الكتاب: شرح نهج البلاغة
المؤلف: ابن أبي الحديد
الجزء: ٣
الوفاة: ٦٥٦
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ القسم العام
تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: دار إحياء الكتب العربية - عيسى البابي الحلبي وشركاه
ردمك:
ملاحظات: مؤسسة مطبوعاتي إسماعيليان

شرح نهج البلاغة
لابن أبي الحديد
(586 - 656)
الجزء الثالث
تحقيق
محمد أبو الفضل إبراهيم
1

شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد
2

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد العدل الكريم.
واعلم أن الذي ذكره المرتضى رحمة الله تعالى، وأورده على قاضى القضاة (1) جيد ولازم،
متى ادعى
قاضى القضاة أن العدالة إذا ثبتت ظنا أو قطعا لم يجز العدول عنها والتبرؤ
إلا بما يوجب القطع، ويعلم به علما يقينيا زوالها، فأما إذا ادعى أن المعلوم لا يزول
إلا بما يوجب العلم، فلا يرد عليه ما ذكره المرتضى رحمه الله تعالى.
وله أن يقول: قد ثبتت بالاجماع إمامة عثمان، والاجماع دليل قطعي عند أصحابنا،
وكل من ثبتت إمامته ثبتت عدالته بالطريق التي بها ثبتت إمامته، لأنه لا يجوز
أن تكون إمامته معلومة وشرائطها مظنونة، لان الموقوف على
المظنون مظنون،
فتكون إمامته مظنونة، وقد فرضناها معلومة، وهذا خلف ومحال. وإذا كانت عدالته
معلومة لم يجز القول بانتفائها وزوالها إلا بأمر معلوم.
والاخبار التي رويت في أحداثه أخبار آحاد لا تفيد العلم، فلا يجوز العدول
عن المعلوم بها، فهذا الكلام إذا رتب هذا الترتيب اندفع به ما اعترض به المرتضى
رحمة الله تعالى.
* * *

(1) انظر ص 24 من الجزء الثاني، وما بعدها.
3

[بقية رد المرتضى على ما أورده القاضي عبد الجبار
من الدفاع عن عثمان]
فأما كلام المرتضى رحمه الله تعالى على الفصل الثاني من كلام قاضى القضاة،
وهو الفصل المحكى عن شيخنا أبى على رحمه الله تعالى، فنحن نورده. قال
رحمه الله تعالى (1).
أما قوله: لو كان ما ذكر من الاحداث قادحا لوجب من الوقت الذي ظهرت
الاحداث فيه أن يطلبوا رجلا ينصبونه في الإمامة، لان ظهور الحدث كموته، فلما رأيناهم
طلبوا إماما بعد قتله دل على بطلان ما أضافوه إليه من الاحداث. فليس بشئ معتمد،
لان تلك الاحداث وإن كانت مزيلة عندهم لإمامته، وفاسخة لها، ومقتضية لان يعقدوا
لغيره الإمامة، (2) إلا أنهم لم يكونوا قادرين على أن يتفقوا على نصب غيره، مع تشبثه
بالامر، خوفا من الفتنة والتنازع والتجاذب، وأرادوا أن يخلع نفسه، حتى تزول الشبهة،
وينشط من يصلح للامر لقبول العقد والتكفل بالامر. وليس يجرى ذلك مجرى موته،
لان موته يحسم الطمع في استمرار ولايته، ولا تبقى شبهة في خلو الزمان من إمام. وليس
كذلك حدثه الذي يسوغ فيه التأويل على بعده، وتبقى معه الشبهة في استمرار أمره.
وليس نقول (3): إنهم لم يتمكنوا من ذلك كما سأل نفسه، بل الوجه في عدولهم ما ذكرناه من
إرادتهم حسم (4) المواد وإزالة الشبهة وقطع أسباب الفتنة.

* تابع لما ورد في الجزء الثاني ص 328 وما بعدها.
(1) الشافي 266 وما بعدها، وعبارته في أول هذا الفصل: (فأما عد الاحداث التي نقمت عليه،
فنحن نتكلم عليها وعلى ما أورده من المعاذير فيها بمشيئة الله تعالى عند ذكره لذلك، فأما ما حكاه عن أبي
على من قوله: لو كان ما ذكره من الاحداث قادحا....). وانظر ص 362 من الجزء الثاني.
(2 - 2) كذا في ا، ج، وفى ب والشافي: (فإنهم لم يقدموا على نصب غيره..).
(3) الشافي: (ليس نقول).
(4) ا: (لحسم)، وكذلك في الشافي.
4

قال: فأما قوله: إنه معلوم من حال هذه الاحداث أنها لم تحصل أجمع في الأيام
التي حصر فيها وقتل، بل كانت تقع حالا بعد حال، فلو كانت توجب الخلع والبراءة،
لما تأخر من المسلمين الانكار عليه، ولكان المقيمون من الصحابة بالمدينة أولى بذلك
من الواردين من البلاد، فلا شك أن الاحداث لم تحصل في وقت واحد، إلا أنه غير
منكر أن يكون نكيرهم إنما تأخر لأنهم تأولوا ما ورد عليهم من أفعاله على أجمل
الوجوه، حتى زاد الامر وتفاقم، وبعد التأويل، و
تعذر التخريج، ولم يبق للظن الجميل
طريق، فحينئذ أنكروا، وهذا مستمر على ما قدمنا ذكره، من أن العدالة والطريقة
الجميلة يتأول لها في الفعل والأفعال القليلة، بحسب ما تقدم من حسن الظن به، ثم ينتهى
الامر [بعد ذلك] (1) إلى بعد التأويل، والعمل على الظاهر القبيح.
قال: على أن الوجه الصحيح في هذا الباب أن أهل الحق كانوا معتقدين بخلعه من
أول حدث، بل معتقدين أن إمامته لم تثبت وقتا من الأوقات، وإنما منعهم من إظهار
ما في نفوسهم ما قدمناه من أسباب الخوف والتقية، لان الاعتذار بالوجل (2) كان عاما،
فلما تبين أمره حالا بعد حال، وأعرضت الوجوه عنه، وقل العاذر له، قويت الكلمة
في خلعه. وهذا إنما كان في آخر الامر دون أوله، فليس يقتضى الامساك عنه إلى الوقت
الذي وقع الكلام فيه نسبة الخطأ إلى الجميع، على ما ظنه.
قال: فأما دفعه بأن تكون الأمة أجمعت على خلعه بخروجه (3) نفسه وخروج من
كان في حيزه عن القوم، فليس بشئ، لأنه إذا ثبت أمن عداه وعدا عبيده والرهيط
من فجار أهله وفساقهم، كمروان ومن جرى مجراه، كانوا مجمعين على خلعه، فلا شبهة

