ثم سألهم رسول الله صلى الله عليه وآله هل رجع منهم أحد قالوا نعم رجع
ابن أبي شريق ببني زهرة، فقال صلى الله عليه وآله راشدهم (1)، وما كان برشيد، وإن كان
ما علمت لمعاديا لله ولكتابه. ثم قال: فأحد غيرهم قالوا نعم بنو عدى بن كعب، فتركهم رسول
الله صلى الله عليه وآله ثم قال لأصحابه: أشيروا على في المنزل، فقال الحباب بن المنذر:
يا رسول الله، أرأيت منزلك هذا، أهو منزل أنزلكه الله، فليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر
عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، قال:
فإن هذا ليس بمنزل انطلق بنا إلى أدنى مياه القوم، فإني عالم بها وبقلبها، فإن بها قليبا
قد عرفت عذوبة مائها، وماؤها كثير لا ينزح، نبني عليها حوضا، ونقذف فيها بالآنية
فنشرب، ونقاتل ونعور (2) ما سواها من القلب.
قال الواقدي: فكان ابن عباس يقول: نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وآله فقال:
الرأي ما أشار به الحباب فقال: يا حباب، أشرت بالرأي، ونهض وفعل كذلك (3).
قال الواقدي: وبعث الله السماء، وكان الوادي دهسا - أي كثير الرمل - فأصاب
المسلمين ما لبد الأرض ولم يمنعهم من المسير، وأصاب قريشا ما لم يقدروا معه أن يرتحلوا منه،
وإنما بين الطائفتين قوز من رمل.
قال الواقدي: وأصاب المسلمين تلك الليلة النعاس ألقى عليهم، فناموا ولم يصبهم من
المطر ما يؤذيهم.

(1) الواقدي: (أرشدهم).
(2) يقال: عور البئر، إذا كبسها بالتراب.
(3) الواقدي 48.
116

قال الزبير بن العوام: لقد سلط الله عليهم النعاس تلك الليلة، حتى إني كنت
لا تشدد، والنعاس يجلد بي الأرض فما أطيق إلا ذلك، فكان رسول الله صلى الله عليه
وآله وأصحابه على مثل ذلك الحال وقال سعد بن أبي وقاص: لقد رأيتني، وإن ذقني
بين ثديي، فما أشعر حتى أقع على جنبي.
وقال رفاعة بن رافع بن مالك لقد غلبني النوم، فاحتلمت حتى اغتسلت آخر الليل. (1)
قال الواقدي: فلما تحول رسول الله صلى الله عليه وآله إلى المنزل بعد أن اخذ السقاء،
أرسل عمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود، فأطافا بالقوم، ثم رجعا إليه فقالا له يا رسول
الله، القوم مذعورون فزعون، إن الفرس ليريد أن يصهل فيضرب وجهه، مع أن السماء
تسح عليهم (2).
قال الواقدي: فلما أصبحوا قال منبه بن الحجاج - وكان رجلا يبصر الأثر: هذا والله
أثر ابن سمية، وابن أم عبد، أعرفهما، لقد جاءنا محمد بسفهائنا وسفهاء أهل يثرب،
ثم قال:
لم يترك الجوع لنا مبيتا * لا بد أن نموت أو نميتا (3).
يا معشر قريش، انظروا غدا إن لقينا محمد وأصحابه، فاتقوا على شبانكم وفتيانكم،

(1) الوافدي 49، 50.
(2) الواقدي 50.
(3) بعدها في الواقدي: قال أبو عبد الله: قد ذكرت قول منبه بن الحجاج:
* لم يترك الجوع لنا مبيتا *
لمحمد بن يحيى بن سهل بن أبي حثمة، فقال: لعمري لقد كانوا شباعا، لقد أخبرني أبي أنه سمع نوفل
ابن معاوية يقول: نحرنا تلك الليلة عشر جزائر، فنحن في خباء من أخبيتهم نشوي السنام والكبد
وطيبة اللحم ونحن نخاف من البيات فنحن نتحارس إلى أن أضاء الفجر فأسمع منبها يقول بعد أن
أسفر: هذا ابن سمية وابن مسعود، وأسمعه يقول:
لم يترك الخوف لنا مبيتا * لا بد أن نموت أو نميتا
117

باهل يثرب، فإنا إن نرجع بهم إلى مكة يبصروا من ضلالتهم ما فارقوا من دين
آبائهم (1).
قال الواقدي: ولما نزل رسول الله صلى الله عليه وآله على القليب بنى له عريش من
جريد، فقام سعد بن معاذ على باب العريش متوشحا سيفه، فدخل النبي صلى الله عليه
وآله وأبو بكر (1).
قلت لأعجب من أمر العريش، من أين كان لهم، أو معهم من سعف النخل ما يبنون
به عريشا، وليس تلك الأرض - أعني أرض بدر - أرض نخل، والذي كان معهم من
سعف النخل يجرى مجرى السلاح كان يسيرا جدا قيل أنه كان بأيدي سبعة منهم
سعاف عوض السيوف، والباقون كانوا بالسيوف والقسي، وهذا قول شاذ،
والصحيح أنه ما خلا أحد منهم عن سلاح، اللهم إلا أن يكون معهم سعافات يسيرة،
وظلل عليها بثوب أو ستر، وإلا فلا أرى لبناء عريش من جريد النخل هناك وجها.
قال الواقدي: وصف رسول الله صلى الله عليه وآله أصحابه قبل أن تنزل قريش،
فطلعت قريش ورسول الله صلى الله عليه وآله يصف أصحابه، وقد أترعوا حوضا يفرطون
فيه من السحر، وقذفت فيه الآنية، ودفع رسول الله صلى الله عليه وآله رايته إلى مصعب بن
عمير، فتقدم بها إلى الموضع الذي أمره أن يضعها، ووقف رسول الله صلى الله عليه وآله
ينظر إلى الصفوف، فاستقبل المغارب، وجعل الشمس خلفه، وأقبل المشركون، فاستقبلوا
الشمس، ونزل بالعدوة الدنيا من الوادي، ونزلوا بالعدوة (2) اليمانية، وهي القصوى،
وجاءه رجل من أصحابه فقال يا رسول الله، إن كان هذا عن وحى فامض له، والا فإني

(1) الواقدي 50.
(2) في الواقدي: (عدوتا النهر والوادي: جنبتاه).
118

أرى أن تعلوا الوادي، فإني أرى ريحا قد هاجت من أعلاها، وأراها بعثت بنصرك. فقال
رسول الله صلى الله عليه وآله: (قد صففت صفوفي ووضعت رايتي، فلا أغير ذلك). ثم
دعا رسول الله صلى الله عليه وآله، فأمده الله بالملائكة (1).
قال الواقدي: وروى عروة بن الزبير، قال: عدل رسول الله صلى الله عليه وآله
الصفوف يومئذ، فتقدم سواد بن غزية أمام الصف، فدفع النبي صلى الله عليه وآله بقدح
في بطنه، وقال: استو يا سواد، فقال: أوجعتني والذي بعثك بالحق، أقدني فكشف
صلى الله عليه وآله عن بطنه، وقال: استقد، فاعتنقه وقبله، فقال: ما حملك على ما صنعت
قال: حضر يا رسول الله من أمر الله ما قد ترى، وخشيت القتل، فأردت أن يكون آخر
عهدي بك، وأن أعتنقك (2).
قال الواقدي: فحدثني موسى بن يعقوب، عن أبي الحويرث، عن محمد بن جبير بن
مطعم، عن رجل من بنى أود قال: سمعت عليا عليه السلام يخطب على منبر الكوفة،
ويقول: بينا أنا أميح (3) في قليب بدر جاءت ريح لم أر مثلها قط شدة، ثم ذهبت فجاءت
أخرى لم أر مثلها إلا التي كانت قبلها، ثم جاءت ريح أخرى لم أر مثلها إلا الأوليين،
فكانت الأولى جبريل في ألف مع رسول الله صلى الله عليه وآله، والثانية ميكائيل في
ألف عن ميمنته، والثالثة أسرا فيل في ألف عن ميسرته، فلما هزم الله أعداءه، حملني
رسول الله صلى الله عليه وآله على فرس، فجرت بي، فلما جرت بي خررت على
عنقها، فدعوت ربى، فأمسكني حتى استويت، وما لي وللخيل، وإنما كنت صاحب
الحشم، فلما استويت طعنت فيهم بيدي هذه حتى اختضبت منى (4) ذي - يعنى إبطه (5) -

(1) في الواقدي 51: (فنزل عليه جبريل: (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني
ممدكم بألف من الملائكة مردفين)، بعضهم على أثر بعض.
(2) الواقدي 52.
(3) في الأصول: (أمتح). وفي الواقدي: (أميح يعني أستسقي، وهو من ينزع الدلاء، وهو
المتح أيضا).
(4) الواقدي: (ذه).
(5) الواقدي 52، 53.
119

قلت أكثر الرواة يروونه: (فحملني رسول الله على فرسه)، والصحيح ما ذكرناه، لأنه
لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وآله فرس يوم بدر، وإنما حضرها راكب بعير، ولكنه
لما اصطدم الصفان، وقتل قوم من فرسان المشركين، حمل رسول الله صلى الله عليه وآله
عليا عليه السلام على بعض الخيل المأخوذة منهم.
قال الواقدي: قالوا: كان على ميمنة رسول الله صلى الله عليه وآله أبو بكر، وكان
على ميسرته علي بن أبي طالب عليه السلام، وكان على ميمنة قريش هبيرة بن أبي وهب المخزومي،
وعلى ميسرتهم عمرو بن عبد ود قيل كان زمعة بن الأسود على ميسرتهم، وقيل بل كان
على خيل المشركين، وقيل الذي على الخيل الحارث بن هشام، وقال قوم: لم يكن
هبيرة على الميمنة، بل كان عليها الحارث بن عامر بن نوفل (1).
قال الواقدي: وحدثني محمد بن صالح عن يزيد بن رومان وابن أبي حبيبة، قالا
ما كان على ميمنة النبي صلى الله عليه وآله يوم بدر ولا على ميسرته أحد يسمى، وكذلك
ميمنة المشركين وميسرتهم ما سمعنا فيها بأحد (1).
قال الواقدي: وهذا هو الثبت عندنا قال: وكان لواء رسول الله صلى الله عليه
وآله يومئذ الأعظم لواء المهاجرين مع مصعب بن عمير، ولواء الخزرج مع الحباب بن المنذر
ولواء الأوس مع سعد بن معاذ، وكان مع قريش ثلاثة ألوية، لواء مع أبي عزيز (2)، ولواء
مع المنذر بن الحارث، ولواء مع طلحة بن أبي طلحة (2).
قال الواقدي: وخطب رسول الله صلى الله عليه وآله المسلمين يومئذ، فحمد الله وأثنى
عليه، ثم قال: أما بعد، فإني أحثكم على ما حثكم الله عليه، وأنهاكم عما نهاكم الله عنه
فإن الله عظيم شانه، يأمر بالحق، ويحب الصدق، ويعطى على الخير أهله على منازلهم عنده

(1) في الأصول: (عزيزة)، وهو خطأ، وهو أبو عزيز بن عمر بن هاشم، وانظر الإصابة 4: 133،
والاستيعاب 4: 1714.
(2) الواقدي 53، 54.
120

به يذكرون، وبه يتفاضلون، وإنكم أصبحتم بمنزل من منازل الحق، لا يقبل الله فيه
من أحد إلا ما ابتغى به وجهه. وأن الصبر في البأس مما يفرج الله به الهم، وينجي به
من الغم، تدركون به النجاة في الآخرة، فيكم نبي الله يحذركم ويأمركم، فاستحيوا اليوم
أن يطلع الله على شئ من أمركم يمقتكم عليه، فإنه تعالى يقول (لمقت الله أكبر من
مقتكم أنفسكم) (1) انظروا إلى الذي أمركم به من كتابه، وأراكم من آياته،
وما أعزكم به بعد الذلة، فاستمسكوا به يرض ربكم عنكم، وابلوا ربكم في هذه المواطن
أمرا تستوجبون به الذي وعدكم من رحمته ومغفرته، فإن وعده حق، وقوله صدق،
وعقابه شديد، وإنما أنا وأنتم بالله الحي القيوم، إليه ألجأنا ظهورنا، وبه اعتصمنا،
وعليه توكلنا، وإليه المصير، ويغفر الله لي وللمسلمين (2).
قال الواقدي: ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله قريشا تصوب من الوادي،
وكان أول من طلع زمعة بن الأسود على فرس له يتبعه ابنه، فاستجال بفرسه، يريد
أن يبنوا للقوم منزلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله اللهم إنك أنزلت على
الكتاب، وأمرتني بالقتال، ووعدتني إحدى الطائفتين، وأنت لا تخلف الميعاد اللهم
هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها، تخاذل وتكذب رسولك. اللهم نصرك الذي
وعدتني اللهم أحنهم الغداة وطلع عتبة بن ربيعة على جمل أحمر، فقال رسول الله
صلى الله عليه وآله إن يك في أحد من القوم خير ففي صاحب الجمل الأحمر، إن
يطيعوه يرشدوا.
قال الواقدي: وكان إيماء بن رحضة قد بعث إلى قريش ابنا له بعشر جزائر حين
مروا به أهداها لهم، وقال: إن أحببتم أن يمدكم بسلاح ورجال فإنا معدون لذلك،
مؤدون فعلنا، فأرسلوا إن وصلتك رحم، قد قضيت الذي عليك، ولعمري لئن

(1) سورة غافر 10.
(2) مغازي الواقدي 53.
121

كنا إنما نقاتل الناس ما بنا ضعف عنهم، ولئن كنا نقاتل الله - بزعم محمد - فما لأحد
بالله طاقة (1).
قال الواقدي: فروى خفاف بن إيماء بن رحضة، قال: كان أبى ليس شئ أحب
إليه من إصلاح بين الناس، موكلا بذلك، فلما مرت به قريش أرسلني بجزائر عشر
هدية لها، فأقبلت أسوقها، وتبعني أبى، فدفعتها إلى قريش فقبلوها ووزعوها في
القبائل، فمر أبى على عتبة بن ربيعة، وهو سيد الناس يومئذ، فقال: يا أبا الوليد،
ما هذا المسير قال: لا أدرى والله غلبت، قال: فأنت سيد العشيرة، فما يمنعك أن
ترجع بالناس، وتحمل دم حليفك، وتحمل العير التي أصابوا بنخلة، فتوزعها على
قومك فوالله ما يطلبون قبل محمد إلا هذا، والله يا أبا الوليد ما تقتلون بمحمد وأصحابه
إلا أنفسكم (2).
قال الواقدي، وحدثني ابن أبي الزناد، عن أبيه، قال: ما سمعنا بأحد سار بغير
مال إلا عتبة بن ربيعة (2).
قال الواقدي: وروى محمد بن جبير بن مطعم، قال: لما نزل القوم أرسل
رسول الله صلى الله عليه وآله عمر بن الخطاب إلى قريش، فقال: ارجعوا، فلان يلي
هذا الامر منى غيركم أحب إلى من أن تلوه منى، وإن إليه من غيركم أحب إلى من أن
إليه منكم، فقال حكيم بن حزام قد عرض نصفا، فلبوه (3)، والله لا تنصرون عليه
بعد أن عرض عليكم من النصف ما عرض. وقال أبو جهل: لا نرجع بعد أن أمكننا
الله منهم، ولا نطلب أثرا بعد عين، ولا يعرض (4) لعيرنا بعد هذا أبدا.
قال الواقدي: وأقبل نفر من قريش حتى وردوا الحوض، منهم حكيم بن حزام،
فأراد المسلمون تنحيتهم (5) عنه، فقال النبي صلى الله عليه وآله دعوهم، فوردوا الماء،

(1) مغازي الواقدي 55.
(2) الواقدي 56.
(3) الواقدي: (فاقبلوه).
(4) الواقدي: (يعترض).
(5) الواقدي: (تخليتهم)، قال: (يعني طردهم).
122

فشربوا فلم يشرب منهم أحد إلا قتل، إلا ما كان من حكيم بن حزام (1)..
قال الواقدي: فكان سعيد بن المسيب، يقول نجا حكيم من الدهر مرتين،
لما أراد الله تعالى به من الخير، خرج رسول الله صلى الله عليه وآله على نفر من المشركين
وهم جلوس يريدونه، فقرأ (يس) ونثر على رؤوسهم التراب، فما أفلت منهم أحد
إلا قتل، ما عدا حكيم بن حزام وورد الحوض يوم بدر مع من ورده مع المشركين،
فما ورده الا من قتل إلا حكيم بن حزام.
قال الواقدي: فلما اطمأن القوم بعثوا عمير بن وهب الجمحي، وكان صاحب
قداح، فقالوا: أحزر (2) لنا محمدا وأصحابه، فاستجال بفرسه حول العسكر، وصوب في
الوادي وصعد، يقول عسى أن يكون لهم مدد أو كمين ثم رجع فقال لا مدد
ولا كمين، والقوم ثلاثمائة، إن زادوا قليلا ومعهم سبعون بعيرا ومعهم فرسان، ثم قال:
يا معشر قريش، البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس لهم
منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، ألا ترونهم خرسا لا يتكلمون، يتلمظون تلمظ الأفاعي
والله ما أرى أن يقتل منهم رجل حتى يقتل رجلا، فإذا أصابوا منكم عددهم، فما خير في
العيش بعد ذلك فروا رأيكم (3).
قال الواقدي: وحدثني يونس بن محمد الظفري، عن أبيه، إنه قال: لما قال لهم
عمير بن وهب هذه المقالة، أرسلوا أبا أسامة الجشمي، وكان فارسا، فأطاف بالنبي صلى
الله عليه وآله وأصحابه، ثم رجع إليهم، فقالوا له: ما رأيت قال: والله ما رأيت جلدا
ولا عددا ولا حلقة ولا كراعا، ولكني والله رأيت قوما لا يريدون أن يردوا إلى
أهليهم رأيت قوما مستميتين، ليست معهم منعة ولا ملجا إلا سيوفهم، زرق العيون،

(1) الواقدي 56.
(2) في الأصول: (احذر) تصحيف.
(3) الواقدي 59.
(4) الحلقة هنا: السلاح.
123

كأنهم الحصا تحت الحجف (1)، ثم قال: أخشى أن يكون لهم كمين أو مدد، فصوب في
الوادي ثم صعد، ثم رجع إليهم، فقال لا كمين ولا مدد فروا رأيكم (2).
قال الواقدي: ولما سمع حكيم بن حزام ما قال عمير بن وهب، مشى في الناس،
فأتى عتبة بن ربيعة، فقال يا أبا الوليد، أنت كبير قريش وسيدها والمطاع فيها، فهل
لك ألا تزال تذكر فيها بخير آخر الدهر، مع ما فعلت يوم عكاظ وعتبة يومئذ رئيس
الناس، فقال: وما ذاك يا أبا خالد قال: ترجع بالناس، وتحمل دم حليفك،
وما أصابه محمد من تلك العير ببطن نخلة، إنكم لا تطلبون من محمد شيئا غير هذا الدم
والعير فقال عتبة: قد فعلت، وأنت على بذلك ثم جلس عتبة على جمله، فسار في المشركين
من قريش يقول: يا قوم أطيعوني، ولا تقاتلوا هذا الرجل وأصحابه، واعصبوا هذا الامر
برأسي، واجعلوا جبنها (3) في، فان منهم رجالا قرابتهم قريبة، ولا يزال الرجل منكم
ينظر إلى قاتل أبيه وأخيه فيورث ذلك بينكم شحناء وأضغانا، ولن تخلصوا إلى قتلهم
حتى يصيبوا منكم عددهم، مع إنه لا آمن أن تكون الدائرة عليكم، وأنتم لا تطلبون
إلا دم القتيل منكم، والعير التي أصيبت، وأنا أحتمل ذلك، وهو على، يا قوم
إن يك محمد كاذبا يكفيكموه ذؤبان العرب، وإن يك ملكا كنتم في ملك ابن
أخيكم، وإن يك نبيا كنتم أسعد الناس به يا قوم لا تردوا نصيحتي، ولا تسفهوا
رأيي فحسده أبو جهل حين سمع خطبته، وقال: إن يرجع الناس عن خطبة عتبة يكن
سيد الجماعة، وكان عتبة أنطق الناس، وأطولهم لسانا، وأجملهم جمالا، ثم قال عتبة لهم:
أنشدكم الله في هذه الوجوه التي كأنها المصابيح، أن تجعلوها أندادا لهذه الوجوه التي كأنها
وجوه الحيات فلما فرغ عتبة من كلامه قال أبو جهل: إن عتبة يشير عليكم بهذا

(1) الحجف: التروس.
(2) مغازي الواقدي 57، 58.
(3) في الأصول: (حينها)، وأثبت ما في الواقدي.
124

لان محمدا ابن عمه، وهو يكره أن يقتل ابنه وابن عمه، امتلأ والله سحرك يا عتبة وجبنت
حين التقت حلقتا البطان (1). الان تخذل بيننا وتأمرنا بالرجوع لا والله لا نرجع حتى
يحكم الله بيننا وبين محمد فغضب عتبة، فقال يا مصفرا أسته، ستعلم أينا أجبن والام
وستعلم قريش من الجبان المفسد لقومه وأنشد
هذاي وأمرت أمري * فبشرى بالثكل أم عمرو (2)
قال الواقدي: وذهب أبو جهل إلى عامر بن الحضرمي، أخي عمرو بن الحضرمي
المقتول بنخلة، فقال له هذا حليفك - يعنى عتبة - يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت
ثارك بعينك، وتخذل بين الناس قد تحمل دم أخيك، وزعم أنك قابل الدية، ألا
تستحي تقبل الدية وقد قدرت على قاتل أخيك قم فأنشد خفرتك، فقام عامر بن
الحضرمي فاكتشف (3)، ثم حثا على أسته التراب، وصرخ وا عمراه يخزي بذلك
عتبة، لأنه حليفه من بين قريش، فأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة، وحلف
عامر لا يرجع حتى يقتل من أصحاب محمد وقال أبو جهل لعمير بن وهب: حرش بين
الناس، فحمل عمير فناوش المسلمين، لان ينفض الصف، فثبت المسلمون على صفهم،
ولم يزولوا، وتقدم ابن الحضرمي فشد على القوم، فنشبت الحرب (4)..
قال الواقدي: فروى نافع بن جبير عن حكيم بن حزام، قال: لما أفسد الرأي أبو جهل
على الناس، وحرش بينهم عامر بن الحضرمي فأقحم فرسه، كان أول من خرج إليه من
المسلمين مهجع مولى عمر بن الخطاب، فقتله عامر، وكان أول قتيل قتل من الأنصار حارثة
ابن سراقة، قتله حيان بن العرقة (5).
قال الواقدي: وقال عمر بن الخطاب في مجلس ولايته: يا عمير بن وهب، أنت

(1) حلقتا البطان، كناية عن اشتداد الامر.
(2) مغازي الواقدي 58، 59.
(3) اكتشف: تعرى.
(4) الواقدي 59.
(5) الواقدي 60: (ويقال: عمير بن الحمام، قتله خالد بن الأعلم العقيلي).
125

حاذرنا للمشركين يوم بدر، تصعد في الوادي وتصوب، كأني أنظر إلى فرسك تحتك
تخبر المشركين إنه لا كمين لنا ولا مدد قال: أي والله يا أمير المؤمنين، وأخرى، أنا والله
الذي حرشت بين الناس يومئذ، ولكن الله جاءنا بالاسلام، وهدانا له، وما كان فينا من
الشرك أعظم من ذلك، قال عمر: صدقت.
قال الواقدي: وكان عتبة بن ربيعة كلم حكيم بن حزام، وقال: ليس عند أحد
خلاف إلا عند ابن الحنظلية، فاذهب إليه، فقل له أن عتبة يحمل دم حليفه، ويضمن
العير قال حكيم: فدخلت على أبى جهل، وهو يتخلق بخلوق طيب، ودرعه موضوعه
بين يديه، فقلت إن عتبة بن ربيعة بعثني إليك، فاقبل على مغضبا، فقال ما وجد عتبة
أحدا يرسله غيرك، فقلت والله لو كان غيره أرسلني ما مشيت في ذلك، ولكني مشيت
في إصلاح بين الناس - وكان أبو الوليد سيد العشيرة - فغضب غضبه أخرى. قال: وتقول
أيضا سيد العشيرة، فقلت: أنا أقوله، وقريش كلها تقوله، فأمر عامرا أن يصيح بخفرته،
واكتشف، وقال: إن عتبة جاع، فاسقوه سويقا، وجعل المشركين يقولون عتبه
جاع، فاسقوه سويقا، وجعل أبو جهل يسر بما صنع المشركون بعتبة قال حكيم:
فجئت إلى منبه بن الحجاج فقلت له مثل ما قلت لأبي جهل، فوجدته خيرا من أبى جهل،
قال: نعما مشيت فيه، وما دعا إليه عتبة فرجعت إلى عتبة فوجدته قد غضب من كلام
قريش، فنزل عن جمله، وقد كان طاف عليهم في عسكرهم يأمرهم بالكف عن القتال،
فيأبون، فحمى، فنزل فلبس درعه، وطلبوا له بيضة فلم يوجد في الجيش بيضة تسع رأسه
من عظم هامته، فلما رأى ذلك اعتجر، ثم برز راجلا بين أخيه شيبة وبين ابنه الوليد
ابن عتبة فبينا أبو جهل في الصف على فرس أنثى، حاذاه عتبة، وسل سيفه، فقيل
هو والله يقتله، فضرب بالسيف عرقوب فرس أبى جهل، فاكتسعت (2) الفرس،

(1) مغازي الواقدي 60.
(2) اكتسعت الفرس: سقطت من ناحية مؤخرتها ورمت به.
126

وقال: انزل، فان هذا اليوم ليس بيوم ركوب، ليس كل قومك راكبا، فنزل
أبو جهل وعتبة يقول سيعلم أينا شؤم عشيرته الغداة قال حكيم: فقلت تالله
ما رأيت كاليوم.
قال الواقدي: ثم دعا عتبة إلى المبارزة ورسول الله صلى الله عليه وآله في العريش،
وأصحابه على صفوفهم، فاضطجع فغشيه النوم، وقال: لا تقاتلوا حتى أوذنكم، وإن
كثبوكم فارموهم ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم فقال أبو بكر يا رسول الله قد دنا القوم،
وقد نالوا منا، فاستيقظ، وقد أراه الله إياهم في منامه قليلا، وقلل بعضهم في أعين بعض،
ففزع رسول الله صلى الله عليه وآله وهو رافع يديه يناشد ربه ما وعده من النصر، ويقول: (اللهم
إن تظهر على هذه العصابة يظهر الشرك، ولا يقم لك دين،، وأبو بكر يقول والله لينصرنك
الله وليبيضن وجهك قال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله، إني أشير عليك وأنت أعظم
وأعلم بالله من أن يشار عليك إن الله أجل وأعظم من أن ينشد وعده فقال عليه
السلام يا بن رواحة، ألا أنشد الله وعده، إن الله لا يخلف الميعاد وأقبل عتبة يعمد إلى
القتال، فقال له حكيم بن حزام مهلا مهلا يا أبا الوليد لا تنه عن شئ وتكون
أوله (1).
قال الواقدي: قال خفاف بن ايماء: فرأيت أصحاب النبي صلى الله عليه وآله يوم بدر،
وقد تصاف الناس وتزاحفوا، وهم لا يسلون السيوف، ولكنهم قد انتضوا القسي، وقد
تترس بعضهم عن بعض بصفوف متقاربة، لا فرج بينها، والآخرون قد سلوا السيوف حين
طلعوا، فعجبت من ذلك، فسالت بعد ذلك رجلا من المهاجرين، فقال أمرنا رسول الله
صلى الله عليه وآله ألا نسل السيوف حتى يغشونا (2).
قال الواقدي: فلما تزاحف الناس قال الأسود بن عبد الأسد المخزومي حين دنا من

(1) مغازي الواقدي 60، 61.
127

الحوض: أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه أو لأموتن دونه فشد حتى دنا من
الحوض، واستقبله حمزة بن عبد المطلب، فضربه فأطن (1) قدمه، فزحف الأسود ليبر
قسمه زعم، حتى وقف في الحوض فهدمه برجله الصحيحة، وشرب منه، واتبعه حمزة،
فضربه في الحوض فقتله، والمشركون ينظرون ذلك على صفوفهم (2).
قال الواقدي: ودنا الناس بعضهم من بعض، فخرج عتبة وشيبة والوليد حتى فصلوا
من الصف، ثم دعوا إلى المبارزة، فخرج إليهم فتيان ثلاثة من الأنصار، وهم بنو عفراء
معاذ ومعوذ وعوف، بنو الحارث - ويقال إن ثالثهم عبد الله بن رواحة، والثابت عندنا
أنهم بنو عفراء - فاستحى رسول الله صلى الله عليه وآله من ذلك، وكره أن يكون أول
قتال لقى المسلمون فيه المشركين في الأنصار، وأحب أن تكون الشوكة لبني عمه وقومه،
فأمرهم، فرجعوا إلى مصافهم، وقال لهم خيرا، ثم نادى منادى المشركين يا محمد، أخرج
إلينا الأكفاء من قومنا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله يا بني هاشم، قوموا
فقاتلوا بحقكم الذي بعث الله به نبيكم إذ جاءوا بباطلهم ليطفئوا نور الله. فقام حمزة بن
عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف، فمشوا
إليهم فقال عتبة تكلموا نعرفكم - وكان عليهم البيض، فأنكروهم - فان كنتم
أكفاءنا قاتلناكم (3).
وروى محمد بن إسحاق في كتاب المغازي خلاف هذه الرواية، قال: إن بنى
عفراء وعبد الله بن رواحة برزوا إلى عتبة وشيبة والوليد، فقالوا لهم من أنتم قالوا
رهط من الأنصار، فقالوا ارجعوا فما لنا بكم من حاجة ثم نادى مناديهم

(1) أطن قدمه: قطعها.
(2) على صفوفهم: أي على حالتهم التي كانوا عليها.
(3) مغازي الواقدي 62، 63.
128

أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله قم يا فلان،
قم يا فلان، قم يا فلان (1).
قلت وهذه الرواية أشهر من رواية الواقدي، وفى رواية الواقدي ما يؤكد صحة
رواية محمد بن إسحاق، وهو قوله أن منادى المشركين نادى يا محمد، أخرج إلينا
الأكفاء من قومنا فلو لم يكن قد كلمهم بنو عفراء وكلموهم وردوهم، لما نادى مناديهم
بذلك ويدل على ذلك قول بعض القرشيين لبعض الأنصار في فخر فخر به عليه أنا من
قوم لم يرض مشركوهم أن يقتلوا مؤمني قومك.
قال الواقدي: فقال حمزة: أنا حمزة بن عبد المطلب، أسد الله وأسد رسوله، فقال
عتبة: كفؤ كريم، وأنا أسد الحلفاء، من هذان معك قال: علي بن أبي طالب
وعبيدة بن الحارث بن المطلب، فقال: كفآن كريمان (2).
قال الواقدي: قال ابن أبي الزناد: حدثني أبي، قال: لم أسمع لعتبة كلمة قط أوهن
من قوله: (أنا أسد الحلفاء) يعنى بالحلفاء الأجمة.
قلت: قد روى هذه الكلمة على صيغة أخرى: (وأنا أسد الحلفاء)، وروى:
(أنا أسد الاحلاف).
قالوا في تفسيرهما أراد أنا سيد أهل الحلف المطيبين، وكان الذين حضروه بنى
عبد مناف وبنى أسد بن عبد العزى وبنى تيم وبنى زهرة وبنى الحارث بن فهر، خمس
قبائل ورد قوم هذا التأويل، فقالوا إن المطيبين لم يكن يقال لهم الحلفاء
ولا الاحلاف، وإنما ذلك لقب خصومهم وأعدائهم الذين وقع التحالف لأجلهم، وهم
بنو عبد الدار، وبنو مخزوم، وبنو سهم، وبنو جمح، وبنو عدى بن كعب، خمس

(1) سيرة ابن هشام 2: 265، وفيها: (قم يا عبيدة بن الحارث، قم يا حمزة، قم يا علي).
(2) مغازي الواقدي 63.
129

قبائل وقال قوم في تفسيرهما: إنما عنى حلف الفضول، وكان بعد حلف المطيبين
بزمان، وشهد حلف الفضول رسول الله صلى الله عليه وآله وهو صغير في دار
ابن جدعان، وكان سببه أن رجلا من اليمن قدم مكة بمتاع، فاشتراه العاص بن وائل
السهمي ومطله بالثمن حتى أتعبه، فقام بالحجر وناشد قريشا ظلامته، فاجتمع بنو هاشم
وبنو أسد بن عبد العزى وبنو زهرة، وبنو تميم، في دار ابن جدعان، فتحالفوا،
غمسوا أيديهم في ماء زمزم، بعد أن غسلوا به أركان البيت، أن ينصروا كل مظلوم
بمكة، ويردوا عليه ظلامته، ويأخذوا على يد الظالم، وينهوا عن كل منكر، ما بل
بحر صوفه، فسمى حلف الفضول لفضله، وقد ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله فقال
(شهدته وما أحب أن لي به حمر النعم، ولا يزيده الاسلام إلا شدة)، وهذا التفسير أيضا
غير صحيح، لان بنى عبد الشمس لم يكونوا في حلف الفضول، فقد بان أن ما ذكره
الواقدي أصح وأثبت.
قال الواقدي: ثم قال عتبة لابنه: قم يا وليد، فقام الوليد وقام إليه على - وكانا
أصغر النفر - فاختلفا ضربتين، فقتله علي بن أبي طالب عليه السلام، ثم قام عتبة، وقام
إليه حمزة فاختلفا ضربتين، فقتله حمزة رضي الله عنه، ثم قام شيبة، وقام إليه عبيدة -
وهو يومئذ أسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله - فضرب شيبة رجل عبيدة بذباب
السيف، فأصاب عضلة ساقه، فقطعها وكر حمزة وعلى على شيبة فقتلاه، واحتملا عبيدة
فحازاه إلى الصف، ومخ ساقه يسيل، فقال عبيدة يا رسول الله أ لست شهيدا قال:
بلى، قال: أما والله لو كان أبو طالب حيا لعلم أنى أحق بما قال حين يقول:
كذبتم وبيت الله نخلي محمدا * ولما نطاعن دونه ونناضل (1)
وننصره حتى نصرع حوله * ونذهل عن أبنائنا والحلائل
ونزلت فيهم هذه الآية (هذان خصمان اختصموا في ربهم) (2).

(1) ديوانه 110، وفيه: (بنزى محمدا).
(2) سورة الحج 19 والخبر في الواقدي 63، 64.
130

وروى محمد بن إسحاق أن عتبة بارز عبيدة بن الحارث، وأن شيبة بارز حمزة بن
عبد المطلب، فقتل حمزة شيبة، لم يمهله أن قتله، ولم يمهل على الوليد أن قتله، واختلف عبيدة
وعتبة بينهما ضربتين، كلاهما أثبت (1) صاحبه، وكر حمزة وعلي عليه السلام على عتبة
بأسيافهما، حتى وقعا عليه (2)، واحتملا صاحبهما فحازاه إلى الصف (3).
قلت وهذه الرواية توافق ما يذكره أمير المؤمنين عليه السلام في كلامه، إذ يقول
لمعاوية وعندي السيف الذي أعضضت به أخاك وخالك وجدك يوم بدر. ويقول في
موضع آخر قد عرفت مواقع نصالها في أخيك وخالك وجدك، وما هي من الظالمين ببعيد.
واختار البلاذري رواية الواقدي وقال: إن حمزة قتل عتبة، وإن عليا عليه السلام قتل
الوليد، وشرك في قتل شيبة (4).
وهذا هو المناسب لأحوالهم من طريق السن، لان شيبة أسن الثلاثة، فجعل بإزاء
عبيدة وهو أسن الثلاثة، والوليد أصغر الثلاثة سنا، فجعل بإزاء علي عليه السلام وهو أصغر
الثلاثة سنا، وعتبة أوسطهم سنا، فجعل بإزاء حمزة وهو أوسطهم سنا. وأيضا فان عتبة
كان أمثل الثلاثة، فمقتضى القياس أن يكون قرنه أمثل الثلاثة، وهو حمزة إذ ذاك، لان
عليا عليه السلام لم يكن قد اشتهر أمره جدا، وإنما اشتهر الشهرة التامة بعد بدر. ولمن
روى أن حمزة بارز شيبة - وهي رواية ابن إسحاق - أن ينتصر بشعر هند بنت عتبة
ترثي أباها:
أعيني جودا بدمع سرب * على خير خندف لم ينقلب (5)
تداعى له رهطه قصرة * بنو هاشم وبنو المطلب (6)
يذيقونه حر أسيافهم * يعلونه بعد ما قد عطب (7)

(1) أصبته: جرحه.
(2) ابن هشام: (ذففا عليه).
(3) سيرة ابن هشام 2: 265.
(4) أنساب الأشراف 1: 297.
(5) سيرة ابن هشام 2: 541.
(6) يقال: هو ابن عمي قصرة، أي قريب. وفي ا والواقدي غدوة.
(7) ا: (شجب).
131

فإذا كانت قد قالت أن عتبة أباها أذاقه بنو هاشم وبنو المطلب حر أسيافهم، فقد
ثبت أن المبارز لعتبة إنما هو عبيدة لأنه من بني المطلب جرح عتبة، فأثبته ثم ذفف (1)
عليه حمزة وعلي عليه السلام. فاما الشيعة، فإنها تروى أن حمزة بادر عتبة فقتله، وإن
اشتراك على وحمزة إنما هو في دم شيبة بعد أن جرحه عبيدة بن الحارث، هكذا ذكر محمد
ابن النعمان في كتاب " الارشاد "، وهو خلاف ما تنطق به كتب أمير المؤمنين عليه السلام
إلى معاوية، والامر عندي مشتبه في هذا الموضع.
وروى محمد بن النعمان، عن أمير المؤمنين عليه السلام، إنه كان يذكر يوم بدر
ويقول اختلف أنا والوليد بن عتبة ضربتين، فأخطأتني ضربته، واضربه فاتقاني بيده
اليسرى، فأبانها السيف، فكأني أنظر إلى وميض خاتم في شماله، ثم ضربته أخرى
فصرعته وسلبته، فرأيت به الردع (2) من خلوق، فعلمت أنه قريب عهد بعرس.
قال الواقدي: وقد روى أن عتبة بن ربيعة حين دعا إلى البراز، قام إليه ابنه
أبو حذيفة بن عتبة يبارزه، فقال له النبي صلى الله عليه وآله: إجلس، فلما قام إليه
النفر أعان أبو حذيفة على أبيه عتبة بضربة (3).
قال الواقدي: وأخبرني ابن أبي الزناد، عن أبيه، قال: شيبة أكبر من عتبة بثلاث سنين،
وحمزة أسن من النبي صلى الله عليه وآله بأربع سنين، والعباس أسن من النبي صلى الله
عليه وآله بثلاث سنين (4).
قال الواقدي: واستفتح أبو جهل يوم بدر، فقال اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعلم،
فأحنه الغداة، فأنزل الله تعالى (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح...) (5) الآية.

(1) ذفف عليه: أي أجهز.
(2) الردع: (الزعفران).
(3) مغازي الواقدي 64.
(4) مغازي الواقدي 65، والخبر هنا أوفى وأشمل.
(5) سورة الأنفال 19، والخبر في الواقدي 65، وتاريخ الطبري 2: 441 (طبعة المعارف).
132

قال الواقدي: وروى عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله جعل شعار
المهاجرين يوم بدر يا بنى عبد الرحمن، وشعار الخزرج يا بنى عبد الله، وشعار الأوس
يا بنى عبد الله.
قال: وروى زيد بن علي بن الحسين عليه السلام، أن شعار رسول الله صلى الله عليه
وآله يوم بدر يا منصور أمت (1).
قال الواقدي: ونهى رسول الله صلى الله عليه وآله عن قتل أبى البختري، وكان
قد لبس السلاح بمكة يوما قبل الهجرة في بعض ما كان ينال النبي صلى الله عليه وآله من
الأذى، وقال: لا يعرض اليوم أحد لمحمد بأذى إلا وضعت فيه السلاح فشكر ذلك له
النبي صلى الله عليه وآله قال أبو داود المازني: فلحقته يوم بدر، فقلت له إن رسول الله
صلى الله عليه وآله قد نهى عن قتلك إن أعطيت بيدك، قال: وما تريد إلى إن كان قد
نهى عن قتلى، فقد كنت أبليته ذلك، فاما أن أعطي بيدي، فواللات والعزى لقد علمت
نسوة بمكة أنى لا أعطى بيدي، وقد عرفت إنك لا تدعني، فافعل الذي تريد فرماه
أبو داود بسهم، وقال: اللهم سهمك، وأبو البختري عبدك، فضعه في مقتله وأبو البختري
دارع، ففتق السهم الدرع فقتله.
قال الواقدي: ويقال أن المجذر بن ذياد قتل أبا البختري ولا يعرفه، وقال المجذر في
ذلك شعرا عرف منه إنه قاتله (2).
وفي رواية محمد بن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وآله نهى يوم بدر عن قتل
أبى البختري، واسمه الوليد بن هشام بن الحارث بن أسد بن عبد العزى، لأنه كان أكف

(1) مغازي الواقدي 66.
(2) مغازي الواقدي 75.
133

الناس عن رسول الله صلى الله عليه وآله بمكة، كان لا يؤذيه ولا يبلغه عنه شئ يكرهه،
وكان فيمن قام في نقض الصحيفة التي كتبتها قريش على بني هاشم، فلقيه المجذر بن ذياد
البلوى حليف الأنصار، فقال له إن رسول الله صلى الله عليه وآله نهانا عن قتلك، ومع
أبى البختري زميل له خرج معه من مكة يقال له جنادة بن مليحة، فقال البختري
وزميلي قال المجذر: والله ما نحن بتاركي زميلك، ما نهانا رسول الله صلى الله عليه وآله
إلا عنك وحدك (1)، قال: إذا والله لأموتن أنا وهو جميعا، لا تتحدث عنى نساء
أهل مكة إني تركت زميلي حرصا على الحياة، فنازله المجذر وارتجز أبو البختري (2) فقال:
لن يسلم ابن حرة زميله حتى يموت أو يرى سبيله.
ثم اقتتلا، فقتله المجذر، وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، فأخبره، وقال: والذي
بعثك بالحق لقد جهدت أن يستأسر فآتيك به، فأبى إلا القتال فقاتلته (3) فقتلته (4).
قال الواقدي: ونهى النبي صلى الله عليه وآله عن قتل الحارث بن عامر بن نوفل،
وقال: ائسروه ولا تقتلوه، وكان كارها للخروج إلى بدر، فلقيه خبيب بن يساف فقتله
ولا يعرفه، فبلغ النبي صلى الله عليه وآله ذلك، فقال لو وجدته قبل أن يقتل لتركته
لنسائه ونهى عن قتل زمعة بن الأسود فقتله ثابت بن الجذع، ولا يعرفه.
قال الواقدي: وارتجز عدى بن أبي الزغباء يوم بدر، فقال:
أنا عدى والسحل * أمشي بها مشى الفحل.
يعنى درعه فقال النبي صلى الله عليه وآله من عدى فقال رجل من القوم
أنا يا رسول الله، قال: وماذا [قال ابن فلان، قال: لست أنت عديا، فقال عدى بن أبي

(1) ابن هشام: (ما أمرنا رسول الله إلا بك وحدك).
(2) ابن هشام: (فقال أبو البختري حين نازله المجذر، وأبى إلا القتال).
(3) ابن هشام: (إلا أن يقاتلني).
(4) الخبر في سيرة ابن هشام 2: 270، 271.
134

الزغباء أنا يا رسول الله عدى، قال وماذا] (1) قال: (والسحل، أمشى بها مشى
الفحل)، قال النبي صلى الله عليه وآله: وما السحل، قال: درعي، فقال صلى الله
عليه وآله (نعم العدى، عدى بن أبي الزغباء) (2).
قال الواقدي: وكان عقبة بن أبي معيط قال: بمكة حين هاجر رسول الله صلى الله
عليه وآله إلى المدينة:
يا راكب الناقة القصواء هاجرنا * عما قليل تراني راكب الفرس
أعل رمحي فيكم ثم أنه له * والسيف يأخذ منكم كل ملتبس.
فبلغ قوله النبي صلى الله عليه وآله، فقال (اللهم أكبه لمنخره واصرعه)، فجمح
به فرسه يوم بدر بعد أن ولى الناس، فأخذه عبد الله بن سلمة العجلاني أسيرا، وأمر
النبي صلى الله عليه وآله عاصم بن أبي الأقلح، فضرب عنقه صبرا (3).
قال الواقدي: وكان عبد الرحمن يحدث يقول إني لأجمع أدراعا يوم بدر، بعد
أن ولى الناس، فإذا أمية بن خلف - وكان لي صديقا في الجاهلية، وكان اسمي عبد عمرو،
فلما جاء الاسلام تسميت عبد الرحمن، فكان يلقاني بمكة فيقول يا عبد عمرو، فلا
أجيبه فيقول إني لا أقول لك عبد الرحمن، إن مسيلمة باليمامة (4) تسمى بالرحمن،
فأنا لا أدعوك إليه، فكان يدعوني عبد الاله، فلما كان يوم بدر رأيته وكأنه جمل
يساق، ومعه ابنه على، فناداني يا عبد عمرو، فأبيت أن أجيبه، فناداني يا عبد الاله،
فأجبته، فقال أما لكم حاجة في اللبن نحن خير لك من أدرعك هذه، فقلت
أمضيا فجعلت أسوقهما أمامي، وقد رأى أمية انه قد أمن بعض الامن، فقال لي أمية
رأيت رجلا فيكم اليوم معلما في صدره بريشة نعامة، من هو فقلت حمزة بن عبد المطلب

(1) من مغازي الواقدي.
(2) مغازي الواقدي 76.
(3) مغازي الواقدي 76، 77.
(4) الواقدي (يتسمى).
135

فقال ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل ثم قال: فمن رجل دحداح قصير معلم بعصابة حمراء
قلت ذاك رجل من الأنصار، يقال له سماك بن خرشة، قال: وبذاك أيضا يا عبد الاله
صرنا اليوم جزرا لكم قال: فبينا هو معي أزجيه (1) أمامي، ومعه ابنه، إذ بصر به
بلال وهو يعجن عجينا له، فترك العجين، وجعل يفتل يديه منه فتلا ذريعا، وهو ينادى
يا معشر الأنصار، أمية بن خلف رأس الكفر لا نجوت إن نجوت - قال: لأنه كان
يعذبه بمكة، فأقبلت الأنصار كأنهم عوذ حنت إلى أولادها، حتى طرحوا أمية على
ظهره واضطجعت عليه أحميه منهم، فأقبل الخباب بن المنذر، فادخل سيفه فاقتطع
أرنبة أنفه، فلما فقد أمية أنفه، قال لي: إيها عنك أي خل بيني وبينهم، قال
عبد الرحمن: فذكرت قول حسان
* أو عن ذلك الانف جادع *.
قال: ويقبل إليه خبيب بن يساف، فضربه حتى قتله، وقد كان أمية ضرب خبيب
بن يساف حتى قطع يده من المنكب، فأعادها النبي صلى الله عليه وآله فالتحمت
واستوت، فتزوج خبيب بن يساف بعد ذلك ابنة أمية بن خلف، فرأت تلك الضربة،
فقالت لا يشل الله يد رجل فعل هذا فقال خبيب وأنا والله قد أوردته شعوب،
فكان خبيب يحدث يقول فأضربه فوق العاتق، فأقطع عاتقه حتى بلغت مؤتزره،
وعليه الدرع، وأنا أقول خذها وأنا ابن يساف وأخذت سلاحه ودرعه، واقبل على
أبن أمية فتعرض له الخباب، فقطع رجله، فصاح صيحة ما سمع مثلها قط، ولقيه عمار
فضربه ضربة فقتله. ويقال إن عمارا لاقاه قبل ضربه الخباب، فاختلفا ضربات، فقتله
عمار. والأولى أثبت، أنه ضربه بعد أن قطعت رجله (2).
قال الواقدي: وقد سمعنا في قتل أمية غير ذلك، حدثني عبيد بن يحيى، عن معاذ بن

(1) أزجيه: أسوقه.
(2) مغازي الواقدي 77، 78.
136

رفاعة، عن أبيه، قال: لما كان يوم بدر وأحدقنا بأمية بن خلف، وكان له فيهم شان،
ومعي رمحي، ومعه رمحه، فتطاعنا حتى سقطت أزجتها، ثم صرنا إلى السيفين فتضاربنا
بهما حتى انثلما، ثم بصرت بفتق في درعه تحت أبطه، فحششت السيف فيه حتى قتلته،
وخرج السيف عليه الودك (1).
قال الواقدي: وقد سمعنا وجها آخر حدثني محمد بن قدامة بن موسى، عن أبيه،
عن عائشة بنت قدامة، قالت قال صفوان بن أمية بن خلف يوما: يا قدام - لقدامة بن
مظعون - أنت المشلي (2) بأبي يوم بدر الناس فقال قدامة لا والله ما فعلت، ولو فعلت
ما اعتذرت من قتل مشرك قال صفوان: فمن يا قدام المشلي به يوم بدر قال: رأيت فتية
من الأنصار أقبلوا إليه، فيهم معمر بن خبيب بن عبيد الحارث، يرفع سيفه ويضعه فيه،
فقال صفوان أبو قرد وكان معمر رجلا دميما، فسمع بذلك الحارث بن حاطب، فغضب
له، فدخل على أم صفوان، فقال ما يدعنا صفوان من الأذى في الجاهلية والاسلام
قالت وما ذاك فأخبرها بمقالة صفوان لمعمر حين قال أبو قرد: فقالت أم صفوان:
يا صفوان، أتنتقص معمر بن خبيب من أهل بدر والله لا أقبل لك كرامة سنة. قال
صفوان: يا أمة، لا أعود والله أبدا، تكلمت بكلمة لم ألق لها بالا (3).
قال الواقدي: وحدثني محمد بن قدامة، عن أبيه، عن عائشة بنت قدامة، قالت
قيل لام صفوان بن أمية - ونظرت إلى الخباب بن المنذر بمكة هذا الذي قطع رجل
علي بن أمية يوم بدر، قالت دعونا عن ذكر من قتل على الشرك، قد أهان الله عليا
بضربة الخباب بن المنذر، وأكرم الله الخباب بضربته عليا، ولقد كان على الاسلام حين
خرج من هاهنا، فقتل على غير ذلك (4).