(1) من كتاب الشافي.
(2) كذا في ج، وفي حاشيتها: (يعنى أكثر الناس يعتذرون بالخوف)، وفى ا، ب: (لان
الاعذار بالرجل)، وفي الشافي: (لان الاغترار بالرجل).
(3) ب: (بإخراجه).
5

في أن الحق في غير حيزه، لأنه لا يجوز أن يكون هو المصيب، وجميع الأمة مبطل،
وإنما يدعى أنه على الحق لمن ينازع في إجماع من عداه، فأما مع التسليم لذلك، فليس
يبقى شبهة، وما نجد مخالفينا يعتبرون في باب الاجماع بإجماع الشذاذ والنفر القليل الخارجين
من الاجماع، ألا ترى أنهم لا يحفلون (1) بخلاف سعد (2) وأهله وولده في بيعة أبى بكر
لقلتهم وكثرة من بإزائهم، ولذلك لا يعتدون بخلاف من امتنع من بيعة أمير المؤمنين عليه
السلام، ويجعلونه شاذا، لا تأثير بخلافة (3)، فكيف فارقوا هذه الطريقة في خلع عثمان!
وهل هذا إلا تقلب وتلون!
* * *
قلت: أما إذا احتج أصحابنا على إمامة أبى بكر بالاجماع، فاعتراض حجتهم بخلاف
سعد وولده وأهله اعتراض جيد، وليس يقول أصحابنا في جوابه: هؤلاء شذاذ فلا نحفل
بخلافهم، وإنما المعتبر بالكثرة التي بإزائهم. وكيف يقولون هذا، وحجتهم الاجماع
ولا إجماع ولكنهم يجيبون عن ذلك بأن سعدا مات في خلافة عمر، فلم يبق من يخالف
في خلافة عمر، فانعقد الاجماع عليها، وبايع ولد سعد وأهله من قبل، وإذا صحت خلافة
عمر صحت خلافه أبى بكر، لأنها فرع عليها، ومحال أن يصح الفرع، ويكون الأصل
فاسدا، فهكذا يجيب أصحابنا عن الاعتراض بخلاف سعد إذا احتجوا بالاجماع، فأما إذا
احتجوا بالاختيار فلا يتوجه نحوهم الاعتراض بخلاف سعد وأهله وولده، لأنه ليس
من شرط ثبوت الإمامة بالاختيار إجماع الأمة على الاختيار، وإنما يكفي فيه بيعة خمسة
من أهل الحل والعقد على الترتيب الذي يرتب أصحابنا الدلالة عليه، وبهذا الطريق يثبت
عندهم إمامة علي عليه السلام، ولم يحفل بخلاف معاوية وأهل الشام فيها.
* * *

(1) يقال: لم يحفل بالامر، إذا لم يبال به.
(2) هو سعد بن عبادة الأنصاري، وانظر حديث السقيفة في تاريخ الطبري (حوادث السنة الحادية عشرة).
(3) ا، ج: (لا تأثير له).
6

قال رحمة الله تعالى: فأما قوله: إن الصحابة كانت بين فريقين: من نصره (1)
كزيد بن ثابت وابن عمر وفلان وفلان، والباقون ممتنعون انتظارا لزوال العارض
ولأنه ما ضيق عليهم الامر في الدفع عنه، فعجيب، لأن الظاهر أن أنصاره هم الذين كانوا
معه في الدار، يقاتلون عنه (2)، ويدفعون الهاجمين عليه.
فأما من كان في منزله ما أغنى عنه فتيلا، فلا يعد ناصرا، وكيف يجوز ممن أراد
نصرته وكان معتقدا لصوابه، وخطأ المطالبين له بالخلع، أن يتوقف عن النصرة طلبا
لزوال العارض! وهل تراد النصرة إلا لدفع العارض، وبعد زواله لا حاجة إليها! وليس
يحتاج في نصرته إلى أن يضيق هو عليهم الامر فيها، بل من كان معتقدا لها لا يحتاج
حمله إلى إذنه فيها، ولا يحفل بنهيه عنها، لان المنكر مما قد تقدم أمر الله تعالى بالنهي عنه،
فليس يحتاج في إنكاره إلى أمر غيره.
قال: فأما زيد بن ثابت، فقد روى ميله إلى عثمان، وما يغنى ذلك وبإزائه جميع
المهاجرين والأنصار! ولميله إليه سبب معروف، فإن الواقدي روى في،، كتاب الدار،،
أن مروان بن الحكم لما حصر عثمان الحصر الأخير أتى زيد بن ثابت فاستصحبه
إلى عائشة ليكلمها في هذا الامر، فمضيا إليها وهي عازمة على الحج، فكلماها في أن تقيم
وتذب عنه، فأقبلت على زيد بن ثابت، فقالت: وما منعك يا بن ثابت ولك الأساويف
قد اقتطعكها (3) عثمان، ولك كذا وكذا، وأعطاك عثمان من بيت المال عشرة آلاف
دينار! قال زيد: فلم أرجع عليها حرفا واحدا، وأشارت إلى مروان بالقيام، فقام مروان
وهو يقول:

(1) الشافي: (من ينصره).
(2) ب: (يقاتلون غيره).
(3) الشافي: (قد قطعها).
7

حرق قيس على البلاد * حتى إذا اضطرمت أجذما (1).
فنادته عائشة وقد خرج من العتبة: يا بن الحكم، أعلى تمثل الاشعار! قد والله
سمعت ما قلت، أتراني في شك من صاحبك! والذي نفسي بيده لوددت أنه الان في
غرارة من غرائري مخيط عليه، فألقيه في البحر الأخضر، قال زيد بن ثابت: فخرجنا من
عندها (2) على الياس منها.
وروى الواقدي أن زيد بن ثابت اجتمع عليه عصابة من الأنصار، وهو يدعوهم إلى
نصرة عثمان. فوقف عليه جبلة بن عمرو بن حبة المازني، فقال له: وما يمنعك يا زيد أن
تذب عنه؟ أعطاك عشرة آلاف دينار وحدائق من نخل لم ترث عن أبيك مثل
حديقة منها.
فأما ابن عمر فإن الواقدي روى أيضا عنه أنه قال: والله ما كان فينا إلا خاذل
أو قاتل. والامر على هذا أوضح من أن يخفى.
فأما ما ذكره من إنفاذ أمير المؤمنين عليه السلام الحسن والحسين عليهما السلام، فإنما
أنفذهما - إن كان أنفذهما - ليمنعا من انتهاك حريمه وتعمد قتله، ومنع حرمه (3) ونسائه من
الطعام والشراب، ولم ينفذهما ليمنعا من مطالبته بالخلع، وكيف وهو عليه السلام مصرح بأنه
يستحق بأحداثه الخلع، والقوم الذين سعوا في ذلك إليه كانوا يغدون ويروحون،
ومعلوم منه ضرورة أنه كان مساعدا على خلعه ونقض أمره، لا سيما في المرة الأخيرة.
فأما ادعاؤه أنه عليه السلام لعن قتلته، فهو يعلم ما في هذا من الروايات المختلفة التي

(1) الإجذام: الاقلاع، والبيت للربيع بن زياد، من أبيات في الحماسة 2 - 484 - 487، بشرح
المرزوقي. وفي الشطر الأول من البيت زحاف بالحرم، وهو جائز في أول المتقارب والطويل، ورواية
اللسان: (وحرق)، بلا خرم. وقيس هو ابن زياد العبسي.
(2 - 2) الشافي: (على الناس).
(3) ب: (حريمه)، وما أثبته من ا، وكتاب الشافي.
8

هي أظهر من هذه الرواية، وإن صحت فيجوز أن تكون محمولة على لعن من قتله متعمدا
قتله، قاصدا إليه، فإن ذلك لم يكن لهم.
فأما ادعاؤه أن طلحة رجع لما ناشده عثمان يوم الدار، فظاهر البطلان وغير معروف
في الرواية، والظاهر المعروف أنه لم يكن على عثمان أشد من طلحة، ولا أغلظ منه.
قال: ولو حكينا من كلامه فيه ما قد روى لا فنينا قطعة كثيرة من هذا الكتاب،
وقد روى أن عثمان كان يقول يوم الدار: اللهم اكفني طلحة، ويكرر ذلك، علما بأنه
أشد القوم عليه. وروى أن طلحة كان عليه يوم الدار درع وهو يرامي الناس، ولم
ينزع عن القتال حتى قتل الرجل (1).
فأما ادعاؤه الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله: (ستكون فتنة، وإن عثمان
وأصحابه يومئذ على الهدى) فهو يعلم أن هذه الرواية الشاذة لا تكون في مقابله المعلوم
ضرورة من إجماع الأمة على خلعه وخذله، وكلام وجوه المهاجرين والأنصار فيه، وبإزاء
هذه الرواية ما يملأ الطروس عن النبي صلى الله عليه وآله وغيره، مما يتضمن ما تضمنته.
ولو كانت هذه الرواية معروفة لكان عثمان أولى الناس بالاحتجاج بها يوم الدار، وقد
احتج عليهم بكل غث وسمين، وقبل ذلك لما خوصم وطولب بأن يخلع نفسه، ولأحتج
بها عنه بعض أصحابه وأنصاره، وفي علمنا بأن شيئا من
ذلك لم يكن، دلالة على أنها
مصنوعة موضوعة.
فأما ما رواه عن عائشة من قولها: (قتل والله مظلوما) فأقوال عائشة فيه معروفة ومعلومة،
وإخراجها قميص رسول الله صلى الله عليه وآله وهي تقول: (هذا قميصه لم يبل، وقد
أبلى عثمان سنته)، إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة.

(1) ب (الرجال) وما أثبته عن ا، ج، وكتاب الشافي.
9

فأما مدحها له وثناؤها عليه، فإنما كانا عقيب علمها بانتقال الامر إلى من انتقل
إليه، والسبب فيه معروف، وقد وقفت عليه، وقوبل بين كلامها فيه متقدما ومتأخرا.
فأما قوله: لا يمتنع أن يتعلق باخبار الآحاد في ذلك لأنها في مقابلة ما يدعونه مما
طريقه أيضا الآحاد، فواضح البطلان، لان إطباق الصحابة وأهل المدينة - إلا من كان في
الدار معه على خلافه، فإنهم كانوا بين مجاهد ومقاتل مبارز، وبين متقاعد خاذل - معلوم
ضرورة لكل من سمع الاخبار، وكيف يدعى أنها من جهة الآحاد حتى يعارض
بأخبار شاذة نادرة! وهل هذا إلا مكابرة ظاهرة!
فأما قوله: إنا لا نعدل عن ولايته بأمور محتملة، فقد مضى الكلام في هذا المعنى،
وقلنا إن المحتمل هو ما لا ظاهر له، ويتجاذبه أمور محتملة، فأما ما له ظاهر فلا يسمى محتملا
وإن سماه بهذه التسمية، فقد بينا أنه مما يعدل من أجله عن الولاية، وفصلنا ذلك
تفصيلا بينا.
وأما قوله: إن للامام أن يجتهد برأيه في الأمور المنوطة به، ويكون مصيبا وإن
أفضت إلى عاقبة مذمومة، فأول ما فيه أنه ليس للامام ولا غيره أن يجتهد في الاحكام
ولا يجوز أن يعمل فيها إلا على النص، ثم إذا سلمنا الاجتهاد، فلا شك أن هاهنا أمورا
لا يسوغ فيها الاجتهاد، حتى يكون من خبرنا عنه بأنه اجتهد فيها غير مصوب (1)، وتفصيل
هذه الجملة يبين عند الكلام على ما تعاطاه من الاعذار عن إحداثه (2) على جهة التفصيل.
* * *
قلت: الكلام في هذا الموضع على سبيل الاستقصاء إنما يكون في الكتب الكلامية
المبسوطة في مسألة الإمامة، وليس هذا موضع ذاك، ولكن يكفي قاضى القضاة أن يقول:

(1) كذا في الأصول، وفي كتاب الشافي: (غير مصدق).
(2) الشافي: (في أحداثه).
10

قد ثبت بالاجماع صحة إمامة عثمان، فلا يجوز الرجوع عن هذا الاجماع إلا بإجماع
معلوم
على خلعه وإباحة قتله، ولم يجمع المسلمون على ذلك، لأنه قد كان
بالمدينة من ينكر
ذلك وإن قلوا، وقد كان أهل الأمصار ينكرون ذلك، كالشام والبصرة والحجاز
واليمن ومكة وخراسان، وكثير من أهل الكوفة، وهؤلاء مسلمون، فيجب أن تعتبر
أقوالهم في الاجماع، فإذا لم يدخلوا فيمن أجلب عليه لم ينعقد الاجماع على خلعه ولا على
إباحة دمه، فوجب البقاء على ما اقتضاه الاجماع الأول. * * *
[ذكر المطاعن التي طعن بها على عثمان والرد عليها]
فأما الكلام في المطاعن المفصلة التي طعن بها فيه، فنحن نذكرها، ونحكي
ما ذكره قاضى القضاة وما اعترضه به المرتضى رحمه الله تعالى. (1)
الطعن الأول: قال قاضى القضاة في،، المغني،، فمما طعن به عليه قولهم: إنه ولى أمور المسلمين من
لا يصلح لذلك ولا يؤتمن عليه، ومن ظهر منه الفسق والفساد، ومن لا علم عنده، مراعاة
منه لحرمة القرابة، وعدولا عن مراعاة حرمة الدين والنظر للمسلمين، حتى ظهر ذلك منه
وتكرر، وقد كان عمر حذره من ذلك، حيث وصفه بأنه كلف بأقاربه، وقال له: إذا
وليت هذا الامر فلا تسلط بنى أبى معيط على رقاب الناس. فوقع منه ما حذره إياه،
وعوتب في ذلك فلم ينفع العتب، وذلك نحو استعماله الوليد بن عقبة (2)، وتقليده إياه

(1) نقله المرتضى في الشافي 267 وما بعدها.
(2) هو الوليد بن عقبة بن أبي معيط أخو عثمان لامه، وأمهما أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب
ابن عبد شمس. ولاه عثمان الكوفة بعد عزل سعد بن أبي وقاص، ثم عزله عنها بعد أن ثبت عليه شرب
الخمر، في خبر مشهور. الإصابة 3: 601.
11

حتى ظهر منه شرب الخمر، واستعماله سعيد بن العاص (1) حتى ظهرت منه الأمور التي
عندها أخرجه أهل الكوفة، وتوليته عبد الله بن أبي سرح (2) وعبد الله بن عامر بن
كريز (3)، حتى روى عنه في أمر ابن أبي سرح أنه لما تظلم منه أهل مصر وصرفه
عنهم بمحمد بن أبي بكر، كاتبه بأن يستمر على ولايته، فأبطن خلاف ما أظهر، فعل من
غرضه خلاف الدين. ويقال: إنه كاتبه بقتل محمد بن أبي بكر وغيره ممن يرد عليه، وظفر
بذلك الكتاب، ولذلك عظم التظلم من بعد، وكثر الجمع، وكان سبب الحصار والقتل،
حتى كان من أمر مروان وتسلطه عليه وعلى أموره ما قتل بسببه، وذلك ظاهر
لا يمكن دفعه.
قال رحمه الله تعالى: وجوابنا عن ذلك أن نقول: أما ما ذكر من توليته من لا يجوز
أن يستعمل، فقد علمنا أنه لا يمكن أن يدعى أنه حين استعملهم علم من أحوالهم خلاف
الستر والصلاح، لان الذي ثبت عنهم من الأمور القبيحة حدث من بعد، ولا يمتنع كونهم
في الأول مستورين في الحقيقة أو مستورين عنده، وإنما كان يجب تخطئته لو استعملهم،
وهم في الحال لا يصلحون لذلك.
فإن قيل، فلما علم بحالهم كان يجب أن يعزلهم!
قيل: كذلك فعل، لأنه إنما استعمل الوليد بن عقبة قبل ظهور شرب الخمر عنه

(1) هو سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية القرشي الأموي. ولاه عثمان الكوفة بعد الوليد
ابن عقبة، ثم شكاه أهل الكوفة، لتجبر وغلظة فيه، وكتبوا إلى عثمان: لا حاجة لنا في وليدك ولا
سعيدك، فعزله. الاستيعاب لا بن عبد البر 621.
(2) هو عبد الله بن سعد بن أبن سرح بن الحارث بن حبيب القرشي العامري، أخو عثمان من الرضاعة،
كان على الصعيد في زمن عمر، ثم ضم إليه عثمان مصر كلها، وافتتح إفريقية، لإصابة 3: 309.
(3) هو عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشي
العبشمي، ابن خال عثمان بن عفان. عزل عثمان أبا موسى الأشعري عن البصرة وعثمان بن أبن العاص عن
فارس، وجمع ذلك كله لعبد الله بن عامر. الإستيعاب لابن عبد البر 931.
12