(1) مغازي الواقدي 78، 79.
(2) المشلي: المحرض.
(3) مغازي الواقدي 79.
(4) مغازي الواقدي 79، 80، وانظر سيرة ابن هشام 2: 272، 273.
137

فاما محمد بن إسحاق، فإنه قال: قال عبد الرحمن بن عوف: أخذت بيد أمية بن
خلف ويد ابنه علي بن أمية أسيرين يوم بدر، فبينا أنا أمشى بينهما، رآنا بلال - وكان
أمية هو الذي يعذب بلالا بمكة، يخرجه إلى رمضاء (1) مكة إذا حميت، فيضجعه على
ظهره، ثم يأمره بالصخرة العظيمة فتوضع بحرارتها على صدره، ويقول له لا تزال هكذا
أو تفارق دين محمد فيقول بلال أحد أحد لا يزيده على ذلك - فلما رآه صاح رأس
الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجوت قال عبد الرحمن: فقلت: أي بلال، أسيري
فقال لا نجوت إن نجا، فقلت استمع يا بن السوداء، قال: لا نجوت إن نجا، ثم صرخ
بأعلى صوته يا أنصار الله، أمية بن خلف رأس الكفر، لا نجوت إن نجا، فأحاطوا بنا
حتى جعلونا في مثل المسكة (2)، وأنا أذب عنه، (3 ويحذف عمار بن ياسر عليا ابنه
بالسيف، فأصاب رجله، فوقع وصاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط 3)، فخليت عنه،
وقلت انج بنفسك ولا نجاء به فوالله ما أغنى عنك شيئا، قال: فهبروهما (4) بأسيافهم
حتى فرغوا منهما قال: فكان عبد الرحمن بن عوف، يقول: رحم الله بلالا أذهب
أدرعي، وفجعني بأسيري (5).
قال الواقدي: وكان الزبير بن العوام يحدث فيقول لما كان يومئذ لقيت عبيدة
ابن سعد بن العاص على فرس، عليه لامة كاملة لا يرى منه إلا عيناه، وهو يقول - وكانت
له صبية صغيرة، يحملها وكان لها بطين وكانت مقسمة: أنا أبو ذات الكرش، أنا أبو ذات

(1) الرمضاء: الرمل الشديد الحرارة من الشمس.
(2) المسكة: السوار.
(3 - 3) ابن هشام: (فاخلف رجل السيف فضرب رجل ابنا فوقع وصاح أمية صيحة عظيمة
ما سمعت بمثلها قط).
(4) هبروهما: قطعوا لحمهما، تقول: هبرت اللحم إذا قطعته قطعا).
(5) سيرة ابن هشام 2: 272، 273.
138

الكرش قال: وفي يدي عنزة (1) فأطعن بها في عينه ووقع، وأطأه برجلي على خده،
حتى أخرجت العنزة متعقفة، وأخرجت حدقته، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله تلك
العنزة، فكانت تحمل بين يديه، ثم صارت تحمل بين يدي أبى بكر وعمر
وعثمان (2).
قال الواقدي: وأقبل عاصم بن أبي عوف بن صبيرة السهمي، لما جال الناس
واختلطوا، وكأنه ذئب، وهو يقول يا معشر قريش، عليكم بالقاطع مفرق الجماعة، الآتي
بما لا يعرف، محمد، لا نجوت إن نجا ويعترضه
أبو دجانة، فاختلفا ضربتين، ويضربه أبو دجانة فقتله، ووقف على سلبه يسلبه، فمر به عمر بن الخطاب، فقال دع سلبه حتى
يجهض (3) العدو، أنا اشهد لك به (4).
قال الواقدي: ويقبل معبد بن وهب، أحد بنى عامر بن لؤي، فضرب أبا دجانة
ضربة برك منها أبو دجانة كما يبرك الجمل، ثم انتهض، وأقبل على معبد، فضربه ضربات
لم يصنع سيفه شيئا، حتى يقع معبد بحفرة أمامه لا يراها، ونزل أبو دجانة عليه، فذبحه
ذبحا، وأخذ سلبه.
قال الواقدي: ولما كان يومئذ، ورأت بنو مخزوم مقتل من قتل قالت أبو الحكم
لا يخلص إليه، فان ابني ربيعة عجلا وبطرا ولم تحام عنهما (6) عشيرتهما فاجتمعت بنو
مخزوم، فأحدقوا به، فجعلوه [في] (7) مثل الحرجة، وأجمعوا أن يلبسوا لامة أبى جهل
رجلا منهم، فألبسوها عبد الله بن المنذر بن أبي رفاعة، فصمد له علي عليه السلام، فقتله
وهو يراه أبا جهل، ومضى عنه وهو يقول أنا ابن عبد المطلب ثم ألبسوها أبا قيس بن

(1) العنزة: شبيه العكازة، أطول من العصا وأقصر من الرمح، لها زج من أسفلها.
(2) مغازي الواقدي 80.
(3) ا والواقدي: (نجهض).
(4) مغازي الواقدي 81.
(5) مغازي الواقدي 80، 81.
(6) كذا في ا، وفي ب والواقدي: (عليهما).
(7) من الواقدي.
139

الفاكه بن المغيرة، فصمد له حمزة وهو يراه أبا جهل، فضربه فقتله وهو يقول خذها
وأنا ابن عبد المطلب ثم ألبسوها حرملة بن عمرو، فصمد له علي عليه السلام فقتله، ثم
أرادوا أن يلبسوها خالد بن الأعلم، فأبى أن يلبسها قال معاذ بن عمرو بن الجموح:
فنظرت يومئذ إلى أبي جهل في مثل الحرجة، وهم يقولون أبو الحكم لا يخلص إليه،
فعرفت إنه هو، فقلت والله لأموتن دونه اليوم أو لأخلصن إليه، فصمدت له، حتى
إذا أمكنتني منه غرة حملت عليه، فضربته ضربة طرحت رجله من الساق، فشبهتها
النواة تنزو من تحت المراضخ، فاقبل ابنه عكرمة على فضربني على عاتقي، فطرح يدي
من العاتق، إلا أنه بقيت جلده، فذهبت أسحب يدي بتلك الجلدة خلفي، فلما آذتني
وضعت عليها رجلي، ثم تمطيت عليها فقطعتها، ثم لاقيت عكرمة وهو يلوذ كل ملاذ،
ولو كانت يدي معي لرجوت يومئذ أن أصيبه ومات معاذ في زمن عثمان (1).
قال الواقدي: فروى أن رسول الله صلى الله عليه وآله نفل معاذ بن عمرو بن الجموح
سيف أبى جهل، وإنه عند آل معاذ بن عمرو اليوم وبه فل، بعد أن أرسل النبي صلى الله
عليه وآله إلى عكرمة بن أبي جهل، يسأله من قتل أباك قال: الذي قطعت يده، فدفع
رسول الله صلى الله عليه وآله سيفه إلى معاذ بن عمرو، لان عكرمة بن أبي جهل قطع يده
يوم بدر (2).
قال الواقدي: وما كان بنو المغيرة يشكون أن سيف أبى الحكم صار إلى معاذ بن
عمرو بن الجموح، وإنه قاتله يوم بدر (2).
قال الواقدي: قد سمعت في قتله وأخذ سلبه غير هذا، حدثني عبد الحميد بن جعفر،
عن عمر بن الحكم بن ثوبان، عن عبد الرحمن بن عوف، قال: عبأنا رسول الله صلى الله
عليه وآله بليل، فأصبحنا ونحن على صفوفنا، فإذا بغلامين، ليس منهما واحد إلا قد

(1) مغازي الواقدي 81.
(2) مغازي الواقدي 81، 82.
140

ربطت حمائل سيفه في عنقه لصغره، فالتفت إلى أحدهما، فقال يا عم، أيهم أبو جهل
قال: قلت: وما تصنع به يا بن أخي قال: بلغني إنه يسب رسول الله صلى الله عليه
وآله، فحلفت لئن رأيته لأقتلنه أو لأموتن دونه. فأشرت إليه، فالتفت إلى الاخر،
وقال لي مثل ذلك، فأشرت له إليه، وقلت له: من أنتما قالا ابنا الحارث، قال:
فجعلا لا يطرفان عن أبي جهل، حتى إذا كان القتال خلصا إليه فقتلاه وقتلهما (1).
قال الواقدي: فحدثني محمد بن عوف، عن إبراهيم بن يحيى بن زيد بن ثابت،
قال: لما كان يومئذ، قال عبد الرحمن،: ونظر إليهما عن يمينه وعن شماله ليته كان إلى
جنبي من هو أبدن من هذين الصبيين فلم أنشب أن التفت إلى عوف، فقال أيهم
أبو جهل فقلت ذاك حيث ترى، فخرج يعدو إليه كأنه سبع، ولحقه أخوه، فأنا أنظر
إليهم يضطربون بالسيوف، ثم نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله يمر بهم في القتلى،
وهما إلى جانب أبى جهل (2).
قال الواقدي: وحدثني محمد بن رفاعة بن ثعلبة، قال: سمعت أبي ينكر ما يقول
الناس في ابني عفراء من صغرهما، ويقول: كانا يوم بدر أصغرهما ابن خمس وثلاثين سنة،
فهذا يربط حمائل سيفه قال الواقدي: والقول الأول أثبت (3).
وروى محمد بن عمار بن ياسر، عن ربيع بنت معوذ، قالت: دخلت في نسوة من
الأنصار على أسماء أم أبى جهل في زمن عمر بن الخطاب، وكان ابنها عبد الله بن أبي ربيعة
يبعث إليها بعطر من اليمن، فكانت تبيعه إلى الأعطية، فكنا نشتري منها، فلما
جعلت لي في قواريري، ووزنت لي كما وزنت لصواحبي، قال: اكتبن لي عليكن
حقي، قلت نعم، أكتب لها على الربيع بنت معوذ، فقالت أسماء خلفي وإنك

(1) مغازي الواقدي 82، 83.
(2) مغازي الواقدي 83.
(3) مغازي الواقدي 83.
141

لابنه قاتل سيده فقلت لا، ولكن ابنه قاتل عبده، فقالت والله لا أبيعك شيئا أبدا،
فقلت أنا والله لا أشتري منك أبدا، فوالله ما هو بطيب ولا عرف، والله يا بنى ما شممت
عطرا قط كان أطيب منه، ولكني يا بنى غضبت (1).
قال الواقدي: فلما وضعت الحرب أوزارها، أمر رسول الله صلى الله عليه وآله أن
يلتمس أبو جهل، قال ابن مسعود: فوجدته في آخر رمق، فوضعت رجلي على عنقه،
فقلت الحمد لله الذي أخزاك قال: إنما أخزى الله العبد ابن أم عبد لقد ارتقيت
يا رويعي الغنم مرتقا صعبا لمن الدبرة قلت لله ولرسوله، قال ابن مسعود: فأقلع
بيضته عن قفاه، وقلت: إني قاتلك قال: لست بأول عبد قتل سيده، أما إن شد
ما لقيته اليوم لقتلك إياي، ألا يكون ولى قتلى رجل من الاحلاف أو من المطيبين
قال: فضربه عبد الله ضربة وقع رأسه بين يديه، ثم سلبه وأقبل بسلاحه ودرعه
وبيضته، فوضعها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال أبشر يا نبي الله بقتل
عدو الله أبى جهل فقال رسول الله أ حقا يا عبد الله فوالذي نفسي بيده لهو أحب إلى
من حمر النعم أو كما قال ثم قال: انه أصابه جحش (2) من دفع دفعته في مأدبة ابن
جدعان، فجحشت ركبته فالتمسوه فوجدوا ذلك الأثر (3).
قال الواقدي: وروى أن أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي كان عند النبي صلى الله
عليه وآله تلك الساعة، فوجد في نفسه، واقبل على ابن مسعود، وقال: أنت قتلته قال:
نعم، الله قتله قال أبو سلمة: أنت وليت قتله قال: نعم، قال: لو شاء لجعلك في كمه
فقال ابن مسعود فقد والله قتلته وجردته، فقال أبو سلمة: فما علامته قال: شامة سوداء
ببطن فخذه اليمنى، فعرف أبو سلمة النعت، فقال: أجردته، ولم يجرد قرشي غيره فقال

(1) مغازي الواقدي 84.
(2) الجحش: الخدش، أو فوقه دون الجرح.
(3) الواقدي 84، 85.
142

ابن مسعود إنه والله لم يكن في قريش ولا في حلفائها أحد أعدى لله ولا لرسوله منه،
وما أعتذر من شئ صنعته به فأمسك أبو سلمة (1).
قال الواقدي: سمع أبو سلمة بعد ذلك يستغفر الله من كلامه في أبى جهل، وقال:
اللهم إنك قد أنجزت ما وعدتني، فتمم على نعمتك قال: وكان عبد الله بن عتبة بن
مسعود، يقول سيف أبى جهل عندنا محلى بفضة، غنمه عبد الله بن مسعود يومئذ (1).
قال الواقدي: اجتمع قول أصحابنا أن معاذ بن عمرو وابني عفراء أثبتوه، وضرب
ابن مسعود عنقه في آخر رمق، فكل شرك في قتله (1).
قال الواقدي: وقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وقف على مصرع
ابني عفراء، فقال يرحم الله ابني عفراء، فإنهما قد شركا في قتل فرعون هذه الأمة،
ورأس أئمة الكفر، فقيل: يا رسول الله ومن قتله معهما قال: الملائكة، وذفف عليه
ابن مسعود، فكان قد شرك في قتله (2).
قال الواقدي: وحدثني معمر، عن الزهري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله
يوم بدر: اللهم اكفني نوفل بن العدوية - وهو نوفل بن خويلد، من بنى أسد بن
عبد العزى - وأقبل نوفل يومئذ يصيح وهو مرعوب، قد رأى قتل أصحابه، وكان في
أول ما التقوا هم والمسلمون، يصيح بصوت له زجل، رافعا عقيرته يا معشر قريش، إن
هذا اليوم يوم العلاء والرفعة فلما رأى قريشا قد انكشفت جعل يصيح بالأنصار
ما حاجتكم إلى دمائنا أما ترون من تقتلون أما لكم في اللبن من حاجة فأسره
جبار بن صخر، فهو يسوقه أمامه، فجعل نوفل يقول لجبار، ورأي عليا عليه السلام مقبلا
نحوه يا أخا الأنصار، من هذا واللات والعزى إني لأرى رجلا، إنه ليريدني قال

(1) مغازي الواقدي 85.
(2) مغازي الواقدي 85، 86، وذفف عليه، أي أجهز على قتله.
143

جبار: هذا علي بن أبي طالب، قال نوفل: تالله ما رأيت كاليوم رجلا أسرع في قومه
فصمد له علي عليه السلام فيضربه فينشب سيف على في حجفته (1) ساعة، ثم ينزعه
فيضرب به ساقيه، ودرعه مشتمرة، فيقطعها ثم أجهز عليه فقتله، فقال رسول الله صلى
الله عليه وآله من له علم بنوفل بن خويلد قال علي عليه السلام: أنا قتلته، فكبر
رسول الله صلى الله عليه وآله، وقال: الحمد لله الذي أجاب دعوتي فيه (2).
قال الواقدي: واقبل العاص بن سعيد بن العاص يبحث للقتال، فالتقى هو وعلي عليه
السلام، وقتله على، فكان عمر بن الخطاب يقول لابنه سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص
ما لي أراك معرضا، تظن إني قتلت أباك فقال سعيد: لو قتلته لكان على الباطل وكنت
على الحق، قال: فقال عمر: إن قريشا أعظم الناس أحلاما، وأكثرها أمانة، لا يبغيهم
أحد الغوائل إلا كبه الله لفيه (3).
قال الواقدي: وروى أن عمر قال لسعيد بن العاص: ما لي أراك معرضا كأني قتلت
أباك يوم بدر، وإن كنت لا أعتذر من قتل مشرك، لقد قتلت خالي بيدي العاص بن
هاشم بن المغيرة.
ونقلت من غير كتاب الواقدي أن عثمان بن عفان وسعيد بن العاص حضرا عند
عمر في أيام خلافته، فجلس سعيد بن العاص حجرة، فنظر إليه عمر، فقال ما لي أراك
معرضا كأني قتلت أباك إني لم اقتله، ولكنه قتله أبو حسن وكان علي عليه السلام
حاضرا، فقال اللهم غفرا ذهب الشرك بما فيه، ومحا الاسلام ما قبله، فلما ذا تهاج

(1) الحجفة: الترس.
(2) مغازي الواقدي 86.
(3) مغازي الواقدي 86، 87.
(4) حجرة، اي ناحية.
144

القلوب فسكت عمر، وقال سعيد: لقد قتله كفؤ كريم، وهو أحب إلى من أن يقتله
من ليس من بنى عبد مناف.
قال الواقدي: وكان علي عليه السلام يحدث، فيقول إني يومئذ بعد ما متع (1)
النهار، ونحن والمشركون قد اختلطت صفوفنا وصفوفهم، خرجت في أثر رجل منهم،
فإذا رجل من المشركين على كثيب رمل وسعد بن خيثمة، وهما يقتتلان حتى قتل
المشرك سعد بن خيثمة، والمشرك مقنع في الحديد، وكان فارسا، فاقتحم عن فرسه، فعرفني
وهو معلم، فناداني هلم يا بن أبي طالب إلى البراز فعطفت إلى البراز، فعطفت عليه، فانحط
إلى مقبلا، وكنت رجلا قصيرا، فانحططت راجعا لكي ينزل إلى، كرهت أن يعلوني،
فقال يا بن أبي طالب، فررت فقلت قريبا مفر ابن الشتراء. فلما استقرت قدماي
وثبت أقبل فاتقيت فلما دنا منى ضربني بالدرقة، فوقع سيفه، فلحج (2) فأضربه على عاتقه
وهو دارع، فارتعش ولقد قط سيفي درعه، فظننت أن سيفي سيقتله، فإذا بريق سيف
من ورائي فطأطأت رأسي، ويقع السيف، فأطن قحف رأسه بالبيضة، وهو يقول
خذها وأنا ابن عبد المطلب، فالتفت من ورائي، فإذا هو حمزة عمى (3)، والمقتول طعيمة
ابن عدي (4).
قلت في رواية محمد بن إسحاق بن يسار أن طعيمة بن عدي قتله علي بن أبي
طالب عليه السلام، ثم قال: وقيل قتله حمزة (5).
وفي رواية الشيعة قتله علي بن أبي طالب، شجرة بالرمح، فقال له: والله لا تخاصمنا في
الله بعد اليوم ابدا، وهكذا روى محمد بن إسحاق.

(1) الواقدي: (ارتفع).
(2) الواقدي: يعني (لزم).
(3) الواقدي: (حمزة بن عبد المطلب).
(4) مغازي الواقدي 87.
(5) سيرة ابن هشام 2: 357.
145

وروى محمد بن إسحاق قال: وخرج النبي صلى الله عليه وآله من العريش إلى الناس
ينظر القتال، فحرض المسلمين وقال: كل امرئ بما أصاب، وقال: والذي نفس محمد
بيده لا يقاتلهم اليوم رجل في جملة، فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر، إلا أدخله الله
الجنة فقال عمير بن الحمام أخو بنى سلمة، وفى يده تمرات يأكلهن بخ بخ فما بيني وبين
أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء ثم قذف التمرات من يده، وأخذ سيفه، فقاتل
القوم حتى قتل (1).
قال محمد بن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمرو بن قتادة أن عوف بن الحارث - وهو
ابن عفراء - قال لرسول الله صلى الله عليه وآله يوم بدر: يا رسول الله، ما يضحك الرب
من عبده قال: غمسه يده في العدو حاسرا فنزع عوف درعا كانت عليه وقذفها،
ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل (2).
قال الواقدي وابن إسحاق: واخذ رسول الله صلى الله عليه وآله كفا من البطحاء،
فرماهم بها، وقال: شاهت الوجوه (3) اللهم ارعب قلوبهم، وزلزل أقدامهم فانهزم
المشركون لا يلوون على شئ، والمسلمون يتبعونهم يقتلون ويأسرون (2).
قال الواقدي: وكان هبيرة بن أبي وهب المخزومي لما رأى الهزيمة انخزل ظهره
فعقر، فلم يستطع أن يقوم، فأتاه أبو أسامة الجشمي حليفه، ففتق درعه واحتمله - ويقال
ضربه أبو داود المازني بالسيف فقطع درعه، ووقع لوجهه، وأخلد إلى الأرض، وجاوزه
أبو داود وبصر به ابنا زهير الجشميان مالك، وأبو أسامة، وهما حليفاه، فذبا عنه حتى
نجوا به، واحتمله أبو أسامة ومالك يذب عنه، حتى خلصاه فقال رسول الله صلى الله
عليه وآله حماه كلباه الحليفان (4).

(1) سيرة ابن هشام 2: 268.
(2) سيرة ابن هشام 2: 268.
(3) بعدها في ابن هشام: (ثم بعجهم بها).
(4) مغازي الواقدي 89 مع اختلاف في الرواية.
146

قال الواقدي: وحدثني عمر بن عثمان عن عكاشة بن محصن، قال: انقطع
سيفي يوم بدر، فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وآله عودا، فإذا هو سيف أبيض
طويل، فقاتلت به حتى هزم الله المشركين، ولم يزل ذلك السيف عند عكاشة
حتى هلك.
قال: وقد روى رجال من بنى عبد الأشهل عدة، قالوا انكسر سيف سلمة بن
أسلم (1) بن حريش (2) يوم بدر، فبقي أعزل لا سلاح معه، فأعطاه رسول الله صلى الله
عليه وآله قضيبا كان في يده من عراجين ابن طاب (3)، فقال اضرب به، فإذا هو
سيف جيد، فلم يزل عنده حتى قتل يوم جسر أبى عبيد (4).
قال الواقدي: وأصاب حارثة بن سراقة، وهو يكرع في الحوض سهم غرب (5)
من المشركين فوقع في نحره، فمات، فلقد شرب القوم آخر النهار من دمه، وبلغ أمه
وأخته - وهما بالمدينة مقتله - فقالت أمه والله لا أبكى عليه، حتى يقدم رسول الله صلى
الله عليه وآله فأسأله، فإن كان في الجنة لم أبك عليه، وإن كان في النار بكيته لعمر الله
فأعولته فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله من بدر جاءت أمه إليه، فقالت
يا رسول الله، قد عرفت موضع حارثة في قلبي، فأردت أن أبكى عليه، ثم قلت لا أفعل
حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وآله عنه، فإن كان في الجنة لم أبكه، وإن كان
في النار بكيته فأعولته فقال النبي صلى الله عليه وآله: (هبلت أجنة واحدة انها
جنان كثيرة، والذي نفسي بيده إنه لفي الفردوس الأعلى)، قالت فلا أبكى عليه أبدا.
قال الواقدي: ودعا رسول الله صلى الله عليه وآله حينئذ بماء في إناء، فغمس يده
فيه ومضمض فاه، ثم ناول أم حارثة بن سراقة، فشربت ثم ناولت ابنتها فشربت،

(1) ب: (أشهل)، وصوابه من ا والواقدي وابن هشام.
(2) ا: (جريش)، والصواب ما في ب والواقدي.
(3) في اللسان: (عذق ابن طالب نخلة بالمدينة، وقيل: ابن طاب ضرب من الرطب هنالك).
(4) مغازي الواقدي 88.
(5) سهم غرب على الوصف: لا يدري راميه.
147

ثم أمرهما فنضحتا في جيوبهما، ثم رجعتا من عند النبي صلى الله عليه وآله، وما بالمدينة
امرأتان أقر عينا منهما ولا أسر (1).
قال الواقدي: وكان حكيم بن حزام يقول انهزمنا يوم بدر، فجعلت أسعى وأقول
قاتل الله ابن الحنظلية يزعم أن النهار قد ذهب، والله إن النهار لكما هو، قال حكيم:
وماذا بي إلا حبا أن يأتي الليل فيقصر عنا طلب القوم، فيدرك حكيم عبيد الله
وعبد الرحمن بنى العوام على جمل لهما، فقال عبد الرحمن لأخيه إنزل فاحمل أبا خالد،
وكان عبيد الله رجلا أعرج، لا رجلة (2) به، فقال عبيد الله إنه لا رجلة بي كما ترى،
وقال عبد الرحمن: والله إن منه لا بد ألا نحمل رجلا، إن متنا كفانا ما خلفنا من
عيالنا، وإن عشنا حملنا كلنا فنزل عبد الرحمن وأخوه الأعرج، فحملاه، فكانوا
يتعاقبون الجمل، فلما دنا من مكة وكان بمر الظهران، قال: والله لقد رأيت هاهنا أمرا
ما كان يخرج على مثله أحد له رأى، ولكنه شؤم ابن الحنظلية أن جزورا نحرت
هاهنا فلم يبق خباء إلا أصابه من دمها فقالا قد رأينا ذلك، ولكن رأيناك وقومك
قد مضيتم فمضينا معكم، ولم يكن لنا معكم أمر.
قال الواقدي: فحدثني عبد الرحمن بن الحارث عن مخلد بن خفاف، عن أبيه،
قال: كانت الدروع في قريش كثيرة يومئذ، فلما انهزموا جعلوا يلقونها، وجعل
المسلمون يتبعونهم ويلقطون ما طرحوا، ولقد رأيتني يومئذ التقطت ثلاث أدرع جئت
بها أهلي، فكانت عندنا بعد، فزعم لي رجل من قريش - ورأي درعا منها عندنا
فعرفها - قال: هذه درع الحارث بن هشام (3).
قال الواقدي: وحدثني محمد بن حميد، عن عبد الله بن عمرو بن أمية، قال:
أخبرني من انكشف من قريش يومئذ منهزما، وإنه ليقول في نفسه، ما رأيت مثل
هذا فر منه إلا النساء.

(1) مغازي الواقدي 88.
(2) الرجلة، بالضم: القوة على المشي.
(3) مغازي الواقدي 89، 90.
(4) مغازي الواقدي 90.
148

قال الواقدي: كان قباث بن أشيم الكناني يقول شهدت مع المشركين بدرا،
وإني لأنظر إلى قلة أصحاب محمد في عيني، وكثرة من معنا من الخيل والرجل، فانهزمت
فيمن انهزم، فلقد رأيتني وإني لأنظر إلى المشركين في كل وجه، وإني لأقول في نفسي
ما رأيت مثل هذا الامر فر منه إلا النساء وصاحبني رجل، فبينا هو يسير معي إذ لحقنا
من خلفنا، فقلت لصاحبي: أبك نهوض قال: لا والله ما بي قال: وعقر وترفعت،
فلقد صبحت غيقة - قال: وغيقة عن يسار السقيا بينهما وبين الفرع ليلة وبين الفرع والمدينة
ثمانية برد - قبل الشمس، كنت هاديا بالطريق، ولم أسلك المحاج (1)، وخفت من الطلب
فتنكبت عنها، فلقيني رجل من قومي بغيقة، فقال ما وراءك قلت لا شئ قتلنا
وأسرنا وانهزمنا، فهل عندك من حملان قال: فحملني على بعير، وزودني زادا، حتى
لقيت الطريق بالجحفة، ثم مضيت حتى دخلت مكة، وإني لأنظر إلى الحيسمان بن
حابس الخزاعي بالغميم، فعرفت إنه تقدم ينعى قريشا بمكة، فلو أردت أن أسبقه لسبقته،
فتنكبت (2) عنه حتى سبقني ببعض النهار، فقدمت وقد انتهى إلى مكة خبر قتلاهم، وهم يلعنون
الخزاعي، ويقولون ما جاءنا بخير فمكث بمكة، فلما كان بعد الخندق، قلت
لو قدمت المدينة، فنظرت ما يقول محمد وقد وقع في قلبي الاسلام، فقدمت المدينة،
فسألت عن رسول الله صلى الله عليه وآله، فقالوا هو ذاك في ظل المسجد مع ملا من
أصحابه، فأتيته وأنا لا أعرفه من بينهم، فسلمت فقال يا قباث بن أشيم، أنت القائل يوم
بدر ما رأيت مثل هذا الامر فر منه إلا النساء قلت اشهد إنك رسول الله، وإن هذا
الامر ما خرج منى إلى أحد قط وما ترمرمت (3) به، إلا شيئا حدثت به نفسي، فلو لا إنك
نبي ما أطلعك الله عليه، هلم حتى أبايعك فأسلمت (4).

(1) الواقدي: (المحاج).
(2) ب (فنكبت)، وأثبت ما في الواقدي.
(3) ما ترمرمت به، اي ما نطقت به.
(4) مغازي الواقدي 90، 91.
149

قال الواقدي: وقد روى أنه لما توجه المشركون إلى بدر كان فتيان ممن تخلف عنهم
بمكة سمارا يسمرون بذي طوى في القمر حتى يذهب الليل، يتناشدون الاشعار و
يتحدثون، فبينا هم كذلك إذ سمعوا صوتا قريبا منهم ولا يرون القائل، رافعا
صوته يتغنى:
أزاد الحنيفيون بدرا مصيبة * سينقض منها ركن كسرى وقيصرا
أرنت لها صم الجبال وأفزعت * قبائل ما بين الوتير فخيبرا (1)
أجازت جبال الأخشبين وجردت * حرائر يضربن الترائب حسرا (2).
قال الواقدي: انشدنيه (3)، ورواه لي عبد الله بن أبي عبيدة، عن محمد بن عمار بن
ياسر، قال: فاستمعوا الصوت، فلا يرون أحدا، فخرجوا في طلبه، فلم يروا أحدا، فخرجوا
فزعين، حتى جازوا الحجر، فوجدوا مشيخة منهم جلة سمارا، فأخبروهم الخبر، فقالوا
لهم إن كان ما تقولون، فإن محمدا وأصحابه يسمون الحنيفية قال: فلم يبق أحد من
الفتيان الذين كانوا بذي طوى إلا وعك، فما مكثوا إلا ليلتين أو ثلاثا، حتى قدم
الحيسمان (4) الخزاعي بخبر أهل بدر، ومن قتل منهم، فجعل يخبرهم، فيقول قتل
عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وقتل ابنا الحجاج وأبو البختري، وزمعة بن الأسود - قال:
وصفوان بن أمية في الحجر جالس يقول لا يعقل هذا شيئا مما يتكلم به سلوه عنى،
فقالوا صفوان بن أمية لك به علم قال: نعم، هو ذاك في الحجر، ولقد رأيت أباه وأخاه
مقتولين، ورأيت سهيل بن عمرو والنضر بن الحارث أسيرين، رأيتهما مقرونين
في الحبال (5).

(1) كذا في ا والواقدي، وفي ب: (وخيبرا).
(2) كذا في ا، وفي ب: (التراب وحسرا).
(3) الواقدي: (أنشدني)
(4) في الأصول: (الحيثمان)، والثواب ما أثبته الواقدي والبلاذري وابن هشام والطبري.
(5) مغازي الواقدي 114.
150

قال الواقدي: وبلغ النجاشي مقتل قريش وما ظفر الله به (1) رسوله، فخرج في
ثوبين أبيضين، ثم جلس على الأرض، ودعا جعفر بن أبي طالب وأصحابه، فقال أيكم
يعرف (2) بدرا فأخبروه فقال أنا عارف بها، قد رعيت الغنم [في] (3) جوانبها، هي من
الساحل على بعض نهار، ولكني أردت أن أتثبت منكم، قد نصر الله رسوله ببدر،
فاحمدوا الله على ذلك فقال بطارقته: أصلح الله الملك إن هذا شئ لم تكن تصنعه،
يريدون لبس البياض والجلوس على الأرض، فقال: إن عيسى بن مريم كان إذا حدثت
له نعمة ازداد بها تواضعا (4).
قال الواقدي: فلما رجعت قريش إلى مكة، قام فيهم أبو سفيان بن حرب، فقال
يا معشر قريش، لا تبكوا على قتلاكم، ولا تنح عليهم نائحة، ولا يندبهم شاعر، وأظهروا
الجلد والعزاء، فإنكم إذا نحتم عليهم وبكيتموهم بالشعر أذهب ذلك غيظكم فأكلكم
[ذلك] (5) عن عداوة محمد وأصحابه، مع أن محمدا إن بلغه وأصحابه ذلك شمتوا بكم،
فتكون أعظم المصيبتين، ولعلكم تدركون ثأركم، فالدهن والنساء على حرام حتى
أغزو محمدا. فمكثت قريش شهرا لا يبكيهم شاعر، ولا تنوح عليهم نائحة.
قال الواقدي: وكان الأسود بن المطلب قد ذهب بصره، وقد كمد على من قتل من
ولده، وكان يحب أن يبكى عليهم فتأبى عليه قريش ذلك، فكان يقول لغلامه بين
اليومين ويلك احمل معي خمرا، واسلك بي الفج الذي سلكه أبو حكيمة - يعنى زمعة
ولده المقتول ببدر - فيأتي به غلامه على الطريق عند ذلك الفج فيجلس، فيسقيه الخمر

(1) الواقدي: (نبيه).
(2) الواقدي: (أين بدر).
(3) من ا والواقدي.
(4) الواقدي: 115 (تلبس ثوبين وتجلس على الأرض، فقال إني من قوم إذا أحدث الله لهم نعمة
ازدادوا بها تواضعا. ويقال: أنه قال: إن عيسى بن مريم عليه السلام كان إذا حدثت له نعمة ازداد بها
تواضعا) والخبر في الواقدي 114.
(5) من الواقدي 115.
151

حتى ينتشي، ثم يبكى على أبى حكيمة وأخوته، ثم يحثى التراب على رأسه، ويقول
لغلامه ويحك أكتم على، فإني أكره أن تعلم بي قريش، إني أراها لم تجمع البكاء
على قتلاها (1).
قال الواقدي: حدثني مصعب بن ثابت عن عيسى بن معمر، عن عباد بن عبد الله
بن الزبير، عن عائشة قالت قالت قريش حين رجعوا إلى مكة لا تبكوا على قتلاكم،
فيبلغ محمدا وأصحابه فيشمتوا بكم، ولا تبعثوا في أسراكم، فيأرب (2) بكم القوم، إلا فأمسكوا
عن البكاء.
قال: وكان الأسود بن المطلب أصيب له ثلاثة من ولده
زمعة وعقيل والحارث بن زمعة، فكان يحب أن يبكى على قتلاه، فبينا هو كذلك إذ سمع نائحة من الليل،
فقال لغلامه - وقد ذهب بصره - انظر، هل بكت قريش على قتلاها لعلى أبكى على أبى
حكيمة - يعنى زمعة - فإن جوفي قد احترق، فذهب الغلام ورجع إليه، فقال إنما هي
امرأة تبكي على بعيرها قد أضلته، فقال الأسود:
تبكي أن يضل لها بعير * ويمنعها من النوم السهود (3)
فلا تبكي على بكر ولكن * على بكر تصاغرت الخدود (4)
فبكى إن بكيت على عقيل * وبكى حارثا أسد الأسود
وبكيهم ولا تسمى جميعا (5) * فما لأبي حكيمة من نديد

(1) مغازي الواقدي 114.
(2) فيأرب: فيشتد.
(3) الخبر والشعر - مع اختلاف الرواية - في سيرة ابن هشام 2: 291، والشعر أيضا في ديوان
الحماسة - بشرح المرزوقي 2: 872.
(4) الحماسة: (تقاصرت الجدود، قال المرزوقي: (هو تفاعل من القصور والعجز، لا القصر
الذي هو ضد الطول، وفي الواقدي عن هشام: سمعت أبي ينشد (تصاغرت الخدود)، ولا ينكر
(الخدود).
(5) لا تسمى، لا تسأمي.
152

على بدر سراة بنى هصيص * ومخزوم ورهط أبى الوليد
إلا قد ساد بعدهم رجال * ولولا يوم بدر لم يسودوا
قال الواقدي: ومشت نساء من قريش إلى هند بنت عتبة، فقلن: ألا تبكين على
أبيك وأخيك وعمك وأهل بيتك فقالت: حلأني (1) أن أبكيهم، فيبلغ محمدا وأصحابه
فيشمتوا بنا ونساء بنى الخزرج، لا والله حتى أثار محمدا وأصحابه، والدهن على حرام إن
دخل رأسي حتى نغزو محمدا والله لو أعلم أن الحزن يذهب عن قلبي لبكيت، ولكن
لا يذهبه إلا أن أرى ثاري بعيني من قتلة الأحبة، فمكثت على حالها لا تقرب الدهن،
ولا قربت فراش أبي سفيان من يوم حلفت حتى كانت وقعة أحد (2).
قال الواقدي: وبلغ نوفل بن معاوية الديلي وهو في أهله - وقد كان شهد معهم بدرا -
أن قريشا بكت على قتلاها، فقدم مكة، فقال يا معشر قريش، لقد خفت أحلامكم، وسفه
رأيكم، وأطعتم نساءكم، أمثل قتلاكم يبكى عليهم هم أجل من البكاء، مع أن ذلك
يذهب غيظكم عن عداوة محمد وأصحابه، فلا ينبغي أن يذهب الغيظ عنكم، إلا أن
تدركوا ثأركم من عدوكم فسمع أبو سفيان بن حرب كلامه، فقال يا أبا معاوية، غلبت،
والله ما ناحت امرأة من بنى عبد شمس على قتيل لها إلى اليوم، ولا بكاهم شاعر إلا نهيته
حتى ندرك ثأرنا من محمد وأصحابه، وإني لأنا الموتور الثائر، قتل ابني حنظلة، وسادة أهل
هذا الوادي، أصبح هذا الوادي مقشعرا لفقدهم (3).
قال الواقدي: وحدثني معاذ بن محمد الأنصاري، عن عاصم بن عمر بن قتادة، قال:
لما رجع المشركون إلى مكة، وقد قتل صناديدهم وأشرافهم، أقبل عمير بن وهب بن عمير
الجمحي حتى جلس إلى صفوان بن أمية في الحجر، فقال صفوان بن أمية قبح العيش

(1) حلاني: منعني.
(2) مغازي الواقدي 116، 117.
(3) مغازي الواقدي 118.
153

بعد قتلى بدر قال عمير بن وهب: أجل والله، ما في العيش بعدهم خير، ولولا دين على
لا أجد له قضاء، وعيال لا أدع لهم شيئا، لرحلت إلى محمد حتى أقتله أن ملأت عيني منه،
فإنه بلغني انه يطوف في الأسواق، فان لي عندهم علة، أقول قدمت على ابني هذا
الأسير ففرح صفوان بقوله، وقال: يا أبا أمية، وهل نراك فاعلا قال: أي ورب هذه
البنية قال صفوان: فعلى دينك، وعيالك أسوة عيالي، فأنت تعلم أنه ليس بمكة رجل
أشد توسعا على عياله منى. قال عمير: قد عرفت ذلك يا أبا وهب، قال صفوان: فان
عيالك مع عيالي، لا يسعني شئ ونعجز عنهم، ودينك على. فحمله صفوان على بعيره،
وجهزه وأجرى على عياله مثل ما يجرى على عيال نفسه، وأمر عمير بسيفه فشحذ وسم،
ثم خرج إلى المدينة، وقال لصفوان: اكتم على أياما حتى أقدمها، وخرج فلم يذكره
صفوان، وقدم عمير، فنزل على باب المسجد، وعقل راحلته وأخذ السيف فتقلده، ثم
عمد نحو رسول الله صلى الله عليه وآله، وعمر بن الخطاب في نفر من المسلمين يتحدثون (1)،
ويذكرون نعمة الله عليهم في بدر، فرأى عميرا وعليه السيف، ففزع عمر منه، وقال
لأصحابه: دونكم الكلب هذا عمير بن وهب عدو الله الذي حرش بيننا يوم بدر،
وحزرنا للقوم، وصعد فينا وصوب، يخبر قريشا أنه لا عدد لنا ولا كمين فقاموا إليه فأخذوه،
فانطلق عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال يا رسول الله، هذا عمير بن وهب،
قد دخل المسجد ومعه السلاح، وهو الغادر الخبيث الذي لا يؤمن على شئ، فقال النبي
صلى الله عليه وآله أدخله على، فخرج عمر فأخذ بحمائل سيفه، فقبض بيده عليها، وأخذ
بيده الأخرى قائم السيف، ثم أدخله على رسول الله صلى الله عليه وآله، فلما رآه، قال:
يا عمر تأخر عنه، فلما دنا عمير إلى النبي صلى الله عليه وآله قال: أنعم صباحا، فقال له
النبي صلى الله عليه وآله: قد أكرمنا الله عن تحيتك، وجعل تحيتنا السلام، وهي تحية
أهل الجنة قال عمير: إن عهدك بها لحديث، فقال النبي صلى الله عليه وآله: قد أبدلنا

(1) الواقدي: (فنظر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو في نفر من أصحابه يتحدثون).
154

الله خيرا، فما أقدمك يا عمير قال: قدمت في أسيري عندكم تفادونه وتقاربوننا فيه،
فإنكم العشيرة والأصل قال النبي صلى الله عليه وآله: فما بال السيف قال عمير:
قبحها الله من سيوف وهل أغنت من شئ إنما نسيته حين نزلت وهو في رقبتي،
ولعمري أن لي لهما غيره، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: أصدق يا عمير، ما الذي
أقدمك قال: ما قدمت إلا في أسيري، قال صلى الله عليه وآله: فما شرطت لصفوان بن
أمية في الحجر ففزع عمير، وقال: ما ذا شرطت له قال: تحملت بقتلى، على أن
يقضى دينك، ويعول عيالك، والله حائل بينك وبين ذلك قال عمير: أشهد أنك
صادق، وأشهد أن لا إله إلا الله، كنا يا رسول الله نكذبك بالوحي، وبما يأتيك من
السماء، وإن هذا الحديث كان بيني وبين صفوان كما قلت، لم يطلع عليه غيره وغيري،
وقد أمرته أن يكتمه (1) ليالي، فأطلعك الله عليه، فآمنت بالله ورسوله، وشهدت أن
ما جئت به حق. الحمد لله الذي ساقني هذا المساق وفرح المسلمون حين هداه الله،
وقال عمر بن الخطاب: لخنزير كان أحب إلى منه حين طلع، وهو الساعة أحب إلى
من بعض ولدى. وقال النبي صلى الله عليه وآله: (علموا أخاكم القرآن، وأطلقوا له
أسيره)، فقال عمير: يا رسول الله، إني كنت جاهدا على إطفاء نور الله، فله الحمد
أن هداني، فأذن لي فألحق قريشا فادعوهم إلى الله وإلى الاسلام، فلعل الله يهديهم
ويستنقذهم من الهلكة، فأذن له فخرج، فلحق بمكة. وكان صفوان يسال عن عمير بن
وهب كل راكب يقدم من المدينة، يقول هل حدث بالمدينة من حدث ويقول لقريش
أبشروا بوقعة تنسيكم وقعة بدر، فقدم رجل من المدينة فسأله صفوان عن عمير، فقال
أسلم، فلعنه صفوان ولعنه المشركون بمكة، وقالوا صبا عمير، وحلف صفوان ألا يكلمه
أبدا، ولا ينفعه، وطرح عياله. وقدم عمير، فنزل في أهله، ولم يأت صفوان، وأظهر
الاسلام، فبلغ صفوان. فقال قد عرفت حين لم يبدأ بي قبل منزله، وقد كان رجل

(1) ا: (يكتم عني).
155

أخبرني أنه ارتكس، لا أكلمه من رأسي أبدا، ولا أنفعه ولا عياله بنافعة أبدا، فوقع
عليه عمير وهو في الحجر فقال يا أبا وهب فاعرض صفوان عنه، فقال عمير أنت
سيد من ساداتنا، أرأيت الذي كنا عليه من عبادة حجر، والذبح له أهذا دين
أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله فلم يجبه صفوان بكلمة، وأسلم مع عمير
بشر كثير (1).
قال الواقدي: وكان فتية من قريش خمسة قد أسلموا، فاحتبسهم آباؤهم، فخرجوا
مع أهلهم وقومهم إلى بدر، وهم على الشك والارتياب، لم يخلصوا إسلامهم، وهم
قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة، والحارث بن زمعة بن الأسود،
وعلي بن أمية بن خلف، والعاص بن منبه بن الحجاج، فلما قدموا بدرا ورأوا قلة أصحاب
النبي صلى الله عليه وآله، قالوا غر هؤلاء دينهم، ففيهم أنزل (إذ يقول المنافقون
والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم) (2)، ثم أنزل فيهم (إن الذين تتوفاهم
الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم
تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها...) (3) إلى تمام ثلاث آيات (4).
قال: فكتب بها المهاجرون بالمدينة إلى من أقام بمكة مسلما، فقال جندب بن ضمرة
الخزاعي لا عذر لي ولا حجة في مقامي بمكة - وكان مريضا - فقال لأهله أخرجوني،
لعلى أجد روحا قالوا أي وجه أحب إليك قال: نعم التنعيم فخرجوا به إلى التنعيم،
وبين التنعيم ومكة أربعة أميال من طريق المدينة - فقال: اللهم إني خرجت إليك مهاجرا،
فأنزل الله تعالى: (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله...) (5) الآية، فلما رأى
ذلك من كان بمكة ممن يطيق الخروج، خرجوا فطلبهم أبو سفيان في رجال من المشركين،

(1) مغازي الواقدي 117 - 123.
(2) سورة الأنفال 49.
(3) سورة النساء 97 وما بعدها.
(4) مغازي الواقدي 67.
(5) سورة النساء 100.
156

فردوهم وسجنوهم، فافتتن منهم ناس، وكان الذين افتتنوا إنما افتتنوا حين أصابهم البلاء
فأنزل الله تعالى فيهم (ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة
الناس كعذاب الله...) (1) الآية وما بعدها فكتب بها المهاجرون بالمدينة إلى من كان
بمكة مسلما، فلما جاءهم الكتاب بما أنزل فيهم، قالوا اللهم إن لك علينا إن أفلتنا
ألا نعدل بك أحدا، فخرجوا الثانية، فطلبهم أبو سفيان والمشركون، فأعجزوهم هربا في
الجبال، حتى قدموا المدينة، واشتد البلاء على من ردوا من المسلمين، فضربوهم وآذوهم
وأكرهوهم على ترك الاسلام، ورجع ابن أبي سرح مشركا، فقال لقريش ما كان يعلم
محمدا إلا ابن قمطة (2)، عبد نصراني، لقد أكتب له فأحول ما أردت، فأنزل الله تعالى
(ولقد نعلم إنهم يقولون إنما يعلمه بشر (3)...) الآية (4).
القول في نزول الملائكة يوم بدر ومحاربتها المشركين
أختلف المسلمون في ذلك، فقال الجمهور منهم نزلت الملائكة حقيقة، كما ينزل
الحيوان والحجر من الموضع العالي إلى الموضع السافل.
وقال قوم من أصحاب المعاني غير ذلك.
واختلف أرباب القول الأول، فقال الأكثرون نزلت وحاربت، وقال قوم منهم:
نزلت ولم تحارب، وروى كل قوم في نصرة قولهم روايات.
فقال الواقدي في كتاب المغازي حدثني عمر بن عقبة، عن شعبة مولى
ابن عباس، قال: سمعت ابن عباس يقول: لما تواقف الناس أغمي على رسول الله صلى

(1) سورة العنكبوت 10.
(2) كذا في الأصول ومغازي الواقدي، وفي تفسير القرطبي 10: 177، اسمه جبر، وقيل اسمه يعيش.
(3) سورة النحل 103.
(4) مغازي الواقدي 67.
157

الله عليه وآله ساعة، ثم كشف عنه فبشر المؤمنين بجبرائيل في جند من الملائكة
في ميمنة الناس، وميكائيل في جند آخر في ميسرة الناس، وإسرافيل في جند آخر
في ألف، وكان إبليس قد تصور للمشركين في صورة سراقة بن جعشم المدلجي،
يذمر المشركين، ويخبرهم أنه لا غالب لهم من الناس، فلما أبصر عدو الله الملائكة
نكص على عقبيه، وقال: (إني برئ منكم إني أرى ما لا ترون)، فتشبث به
الحارث بن هشام، وهو يرى أنه سراقة لما سمع من كلامه، فضرب في صدر الحارث،
فسقط الحارث، وانطلق إبليس لا يرى حتى وقع في البحر، ورفع يديه قائلا
يا رب موعدك الذي وعدتني وأقبل أبو جهل على أصحابه يحضهم على القتال وقال:
لا يغرنكم خذلان سراقة بن جعشم إياكم، فإنما كان على ميعاد من محمد وأصحابه، سيعلم إذا رجعنا إلى قديد ما نصنع بقومه ولا يهولنكم مقتل عتبة وشيبة والوليد، فإنهم
عجلوا وبطروا حين قاتلوا، وأيم الله لا نرجع اليوم حتى نقرن محمدا وأصحابه في الحبال، فلا
ألفين أحدا منكم قتل منهم أحدا، ولكن خذوهم أخذا نعرفهم بالذي صنعوا، لمفارقتهم
دينكم ورغبتهم عما كان يعبد آباؤهم.
قال الواقدي: وحدثني عتبة بن يحيى، عن معاذ بن رفاعة بن رافع، عن أبيه، قال:
إن كنا لنسمع لإبليس يومئذ خوارا ودعاء بالثبور والويل، وتصور في صورة سراقة
بن جعشم حتى هرب، فاقتحم البحر، ورفع يديه مادا لهما، يقول يا رب ما وعدتني
ولقد كانت قريش بعد ذلك تعير سراقة بما صنع يومئذ، فيقول والله ما صنعت شيئا.
قال الواقدي: فحدثني أبو إسحاق الأسلمي، عن الحسن بن عبيد الله، مولى
بنى العباس، عن عمارة الليثي، قال: حدثني شيخ صياد من الحي - وكان يومئذ على
ساحل البحر - قال: سمعت صياحا يا ويلاه يا ويلاه قد ملا الوادي يا حرباه يا حرباه
فنظرت فإذا سراقة بن جعشم، فدنوت منه، فقلت ما لك فداك أبي وأمي فلم يرجع
إلى شيئا، ثم أراه اقتحم البحر، ورفع يديه مادا، يقول يا رب ما وعدتني فقلت
158

في نفسي جن وبيت الله سراقة وذلك حين زاغت الشمس، وذلك عند انهزامهم
يوم بدر (1).
قال الواقدي: قالوا: كانت سيماء الملائكة عمائم قد أرخوها بين أكتافهم، خضراء
وصفراء وحمراء من نور، والصوف في نواصي خيلهم.
قال الواقدي: حدثني محمد بن صالح، عن عاصم بن عمر، عن محمود بن لبيد، قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله يوم بدر: (إن الملائكة قد سومت فسوموا)، فأعلم المسلمون
بالصوف في مغافرهم وقلانسهم (2).
قال الواقدي: حدثني محمد بن صالح قال: كان أربعة من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله
يعلمون (3) في الزحوف حمزة بن عبد المطلب كان يوم بدر معلما بريشة نعامة، وكان علي عليه
السلام معلما بصوفة بيضاء، وكان الزبير معلما بعصابة صفراء، وكان أبو دجانة يعلم
بعصابة حمراء، وكان الزبير يحدث أن الملائكة نزلت يوم بدر على خيل بلق عليها عمائم
صفر فكانت على صورة الزبير.
قال الواقدي: فروى عن سهيل بن عمرو، قال: لقد رأيت يوم بدر رجالا بيضا
على خيل بلق بين السماء والأرض معلمين يقبلون ويأسرون.
قال الواقدي: وكان أبو أسد الساعدي يحدث بعد أن ذهب بصره، ويقول: لو كنت
معكم الان ببدر ومعي بصرى لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة، لا أشك فيه
ولا أمتري قال: وكان أسيد يحدث عن رجل من بنى غفار حدثه، قال: أقبلت أنا
وابن عم لي يوم بدر، حتى صعدنا على جبل، ونحن يومئذ على الشرك ننظر الوقعة وعلى
من تكون الدبرة فننتهب مع من ينتهب إذا رأيت سحابة دنت منا، فسمعت منها

(1) مغازي الواقدي 70.
(2) مغازي الواقدي 70.
(3) يقال: رجل معلم بكسر اللام، إذا علم مكانه في الحرب بعلامة أعلمها.
159

همهمة الخيل، وقعقعة الحديد، وسمعت قائلا يقول أقدم حيزوم فأما ابن عمى،
فانكشف قناع قلبه، فمات، واما أنا فكدت أهلك، فتماسكت واتبعت بصرى حيث
تذهب السحابة، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وأصحابه ثم رجعت، وليس فيها شئ مما
كنت اسمع.
قال الواقدي: وحدثني خارجة بن إبراهيم بن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس، عن
أبيه قال: سأل رسول الله صلى الله عليه وآله جبرائيل من القائل يوم بدر أقبل
حيزوم فقال جبرائيل يا محمد، ما كل أهل السماء أعرف.
قال الواقدي: وحدثني عبد الرحمن بن الحارث، عن أبيه، عن جده، عبيدة بن أبي
عبيدة، عن أبي رهم الغفاري عن ابن عم له، قال: بينا أنا وابن عم لي على ماء
بدر، فلما رأينا قلة من مع محمد وكثرة قريش، قلنا إذا التفت الفئتان عمدنا إلى عسكر محمد
وأصحابه فانتهبناه، فانطلقنا نحو المجنبة اليسرى من أصحاب محمد، ونحن نقول هؤلاء
ربع قريش، فبينا نحن نمشي في الميسرة إذ جاءت سحابة فغشيتنا، فرفعنا أبصارنا لها، فسمعنا
أصوات الرجال والسلاح، وسمعنا قائلا يقول لفرسه (أقدم حيزوم)، وسمعناهم يقولون
(رويدا تتام أخراكم)، فنزلوا على ميمنة رسول الله صلى الله عليه وآله، ثم جاءت
أخرى مثل تلك فكانت مع النبي صلى الله عليه وآله، فنظرنا إلى أصحاب محمد وإذا هم
على الضعف من قريش، فمات ابن عمى، وأما أنا فتماسكت، وأخبرت النبي صلى الله
عليه وآله بذلك، وأسلمت.
قال الواقدي: وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: (ما رئي الشيطان
يوما هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغضب منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما رأى
من نزول الرحمة وتجاوز الله تعالى عن الذنوب العظام، إلا ما رأى يوم بدر). قيل وما رأى
160

يا رسول الله يوم بدر قال: أما إنه رأى جبريل يوزع الملائكة قال: وقد روى عن
رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال يومئذ: (هذا جبرائيل يسوق بريح، كأنه دحية
الكلبي، إني نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور) (1).
قال الواقدي: وكان عبد الرحمن بن عوف يقول رأيت يوم بدر رجلين، أحدهما
عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم، والاخر عن يساره، يقاتلان أشد القتال، ثم ثلثهما
ثالث من خلفه، ثم ربعهما رابع أمامه (2).
قال: وقد روى سعد بن أبي وقاص مثل ذلك، قال: رأيت رجلين يوم بدر، يقاتلان
عن النبي صلى الله عليه وسلم، أحدهما عن يمينه، والاخر عن يساره، وإني لأراه ينظر إلى
ذا مرة، وإلى ذا مرة، سرورا بما فتحه (3) الله تعالى (4).
قال الواقدي: وحدثني إسحاق بن يحيى، عن حمزة بن صهيب، عن أبيه، قال:
ما أدرى كم يد مقطوعة وضربة جائفة لم يدم كلمها يوم بدر، قد رأيتها (5).
قال الواقدي: وروى أبو بردة بن نيار، قال: جئت يوم بدر بثلاثة رؤوس فوضعتها
بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت يا رسول الله، أما اثنان فقتلتهما
وأما الثالث فإني رأيت رجلا طويلا أبيض ضربه فتدهده (6) أمامه، فأخذت رأسه،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذاك فلان من الملائكة (7)).
قال الواقدي: وكان ابن عباس رحمه الله، يقول: لم تقاتل الملائكة الا
يوم بدر (7).

(1) مغازي الواقدي 72.
(2) مغازي الواقدي 73.
(3) الواقدي: (ظفره الله).
(4) مغازي الواقدي 73.
(5) مغازي الواقدي 73.
(6) تدهده: تدحرج، وفي الواقدي (تدهدي).
(7) مغازي الواقدي 73.
161

قال: وحدثني ابن أبي حبيبة عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس،
قال: كان الملك يتصور في صورة من يعرفه المسلمون من الناس (1) ليثبتهم، فيقول
إني قد دنوت من المشركين، فسمعتهم يقولون لو حملونا علينا ما ثبتنا لهم، وليسوا بشئ،
فاحملوا عليهم، وذلك قول الله عز وجل (إذ يوحى ربك إلى الملائكة إني معكم
فثبتوا الذين آمنوا...) (2) الآية (3).
قال الواقدي: وحدثني موسى بن محمد، عن أبيه، قال: كان السائب بن أبي حبيش
الأسدي يحدث في زمن عمر بن الخطاب، فيقول والله ما أسرني يوم بدر أحد من
الناس، فيقال فمن فيقول لما انهزمت قريش انهزمت معها فيدركني رجل أبيض
طويل، على فرس أبلق بين السماء والأرض، فأوثقني رباطا وجاء عبد الرحمن بن
عوف فوجدني مربوطا، وكان عبد الرحمن ينادى في العسكر من أسر هذا فليس
أحد يزعم أنه أسرني، حتى انتهى بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي رسول
الله يا بن أبي حبيش، من أسرك قلت لا أعرفه، وكرهت أن أخبره بالذي رأيت،
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (أسره ملك من الملائكة كريم إذهب يا بن عوف
بأسيرك)، فذهب بي عبد الرحمن قال السائب: وما زالت تلك الكلمة أحفظها، وتأخر
إسلامي حتى كان من إسلامي ما كان (4).
قال الواقدي: وكان حكيم بن حزام، يقول لقد رأيتنا يوم بدر، وقد وقع بوادي
خلص بجاد من السماء قد سد الأفق - قال: ووادي خلص ناحية الرويثة - قال: فإذا
الوادي يسيل نملا، فوقع في نفسي أن هذا شئ من السماء أيد به محمد، فما كانت إلا
الهزيمة، وهي الملائكة (5).

(1) الواقدي: (من تعرفون من الناس).
(2) سورة الأنفال 12.
(3) مغازي الواقدي 73، 74.
(4) مغازي الواقدي 74.
(5) مغازي الواقدي 74، 75.
162

قال الواقدي: وقد قالوا إنه لما التحم القتال، ورسول الله صلى الله عليه وآله رافع
يديه يسأل الله النصر وما وعده، ويقول اللهم إن ظهرت على هذه العصابة، ظهر
الشرك، ولا يقوم لك دين، وأبو بكر يقول والله لينصرنك الله وليبيضن وجهك،
فأنزل الله تعالى ألفا من الملائكة مردفين عند أكتاف العدو، فقال رسول الله
صلى الله عليه وآله: (يا أبا بكر، أبشر هذا جبرائيل، معتجر بعمامة صفراء، آخذ بعنان
فرسه بين السماء والأرض)، ثم قال: إنه لما نزل الأرض تغيب عنى ساعة، ثم طلع على ثناياه
النقع، يقول أتاك النصر من الله إذ دعوته (1).
قال الواقدي: وحدثني موسى بن يعقوب، عن عمه، قال: سمعت أبا بكر بن
سليمان بن أبي خيثمة، يقول سمعت مروان بن الحكم يسأل حكيم بن حزام عن يوم بدر،
فجعل الشيخ يكره ذلك، حتى ألح عليه، فقال حكيم التقينا فاقتتلنا، فسمعت صوتا وقع
من السماء إلى الأرض مثل وقع الحصاة في الطست، وقبض النبي صلى الله عليه وآله القبضة،
فرمى بها فانهزمنا.
قال الواقدي: وقد روى عبد الله بن ثعلبه بن صغير، قال: سمعت نوفل بن معاوية
الدؤلي، يقول انهزمنا يوم بدر، ونحن نسمع كوقع الحصا في الطساس بين أيدينا ومن
خلفنا، فكان ذلك أشد الرعب علينا.
فأما الذين قالوا نزلت الملائكة ولم تقاتل، فذكر الزمخشري في كتابه في تفسير
القرآن المعروف بالكشاف إن قوما أنكروا قتال الملائكة يوم بدر، وقالوا
لو قاتل واحد من الملائكة جميع البشر لم يثبتوا له ولاستأصلهم بأجمعهم ببعض قوته،
فإن جبرائيل عليه السلام رفع مدائن قوم لوط - كما جاء في الخبر - على خافقة من جناحه،

(1) مغازي الواقدي 75، 76.
163

حتى بلغ بها إلى السماء، ثم قلبها فجعل عاليها سافلها، فما عسى أن يبلغ قوة ألف رجل
من قريش ليحتاج في مقاومتها وحربها إلى ألف ملك من ملائكة السماء مضافين إلى
ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا من بني آدم وجعل هؤلاء قوله تعالى: (فاضربوا فوق
الأعناق...) (1) أمرا للمسلمين لا أمرا للملائكة.
ورووا في نصرة قولهم روايات، قالوا وإنما كان نزول الملائكة ليكثروا سواد
المسلمين في أعين المشركين، فإنهم كانوا يرونهم في مبدأ الحال قليلين في أعينهم، كما قال
تعالى: (ويقللكم) (2) ليطمع المشركون فيهم ويجترءوا على حربهم، فلما نشبت الحرب
كثرهم الله تعالى بالملائكة في أعين المشركين ليفروا ولا يثبتوا. وأيضا فإن الملائكة
نزلت وتصورت بصور البشر الذين يعرفهم المسلمون، وقالوا لهم ما جرت العادة أن
يقال مثله من تثبيت القلوب يوم الحرب، نحو قولهم ليس المشركون بشئ، لا قوة
عندهم، لا قلوب لهم، لو حملتم عليهم لهزمتموهم... وأمثال ذلك.
ولقائل أن يقول إذا كان قادرا على أن يقلل ثلاثمائة إنسان في أعين قريش حتى
يظنوهم مائة، فهو قادر على أن يكثرهم في أعين قريش بعد التقاء حلقتي البطان، فيظنوهم
الفين وأكثر من غير حاجة إلى إنزال الملائكة.
فان قلت لعل في إنزالهم لطفا للمكلفين
قلت ولعل في محاربتهم لطفا للمكلفين، وأما أصحاب المعاني فإنهم لم يحملوا الكلام
على ظاهره، ولهم في تأويله قول ليس هذا موضع ذكره:

(1) سورة الأنفال 12.
(2) سورة الأنفال 44.
164

القول فيما جرى في الغنيمة
والأسارى بعد هزيمة قريش ورجوعها إلى مكة
قال الواقدي: لما تصاف المشركون والمسلمون، قال النبي صلى الله عليه وآله: (من
قتل قتيلا فله كذا وكذا، ومن أسر أسيرا فله كذا وكذا)، فلما انهزم المشركون كان
الناس ثلاث فرق، فرقة قامت عند خيمة رسول الله صلى الله عليه وآله - وكان أبو بكر
معه في الخيمة - وفرقة أغارت على النهب تنتهب، وفرقة طلبت العدو فأسروا وغنموا،
فتكلم سعد بن معاذ - وكان ممن أقام على خيمة رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال
يا رسول الله، ما منعنا أن نطلب العدو زهادة في الاجر، ولا جبن عن العدو، ولكنا خفنا
أن نعرى موضعك، فيميل عليك خيل من خيل المشركين ورجال من رجالهم، وقد أقام
عند خيمتك وجوه الناس من المهاجرين والأنصار، والناس كثير، ومتى تعط هؤلاء
لا يبقى لأصحابك شئ، والقتلى والأسرى كثير، والغنيمة قليلة، فاختلفوا فأنزل الله عز وجل
(يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول...) الآية، فرجع المسلمون، وليس لهم
من الغنيمة شئ ثم أنزل الله فيما بعد (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه
وللرسول...) (1) فقسمه عليهم بينهم.
قال الواقدي: وقد روى عبادة بن الوليد بن عبادة عن جده عبادة بن الصامت، قال:
سلمنا الأنفال يوم بدر لله وللرسول، ولم يخمس رسول الله صلى الله عليه وآله بدرا، ونزلت
بعد (واعلموا أنما غنمتم من شئ) فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وآله بالمسلمين

(1) سورة الأنفال 41.
165

الخمس فيما كان من أول غنيمة بعد بدر.
قال الواقدي: وقد روى عن أبي أسيد الساعدي مثله.
وروى عكرمة قال: اختلف الناس في الغنائم يوم بدر، فأمر رسول الله صلى الله
عليه وآله بالغنائم أن ترد في المقسم، فلم يبق منها شئ إلا رد. وظن أهل الشجاعة أنه
صلى الله عليه وآله يخصهم بها دون غيرهم من أهل الضعف، ثم أمر رسول الله صلى الله
عليه وآله أن تقسم بينهم على سواء، فقال سعد بن أبي وقاص يا رسول الله تعطى فارس
القوم الذي يحميهم مثل ما تعطى الضعيف فقال صلى الله عليه وآله: (ثكلتك أمك
وهل تنصرون إلا بضعفائكم).
قال الواقدي: فروى محمد بن سهل بن خيثمة، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه
وآله أن ترد الأسرى والأسلاب، وما أخذوا من المغنم، ثم أقرع بينهم في الأسرى،
وقسم أسلاب المقتولين الذين يعرف قاتلوهم بين قاتليهم، وقسم ما وجده في العسكر بين
جميع المسلمين عن فراق.
قال الواقدي: وحدثني عبد الحميد بن جعفر، قال: سألت موسى بن سعد بن زيد
بن ثابت كيف فعل النبي صلى الله عليه وآله يوم بدر في الأسرى والأسلاب والأنفال
فقال: نادى مناديه يومئذ من قتل قتيلا فله سلبه، ومن أسر أسيرا فهو له، وأمر بما
وجد في العسكر وما أخذ بغير قتال، فقسمه بينهم عن فراق فقلت لعبد الحميد فلمن
أعطى سلب أبى جهل فقال قد قيل إنه أعطاه معاذ بن عمرو بن الجموح، وقيل
أعطاه ابن مسعود.
قال: وأخذ علي عليه السلام درع الوليد بن عتبة وبيضته ومغفره، وأخذ
حمزة سلاح عتبة، وأخذ عبيدة بن الحارث سلاح شيبة، ثم صار إلى ورثته.
166

قال الواقدي: فكانت القسمة على
ثلاثمائة وسبعة عشر، سهما لان الرجال كانت ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، وكان معهم فرسان لهما أربعة أسهم، وقسم أيضا فوق ذلك
لثمانية أسهم، لم يحضروا، ضرب لهم بسهامهم، وأجورهم، ثلاثة من المهاجرين لا خلاف فيهم،
وهم عثمان بن عفان خلفه رسول الله صلى الله عليه وآله على ابنته رقية وماتت يوم
قدم زيد بن حارثة بالبشارة إلى المدينة، وطلحة بن عبيد الله و سعد بن زيد بن عمرو بن
نفيل، بعثهما رسول الله صلى الله عليه وآله يتجسسان خبر العير. وخمسة من الأنصار
هم أبو لبابة بن عبد المنذر، خلفه على المدينة وعاصم بن عدي، خلفه على قباء وأهل
العالية، والحارث بن حاطب أمره بأمر في بنى عمرو بن عوف، وخوات بن جبير كسر
بالروحاء، والحارث بن الصمة مثله، فلا اختلاف في هؤلاء واختلف في أربعة غيرهم،
فروى أنه ضرب لسعد بن عبادة بسهمه وأجره، وقال لئن لم يشهدها لقد كان فيها
راغبا، وذلك أنه كان يحض الناس على الخروج إلى بدر، فنهش فمنعه ذلك
من الخروج.
وروى أنه ضرب لسعد بن مالك الساعدي بسهمه وأجره، وكان تجهز إلى بدر،
فمرض بالمدينة فمات خلاف رسول الله صلى الله عليه وآله، وأوصى إليه عليه السلام.
وروى أنه ضرب لرجلين آخرين من الأنصار ولم يسمهما الواقدي وقال: هؤلاء
الأربعة غير مجمع عليهم كإجماعهم على الثمانية.
قال: وقد اختلف هل ضرب بسهم في الغنيمة لقتلى بدر فقال الأكثرون لم يضرب لهم،
وقال بعضهم: بل ضرب لهم، حدثني ابن أبي سبرة، عن يعقوب بن زيد، عن أبيه، أن
رسول الله صلى الله عليه وآله ضرب لشهداء بدر أربعة عشر رجلا. قال: وقد قال عبد الله
ابن سعد بن خيثمة: أخذنا سهم أبى الذي ضرب له رسول الله صلى الله عليه وآله حين
167

قسم الغنائم، وحمله إلينا عويمر بن ساعدة قال: وقد روى السائب بن أبي لبابة، أن
رسول الله صلى الله عليه وآله أسهم لمبشر بن عبد المنذر، قال: وقد قدم بسهمه علينا
معن بن عدي.
قال الواقدي: وكانت الإبل التي أصابوا يومئذ مائة وخمسين بعيرا، وكان معه أدم
كثير، حملوه للتجارة، فمنعه المسلمون يومئذ، وكان فيما أصابوا قطيفة حمراء، فقال بعضهم
ما لنا لا نرى القطيفة ما نرى رسول الله صلى الله عليه وآله إلا أخذها، فأنزل الله تعالى
(وما كان لنبي أن يغل) (1) وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله،
وقال: يا رسول الله، إن فلانا غل قطيفة، فسال رسول الله صلى الله عليه وآله الرجل،
فقال لم أفعل فقال الدال يا رسول الله، احفروا هاهنا فحفرنا فاستخرجت القطيفة،
فقال قائل يا رسول الله، استغفر لفلان مرتين، أو مرارا، فقال عليه السلام دعونا
من أبى حر.
قال الواقدي: وأصاب المسلمون من خيولهم عشرة أفراس، وكان جمل أبى جهل
فيما غنموه، فأخذه النبي صلى الله عليه وآله، فلم يزل عنده يضرب في إبله ويغزو عليه حتى
ساقه في هدى الحديبية، فسأله يومئذ المشركون الجمل بمائة بعير، فقال لولا إنا سميناه
في الهدى لفعلنا.
قال الواقدي: وكان لرسول الله صلى الله عليه وآله صفي (2) من الغنيمة قبل القسمة،
فتنفل سيفه ذا الفقار، يومئذ، كان لمنبه بن الحجاج. وكان رسول الله صلى الله عليه وآله
قد غزا إلى بدر بسيف وهبه له سعد بن عبادة يقال له العضب.
قال: وسمعت ابن أبي سبرة، يقول: سمعت صالح بن كيسان، يقول: خرج رسول

(1) سورة آل عمران 161.
(2) الصفي من الغنيمة: نصيب الرئيس.
168

الله صلى الله عليه وآله يوم بدر، وما معه سيف، وكان أول سيف قلده سيف منبه بن
الحجاج غنمه يوم بدر.
وقال البلاذري كان ذو الفقار للعاص بن منبه بن الحجاج، ويقال لمنبه، ويقال
لشيبة، والثبت عندنا إنه كان للعاص بن منبه.
قال الواقدي: وكان أبو أسيد الساعدي إذا ذكر الأرقم بن أبي الأرقم، يقول
ما يومى منه بواحد، فيقال ما هذا هو فيقول أمر رسول الله صلى الله عليه وآله
المسلمين أن يردوا يوم بدر ما في أيديهم من المغنم، فرددت سيف أبى عائذ المخزومي
- واسم السيف المرزبان، وكان له قيمة وقدر - وأنا أطمع أن يرد إلى، فكلم الأرقم رسول
الله صلى الله عليه وآله فيه - وكان رسول الله صلى الله عليه وآله لا يمنع شيئا يسأله - فأعطاه
السيف وخرج بنى له يفعة (1) فاحتمله الغول، فذهبت به متوركة ظهرا، فقيل لأبي
أسيد وكانت الغيلان في ذلك الزمان فقال نعم، ولكنها قد هلكت، فلقى بنى
الأرقم بن أبي الأرقم، فبهش (2) إليه باكيا مستجيرا به، فقال من أنت فأخبره، فقالت
الغول أنا حاضنته، فلها عنه والصبي يكذبها، فلم يعرج عليه حتى الساعة، فخرج من
داري فرس لي، فقطع رسنه، فلقيه الأرقم بالغابة فركبه، حتى إذا دنا من المدينة أفلت منه
فتعذر إلى أنه أفلت منى، فلم أقدر عليه حتى الساعة.
قال: وروى عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه
وآله يوم بدر سيف العاص بن منبه، فأعطاه قال: وأخذ عليه السلام مماليك حضروا
بدرا، ولم يسهم لهم وهم ثلاثة أعبد، غلام لحاطب بن أبي بلتعة، وغلام لعبد الرحمن

(1) غلام يفع ويفعة، إذا كان مترعرعا.
(2) بهش إليه: خف إليه.
169

ابن عوف، وغلام لسعد بن معاذ، واستعمل صلى الله عليه وآله شقران غلامه على الأسرى،
فأخذوا من كل أسير ما لو كان حرا ما أصابه في المقسم.
وروى عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، قال: رميت سهيل بن عمرو يوم بدر
فقطعت نساءه، فاتبعت أثر الدم حتى وجدته قد أخذه مالك بن الدخشم، وهو ممسك
بناصيته، فقلت أسيري رميته فقال أسيري أخذته فأتينا رسول الله
فاخذه منا جميعا، وأفلت سهل الروحاء، فصاح عليه السلام بالناس، فخرجوا في طلبه
فقال صلى الله عليه وآله من وجده فليقتله، فوجده هو صلى الله عليه وآله
فلم يقتله.
قال الواقدي: وأصاب أبو بردة بن نيار أسيرا من المشركين، يقال له معبد
بن وهب، من بنى سعد بن ليث فلقيه عمر بن الخطاب وكان عمر يحض على قتل
الأسرى، لا يرى أحدا في يديه أسيرا إلا أمر بقتله، وذلك قبل أن يتفرق الناس، فلقيه
معبد وهو أسير مع أبي بردة، فقال أترون يا عمر أنكم قد غلبتم كلا واللات والعزى
فقال عمر عباد الله المسلمين، أتتكلم وأنت أسير في أيدينا ثم أخذه من أبى بردة
فضرب عنقه - و يقال أن أبا بردة قتله.
قال الواقدي: وروى أبو بكر بن إسماعيل، عن أبيه، عن عامر بن سعد، قال:
قال النبي صلى الله عليه وآله يومئذ: (لا تخبروا سعدا بقتل أخيه، فيقتل كل أسير
في أيديكم).
قال الواقدي: ولما جئ بالأسرى كره ذلك سعد بن معاذ، فقال له رسول الله
صلى الله عليه وآله كأنه شق عليك أن يؤسروا قال: نعم يا رسول الله، كانت أول
170

وقعة التقينا فيها بالمشركين فأحببت أن يذلهم الله، وأن يثخن فيهم القتل.
قال الواقدي: وكان النضر بن الحارث أسره المقداد يومئذ، فلما خرج رسول الله
صلى الله عليه وآله من بدر، فكان الأثيل عرض عليه الأسرى، فنظر إلى النضر بن
الحارث فأبده البصر، فقال لرجل إلى جنبه محمد والله قاتلي لقد نظر إلى بعينين فيهما
الموت فقال الذي إلى جنبه والله ما هذا منك إلا رعب، فقال النضر لمصعب بن عمير
يا مصعب، أنت أقرب من هاهنا بي رحما، كلم صاحبك أن يجعلني كرجل من أصحابي، هو
والله قاتلي إن لم تفعل قال مصعب: إنك كنت تقول في كتاب الله كذا وكذا، وتقول
في نبيه كذا وكذا، قال: يا مصعب، فليجعلني كأحد أصحابي إن قتلوا قتلت، وإن من عليهم
من على قال مصعب: إنك كنت تعذب أصحابه، قال: أما والله لو أسرتك قريش ما قتلت
أبدا وأنا حي قال مصعب: والله إني لأراك صادقا، ولكن لست مثلك قطع
الاسلام العهود.
قال الواقدي: وعرضت الأسرى على رسول الله صلى الله عليه وآله، فرأى النضر
بن الحارث، فقال اضربوا عنقه، فقال المقداد أسيري يا رسول الله فقال اللهم اغن
المقداد من فضلك، قم يا علي فاضرب عنقه، فقام على فضرب عنقه بالسيف صبرا، وذلك
بالأثيل، فقالت أخته (1):
يا راكبا إن الأثيل مظنة * من صبح خامسة وأنت موفق (2)
بلغ به ميتا فإن تحية * ما إن تزال بها الركائب تخفق
منى إليه وعبرة مسفوحة * جادت لمائحها، وأخرى تخنق

(1) واسمها قتيلة، ذكرها التبريزي في الحماسة.
(2) الأبيات في ديوان الحماسة 3: 17 - بشرح التبريزي.
171

فليسمعن النضر أن ناديته * إن كان يسمع ميت أو ينطق
ظلت سيوف بنى أبيه تنوشه * لله أرحام هناك تمزق (1)
صبرا يقاد إلى المدينة راغما * رسف المقيد وهو عان موثق (2)
أمحمد ولأنت نجل نجيبة * في قومها، والفحل فحل معرق (3)
ما كان ضرك لو مننت وربما * من الفتى وهو المغيظ المحنق
والنضر أقرب من قتلت وسيلة * وأحقهم أن كان عتق يعتق
قال الواقدي: وروى أن النبي صلى الله عليه وآله لما وصل إليه شعرها رق له، وقال:
(لو كنت سمعت شعرها قبل أن أقتله لما قتلته).
قال الواقدي: ولما أسر سهيل بن عمرو، قال عمر بن الخطاب، يا رسول الله، أنزع
ثنيتيه يدلع لسانه، فلا يقوم عليك خطيبا أبدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (لا أمثل به فيمثل الله بي وإن كنت نبيا، ولعله يقوم مقاما لا تكرهه). فقام سهيل بن
عمرو بمكة حين جاءه وفاة النبي صلى الله عليه وآله بخطبة أبى بكر بالمدينة، كأنه كان
يسمعها، فقال عمر حين بلغه كلام سهيل أشهد أنك رسول الله - يريد قوله صلى الله
عليه وآله (لعله يقوم مقاما لا تكرهه).
قال الواقدي: وكان علي عليه السلام يحدث، فيقول أتى جبريل النبي صلى الله
عليه وآله يوم بدر، فخيره في الأسرى أن يضرب أعناقهم، أو يأخذ منهم الفداء،
ويستشهد من المسلمين في قابل عدتهم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله أصحابه، وقال:
هذا جبريل يخيركم في الأسرى، بين أن تضرب أعناقهم أو تؤخذ منهم الفدية ويستشهد

(1) الحماسة: (تشقق).
(2) لم يرد في رواية الحماسة.
(3) في الحماسة: (ضن كريم) قال في شرحه: (ضن نجيبة) أي ولدها. ومعرق: له عرق في
الكرم.
172

منكم قابلا عدتهم. قالوا بل نأخذ الفدية ونستعين بها، ويستشهد منا من يدخل الجنة،
فقبل منهم الفداء، وقتل من المسلمين قابلا عدتهم بأحد.
قلت لو كان هذا الحديث صحيحا لما عوتبوا، فقيل لهم (ما كان لنبي أن يكون
له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة) (1)،
ثم قال: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) (2)، لأنه
إذا كان خيرهم، فقد أباحهم اخذ الفداء، وأخبرهم إنه حسن، فلا يجوز فيما بعد أن ينكره
عليهم، ويقول إنه قبيح.
قال الواقدي: لما حبس الأسرى وجعل عليهم شقران مولى رسول الله صلى الله عليه
وآله طمعوا في الحياة، فقالوا لو بعثنا إلى أبى بكر فإنه أوصل قريش لأرحامنا فبعثوا
إلى أبى بكر، فأتاهم فقالوا يا أبا بكر، إن فينا الاباء والأبناء والاخوان، والعمومة وبنى
العم، وأبعدنا قريب، كلم صاحبك فليمن علينا ويفادنا، فقال نعم إن شاء الله،
لا آلوكم خيرا ثم انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وآله قالوا وابعثوا إلى عمر بن
الخطاب، فإنه من قد علمتم ولا يؤمن أن يفسد عليكم لعله يكف عنكم فأرسلوا إليه،
فجاءهم فقالوا له مثل ما قالوا لأبي بكر، فقال لا آلوكم شرا، ثم انصرف إلى النبي صلى الله
عليه وآله، فوجد أبا بكر عنده، والناس حوله، وأبو بكر يلينه ويغشاه، ويقول
يا رسول الله، بأبي أنت وأمي قومك فيهم الاباء والأبناء والعمومة والاخوان وبنو العم،
وأبعدهم عنك قريب فامنن عليهم، من الله عليك، أو فادهم قوة للمسلمين، فلعل الله
يقبل بقلوبهم إليك ثم قام فتنحى ناحية، وسكت رسول الله صلى الله عليه وآله فلم
يجبه، فجاء عمر فجلس مجلس أبى بكر، فقال يا رسول الله، هم أعداء الله، كذبوك

(1) سورة الأنفال 67.
(2) سورة الأنفال 68.
173

وقاتلوك وأخرجوك، اضرب رقابهم، فهم رؤوس الكفر وأئمة الضلالة، يوطئ الله بهم
الاسلام، ويذل بهم الشرك فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يجبه، وعاد
أبو بكر إلى مقعده الأول، فقال بأبي أنت وأمي قومك فيهم الاباء والأبناء والعمومة
والاخوان وبنو العم، وأبعدهم منك قريب فامنن عليهم أو فادهم هم عشيرتك وقومك
لا تكن أول من يستأصلهم، وإن يهديهم الله خير من أن يهلكهم فسكت صلى الله
عليه وآله عنه فلم يرد عليه شيئا، وقام ناحية فقام عمر فجلس مجلسه، فقال يا رسول الله،
ما تنتظر بهم اضرب أعناقهم، يوطئ الله بهم الاسلام، ويذل أهل الشرك، هم أعداء
الله، كذبوك وأخرجوك يا رسول الله، اشف صدور المؤمنين، لو قدروا منا على مثل
هذا ما أقالونا أبدا فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله فلم يجبه، فقام ناحية، فجلس
وعاد أبو بكر، فكلمه مثل كلامه الأول فلم يجبه، ثم تنحى، فجاء عمر فكلمه بمثل كلامه
الأول فلم يجبه، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وآله، فدخل قبته، فمكث فيها ساعة،
ثم خرج، والناس يخوضون في شأنهم، يقول بعضهم: القول ما قال أبو بكر، وآخرون
يقولون: القول ما قال عمر فلما خرج قال للناس: ما تقولون في صاحبيكم هذين دعوهما
فان لهما مثلا، مثل أبى بكر في الملائكة كميكائيل ينزل برضا الله وعفوه على عباده،
ومثله في الأنبياء كمثل إبراهيم كان ألين على قومه من العسل، أوقد له قومه النار فطرحوه
فيها، فما زاد على أن قال: (أف لكم ولما تعبدون من دون الله أ فلا تعقلون) (1)
وقال: (فمن تبعني فإنه منى ومن عصاني فإنك غفور رحيم) (2) وكعيسى إذ يقول:
(إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) (3). ومثل
عمر في الملائكة كمثل جبريل ينزل بالسخط من الله والنقمة على أعداء الله، ومثله في
الأنبياء كمثل نوح، كان أشد على قومه من الحجارة، إذ يقول: (رب لا تذر على

(1) سورة الأنبياء 67.
(2) سورة إبراهيم 14.
(3) سورة المائدة 118.
174

الأرض من الكافرين ديارا) (1) فدعا عليهم دعوة أغرق الله بها الأرض جميعا،
ومثل موسى إذ يقول (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى
يروا العذاب الأليم) (2) وإن بكم عيلة، فلا يفوتنكم رجل من هؤلاء إلا بفداء
أو ضربة عنق. فقال عبد الله بن مسعود يا رسول الله، الا سهيل بن بيضاء.
قال الواقدي: هكذا روى ابن أبي حبيبة، وهذا وهم، سهيل بن بيضاء مسلم من
مهاجرة الحبشة، وشهد بدرا، وإنما هو أخ له. ويقال له سهيل قال، قال عبد الله بن
مسعود: فإني رأيته يظهر الاسلام بمكة - قال: فسكت النبي صلى الله عليه وآله، قال
عبد الله: فما مرت على ساعة قط كانت أشد على من تلك الساعة، جعلت أنظر إلى
السماء أتخوف أن تسقط على الحجارة لتقدمي بين يدي الله ورسوله بالكلام، فرفع رسول
الله صلى الله عليه وآله رأسه، فقال: (إلا سهيل بن بيضاء) قال: فما مرت على ساعة
أقر لعيني منها، إذ قالها رسول الله صلى الله عليه وآله ثم قال: (إن الله عز وجل ليشدد
القلب حتى يكون أشد من الحجارة، وإنه ليلين القلب حتى يكون ألين من الزبد)،
فقبل الفداء ثم قال بعد: (لو نزل عذاب يوم بدر لما نجا منه إلا عمر) كان يقول اقتل
ولا تأخذ الفداء وكان سعد بن معاذ يقول: اقتل ولا تأخذ الفداء.
قلت عندي في هذا كلام، أما في أصل الحديث فلان فيه أن رسول الله صلى الله
عليه وآله قال، ومثله كعيسى إذ قال: (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم
فإنك أنت العزيز الحكيم)، وهذه الآية من المائدة والمائدة أنزلت في آخر عمره،
ولم ينزل بعدها إلا سورة براءة، وبدر كانت في السنة الثانية من الهجرة، فكيف هذا
اللهم إلا أن يكون قوله تعالى: (وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس
اتخذوني وأمي الهين...) الآيات، قد كانت أنزلت إما بمكة أو بالمدينة قبل بدر،

(1) سورة نوح 26.
(2) سورة يونس 88.
175

فلما جمع عثمان القرآن ضمها إلى سورة المائدة، فلعله قد كان ذلك فينبغي أن ننظر في هذا،
فهو مشكل.
وأما حديث سهيل بن بيضاء فإنه يوهم مذهب موسى بن عمران في أن النبي صلى
الله عليه وآله كان يحكم في الوقائع بما يشاء، لأنه قيل له أحكم بما تشاء، فإنك لا تحكم
إلا بالحق، وهو مذهب متروك إلا إنه يمكن أن يقال: لعله لما سكت صلى الله عليه وآله
عندما قال ابن مسعود ذلك القول، نزل عليه في تلك السكتة الوحي وقيل له إلا سهيل
بن بيضاء، فقال حينئذ (إلا سهيل بن بيضاء)، كما أوحى إليه.
وأما الحديث الذي فيه (لو نزل عذاب لما نجا منه إلا عمر)، فالواقدي وغيره
من المحدثين اتفقوا على أن سعد بن معاذ كان يقول مثل ما قاله عمر، بل هو المبتدئ
بذلك الرأي، ورسول الله صلى الله عليه وآله بعد في العريش، والمشركون لم ينفض
جمعهم كل ذلك الانفضاض، فكيف خص عمر بالنجاة وحده دون سعد ويمكن
أن يقال إنه كان شديد التأليب والتحريض عليهم، وكثير الالحاح على رسول الله
صلى الله عليه وآله في أمرهم، فنسب ذلك الرأي إليه لاشتهاره به، وإن شركه
فيه غيره.
قال الواقدي: وحدثني معمر عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه،
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله يوم بدر: (لو كان مطعم بن عدي حيا لوهبت له
هؤلاء النتنى) (1). قال: وكانت لمطعم بن عدي عند النبي صلى الله عليه وآله يد أجاره
حين رجع من الطائف.

(1) قال ابن الأثير في النهاية 4: 124: (يعني أسارى بدر، واحدهم نتن، كزمن وزمني، سماهم
نتن لكفرهم، كقوله تعالى (إنما المشركون نجس).
176

قال الواقدي: وحدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، قال:
امن رسول الله صلى الله عليه وآله من الأسرى يوم بدر أبا عزة عمرو بن عبد الله بن
عمير الجمحي - وكان شاعرا - فأعتقه رسول الله صلى الله عليه وآله، وقال له: إن لي خمس
بنات، ليس لهن شئ، فتصدق بي عليهم يا محمد، ففعل رسول الله صلى الله عليه وآله
ذلك وقال أبو عزة: أعطيك موثقا إلا أقاتلك، ولا أكثر عليك أبدا فأرسله رسول الله
صلى الله عليه وآله، فلما خرجت قريش إلى أحد، جاء صفوان بن أمية، فقال اخرج
معنا قال: إني قد أعطيت محمدا موثقا ألا أقاتله، ولا أكثر عليه أبدا. وقد من على
ولم يمن على غيري حتى قتله أو أخذ منه الفداء. فضمن له صفوان أن يجعل بناته مع بناته
إن قتل، وإن عاش أعطاه مالا كثيرا لا يأكله عياله. فخرج أبو عزة يدعو العرب
ويحشرها، ثم خرج مع قريش يوم أحد، فأسر ولم يؤسر غيره من قريش، فقال
يا محمد إنما خرجت كرها ولى بنات، فامنن على فقال رسول الله
(أين ما أعطيتني من العهد والميثاق لا والله لا تمسح عارضيك بمكة تقول سخرت
بمحمد مرتين) (1). فقتله.
قال: وروى سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال يومئذ: (إن
المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، يا عاصم بن ثابت، قدمه فاضرب عنقه)، فقدمه عاصم
فضرب عنقه.
قال الواقدي: وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله يوم بدر بالقلب (2) أن تغور ثم
أمر بالقتلى، فطرحوا فيها كلهم إلا أمية بن خلف فإنه كان مسمنا (3) انتفخ من يومه. فلما
أرادوا أن يلقوه تزايل لحمه، فقال النبي صلى الله عليه وآله أتركوه (4).