فلما شهد عليه بذلك جلده الحد وصرفه. وقد روى مثله عن عمر، فإنه ولى قدامة بن
مظعون بعض أعماله، فشهدوا عليه بشرب الخمر، أشخصه وجلده الحد، فإذا عد ذلك في
فضائل عمر لم يجز أن يعد ما ذكروه في الوليد من معايب عثمان. ويقال: إنه لما أشخصه
أقام عليه الحد بمشهد أمير المؤمنين عليه السلام.
وقد اعتذر من عزله سعد بن أبي وقاص بالوليد، بأن سعدا شكاه أهل الكوفة،
فأداه اجتهاده إلى عزله بالوليد.
فأما سعيد بن العاص فإنه عزله عن الكوفة وولى مكانه أبا موسى، وكذلك عبد الله
ابن أبي سرح عزله وولى مكانه محمد بن أبي بكر، ولم يظهر له من مروان ما يوجب أن
يصرفه عما كان مستعملا فيه، ولو كان ذلك طعنا لوجب مثله في كل من ولى، وقد علمنا
أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولى الوليد بن عقبة، فحدث منه ما حدث. وحدث من
بعض أمراء أمير المؤمنين عليه السلام الخيانة، كالقعقاع بن شور، لأنه ولاه على ميسان (1)
فأخذ مالها ولحق بمعاوية، وكذلك فعل الأشعث بن قيس بمال أذربيجان. وولى أبا موسى
الحكم، فكان منه ما كان، ولا يجب أن يعاب أحد بفعل غيره، وإذا لم يلحقه عيب في
ابتداء ولايته فقد زال العيب فيما بعده.
وقولهم: إنه قسم أكثر الولايات في أقاربه، وزال عن طريقة الاحتياط للمسلمين، وقد
كان عمر حذره من ذلك، فليس بعيب، لان تولية الأقارب كتولية الأباعد، في أنه يحسن
إذا كانوا على صفات مخصوصة. ولو قيل إن تقديمهم أولى لم يمتنع، إذا كان المولى لهم أشد
تمكنا من عزلهم، والاستبدال بهم، وقد ولى أمير المؤمنين عليه السلام عبد الله بن العباس
البصرة، وعبيد الله بن العباس اليمن، وقثم بن العباس مكة، حتى قال مالك الأشتر عند ذلك:

(1) ميسان: كورة بين البصرة وواسط، فتحت في أيام عمر بن الخطاب.
13

على ماذا قتلنا الشيخ أمس! فيما يروى، ولم يكن ذلك بعيب إذا أدى ما وجب عليه
في اجتهاده.
فأما قولهم: إنه كتب إلى ابن أبي سرح حيث ولى محمد بن أبي بكر بأنه يقتله ويقتل
أصحابه، د فقد أنكر ذلك أشد إنكار، حتى حلف عليه، وبين أن الكتاب الذي ظهر
ليس كتابه ولا الغلام غلامه ولا الراحلة راحلته، وكان في جملة من خاطبه في ذلك أمير
المؤمنين عليه السلام، فقبل عذره. وذلك بين، لان قول كل أحد مقبول في مثل ذلك،
وقد علم أن الكتاب يجوز فيه التزوير، فهو بمنزله الخبر الذي يجوز فيه الكذب.
فإن قيل: فقد علم أن مروان هو الذي زور الكتاب، لأنه هو الذي كان يكتب
عنه، فهلا أقام فيه الحد!
قيل: ليس يجب بهذا القدر أن يقطع على أن مروان هو الذي فعل ذلك، لأنه وإن
غلب ذلك في الظن، فلا يجوز أن يحكم به، وقد كان القوم يسومونه تسليم مروان إليهم،
وذلك ظلم، لان الواجب على الامام أن يقيم الحد على من يستحقه أو التأديب، ولا يحل
له تسليمه إلى غيره، فقد كان الواجب أن يثبتوا عنده ما يوجب في مروان الحد والتأديب
ليفعله به، وكان إذا لم يفعل والحال هذه يستحق التعنيف. وقد ذكر الفقهاء في كتبهم أن
الامر بالقتل لا يوجب قودا ولا دية ولا حدا، فلو ثبت، في مروان ما ذكروه لم يستحق القتل وإن
استحق التعزير، لكنه عدل عن تعزيره، لأنه لم يثبت، وقد يجوز أن يكون عثمان ظن أن
هذا الفعل فعل بعض من يعادي مروان تقبيحا لامره، لان ذلك يجوز، كما يجوز أن يكون
من فعله، ولا يعلم كيف كان اجتهاده وظنه! وبعد فإن هذا الحدث من أجل ما نقموا عليه،
فإن كان شئ من ذلك يوجب خلع عثمان وقتله، فليس إلا هذا، وقد علمنا أن هذا
الامر لو ثبت ما كان يوجب القتل، لان الامر بالقتل لا يوجب القتل، سيما قبل وقوع
القتل المأمور به، فنقول (1) لهم: لو ثبت ذلك على عثمان أكان يجب قتله! فلا يمكنهم ادعاء