(1) مغازي الواقدي 105.
(2) تغور: تملأ بالتراب.
(3) المسمن: السمين خلقة.
(4) مغازي الواقدي 106.
177

وقال ابن إسحاق: انتفخ أمية بن خلف في درعه حتى ملأها، فلما ذهبوا يحركونه
تزايل، فأقروه وألقوا عليه التراب والحجارة ما غيبه (1).
قال الواقدي: ونظر رسول الله صلى الله عليه وآله إلى عتبة بن ربيعة يجر إلى القليب -
وكان رجلا جسيما، وفي وجهه أثر الجدري - فتغير وجه ابنه أبى حذيفة بن عتبة، فقال له
النبي صلى الله عليه وآله: ما لك كأنك ساءك (2) ما أصاب أباك قال: لا والله يا رسول الله،
ولكني رأيت لأبي عقلا وشرفا، كنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الاسلام، فلما أخطأه
ذلك، ورأيت ما أصابه غاظني. فقال أبو بكر كان والله يا رسول الله أبقى في العشيرة من
غيره، ولقد كان كارها لوجهه، ولكن الحين ومصارع السوء فقال رسول الله صلى الله
عليه وآله (الحمد لله الذي جعل خد أبى جهل الأسفل وصرعه وشفانا منه) فلما توافوا في
القليب وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله يطوف عليهم وهم مصرعون، جعل أبو بكر
يخبره بهم رجلا رجلا، ورسول الله صلى الله عليه وآله يحمد الله ويشكره ويقول الحمد لله الذي
أنجز لي ما وعدني فقد وعدني إحدى الطائفتين، ثم وقف على أهل القليب فناداهم رجلا
رجلا (يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا أمية بن خلف، ويا أبا جهل بن هشام
هل وجدتم ما وعد ربكم حقا فإني وجدت ما وعدني ربى حقا بئس القوم كنتم لنبيكم
كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس،
فقالوا يا رسول الله، أ تنادى قوما قد ماتوا فقال (لقد علموا أن ما وعدهم ربهم حق) (3).
وقال ابن إسحاق في كتاب المغازي: أن عائشة كانت تروى هذا الخبر، وتقول
فالناس يقولون إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لقد سمعوا ما قلت لهم)،
وليس كذلك، إنما قال: (لقد علموا أن ما وعدهم ربهم حق (4)).

(1) سيرة ابن هشام 2: 279.
(2) ابن هشام: (قد دخلك من أمر أبيك شئ).
(3) مغازي الواقدي 106، وسيرة ابن هشام 2: 282.
(4) سيرة ابن هشام 2: 280.
178

قال محمد بن إسحاق: وحدثني حميد الطويل، عن أنس بن مالك، قال: لما ناداهم
رسول الله صلى الله عليه وآله قال له المسلمون: يا رسول الله، أتنادي قوما قد أنتنوا فقال:
(ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني).
قلت لقائل أن يقول لعائشة: إذا جاز أن يعلموا وهم
موتى، جاز أن يسمعوا وهم موتى، فإن قالت ما أخبرت أن يعلموا وهم موتى، و لكن تعود الأرواح إلى أبدانهم،
وهي في القليب، ويرون العذاب، فيعلمون أن ما وعدهم به الرسول حق قيل لها ولا
مانع من أن تعود الأرواح إلى أبدانهم وهي في القليب، فيسمعوا صوت رسول الله صلى
الله عليه وآله، فإذن لا وجه لانكارها ما يقوله الناس.
ويمكن أن ينتصر لقول عائشة على وجه حكمي، وهو أن الأنفس بعد المفارقة تعلم
ولا تسمع، لان الاحساس إنما يكون بواسطة الآلة، وبعد الموت تفسد الآلة، فأما
العلم فإنه لا يحتاج إلى الآلة، لان النفس تعلم بجوهرها فقط.
قال الواقدي: وكان انهزام قريش وتوليها حين زالت الشمس، فأقام رسول الله
صلى الله عليه وآله ببدر، وأمر عبد الله بن كعب بقبض الغنائم وحملها وأمر نفرا من
أصحابه أن يعينوه، فصلى العصر ببدر ثم راح فمر بالأثيل قبل غروب الشمس فنزل به،
وبات به وبأصحابه جراح، وليست بالكثيرة، وقال من رجل يحفظنا الليلة فأسكت
القوم، فقام رجل فقال: من أنت قال: ذكوان بن عبد قيس، قال: إجلس، ثم
أعاد القول الثانية، فقام رجل، فقال: من أنت قال: ابن عبد القيس، فقال: إجلس،
ثم مكث ساعة وأعاد القول، فقام رجل فقال: من أنت قال: أبو سبع (2)، فسكت.

(1) سيرة ابن هشام 2: 280.
(2) في الأصول: (سبيع)، وصوابه ما في الواقدي، وانظر ما في الاستيعاب.
179

ثم مكث ساعة، وقال: قوموا ثلاثتكم فقام ذكوان بن عبد قيس وحده، فقال له:
وأين صاحباك قال: يا رسول الله أنا الذي كنت أجيبك الليلة، فقال رسول الله صلى
الله عليه وآله: فحفظك الله فبات ذكوان يحرس المسلمين تلك الليلة، حتى كان آخر
الليل فارتحل (1).
قال الواقدي: وروى أن رسول الله صلى الله عليه وآله صلى العصر بالأثيل، فلما
صلى ركعة تبسم، فلما سلم سئل عن تبسمه فقال مر بي ميكائيل وعلى جناحه النقع، فتبسم
إلى، وقال إني كنت في طلب القوم، وأتاني جبريل على فرس أنثى معقود الناصية،
قد عم ثنيتيه الغبار فقال يا محمد إن ربى بعثني إليك، وأمرني ألا أفارقك حتى
ترضى، فهل رضيت فقلت نعم (2).
قال الواقدي: وأقبل رسول الله صلى الله عليه وآله بالأسرى، حتى إذا كان بعرق
الظبية أمر عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح أن يضرب عنق عقبة بن أبي معيط بن أبي
عمرو بن أمية بن عبد شمس، وكان أسره عبد الله بن سلمه العجلاني، فجعل عقبة يقول
يا ويلي علا م أقتل يا معشر قريش من بين من هاهنا فقال رسول الله صلى الله عليه
وآله: لعداوتك لله و لرسوله، فقال: يا محمد، منك أفضل، فاجعلني كرجل من قومي إن قتلتهم
قتلتني، وإن مننت عليهم مننت على، وإن أخذت منهم الفداء كنت كأحدهم، يا محمد
من للصبية فقال: النار، قدمه يا عاصم، فاضرب عنقه، فقدمه عاصم فضرب عنقه،
فقال النبي صلى الله عليه وآله: بئس الرجل كنت والله ما علمت كافرا بالله وبرسوله،
وبكتابه مؤذيا لنبيه، فاحمد الله الذي قتلك وأقر عيني منك (3).
قال محمد بن إسحاق: وروى عكرمة مولى ابن عباس، عن أبي رافع، قال: كنت
غلاما للعباس بن عبد المطلب، وكان الاسلام قد فشا فينا أهل البيت، فأسلم العباس،

(1) مغازي الواقدي 107.
(2) مغازي الواقدي 107.
(3) مغازي الواقدي 107، 108.
180

وأسلمت أم الفضل زوجته، وكان العباس يهاب قومه ويكره خلافهم، فكان يكتم
إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه، وكان عدو الله أبو لهب قد تخلف عن
بدر، وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة، وكذلك كانوا صنعوا، لم يتخلف رجل
إلا بعث مكانه رجلا، فلما جاء الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش، كبته (1) الله
وأخزاه ووجدنا في أنفسنا قوة وعزا.
قال: وكنت رجلا ضعيفا، وكنت أعمل القداح (2)، أنحتها في حجرة زمزم، فوالله
إني لجالس أنحت قداحي، وعندي أم الفضل جالسة، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر، إذ
إقبل الفاسق أبو لهب يجر رجليه بشر، حتى جلس إلى طنب (3) الحجرة، فكان ظهره
إلى ظهري، فبينا هو جالس إذ قال للناس، هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد
قدم - وكان شهد مع المشركين بدرا - فقال أبو لهب: هلم يا بن أخي فعندك والله الخبر،
قال: فجلس إليه والناس قيام حوله، فقال: يا بن أخي، أخبرني كيف كان أمر الناس
قال: لا شئ، والله إن هو إلا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا، فقتلونا كيف شاؤوا، وأسرونا
كيف شاؤوا، وأيم الله مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء
والأرض. لا والله ما تبقى (4) شيئا، ولا يقوم لها شئ. قال أبو رافع: فرفعت طنب
الحجرة، ثم قلت تلك والله الملائكة، قال: (5 فرفع أبو لهب يده، فضرب بي الأرض
ثم برك على يضربني 5)، وكنت رجلا ضعيفا، فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد
الحجرة، فأخذته فضربته على (6) رأسه، فشجته شجة منكرة، وقالت استضعفته إذ غاب

(1) كبته الله: ذله وأخزاه.
(2) ابن هشام: الأقداح.
(3) طنب الحجرة: طرفها.
(4) ابن هشام: (ما تلين شيئا)، أي ما تبقي شيئا.
(5 - 5) العبارة في ابن هشام: (فرفع أبو لهب يده، فضرب بها وجهي ضربة شديدة، قال:
وثاورته، فاحتملني فضرب بي الأرض، ثم برك على يضربني). أي وثبت إليه.
(6) ابن هشام: (فضربته به ضربة قلعت في رأسه شجة منكرة)، وقلعت، اي شقت.
181

سيده، فقام موليا ذليلا، فوالله ما عاش إلا سبع ليال، حتى رماه الله بالعدسة (1)
فقتلته (2).
ولقد تركه ابناه ليلتين أو ثلاثا وما يدفنانه، حتى أنتن في بيته - وكانت قريش تتقى
العدسة وعدواها، كما يتقى الناس الطاعون - حتى قال لهما رجل من قريش: ويحكما
ألا تستحيان أن أباكما قد أنتن في بيته لا تغيبانه قالا إنا نخشى هذه القرحة، قال:
فانطلقا وأنا معكما، فوالله ما غسلوه إلا قذفا عليه بالماء من بعيد، ما يمسونه، وأخرجوه
فألقوه بأعلى مكة إلى كنان هناك، وقذفوا عليه بالحجارة حتى واروه.
قال محمد بن إسحاق: فحضر العباس بدرا، فأسر فيمن أسر، وكان الذي أسره
أبو اليسر كعب بن عمرو أحد بنى سلمة، فلما أمسى القوم والأسارى محبوسون في الوثاق،
وبات رسول الله صلى الله عليه وآله تلك الليلة ساهرا، فقال له أصحابه ما لك لا تنام يا رسول
الله قال: (سمعت أنين العباس من وثاقه)، فقاموا إليه فأطلقوه، فنام رسول الله صلى
الله عليه وآله (3).
قال: وروى ابن عباس رحمه الله، قال: كان أبو اليسر رجلا مجموعا، وكان العباس
طويلا جسيما، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا أبا اليسر، كيف أسرت العباس قال:
يا رسول الله، لقد أعانني عليه رجل ما رأيته من قبل، من هيئته كذا، قال صلى الله عليه
وآله: (لقد أعانك عليه ملك كريم).
قال محمد بن إسحاق: قد كان رسول الله صلى الله عليه وآله في أول الوقعة، فنهى أن يقتل
أحد من بني هاشم، قال: حدثني بذلك الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة حليف بنى زهرة، قال:
وحدثني العباس بن عبد الله بن معبد بن العباس، عن بعض أهله، عن عبد الله بن عباس رحمه الله،

(1) العدسة، قال أبو ذر: (هي قرحة قاتلة كالطاعون، وقد عدس الرجل، إذا أصابه ذلك).
(2) الخبر إلى هنا في سيرة ابن هشام 2:، 289، 291.
(3) تاريخ الطبري 2: 462 (طبعة المعارف)، والأغاني 4: 205، 206 (طبعة دار الكتب).
182

قال: وقال النبي صلى الله عليه وآله لأصحابه: إني قد عرفت أن رجالا من بني هاشم
وغيرهم قد أخرجوا كرها، لا حاجة لنا بقتلهم، فمن لقى منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله
ومن لقى أبا البختري فلا يقتله، ومن لقى العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله
عليه وآله فلا يقتله، فإنه إنما خرج مستكرها، فقال أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة
أنقتل آباءنا وإخواننا وعشائرنا ونترك العباس والله لئن لقيته لألحمنه (1) السيف،
فسمعها رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال لعمر بن الخطاب يا أبا حفص يقول عمر
والله إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله صلى الله عليه وآله بأبي حفص - أيضرب وجه
عم رسول الله صلى الله عليه وآله بالسيف فقال عمر يا رسول الله، دعني أضرب عنقه
بالسيف، فوالله لقد نافق، قال: فكان أبو حذيفة يقول: والله ما أنا بأمن من تلك
الكلمة التي قلت يومئذ، ولا أزال منها خائفا أبدا إلا أن يكفرها الله عنى بشهادة، فقتل
يوم اليمامة شهيدا (2).
قال محمد بن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله لما استشار أبا بكر وعمر
وسعد بن معاذ في أمر الأسارى، غلظ عمر عليهم غلظة شديدة، فقال يا رسول الله
أطعني فيما أشير به عليك، فإني لا آلوك نصحا، قدم عمك العباس فاضرب عنقه بيدك،
وقدم عقيلا إلى علي أخيه يضرب عنقه، وقدم كل أسير منهم إلى أقرب الناس إليه يقتله،
قال: فكره رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك ولم يعجبه.
قال محمد بن إسحاق: فلما قدم بالأسرى إلى المدينة قال رسول الله صلى الله عليه وآله:

(1) لألحمنه، اي لأطعنن لحمه بالسيف، ولأخالطنه، وقال ابن هشام: لألحمنه بالسيف، اي لأضربنه
به في وجهه).
(2) تاريخ الطبري 2: 450 طبعة المعارف، وسيرة ابن هشام.
183

افد نفسك يا عباس وابني أخويك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب
وحليفك عقبة بن عمرو، فإنك ذو مال فقال العباس يا رسول الله، إني كنت مسلما،
ولكن القوم استكرهوني، فقال صلى الله عليه وآله الله أعلم بإسلامك، إن يكن
ما قلت حقا فإن الله يجزيك به، وأما ظاهر أمرك فقد كان علينا، فافتد نفسك وقد
كان رسول الله صلى الله عليه وآله اخذ منه عشرين أوقية من ذهب أصابها معه حين
أسر، فقال العباس يا رسول الله احسبها لي من فدائي، فقال صلى الله عليه وآله ذاك
شئ أعطانا الله منك، فقال: يا رسول الله، فإنه ليس لي مال، قال: فأين المال الذي
وضعته بمكة حين خرجت عند أم الفضل بنت الحارث، وليس معكما أحد ثم قلت:
إن أصبت في سفري هذا فللفضل كذا وكذا، ولعبد الله كذا وكذا، ولقثم كذا وكذا
فقال العباس والذي بعثك بالحق يا رسول الله، ما علم بهذا أحد غيري وغيرها، وإني
لأعلم إنك رسول الله، ثم فدى نفسه وابني أخويه وحليفه.
قال الواقدي: قدم رسول الله صلى الله عليه وآله من الأثيل زيد بن حارثة وعبد الله
بن رواحة يبشران الناس بالمدينة فجاء يوم الأحد في الضحى، وفارق عبد الله زيدا
بالعقيق، فجعل عبد الله ينادى عوالي المدينة يا معشر الأنصار، أبشروا بسلامة رسول الله
وقتل المشركين وأسرهم، قتل ابنا ربيعة، وابنا الحجاج، وأبو جهل، وزمعة بن الأسود،
وأمية بن خلف، وأسر سهيل بن عمرو ذو الأنياب، في أسرى كثير قال عاصم بن عدي:
فقمت إليه فنحوته، فقلت أحقا ما تقول يا بن رواحة قال: أي والله، وغدا يقدم
رسول الله إن شاء الله، ومعه الأسرى مقرنين، ثم تتبع دور الأنصار بالعالية يبشرهم،
دارا دارا، والصبيان يشتدون معه، ويقولون قتل أبو جهل الفاسق، حتى انتهوا إلى
184

دور بنى أمية بن زيد، وقدم زيد بن حارثة على ناقة النبي صلى الله عليه وآله القصواء
، يبشر أهل المدينة، فلما جاء المصلى صاح على راحلته قتل عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وابنا
الحجاج وأبو جهل، وأبو البختري وزمعة بن الأسود وأمية بن خلف، وأسر سهيل بن
عمرو ذو الأنياب في أسرى كثيرة، فجعل الناس لا يصدقون زيد بن حارثة، ويقولون
ما جاء زيد إلا فلا، حتى غاظ المسلمين ذلك، وخافوا، قال: وكان قدوم زيد حين سووا
على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وآله التراب بالبقيع، فقال رجل من المنافقين
لأسامة بن زيد: قتل صاحبكم ومن معه، وقال رجل من المنافقين لأبي لبابة بن عبد المنذر:
قد تفرق أصحابكم تفرقا لا يجتمعون معه أبدا، وقد قتل عليه أصحابكم، وقتل محمد، وهذه
ناقته نعرفها، وهذا زيد بن حارثة لا يدرى ما يقول من الرعب، وقد جاء فلا، فقال
أبو لبابة كذب الله قولك، وقالت يهود ما جاء زيد إلا فلا قال أسامة بن زيد:
فجئت حتى خلوت بأبي، فقلت: يا أبت أحق ما تقول فقال: أي والله حقا يا بنى،
فقويت نفسي، فرجعت إلى ذلك المنافق، فقلت: أنت المرجف برسول الله وبالمسلمين
لنقدمنك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله إذا قدم، فليضربن عنقك، فقال
يا أبا محمد، إنما هو شئ سمعت الناس يقولونه.
قال الواقدي: فقدم بالأسرى وعليهم شقران وهم تسعة وأربعون رجلا الذين
أحصوا، وهم سبعون في الأصل، مجمع عليه لا شك فيه، إلا أنهم لم يحص سائرهم، ولقى الناس
رسول الله صلى الله عليه وآله بالروحاء يهنئونه بفتح الله عليه، فلقيه وجوه الخزرج،
فقال سلمة بن سلامة بن وقش ما الذي تهنئونه فوالله ما قتلنا إلا عجائز صلعا فتبسم النبي
صلى الله عليه وآله فقال يا بن أخي، أولئك الملا، لو رأيتهم لهبتهم، ولو أمروك لأطعتهم،
ولو رأيت فعالك مع فعالهم لاحتقرتها وبئس القوم كانوا على ذلك لنبيهم فقال سلمة
أعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله، إنك يا رسول الله لم تزل عنى معرضا منذ كنا بالروحاء
185

في بدأتنا، فقال صلى الله عليه وآله اما قلت للأعرابي وقعت على ناقتك فهي
حبلى منك، ففحشت وقلت ما لا علم لك به، وأما ما قلت في القوم، فإنك عمدت
إلى نعمة من نعم الله تزهدها، فقبل رسول الله صلى الله عليه وآله معذرته، وكان من
علية أصحابه.
قال الواقدي: فروى الزهري، قال: لقى أبو هند البياضي مولى فروة بن عمرو رسول
الله صلى الله عليه وآله ومعه حميت مملوء حيسا (1) أهداه له، فقال رسول الله صلى الله
عليه وآله: (إنما أبو هند رجل من الأنصار فأنكحوه، وأنكحوا إليه).
قال الواقدي: ولقيه أسيد بن حضير، فقال يا رسول الله، الحمد لله الذي ظفرك
وأقر عينك، والله يا رسول الله، ما كان تخلفي عن بدر وأنا أظن بك إنك تلقى عدوا،
ولكني ظننت أنها العير، ولو ظننت أنه عدو لما تخلفت، فقال رسول الله صدقت.
قال: ولقيه عبد الله بن قيس بتربان (2)، فقال يا رسول الله الحمد لله على سلامتك
وظفرك، كنت يا رسول الله ليالي خرجت مورودا - أي محموما - فلم تفارقني حتى كان
بالأمس، فأقبلت إليك، فقال آجرك الله.
قال الواقدي: وكان سهيل بن عمرو لما كان بتنوكة بين السقيا وملل، كان مع مالك
بن الدخشم الذي أسره، فقال له خل سبيلي للغائط، فقام معه، فقال سهيل إني
احتشم فاستأخر عنى، فاستأخر عنه فمضى سهيل على وجهه، انتزع يده من القران،
ومضى، فلما أبطأ سهيل على مالك بن الدخشم، أقبل فصاح في الناس، فخرجوا في طلبه،
وخرج النبي صلى الله عليه وآله في طلبه بنفسه، وقال: من وجده فليقتله، فوجده رسول الله

(1) الحميت: الزق يجعل فيه السمن والعسل والزيت. والحيس: تمر يخلط بسمن وأقط فيعجن ويدلك
شديدا حتى يمتزج، ثم يندر نواه، وقد يجعل فيه سويق.
(2) تربان، بالضم، ذكره ياقوت، وقال: (واد فيه مياه كثيرة، نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم
وسلم في غزوة بدر.
186

صلى الله عليه وآله بنفسه أخفى نفسه بين شجرات، فأمر به فربطت يداه إلى عنقه، ثم
قرنه إلى راحلته، فلم يركب سهيل خطوة حتى قدم المدينة (1).
قال الواقدي: فحدثني إسحاق بن حازم بن عبد الله بن مقسم، عن جابر بن عبد الله
الأنصاري، قال: لقى رسول الله صلى الله عليه وآله أسامة بن زيد، ورسول الله صلى الله
عليه وآله على ناقته القصوى، فأجلسه بين يديه وسهيل بن عمرو مجبوب، ويداه إلى
عنقه، فلما نظر إلى سهيل قالوا: يا رسول الله، أبو يزيد قال: نعم، هذا الذي كان يطعم
الخبز بمكة.
وقال البلاذري: قال أسامة - وهو يومئذ غلام -: يا رسول الله، هذا الذي كان يطعم
الناس بمكة السريد - يعنى الثريد (2).
قلت هذه لثغة مقلوبة، لان الألثغ يبدل السين ثاء، وهذا أبدل الثاء سينا، ومن
الناس من يرويها (هذا الذي كان يطعم الناس بمكة الشريد) بالشين المعجمة.
قال البلاذري: وحدثني مصعب بن عبد الله الزبيري، عن أشياخه أن أسامة رأى
سهيلا يومئذ، فقال: يا رسول الله هذا الذي كان يطعم السريد بمكة، فقال رسول الله
صلى الله عليه وآله: (هذا أبو يزيد الذي يطعم الطعام، ولكنه سعى في إطفاء نور الله،
فأمكن الله منه).
قال: وفيه يقول أمية بن أبي الصلت الثقفي:
يا با يزيد رأيت سيبك واسعا * وسماء جودك تستهل فتمطر.

(1) أنساب الأشراف 1: 303 (طبعة المعارف).
(2) أنساب الأشراف 1: 304.
187

قال: وفيه يقول مالك بن الدخشم (1)، وهو الذي أسره يوم بدر
أسرت سهيلا فلا أبتغي * به غيره من جميع الأمم
وخندف تعلم أن الفتى * سهيلا فتاها إذا تظلم
ضربت بذي الشفر حتى انثنى * وأكرهت نفسي على ذي العلم
أي على ذي العلم بسكون اللام، ولكنه حركه للضرورة.
وكان سهيل أعلم مشقوق الشفة العليا، فكانت أنيابه، بادية، فلذلك قالوا
ذو الأنياب.
قال الواقدي: ولما قدم بالأسرى كانت سودة بنت زمعة زوجة النبي صلى الله عليه
وآله عند آل عفراء في مناحتهم على عوف ومعوذ، وذلك قبل أن يضرب الحجاب،
قالت سودة فأتينا فقيل لنا هؤلاء الأسرى قد أتى بهم، فخرجت إلى بيتي ورسول الله
صلى الله عليه وآله فيه، وإذا أبو يزيد مجموعة يداه إلى عنقه في ناحية البيت، فوالله
ما ملكت نفسي حين رأيته مجموعة يداه إلى عنقه أن قلت أبا يزيد، أعطيتم بأيديكم
إلا متم كراما فوالله ما راعني إلا قول رسول الله صلى الله عليه وآله من البيت: (يا سودة،
أعلى الله وعلى رسوله)، فقلت يا نبي الله، والذي بعثك بالحق إني ما ملكت نفسي حين
رأيت أبا يزيد مجموعة يداه إلى عنقه أن قلت ما قلت.
قال الواقدي: وحدثني خالد بن إلياس، قال: حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي جهم،
قال: دخل يومئذ خالد بن هشام بن المغيرة وأمية بن أبي حذيفة منزل أم سلمة وأم سلمة في
مناحة آل عفراء، فقيل لها: أتى بالأسرى، فخرجت فدخلت عليهم فلم تكلمهم حتى

(1) البلاذري: (مالك ابن الدخشم بن مالك بن الدخشم بن مرضخة بن غنم - وهو قوقل - بن عوف
ابن الخزرج.
188

رجعت، فتجد رسول الله صلى الله عليه وآله في بيت عائشة، فقالت يا رسول الله، إن
بنى عمى طلبوا أن يدخل بهم على فأضيفهم، وأدهن رؤوسهم وألم من شعثهم، ولم
أحب أن أفعل شيئا من ذلك حتى أستأمرك، فقال صلى الله عليه وآله: (لست أكره
شيئا من ذلك، فافعلي من هذا ما بدا لك) قال الواقدي: وحدثني محمد بن عبد الله،
عن الزهري، قال: قال أبو العاص بن الربيع: كنت مستأسرا مع رهط من الأنصار جزاهم
الله خيرا) كنا إذا تعشينا أو تغدينا آثروني بالخبز، وأكلوا التمر، والخبز عندهم قليل
والتمر زادهم، حتى أن الرجل لتقع في يده الكسرة فيدفعها إلى، وكان الوليد بن الوليد بن
المغيرة يقول مثل ذلك ويزيد قال: وكانوا يحملوننا ويمشون.
وقال محمد بن إسحاق في كتابه: كان أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس ختن
رسول الله صلى الله عليه وآله زوج ابنته زينب، وكان أبو العاص من رجال مكة المعدودين مالا
وأمانة وتجارة، وكان ابنا لهالة بنت خويلد أخت خديجة بنت خويلد، وكان الربيع بن
عبد العزى بعل هذه فكانت خديجة خالته، فسألت خديجة رسول الله صلى الله عليه
وآله أن يزوجه زينب، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله لا يخالف خديجة، وذلك
قبل أن ينزل عليه الوحي، فزوجه إياها، فكان أبو العاص من خديجة بمنزلة ولدها،
فلما أكرم الله رسوله بنبوته آمنت به خديجة وبناته كلهن وصدقته وشهدن أن ما جاء به
حق ودن بدينه، وثبت أبو العاص على شركه، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله قد
زوج عتبة بن أبي إحدى ابنتيه رقيه أو أم كلثوم، وذلك من قبل أن ينزل عليه،
فلما أنزل عليه الوحي ونادى قومه بأمر الله باعدوه، فقال بعضهم لبعض إنكم قد فرغتم
محمد من همه، أخذتم عنه بناته وأخرجتموهن من عياله، فردوا عليه بناته، فاشغلوه بهن
فمشوا إلى أبى العاص بن الربيع، فقالوا فارق صاحبتك بنت محمد، ونحن نزوجك أي
189

امرأة شئت من قريش، فقال لا ها الله إذن لا أفارق صاحبتي، وما أحب أن لي
بها امرأة من قريش فكان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا ذكره يثنى عليه خيرا
في صهره، ثم مشوا إلى الفاسق عتبة بن أبي لهب، فقالوا له طلق بنت محمد، ونحن
ننكحك أي امرأة شئت من قريش، فقال إن أنتم زوجتموني ابنة إبان بن سعيد
بن العاص، أو ابنة سعيد بن العاص، فارقتها فزوجوه ابنة سعيد بن العاص، ففارقها ولم
يكن دخل بها، فأخرجها الله من يده كرامة لها وهوانا له ثم خلف عليها عثمان
بن عفان بعده، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله مغلوبا على أمره بمكة لا يحل ولا يحرم،
وكان الاسلام قد فرق بين زينب وأبى العاص، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وآله
كان لا يقدر وهو بمكة أن يفرق بينهما، فأقامت معه على إسلامها وهو على شركه، حتى
هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله إلى المدينة،، وبقيت زينب بمكة مع أبي العاص، فلما
سارت قريش إلى بدر سار أبو العاص معهم، فأصيب في الأسرى يوم بدر، فأتى به
النبي صلى الله عليه وآله، فكان عنده مع الأسارى، فلما بعث أهل مكة في فداء
أساراهم، بعثت زينب في فداء أبى العاص بعلها بمال، وكان فيما بعثت به قلادة كانت
خديجة أمها أدخلتها بها على أبى العاص ليلة زفافها عليه، فلما رآها رسول الله صلى الله
عليه وآله رق لها رقة شديدة، وقال للمسلمين: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردوا عليها
ما بعثت به من الفداء فافعلوا، فقالوا: نعم يا رسول الله، نفديك بأنفسنا وأموالنا، فردوا عليها
ما بعثت به، وأطلقوا لها أبا العاص بغير فداء (1).
قلت: قرأت على النقيب أبى جعفر يحيى بن أبي زيد البصري العلوي رحمه الله هذا
الخبر، فقال: أترى أبا بكر وعمر لم يشهدا هذا المشهد أما كان يقتضى التكريم والاحسان

(1) سيرة ابن هشام 2: 296، 297.
190

أن يطيب قلب فاطمة بفدك، ويستوهب لها من المسلمين، أتقصر منزلتها عند رسول الله
صلى الله عليه وآله عن منزلة زينب أختها وهي سيدة نساء العالمين هذا إذا لم يثبت لها
حق، لا بالنحلة ولا بالإرث، فقلت له: فدك بموجب الخبر الذي رواه أبو بكر قد صار
حقا من حقوق المسلمين فلم يجز له أن يأخذه منهم، فقال: وفداء أبى العاص بن الربيع
قد صار حقا من حقوق المسلمين، وقد أخذه رسول الله صلى الله عليه وآله منهم فقلت: رسول الله صلى الله عليه وآله صاحب الشريعة، والحكم حكمه، وليس أبو بكر كذلك،
فقال: ما قلت هلا أخذه أبو بكر من المسلمين قهرا فدفعه إلى فاطمة، وإنما قلت
هلا استنزل المسلمين عنه واستوهبه منهم لها كما استوهب رسول الله صلى الله عليه وآله
المسلمين فداء أبى العاص أ تراه لو قال: هذه بنت نبيكم قد حضرت تطلب هذه النخلات،
أفتطيبون عنها نفسا أ كانوا منعوها ذلك فقلت له قد قال قاضى القضاة أبو الحسن
عبد الجبار بن أحمد نحو هذا، قال: إنهما لم يأتيا بحسن في شرع التكرم، وإن كان
ما أتياه حسنا في الدين.
قال محمد بن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله لما أطلق سبيل أبى العاص
أخذ عليه فيما نرى أو شرط عليه في إطلاقه، أو إن أبا العاص وعد رسول الله صلى الله
عليه وآله ابتداء بأن يحمل زينب إليه إلى المدينة، ولم يظهر ذلك من أبى العاص، ولا من
رسول الله صلى الله عليه وآله إلا إنه لما خلى سبيله، وخرج إلى مكة بعث رسول الله صلى
الله عليه وآله بعده زيد بن حارثة ورجلا من الأنصار، فقال لهما كونا بمكان كذا (1)
حتى تمر بكما زينب فتصحبانها حتى تأتياني بها، فخرجا نحو مكة، وذلك بعد بدر بشهر

(1) سيرة ابن هشام: (كمونا ببطن يأجج)، ويأجج: اسم لمكانين: أحدهما على ثلاثة أميال من
مكة، وثانيهما أبعد منه، وفيه بني مسجد الشجرة، وبينه وبين مسجد التنعيم ميلان.
191

أو [شيعه] (1)، فلما قدم أبو العاص مكة أمرها باللحوق بأبيها، فأخذت تتجهز (2)
قال محمد بن إسحاق: فحدثت عن زينب إنها قالت بينا أنا أتجهز للحوق بأبي،
لقيتني هند بنت عتبة، فقالت ألم يبلغني يا بنت محمد إنك تريدين اللحوق بأبيك
فقلت ما أردت ذلك، فقالت أي بنت عم لا تفعلي إن كانت لك حاجة في متاع أو فيما
يرفق بك في سفرك أو مال تبلغين به إلى أبيك فإن عندي حاجتك، فلا تضطني (3) منى،
فإنه لا يدخل بين النساء ما يدخل بين الرجال، قالت وأيم الله، إني لأظنها حينئذ
صادقة، ما أظنها قالت حينئذ ألا لتفعل، ولكن خفتها فأنكرت أن أكون أريد ذلك
قالت وتجهزت حتى فرغت من جهازي، فحملني أخو بعلي وهو كنانة بن الربيع.
قال محمد بن إسحاق: قدم لها كنانة بن الربيع بعيرا فركبته، وأخذ قوسه وكنانته، وخرج بها
نهارا يقود بعيرها، وهي في هودج لها، وتحدث بذلك الرجال من قريش والنساء، وتلاومت
في ذلك، وأشفقت أن تخرج ابنه محمد من بينهم على تلك الحال، فخرجوا في طلبها سراعا حتى
أدركوها بذي طوى، فكان أول من سبق إليها هبار بن الأسود بن عبد المطلب بن
أسد بن عبد العزى بن قصي، ونافع بن عبد القيس الفهري، فروعها هبار بالرمح وهي في
الهودج، وكانت حاملا، فلما رجعت طرحت ما في بطنها، وقد كانت من خوفها رأت
دما وهي في الهودج، فلذلك أباح رسول الله صلى الله عليه وآله يوم فتح مكة دم هبار
ابن الأسود (4).

(1) من سيرة ابن هشام. وشيعه أي قريب منه.
(2) سيرة ابن هشام 2: 297، 298.
(3) تضطني، أي تستحي، ومنه قول الطرماح:
إذا ذكرت مسعاة والده اضطنى ولا يضطني من شتم أهل الفضائل
(4) سيرة ابن هشام 2: 298، 299.
192

قلت وهذا الخبر أيضا قرأته على النقيب أبى جعفر رحمه الله، فقال إذا كان رسول
الله صلى الله عليه وآله أباح دم هبار بن الأسود لأنه روع زينب فألقت ذا بطنها،
فظهر الحال إنه لو كان حيا لأباح دم من روع فاطمة حتى ألقت ذا بطنها. فقلت أروى
عنك ما يقوله قوم إن فاطمة روعت فألقت المحسن (1) فقال لا تروه عنى ولا ترو عنى
بطلانه، فإني متوقف في هذا الموضع لتعارض الاخبار عندي فيه.
قال الواقدي: فبرك حموها كنانة بن الربيع، ونثل (2) كنانته بين يديه، ثم أخذ
منها سهما فوضعه في كبد قوسه، وقال: أحلف بالله لا يدنو اليوم منها رجل إلا وضعت
فيه سهما، فتكر (3) الناس عنه.
قال: وجاء أبو سفيان بن حرب في جلة من قريش، فقال: أيها الرجل، أكفف
عنا نبلك حتى نكلمك، فكف فأقبل أبو سفيان حتى وقف عليه، فقال: إنك
لم تحسن ولم تصب، خرجت بالمرأة على رؤوس الناس علانية جهارا، وقد عرفت مصيبتنا
ونكبتنا، وما دخل علينا من محمد أبيها، فيظن الناس إذا أنت خرجت بابنته إليه جهارا
أن ذلك عن ذل أصابنا، وإن ذلك منا وهن، ولعمري ما لنا في حبسها عن أبيها من
حاجة، وما فيها من ثأر، ولكن ارجع بالمرأة حتى إذا هدأت الأصوات، وتحدث الناس
بردها سلها سلا خفيا، فألحقها بأبيها فردها كنانة بن الربيع إلى مكة، فأقامت بها ليالي
حتى إذا هدا الصوت عنها حملها على بعيرها، وخرج بها ليلا حتى سلمها إلى زيد بن حارثة
وصاحبه، فقدما بها على رسول الله صلى الله عليه وآله (4).
قال محمد بن إسحاق: فروى سليمان بن يسار، عن أبي إسحاق الدوسي، عن

(1) ا: (محسنا).
(2) نثل كنانته: أخرج ما فيها.
(3) تكر عنه، أي ترجع، وفي ابن هشام: (فتكرر الناس عنه).
(4) انظر سيرة ابن هشام 2: 299.
193

أبي هريرة، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله سرية أنا فيها إلى عير لقريش، فيها متاع
لهم وناس منهم، فقال: إن ظفرتم بهبار بن الأسود ونافع بن عبد قيس، فحرقوهما بالنار،
حتى إذا كان الغد بعث فقال لنا: (إني كنت قد أمرتكم بتحريق الرجلين إن
أخذتموهما، ثم رأيت أنه لا ينبغي لأحد أن يعذب بالنار إلا الله تعالى، فإن ظفرتم بهما
فاقتلوهما ولا تحرقوهما) (1).
قلت: لقائل من المجبرة أن يقول أليس هذا نسخ الشئ قبل تقضى (2) وقت فعله،
وأهل العدل لا يجيزون ذلك وهذا السؤال مشكل، ولا جواب عنه إلا بدفع الخبر
إما بتضعيف أحد من رواته، أو إبطال الاحتجاج به لكونه خبر واحد، أو بوجه آخر،
وهو أن نجيز للنبي الاجتهاد في الأحكام الشرعية كما يذهب إليه كثير من شيوخنا،
وهو مذهب القاضي أبى يوسف صاحب أبي حنيفة، ومثل هذا الخبر حديث براءة وإنفاذها مع أبي
بكر، وبعث علي عليه السلام، فأخذها منه في الطريق، وقرأها على أهل مكة بعد أن
كان أبو بكر هو المأمور بقراءتها عليهم.
فإما البلاذري فإنه روى أن هبار بن الأسود كان ممن عرض لزينب بنت رسول الله
صلى الله عليه وآله حين حملت من مكة إلى المدينة، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله
يأمر سراياه إن ظفروا به أن يحرقوه بالنار، ثم قال (3): لا يعذب بالنار إلا رب النار،
و أمرهم إن ظفروا به أن يقطعوا يديه ورجليه ويقتلوه، فلم يظفروا به، حتى إذا كان يوم الفتح
هرب هبار، ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله بالمدينة - ويقال أتاه بالجعرانة - حين
فرغ من أمر حنين، فمثل بين يديه، وهو يقول أشهد أن لا إله إلا الله وإنك رسول الله،
فقبل اسلامه وأمر ألا يعرض له، وخرجت سلمى مولاة رسول الله صلى الله عليه وآله

(1) سيرة ابن هشام 2: 302.
(2) ا (مضى).
(3) ساقطة من ب.
194

فقالت لا أنعم الله بك عينا: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (مهلا فقد محا الاسلام
ما قبله).
قال البلاذري: فقال الزبير بن العوام: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله بعد
غلظته على هبار بن الأسود يطأطئ رأسه استحياء منه وهبار يتعذر إليه، وهو يعتذر إلى
هبار أيضا (1).
قال محمد بن إسحاق: فأقام أبو العاص بمكة على شركه، وأقامت زينب عند أبيها
صلى الله عليه وآله بالمدينة، قد فرق بينهما الاسلام، حتى إذا كان قبل الفتح، خرج
أبو العاص تاجرا إلى الشام بمال له، وأموال لقريش أبضعوا (2) بها معه، وكان رجلا مأمونا،
فلما فرغ من تجارته وأقبل قافلا لقيته سرية لرسول الله صلى الله عليه وآله، فأصابوا ما معه
وأعجزهم هو هاربا، فخرجت السرية بما أصابت من ماله، حتى قدمت به على رسول الله
صلى الله عليه وآله، وخرج أبو العاص تحت الليل، حتى دخل على زينب - ابنة رسول الله
صلى الله عليه وآله - منزلها فاستجار بها فأجارته، وإنما جاء في طلب ماله الذي أصابته
تلك السرية، فلما كبر رسول الله صلى الله عليه وآله في صلاة الصبح، وكبر الناس معه،
صرخت زينب من صفة النساء أيها الناس، إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع، فصلى
رسول الله صلى الله عليه وآله بالناس الصبح، فلما سلم من الصلاة، أقبل عليهم فقال:
(أيها الناس، هل سمعتم ما سمعت) قالوا: نعم، قال: (أما والذي نفس محمد بيده
ما علمت بشئ مما كان حتى سمعتم، إنه يجير على الناس أدناهم). ثم انصرف ودخل على
ابنته زينب، فقال: (أي بنية، أكرمي مثواه، وأحسني قراه، ولا يصلن إليك، فإنك

(1) أنساب الأشراف 1: 398 مع اختلاف في الرواية.
(2) ا: (أبضعوها معه).
195

لا تحلين له). ثم بعث إلى تلك السرية الذين كانوا أصابوا مال أبى العاص، فقال لهم إن
هذا الرجل منا بحيث علمتم، وقد أصبتم له مالا، فإن تحسنوا وتردوا عليه الذي له، فإنا
نحب ذلك، وإن أبيتم فهو فئ الله الذي أفاء عليكم، وأنتم أحق به فقالوا يا رسول
الله، بل نرده عليه، فردوا عليه ماله ومتاعه، حتى أن الرجل كان يأتي بالحبل (1)، ويأتي
الاخر بالشنة (2)، ويأتي الاخر بالإداوة (3)، والاخر بالشظاظ (4)، حتى ردوا ماله ومتاعه
بأسره من عند آخره ولم يفقد منه شيئا ثم أحتمل إلى مكة، فلما قدمها أدى إلى كل
ذي مال من قريش ماله ممن كان أبضع معه بشئ، حتى إذا فرغ من ذلك، قال لهم:
يا معشر قريش، هل بقي لأحد منكم عندي مال لم يأخذه قالوا لا فجزاك الله خيرا،
لقد وجدناك وفيا كريما، قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وإن محمدا رسول الله، والله
ما منعني من الاسلام إلا تخوف أن تظنوا إني أردت أن آكل أموالكم، وأذهب بها
فإذ سلمها الله لكم، وأداها إليكم، فإني أشهدكم إني قد أسلمت واتبعت دين محمد ثم
خرج سريعا حتى قدم على رسول الله المدينة (5).
قال محمد بن إسحاق: فحدثني داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول
الله صلى الله عليه وآله رد زينب بعد ست سنين على أبى العاص بالنكاح الأول لم يحدث
شيئا (6).
قال الواقدي: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله من أمر الأسارى، وفرق الله
عز وجل ببدر بين الكفر والايمان، أذل رقاب المشركين والمنافقين واليهود، ولم يبق
بالمدينة يهودي ولا منافق الا خضعت عنقه.

(1) ابن هشام: (بالدلو).
(2) الشنة: السقاء البالي.
(3) الإدواة: المطهرة التي يتوضأ بها.
(4) الشظاظ: عود يشد به فم الغرارة.
(5) سيرة ابن هشام 2: 303، 304.
(6) سيرة ابن هشام 2: 304.
196

وقال قوم من المنافقين ليتنا خرجنا معه حتى نصيب غنيمة. وقالت يهود فيما بينها
هو الذي نجد نعته في كتبنا، والله لا ترفع له راية بعد اليوم إلا ظهرت.
وقال كعب بن الأشرف بطن الأرض اليوم خير من ظهرها، هؤلاء أشراف
الناس وساداتهم، وملوك العرب وأهل الحرم والامن قد أصيبوا. وخرج إلى مكة، فنزل
على أبى وداعة بن ضبيرة، وجعله يرسل هجاء المسلمين، ورثى قتل بدر من
المشركين، فقال
طحنت رحا بدر لمهلك أهله * ولمثل بدر يستهل ويدمع (1)
قتلت سراة الناس حول حياضه * لا تبعدوا أن الملوك تصرع (2)
ويقول أقوام أذل بعزهم (3) * إن ابن أشرف ظل كعبا يجزع
صدقوا فليت الأرض ساعة قتلوا * ظلت تسيخ بأهلها وتصدع (4)
نبئت أن الحارث بن هشامهم * في الناس يبنى الصالحات ويجمع (5)
ليزور يثرب بالجموع وإنما * يسعى على الحسب القديم الأروع (6)
قال الواقدي: أملاها على عبد الله بن جعفر ومحمد بن صالح وابن أبي الزناد فلما
أرسل كعب هذه الأبيات اخذها الناس بمكة عنه، وأظهروا المراثي - وقد كانوا حرموها
كيلا يشمت المسلمون بهم - وجعل الصبيان والجواري ينشدونها بمكة، فناحت بها قريش

(1) سيرة ابن هشام 2: 431، 432، وأنساب الأشراف 1: 284، والبيتان الأخيران
في نسب قريش 301.
(2) سراة الناس: خيارهم.
(3) البلاذري: (غوى أمرهم)، ابن هشام: (أسر بسخطهم). الواقدي: (أذل بسخطهم).
(4) بعده في ابن هشام:
صار الذي أثر الحديث بطعنة * أو عاش أعمى مرعشا لا يسمع
نبئت أن بني المغيرة كلهم * خشعوا لقتل أبي الحكيم وجدعوا
وابنا ربيعة عنده ومنبه * ما نال مثل الهالكين وتبع
(5) تسب فريش: (يبني المكرمات).
(6) نسب قريش: (ليزور أثرب)، وأثرب لغة في يثرب.
197

على قتلاها شهرا، ولم تبق دار بمكة إلا فيها النوح - وجز النساء شعورهن، وكان
يؤتى براحلة الرجل منهم أو بفرسه، فتوقف بين أظهرهم، فينوحون حولها، وخرجن
إلى السكك، و ضربن الستور في الأزقة، [وقطعن] (1) فخرجن إليها ينحن، وصدق
أهل مكة رؤيا عاتكة وجهيم بن الصلت (2).
قال الواقدي: وكان الذين قدموا من قريش في فداء الأسرى أربعة عشر رجلا،
وقيل خمسة عشر رجلا، وكان أول من قدم المطلب بن أبي وداعة، ثم قدم الباقون
بعده بثلاث ليال.
قال: فحدثني إسحاق بن يحيى، قال: سألت نافع بن جبير كيف كان الفداء
قال: أرفعهم أربعة آلاف إلى ثلاثة آلاف إلى ألفين إلى الف، إلا قوما لا مال لهم
من عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله.
قال الواقدي: وقال رسول الله صلى الله عليه وآله في أبى وداعة، أن له بمكة ابنا
كيسا له مال، وهو مغل فداءه، فلما قدم افتداه بأربعة آلاف، وكان أول أسير افتدى،
وذلك أن قريشا قالت لابنه المطلب بن أبي وداعة - ورأته يتجهز، يخرج إليه -
لا تعجل، فإنا نخاف أن تفسد علينا في أسارانا، ويرى محمد تهالكنا فيغلي علينا الفدية،
فإن كنت تجد فإن كل قومك لا يجدون من السعة ما تجد. فقال لا أخرج حتى
تخرجوا، فخادعهم حتى إذا غفلوا خرج من الليل على راحلته، فسار أربعة ليال إلى المدينة
فافتدى أباه بأربعة آلاف، فلامه قريش في ذلك، فقال: ما كنت لأترك أبى أسيرا في
أيدي القوم وأنتم مضطجعون، فقال أبو سفيان بن حرب: إن هذا غلام حدث يعجب
بنفسه وبرأيه، وهو مفسد عليكم، إني والله غير مفتد عمرو بن أبي سفيان، ولو مكث سنة

(1) من الواقدي.
(2) مغازي الواقدي 115، 116.
198

أو يرسله محمد والله ما أنا بأعوزكم، ولكني أكره أن ادخل عليكم ما يشق عليكم، ولكن
يكون عمرو كأسوتكم.
قال الواقدي: فأما أسماء القوم الذين قدموا في الأسرى، فإنه قدم من بنى عبد شمس
الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وعمرو بن الربيع أخو أبى العاص بن الربيع. ومن بنى نوفل
بن عبد مناف جبير بن مطعم ومن بنى عبد الدار بن قصي طلحة بن أبي طلحة، ومن بنى أسد
بن عبد العزى بن قصي عثمان بن أبي حبيش. ومن بنى مخزوم عبد الله بن أبي ربيعة وخالد
بن الوليد وهشام بن الوليد بن المغيرة وفروة بن السائب وعكرمة بن أبي جهل ومن
بنى جمح أبي بن خلف وعمير بن وهب ومن بنى سهم المطلب بن أبي وداعة وعمرو بن قيس
ومن بنى مالك بن حسل مكرز بن حفص بن الأحنف، كل هؤلاء قدموا المدينة في فداء
أهلهم وعشائرهم وكان جبير بن مطعم يقول دخل الاسلام في قلبي منذ قدمت المدينة
في الفداء، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقرأ في صلاة المغرب: (والطور * وكتاب
مسطور)، فاستمعت قراءته، فدخل الاسلام في قلبي منذ ذلك اليوم (1)
القول في تفصيل أسماء أسارى بدر ومن أسرهم.
قال الواقدي: أسر من بني هاشم العباس بن عبد المطلب، أسره أبو اليسر كعب
بن عمرو، وعقيل بن أبي طالب أسره عبيد (2) بن أوس الظفري، ونوفل بن الحارث

(1) انظر مغازي الواقدي 133 - 141.
(2) (عبيدة) والصواب ما أثبته من ا والواقدي وابن هشام.
199

بن عبد المطلب أسره جبار بن صخر، وأسر حليف لبني هاشم من بنى فهر، اسمه عتبة
فهؤلاء أربعة.
ومن بني المطلب بن عبد مناف السائب بن عبيد، وعبيد بن عمرو (1) بن علقمة، رجلان
أسرهما سلمة أسلم بن حريش الأشهلي.
قال الواقدي: حدثني بذلك ابن أبي حبيبة، قال: ولم يقدم
لهما أحد، وكانا لا مال لهما، ففك رسول الله صلى الله عليه وآله عنهما بغير فدية.
ومن بنى عبد شمس بن عبد مناف عقبة بن أبي معيط المقتول صبرا (2)، على يد عاصم بن
ثابت بن أبي الأقلح بأمر رسول الله، أسره عبد الله بن أبي سلمه العجلاني، والحارث بن أبي وحرة
بن أبي عمرو بن أمية، أسره سعد بن أبي وقاص، فقدم في فدائه الوليد بن عقبة بن أبي
معيط فافتداه بأربعة آلاف.
قال الواقدي: وقد كان الحارث هذا لما أمر النبي صلى الله عليه وآله برد الأسارى،
ثم أقرع بين أصحابه عليهم، وقع في سهم سعد بن أبي وقاص الذي كان أسره أول مرة - وعمرو
بن أبي سفيان، أسره علي بن أبي طالب عليه السلام، وصار بالقرعة في سهم رسول
الله صلى الله عليه وآله، فأطلقه بغير فدية، أطلقه بسعد بن النعمان بن أكال من بنى
معاوية، خرج معتمرا، فحبس بمكة، فلم يطلقه المشركون حتى أطلق رسول الله صلى الله عليه
وآله عمرو بن أبي سفيان.
وروى محمد بن إسحاق في كتاب المغازي أن عمرو بن أبي سفيان أسره علي عليه
السلام يوم بدر، وكانت أمه ابنة عقبة بن أبي معيط، فمكث في يد رسول الله صلى الله
عليه وآله، فقيل لأبي سفيان: ألا تفتدي ابنك عمرا قال: أيجمع على دمى ومالي قتلوا
حنظلة وافتدى عمرا دعوه في أيديهم فليمسكوه ما بدا لهم فبينا هو محبوس بالمدينة، خرج

(1) كذا في الأصول والواقدي، وأنساب الأشراف، وفي ابن هشام: (نعمان بن عمرو).
(2) الواقدي: (قتل صبرا).
200

سعد بن النعمان بن أكال أخو بنى عمرو بن عوف معتمرا، ومعه امرأة (1) له، وكان
شيخا كبيرا لا يخشى ما صنع (2) به أبو سفيان وقد عهد قريشا ألا يعرض لحاج ولا معتمر (3)،
فعدا عليه أبو سفيان، فحبسه بمكة بابنه عمرو بن أبي سفيان، وأرسل إلى قوم بالمدينة
هذا الشعر
أرهط ابن أكال أجيبوا دعاءه * تعاقدتم لا تسلموا السيد الكهلا
فإن بنى عمرو لئام أذلة * لئن لم يفكوا عن أسيرهم الكبلا
فمشى بنو عمرو بن عوف حين بلغهم الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، فأخبروه
بذلك، وسألوه أن يعطيهم عمرو بن أبي سفيان ليفكوا به صاحبهم، فأعطاهم إياه، فبعثوا به
إلى أبي سفيان فخلى سبيل سعد وقال حسان بن ثابت يجيب أبا سفيان:
ولو كان سعد يوم مكة مطلقا * لأكثر فيكم قبل أن يؤسر القتلى
بعضب حسام أو بصفراء نبعه * تحن إذا ما أنبضت تحفز التبلا (4)
وأبو العاص بن الربيع، أسره خراش بن الصمة، فقدم في فدائه عمرو بن أبي الربيع أخوه،
وحليف لهم، يقال له أبو ريشة افتداه
عمرو بن الربيع أيضا وعمرو بن الأزرق افتكه عمرو بن الربيع أيضا، وكان قد صار في سهم تميم مولى خراش بن الصمة، وعقبة بن الحارث
الحضرمي أسره عمارة بن حزم، فصار في القرعة لأبي بن كعب، افتداه عمرو بن أبي سفيان
بن أمية، وأبو العاص بن نوفل بن عبد شمس، أسره عمار بن ياسر قدم في فدائه ابن عمه
فهؤلاء ثمانية.

(1) ابن هشام: (مرية).
(2) ابن هشام: (ما صنع به).
(3) ابن هشام: لا يعرفون لأحد جاء حاجا أو معتمرا إلا بخير).
(4) العضب: السيف القاطع، وكذلك الحسام. وصفراء أراد بها قوسا. والنبعة: شجرة تنبت
بالجبال، تصنع منها القسي. وتحن: تصوت. وأنبضت: مد وترها. والإنباض: أن يحرك وتر القوس
ويمد. والخبر في سيرة ابن هشام 2: 294، 295.
201

ومن بنى نوفل بن عبد مناف عدى بن الخيار، أسره خراش بن الصمة، وعثمان
بن عبد شمس، ابن أخي عتبة بن غزوان حليفهم (1)، أسره حارثة بن النعمان، وأبو ثور،
أسره أبو مرثد الغنوي، فهؤلاء ثلاثة افتداهم جبير بن مطعم.
ومن بنى عبد الدار بن قصي أبو عزيز بن عمير، أسره أبو اليسر، ثم صار بالقرعة لمحرز
بن نضلة - قال الواقدي: أبو عزيز هذا هو أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه، وقال مصعب
لمحرز بن نضلة: اشدد يديك به، فإن له أما بمكة كثيرة المال، فقال له أبو عزيز هذه
وصاتك بي يا أخي فقال مصعب إنه أخي دونك، فبعثت فيه أمه أربعة آلاف، وذلك
بعد أن سألت ما أغلى ما تفادى به قريش فقيل لها أربعة آلاف - والأسود بن عامر
بن الحارث بن السباق، أسره حمزة بن عبد المطلب، فهذان اثنان قدم في فدائهما طلحة
بن أبي طلحة.
ومن بنى أسد بن عبد العزى بن قصي، السائب بن أبي حبيش بن المطلب بن أسد
بن عبد العزى، أسره عبد الرحمن بن عوف. وعثمان بن الحويرث بن عثمان بن أسد بن
عبد العزى، أسره حاطب بن أبي بلتعة، وسالم بن شماخ أسره سعد بن أبي وقاص،
فهؤلاء ثلاثة قدم في فدائهم عثمان بن أبي حبيش بأربعة آلاف لكل رجل منهم.
ومن بنى تميم بن مرة، مالك بن عبد الله بن عثمان، أسره قطبة بن عامر بن حديدة،
فمات في المدينة أسيرا.
ومن بنى مخزوم خالد بن هشام بن المغيرة، أسره سواد بن غزية. وأمية بن أبي حذيفة
بن المغيرة، أسره بلال. وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، وكان أفلت يوم نخلة،
أسره واقد بن عبد الله التميمي يوم بدر، فقال له الحمد لله الذي أمكنني منك، فقد
كنت أفلت يوم نخلة - وقدم في فداء هؤلاء الثلاثة عبد الله بن أبي ربيعة، افتدى كل
واحد منهم بأربعة آلاف - والوليد بن الوليد بن المغيرة، أسره عبد الله بن جحش،

(1) الواقدي: (حليف لهم).
202

فقدم في فدائه أخواه خالد بن الوليد وهشام بن الوليد، فتمنع عبد الله بن جحش حتى
افتكاه بأربعة آلاف، فجعل هشام بن الوليد يريد ألا يبلغ ذلك - يريد ثلاثة آلاف
فقال خالد لهشام إنه ليس بابن أمك، والله لو أبى فيه إلا كذا وكذا لفعلت، فلما
افتدياه خرجا به حتى بلغا به ذا الحليفة، فأفلت، فأتى النبي صلى الله عليه وآله فأسلم،
فقيل ألا أسلمت قبل أن تفتدي قال: كرهت أن أسلم حتى أكون أسوة بقومي.
قال الواقدي: ويقال إن الذي أسر الوليد بن الوليد سليط بن قيس المازني - وقيس
بن السائب، أسره عبده بن الحسحاس، فحبسه عنده حينا، وهو يظن أن له مالا،
ثم قدم في فدائه أخوه فروة بن السائب، فأقام أيضا حينا، ثم افتداه بأربعة آلاف
فيها عروض.
ومن بنى أبى رفاعة صيفي بن أبي رفاعة بن عائذ بن عبد الله بن عمير بن مخزوم،
وكان لا مال له، أسره رجل من المسلمين، فمكث عندهم، ثم أرسله. وأبو المنذر بن أبي
رفاعة بن عائذ افتدى بألفين، - ولم يذكر الواقدي من أسره - وعبد الله، وهو أبو عطاء
بن السائب بن عائذ بن عبد الله، افتدى بألف درهم، أسره سعد بن أبي وقاص،
والمطلب بن حنظلة بن الحارث بن عبيد بن عمير بن مخزوم، أسره أبو أيوب الأنصاري -
ولم يكن له مال فأرسله بعد حين - وخالد بن الأعلم العقيلي، حليف لبني مخزوم، وهو
الذي يقول:
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا * ولكن على أقدامنا تقطر الدما (1)

(1) رواية ابن هشام 2: 365:
ولسنا على الادبار تدمى كلومنا * ولكن على أقدامنا يقطر الدم
203

وقال محمد بن إسحاق: روى أنه كان أول المنهزمين، أسره الخباب بن المنذر بن
الجموح، وقدم في فدائه عكرمة بن أبي جهل، فهؤلاء عشرة.
ومن بنى جمح عبد الله بن أبي بن خلف، أسره فروة بن أبي عمرو البياضي، قدم
في فدائه أبوه أبي بن خلف فتمنع به فروة حينا. وأبو غزة عمرو بن عبد الله بن وهب،
أطلقه رسول الله صلى الله عليه وآله بغير فدية، وكان شاعرا خبيث اللسان، ثم قتله يوم
أحد، بعد أن أسره - ولم يذكر الواقدي الذي أسره يوم بدر - ووهب بن عمير بن
وهب، أسره رفاعة بن رافع الزرقي، وقدم أبوه عمير بن وهب في فدائه، فأسلم فأرسل
النبي صلى الله عليه وآله له ابنه بغير فداء، وربيعة بن دراج بن العنبس بن وهبان (2)
بن وهب بن حذافة بن جمح، وكان لا مال له، فأخذ منه بشئ يسير، وأرسل به -
ولم يذكر الواقدي من أسره - والفاكه مولى أمية بن خلف، أسره سعد بن أبي وقاص،
فهؤلاء خمسة.
ومن بنى سهم بن عمرو أبو وداعة بن ضبيرة وكان أول أسير افتدى، قدم في
فدائه ابنه المطلب، فافتداه بأربعة آلاف - ولم يذكر الواقدي من أسره - وفروة بن
قيس بن عدي بن حذافة بن سعيد بن سهم، أسره ثابت بن أقزم، وقدم في فدائه عمرو
بن قيس، افتداه بأربعة آلاف، وحنظلة بن قبيصة بن حذاقة بن سعد، أسره عثمان
بن مظعون. والحجاج بن الحارث بن قيس بن سعد بن سهم، أسره عبد الرحمن بن عوف،
فأفلت، فأخذه أبو داود المازني. فهؤلاء أربعة.
ومن بنى مالك بن حسل سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك،
أسره مالك بن الدخشم، وقدم في فدائه مكرز بن حفص بن الأحنف، وانتهى في فدائه
إلى إرضائهم بأربعة آلاف، فقالوا هات المال، فقال نعم، اجعلوا رجلا مكان رجل،

(1) ابن هشام: (أول من ولى فارا منهزما).
(2) ابن هشام: (أهبان).
204

وقوم يروونها: (رجلا مكان رجل)، فخلوا سبيل سهيل، وحبسوا مكرز بن حفص
عندهم، حتى بعث سهيل بالمال من مكة وعبد الله بن زمعة بن قيس بن نصر بن مالك،
أسره عمير بن عوف، مولى سهيل بن عمرو. وعبد العزى بن مشنوء بن وقدان بن قيس
بن عبد شمس بن عبد ود سماه رسول الله صلى الله عليه وآله بعد اسلامه عبد الرحمن،
أسره النعمان بن مالك فهؤلاء ثلاثة.
ومن بنى فهر الطفيل بن أبي قنيع، فهؤلاء ستة وأربعون (1) أسيرا.
وفي كتاب الواقدي إنه كان الأسارى الذين أحصوا وعرفوا تسعة وأربعين، ولم
نجد التفصيل يلحق هذه الجملة (2).
وروى الواقدي عن سعيد بن المسيب، قال: كانت الأسارى سبعين، وأن القتلى
كانت زيادة على سبعين إلا أن المعروفين من الأسرى هم الذين ذكرناهم، والباقون
لم يذكر المؤرخون أسماءهم.
القول في المطعمين في بدر من المشركين
قال الواقدي: المتفق عليه ولا خلاف بينهم فيه تسعة، فمن بنى عبد مناف الحارث
بن عامر بن نوفل بن عبد منات وعتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس.
ومن بنى أسد بن عبد العزى، زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، ونوفل بن
خويلد المعروف بابن العدوية.
ومن بنى مخزوم، أبو جهل عمرو بن هشام بن المغيرة.
ومن بنى جمح، أمية بن خلف.

(1) عدتهم في ابن هشام (ثلاثة وأربعون).
(2) مغازي الواقدي 133 - 139، وانظر
أنساب الأشراف 1: 301 - 306، وسيرة ابن هشام 2: 364 - 367.
205

ومن بنى سهم نبيه ومنبه ابنا الحجاج.
فهؤلاء تسعة.
قال الواقدي: وكان سعيد بن المسيب يقول ما أطعم أحد ببدر إلا قتل.
قال الواقدي: قد ذكروا عدة من المطعمين، اختلف (1) فيهم، كسهيل بن عمرو
وأبى البختري وغيرهما (2).
قال: حدثني إسماعيل بن إبراهيم، عن موسى بن عتبة، قال: أول من نحر لهم
أبو جهل بمر الظهران عشرا، ثم أمية بن خلف بعسفان تسعا، ثم سهيل بن عمرو بقديد
عشرا، ثم مالوا إلى مياه من نحو البحر ضلوا الطريق، فأقاموا بها يوما، فنحر لهم شيبة
بن ربيعة تسعا، ثم أصبحوا بالأبواء فنحر لهم قيس الجمحي تسعا، ثم نحر عتبة عشرا،
ونحر لهم الحارث بن عمرو تسعا، ثم نحر لهم أبو البختري على ماء بدر عشرا، ونحر لهم مقيس
بن ضبابة على ماء بدر تسعا، ثم شغلتهم الحرب.
قال الواقدي: وقد كان ابن أبي الزناد يقول والله ما أظن مقيسا كان يقدر على
قلوص واحدة.
قال الواقدي: وأما أنا فلا أعرف قيسا الجمحي قال: وقد روت أم بكر، عن
المسور بن مخرمة ابنها، قال: كان النفر يشتركون في الاطعام، فينسب إلى الرجل الواحد
ويسكت عن سائرهم (3).
وروى محمد بن إسحاق أن العباس بن عبد المطلب كان من المطعمين في بدر، وكذلك
طعيمة بن عدي بن نوفل، كان يعتقب هو وحكيم والحارث بن عامر بن نوفل، وكان أبو البختري
يعتقب هو وحكيم بن حزام في الاطعام، وكان النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن
عبد مناف بن عبد الدار من المطعمين. قال: وكان النبي صلى الله عليه وآله يكره قتل

(1) أو مغازي الواقدي: (وقد اختلف علينا فيهم).
(2) مغازي الواقدي: (وغيرهم)
(3) مغازي الواقدي 123، 124.
206

الحارث بن عامر، قال يوم بدر: (من ظفر به منكم فليتركه لأيتام بنى نوفل)، فقتل
في المعركة (1).
القول فيمن استشهد من المسلمين ببدر.
قال الواقدي: حدثني عبد الله بن جعفر، قال: سألت الزهري كم استشهد من
المسلمين ببدر قال: أربعة عشر (2)، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار.
قال: فمن بني المطلب بن عبد مناف عبيدة بن الحارث، قتله شيبة بن ربيعة..
وفي رواية الواقدي قتله عتبة، فدفنه النبي صلى الله عليه وآله بالصفراء.
ومن بنى زهرة عمير بن أبي وقاص، قتله عمرو بن عبد ود، فارس الأحزاب، وعمير بن
عبد ود ذو الشمالين، حليف لبني زهرة بن خزاعة، قتله أبو أسامة الجشمي.
ومن بنى عدى بن كعب عاقل بن أبي البكير، حليف لهم من بنى سعد بن بكر، قتله
مالك بن زهير الجشمي، ومهجع مولى عمر بن الخطاب، قتله عامر بن الحضرمي،
ويقال أن مهجعا أول من قتل من المهاجرين.
ومن بنى الحارث بن فهر صفوان بن بيضاء، قتله طعيمة بن عدي.
وهؤلاء الستة من المهاجرين.
ومن الأنصار، ثم من بنى عمرو بن عوف، مبشر بن عبد المنذر، قتله أبو ثور. وسعد
بن خيثمة، قتله عمرو بن عبد ود - ويقال طعيمة بن عدي - ومن بنى عدى بن النجار
حارثة بن سراقة رماه حبان بن العرقة بسهم فأصاب حنجرته، فقتله.
ومن بنى مالك بن النجار، عوف ومعوذ ابنا عفراء، قتلهما أبو جهل.

(1) سيرة ابن هشام 2: 311.
(2) في مغازي الواقدي: (ثم عددهم على، فهم هؤلاء الذين سميت).
207

ومن بنى سلمة بن حرام عمير بن الحمام بن الجموح، قتله خالد بن الأعلم العقيلي - ويقال
أن عمير بن الحمام أول قتيل قتل من الأنصار، وقد روى أن أول قتيل منهم حارث
بن سراقة.
ومن بنى زريق، رافع بن المعلى، قتله عكرمة بن أبي جهل.
ومن بنى الحارث بن الخزرج يزيد بن الحارث بن قسحم، قتله نوفل بن معاوية الديلي.
فهؤلاء الثمانية من الأنصار.
قال الواقدي: وقد روى عن عكرمة، عن ابن عباس أن أنسة مولى النبي صلى الله
عليه وآله قتل ببدر.
وروى [أن] (2) معاذ بن ماعص جرح ببدر، فمات من جراحته بالمدينة،
وأن عبيد بن السكن جرح فاشتكى جرحه، فمات منه حين قدم (3).
القول فيمن قتل ببدر من المشركين وأسماء قاتليهم
قال الواقدي: فمن بنى عبد شمس بن عبد مناف حنظلة بن أبي سفيان بن حرب، قتله علي بن
أبي طالب عليه السلام، والحارث بن الحضرمي قتله عمار بن ياسر، وعامر بن الحضرمي قتله عاصم
بن ثابت بن أبي الأقلح، وعمير بن أبي
عمير وابنه، موليان لهم، قتل سالم مولى أبى حذيفة منهم عمير بن أبي عمير - ولم يذكر الواقدي من قتل ابنه - وعبيدة بن سعيد بن العاص، قتله الزبير بن
العوام، والعاص بن سعيد بن العاص، قتله علي بن أبي طالب عليه السلام، وعقبة بن أبي
معيط، قتله عاصم بن ثابت صبرا بالسيف بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله.

(1) الواقدي: (يسحم).
(2) من الواقدي.
(3) مغازي الواقدي 142، 143.
208

وروى البلاذري أن رسول الله صلى الله عليه وآله صلبه بعد قتله، فكان أول
مصلوب في الاسلام قال: وفيه يقول ضرار بن الخطاب:
عين بكى لعقبة بن أبان * فرع فهر وفارس الفرسان (1)
وعتبة بن ربيعة، قتله حمزة بن عبد المطلب. وشيبة بن ربيعة، قتله عبيدة بن الحارث وحمزة
وعلى، الثلاثة اشتركوا في قتله والوليد بن عتبة بن ربيعة، قتله علي بن أبي طالب عليه
السلام وعامر بن عبد الله حليف لهم من أنمار، قتله علي بن أبي طالب عليه السلام، وقيل
قتله سعد بن معاذ، فهؤلاء اثنا عشر.
ومن بنى نوفل بن عبد مناف الحارث بن نوفل، قتله خبيب بن يساف (2)، وطعيمة
بن عدي، ويكنى أبا الريان، قتله حمزة بن عبد المطلب في رواية الواقدي، وقتله علي بن
أبي طالب عليه السلام في رواية محمد بن إسحاق (3). وروى البلاذري رواية غريبة،
أن طعيمة بن عدي أسر يوم بدر، فقتله النبي صلى الله عليه وآله صبرا على يد حمزة،
فهؤلاء اثنان.
ومن بنى أسد بن عبد العزى زمعة بن الأسود، قتله أبو دجانة (4)، وقيل
قتله ثابت بن الجذع (5)، والحارث بن زمعة بن الأسود، قتله علي بن أبي طالب
عليه السلام. وعقيل بن الأسود بن المطلب، قتله على وحمزة شركا في قتله.
قال الواقدي: وحدثني أبو معشر، قال: قتله علي بن أبي طالب عليه السلام وحده،
وقيل: قتله أبو داود المازني وحده. وأبو البختري، وهو العاص بن هشام، قتله المجذر بن

(1) أنساب الأشراف 1: 297، وفيه: (عين فابكي).
(2) في ابن هشام: (إساف) بهمزة مكسورة، قال ابن حجر في الإصابة: (وقد تبدل تحتانية).
(3) سيرة ابن هشام 2: 357.
(4) دجانة، كثمامة: سماك بي خرشة.
(5) الإصابة: الجدع.
209

زياد، وقيل قتله أبو اليسر. ونوفل بن خويلد بن أسد بن عبد العزى، وهو ابن العدوية،
قتله علي عليه السلام، فهؤلاء خمسة.
ومن بنى عبد الدار بن قصي، النضر بن الحارث بن كلدة، قتله علي بن أبي طالب عليه
السلام صبرا بالسيف بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله، وكان الذي أسره المقداد بن
عمرو، فوعد المقداد - إن استنقذه - بفداء جليل، فلما قدم ليقتل، قال المقداد: يا رسول الله،
إني ذو عيال، وأحب الدين، فقال: اللهم اغن المقداد من فضلك يا علي، قم فاضرب
عنقه. وزيد بن مليص مولى عمرو بن هاشم بن عبد مناف، من عبد الدار، قتله علي بن أبي
طالب عليه السلام، وقيل قتله بلال فهؤلاء اثنان.
ومن بنى تيم بن مرة عمير بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، قتله
علي بن أبي طالب عليه السلام. وعثمان بن مالك بن عبيد الله بن عثمان، قتله صهيب،
فهؤلاء اثنان - ولم يذكر البلاذري عثمان بن مالك.
ومن بنى مخزوم بن يقظة ثم من بنى المغيرة بن عبد الله بن عمير بن مخزوم، أبو جهل
عمرو بن هشام بن المغيرة، ضربة معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعوذ وعوف ابنا عفراء،
وذفف (1) عليه عبد الله بن مسعود والعاص بن هاشم بن المغيرة، خال عمر بن الخطاب،
قتله عمرو بن يزيد بن تميم التميمي، حليف لهم، قتله عمار بن ياسر، وقيل قتله علي عليه
السلام.
ومن بنى الوليد بن المغيرة، أبو قيس بن الوليد بن الوليد، أخو خالد بن الوليد، قتله علي بن
أبي طالب عليه السلام.
ومن بنى الفاكه بن المغيرة، أبو قيس بن الفاكه بن المغيرة، قتله حمزة بن عبد المطلب،
وقيل قتله الحباب بن المنذر.

(1) أنساب الأشراف للبلاذري 1: 297.
(2) ذفف عليه: أجهز.
210

ومن بنى أمية بن المغيرة مسعود بن أبي أمية، قتله علي بن أبي طالب عليه السلام.
ومن بنى عائذ بن عبد الله بن عمير بن مخزوم ثم من بنى رفاعة، أمية بن عائذ بن
رفاعة بن أبي رفاعة، قتله سعد بن الربيع وأبو المنذر بن أبي رفاعة، قتله معن بن عدي
العجلاني وعبد الله بن أبي رفاعة، قتله علي بن أبي طالب عليه السلام. وزهير
بن أبي رفاعة، قتله أبو أسيد الساعدي. والسائب بن أبي رفاعة، قتله عبد الرحمن
بن عوف.
ومن بنى أبى السائب المخزومي - وهو صيفي بن عائذ بن عبد الله بن عمر بن مخزوم -
السائب بن السائب، قتله الزبير بن العوام. والأسود بن عبد الأسد بن هلال بن
عبد الله بن عمر بن مخزوم، قتله حمزة بن عبد المطلب. وحليف لهم من طيئ، وهو
عمرو بن شيبان (1) قتله يزيد بن قيس وحليف آخر، وهو جبار بن سفيان، أخو
عمرو بن سفيان المقدم ذكره، قتله أبو بردة بن نيار.
ومن بنى عمران بن مخزوم حاجز (2) بن السائب بن عويمر بن عائذ، قتله علي عليه
السلام.
وروى البلاذري أن حاجزا هذا وأخاه عويمر بن السائب بن عويمر، قتلهما علي بن
أبي طالب عليه السلام (3) - وعويمر بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، قتله
النعمان بن أبي مالك، فهؤلاء تسعة عشر.
ومن بنى جمح بن عمرو بن هصيص، أمية بن خلف قتله خبيب بن يساف وبلال،
شركا فيه.
قال الواقدي: وكان معاذ بن رفاعة بن رافع يقول بل قتله أبو رفاعة بن رافع.

(1) الواقدي: (سفيان).
(2) في البلاذري: (جابر).
(3) أنساب الأشراف 1: 300.
211

وعلي بن أمية بن خلف، قتله عمار بن ياسر وأوس بن المغيرة بن لوذان، قتله علي عليه
السلام، وعثمان بن مظعون، شركا فيه فهؤلاء ثلاثة.
ومن بنى سهم، منبه بن الحجاج، قتله علي بن أبي طالب عليه السلام، وقيل
قتله أبو أسيد الساعدي ونبيه بن الحجاج قتله علي بن أبي طالب عليه السلام. والعاص
بن منبه بن الحجاج قتله علي عليه السلام وأبو العاص بن قيس بن عدي بن سعد
بن سهم، قتله أبو دجانة - قال الواقدي: وحدثني أبو معشر عن أصحابه، قالوا
قتله علي عليه السلام - وعاص بن أبي عوف بن صبيرة بن سعيد بن سعد، قتله
أبو دجانة، فهؤلاء خمسة.
ومن بنى عامر بن لؤي، ثم من بنى مالك بن حسل، معاوية بن عبد قيس
حليف لهم، قتله عكاشة بن محصن. ومعبد بن وهب، حليف لهم من كلب، قتله
أبو دجانة فهؤلاء اثنان.
فجميع من قتل ببدر في رواية الواقدي من المشركين في الحرب صبرا، اثنان
وخمسون رجلا، قتل علي عليه السلام منهم مع الذين شرك في قتلهم أربعة وعشرين
رجلا. وقد كثرت الرواية أن المقتولين ببدر كانوا سبعين، ولكن الذين عرفوا
وحفظت أسماؤهم من ذكرناه، وفي رواية الشيعة أن زمعة بن الأسود بن المطلب قتله
على، والأشهر في الرواية أنه قتله الحارث بن زمعة، وأن زمعة قتله أبو دجانة (1).
القول فيمن شهد بدرا من المسلمين
قال الواقدي: كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا مع القوم الذين ضرب لهم رسول الله
صلى الله عليه وآله بسهامهم وهم غائبون وعدتهم ثمانية. قال: وهذا هو الأغلب في الرواية،

(1) انظر التسمية من قتل المشركين ببدر في الواقدي 143 - 151.
212

قال: ولم يشهد بدرا من المسلمين الا قرشي أو حليف لقرشي أو نصارى أو حليف
لأنصاري أو مولى واحد منهما، وهكذا من جانب المشركين، فإنه لم يشهدها إلا قرشي
أو حليف لقرشي أو مولى لهم.
قال: فكانت قريش ومواليها وحلفاؤها ستة وثمانين رجلا، وكانت الأنصار ومواليها
وحلفاؤها مائتين وسبعة وعشرين رجلا (1).
فاما تفصيل أسماء من شهدها من المسلمين فله موضع في كتب المحدثين أملك به من
هذا الموضع.
[قصة غزوة أحد]
الفصل الرابع في شرح قصة غزاة أحد. ونحن نذكر ذلك من كتاب الواقدي (2)
رحمه الله على عاداتنا في ذكر غزاة بدر، ونضيف إليه من الزيادات التي ذكرها ابن إسحاق
والبلاذري ما يقتضى الحال ذكره.
قال الواقدي: لما رجع من حضر بدرا من المشركين إلى مكة وجدوا العير التي
قدم بها أبو سفيان بن حرب من الشام موقوفة في دار الندوة، وكذلك كانوا يصنعون،
فلم يحركها أبو سفيان ولم يفرقها لغيبة أهل العير، ومشت أشراف قريش إلى أبي سفيان:
الأسود بن عبد المطلب بن أسد، وجبير بن مطعم، وصفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي
جهل، والحارث بن هشام، وعبد الله بن أبي ربيعة، وحويطب بن عبد العزى، فقالوا
يا أبا سفيان انظر هذه العير التي قدمت بها فاحتبستها (3)، فقد عرفت إنها أموال أهل
مكة ولطيمة (4) قريش، وهم طيبوا الأنفس، يجهزون بهذه العير جيشا كثيفا إلى محمد، فقد

(1) مغازي الواقدي 151، 152.
(2) أخبار غزوة أحد في مغازي الواقدي ص 197 وما بعدها.
(3) الواقدي: (فاحتبسها).
(4) اللطيمة: العير تحمل الطيب وبز التجار.
213

ترى من قتل من آبائنا وأبنائنا وعشائرنا فقال أبو سفيان وقد طابت أنفس قريش
بذلك قالوا نعم، قال: فأنا أول من أجاب إلى ذلك وبنو عبد مناف معي، فأنا والله
الموتور والثائر (1)، وقد قتل ابني حنظلة ببدر وأشراف قومي فلم تزل العير موقوفة حتى
تجهزوا للخروج، فباعوها فصارت ذهبا عينا، ويقال أنما قالوا يا أبا سفيان، بع العير
ثم أعزل أرباحها، فكانت العير ألف بعير، وكان المال خمسين ألف دينار، وكانوا
يربحون في تجاراتهم للدينار دينارا، وكان متجرهم من الشام غزة، لا يعدونها إلى غيرها،
وكان أبو سفيان، قد حبس عير بنى زهرة، لأنهم رجعوا من طريق بدر، وسلم ما كان
لمخرمة بن نوفل ولبني أبيه وبنى عبد مناف بن زهرة، فأبى مخرمة أن يقبل عيره حتى
يسلم إلى بنى زهرة جميعا (2)، وتكلم الأخنس، فقال وما لعير بنى زهرة من بين عيرات
قريش قال أبو سفيان: لأنهم رجعوا عن قريش، قال الأخنس: أنت أرسلت إلى قريش
أن ارجعوا فقد أحرزنا العير، لا تخرجوا في غير شئ، فرجعنا، فأخذت بنو زهرة عيرها
وأخذ أقوام من أهل مكة أهل ضعف لا عشائر لهم ولا منعة، كل ما كان
لهم في العير.
قال الواقدي: وهذا يبين إنه إنما أخرج القوم أرباح العير. قال: وفيهم أنزل (3):
(إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله....) الآية.
قال: فلما أجمعوا على المسير، قالوا نسير في العرب فنستنصرهم، فإن عبد مناة غير
متخلفين عنا، هم أوصل العرب لأرحامنا ومن اتبعنا من الأحابيش فأجمعوا على أن
يبعثوا أربعة من قريش يسيرون في العرب، يدعونهم إلى نصرهم، فبعثوا عمرو بن العاص
وهبيرة بن وهب وابن الزبعرى وأبا عزة الجمحي، فأبى أبو عزة أن يسير (4) وقال: من

(1) الثائر: الذي يقوم بالثأر.
(2) ا: (جمعا).
(3) ا: (أنزلت).
(4) في الواقدي: (فأطاع النفر وأبى أبو عزة).
214

على محمد يوم بدر، وحلفت ألا أظاهر (1) عليه عدوا أبدا فمشى إليه صفوان بن أمية
فقال أخرج فأبى، وقال: عاهدت محمدا يوم بدر ألا أظاهر عليه عدوا أبدا، وأنا أفي
له بما عاهدته عليه (2)، من على ولم يمن على غيري حتى قتله أو أخذ منه الفداء فقال
صفوان: اخرج معنا، فإن تسلم أعطك من المال ما شئت، وإن تقتل تكن عيالك مع
عيالي فأبى أبو عزة، حتى كان الغد، وانصرف عنه صفوان بن أمية آيسا منه، فلما كان
الغد جاءه صفوان وجبير بن مطعم، فقال له صفوان الكلام الأول فأبى، فقال: جبير
ما كنت أظن إني أعيش حتى يمشى إليك أبو وهب في أمر تأبى عليه فأحفظه، فقال
أنا أخرج، قال: فخرج إلى العرب يجمعها، ويقول:
إيه بنى عبد مناة الرزام (3) * أنتم حماة وأبوكم حام
لا تسلموني لا يحل إسلام * لا يعدوني نصركم بعد العام (4)
وخرج النفر مع أبي عزة فألبوا العرب وجمعوا، وبلغوا ثقيفا فأوعبوا (5) فلما
أجمعوا المسير وتألب من كان معهم من العرب وحضروا، واختلفت قريش في إخراج
الظعن معهم، قال صفوان بن أمية: اخرجوا بالظعن (6) فأنا أول من فعل، فإنه أقمن
أن يحفظنكم ويذكرنكم قتلى بدر، فإن العهد حديث، ونحن قوم موتورون مستميتون،
لا نريد أن نرجع إلى ديارنا حتى ندرك ثأرنا أو نموت دونه. فقال عكرمة بن أبي جهل
أنا أول من أجاب إلى ما دعوت إليه، وقال عمرو بن العاص مثل ذلك، فمشى في ذلك

(1) الواقدي: (لا أظاهر).
(2) من الواقدي.
(3) ابن هشام 3: 4 (إيها بني عبد مناة). والرزام: جمع رازم، وهو الذي يثبت في مكانه
لا يبرحه، تقول: رزم البعير، إذا ثبت في مكانه.
(4) ابن هشام: (لا تعدوني).
(5) ب: (أرغبوا)، وأثبت ما في ا والواقدي، وأوعبوا، أي خرجوا للغزو.
(6) الظعن: جمع ظعينة، وهي المرأة في الهودج، وأصل الظعينة الهودج، سميت المرأة به لقربها منه
في السفر، وقيل: سميت ظعينة لأنها تظعن مع زوجها.
215

نوفل بن معاوية الديلي، فقال يا معشر قريش، هذا ليس برأي، أن تعرضوا حرمكم
لعدوكم، ولا آمن أن تكون الدبرة (1) لهم فتفتضحوا في نسائكم فقال صفوان لا كان
غير هذا أبدا فجاء نوفل إلى أبي سفيان بن حرب، فقال له تلك المقالة، فصاحت هند
بنت عتبة إنك والله سلمت يوم بدر، فرجعت إلى نسائك، نعم نخرج فنشهد القتال،
فقد ردت القيان من الجحفة في سفرهم إلى بدر، فقتلت الأحبة يومئذ فقال أبو سفيان
لست أخالف قريشا، أنا رجل منها، ما فعلت فعلت. فخرجوا بالظعن، فخرج أبو سفيان
بن حرب بامرأتين: هند بنت عتبة بن ربيعة وأميمة بنت سعد بن وهب بن أشيم بن كنانة،
وخرج صفوان بن أمية بامرأتين: برزة بنت مسعود الثقفي وهي أم عبد الله الأكبر
والبغوم بنت المعذل من كنانة، وهي أم عبد الله الأصغر، وخرج طلحة بن أبي طلحة
بامرأته سلافة بنت سعد بن شهيد، وهي من الأوس، وهي أم بنيه مسافع، والحارث،
وكلاب والجلاس بنى طلحة بن أبي طلحة، وخرج عكرمة بن أبي جهل بامرأته أم حكيم
بنت الحارث بن هشام، وخرج الحارث بن هشام بامرأته فاطمة بنت الوليد بن المغيرة،
وخرج عمرو بن العاص بامرأته هند بنت منبه بن الحجاج، وهي أم عبد الله بن عمرو بن
العاص - وقال محمد بن إسحاق: اسمها ريطة - وخرجت خناس بنت مالك بن المضرب
إحدى نساء بنى مالك بن حسل مع ابنها أبى عزيز بن عمير، أخي مصعب بن عمير من
بنى عبد الدار، وخرج الحارث بن سفيان بن عبد الأسد بامرأته رملة بنت طارق بن
علقمة الكنانية، وخرج كنانة بن علي بن ربيعة بن عبد العزى بن عبد شمس بن
عبد مناف بامرأته أم حكيم بنت طارق، وخرج سفيان بن عويف بامرأته قتيله بنت
عمرو بن هلال، وخرج النعمان بن عمرو وجابر مسك الذئب أخوه، بأمهما

(1) الدبرة: العاقبة.
(2) من ا والواقدي.
216

الدغينة، وخرج غراب بن سفيان بن عويف بامرأته عمرة بنت الحارث بن علقمة
الكنانية، وهي التي رفعت لواء قريش حين سقطت حتى تراجعت قريش إلى لوائها،
وفيها يقول حسان
ولولا لواء الحارثية أصبحوا * يباعون في الأسواق بالثمن البخس
قالوا وخرج سفيان بن عويف بعشرة من ولده، وحشدت بنو كنانة. وكانت
الألوية يوم خرجوا من مكة ثلاثة عقدوها في دار الندوة، لواء يحمله سفيان بن عويف
لبني كنانة، ولواء الأحابيش يحمله رجل منهم، ولواء لقريش يحمله (1) طلحة بن أبي
طلحة.
قال الواقدي: ويقال خرجت قريش ولفها (2) كلهم، من كنانة والأحابيش وغيرهم
على لواء واحد، يحمله طلحة بن أبي طلحة وهو الا ثبت عندنا.
قال: وخرجت قريش وهم ثلاثة آلاف بمن ضوي (3) إليها، وكان فيهم من ثقيف
مائة رجل، وخرجوا بعده وسلاح كثير، وقادوا مائتي فرس، وكان فيهم سبعمائة دراع
وثلاثة آلاف بعير فلما أجمعوا على المسير كتب العباس بن عبد المطلب كتابا وختمه،
واستأجر رجلا من بنى غفار، وشرط عليه أن يسير ثلاثا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله
يخبره أن قريشا قد اجتمعت (4) للمسير إليك، فما كنت صانعا إذا حلوا (5) بك فاصنعه.
وقد وجهوا وهم ثلاثة آلاف، وقادوا مائتي فرس، وفيهم سبعمائة دراع، وثلاثة آلاف
بعير، وقد أوعبوا من السلاح. فقدم الغفاري فلم يجد رسول الله صلى الله عليه وآله بالمدينة،
وجده بقباء، فخرج حتى وجد رسول الله صلى الله عليه وآله على باب مسجد قباء يركب

(1) ب: (يحمله)، وأثبت ما في ا والواقدي.
(2) لفها، أي من اجتمع إليها من القبائل.
(3) ضوي إليها: انضم إليها، وفي ا والواقدي: (انضم).
(4) ا: (أجمعت المسير).
(5) ب: (خلوا) وأثبت ما في ا والواقدي.
217

حماره، فدفع إليه الكتاب، فقرأه عليه أبي بن كعب، واستكتم أبيا ما فيه، ودخل
منزل سعد بن الربيع، فقال: أفي البيت أحد فقال سعد: لا، فتكلم بحاجتك، فأخبره
بكتاب العباس بن عبد المطلب، فجعل سعد يقول: يا رسول الله، والله إني لأرجو ا أن
يكون في ذلك خير، وأرجعت (1) يهود المدينة والمنافقون، وقالوا: ما جاء محمدا شئ يحبه،
وانصرف رسول الله صلى الله عليه وآله إلى المدينة، وقد استكتم سعد بن الربيع الخبر
فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله من منزله، خرجت امرأة سعد بن الربيع إليه،
فقالت: ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وآله قال: ما لك ولذاك، لا أم لك قالت
كنت أستمع عليكم، وأخبرت سعدا الخبر، فاسترجع سعد، وقال لا أراك تستمعين علينا
وأنا أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم بحاجتك ثم أخذ بجمع لمتها (2)، ثم
خرج يعدو بها حتى أدرك رسول الله صلى الله عليه وآله بالجسر، وقد بلحت، فقال:
يا رسول الله إن امرأتي سألتني عما قلت فكتمتها، فقالت قد سمعت قول رسول الله صلى
الله عليه وآله، ثم جاءت بالحديث كله - فخشيت يا رسول الله أن يظهر من ذلك شئ فتظن
إني أفشيت سرك، فقال صلى الله عليه وسلم: خل سبيلها وشاع الخبر بين الناس بمسير
قريش وقدم عمرو بن سالم الخزاعي في نفر من خزاعة، ساروا من مكة أربعا، فوافوا
قريشا وقد عسكروا بذي طوى، فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وآله الخبر، ثم انصرفوا
ولقوا قريشا ببطن رابغ، وهو أربع ليال من المدينة، فنكبوا عن قريش.
قال الواقدي: فلما أصبح أبو سفيان بالأبواء أخبر أن عمرو بن سالم وأصحابه راحوا
أمس ممسين إلى مكة، فقال أبو سفيان: أحلف بالله إنهم جاؤوا محمدا فخبروه بمسيرنا
وعددنا (3)، وحذروه منا، فهم الان يلزمون صياصيهم، فما أرانا نصيب منهم شيئا في
وجهنا. فقال صفوان بن أمية: إن لم يصحروا (4) لنا عمدنا إلى نخل الأوس والخزرج فقطعناه،

(1) الواقدي: (وقد أرجفت).
(2) ا (لبتها).
(3) الواقدي: (فأخبروه بعددنا).
(4) أصحروا: خرجوا إلى الصحراء، وهو الفضاء
المستوى الواسع.
218