(1) الشافي (فيقال لهم).
14

ذلك، لأنه بخلاف الدين، ولا بد أن يقولوا: إن قتله ظلم، وكذلك حبسه في الدار،
ومنعه من الماء، فقد كان يجب أن يدفع القوم عن كل ذلك، وأن يقال: إن من لم
يدفعهم وينكر عليهم يكون مخطئا.
وفي القول بأن الصحابة اجتمعوا على ذلك كلهم تخطئة لجميع أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وآله، وذلك غير جائز، وقد علم أيضا أن المستحق للقتل والخلع لا يحل أن يمنع
الطعام والشراب، وعلم أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يمنع أهل الشام من الماء في صفين،
وقد تمكن من منعهم، وكل ذلك يدل على كون عثمان مظلوما، وأن ذلك من صنع
الجهال، وأن أعيان الصحابة كانوا كارهين لذلك. وأيضا فإن قتله لو وجب لم يجز أن
يتولاه العوام من الناس، ولا شبهة أن الذين أقدموا على قتله كانوا بهذه الصفة، وإذا
صح أن قتله لم يكن لهم، فمنعهم والنكير عليهم واجب.
وأيضا فقد علم أنه لم يكن من عثمان ما يستحق به القتل، من كفر بعد إيمان أو زنا
بعد إحصان، أو قتل نفس بغير حق، وأنه لو كان منه ما يوجب القتل لكان الواجب
أن يتولاه الامام، فقتله على كل حال منكر، وإنكار المنكر واجب.
وليس لأحد أن يقول: إنه أباح قتل نفسه، من حيث امتنع من دفع الظلم عنهم،
لأنه لم يمتنع من ذلك، بل أنصفهم، ونظر في حالهم، ولأنه لو لم يفعل ذلك لم يحل لهم
قتله، لأنه إنما يحل قتل الظالم إذا كان على وجه الدفع، والمروي أنهم أحرقوا بابه، وهجموا
عليه في منزله، وبعجوه بالسيف والمشاقص (1) وضربوا يد زوجته لما وقعت عليه، وانتهبوا
متاع داره، ومثل هذه القتلة لا تحل في الكافر والمرتد، فكيف يظن أن الصحابة لم
ينكروا ذلك، ولم يعدوه ظلما، حتى يقال إنه مستحق من حيث لم يدفع القوم عنه! وقد
تظاهر الخبر بما جرى من تجمع القوم عليه، وتوسط أمير المؤمنين عليه السلام لأمرهم وأنه

(1) المشاقص: جمع مشقص، وهو النصل العريض.
15

بذل لهم ما أرادوه، وأعتبهم (1) وأشهد على نفسه بذلك، وإن الكتاب الموجود بعد
ذلك المتضمن لقتل القوم، ووقف عليه - وممن أوقفه عليه أمير المؤمنين عليه السلام (2) -
فحلف أنه ما كتبه، ولا أمر به، فقال له: فمن تتهم؟ قال: ما أتهم أحدا، وإن
للناس لحيلا.
والرواية ظاهرة أيضا بقوله: إن كنت أخطأت أو تعمدت فإني تائب ومستغفر،
فكيف يجوز والحال هذه أن تهتك فيه حرمة الاسلام وحرمة البلد الحرام! ولا شبهة في
أن القتل على وجه الغيلة لا يحل فيمن يستحق القتل، فكيف فيمن لا يستحقه! ولولا أنه
كان يمنع من محاربة القوم ظنا منه أن ذلك يؤدى إلى القتل الذريع لكثر أنصاره.
وقد جاء في الرواية أن الأنصار بدأت معونته ونصرته، وأن أمير المؤمنين عليه السلام
قد بعث إليه ابنه الحسن عليه السلام، فقال له: قل لأبيك فلتأتني، فأراد أمير المؤمنين
عليه السلام المصير إليه، فمنعه من ذلك محمد ابنه، واستعان بالنساء عليه، حتى جاء
الصريخ (3) بقتل عثمان، فمد يده إلى القبلة، وقال: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان.
فإن قالوا: إنهم اعتقدوا أنه من المفسدين في الأرض، وأنه داخل تحت
آية المحاربين.
قيل: فقد كان يجب أن يتولى الامام هذا الفعل، لان ذلك يجرى مجرى الحد،
وكيف يدعى ذلك، والمشهور عنه أنه كان يمنع من مقاتلتهم، حتى روى أنه قال لعبيده
ومواليه، وقد هموا بالقتال: من أغمد سيفه فهو حر! ولقد كان مؤثرا لنكير ذلك الامر
بما لا يؤدى إلى إراقة الدماء والفتنة، ولذلك لم يستعن بأصحاب الرسول صلى الله عليه وآله
وإن كان لما اشتد الامر، أعانه من أعان، لان عند ذلك تجب النصرة والمعونة، فحيث

(1) أعتبهم: أرضاهم.
(2) عبارة الشافي: (وذكر أن أمير المؤمنين عليه السلام واقفه على الكتاب).
(3) الصريخ: المستغيث.
16

كانت الحال متماسكة، وكان ينهى عن إنجاده وإعانته بالحرب امتنعوا وتوقفوا، وحيث
اشتد الامر أعانه ونصره من أدركه، دون من لم يغلب ذلك في ظنه.
* * *
اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام، فقال (1): أما قوله: لم يكن عالما
بحال الفسقة الذين ولاهم قبل الولاية، فلا تعويل عليه، لأنه لم يول هؤلاء النفر إلا
وحالهم مشهورة في الخلاعة والمجانة والتجرم والتهتك، ولم يختلف اثنان في أن الوليد بن
عقبة لم يستأنف التظاهر بشرب الخمر والاستخفاف بالدين على استقبال ولايته للكوفة، بل
هذه كانت سنته والعادة المعروفة منه، وكيف يخفى على عثمان - وهو قريبه ولصيقه وأخوه
لامه - من حاله ما لا يخفى على الأجانب الأباعد! ولهذا قال له سعد بن أبي وقاص - في رواية
الواقدي، وقد دخل الكوفة -: يا أبا وهب (2)، أمير أم زائر؟ قال: بل أمير، فقال
سعد: ما أدرى أحمقت بعدك أم كست (3) بعدي! قال: ما حمقت بعدي ولا كست بعدك،
ولكن القوم
ملكوا فاستأثروا (4) فقال سعد: ما أراك إلا صادقا.
وفي رواية أبى مخنف لوط بن يحيى الأزدي أن الوليد لما دخل الكوفة مر على مجلس
عمرو بن زرارة النخعي، فوقف، فقال عمرو: يا معشر بنى أسد، بئسما استقبلنا به أخوكم
ابن عفان! أمن عدله أن ينزع عنا ابن أبي وقاص، الهين اللين السهل القريب،
ويبعث بدله أخاه الوليد، الأحمق الماجن الفاجر قديما وحديثا! واستعظم الناس مقدمه،
وعزل سعد به، وقالوا: أراد عثمان كرامة أخيه بهوان أمة محمد صلى الله عليه! وهذا تحقيق
ما ذكرناه من أن حاله كانت مشهورة قبل الولاية، لا ريب فيها عند أحد، فكيف