فتركناهم ولا أموال لهم، فلا يختارونها أبدا، وإن أصحروا لنا فعددنا أكثر من عددهم،
وسلاحنا أكثر من سلاحهم، ولنا خيل ولا خيل معهم، ونحن نقاتل على وتر عندهم
ولا وتر لهم عندنا.
قال الواقدي: وكان أبو عامر الفاسق قد خرج في خمسين رجلا من الأوس، حتى
قدم بهم مكة حين قدم النبي صلى الله عليه وآله يحرضها ويعلمها إنها على الحق وما جاء به
محمد باطل، فسارت قريش إلى بدر، ولم يسر معها، فلما خرجت قريش إلى أحد سار
معها، وكان يقول لقريش: إني لو قدمت على قومي لم يختلف عليكم منهم اثنان، وهؤلاء
معي نفر منهم خمسون رجلا. فصدقوه بما قال، وطمعوا في نصره.
قال الواقدي: وخرج النساء معهن الدفوف يحرضن الرجال ويذكرنهم قتلى بدر
في كل منزل، وجعلت قريش تنزل كل منهل، ينحرون ما نحروا من الجزر مما كانوا
جمعوا من العين، ويتقوون به في مسيرهم، ويأكلون من أزوادهم مما جمعوا
من الأموال.
قال الواقدي: وكانت قريش لما مرت بالأبواء، قالت إنكم قد خرجتم بالظعن
معكم، ونحن نخاف على نسائنا، فتعالوا ننبش قبر أم محمد، فإن النساء عورة، فإن يصب من
نسائكم أحدا قلتم هذه رمة أمك، فإن كان برا بأمه - كما يزعم - فلعمري لنفادينكم برمة
أمه، وإن لم يظفر بأحد من نسائكم فلعمري ليفدين رمة أمه بمال كثير إن كان بها برا
فاستشار أبو سفيان بن حرب أهل الرأي من قريش في ذلك، فقالوا: لا تذكر من هذا
شيئا، فلو فعلنا نبشت بنو بكر وخزاعة موتانا.
قال الواقدي: وكانت قريش بذي الحليفة يوم الخميس صبيحة عشر من مخرجهم من
مكة، وذلك لخمس ليال مضين من شوال على رأس اثنين وثلاثين شهرا من الهجرة، فلما
219

أصبحوا بذي الحليفة خرج فرسان منهم فأنزلوهم الوطاء (1)، وبعث النبي صلى الله عليه وآله
عينين له، آنسا ومؤنسا ابني فضالة ليلة الخميس، فاعترضا لقريش بالعقيق، فسارا معهم،
حتى نزلوا الوطاء، وأتيا رسول الله صلى الله عليه وآله فأخبراه، وكان المسلمون قد ازدرعوا
العرض (2) - والعرض ما بين الوطاء بأحد إلى الجرف إلى العرصة، عرصة البقل اليوم، وكان أهله
بنو سلمة وحارثة وظفر وعبد الأشهل، وكان الماء يومئذ بالجرف نشطة لا يرمم سابق
الناضح مجلسا واحدا ينفتل الجمل في ساعته، حتى ذهبت بمياهه عيون الغابة التي حفرها
معاوية بن أبي سفيان (3)، وكان المسلمون قد أدخلوا آلة زرعهم ليلة الخميس المدينة، فقدم
المشركون على زرعهم فخلوا فيه إبلهم وخيولهم، وكان لأسيد بن حضير في العرض عشرون
ناضحا تسقى شعيرا، وكان المسلمون قد حذروا على جمالهم وعمالهم وآلة حرثهم، وكان
المشركون يرعون يوم الخميس، فلما أمسوا جمعوا الإبل وقصلوا عليها القصيل، وقصلوا
على خيولهم ليلة الجمعة، فلما أصبحوا يوم الجمعة خلوا ظهرهم في الزرع وخيلهم، حتى تركوا
العرض ليس به خضراء.
قال الواقدي: فلما نزلوا وحلوا العقد، واطمأنوا بعث رسول الله صلى الله عليه وآله
الحباب بن المنذر بن الجموح إلى القوم، فدخل فيهم وحزر ونظر إلى جميع ما يريد، وكان
قد بعثه سرا، وقال له: إذا رجعت فلا تخبرني بين أحد من المسلمين ألا أن ترى في القوم
قلة، فرجع إليه فأخبره خاليا، وقال له: رأيت عددا حزرتهم ثلاث آلاف يزيدون قليلا
أو ينقصون قليلا، والخيل مائتا فرس، ورأيت دروعا ظاهرة حزرتها سبعمائة درع. وقال:
هل رأيت ظعنا قال: نعم رأيت النساء معهن الدفاف والأكبار - وهي الطبول - فقال
رسول الله صلى الله عليه وآله: أردن أن يحرضن القوم ويذكرنهم قتلى بدر، هكذا

(1) الوطاء: ما انخفض من الأرض.
(2) العرض: الوادي.
(3) كذا وردت العبارة في لأصول وفي الواقدي وفيها غموض.
220

جاءني خبرهم، لا تذكر من شأنهم حرفا، حسبنا الله و نعم الوكيل اللهم بك أحول،
وبك أصول.
قال الواقدي: وخرج سلمة بن سلامة بن وقش يوم الجمعة، حتى إذا كان بأدنى العرض
إذا طليعة خيل المشركين عشرة أفراس ركضوا في أثره، فوقف لهم على نشز (1) من
الحرة، فرشقهم بالنبل مرة، وبالحجارة أخرى حتى انكشفوا عنه، فلما ولوا جاء إلى
مزرعته بأدنى العرض، فاستخرج سيفا كان له، ودرع حديد كان له، دفنا في
ناحية المزرعة، وخرج بهما يعدو، حتى أتى بنى عبد الأشهل، فخبر قومه
بما لقى.
قال الواقدي: وكان مقدم قريش يوم الخميس لخمس خلون من شوال، وكانت الوقعة
يوم السبت لسبع خلون من شوال، وباتت وجوه الأوس والخزرج سعد بن معاذ وأسيد
بن حضير، وسعد بن عبادة، في عدة منهم ليلة الجمعة، عليهم السلاح في المسجد بباب
النبي صلى الله عليه وآله خوفا من تبييت المشركين، وحرست المدينة تلك الليلة، حتى
أصبحوا، ورأي رسول الله صلى الله عليه وآله رؤيا ليلة الجمعة، فلما أصبح واجتمع
المسلمون خطبهم.
قال الواقدي: فحدثني محمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن
لبيد، قال: ظهر النبي صلى الله عليه وآله المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس،
إني رأيت في منامي رؤيا، رأيت كأني في درع حصينة، ورأيت كان سيفي ذا الفقار
انفصم (2) من عند ظبته، ورأيت بقرا تذبح، ورأيت كأني مردف كبشا، فقال الناس:
يا رسول الله، فما أولتها قال: أما الدرع الحصينة فالمدينة، فامكثوا فيها، وأما

(1) ب: (نشزة).
(2) ا والواقدي: (انقصم).
221

انفصام (1) سيفي عند ظبته فمصيبة في نفسي، وأما البقر المذبح فقتلي في أصحابي، وأما إني
مردف (2) كبشا فكبش الكتيبة نقتله إن شاء الله.
قال الواقدي: وروى عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال:
(أما انفصام سيفي فقتل رجل من أهل بيتي).
قال الواقدي: وروى المسور بن مخرمة، قال: قال النبي صلى الله عليه وآله: ورأيت
في سيفي فلا فكرهته، هو الذي أصاب وجهه عليه السلام.
قال الواقدي: وقال النبي صلى الله عليه وآله: أشيروا على، ورأي صلى الله عليه
وآله ألا يخرج من المدينة لهذه الرؤيا، ورسول الله صلى الله عليه وآله يحب أن يوافق
على مثل ما رأى، وعلى ما عبر عليه الرؤيا، فقام عبد الله بن أبي، فقال: يا رسول الله،
كنا نقاتل في الجاهلية في هذه المدينة، ونجعل النساء والذراري في هذه الصياصي،
ونجعل معهم الحجارة، والله لربما مكث الولدان شهرا ينقلون الحجارة، إعدادا
لعدونا، ونشبك المدينة بالبنيان فتكون كالحصن من كل ناحية، وترمى المرأة
والصبي من فوق الصياصي والآطام، ونقاتل بأسيافنا في السكك. يا رسول الله إن مدينتنا
عذراء ما فضت علينا قط، وما خرجنا إلى عدو قط منها إلا أصاب منا، وما دخل
علينا قط إلا أصبناه، فدعهم يا رسول الله، فإنهم إن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن رجعوا
رجعوا خاسرين مغلوبين، لم ينالوا خيرا. يا رسول الله، أطعني في هذا الامر، واعلم أنى
ورثت هذا الرأي من أكابر قومي وأهل الرأي منهم، فهم كانوا أهل
الحرب والتجربة.
قال الواقدي: فكان رأى رسول الله صلى الله عليه وآله مع رأى ابن أبي، وكان
ذلك رأى الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله من المهاجرين والأنصار

(1) ا والواقدي: (انقصام).
(2) ا: (وأما الكبش المردف).
222

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: امكثوا في المدينة، واجعلوا النساء والذراري في
الآطام، فإن دخل علينا قاتلناهم في الأزقة، فنحن أعلم بها منهم، ورموا من فوق الصياصي
والآطام - وكانوا قد شبكوا المدينة بالبنيان من كل ناحية، فهي كالحصن - فقال فتيان
أحداث لم يشهدوا بدرا، وطلبوا من رسول الله الخروج إلى عدوهم، ورغبوا في الشهادة،
وأحبوا لقاء العدو، وقالوا اخرج بنا إلى عدونا، وقال رجل من أهل النبه (1) وأهل
السن، منهم حمزة بن عبد المطلب وسعد بن عبادة، والنعمان بن مالك بن ثعلبة، وغيرهم من
الأوس والخزرج: إنا نخشى يا رسول الله، أن يظن عدونا إنا كرهنا الخروج إليهم جبنا
عن لقائهم، فيكون هذا جرأة منهم علينا، وقد كنت يوم بدر في ثلاثمائة رجل، فظفرك الله
بهم، ونحن اليوم بشر كثير، وكنا نتمنى هذا اليوم، وندعو الله به، فقد ساقه الله إلينا
في ساحتنا هذه - ورسول الله صلى الله عليه وآله لما رأى من الحاحهم كاره، وقد لبسوا
السلاح يخطرون بسيوفهم، يتساومون كأنهم الفحول. وقال مالك بن سنان أبو أبي سعيد
الخدري: يا رسول الله، نحن والله بين إحدى الحسنيين، إما يظفرنا الله بهم، فهذا الذي
نريد، فيذلهم الله لنا فتكون هذه وقعة مع وقعة بدر، فلا يبقى منهم إلا الشريد،
والأخرى يا رسول الله يرزقنا الله الشهادة، والله يا رسول الله، ما نبالي أيهما كان، إن كلا
لفيه الخير. فلم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وآله رجع إليه قولا، وسكت وقال حمزة بن
عبد المطلب: والذي أنزل عليه الكتاب، لا أطعم اليوم طعاما حتى أجالدهم بسيفي
خارجا من المدينة، وكان يقال كان حمزة يوم الجمعة صائما، ويوم السبت، فلاقاهم
وهو صائم.
وقال النعمان بن مالك بن ثعلبة أخو بنى سالم: يا رسول الله، أنا أشهد أن البقر
المذبح قتلى من أصحابك، وإني منهم، فلم تحرمنا الجنة فوالله الذي لا إله إلا هو

(1) النبه: الفطنة، وفي ا: (النبة).
223

لأدخلنها قال رسول الله، بم قال: إني أحب الله ورسوله، ولا أفر يوم الزحف.
فقال صدقت فاستشهد يومئذ.
وقال إياس بن أوس بن عتيك: يا رسول الله، نحن بنو عبد الأشهل من البقر المذبح،
نرجو يا رسول الله أن نذبح في القوم، ويذبح فينا، فنصير إلى الجنة، ويصيرون إلى
النار، مع إني يا رسول الله لا أحب أن ترجع قريش إلى قومها، فتقول حصرنا محمد
في صياصي يثرب وآطامها، فتكون هذه جرأة لقريش، وقد وطئوا سعفنا، فإذا لم نذب
عن عرضنا، فلم ندرع وقد كنا يا رسول في جاهليتنا، والعرب يأتوننا، فلا يطمعون
بهذا منا حتى نخرج إليهم بأسيافنا فنذبهم عنا، فنحن اليوم أحق إذ أمدنا الله بك،
وعرفنا مصيرنا، لا نحصر أنفسنا في بيوتنا.
وقام خيثمة، أبو سعد بن خيثمة فقال يا رسول الله، إن قريشا مكثت حولا تجمع الجموع
وتستجلب العرب في بواديها ومن اتبعها من أحابيشها ثم جاؤونا قد قادوا الخيل، واعتلوا
الإبل حتى نزلوا بساحتنا، فيحصروننا في بيوتنا وصياصينا، ثم يرجعون وافرين لم يكلموا،
فيجرئهم ذلك علينا حتى يشنوا الغارات علينا، ويصيبوا أطلالنا ويضعوا العيون والأرصاد
علينا، مع ما قد صنعوا بحروثنا، ويجترئ علينا العرب حولنا حتى يطمعوا فينا إذا رأونا لم
نخرج إليهم، فنذبهم عن حريمنا، وعسى الله أن يظفرنا بهم، فتلك عادة الله عندنا، أو تكون
الأخرى، فهي الشهادة. لقد أخطأتني وقعة بدر، وقد كنت عليها حريصا، لقد بلغ من
حرصي أن ساهمت ابني في الخروج، فخرج سهمه، فرزق الشهادة وقد كنت حريصا على
الشهادة، وقد رأيت ابني البارحة في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها،
وهو يقول الحق بنا ترافقنا في الجنة، فقد وجدت ما وعدني ربى حقا، وقد و
الله يا رسول الله أصبحت مشتاقا إلى مرافقته في الجنة، وقد كبرت سنى، ودق عظمي، وأحببت
224

لقاء ربى، فادع الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة، ومرافقة سعد في الجنة، فدعا له رسول
الله بذلك، فقتل بأحد شهيدا.
قال أنس بن قتادة: يا رسول الله، هي إحدى الحسنيين، إما الشهادة وإما الغنيمة
والظفر بقتلهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله إني أخاف عليكم الهزيمة.
فلما أبوا إلا الخروج والجهاد، صلى رسول الله يوم الجمعة بالناس، ثم وعظهم، وأمرهم
بالجد والاجتهاد، وأخبرهم أن لهم الصبر ما صبروا، ففرح الناس حيث أعلمهم رسول الله صلى
الله عليه وآله بالشخوص إلى عدوهم، وكره ذلك المخرج بشر كثير من أصحاب رسول
الله، وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم، ثم صلى العصر بالناس، وقد حشد الناس، وحضر أهل
العوالي، ورفعوا النساء إلى الآطام، فحضرت بنو عمرو بن عوف بلفها، والنبيت ولفها،
وتلبسوا السلاح، فدخل رسول الله صلى الله عليه وآله بيته، ودخل معه أبو بكر وعمر فعمماه
ولبساه وصف [الناس] (1) له ما بين حجرته إلى منبره، ينتظرون خروجه، فجاءهم سعد بن
معاذ، وأسيد بن حضير، فقالا لهم قلتم لرسول الله ما قلتم، واستكرهتموه على
الخروج، والامر ينزل عليه من السماء، فردوا الامر إليه، فما أمركم فافعلوه، وما رأيتم
فيه [له] (1) هوى أو أدبا فأطيعوه. فبينا (2) القوم على ذلك من الامر، وبعض القوم يقول:
القول ما قال سعد، وبعضهم على البصيرة على الشخوص، وبعضهم للخروج كاره، إذ خرج
رسول الله صلى الله عليه وآله قد لبس لامته، وقد لبس الدرع فأظهرها، وحزم وسطها
بمنطقه من حمائل سيف من أدم كانت بعد عند آل أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه
وسلم، واعتم، وتقلد السيف. فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله ندموا جميعا

(1) من الواقدي.
(2) ا: (فبينما)، وهي رواية الواقدي.
225

على ما صنعوا، وقال الذين يلحون على رسول الله صلى الله عليه وآله: ما كان لنا أن نخالفك،
فاصنع ما بدا لك، وما كان لنا أن نستكرهك والامر إلى الله ثم إليك، فقال: قد
دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم، ولا ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يحكم الله
بينه وبين أعدائه - قال: وكانت الأنبياء قبله إذا لبس النبي لامته لم يضعها حتى يحكم الله
بينه وبين أعدائه - ثم قال لهم: انظروا ما أمرتكم به فاتبعوه، امضوا على اسم الله، فلكم
النصر ما صبرتم.
قلت فمن تأمل أحوال المسلمين في هذه الغزاة، من فشلهم وخورهم واختلافهم في
الخروج من المدينة والمقام بها، وكراهة النبي صلى الله عليه وآله للخروج، ثم خروجه على مضض،
ثم ندم القوم الذين أشاروا بالخروج، ثم انخزال طائفة كثيرة من الجيش عن الحرب، ورجوعهم
إلى المدينة، علم أنه لا انتصار لهم على العدو أصلا، فإن النصر معروف بالعزم والجد
والبصيرة في الحرب، واتفاق الكلمة. ومن تأمل أيضا هذه الأحوال، علم أنها ضد الأحوال
التي كانت في غزاة بدر، وإن أحوال قريش لما خرجت إلى بدر كانت مماثلة لأحوال
المسلمين لما خرجوا إلى أحد، ولذلك كانت الدبرة في بدر على قريش.
قال الواقدي: وكان مالك بن عمرو النجاري مات يوم الجمعة، فلما دخل رسول الله
صلى الله عليه وآله فلبس لامته وخرج وهو موضوع عند موضع الجنائز، صلى (1) عليه،
ثم دعا بدابته، فركب إلى أحد.
قال الواقدي: وجاء جعيل بن سراقة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوجه إلى
أحد، فقال يا رسول الله، قيل لي إنك تقتل غدا - وهو يتنفس مكروبا - فضرب
النبي صلى الله عليه وآله بيده إلى صدره، وقال: أليس الدهر كله غدا قال: ثم دعا
بثلاثة أرماح، فعقد ثلاثة ألوية، فدفع لواء الأوس إلى أسيد بن حضير، ودفع لواء
الخزرج إلى الحباب بن المنذر بن الجموح - ويقال إلى سعد بن عبادة - ودفع لواء المهاجرين

(1) ب: (فصلى)، والصواب ما أثبته من ا والواقدي.
226

إلى علي بن أبي طالب عليه السلام - ويقال إلى مصعب بن عمير - ثم دعا بفرسه، فركبه،
وتقلد القوس وأخذ بيده قناة - زج الرمح يومئذ من شبه - والمسلمون متلبسون السلاح،
قد أظهروا الدروع، فهم مائة دارع، فلما ركب صلى الله عليه وآله خرج السعدان أمامه
يعدوان سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، كل واحد منهما دارع، والناس عن يمينه وشماله
حتى سلك على البدائع، ثم زقاق الحسى، حتى أتى الشيخين - وهما أطمان كانا في الجاهلية
فيهما شيخ أعمى وعجوز عمياء يتحدثان، فسمى الأطمان الشيخين - فلما انتهى إلى رأس
الثنية، التفت فنظر إلى كتيبة خشناء لها زجل (1) خلفه، فقال: ما هذه قال: هذه حلفاء (2)
ابن أبي من اليهود فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لا نستنصر بأهل الشرك على
أهل الشرك. ومضى رسول الله صلى الله عليه وآله وعرض عسكره بالشيخين، فعرض
عليه غلمان، منهم عبد الله بن عمر بن الخطاب، وزيد بن ثابت، وأسامة بن زيد، والنعمان
بن بشير، وزيد بن أرقم، والبراء بن عازب، وأسيد بن ظهير، وعرابة بن أوس،
وأبو سعيد الخدري، وسمرة بن جندب، ورافع بن خديج.
قال الواقدي: فردهم رسول الله صلى الله عليه وآله، قال: رافع بن خديج فقال
ظهير بن رافع، يا رسول الله، إنه رام يعينني. قال: وجعلت أتطاول، وعلى خفان لي،
فأجازني رسول الله صلى الله عليه وآله، فلما أجازني قال سمرة بن جندب لمري بن سنان
الحارثي - وهو زوج أمه يا أبيه، أجاز رسول الله صلى الله عليه وآله رافع بن خديج، وردني
وأنا أصرع رافعا فقال: مري يا رسول الله، رددت ابني، وأجزت رافع بن خديج
وابني يصرعه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: تصارعا، فصرع سمرة رافعا، فأجازه
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الواقدي: و أقبل ابن أبي، فنزل ناحية العسكر، فجعل حلفاؤه ومن معه (3) من
المنافقين يقولون لابن أبي أشرت عليه بالرأي، ونصحته وأخبرته أن هذا رأى من

(1) الزجل، محركة: رفع الصوت والجلبة.
(2) ب: (خلفاء).
(3) كذا في ا والواقدي وفي ب: (زمعة).
227

مضى من آبائك، وكان ذلك رأيه مع رأيك، فأبى أن يقبله، وأطاع هؤلاء الغلمان الذين
معه قال: فصادفوا من ابن أبي نفاقا وغشا، فبات رسول الله صلى الله عليه وآله
بالشيخين، وبات ابن أبي في أصحابه، وفرغ رسول الله صلى الله عليه وآله من عرض
من عرض، وغابت الشمس، فأذن بلال بالمغرب، فصلى رسول الله صلى الله عليه وآله
بأصحابه، ثم أذن بالعشاء، فصلى رسول الله صلى الله عليه وآله بأصحابه، ورسول الله صلى
الله عليه وآله نازل في بنى النجار، واستعمل على الحرس محمد بن مسلمة في خمسين رجلا
يطيفون بالعسكر، حتى أدلج (1) رسول الله صلى الله عليه وآله، وكان المشركون قد رأوا
رسول الله صلى الله عليه وآله حيث أدلج، ونزل بالشيخين، فجمعوا خيلهم وظهرهم،
واستعملوا على حرسهم عكرمة بن أبي جهل في خيل من المشركين، وباتت صاهلة خيلهم
لا تهدأ، تدنو طلائعهم، حتى تلصق بالحرة، فلا تصعد فيها حتى ترجع خيلهم، ويهابون
موضع الحرة، ومحمد بن مسلمة.
قال الواقدي: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله قال حين صلى العشاء: من
يحفظنا الليلة فقال رجل: أنا يا رسول الله فقال: من أنت قال: ذكوان بن عبد القيس،
فقال: إجلس، ثم قال ثانية: من رجل يحفظنا الليلة فقام رجل، فقال: من أنت
قال: أبو سبع، قال: اجلس، ثم قال ثالثة مثل ذلك، فقام رجل، فقال: من أنت
فقال: أنا ابن عبد قيس، فمكث رسول الله صلى الله عليه وآله ساعة، ثم قال: قوموا
ثلاثتكم، فقام ذكوان بن عبد قيس، فقال رسول الله: وأين صاحباك فقال ذكوان:
أنا الذي كنت أجيبك الليلة قال: فاذهب حفظك الله.
قلت: قد تقدم هذا الحديث بذاته في غزوة بدر، وظاهر الحال إنه مكرر،

(1) الإدلاج: السير في آخر الليل.
228

وإنه إنما كان في غزاة واحدة، ويجوز أن يكون قد وقع في الغزاتين، ولكن على بعد.
قال الواقدي: فلبس ذكوان درعه، وأخذ درقته، فكان يطوف على العسكر
تلك الليلة، ويقال كان يحرس رسول الله صلى الله عليه وآله لم يفارقه.
قال: ونام رسول الله صلى الله عليه وآله حتى أدلج، فلما كان في السحر، قال
رسول الله: أين الأدلاء من رجل يدلنا على الطريق، ويخرجنا على القوم من
كثب فقام أبو خثيمة الحارثي، فقال أنا يا رسول الله، ويقال أوس بن قيظي
ويقال محيصة.
قال الواقدي: وأثبت ذلك عندنا أبو خثيمة خرج برسول الله صلى الله عليه وآله،
وركب فرسه، فسلك به في بنى حارثة، ثم أخذ في الأموال حتى مر بحائط مربع بن قيظي،
وكان أعمى البصر منافقا، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وآله حائطه، قام يحثى
التراب في وجوه المسلمين، ويقول إن كنت رسول الله فلا تدخل حائطي، فلا
أحله لك.
قال محمد بن إسحاق: وقذ ذكر أنه أخذ حفنة من تراب، وقال: والله لو أعلم أنى
لا أصيب غيرك يا محمد لضربت بها وجهك (1).
قال الواقدي: فضربه سعد بن زيد الأشهلي بقوس يده فشجه في رأسه، فنزل
الدم، فغضب له بعض بنى حارثة ممن هو على مثل رأيه، فقال: (2 هي على عداوتكم
يا بنى عبد الأشهل، لا تدعونها أبدا لنا 2) فقال أسيد بن حضير: لا
والله، ولكن نفاقكم، والله لولا إني لا أدرى ما يوافق النبي صلى الله عليه وآله لضربت عنقه وعنق من هو على
مثل رأيه.
قال: ونهاهم النبي صلى الله عليه وآله عن الكلام فاسكتوا.

(1) سيرة ابن هشام 3: 9.
(2 - 2) الواقدي: (هي عداوتكم يا بني عبد الأشهل لا تدعوها أبدا).
229

وقال محمد بن إسحاق: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: دعوه، فإنه أعمى البصر،
أعمى القلب. يعنى مربع بن قيظي.
قال الواقدي: ومضى رسول الله صلى الله عليه وآله، فبينا هو في مسيره إذ ذب فرس
أبى بردة بن نيار بذنبه فأصاب كلاب سيفه، فسل سيفه، فقال رسول الله صلى الله عليه
وآله: يا صاحب السيف، شم (2) سيفك، فإني أخال السيوف ستسل اليوم فيكثر سلها.
قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يحب الفأل، ويكره الطيرة، قال: ولبس رسول
الله صلى الله عليه وآله من الشيخين درعا واحدة، حتى انتهى إلى أحد، فلبس درعا
أخرى ومغفرا، وبيضة فوق المغفر، فلما نهض رسول الله صلى الله عليه وآله من
الشيخين، زحف المشركين على تعبية حتى انتهوا إلى موضع أرض ابن عامر اليوم، فلما
انتهى رسول الله صلى الله عليه وآله إلى موضع القنطرة اليوم جاءه وقد حانت الصلاة،
وهو يرى المشركين، فأمر بلالا فأذن، وأقام وصلى بأصحابه الصبح صفوفا، وانخزل (3)
عبد الله بن أبي من ذلك المكان في كتيبته، كأنه هيقه (4) تقدمهم، فأتبعهم عبد الله بن
عمرو بن حرام، فقال: أذكركم الله ودينكم ونبيكم، وما شرطتم له أن تمنعوه مما تمنعون
منه أنفسكم وأولادكم ونساءكم فقال ابن أبي: ما أرى إنه يكون بينهم قتال، وإن أطعتني
يا أبا جابر لترجعن، فان أهل الرأي والحجى قد رجعوا، ونحن ناصروه في مدينتنا، وقد
خالفنا، وأشرت عليه بالرأي فأبى إلا طواعية الغلمان فلما أبى على عبد الله بن عمرو أن
يرجع، ودخل هو وأصحابه أزقة المدينة، قال لهم أبو جابر: أبعدكم الله إن الله سيغني النبي
والمؤمنين عن نصركم. فانصرف ابن أبي وهو يقول: أيعصيني ويطيع الولدان وانصرف
عبد الله بن عمرو يعدو حتى لحق رسول الله وهو يسوى الصفوف، فلما أصيب أصحاب

(1) سيرة ابن هشام 3: 9.
(2) شم سيفك، أي اغمده.
(3) انخزل، أي انفرد، وانظر اللسان.
(4) الهيق: ذكر النعام.
230

رسول الله صلى الله عليه وآله سر ابن أبي، وأظهر الشماتة، وقال: عصاني وأطاع من
لا رأى له.
قال الواقدي: وجعل رسول الله صلى الله عليه وآله يصف أصحابه، وجعل الرماة
خمسين رجلا على عينين، عليهم عبد الله بن جبير - ويقال سعد بن أبي وقاص، والثبت
انه عبد الله بن جبير - قال: وجعل أحدا خلف ظهره، واستقبل المدينة وجعل عينين
عن يساره، وأقبل المشركون، واستدبروا المدينة في الوادي، واستقبلوا أحدا، ويقال
جعل عينين خلف ظهره، واستدبر الشمس، واستقبلها المشركون.
قال: والقول الأول أثبت عندنا، أن أحدا كان خلف ظهره، وهو عليه السلام
مستقبل المدينة.
قال: ونهى أن يقاتل أحد حتى يأمرهم بالقتال، فقال عمارة بن يزيد بن السكن
أنى نغير على زرع بنى قيلة ولما نضارب واقبل المشركون قد صفوا صفوفهم، واستعملوا على
الميمنة خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل، ولهم مجنبتان، مائتا فرس،
وجعلوا على الخيل صفوان بن أمية - ويقال عمرو بن العاص - وعلى الرماة عبد الله بن أبي
ربيعة، وكانوا مائة رام، ودفعوا اللواء إلى طلحة بن أبي طلحة - واسم أبى طلحة عبد الله (1)
بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي - وصاح أبو سفيان يومئذ يا بنى عبد الدار،
نحن نعرف إنكم أحق باللواء منا، وأنا إنما أتينا يوم بدر من اللواء، وإنما يؤتى
القوم من قبل لوائهم، فالزموا لواءكم، وحافظوا عليه، وخلوا بيننا وبينه، فإنا قوم
مستميتون موتورون، نطلب ثأرا حديث العهد وجعل يقول: إذا زالت الألوية، فما
قوام الناس وبقاؤهم بعدها فغضبت بنو عبد الدار، وقالوا: نحن نسلم لواءنا لا كان
هذا أبدا وأما المحافظة (2) عليه فسترى. ثم أسندوا الرماح إليه، وأحدقت به بنو عبد الدار،

(1) في الواقدي: (عبد العزي بن عثمان).
(2) في الواقدي: (فأما محافظة عليه).
231

وأغلظوا لأبي سفيان بعض الاغلاظ، فقال أبو سفيان: فنجعل لواء آخر قالوا نعم،
ولا يحمله إلا رجل من بنى عبد الدار، لا كان غير ذلك أبدا.
قال الواقدي: وجعل رسول الله صلى الله عليه وآله يمشى على رجليه، يسوى تلك
الصفوف، ويبوئ أصحابه مقاعد للقتال، يقول: تقدم يا فلان، وتأخر يا فلان، حتى
إنه ليرى منكب الرجل خارجا فيؤخره، فهو يقومهم كأنما يقوم القداح، حتى إذا
استوت الصفوف، سأل من يحمل لواء المشركين قيل عبد الدار، قال: نحن أحق
بالوفاء منهم، أين مصعب بن عمير قال: ها أنا ذا قال: خذ اللواء، فاخذه مصعب فتقدم
به بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله.
قال البلاذري: أخذه من علي عليه السلام، فدفعه إلى مصعب بن عمير لأنه من
بنى عبد الدار (1).
قال الواقدي: ثم قام عليه السلام، فخطب الناس، فقال صلى الله عليه وسلم: أيها
الناس، أوصيكم بما أوصاني به الله في كتابه، من العمل بطاعته، والتناهي عن محارمه.
ثم إنكم اليوم بمنزل أجر وذخر لمن ذكر الذي عليه، ثم وطن نفسه على الصبر واليقين
والجد والنشاط، فان جهاد العدو شديد كريه، قليل من يصبر عليه، إلا من عزم له على
رشده. إن الله مع من أطاعه، وإن الشيطان مع من عصاه، فاستفتحوا أعمالكم بالصبر
على الجهاد، والتمسوا بذلك ما وعدكم الله، وعليكم بالذي آمركم به، فإني حريص على
رشدكم. إن الاختلاف والتنازع والتثبيط من أمر العجز والضعف، وهو مما لا يحبه الله،
ولا يعطى عليه النصر والظفر. أيها الناس إنه قذف في قلبي إن من كان على حرام فرغب
عنه ابتغاء ما عند الله غفر الله له ذنبه، ومن صلى على محمد (2) صلى الله عليه وملائكته

(1) أنساب الأشراف 1: 317.
(2) ا، والواقدي: (ومن صلى علي).
232

عشرا، ومن أحسن، من مسلم أو كافر وقع أجره على الله في عاجل دنياه أو في آجل آخرته،
ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة، إلا صبيا أو امرأة أو مريضا
أو عبدا مملوكا، ومن استغنى عنها استغنى الله عنه، والله غنى حميد. ما أعلم من عمل يقربكم
إلى الله إلا وقد أمرتكم به، ولا اعلم من عمل يقربكم إلى النار إلا وقد نهيتكم عنه،
وأنه قد نفث الروح الأمين في روعي إنه لن تموت نفس حتى تستوفى أقصى رزقها،
لا ينقص منه شئ وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله ربكم، وأجملوا في طلب الرزق،
ولا يحملنكم استبطاؤه على أن تطلبوه بمعصية ربكم، فإنه لا يقدر على ما عنده
إلا بطاعته، قد بين لكم الحلال والحرام، غير أن بينهما شبها من الامر لم يعلمها كثير
من الناس إلا من عصم، فمن تركها حفظ عرضه ودينه، ومن وقع فيها كان كالراعي إلى
جنب الحمى أوشك أن يقع فيه ويفعله، وليس ملك إلا وله حمى، ألا وإن حمى الله
محارمه، والمؤمن من المؤمنين كالرأس من الجسد، إذا اشتكى تداعى إليه سائر جسده.
والسلام عليكم.
قال الواقدي: فحدثني ابن أبي سبرة، عن خالد بن رباح عن المطلب بن عبد الله،
قال: أول من أنشب الحرب بينهم أبو عامر، طلع في خمسين من قومه، معه عبيد قريش
فنادى أبو عامر - واسمه عبد عمرو - يا للأوس أنا أبو عامر، قالوا، لا مرحبا بك ولا أهلا،
يا فاسق فقال: لقد أصاب قومي بعدي شر. قال: ومعه عبيد أهل مكة، فتراموا
بالحجارة هم والمسلمون، حتى تراضخوا بها ساعة إلى أن ولى أبو عامر وأصحابه، ويقال
إن العبيد لم يقاتلوا، وإنهم أمروهم بحفظ عسكرهم.
قال الواقدي: وجعل نساء المشركين قبل أن يلتقي الجمعان أمام صفوف المشركين
يضربن بالأكبار (1) والدفاف والغرابيل (2)، ثم يرجعن فيكن إلى مؤخر الصف، حتى

(1) الأكبار: جمع كبر، بفتحتين، وهو الطبل، معرب.
(2) الغرابيل: جمع غربال، وهو هنا الدف.
233

إذا دنوا من المسلمين تأخر النساء، فقمن خلف الصفوف، وجعلن كلما ولى رجل حرضنه،
وذكرنه قتلى بدر.
وقال الواقدي: وكان قزمان من المنافقين، وكان قد تخلف عن أحد، فلما أصبح
عيره نساء بنى ظفر، فقلن يا قزمان، قد خرج الرجال وبقيت استحي يا قزمان،
ألا تستحي مما صنعت ما أنت إلا امرأة، خرج قومك وبقيت في الدار فأحفظنه
فدخل بيته، فأخرج قوسه وجعبته وسيفه - وكان يعرف بالشجاعة - وخرج يعدو، حتى
إنتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يسوى صفوف المسلمين، فجاء من خلف
الصف، حتى انتهى إلى الصف الأول، فكان فيه، وكان أول من رمى بسهم من
المسلمين، جعل يرسل نبلا كأنها الرماح، وإنه ليكت كتيت (1) الجمل ثم صار إلى السيف،
ففعل الأفاعيل، حتى إذا كان آخر ذلك قتل نفسه. وكان رسول الله صلى الله عليه
وآله إذا ذكره قال: من أهل النار. قال: فلما انكشف المسلمون، كسر جفن سيفه
وجعل يقول: الموت أحسن من الفرار. يا للأوس قاتلوا على الأحساب، واصنعوا مثل
ما أصنع قال: فيدخل بالسيف وسط المشركين، حتى يقال قد قتل، ثم يطلع فيقول أنا
الغلام الظفري، حتى قتل منهم سبعة، وأصابته الجراحة، وكثرت فيه، فوقع فمر به
قتادة بن النعمان، فقال له: أبا الغيداق، قال قزمان: لبيك، قال: هنيئا لك الشهادة قال
قزمان: إني والله ما قاتلت يا أبا عمرو على دين، ما قاتلت إلا على الحفاظ، أن تسير قريش
إلينا فتطأ سعفنا، قال: فأذته الجراحة فقتل نفسه، فقال النبي صلى الله عليه وآله: (إن
الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر (2)).

(1) الكتيت: صياح الجمل.
(2) في ابن هشام 3: 37 عن ابن إسحاق: (حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، قال: كان فينا رجل
أتي لا يدرى ممن هو، يقال له قزمان، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول إذا ذكر له: (إنه
لمن أهل النار) قال: (فلما كان يوم أحد قاتل قتالا شديدا، فقتل وحده ثمانية أو سبعة من المشركين. وكان ذا بأس، فأثبتته الجراحة، فاحتمل إلى دار بني مظفر. قال: فجعل رجال من المسلمين
يقولون له: والله لقد أبليت اليوم يا قزمان فأبشر، قال: بماذا أبشر؟ فوالله إن قاتلت إلا على أحساب قومي، ولولا ذلك ما قاتلت، قال: فلما اشتدت به جراحته أخذ سهما من كنانته، فقتل به نفسه).
234

قال الواقدي: وتقدم رسول الله صلى الله عليه وآله إلى الرماة، فقال: احموا لنا
ظهورنا، فإنا نخاف أن نؤتى من ورائنا، والزموا مكانكم، لا تبرحوا منه، وإن
رأيتمونا نهزمهم حتى ندخل عسكرهم، فلا تفارقوا مكانكم، وإن رأيتمونا نقتل، فلا
تعينونا، ولا تدفعوا عنا. اللهم إني أشهدك عليهم، ارشقوا (1) خيلهم بالنبل، فإن الخيل
لا تقدم على النبل، وكان للمشركين مجنبتان ميمنة عليها خالد بن الوليد، وميسرة عليها
عكرمة بن أبي جهل.
قال الواقدي: وعمل رسول الله صلى الله عليه وآله لنفسه ميمنة وميسرة، ودفع اللواء
الأعظم إلى مصعب بن عمير، ودفع لواء الأوس إلى أسيد بن حضير، ولواء الخزرج إلى سعد بن
عبادة - وقيل إلى الحباب بن المنذر - فجعلت الرماة تحمى ظهور المسلمين، وترشق
خيل المشركين بالنبل، فولت هاربة قال بعض المسلمين (2): والله لقد رمقت نبلنا يومئذ،
ما رأيت سهما واحدا مما يرمى به خيلهم يقع في الأرض، إما في فرس أو في رجل، ودنا
القوم بعضهم من بعض، وقدموا طلحة بن أبي طلحة صاحب لوائهم، وصفوا صفوفهم،
وأقاموا النساء خلف الرجال يضربن بين أكتافهم بالأكبار والدفوف، وهند وصواحبها
يحرضن ويذمرن (3) الرجال، ويذكرن من أصيب ببدر، ويقلن:
نحن بنات طارق * نمشي على النمارق
إن تقبلوا نعانق * أو تدبروا نفارق
* فراق غير وامق *
قال الواقدي: وبرز طلحة، فصاح: من يبارز فقال علي عليه السلام له: هل
لك في مبارزتي قال: نعم، فبرزا بين الصفين ورسول الله صلى الله عليه وآله جالس تحت

(1) أرشق الرامي: رمى وجها، أي أطلق السهم إلى المكان المواجه له.
(2) الواقدي: (الرماة).
(3) يذمرون الرجال: يحضونهم على القتال.
235

الراية، عليه درعان ومغفر وبيضته، فالتقيا فبدره علي عليه السلام (1) بضربة على رأسه،
فمضى السيف حتى فلق هامته إلى أن انتهى إلى لحيته فوقع، وانصرف علي عليه السلام،
فقيل له هلا ذففت (2) عليه قال: إنه لما صرع استقبلني بعورته، فعطفتني عليه الرحم،
وقد علمت أن الله سيقتله، هو كبش الكتيبة.
قال الواقدي: وروى أن طلحة حمل على علي عليه السلام، فضربه بالسيف،
فاتقاه بالدرقة، فلم يصنع شيئا، وحمل علي عليه السلام وعلى طلحة درع ومغفر،
فضربه بالسيف، فقطع ساقيه، ثم أراد أن يذفف عليه، فسأله طلحة بالرحم ألا يفعل،
فتركه ولم يذفف عليه.
قال الواقدي: ويقال أن عليا عليه السلام دفف عليه، ويقال أن بعض المسلمين
مر به في المعركة فذفف عليه. قال: فلما قتل طلحة سر رسول الله صلى الله عليه وآله
وكبر تكبيرا عاليا وكبر المسلمون، ثم شد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله على
كتائب المشركين، فجعلوا يضربون وجوههم، حتى انتقضت صفوفهم، ولم يقتل إلا طلحة
بن أبي طلحة وحده.
قال الواقدي: ثم حمل لواء المشركين بعد طلحة أخوه عثمان بن أبي طلحة، وهو
أبو شيبة، فارتجز وقال:
إن على رب اللواء حقا * أن تخصب الصعدة أو تندقا
فتقدم باللواء، والنسوة خلفه يحرضن ويضربن بالدفوف، فحمل عليه حمزة بن
عبد المطلب رحمه الله، فضربه بالسيف على كاهله، فقطع يده وكتفه، حتى انتهى إلى

(1) ب: (فبرزه) تحريف، والصواب ما في ا، والواقدي.
(2) ذففت عليه أجهز.
236

مؤتزره فبدا سحره (1)، ورجع فقال أنا ابن ساقى الحجيج، ثم حمل اللواء أخوهما
أبو سعد بن أبي طلحة، فرماه سعد بن أبي وقاص فأصاب حنجرته، وكان دراعا،
وعليه مغفر لا رفرف عليه (2)، وعلى رأسه بيضته فأدلع لسانه (3) إدلاع الكلب.
قال الواقدي: وقد روى أن أبا سعد لما حمل اللواء، قام النساء خلفه يقلن
ضربا بنى عبد الدار * ضربا حماة الادبار
* ضربا بكل بتار *.
قال سعد بن أبي وقاص: فأحمل عليه فأقطع يده اليمنى، فأخذ اللواء باليد اليسرى،
فأضربه على يده اليسرى، فقطعتها، فأخذ اللواء بذراعيه جميعا وضمه إلى صدره، وحنى
عليه ظهره. قال سعد: فأدخل سية القوس بين الدرع والمغفر، فاقلع (4) المغفر، فأرمى
به وراء ظهره، ثم ضربته حتى قتلته، وأخذت أسلبه درعه، فنهض إلى سبيع بن
عبد عوف ونفر معه فمنعوني سلبه، وكان سلبه أجود سلب رجل من المشركين، درع
فضفاضة، ومغفر وسيف جيد، ولكن حيل بيني وبينه.
قال الواقدي: وهذا أثبت القولين.
قلت شتان بين على وسعد هذا يجاحش على السلب ويتأسف على فواته، وذلك
يقتل عمرو بن عبد ود يوم الخندق، وهو فارس قريش وصنديدها ومبارزه، فيعرض
عن سلبه، فيقال له كيف تركت سلبه وهو أنفس سلب فيقول كرهت أن أبز
السبي، ثيابه فكان حبيبا عناه بقوله

(1) السحر هنا: الرئة.
(2) الواقدي: (له).
(3) أدلع لسانه، أخرجه.
(4) الواقدي: (فاقتلع).
237

إن الأسود أسود الغاب همتها * يوم الكريهة في المسلوب لا السلب (1).
قال الواقدي: ثم حمل لواء المشركين بعد أبي سعد بن أبي طلحة مسافع بن أبي
طلحة، فرماه عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح فقتله، فحمل إلى أمه سلافة بنت سعد
بن الشهيد، وهي مع النساء بأحد، فقالت: من أصابك قال: لا أدرى، سمعته
يقول: خذها وأنا ابن الأقلح، فقالت: أقلحي والله أي هو من رهطي - وكانت
من الأوس.
قال الواقدي: وروى أن عاصما لما رماه، قال له: خذها وأنا ابن كسرة، وكانوا
يقال لهم في الجاهلية بنو كسر الذهب، فقال لامه لا أدرى، إلا إني سمعته يقول
خذها وأنا ابن كسرة، فقالت سلافة أوسى والله كسرى، أي إنه منا، فيومئذ
نذرت سلافة أن تشرب في قحف رأس عاصم بن ثابت الخمر، وجعلت لمن جاءها به مائة
من الإبل.
قلت فلما قتله المشركون في يوم الرجيع أرادوا أن يأخذوا رأسه، فيحملوه إلى
سلافة فحمته الدبر (2) يومه ذلك، فلما جاء الليل فظنوا أن الدبر لا تحميه ليلا، جاء
الوادي بسيل عظيم، فذهب برأسه وبدنه، اتفق المؤرخون على ذلك.
قال الواقدي: ثم حمل اللواء بعد الحارث أخوه كلاب بن طلحة بن أبي طلحة، فقتله
الزبير بن العوام، ثم حمله أخوه الجلاس بن طلحة بن أبي طلحة، فقتله طلحة بن عبيد الله،
ثم حمله أرطاة بن عبد شرحبيل، فقتله علي بن أبي طالب عليه السلام، ثم حمله شريح بن

(1) ديوانه 1: 71، وروايته: (إن أسود الغيل).
(2) الدبر: جماعة النحل أو الزنابير.
238

قانط (1)، فقتل لا يدرى من قتله، ثم حمله صواب، غلام بنى عبد الدار، فاختلف في
قاتله فقيل قتله علي بن أبي طالب عليه السلام، وقيل سعد بن أبي وقاص. وقيل قزمان،
وهو أثبت الأقوال.
قال الواقدي: إنتهى قزمان إلى صواب، فحمل عليه، فقطع يده اليمنى، فاحتمل اللواء
باليسرى فقطع اليسرى، فاحتضن اللواء بذراعيه وعضديه، وحنى عليه ظهره، وقال:
يا بنى عبد الدار، هل أعذرت فحمل عليه قزمان فقتله.
قال الواقدي: وقالوا ما ظفر الله تعالى نبيه في موطن قط ما ظفره وأصحابه يوم
أحد، حتى عصوا الرسول، وتنازعوا في الامر، لقد قتل أصحاب اللواء وانكشف المشركون
منهم لا يلوون، ونساؤهم يدعون بالويل بعد ضرب الدفاف والفرح.
قال الواقدي: وقد روى كثير من الصحابة ممن شهد أحدا، قال: كل واحد منهم
والله إني لأنظر إلى هند وصواحبها منهزمات، ما دون أخذهن شئ لمن أراده، ولكن
لا مرد لقضاء الله. قالوا وكان خالد بن الوليد كلما أتى من قبل ميسرة النبي صلى الله
عليه وآله ليجوز حتى يأتيهم من قبل السفح، ترده الرماة، حتى فعل وفعلوا ذلك مرارا،
ولكن المسلمين أتوا من قبل الرماة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوعز إليهم
فقال قوموا على مصافكم هذه فاحموا ظهورنا، فان رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا،
وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا. فلما انهزم المشركون، وتبعهم المسلمون يضعون
السلاح فيهم حيث شاؤوا حتى أجهزوهم عن المعسكر، ووقعوا ينتهبونه. قال بعض الرماة
لبعض: لم تقيمون هاهنا في غير شئ قد هزم الله العدو، وهؤلاء إخوانكم ينهبون
عسكرهم، فأدخلوا عسكر المشركين، فاغنموا مع إخوانكم، فقال بعضهم ألم تعلموا
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لكم: (أحموا ظهورنا، وإن غنمنا فلا يشركونا)،

(1) الواقدي: (فارظ).
239

فقال الآخرون لم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا، وقد أذل الله المشركين
وهزمهم، فأدخلوا العسكر، فانتهبوا مع إخوانكم. فلما اختلفوا خطبهم أميرهم عبد الله
بن جبير، وكان يومئذ معلما بثياب بيض، فحمد الله وأمرهم بطاعة رسوله، وألا يخالف
أمره، فعصوه، وانطلقوا فلم يبق معه إلا نفير ما يبلغون العشرة، منهم الحارث بن أنس
بن رافع، يقول يا قوم، اذكروا عهد نبيكم إليكم، وأطيعوا أميركم. فأبوا،
وذهبوا إلى عسكر المشركين ينتهبون، وخلوا الجبل (1)، وانتقضت صفوف المشركين،
واستدارت رحالهم، ودارت (2) الريح - وكانت إلى أن انتقض صفهم صبا، فصارت
دبورا - فنظر خالد بن الوليد إلى خلاء الجبل وقلة أهله، فكر بالخيل، وتبعه عكرمة بالخيل،
فانطلقا إلى موضع الرماة، فحملوا عليهم، فرماهم القوم حتى أصيبوا، ورمى عبد الله بن
جبير حتى فنيت نبله، ثم طاعن بالرمح حتى انكسر، ثم كسر جفن سيفه، فقاتل
حتى قتل، وأفلت جعيل بن سراقة وأبو بردة بن نيار بعد أن شاهدا قتل عبد الله بن
جبير، وكان آخر من انصرف من الخيل، فلحقا بالمسلمين.
قال الواقدي: فروى رافع بن خديج، قال: لما قتل خالد الرماة أقبل بالخيل وعكرمة
بن أبي جهل يتلوه، فخالطنا وقد انتقضت صفوفنا، ونادى إبليس - وتصور في صورة
جعيل بن سراقة: أن محمدا قد قتل ثلاث صرخات، فابتلي يومئذ جعيل بن سراقة
ببلية عظيمة حين تصور إبليس في صورته، وإن جعيلا ليقاتل مع المسلمين أشد القتال،
وإنه إلى جنب أبى بردة بن نيار وخوات بن جبير. قال رافع بن خديج: فوالله ما رأينا دولة
كانت أسرع من دولة المشركين علينا، وأقبل المسلمون على جعيل بن سراقة يريدون قتله،
يقولون هذا الذي صاح أن محمدا قد قتل، فشهد له خوات بن جبير وأبو بردة، إنه كان
إلى جنبهما حين صاح الصائح، وإن الصائح غيره.

(1) الواقدي: (عينين)، وهو الجبل.
(2) الواقدي: (وحالت).
240

قال الواقدي: فروى رافع، قال: أتينا من قبل أنفسنا، ومعصية نبينا، واختلط
المسلمون، وصاروا يقتلون ويضرب بعضهم بعضا، وما يشعرون بما يصنعون من الدهش
والعجل، وقد جرح يومئذ أسيد بن حضير جرحين، ضربه أحدهما أبو بردة بن نيار،
وما يدرى، يقول خذها وأنا الغلام الأنصاري، وكر أبو زعنة في حومة القتال، فضرب
أبا بردة ضربتين، ما يشعر أنه هو يقول خذها وأنا أبو زعنة، حتى عرفه بعد، فكان إذا
لقيه قال: انظر ما صنعت بي، فيقول أبو زعنة: وأنت فقد ضربت أسيد بن حضير
ولا تشعر ولكن هذا الجرح في سبيل الله، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله،
فقال هو في سبيل الله يا أبا بردة، لك أجره، حتى كأنك ضربك أحد المشركين، ومن
قتل فهو شهيد.
قال الواقدي: وكان الشيخان حسيل بن جابر ورفاعة بن وقش شيخين كبيرين، قد
رفعا في الآطام مع النساء، فقال أحدهما لصاحبه: لا أبا لك ما نستبقي من أنفسنا فوالله
ما نحن إلا هامة اليوم أو غد، وما بقي من أجلنا قدر ظمء (1) دابة، فلو أخذنا أسيافنا
فلحقنا برسول الله صلى الله عليه وآله لعل الله يرزقنا الشهادة قال: فلحقا برسول الله صلى
الله عليه وآله، فأما رفاعة فقتله المشركون، وأما حسيل بن جابر فالتفت عليه سيوف
المسلمين، وهم لا يعرفونه حين اختلطوا، وابنه حذيفة يقول أبى أبى حتى قتل، فقال
حذيفة يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، ما صنعتم فزاد به عند رسول الله صلى الله عليه
وآله خيرا، وأمر رسول الله بديته أن تخرج، ويقال إن الذي أصابه عتبة بن مسعود،
فتصدق حذيفة ابنه بدمه على المسلمين.
قال الواقدي: وأقبل يومئذ الحباب بن المنذر بن الجموح يصيح يا آل سلمة فأقبلوا

(1) يقال: ما بقي منه إلا ظمء دابة، أي لم يبق من عمره إلا اليسير.
241

عنقا (1) واحدا: لبيك داعي الله، لبيك داعي الله! فيضرب يومئذ جبار بن صخر ضربة في
رأسه مثقلة وما يدرى، حتى أظهروا الشعار بينهم، فجعلوا يصيحون أمت أمت
فكف بعضهم عن بعض.
قال الواقدي: وكان نسطاس مولى ضرار بن أمية ممن حضر أحدا مع المشركين،
ثم أسلم بعد، وحسن اسلامه، فكان يحدث، قال: قد كنت ممن خلف في العسكر يومئذ،
ولم يقاتل معهم عبد إلا وحشى وصواب غلام بنى عبد الدار، فكان أبو سفيان صاح
فيهم يا معشر قريش، خلوا (2) غلمانكم على متاعكم يكونوا هم الذين يقومون على
رحالكم، فجمعنا بعضها إلى بعض، وعقلنا الإبل، وانطلق القوم على تعبيتهم، ميمنة
وميسرة وألبسنا الرحال الأنطاع، ودنا القوم بعضهم من بعض، فاقتتلوا ساعة، وإذا
أصحابنا منهزمون، فدخل المسلمون معسكرنا، ونحن في الرحال، فأحدقوا (3) بنا، فكنت
فيمن أسروا، وانتهبوا المعسكر أقبح انتهاب، حتى أن رجلا منهم قال: أين مال
صفوان بن أمية فقلت: ما حمل إلا نفقة في الرحل، فخرج يسوقني حتى أخرجتها من
العيبة خمسين ومائة مثقال ذهبا، وقد ولى أصحابنا وأيسنا منهم، وانحاش النساء، فهن في
حجرهن سلم لمن أرادهن، فصار النهب في أيدي المسلمين.
قال نسطاس: فانا لعلى ما نحن عليه من الاستسلام، ونظرت إلى الجبل، فإذا خيل
مقبلة تركض، فدخلوا العسكر، فلم يكن أحد يردهم، قد ضيعت الثغور التي كان بها الرماة
وجاؤوا إلى النهب والرماة ينتهبون، وأنا أنظر إليهم متأبطي قسيهم وجعابهم، كل واحد
منهم في يديه أو حضنه شئ قد أخذه، فلما دخلت خيلنا دخلت على قوم غارين
آمنين، فوضعوا فيهم السيوف، فقتلوهم قتلا ذريعا، وتفرق المسلمون في كل وجه،

(1) العنق: الجماعة من الناس.
(2) ا والواقدي: (خلفوا).
(3) ا والواقدي: (فدخل أصحاب محمد في الرحال، فأحدقوا بنا).
242

وتركوا ما انتهبوا، وأجلوا عن عسكرنا، فارتجعنا بعد، لم نفقد منه شيئا، وخلوا
أسرانا، ووجدنا الذهب في المعركة، ولقد رأيت يومئذ رجلا من المسلمين ضم صفوان
بن أمية إليه ضمه ظننت أنه سيموت، حتى أدركته وبه رمق، فوجأت (1) ذلك
المسلم بخنجر معي، فوقع، فسألت عنه، فقيل رجل من بنى ساعدة. ثم هداني الله
بعد للاسلام.
قال الواقدي: فحدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله، عن عمر بن الحكم،
قال: ما علمنا أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله الذين أغاروا على النهب
فأخذوا ما أخذوا من الذهب بقي معه من ذلك شئ يرجع به حيث غشينا المشركون،
واختلفوا إلا رجلين أحدهما عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، جاء بمنطقة وجدها في
العسكر، فيها خمسون دينارا فشدها على حقويه من تحت ثيابه، وجاء عباد بن بشر
بصرة فيها ثلاثة عشر مثقالا ألقاها في جيب قميصه، وفوقها الدرع وقد حزم وسطه،
فأتيا بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله فلم يخمسه ونفلهما إياه.
قال الواقدي: وروى يعقوب بن أبي صعصعة، عن موسى بن ضمرة، عن أبيه،
قال: لما صاح الشيطان أزب (2) العقبة، أن محمدا قد قتل لما أراد الله عز وجل من
ذلك، سقط في أيدي المسلمين، وتفرقوا في كل وجه، واصعدوا في الجبل، فكان
أول من بشرهم بكون رسول الله صلى الله عليه وآله سالما كعب بن مالك. قال
كعب عرفته، فجعلت أصيح هذا رسول الله وهو يشير إلى بإصبعه على فيه
أن اسكت.
قال الواقدي: وروت عميرة بنت عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيها، قالت
قال أبى: لما انكشف الناس كنت أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وآله

(1) وجأته، أي ضربته.
(2) لزب العقبة: اسم لشيطان معروف ذكر في حديث العقبة. أنظر القاموس.
243

وبشرت به المسلمين حيا سويا، عرفت عينيه من تحت المغفر، فناديت يا معشر الأنصار
أبشروا، فهذا رسول الله صلى الله عليه وآله، فأشار إلى رسول الله صلى الله عليه وآله
أن اصمت. قال: ودعا رسول الله صلى الله عليه وآله بكعب، فلبس لامته، وألبس كعبا
لامة نفسه، وقاتل كعب قتالا شديدا، جرح سبعة عشر جرحا.
قال الواقدي: وحدثني ابن أبي سبرة عن خالد بن رباح، عن الأعرج، قال:
لما صاح الشيطان أن محمدا قد قتل، قال أبو سفيان بن حرب: يا معشر قريش، أيكم
قتل محمدا قال ابن قميئة: أنا قتلته. قال: نسورك (1) كما تفعل الأعاجم بأبطالها. وجعل
أبو سفيان يطوف بأبي عامر الفاسق في المعركة، هل يرى محمدا بين القتلى فمر بخارجة
بن زيد بن أبي زهير، فقال: يا أبا سفيان، هل تدرى من هذا قال: لا، قال:
هذا خارجة بن زيد، هذا أسيد بنى الحارث بن الخزرج، ومر بعباس بن عبادة بن نضلة
إلى جنبه، قال: أتعرفه قال: لا، قال: هذا ابن قوقل، هذا الشريف في بيت
الشرف، ثم مر بذكوان بن عبد قيس، فقال: وهذا من ساداتهم، ثم مر بابنه حنظلة
بن أبي عامر، فوقف عليه، فقال أبو سفيان: من هذا قال: هذا أعز من هاهنا على،
هذا ابني حنظلة. قال أبو سفيان: ما نرى مصرع محمد، ولو كان قتل لرأيناه، كذب
ابن قميئة. ولقى خالد بن الوليد، فقال: هل تبين عندك قتل محمد قال: لا، رأيته أقبل
في نفر من أصحابه مصعدين في الجبل، فقال أبو سفيان: هذا حق، كذب ابن قميئة،
زعم أنه قتله.
قلت قرأت على النقيب أبى يزيد رحمه الله هذه الغزاة من كتاب الواقدي،
وقلت له كيف جرى لهؤلاء في هذه الوقعة فإني أستعظم ما جرى فقال وما في ذلك
مما تستعظمه حمل قلب المسلمين من بعد قتل أصحاب الألوية على قلب المشركين، فكسره

(1) نسورك: نلبسك السوار، وهذا مما كانت تفعله الأعاجم بملوكهم.
244

فلو ثبتت مجنبتا رسول الله اللتان فيهما أسيد بن حضير والحباب بن المنذر بإزاء مجنبتي
المشركين، لم ينكسر عسكر الاسلام، ولكن مجنبتا المسلمين أطبقت إطباقا واحدا على
قلب المشركين، مضافا إلى قلب المسلمين، فصار عسكر رسول الله صلى الله عليه وآله
قلبا واحدا، وكتيبة واحدة، فحطمه قلب قريش حطمة شديدة. فلما رأت مجنبتا قريش
إنه ليس بإزائها أحد، استدارت المجنبتان من وراء عسكر المسلمين، وصمد كثير منهم
للرماة الذين كانوا يحمون ظهر المسلمين، فقتلوهم عن آخرهم، لأنهم لم يكونوا ممن يقومون
لخالد وعكرمة، وهما في ألفي رجل، وإنما كانوا خمسين رجلا، لا سيما وقد ترك كثير منهم
مركزه وشره إلى الغنيمة، فأكب على النهب
قال رحمه الله: والذي كسر المسلمين يومئذ، ونال كل منال خالد بن الوليد، وكان
فارسا شجاعا، ومعه خيل كثيرة، ورجال أبطال موتورون، واستدار خلف الجبل، فدخل
من الثغرة التي كان الرماة عليها، فاتاه من وراء المسلمين، وتراجع قلب المشركين بعد
الهزيمة، فصار المسلمون بينهم في مثل الحلقة المستديرة، واختلط الناس، فلم يعرف المسلمون
بعضهم بعضا، وضرب الرجل منهم أخاه وأباه بالسيف وهو لا يعرفه لشدة النقع والغبار،
ولما اعتراهم من الدهش والعجلة والخوف، فكانت الدبرة عليهم، بعد أن كانت لهم،
ومثل هذا يجرى دائما في الحرب.
فقلت له رحمه الله: فلما انكشف المسلمون، وفر منهم من فر، ما كانت حال
رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: ثبت في نفر يسير من أصحابه يحامون عنه.
فقلت: ثم ماذا، قال: ثم ثابت إليه الأنصار، وردت إليه عنقا واحدا بعد
فرارهم وتفرقهم، وامتاز المسلمون على المشركين وكانوا ناحية، ثم التحمت الحرب،
واصطدم الفيلقان (1).

(1) الفيلق، كصيقل الجيش.
245

قلت: ثم ماذا قال: لم يزل المسلمون يحامون عن رسول الله صلى الله عليه وآله،
والمشركون يتكاثرون عليهم، ويقتلون فيهم حتى لم يبق من النهار إلا القليل،
والدولة للمشركين.
قلت: ثم ماذا قال: ثم علم الذين بقوا من المسلمين إنه لا طاقة لهم بالمشركين،
فأصعدوا في الجبل فاعتصموا به.
فقلت له: فرسول الله صلى الله عليه وآله ما الذي صنع فقال: صعد في الجبال.
قلت له: أفيجوز أن يقال إنه فر فقال: إنما يكون الفرار ممن أمعن في الهرب
في الصحراء والبيداء، فأما من الجبل مطل عليه وهو في سفحه، فلما رأى ما لا يعجبه
أصعد في الجبل، فإنه لا يسمى. فارا ثم سكت رحمه الله ساعة، ثم قال: هكذا وقعت
الحال، فان شئت أن تسمى ذلك فرارا فسمه، فقد خرج من مكة يوم الهجرة فارا من
المشركين، ولا وصمة عليه في ذلك.
فقلت له قد روى الواقدي عن بعض الصحابة، قال: لم يبرح رسول الله صلى
الله عليه وآله ذلك اليوم شبرا واحدا، حتى تحاجزت الفئتان فقال دع صاحب هذه
الرواية فليقل ما شاء، فالصحيح ما ذكرته لك، ثم قال: كيف يقال لم يزل واقفا
حتى تحاجزت الفئتان وإنما تحاجزا بعد أن ناداه أبو سفيان، وهو في أعلى الجبل بما ناداه،
فلما عرف إنه حي وإنه في أعلى الجبل، وإن الخيل لا تستطيع الصعود إليه، وأن القوم
إن صعدوا إليه رجاله لم يثقوا بالظفر به، لان معه أكثر أصحابه وهم مستميتون إن
صعد القوم إليهم، وإنهم لا يقتلون منهم واحدا حتى يقتلوا منهم اثنين أو ثلاثة، لأنهم
لا سبيل لهم إلى الهرب، لكونهم محصورين في ذرو واحد، فالرجل منهم يحامى عن
خيط رقبته - كفوا عن الصعود وقنعوا بما وصلوا إليه من قتل من قتلوه في الحرب، وأملوا
246

يوما ثانيا يكون لهم فيه الظفر الكلى بالنبي صلى الله عليه وآله، فرجعوا عنهم
وطلبوا مكة.
وروى الواقدي عن أبي سبرة عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن أبي
الحويرث، عن نافع بن جبير، قال: سمعت رجلا من المهاجرين يقول شهدت أحدا،
فنظرت إلى النبل يأتي من كل ناحية، ورسول الله صلى الله عليه وآله في وسطها كل
ذلك يصرف عنه، ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذ دلوني على
محمد، فلا نجوت إن نجا وأن رسول الله صلى الله عليه وآله إلى جنبه، ما معه أحد، ثم
جاوزه، ولقى عبد الله بن شهاب صفوان بن أمية، فقال له صفوان: ترحت (1) هلا
ضربت محمدا، فقطعت هذه الشأفة، فقد أمكنك الله منه قال ابن شهاب: وهل رأيته
قال: نعم أنت إلى جنبه، قال: والله ما رأيته، أحلف بالله إنه منا لممنوع، خرجنا أربعة
تعاهدنا وتعاقدنا على قتله، فلم نخلص إلى ذلك.
قال الواقدي: فروى نملة - واسم أبى نملة عبد الله بن معاذ، وكان أبوه معاذ أخا
البراء بن معرور لامه - قال: لما انكشف المسلمون ذلك اليوم نظرت إلى رسول الله صلى
الله عليه وآله وما معه أحد إلا نفير قد أحدقوا به من أصحابه من المهاجرين والأنصار،
فانطلقوا به إلى الشعب وما للمسلمين لواء قائم ولا فئة ولا جمع، وإن كتائب المشركين
لتحوشهم مقبلة ومدبرة في الوادي، يلتقون ويفترقون ما يرون أحدا يردهم.
قال الواقدي، وحدثني إبراهيم بن محمد بن شرحبيل العبدري، عن أبيه، قال:
حمل مصعب اللواء، فلما جال المسلمون ثبت به مصعب قبل ابن قميئة، وهو فارس، فضرب
يد مصعب فقطعها، فقال مصعب: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل).
وأخذ اللواء بيده اليسرى، وحنى عليه فضربه فقطع اليسرى، فضمه بعضديه إلى صدره،

(1) ا: (نزحت).
247

وهو يقول: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل)، ثم حمل عليه الثالثة
بالرمح فأنفذه، واندق الرمح، ووقع مصعب وسقط اللواء، وابتدره رجلان من بنى عبد الدار،
سويبط بن حرملة وأبو الروم، فاخذه أبو الروم، فلم يزل بيده حتى دخل به المدينة، حين
انصرف المسلمون.
قال الواقدي: وقالوا إن رسول الله لما لحمه القتال، وخلص إليه وذب عنه مصعب
بن عمير وأبو دجانة، حتى كثرت به الجراحة، جعل رسول الله صلى الله عليه وآله يقول:
(من رجل يشرى نفسه؟) فوثب فئة من الأنصار خمسة، منهم عمارة بن زياد بن السكن،
فقاتل حتى أثبت، وفاءت فئة من المسلمين حتى أجهضوا أعداء الله، فقال رسول الله صلى
الله عليه وآله لعمارة بن زياد: ادن منى، حتى وسده رسول الله صلى الله عليه وآله قدمه،
وإن به لأربعة عشر جرحا حتى مات، وجعل رسول الله صلى الله عليه وآله يذمر الناس
ويحضهم على القتال، وكان رجال من المشركين قد أذلقوا (1) المسلمين بالرمي: منهم حيان
بن العرقة وأبو أسامة الجشمي، فجعل النبي صلى الله عليه وآله يقول لسعد: (إرم فداك أبي
وأمي) فرمى حيان بن العرقة بسهم فأصاب ذيل أم أيمن، وكانت جاءت يومئذ
تسقى الجرحى، فقلبها، وانكشف ذيلها عنها، فاستغرب حيان بن العرقة ضحكا، وشق
ذلك على رسول الله صلى الله عليه وآله، فدفع إلى سعد بن أبي وقاص سهما لا نصل له،
وقال: ارم به، فرمى فوضع السهم في ثغرة نحر حيان، فوقع مستلقيا، وبدت عورته.
قال سعد: فرأيت النبي صلى الله عليه وآله ضحك يومئذ حتى بدت نواجذه، وقال:
استقاد لها سعد، أجاب الله دعوتك، وسدد رميتك، ورمى يومئذ مالك بن زهير الجشمي
أخو أبي أسامة الجشمي المسلمين رميا شديدا، وكان هو وريان بن العرقة قد أسرعا في
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، وأكثرا فيهم القتل يستتران بالصخر، ويرميان،

(1) أذلقوهم: أوجعوهم.
248

فبينا هم على ذلك أبصر سعد بن أبي وقاص مالك بن زهير يرمى من وراء صخرة قد رمى،
واطلع رأسه، فيرميه سعد، فأصاب السهم عينه، حتى خرج من قفاه، فترى (1) في السماء
قامة، ثم رجع فسقط، فقتله الله عز وجل.
قال الواقدي: ورمى رسول الله صلى الله عليه وآله عن قوسه يومئذ حتى صارت
شظايا، فأخذها قتادة بن النعمان، وكانت عنده، وأصيبت يومئذ عين قتادة حتى وقعت
على وجنته. قال قتادة: فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، فقلت يا رسول الله،
إن تحتي امرأة شابة جميلة، أحبها وتحبني، وأنا أخشى أن تقذر مكان عيني،
فأخذها رسول الله صلى الله عليه وآله فردها وانصرف بها، وعادت كما كانت،
فلم تضرب عليه ساعة من ليل ونهار، وكان يقول بعد أن أسن هي أقوى عيني -
وكانت أحسنهما.
قال الواقدي: وباشر رسول الله صلى الله عليه وآله القتال بنفسه، فرمى بالنبل حتى
فنيت نبله، وانكسرت سية قوسه، وقبل ذلك انقطع وتره، وبقيت في يده قطعة تكون
شبرا في سية القوس، فأخذ القوس عكاشة بن محصن يوتره له، فقال يا رسول الله،
لا يبلغ الوتر، فقال مده يبلغ، قال عكاشة: فوالذي بعثه بالحق لمددته حتى بلغ، وطويت
منه ليتين أو ثلاثة على سية القوس، ثم أخذه رسول الله صلى الله عليه وآله، فما زال
يرامي القوم، وأبو طلحة أمامه يستره مترسا عنه، حتى نظرت إلى سية قوسه قد تحطمت،
فاخذها قتادة بن النعمان.
قال الواقدي: وكان أبو طلحة يوم أحد قد نثل كنانته (3) بين يدي النبي صلى الله
عليه وآله، وكان راميا، وكان صيتا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (لصوت أبى
طلحة في الجيش خير من أربعين رجلا)، وكان في كنانته خمسون سهما نثلها بين يدي

(1) ا: (فتراءى).
(2) نثل كنانته: أخرج ما فيها.
249

رسول الله صلى الله عليه وآله، وجعل يصيح نفسي دون نفسك يا رسول الله فلم يزل يرمى
بها سهما سهما، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يطلع رأسه من خلف أبى طلحة بين
إذنه ومنكبه، ينظر إلى مواقع النبل حتى فنيت نبله، وهو يقول نحري دون نحرك
جعلني الله فداك قالوا إنه كان رسول الله صلى الله عليه وآله، ليأخذ العود من الأرض
فيقول أرم يا أبا طلحة، فيرمى به سهما جيدا.
قال الواقدي: وكان الرماة المذكورون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله جماعه
منهم سعد بن أبي وقاص، وأبو طلحة، وعاصم بن ثابت، والسائب بن عثمان بن مظعون،
والمقداد بن عمرو، وزيد بن حارثة، وحاطب بن أبي بلتعة، وعتبة بن غزوان، وخراش
بن الصمة، وقطبة بن عامر بن حديدة، وبشر بن البراء بن معرور، وأبو نائلة ملكان
بن سلامة، وقتادة بن النعمان.
قال الواقدي: ورمى أبو رهم الغفاري بسهم فأصاب نحره، فجاء إلى رسول الله صلى
الله عليه وآله فبصق عليه، فبرأ، فكان أبو رهم بعد ذلك يسمى المنحور.
وروى أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد اللغوي، غلام ثعلب، ورواه أيضا محمد
بن حبيب في أماليه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما فر معظم أصحابه عنه يوم
أحد، كثرت عليه كتائب المشركين، وقصدته كتيبة من بنى كنانة، ثم من بنى عبد
مناة بن كنانة، فيها بنو سفيان بن عويف، وهم خالد بن سفيان، وأبو الشعثاء بن سفيان
وأبو الحمراء بن سفيان، وغراب بن سفيان، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله يا علي
اكفني هذه الكتيبة، فحمل عليها وإنها لتقارب خمسين فارسا، وهو عليه السلام راجل،
فما زال يضربها بالسيف حتى تتفرق عنه ثم تجتمع (1) عليه، هكذا مرارا حتى قتل بنى
سفيان بن عويف الأربعة، وتمام العشرة منها، ممن لا يعرف بأسمائهم، فقال جبرئيل

(1) ا: (يجمع).
250

عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وآله يا محمد، إن هذه المواساة، لقد عجبت الملائكة
من مواساة هذا الفتى فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وما يمنعه وهو منى وأنا منه
فقال جبرائيل عليه السلام وأنا منكما. قال: وسمع ذلك اليوم صوت من قبل السماء،
لا يرى شخص الصارخ به، ينادى مرارا:
لا سيف إلا ذو الفقار * ولا فتى إلا علي
فسئل رسول الله صلى الله عليه وآله عنه، فقال هذا جبرائيل.
قلت وقد روى هذا الخبر جماعة من المحدثين وهو من الاخبار المشهورة، ووقفت
عليه في بعض نسخ مغازي محمد بن إسحاق، ورأيت بعضها خاليا عنه، وسألت شيخي
عبد الوهاب بن سكينة رحمه الله عن هذا الخبر، فقال: خبر صحيح، فقلت: فما بال الصحاح
لم تشتمل عليه قال: أو كلما كان صحيحا تشتمل عليه كتب الصحاح كم قد أهمل جامعوا
الصحاح من الأخبار الصحيحة.
قال الواقدي: وأقبل عثمان بن عبد الله بن المغيرة المخزومي يحضر (1) فرسا له أبلق،
يريد رسول الله صلى الله عليه وآله، عليه لامة كاملة، ورسول الله صلى الله عليه وآله
متوجه إلى الشعب وهو يصيح لا نجوت إن نجوت فيقف رسول الله صلى الله عليه
وآله، ويعثر بعثمان فرسه في بعض تلك الحفر التي حفرها أبو عامر الفاسق للمسلمين،
فيقع الفرس لوجهه، وسقط عثمان عنه، وخرج الفرس غائرا، فيأخذه بعض أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وآله، ويمشي إليه الحارث بن الصمة، فاضطربا ساعة بالسيفين،
ثم يضرب الحارث رجله، وكانت درعه مشمرة فبرك، وذفف (2) عليه، وأخذ الحارث

(1) يحضر فرسا: يجريه، والحضر: ضرب من السير.
(2) ذفف عليه: أجهز.
251

يومئذ سلبه: درعا جيدا، ومغفرا، وسيفا جيدا، ولم يسمع بأحد من المشركين سلب يومئذ
غيره، ورسول الله صلى الله عليه وآله ينظر إلى قتالهما، فسأل عن الرجل قيل عثمان بن
عبد الله بن المغيرة، قال: الحمد لله الذي أحانه (1)، وقد كان عبد الله بن جحش أسره من
قبل ببطن نخلة، حتى قدم به على رسول الله صلى الله عليه وآله، فافتدى ورجع إلى قريش،
وغزا معهم أحدا، فقتل هناك، ويرى مصرع عثمان عبيد بن حاجز العامري أحد
بنى عامر بن لؤي، فاقبل يعدو كأنه سبع، فيضرب حارث بن الصمة ضربة على
عاتقه، فوقع الحارث جريحا حتى احتمله أصحابه، ويقبل أبو دجانة على عبيد بن حاجز،
فتناوشا ساعة من نهار، وكل واحد منهما يتقى بالدرقة سيف صاحبه، ثم حمل عليه
أبو دجانة فاحتضنه، ثم جلد به الأرض، وذبحه بالسيف كما تذبح الشاة، ثم انصرف، فلحق
برسول الله صلى الله عليه وآله.
قال الواقدي: ويروى أن سهل بن حنيف، جعل ينضح بالنبل عن رسول الله صلى
الله عليه وآله، فقال نبلوا سهلا (2) فإنه سهل، ونظر رسول الله صلى الله عليه وآله
إلى أبى الدرداء، والناس منهزمون في كل وجه، فقال نعم الفارس عويمر، غير أنه لم
يشهد أحدا.
قال الواقدي: وروى الحارث بن عبيد الله بن كعب بن مالك، قال: حدثني من
نظر إلى أبى سبرة بن الحارث بن علقمة، ولقى أحد المشركين، فاختلفا ضربات، كل ذلك
يروغ أحدهما عن الاخر، قال: فنظر الناس إليهما كأنهما سبعان ضاريان يقفان مرة
ويقتلان أخرى، ثم تعانقا، فوقعا إلى الأرض جميعا، فعلاه أبو سبرة فذبحه بسيفه
كما تذبح الشاة، ونهض عنه فيقبل خالد بن الوليد وهو على فرس أدهم أغر محجل،
يجر قناة طويلة، فطعن أبا سبرة من خلفه، فنظرت إلى سنان الرمح خرج من صدره،

(1) أحانه: أهلكه.
(2) نبلوا سهلا، أي أعطوه النبل.
252

ووقع أبو سبرة ميتا، وانصرف خالد بن الوليد، يقول أنا أبو سليمان.
قال الواقدي: وقاتل طلحة بن عبيد الله يومئذ عن النبي صلى الله عليه وآله قتالا
شديدا، وكان طلحة يقول لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله حيث انهزم
أصحابه، وكثر المشركون، فأحدقوا بالنبي صلى الله عليه وآله من كل ناحية، فما أدرى
أقوم من بين يديه أو من ورائه أم عن يمينه أم شماله فأذب بالسيف عنه هاهنا وهاهنا
حتى انكشفوا، فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله يومئذ يقول لطلحة: (لقد أوجب)
وروى (لقد أنحب) أي قضى نذره.
قال الواقدي: وروى أن سعد بن أبي وقاص ذكر طلحة فقال يرحمه الله: إنه
كان أعظمنا غناء عن رسول الله صلى الله عليه وآله يوم أحد، قيل: كيف يا أبا إسحاق
قال: لزم النبي صلى الله عليه وآله وكنا نتفرق عنه، ثم نثوب إليه، لقد رأيته يدور حول
النبي صلى الله عليه وآله يترس بنفسه.
قال الواقدي: وسئل طلحة يا أبا محمد، ما أصاب إصبعك قال: رمى مالك بن
زهير الجشمي بسهم يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكان لا تخطى رميته - فاتقيت
بيدي عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصاب خنصري فشل.
قال الواقدي: وقالوا إن طلحة قال: لما رمى حس (1)، فقال رسول الله صلى الله عليه
وآله: لو قال: (بسم الله لدخل الجنة، والناس ينظرون [إليه] (2)، من أحب إن ينظر إلى
رجل يمشى في الدنيا وهو من أهل الجنة، فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله، طلحة
ممن قضى نحبه (3).

(1) حس، بالبناء على الكسر، كل من يفجؤه ما يؤلمه، ومنه قولهم: ضرب فما قال حس.
(2) أنساب الأشراف 1: 318.
(3) في اللسان: (طلحة ممن قضى نحبه) النحب: النذر، كأنه ألزم نفسه أن يصدق الأعداء في الحرب
فوفى به ولم يفسح، وقيل: هو النحب الموت، كأنه ألزم نفسه أن يقاتل حتى يموت).
253

قال الواقدي: وكان طلحة يحدث يقول لما جال المسلمون تلك الجولة، ثم تراجعوا
أقبل رجل من بنى عامر بن لؤي يدعى شيبة بن مالك بن المضرب، يجر رمحه، وهو
على فرس أغر كميت مدججا في الحديد، يصيح أنا أبو ذات الوذع، دلوني على
محمد، فاضرب عرقوب فرسه، فاكتسعت (1) به، (2) ثم أتناول رمحه، فوالله ما أخطأت به
عن حدقته، فخار كما يخور الثور، فما برحت به واضعا رجلي على خده حتى أزرته
شعوب (3).
قال الواقدي: وكان طلحة قد أصابته في رأسه المصلبة ضربه رجل من المشركين،
ضربتين، ضربة وهو مقبل، وضربه وهو معرض عنه، وكان نزف منها الدم، قال
أبو بكر: جئت النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فقال: عليك بابن عمك، فأتى
طلحة بن عبيد الله، وقد نزف الدم، فجعلت أنضح في وجهه الماء وهو مغشي عليه، ثم
أفاق، فقال ما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله فقلت خيرا، هو أرسلني إليك، فقال
الحمد لله، كل مصيبة بعده جلل.
قال الواقدي: وكان ضرار بن الخطاب الفهري يقول نظرت إلى طلحة بن
عبيد الله قد حلق رأسه عند المروة في عمرة، فنظرت إلى المصلبة في رأسه، فكان
ضرار يقول انا والله ضربته، هو استقبلني فضربته، ثم أكر عليه، وقد أعرض،
فاضربه ضربه أخرى.

(1) كذا في ا واللسان، وفي ب والواقدي: (انكسعت)، وفي اللسان: (وحديث طلحة
يوم أحد: (فضربت عرقوب فرسه فاكتسعت به، أي سقطت).
(2) من اللسان.
(3) في اللسان: (وفي حديث طلحة: حتى أزرته شعوب، أوردته المنية فزارها. وشعوب من
أسماء المنية.
254

قال الواقدي: ولما كان يوم الجمل، وقتل علي عليه السلام من قتل من الناس،
ودخل البصرة، جاءه رجل من العرب، فتكلم بين يديه، ونال من طلحة، فزبره علي عليه
السلام، وقال: إنك لم تشهد يوم أحد، وعظم غنائه عن الاسلام، مع مكانه
من رسول الله صلى الله عليه وآله، فانكسر الرجل وسكت، فقال له قائل من القوم
وما كان غناؤه وبلاؤه يرحمه الله يوم أحد فقال علي عليه السلام نعم، يرحمه الله،
لقد رأيته وإنه ليترس بنفسه دون رسول الله صلى الله عليه وآله وأن السيوف لتغشاه،
والنبل من كل ناحية، وما هو إلا جنة لرسول الله صلى الله عليه وآله، يقيه بنفسه،
فقال رجل لقد كان يوم أحد يوما قتل فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله،
وأصابت رسول الله صلى الله عليه وآله فيه الجراحة، فقال علي عليه السلام أشهد لسمعت
رسول الله صلى الله عليه وآله يقول ليت أنى غودرت مع أصحابي بنحص (1) الجبل،
ثم قال علي عليه السلام: لقد رأيتني يومئذ وإني لأذبهم في ناحية، وإن أبا دجانة لفي
ناحية يذب طائفة منهم، حتى فرج الله ذلك كله، ولقد رأيتني وانفردت منهم يومئذ
فرقة خشناء (2)، فيها عكرمة بن أبي جهل، فدخلت وسطهم بالسيف، فضربت به، واشتملوا
على حتى أفضيت إلى آخرهم، ثم كررت فيهم الثانية، حتى رجعت من حيث جئت،
ولكن الاجل استأخر، ويقضى الله أمرا كان مفعولا.
قال الواقدي: وحدثني جابر بن سليم عن عثمان بن صفوان، عن عمارة بن
خزيمة، قال: حدثني من نظر إلى الحباب بن المنذر بن الجموح، وإنه ليحوشهم (3)
يومئذ كما تحاش الغنم، ولقد اشتملوا عليه حتى قيل قد قتل، ثم برز والسيف في يده،
وافترقوا عنه، وجعل يحمل على فرقه منهم، وإنهم ليهربون منه إلى جمع منهم،

(1) ب: (بحصن، وصوابه من ا والواقدي، وفيه: قال ابن أبي الزناد: نحص الجبل أسفله).
(2) فرقة خشناء، أي كثيرة السلاح.
(3) يحوشهم، أي يجمعهم.
255

وصار الحباب إلى النبي صلى الله عليه وآله، وكان الحباب يومئذ معلما بعصابة
خضراء في مغفره.
قال الواقدي: وطلع يومئذ عبد الرحمن بن أبي بكر على فرس مدججا لا يرى منه
إلا عيناه، فقال من يبارز أنا عبد الرحمن بن عتيق فنهض إليه أبو بكر، وقال:
أنا أبارزه، وجرد سيفه فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: شم سيفك، وارجع
إلى مكانك، ومتعنا بنفسك.
قال الواقدي: وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ما وجدت لشماس بن عثمان
شبها إلا الجنة، يعنى مما يقاتل عن رسول الله يومئذ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
لا يأخذ يمينا ولا شمالا إلا رأى شماس بن عثمان في ذلك الوجه، يذب بسيفه عنه، حتى
غشى رسول الله صلى الله عليه وآله، فترس (1) بنفسه دونه، حتى قتل، فذلك قول
رسول الله صلى الله عليه وآله: (ما وجدت لشماس شبها إلا الجنة).
قال الواقدي: ولما ولى المسلمون حين عطف عليهم خالد بن الوليد من خلفهم،
كان أول من اقبل من المسلمين بعد التولية قيس بن محرث مع طائفة من الأنصار، وقد
كانوا بلغوا بنى حارثة فرجعوا سراعا فصادفوا المشركين في كثرتهم، فدخلوا في
حومتهم، فما أفلت منهم رجل حتى قتلوا كلهم، ولقد ضاربهم قيس بن محرث، فامتنع
بسيفه حتى قتل منهم نفرا، فما قتلوه إلا بالرماح، نظموه، ولقد وجد به أربع عشرة
طعنة جائفة (2) وعشر ضربات بالسيف.
قال الواقدي: وكان عباس بن عبادة بن نظلة المعروف بابن قوقل، وخارجة بن

(1) ترس بنفسه، أي جعل نفسه كالترس.
(2) الطعنة الجائفة: التي تبلع الجوف، وفي الواقدي: (قد جافته).
256

زيد بن أبي زهير، وأوس بن أرقم بن زيد، وعباس رافع صوته يقول يا معشر المسلمين،
الله ونبيكم هذا الذي أصابكم بمعصية نبيكم، وعدكم (1) النصر فما صبرتم ثم نزع مغفره
عن رأسه، وخلع درعه وقال لخارجة: بن زيد: هل لك في درعي ومغفري قال خارجة:
لا، أنا أريد الذي تريد، فخالطوا القوم جميعا، وعباس يقول ما عذرنا عند ربنا إن
أصيب نبينا ومنا عين تطرف قال: فيقول (2) خارجة: لا عذر لنا والله عند ربنا ولا حجة،
فأما عباس فقتله سفيان بن عبد شمس السلمي، ولقد ضربه عباس ضربتين، فجرحه
جرحين عظيمين، فارتث يومئذ جريحا، فمكث جريحا سنة، ثم استبل. وأخذت خارجة
بن زيد الرماح، فجرح بضعة عشر جرحا، فمر به صفوان بن أمية، فعرفه فقال هذا
من أكابر أصحاب محمد، وبه رمق، فأجهز عليه. وقتل أوس بن أرقم، وقال صفوان: من
رأى خبيب بن يساف وهو يطلبه فلا يقدر عليه. ومثل يومئذ بخارجة، وقال هذا
ممن أغرى بأبي يوم بدر - يعنى أمية بن خلف - وقال الان شفيت نفسي حين قتلت
الأماثل من أصحاب محمد، قتلت ابن قوقل، وقتلت ابن أبي زهير، وقتلت أوس
بن أرقم.
قال الواقدي: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: من يأخذ هذا السيف
بحقه قالوا: وما حقه يا رسول الله قال: يضرب به العدو، فقال عمر: أنا يا رسول الله،
فاعرض عنه، ثم عرضه رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك الشرط، فقام الزبير، فقال:
أنا، فأعرض عنه، حتى وجد (3) عمر والزبير في أنفسهما، ثم عرضه الثالثة، فقام أبو دجانة،
وقال: أنا يا رسول الله آخذه بحقه، فدفعه إليه. فصدق حين لقى به العدو، وأعطى السيف
حقه، فقال أحد الرجلين - أما عمر بن الخطاب أو الزبير:: والله لأجعلن هذا الرجل الذي
أعطاه السيف ومنعنيه من شأني، قال: فاتبعته، فوالله ما رأيت أحدا قاتل أفضل

(1) ا: (فيوعدكم).
(2) الواقدي: (يقول).
(3) أي غضبا.
257

من قتاله، لقد رأيته يضرب به حتى إذا كل عليه وخاف ألا يحيك (1) عمد به إلى الحجارة،
فشحذه، ثم يضرب به العدو، حتى يرده (2) كأنه منجل، وكان حين أعطاه رسول الله صلى
الله عليه وآله السيف مشى بين الصفين، واختال في مشيته، فقال رسول الله صلى الله
عليه وآله حين رآه يمشى تلك المشية إن هذه لمشية يبغضها الله تعالى إلا في مثل هذا
الموطن، قال: وكان أربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله يعلمون في الزحوف،
أحدهم أبو دجانة، كان يعصب رأسه بعصابة حمراء، وكان قومه يعلمون إنه إذا اعتصب
بها أحسن القتال، وكان علي عليه السلام يعلم بصوفة بيضاء، وكان الزبير يعلم بعصابة
صفراء، وكان حمزة يعلم بريش نعامة.
قال الواقدي: وكان أبو دجانة يحدث يقول انى لأنظر يومئذ إلى امرأة تقذف
الناس وتحوشهم حوشا منكرا، فرفعت عليها السيف، وما أحسبها إلا رجلا، حتى علمت
إنها امرأة، وكرهت أن اضرب بسيف رسول الله صلى الله عليه وآله امرأة - والمرأة عمرة
بنت الحارث.
قال الواقدي: وكان كعب بن مالك يقول أصابني الجراح يوم أحد، فلما رأيت
المشركين يمثلون بالمسلمين أشد المثل وأقبحها، قمت فتنحيت عن القتلى، فإني لفي موضعي
أقبل خالد بن الأعلم العقيلي جامع اللامة يحوش المسلمين، يقول استوسقوا (3) كما يستوسق
جرب الغنم، وهو مدجج في الحديد، يصيح يا معشر قريش، لا تقتلوا محمدا، ائسروه أسرا
حتى نعرفه ما صنع، ويصمد له قزمان فيضربه بالسيف ضربة على عاتقه رأيت منها
سحره، ثم أخذ سيفه وانصرف، فطلع عليه من المشركين فارس ما أرى منه إلا عينيه،
فحمل عليه قزمان، فضربه ضربة جزلة اثنين، فإذا هو الوليد بن العاص بن هشام
المخزومي، ثم يقول كعب إني لأنظر يومئذ وأقول ما رأيت مثل هذا الرجل أشجع

(1) لا يحيك: لا يؤثر.
(2) ا: (رده).
(3) استوسقوا: اجتمعوا.
258

بالسيف، ثم ختم له بما ختم له به فيقال له فما ختم له به فيقول من أهل النار، قتل
نفسه يومئذ.
قال الواقدي: وروى أبو النمر الكناني، قال: أقبلت يوم أحد وأنا من المشركين،
وقد انكشف المسلمون، وقد حضرت في عشرة من إخوتي، فقتل منهم أربعة، وكان
الريح للمسلمين أول ما التقينا، فلقد رأيتني وانكشفنا مولين، وأقبل أصحاب النبي صلى الله
عليه وآله على نهب العسكر، حتى بلغت الجماء، ثم كرت خيلنا، فقلت والله ما كرت
الخيل إلا عن أمر رأته، فكررنا على أقدامنا كأننا الخيل، فنجد القوم قد أخذ بعضهم
بعضا، يقاتلون على غير صفوف، ما يدرى بعضهم من يضرب، وما للمسلمين لواء قائم،
ومع رجل من بنى عبد الدار لواء المشركين، وأنا أسمع شعار أصحاب محمد بينهم: (أمت
أمت)، فأقول في نفسي: ما (أمت) وإني لأنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن
أصحابه محدقون به، وأن النبل ليمر عن يمينه ويساره، ويقع بين يديه، ويخرج من
ورائه، ولقد رميت يومئذ بخمسين مرماة، فأصبت منها بأسهم بعض أصحابه، ثم هداني
الله إلى الاسلام.
قال الواقدي: وكان عمرو بن ثابت بن وقش شاكا في الاسلام، وكان قومه يكلمونه
في الاسلام، فيقول لو أعلم ما تقولون حقا ما تأخرت عنه، حتى إذا كان يوم أحد بدا له
الاسلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد، وأخذ سيفه وأسلم، وخرج حتى دخل في
القوم، فقاتل حتى أثبت (1)، فوجد في القتلى جريحا ميتا، فدنوا منه وهو بآخر رمق،
فقالوا: ما جاء بك يا عمرو قال: الاسلام، آمنت بالله وبرسوله، وأخذت سيفي وحضرت
فرزقني الله الشهادة، ومات في أيديهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه لمن
أهل الجنة).