(1) الشافي ص 269
(2) أبو وهب كنية الوليد لن عقبة.
(3) من الكيس، وهو خلاف الحمق.
(4) الشافي: (ملكوا فاستأثروا).
17

يقال: إنه كان مستورا حتى ظهر منه ما ظهر! وفي الوليد نزل قوله تعالى: (أفمن كان
مؤمنا كمن كان فاسقا يستوون) (1)، فالمؤمن هاهنا أمير المؤمنين عليه السلام،
والفاسق الوليد، على ما ذكره أهل التأويل. وفيه نزل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا
إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم
نادمين) (2)، والسبب في ذلك أنه كذب على بنى المصطلق عند رسول الله صلى الله عليه
وآله، وادعى أنهم منعوه الصدقة. ولو قصصنا مخازيه المتقدمة ومساويه لطال بها الشرح.
وأما شربه الخمر بالكوفة وسكره، حتى دخل عليه [من دخل] (3) وأخذ خاتمه من إصبعه، وهو لا يعلم، فظاهر، وقد سارت به الركبان. وكذلك كلامه في
الصلاة، والتفاته إلى من يقتدى به فيها وهو سكران، وقوله لهم: أأزيدكم؟ فقالوا:
لا، قد قضينا صلواتنا، حتى قال الحطيئة في ذلك:
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه * أن الوليد أحق بالعذر (4)

(1) سورة السجدة 18.
(2) سورة الحجرات 6.
(3) تكملة من كتاب الشافي.
(4) كذا وردت الرواية في الأصول والشافي، وروى صاحب الأغاني 4: 176 (ساسي) بسنده
عن مصعب الزبيري، قال: قال الوليد بن عقبة بعد ما جلد: اللهم أنهم شهدوا على بزور، فلا ترضهم
عن أمير، ولا ترض عنهم أميرا، فقال الحطيئة يكذب عنه:
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه * أن الوليد أحق بالغدر
خلعوا عنانك إذ جريت ولو * تركوا عنانك لم تزل تجرى
ورأوا شمائل ماجد أنف * يعطى على الميسور والعسر
فنزعت مكذوبا عليك ولم * تنزع إلى طمع ولا فقر
فقال رجل من بنى عجل يرد على الحطيئة:
نادى وقد تمت صلاتهم * أأزيدكم - ثملا - وما يدرى
ليزيدكم خيرا ولو قبلوا * لقرنت بين الشفع والوتر
فأبوا أبا وهب ولو فعلوا * وصلت صلاتهم إلى العشر
وانظر ديوان الحطيئة 85.
18

نادى وقد نفدت صلاتهم * أأزيدكم - ثملا - وما يدرى
ليزيدهم خيرا ولو قبلوا * منه لقادهم على عشر
فأبوا أبا وهب ولو فعلوا * لقرنت بين الشفع والوتر
حبسوا عنانك إذ جريت ولو * خلوا عنانك لم تزل تجرى
وقال فيه أيضا:
تكلم في الصلاة وزاد فيها * علانية وجاهر بالنفاق (1)
ومج الخمر في سنن المصلى * ونادى والجميع إلى افتراق
أزيدكم على أن تحمدوني * فما لكم وما لي من خلاق
وأما قوله: إنه جلده الحد وعزله، فبعد أي شئ كان ذلك، ولم يعزله إلا بعد
أن دافع ومانع، واحتج عنه وناضل! ولو لم يقهره أمير المؤمنين عليه السلام على رأيه
لما عزله، ولا أمكن من جلده. وقد روى الواقدي أن عثمان لما جاءه الشهود يشهدون
على الوليد بشرب الخمر أو عدهم وتهددهم.
قال الواقدي: ويقال إنه ضرب بعض الشهود أيضا أسواطا، فأتوا أمير المؤمنين
عليه السلام، فشكوا إليه، فأتى عثمان، فقال: عطلت الحدود، وضربت قوما شهدوا
على أخيك، فقلبت الحكم، وقد قال لك عمر: لا تحمل بنى أمية وآل أبي معيط على
رقاب الناس! قال: فما ترى؟ قال: أرى أن تعزله ولا توليه شيئا من أمور المسلمين،
وأن تسأل عن الشهود، فإن لم يكونوا أهل ظنة ولا عداوة، أقمت على صاحبك الحد.
وتكلم في مثل ذلك طلحة والزبير وعائشة، وقالوا أقوالا شديدة، وأخذته الألسن من
كل جانب، فحينئذ عزله، ومكن من إقامة الحد عليه.

(1) ديوانه 119
19

وقد روى (1) الواقدي أن الشهود لما شهدوا عليه في وجهه، وأراد عثمان أن يحده ألبسه
جبة خز، وأدخله بيتا، فجعل إذا بعث إليه رجلا من قريش ليضربه، قال له الوليد: أنشدك
الله أن تقطع رحمي وتغضب أمير المؤمنين! فلما رأى علي عليه السلام ذلك، أخذ السوط
ودخل عليه، فجلده به. فأي عذر لعثمان في عزله وجلده بعد هذه الممانعة الطويلة،
والمدافعة الشديدة!
وقصة الوليد - مع الساحر الذي كان يلعب بين يديه، ويغر الناس بمكره وخديعته،
وأن جندب بن عبد الله الأزدي امتعض من ذلك ودخل عليه فقتله، وقال له: احي نفسك
إن كنت صادقا، وأن الوليد أراد أن يقتل جندبا بالساحر، حتى أنكر الأزد ذلك عليه،
فحبسه وطال حبسه حتى هرب من السجن - معروفة مشهورة.
فإن قيل: فقد ولى رسول الله صلى الله عليه وآله الوليد بن عقبة هذا صدقة بنى
المصطلق، وولاه عمر صدقة تغلب، فكيف تدعون أن حاله في أنه لا يصلح
للولاية ظاهرة!
قلنا: لا جرم، إنه غر رسول الله صلى الله عليه وآله، وكذب على القوم حتى نزلت فيه
الآية التي قدمنا ذكرها، فعزله. وليس خطب ولاية الصدقة مثل خطب ولاية الكوفة،
فأما عمر فإنه لما بلغه قوله:
إذا ما شددت الرأس منى بمشوذ * فويلك منى تغب ابنة وائل (2)
عزله.
وأما عزل أمير المؤمنين عليه السلام بعض أمرائه لما ظهر من الحدث كالقعقاع
ابن شور وغيره، وكذلك عزل عمر قدامة بن مظعون لما شهد عليه بشرب الخمر،
وجلده له، فإنه لا يشبه ما تقدم، لان كل واحد ممن ذكرناه لم يول إلا من هو حسن
الظاهر عنده وعند الناس، غير معروف باللعب ولا مشهور بالفساد. ثم لما ظهر منه ما ظهر