(1) أثبت، أي جرح.
259

قال الواقدي: فكان أبو هريرة يقول، والناس حوله: أخبروني برجل يدخل
الجنة لم يصل لله تعالى سجدة فيسكت الناس، فيقول أبو هريرة: هو أخو بنى عبد الأشهل
عمرو بن ثابت بن وقش.
قال الواقدي: وكان مخيرق اليهودي من أحبار يهود، فقال يوم السبت ورسول
الله صلى الله عليه وسلم بأحد: يا معشر يهود، والله إنكم لتعلمون أن محمدا نبي، وأن
نصره عليكم حق. فقالوا ويحك اليوم يوم السبت، فقال لا سبت، ثم أخذ سلاحه
وحضر مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأصيب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: (مخيرق خير يهود).
قال الواقدي: وكان مخيرق قال حين خرج إلى أحد: إن أصبت فأموالي لمحمد
يضعها حيث أراه الله فيه، فهي عامة صدقات النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الواقدي: وكان حاطب بن أمية منافقا، وكان ابنه يزيد بن حاطب رجل صدق،
شهد أحدا مع النبي صلى الله عليه وسلم فارتث (1) جريحا، فرجع به قومه إلى منزله، قال:
يقول أبوه وهو يرى أهل الدار يبكون عنده: أنتم والله صنعتم هذا به، قالوا: كيف
قال: أغررتموه من نفسه حتى خرج فقتل، ثم صرتم معه إلى شئ آخر تعدونه جنة،
يدخل فيها حبة من حرمل، قالوا قاتلك الله قال: هو ذاك، ولم يقر بالاسلام (2).
قال الواقدي: وكان قزمان عسيفا (3) من بنى ظفر، لا يدرى ممن هو، وكان لهم محبا،

(1) أرثت: حمل من المعركة جريحا وبه رمق.
(2) الخبر في ابن هشام 3: 37 عن عاصم بن عمر بن قتادة: (أن رجلا منهم كان يدعى حاطب
ابن أمية بن رافع، وكان له ابن يقال له زيد بن حاطب، أصابته جراحة يوم أحد، فأتي به إلى قومه
وهو بالموت، فاجتمع إليه أهل الدار، فجعل المسلمون يقولون له من الرجال والنساء: أبشر يا بن حاطب
بالجنة، قال: وكان حاطب شيخا قد عسا (أي كبر) في الجاهلية، فنجم يومئذ نفاقه، فقال: بأي شئ
تبشرونه! أبحقه من حرمل! غررتم والله هذا الغلام من نفسه!
(3) عسيفا، أي أجيرا.
260

وكان مقلا ولا ولد له ولا زوجة، وكان شجاعا يعرف بذلك في حروبهم التي كانت تكون
بينهم، فشهد أحدا، وقاتل قتالا شديدا، فقتل ستة أو سبعة، فأصابته الجراح فقيل للنبي
صلى الله عليه وسلم أن قزمان قد أصابته الجراح، فهو شهيد، فقال: بل من أهل النار،
فجاؤوا إلى قزمان، فقالوا هنيئا لك أبا الغيداق الشهادة فقال: بم تبشرونني والله
ما قاتلنا إلا على الأحساب، قالوا: بشرناك بالجنة، قال: حبة والله من حرمل، إنا والله
ما قاتلنا على جنة ولا على نار، إنما قاتلنا على أحسابنا، ثم أخرج سهما من كنانته، فجعل
يتوجأ به نفسه، فلما أبطأ عليه المشقص، أخذ السيف، فاتكأ عليه، حتى خرج من
ظهره، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله فقال: (هو من أهل النار).
قال الواقدي: وكان عمرو بن الجموح رجلا أعرج، فلما كان يوم أحد، وكان له بنون
أربعة يشهدون مع النبي صلى الله عليه وسلم المشاهد أمثال الأسد، أراد قومه أن يحبسوه،
وقالوا أنت رجل أعرج، ولا حرج عليك، وقد ذهب بنوك مع النبي صلى الله عليه وسلم
قال: بخ! يذهبون إلى الجنة وأجلس أنا عندكم فقالت هند بنت عمرو بن حزام امرأته:
كأني أنظر إليه موليا قد أخذ درقته، وهو يقول اللهم لا تردني إلى أهلي، فخرج ولحقه
بعض قومه يكلمونه في القعود، فأبى وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول
الله، إن قومي يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك، والله إني لأرجو أن
أطأ بعرجتي هذه في الجنة، فقال له أما أنت فقد عذرك الله ولا جهاد عليك، فأبى،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقومه وبنيه: لا عليكم أن تمنعوه، لعل الله يرزقه الشهادة،
فخلوا عنه. فقتل يومئذ شهيدا. وكان أبو طلحة يحدث، يقول نظرت إلى عمرو بن
الجموح حين انكشف المسلمون، ثم ثابوا وهو في الرعيل الأول، لكأني أنظر إلى ضلعه
وهو يعرج في مشيته، وهو يقول أنا والله مشتاق إلى الجنة، ثم انظر إلى ابنه يعدو في
أثره، حتى قتلا جميعا.
261

قال الواقدي: وكانت عائشة خرجت في نسوة تستروح الخبر، ولم يكن قد ضرب
الحجاب يومئذ، حتى كانت بمنقطع الحرة وهي هابطة من بنى حارثة إلى الوادي، لقيت
هندا بنت عمرو بن حزام، أخت عبد الله بن عمرو بن حزام، تسوق بعيرا لها، عليه
زوجها عمرو بن الجموح، وابنها خلاد بن عمرو بن الجموح، وأخوها عبد الله بن عمرو بن
حزام (1) أبو جابر بن عبد الله، فقالت لها عائشة: عندك الخبر، فما وراءك فقالت هند: خير،
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فصالح، وكل مصيبة بعده جلل، واتخذ الله من المؤمنين
شهداء: (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال
وكان الله قويا عزيزا).
قلت هكذا وردت الرواية، وعندي إنها لم تقل كل ذلك، ولعلها قالت: (ورد
الله الذين كفروا بغيظهم)، لا غير، وإلا فكيف يواطئ كلامها آية من كلام الله
تعالى أنزلت بعد الخندق والخندق بعد أحد هذا من البعيد جدا.
قال: فقالت لها عائشة: فمن هؤلاء قالت أخي وابني وزوجي قتلى، قالت
فأين تذهبين بهم قالت إلى المدينة أقبرهم بها، (حل حل)، تزجر بعيرها، فبرك البعير،
فقالت عائشة: لثقل ما حمل، قالت هند: ما ذاك به، لربما حمل ما يحمله البعيران، ولكني
أراه لغير ذلك، فزجرته فقام، فلما وجهت به إلى المدينة برك، فوجهته راجعة إلى أحد،
فأسرع، فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك، فقال إن الجمل لمأمور،
هل قال عمرو شيئا قالت: نعم، إنه لما وجه إلى أحد استقبل القبلة، ثم قال: اللهم
لا تردني إلى أهلي، وارزقني الشهادة، فقال صلى الله عليه وسلم: فلذلك الجمل لا يمضى،
إن منكم يا معشر الأنصار من لو أقسم على الله لأبره، منهم عمرو بن الجموح، يا هند
ما زالت الملائكة مظلة على أخيك من لدن قتل إلى الساعة، ينظرون أين يدفن
ثم مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبرهم، ثم قال: يا هند، قد ترافقوا في الجنة

(1) الواقدي: (حرام).
262

جميعا، عمرو بن الجموح بعلك، وخلاد ابنك، وعبد الله أخوك. فقالت هند
يا رسول الله، فادع الله لي عسى أن يجعلني معهم.
قال الواقدي: وكان جابر بن عبد الله، يقول اصطبح ناس يوم أحد الخمر، منهم
أبى، فقتلوا شهداء.
قال الواقدي: وكان جابر يقول: أول قتيل من المسلمين يوم أحد أبى، قتله
سفيان بن عبد شمس أبو الأعور السلمي، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم
قبل الهزيمة.
قال الواقدي: وكان جابر يحدث، ويقول: استشهد أبى، وجعلت عمتي تبكي،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما يبكيها ما زالت الملائكة تظل عليه بأجنحتها
حتى دفن.
قال الواقدي: وقال عبيد الله بن عمرو بن حزام: رأيت في النوم قبل يوم أحد
بأيام مبشر بن عبد المنذر، أحد الشهداء ببدر، يقول لي أنت قادم علينا في أيام
فقلت: فأين أنت قال: في الجنة نسرح منها حيث نشاء، فقلت له: ألم تقتل يوم
بدر قال: بلى، ثم أحييت، فذكر ذلك لرسول الله قال: (هذه
الشهادة يا جابر).
قال الواقدي: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: ادفنوا عبد الله بن
عمرو بن حزام وعمرو بن الجموح في قبر واحد، ويقال: إنهما وجدا وقد مثل بهما كل
مثلة قطعت آرابهما (1) عضوا عضوا، فلا تعرف أبدانهما. فقال النبي صلى الله عليه وسلم
(ادفنوهما في قبر واحد) ويقال إنما أمر بدفنهما في قبر واحد، لما كان بينهما

(1) الآراب: جمع أرب، بالكسر والسكون، وهو العضو.
263

من الصفاء، فقال: ادفنوا هذين المتحابين في الدنيا في قبر واحد.
وكان عبد الله بن عمرو بن حرام رجلا أحمر أصلع، ليس بالطويل، وكان عمرو
بن الجموح طويلا، فعرفا ودخل السيل بعد عليهما، وكان قبرهما مما يلي السيل، فحفر
عنهما، وعليهما نمرتان وعبد الله قد أصابه جرح في وجهه، فيده على وجهه (1) فأميطت
يده عن جرحه، فثعب (2) الدم، فردت إلى مكانها فسكن الدم.
قال الواقدي: وكان جابر بن عبد الله يقول رأيت أبى في حفرته، وكأنه نائم،
وما تغير من حاله قليل ولا كثير، فقيل له: أفرأيت أكفانه قال: إنما كفن في
نمرة (3) خمر بها وجهه، وعلى رجليه الحرمل فوجدنا النمرة كما هي، والحرمل على رجليه
كهيئته، وبين ذلك وبين وقت دفنه ست وأربعون سنة، فشاورهم جابر في أن يطيبه
بمسك، فأبى ذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا لا تحدثوا فيهم شيئا.
قال: ويقال أن معاوية لما أراد أن يجرى العين التي أحدثها بالمدينة، وهي كظلمة
نادى مناديه بالمدينة: من كان له قتيل بأحد فليشهد. فخرج الناس إلى قتلاهم فوجدوهم
رطابا يتثنون، فأصابت المسحاة رجل رجل منهم، فثعبت دما، فقال أبو سعيد
الخدري: لا ينكر بعد هذا منكر أبدا.
قال: ووجد عبد الله بن عمرو بن حزام وعمرو بن الجموح في قبر واحد، ووجد
خارجة بن زيد بن أبي زهير وسعد بن الربيع في قبر واحد، فأما قبر عبد الله وعمرو
فحول، وذلك أن القناة كانت تمر على قبرها، وأما قبر خارجة وسعد فترك، وذلك
لان مكانه كان معتزلا، وسوى عليهما التراب، ولقد كانوا يحفرون التراب، فكلما
حفروا قترة من تراب، فاح عليهم المسك.

(1) ا: (جرحه).
(2) ثعب الدم: سال.
(3) النمرة: بردة من صوف.
264

قال: وقالوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجابر، يا جابر، ألا أبشرك
فقال: بلى، بأبي وأمي قال: فان الله أحيا أباك، ثم كلمه كلاما، فقال له تمن على
ربك ما شئت فقال أتمنى أن أرجع فأقتل مع نبيك، ثم أحيا فاقتل مع نبيك، فقال
إني قد قضيت أنهم لا يرجعون.
قال الواقدي: وكانت نسيبة بنت كعب أم عمارة بن غزية بن عمرو قد شهدت
أحدا، وزوجها (1) غزية وابناها عمارة بن غزية وعبد الله بن زيد، وخرجت ومعها شن (2)
لها في أول النهار تريد تسقى الجرحى، فقاتلت يومئذ وأبلت بلاء حسنا، فجرحت
اثني عشر جرحا بين طعنة برمح أو ضربة بسيف، فكانت أم سعد بنت سعد بن
الربيع تحدث، فتقول: دخلت عليها، فقالت لها يا خالة، حدثيني خبرك، فقالت
خرجت أول النهار إلى أحد، وأنا أنظر ما يصنع الناس، ومعي سقاء فيه ماء، فانتهيت
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصحابة والدولة والريح للمسلمين، فلما انهزم
المسلمون، انحزت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلت أباشر القتال، وأذب
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف، وأرمى بالقوس، حتى خلصت إلى الجراح،
فرأيت على عاتقها جرحا أجوف له غور، فقلت يا أما عمارة، من أصابك بهذا
قالت أقبل ابن قميئة، وقد ولى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصيح دلوني على
محمد، لا نجوت إن نجا فاعترض له مصعب بن عمير وناس معه، فكنت فيهم، فضربني
هذه الضربة، ولقد ضربته على ذلك ضربات، ولكن عدو الله كان عليه درعان.
فقالت لها يدك ما أصابها قالت أصيبت يوم اليمامة، لما جعلت الاعراب تنهزم
بالناس، نادت الأنصار: أخلصونا. فأخلصت الأنصار، فكنت معهم، حتى انتهينا إلى
حديقة الموت، فاقتتلنا عليها ساعة، حتى قتل أبو دجانة على باب الحديقة، ودخلتها

(1) كذا في ا والواقدي، وفي ب: (وتزوجها).
(2) الشن: القربة الخلق الصغيرة، يكون فيها الماء أبرد من غيرها.
265

وأنا أريد عدو الله مسيلمة، فيعرض لي رجل، فضرب يدي فقطعها، فوالله ما كانت
ناهية، ولا عرجت عليها، حتى وقفت على الخبيث مقتولا، وابني عبد الله بن يزيد
المازني يمسح سيفه بثيابه، فقلت: أقتلته قال: نعم، فسجدت شكرا لله عز
وجل وانصرفت.
قال الواقدي: وكان ضمرة بن سعيد يحدث عن جدته، وكانت قد شهدت أحدا
تسقى الماء، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يومئذ: لمقام نسيبة بنت
كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان. وكان يراها يومئذ تقاتل أشد القتال، وإنها
لحاجزة ثوبها على وسطها، حتى جرحت ثلاثة عشر جرحا.
قلت ليت الراوي لم يكن هذه الكناية، وكان يذكرها باسمهما حتى لا تترامى
الظنون إلى أمور مشتبهة ومن أمانة المحدث أن يذكر الحديث على وجهه ولا يكتم منه
شيئا، فما باله كتم اسم هذين الرجلين.
قال: فلما حضرت نسيبة (1) الوفاة، كنت فيمن غسلها فعددت جراحها جرحا
جرحا فوجدتها ثلاثة عشر، وكانت تقول إني لأنظر إلى ابن قميئة وهو يضربها على
عاتقها - وكان أعظم جراحها، لقد داوته سنة - ثم نادى منادى النبي صلى الله عليه وسلم بعد
انقضاء أحد: إلى حمراء الأسد فشدت عليها ثيابها، فما استطاعت من نزف الدم،
ولقد مكثنا ليلتنا نكمد الجراح، حتى أصبحنا، فلما رجع رسول الله من حمراء
الأسد، لم يصل إلى بيته حتى أرسل إليها عبد الله بن كعب المازني يسأل عنها،
فرجع إليه فأخبره بسلامتها، فسر بذلك.
قال الواقدي: وحدثني عبد الجبار بن عمارة بن غزية، قال: قالت أم عمارة:

(1) الواقدي: (فلما حضرتها).
266

لقد رأيتني وانكشف الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فما بقي إلا نفير ما يتمون
عشرة، وأنا وأبنائي وزوجي بين يديه نذب عنه، والناس يمرون عنه منهزمين، فرآني
ولا ترس معي، ورأي رجلا موليا معه ترس، فقال يا صاحب الترس، ألق ترسك إلى
من يقاتل. فألقى ترسه فأخذته، فجعلت أترس به على النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما
فعل بنا الأفاعيل أصحاب الخيل، ولو كانوا رجاله مثلنا أصبناهم، فيقبل رجل على فرس،
فضربني وترست له، فلم يصنع سيفه شيئا، وولى وأضرب عرقوب فرسه، فوقع على
ظهره، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصيح: يا بن عمارة، أمك أمك قالت فعاونني
عليه حتى أوردته شعوب (1).
قال الواقدي: وحدثني ابن أبي سبرة، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد
المازني، قال: جرحت جرحا في عضدي اليسرى، ضربني رجل كأنه الرقل ولم يعرج
على، ومضى عنى، وجعل الدم لا يرقأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعصب
جرحك، فتقبل أمي إلى، ومعها عصائب في حقويها قد أعدتها للجراح، فربطت جرحى
والنبي صلى الله عليه وسلم واقف ينظر، ثم قالت إنهض يا بنى، فضارب القوم، فجعل
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة قالت: وأقبل
الرجل الذي ضربني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا ضارب ابنك،
فاعترضت أمي له، فضربت ساقه، فبرك، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم تبسم حتى
بدت نواجذه، ثم قال: استقدت يا أم عمارة. ثم أقبلنا نعلوه (2) بالسلاح حتى أتينا
على نفسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي ظفرك وأقر عينك من عدوك،
وأراك ثأرك بعينك.

(1) شعوب: اسم المنية.
(2) ب: (نعله)، والصواب ما أثبته من ا والواقدي.
267

قال الواقدي: وروى موسى بن ضمرة بن سعيد، عن أبيه، قال: أتى عمر بن الخطاب
في أيام خلافته بمروط (1) كان فيها مرط واسع جيد، فقال بعضهم إن هذا المرط بثمن
كذا، فلو أرسلت به إلى زوجة عبد الله بن عمر صفية بنت أبي عبيد، وذلك حدثان (2)
ما دخلت على ابن عمر، فقال بل أبعث به إلى من هو أحق منها، أم عمارة نسيبة بنت كعب
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد يقول: ما التفت يمينا وشمالا إلا وأنا أراها
تقاتل دوني.
قال الواقدي: وروى مروان بن سعيد بن المعلى، قال: قيل لام عمارة يا أم عمارة، هل
كن نساء قريش يومئذ يقاتلن مع أزواجهن فقالت: أعوذ بالله، لا والله ما رأيت امرأة
منهن رمت بسهم ولا حجر، ولكن رأيت معهن الدفاف والأكبار يضربن ويذكرن
القوم قتلى بدر، ومعهن مكاحل ومراود، فكلما ولى رجل أو تكعكع ناولته إحداهن
مرودا ومكحلة، ويقلن إنما أنت امرأة، ولقد رأيتهن ولين منهزمات مشمرات، ولها
عنهن الرجال أصحاب الخيل، ونجوا على متون خيلهم، وجعلن يتبعن الرجال على
أقدامهن، فجعلن يسقطن في الطريق، ولقد رأيت هندا بنت عتبة، وكانت امرأة ثقيلة،
ولها خلق، قاعدة خاشية من الخيل، ما بها مشى، ومعها امرأة أخرى، حتى كثر القوم
علينا، فأصابوا منا ما أصابوا، فعند الله نحتسب ما أصابنا يومئذ من قبل الرماة ومعصيتهم
لرسول (3) الله صلى الله عليه وسلم.
قال الواقدي: وحدثني ابن أبي سبرة، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة،
عن الحارث بن عبد الله، قال: سمعت عبد الله بن زيد بن عاصم، يقول: شهدت أحد

(1) المرط، بالكسر: كساء من صوف أو خز أو كتان يؤتزر به، وربما تلقيه المرأة على رأسها
وتتلفع به وجمعه مروط.
(2) حدثان الامر: ابتداؤه.
(3) ا: (الرسول).
268

مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما تفرق الناس عنه، دنوت منه، وأمي تذب عنه،
فقال: يا بن عمارة، قلت نعم، قال: إرم، فرميت بين يديه رجلا من المشركين
بحجر، وهو على فرس، فأصيبت عين الفرس، فاضطرب الفرس حتى وقع هو وصاحبه،
وجعلت أعوله بالحجارة، حتى نضدت عليه منها وقرا، والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر
إلى ويتبسم، فنظر إلى جرح بأمي على عاتقها، فقال أمك أمك أعصب جرحها،
بارك الله عليكم من أهل بيت لمقام أمك خير من مقام فلان وفلان. ومقام ربيبك
- يعنى زوج أمه - خير من مقام فلان، رحمكم الله من أهل بيت فقالت: أمي ادع
لنا الله يا رسول الله أن نرافقك في الجنة، فقال: (اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة)،
قالت: فما أبالي ما أصابني من الدنيا.
قال الواقدي: وكان حنظلة بن أبي عامر تزوج جميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول،
فأدخلت عليه في الليلة التي في صبيحتها قتال أحد، وكان قد استأذن رسول الله صلى الله
عليه وآله أن يبيت عندها، فأذن له، فلما صلى الصبح غدا يريد النبي صلى الله عليه وسلم،
فلزمته جميلة، فعاد فكان معها، فأجنب منها، ثم أراد الخروج، وقد أرسلت قبل ذلك
إلى أربعة من قومها، فأشهدتهم أنه قد دخل بها، فقيل لها بعد لم أشهدت عليه قالت: رأيت
كأن السماء فرجت، فدخل فيها ثم أطبقت. فقلت: هذه الشهادة، فأشهدت عليه أنه قد دخل
بي، فعلقت منه بعبد الله بن حنظلة. ثم تزوجها ثابت بن قيس بعد، فولدت له محمد بن ثابت
بن قيس. وأخذ حنظلة بن أبي عامر سلاحه، فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد، وهو
يسوى الصفوف، فلما انكشف المشركون، اعترض حنظلة لأبي سفيان بن حرب، فضرب
عرقوب فرسه، فاكتسعت الفرس، ويقع أبو سفيان إلى الأرض، فجعل يصيح: يا معشر
قريش، أنا أبو سفيان بن حرب! وحنظلة يريد ذبحه بالسيف، فأسمع الصوت رجالا
لا يلتفتون إليه من الهزيمة، حتى عاينه الأسود بن شعوب، فحمل على حنظلة بالرمح،
269

فأنفذه، ومشى حنظلة إليه في الرمح فضربه ثانية فقتله، وهرب أبو سفيان يعدو على
قدميه، فلحق ببعض قريش، فنزل عن صدر فرسه، وردف وراءه أبا سفيان، فذلك
قول أبي سفيان يذكر صبره، ووقوفه و إنه لم يفر، وذكره محمد بن إسحاق (1):
ولو شئت نجتني كميت طمرة * ولم أحمل النعماء لابن شعوب (2)
وما زال مهري مزجر الكلب فيهم * لدن غدوة حتى دنت لغروب (3)
أقاتلهم وأدعي يال غالب * وأدفعهم عنى بركن صليب (4)
فبكى ولا ترعى مقالة عاذل * ولا تسامى من عبرة ونحيب
إياك وإخوانا لنا قد تتابعوا (5) * وحق لهم من حسرة بنصيب
وسلي الذي قد كان في النفس إنني * قتلت من النجار كل نجيب
ومن هاشم قرما كريما ومصعبا * وكان لدى الهيجاء غير هيوب (6)
ولو أنني لم أشف نفسي منهم * لكانت شجا في الصدر ذات ندوب (7)
فآبوا وقد أودى الجلابيب منهم * بهم كمد من واجم وكئيب (8)
أصابهم من لم يكن لدمائهم * كفاء ولا في سنخهم بضريب (9).
قال الواقدي: مر أبو عامر الراهب على حنظلة ابنه وهو مقتول إلى جنب

(1) سيرة ابن هشام 3: 21، 22.
(2) الطمرة: الفرس السريعة الوثب، وفي الأصول: (النعمان) تحريف.
(3) ابن هشام: (منهم)، ومزجر الكلب، يريد إنه قريب، والضمير في (دنت) يعود إلى الشمس.
(4) صليب: شديد قوي (5) ابن هشام: (وإخوانا له).
(6) القرم في الأصل: الفحل الكريم من الإبل، وعني به هاهنا حمزة بن عبد المطلب. والمصعب:
الفحل من الإبل أيضا.
(7) الندوب: آثار الجروح.
(8) الجلاليب: الجماعات. وفي ابن هشام:
* بهم حدب من معبط وكئيب *
(9) في ابن هشام: (ولا في حطة بضريب).
270

حمزة بن عبد المطلب، وعبد الله بن جحش، فقال: إن كنت لأحذرك هذا الرجل - يعنى
رسول الله صلى الله عليه وسلم - من قبل هذا المصرع، والله إن كنت لبرا بالوالد، شريف
الخلق في حياتك، وإن مماتك لمع سراة أصحابك وأشرافهم، إن جزى الله هذا القتيل
- يعنى حمزة - خيرا، أو جزى أحدا من أصحاب محمد خيرا، فليجزك ثم نادى يا معشر
قريش، حنظلة لا يمثل به، وإن كان خالفني وخالفكم، فلم يأل لنفسه فيما يرى خيرا،
فمثل بالناس وترك حنظلة فلم يمثل به.
وكانت هند بنت عتبة أول من مثل بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأمرت النساء
بالمثل، وبجدع الأنوف والاذان، فلم تبق امرأة إلا عليها معضدان (1) ومسكتان (2)
وخدمتان (3) إلا حنظلة لم يمثل به، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني رأيت
الملائكة تغسل حنظلة بن أبي عامر بين السماء والأرض بماء المزن في صحاف الفضة)، قال
أبو أسيد الساعدي: فذهبنا فنظرنا إليه، فإذا رأسه يقطر ماء، فرجعت إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فأرسل إلى امرأته فسألها، فأخبرته إنه خرج وهو جنب.
قال الواقدي: وأقبل وهب بن قابوس المزني، ومعه ابن أخيه الحارث بن عقبة بن
قابوس بغنم لهما من جبل مزينة، فوجد المدينة خلوا، فسألا: أين الناس قالوا بأحد،
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل المشركين من قريش، فقال: لا نبتغي أثرا بعد
عين، فخرجا حتى أتيا النبي صلى الله عليه وسلم بأحد، فيجدان القوم يقتتلون، والدولة لرسول
الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأغارا مع المسلمين في النهب، وجاءت الخيل من ورائهم،
خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل، فاختلط الناس، فقاتلا أشد القتال، فانفرقت فرقة
من المشركين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لهذه الفرقة فقال وهب بن
قابوس: أنا يا رسول الله، فقام فرماهم بالنبل حتى انصرفوا، ثم رجع فانفرقت فرقة

(1) المعضد: الدملج، وهو حلي يلبس في المعصم.
(2) المسك، الأسورة من القرون والعاج.
(3) الخدمة: الخلخال.
271

أخرى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لهذه الكتيبة فقال المزني: أنا
يا رسول الله، فقام فذبها بالسيف حتى ولت، ثم رجع فطلعت كتيبة أخرى، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: من يقوم لهؤلاء فقال المزني: أنا يا رسول الله فقال: قم وأبشر بالجنة.
فقام المزني مسرورا يقول: والله لا أقيل ولا أستقيل، فجعل يدخل فيهم فيضرب بالسيف
ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه والمسلمون، حتى خرج من أقصى الكتيبة،
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم ارحمه، ثم يرجع فيهم، فما زال كذلك وهم
محدقون به، حتى اشتملت عليه أسيافهم ورماحهم، فقتلوه فوجد به يومئذ عشرون طعنة
بالرماح، كلها قد خلصت إلى مقتلي، ومثل به أقبح المثل يومئذ. ثم قام ابن أخيه،
فقاتل كنحو قتاله، حتى قتل، فكان عمر بن الخطاب يقول إن أحب ميتة أموت عليها
لما مات عليها المزني.
قال الواقدي: وكان بلال بن الحارث المزني يحدث يقول: شهدنا القادسية مع سعد بن أبي
وقاص، فلما فتح الله علينا، وقسمت بيننا غنائمنا، أسقط فتى من آل قابوس من
مزينة، فجئت سعدا حين فزع من نومه، فقال بلال: قلت: بلال، قال: مرحبا
بك، من هذا معك قلت: رجل من قومي، قال: ما أنت يا فتى من المزني الذي قتل
يوم أحد قال: ابن أخيه. قال سعد: مرحبا وأهلا، أنعم الله بك عينا لقد شهدت
من ذلك الرجل يوم أحد مشهدا ما شهدت من أحد قط، لقد رأيتنا وقد أحدق
المشركون بنا من كل ناحية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطنا، والكتائب
تطلع من كل ناحية، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمى ببصره في الناس
يتوسمهم، ويقول من لهذه الكتيبة كل ذلك يقول المزني: أنا يا رسول الله، كل
ذلك يرد الكتيبة، فما أنسى آخر مرة قالها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم قم
272

وأبشر بالجنة، فقام وقمت على أثره، يعلم الله إني أطلب مثل ما يطلب يومئذ من الشهادة،
فخضنا حومتهم، حتى رجعنا فيهم الثانية، فأصابوه رحمه الله، ووددت والله إني كنت
أصبت يومئذ معه، ولكن أجل (1) استأخر، ثم دعا من ساعته بسهمه فأعطاه وفضله،
وقال اختر في المقام عندنا أو الرجوع إلى أهلك، فقال بلال إنه يستحب
الرجوع، فرجع.
فقال الواقدي: وقال سعد بن أبي وقاص: أشهد لرأيت رسول الله صلى الله عليه
وآله واقفا على المزني، وهو مقتول وهو يقول رضى الله عنك، فإني عنك راض، ثم
رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله قام على قدميه، وقد ناله عليه السلام من ألم الجراح
ما ناله، وإني لأعلم أن القيام يشق عليه على قبره، حتى وضع في لحده وعليه بردة، لها
أعلام حمر، فمد رسول الله صلى الله عليه وآله البردة على رأسه، فخمره وأدرجه فيها طولا،
فبلغت نصف ساقيه، فأمرنا فجمعنا الحرمل، فجعلناه على رجليه وهو في لحده، ثم انصرف
فما حال أحب إلى من أن أموت عليها وألقى الله عليها من حال المزني
قال الواقدي: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد قد خاصم إليه يتيم من
الأنصار أبا لبابة بن عبد المنذر في عذق بينهما، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي
لبابة، فجزع اليتيم على العذق، فطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم العذق إلى أبى لبابة
لليتيم، فأبى أن يدفعه إليه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأبي لبابة ادفعه
إليه ولك عذق في الجنة، فأبى أبو لبابة، وقال ثابت (2) بن أبي الدحداحة: يا رسول الله،
أرأيت إن أعطيت اليتيم عذقه من مالي قال: لك به عذق في الجنة، فذهب ثابت بن
الدحداحة، فاشترى من أبى لبابة ذلك العذق بحديقة نخل، ثم رد العذق إلى الغلام،

(1) الواقدي: (أجلى استأخر).
(2) كذا في الاستيعاب 1: 203.
273

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رب عذق مذلل (1) لابن الدحداحة في الجنة)،
فكانت ترجى له الشهادة بذلك القول، فقتل يوم أحد.
قال الواقدي، ويقبل ضرار بن الخطاب فارسا يجر قناة له طويلة، فيطعم عمرو بن
معاذ، فأنفذه ويمشي عمرو إليه حتى غلب، فوقع لوجهه، قال: يقول ضرار: لا تعدمن
رجلا زوجك من الحور العين، وكان يقول زوجت يوم أحد عشرة من أصحاب محمد
الحور العين.
قال الواقدي: فسألت شيوخ الحديث: هل قتل عشرة قالوا: ما بلغنا إنه قتل إلا
ثلاثة، ولقد ضرب يومئذ عمر بن الخطاب حين جال المسلمون تلك الجولة بالقناة، وقال
يا بن الخطاب، إنها نعمة مشكورة، ما كنت لأقتلك.
قال الواقدي: وكان ضرار يحدث بعد، ويذكر وقعة أحد، ويذكر الأنصار
فيترحم عليهم، ويذكر غناءهم في الاسلام، وشجاعتهم وأقدامهم على الموت، ثم يقول
لقد قتل أشراف قومي ببدر، فأقول من قتل أبا الحكم فيقال (2) ابن عفراء. من
قتل أمية بن خلف فيقال خبيب بن يساف. من قتل عقبة بن أبي معيط فيقال
عاصم بن ثابت. من قتل فلان بن فلان فيسمى لي من الأنصار، من أسر سهيل بن
عمرو فيقال مالك بن الدخشم. فلما خرجنا إلى أحد، وأنا أقول إن قاموا في
صياصيهم فهي منيعة لا سبيل لنا إليهم نقيم أياما ثم ننصرف، وإن خرجوا إلينا من
صياصيهم أصبنا منهم، فإن معنا عددا أكثر من عددهم، ونحن قوم موتورون، خرجنا
بالظعن يذكرننا قتلى بدر، ومعنا كراع ولا كراع معهم، وسلاحنا أكثر من سلاحهم،
فقضى لهم أن خرجوا، فالتقينا، فوالله ما قمنا لهم حتى هزمنا وانكشفنا مولين، فقلت

(1) العذق بالفتح: النخلة. وبالكسر: العرجون بما فيه من الشماريخ، وقد ورد هذا الحديث
في اللسان (عذق).
(2) الواقدي: (فقال).
274

في نفسي هذه أشد من وقعة بدر، وجعلت أقول لخالد بن الوليد: كر على القوم،
فيقول وترى وجها نكر فيه حتى نظرت إلى الجبل الذي كان عليه الرماة خاليا،
فقلت يا أبا سليمان، أنظر وراءك، فعطف عنان فرسه، وكررنا معه، فانتهينا إلى
الجبل، فلم نجد عليه أحدا له بال، وجدنا نفيرا فأصبناهم، ثم دخلنا العسكر، والقوم غارون
ينتهبون عسكرنا، فأقحمنا الخيل عليهم، فتطايروا في كل وجه، ووضعنا السيوف فيهم
حيث شئنا، وجعلت أطلب الأكابر من الأوس والخزرج قتلة الأحبة، فلا أرى أحدا،
هربوا فما كان حلب ناقة حتى تداعت الأنصار بينها، فأقبلت فخالطونا ونحن فرسان، فصبرنا
لهم، وصبروا لنا، وبذلوا أنفسهم حتى عقروا فرسي، وترجلت فقتلت منهم عشرة،
ولقيت من رجل منهم الموت الناقع، حتى وجدت ريح الدم، وهو معانقي ما يفارقني،
حتى أخذته الرماح من كل ناحية، فوقع. فالحمد لله الذي أكرمهم بيدي، ولم
يهني بأيديهم.
قال الواقدي: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: من له علم بذكوان
بن عبد قيس فقال علي عليه السلام: أنا رأيت يا رسول الله فارسا يركض في أثره
حتى لحقه، وهو يقول لا نجوت إن نجوت فحمل عليه فرسه وذكوان راجل،
فضربه وهو يقول خذها وأنا ابن علاج فقتله، فأهويت إلى الفارس، فضربت
رجله بالسيف، حتى قطعتها من نصف الفخذ، ثم طرحته عن فرسه فذففت عليه، وإذا
هو أبو الحكم بن أخنس بن شريق بن علاج بن عمرو بن وهب الثقفي.
قال الواقدي: وقال علي عليه السلام: لما كان يوم أحد وجال الناس تلك الجولة
اقبل أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة، وهو دارع مقنع في الحديد ما يرى منه إلا عيناه، وهو
يقول يوم بيوم بدر فيعرض له رجل من المسلمين، فقتله أمية، قال علي عليه السلام:
وأصمد له، فأضربه بالسيف على هامته، وعليه بيضة، وتحت البيضة مغفر، فنبا سيفي،
275

وكنت رجلا قصيرا، ويضربني بسيفه، فأتقي بالدرقة، فلحج سيفه، فأضربه، وكانت
درعه مشمرة، فأقطع رجليه، فوقع وجعل يعالج سيفه، حتى خلصه من الدرقة، وجعل
يناوشني وهو بارك حتى نظرت إلى فتق تحت أبطه فاحش فيه بالسيف، فمال
فمات، وانصرفت.
قال الواقدي: وفي يوم أحد انتمى رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال: (أنا ابن
العواتك)، وقال أيضا:
أنا النبي لا كذب * أنا ابن عبد المطلب
قال الواقدي: بينا عمر بن الخطاب يومئذ في رهط من المسلمين قعود، مر بهم
أنس بن النضر بن ضمضم عم أنس بن مالك، فقال ما يقعدكم قالوا قتل رسول الله
صلى الله عليه وآله، قال: فما تصنعون بالحياة بعده قوموا فموتوا على ما مات عليه،
ثم قام، فجالد بسيفه حتى قتل، فقال عمر بن الخطاب إني لأرجو أن يبعثه الله أمة
وحده يوم القيامة، وجد به سبعون ضربة في وجهه ما عرف حتى عرفته أخته.
قال الواقدي: وقالوا إن مالك بن الدخشم مر على خارجة بن زيد بن زهير
يومئذ وهو قاعد، وفى حشوته (1) ثلاثة عشر جرحا كلها قد خلصت إلى مقتل، فقال له
مالك: أما علمت أن محمدا قد قتل قال خارجة: فإن كان محمد قد قتل، فإن الله حي
لا يقتل ولا يموت، وأن محمدا قد بلغ رسالة ربه، فاذهب أنت فقاتل عن دينك.
قال: ومر مالك بن الدخشم أيضا على سعد بن الربيع، وبه اثنا عشر جرحا كلها
قد خلصت إلى مقتل، فقال أعلمت أن محمدا قد قتل فقال سعد أشهد أن محمدا قد
بلغ رسالة ربه، فقاتل أنت عن دينك، فإن الله حي لا يموت.

(1) حشوة البطن: (أمعاؤه).
276

قال محمد بن إسحاق: وحدثني محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة
المازني، أخو بنى النجار، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله يومئذ: من رجل
ينظر ما فعل سعد بن الربيع، أفي الاحياء هو أم في الأموات فقال رجل من الأنصار:
أنا أنظر يا رسول الله ما فعل، فنظر فوجده جريحا في القتلى، وبه رمق فقال له إن
رسول الله صلى الله عليه وآله أمرني أن أنظر في الاحياء أنت أم
في الأموات، قال: أنا في الأموات، فأبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله منى السلام، وقل له إن سعد بن
الربيع يقول جزاك الله خيرا عنا ما جزى نبيا عن أمته وأبلغ قومك السلام عنى،
وقل لهم إن سعد بن الربيع يقول لكم: لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى نبيكم
ومنكم عين تطرف، قال: فلم أبرح عنده حتى مات، ثم جئت إلى رسول الله صلى الله
عليه وآله فأخبرته، فقال اللهم ارض عن سعد بن الربيع
قال الواقدي: وحدثني عبد الله بن عمار، عن الحارث بن الفضيل الخطمي، قال:
أقبل ثابت بن الدحداحة يومئذ والمسلمون أوزاع، قد سقط في أيديهم، فجعل يصيح
يا معشر الأنصار، إلى إلى أنا ثابت بن الدحداحة إن كان محمد قد قتل، فإن الله حي
لا يموت قاتلوا عن دينكم، فإن الله مظهركم وناصركم، فنهض إليه نفر من الأنصار،
فجعل يحمل بمن معه من المسلمين، وقد وقفت لهم كتيبة خشناء (1) فيها رؤساؤهم: خالد بن
الوليد، وعمرو بن العاص، وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الخطاب، وجعلوا يناوشونهم،
ثم حمل عليه خالد بن الوليد بالرمح فطعنه، فأنفذه فوقع ميتا، وقتل من كان معه من
الأنصار، فيقال إن هؤلاء آخر من قتل من المسلمين في ذلك اليوم
وقال عبد الله بن الزبعرى يذكر يوم أحد:
ألا ذرفت من مقلتيك دموع * وقد بان في حبل الشباب قطوع (2)

(1) كتيبة خشناء: كثيرة السلاح.
(2) سيرة ابن هشام 3: 104 - 106، وفيه: (من حبل الشباب).
277

وشط بمن تهوى المزار وفرقت * نوى الحي دار بالحبيب فجوع
وليس لما ولى على ذي صبابة (1) * وإن طال تذراف الدموع رجوع
فدع ذا ولكن هل أتى أم مالك * أحاديث قومي والحديث يشيع
ومجنبنا جردا إلى أهل يثرب * عناجيج فيها ضامر وبديع (2)
عشية سرنا من كداء يقودها * ضرور الأعادي للصديق نفوع (3)
يشد علينا كل زحف كأنها * غدير نضوح الجانبين نقيع (4)
فلما رأونا خالطتهم مهابة * وخامرهم رعب هناك فظيع
فودوا لو أن الأرض ينشق ظهرها * بهم، وصبور القوم ثم جزوع
وقد عريت بيض كان وميضها * حريق وشيك في الاباء سريع (5)
بأيماننا نعلو بها كل هامة * وفيها سمام للعدو ذريع
فغادرن قتلى الأوس عاصبة بهم * ضباع وطير فوقهن وقوع
ومر بنو النجار في كل تلعة * بأثوابهم من وقعهن نجيع
ولولا علو الشعب غادرن أحمدا * ولكن علا والسمهري شروع (6)
كما غادرت في الكر حمزة ثاويا * وفي صدره ماضي الشباة وقيع (7).
وقال ابن الزبعرى أيضا من قصيدة مشهورة، وهي:

(1) ابن هشام: (على ذي حرارة).
(2) جنبت الفرس، إذا قدتها ولم تركبها. والجرد: جمع أجرد، وهو العتيق من الخيل. والعناجيج:
الطوال الحسان، واحدها عنجوج. وانظر ابن هشام.
(3) ابن هشام: (سرنا في لهام).
(4) النقيع: الماء البارد العذب.
(5) الوميض: الضوء. والأباء: جمع أباءة، وهي أجمة القصب.
(6) الشعب: الطريق في الجبل. والسمهري: الرمح، وشروع: مائل إلى الطعن.
(7) شباة كل شئ: حده. ووقيع: محدد.
278

يا غراب البين أسمعت فقل * إنما تندب أمرا قد فعل (1)
إن للخير وللشر مدى * وسواء قبر مثر ومقل (2)
كل خير ونعيم زائل * وبنات الدهر يلعبن بكل
أبلغا حسان عنى آية * فقريض الشعر يشفى ذا الغلل
كم ترى بالجسر من جمجمة * وأكفأ قد أترت ورجل (3)
وسرابيل حسان شققت * عن كمأة غودروا في المنتزل (4)
كم قتلنا من كريم سيد * ماجد الجدين مقدام بطل
صادق النجدة قرم بارع * غير ملطاط لدى وقع الأسل (5)
فسل المهراس من ساكنه * من كراديس وهام كالحجل (6)
ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأسل
حين حطت بقباء بركها * واستحر القتل في عبد الأشل (7)
ثم خفوا عند ذاكم رقصا * رقص الحفان تعدو في الجبل (8)

(1) سيرة ابن هشام 3: 96 - 98، وروايته.
* إنما تنطق شيئا قد فعل *
(2) ابن هشام:
* وكلا ذلك وجه وقبل *
(3) ابن هشام: (بالجر)، أي الجبل. وأترت: قطعت.
(4) المتنزل: موضع النزال.
(5) رواية ابن هشام:
* غير ملتاث لدى وقع الأسل *
(6) المهراس: ماء بجبل أحد، والكراديس جمع كردوسة، وهي جماعة الخيل. والحجل: طائر
في حجم الحمام، ورواية ابن هشام:
* بين أقحاف وهام كالحجل *
(7) البرك: الصدر. واستحر القتل: اشتد، وعبد الأشل، أراد عبد الأشهل، فحذف الهاء.
(8) الرقص: ضرب من المشي السريع. والحفان: صغار النعام.
279

فقتلنا النصف من ساداتهم * وعدلنا ميل بدر فاعتدل
لا ألوم النفس إلا أننا * لو كررنا لفعلنا المفتعل
بسيوف الهند تعلو هامهم * تبرد الغيظ ويشفين الغلل (1).
قلت كثير من الناس يعتقدون أن هذا البيت ليزيد بن معاوية، وهو قوله (ليت
أشياخي)، وقال من أكره التصريح باسمه: هذا البيت ليزيد، فقلت له إنما قاله يزيد
متمثلا لما حمل إليه رأس الحسين عليه السلام، وهو لابن الزبعرى، فلم تسكن نفسه إلى
ذلك، حتى أوضحته له، فقلت ألا تراه يقول: (جزع الخزرج من وقع الأسل)، والحسين
عليه السلام لم تحارب عنه الخزرج، وكان يليق أن يقول (جزع بني هاشم من وقع الأسل)،
فقال بعض من كان حاضرا لعله قاله في يوم الحرة فقلت المنقول أنه أنشده لما حمل إليه
رأس الحسين عليه السلام، والمنقول أنه شعر ابن الزبعرى، ولا يجوز أن يترك المنقول
إلى ما ليس بمنقول.
وعلى ذكر هذا الشعر فإني حضرت وأنا غلام بالنظامية ببغداد في بيت عبد القادر
بن داود الواسطي المعروف بالمحب، خازن دار الكتب بها وعنده في البيت باتكين الرومي
الذي ولى أربل أخيرا وعنده أيضا جعفر بن مكي الحاجب، فجرى ذكر يوم أحد وشعر
ابن الزبعرى هذا وغيره، وأن المسلمين اعتصموا بالجبل، فاصعدوا فيه، وإن الليل حال
أيضا بين المشركين وبينهم، فأنشد ابن مكي بيتين لأبي تمام متمثلا.
لولا الظلام وقلة علقوا بها باتت رقابهم بغير قلال (2)

(1) رواية ابن هشام:
* عللا تعلوهم بعد نهل *
(2) ديوانه 3: 139، من قصيدة يمدح فيها المعتصم، ويذكر فتح الخرمة. وقلة الجبل: أعلاه،
وجمعه قلل وقلال.
280

فليشكر جنح الظلام وذرودا * فهم لذرود والظلام موالي
فقال باتكين لا تقل هذا، ولكن قل: (ولقد صدقكم الله وعده إذ
تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الامر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون
منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم
ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين) (1) وكان باتكين مسلما، وكان جعفر
سامحه الله مغموصا عليه في دينه.
تم الجزء الرابع عشر من شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد
ويليه الجزء الخامس عشر

(1) سورة آل عمران 152.
281