(1) كذا في ا، ج، وفي ب والشافي: (وروى).
(2) اللسان 5: 31 وروايته: (والمشوذ: العمامة.
20

لم يحام عنه ولا كذب الشهود عليه وكابرهم، بل عزله مختارا غير مضطر، وكل هذا لم
يجر في أمراء عثمان، وقد بينا كيف كان عزل الوليد وإقامة الحد عليه.
فأما أبو موسى فإن أمير المؤمنين عليه السلام لم يوله الحكم مختارا، لكنه غلب
على رأيه وقهر على أمره، ولا رأى لمقهور.
فأما قوله: إن ولاية الأقارب كولاية الأباعد، (1) بل الأقارب أولى من،
حيث كان التمكن من عزلهم أشد. وذكر تولية أمير المؤمنين عليه السلام (2) أولاد
العباس رحمه الله تعالى وغيرهم - فليس بشئ، لان عثمان لم ينقم عليه تولية
الأقارب من حيث كانوا أقارب، بل من حيث كانوا أهل بيت الظنة والتهمة، ولهذا
حذره عمر وأشعر بأنه يحملهم على رقاب الناس. وأمير المؤمنين عليه السلام لم يول من
أقاربه متهما ولا ظنينا، وحين أحس من ابن العباس ببعض الريبة لم يمهله ولا احتمله،
وكاتبه بما هو شائع ظاهر، ولو لم يجب على عثمان أن يعدل عن ولاية أقاربه إلا من
حيث جعل عمر ذلك سبب عدوله عن النص عليه، وشرط عليه يوم الشورى ألا يحمل
أقاربه على رقاب الناس، ولا يؤثرهم لمكان القرابة بما لا يؤثر به غيرهم - لكان
صارفا قويا، فضلا عن أن ينضاف إلى ذلك ما انضاف من خصالهم الذميمة
وطرائقهم القبيحة.
فأما سعيد بن أبي العاص، فإنه قال في الكوفة: إنما السواد بستان لقريش، تأخذ
منه ما شاءت وتترك، حتى قالوا له: أتجعل ما أفاء الله علينا بستانا لك ولقومك! ونابذوه،
وأفضى الامر إلى تسييره من سير عن الكوفة، والقصة مشهورة، ثم انتهى الامر
إلى منع أهل الكوفة سعيدا من دخولها، وتكلموا فيه وفي عثمان كلاما ظاهرا، حتى

(1 - 1) كذا في الأصول. وفى الشافي: (بل الأباعد أولى أن يقدم الأقارب عليهم).
(2 - 2) الشافي: (عبد الله وعبيد الله وقثما بنى العباس وغيرهم).
21

كادوا يخلعون عثمان، فاضطر حينئذ إلى إجابتهم إلى ولاية أبى موسى، فلم يصرف سعيدا
مختارا، بل ما صرفه جملة، وإنما صرفه أهل الكوفة عنهم (1).
فأما قوله: إنه أنكر الكتاب المتضمن لقتل محمد بن أبي بكر وأصحابه، وحلف على
أن الكتاب ليس بكتابه، ولا الغلام غلامه، ولا الراحلة راحلته، وأن أمير المؤمنين عليه
السلام قبل عذره، فأول ما فيه أنه حكى القصة بخلاف ما جرت عليه، لان جميع من
يروى هذه القصة ذكر أنه اعترف بالخاتم والغلام والراحلة، وإنما أنكر أن يكون أمر
بالكتابة، لأنه روى أن القوم لما ظفروا بالكتاب قدموا المدينة، فجمعوا أمير المؤمنين عليه
السلام وطلحة والزبير وسعدا وجماعة الأصحاب، ثم فكوا الكتاب بمحضر منهم، وأخبروهم
بقصة الغلام، فدخلوا على عثمان والكتاب مع أمير المؤمنين، فقال له: أهذا الغلام غلامك؟
قال: نعم، قال: والبعير بعيرك؟ قال: نعم، قال: أفأنت كتبت هذا الكتاب؟ قال: لا، وحلف بالله أنه ما كتب الكتاب، ولا أمر به، فقال له: فالخاتم خاتمك؟ قال: نعم، قال: فكيف يخرج غلامك على بعيرك بكتاب عليه خاتمك، ولا تعلم به!
وفي رواية أخرى أنه لما واقفه عليه، قال عثمان: أما الخط فخط كاتبي، وأما الخاتم فعلى (2)
خاتمي، قال: فمن تتهم؟ قال: أتهمك وأتهم كاتبي، فخرج أمير المؤمنين عليه السلام
مغضبا، وهو يقول: بل بأمرك، ولزم داره، وبعد عن توسط أمره، حتى جرى
عليه ما جرى.
وأعجب الأمور قوله لأمير المؤمنين عليه السلام: (إني أتهمك) وتظاهره بذلك وتلقيه
إياه في وجهه بهذا القول، مع بعده من التهمة والظنة في كل شئ، وفي أمره خاصة، فإن
القوم في الدفعة الأولى أرادوا أن يعجلوا له ما أخبروه، حتى قام أمير المؤمنين عليه السلام
بأمره وتوسطه وأصلحه، وأشار عليه بأن يقاربهم ويعينهم، حتى انصرفوا عنه، وهذا

(1) ساقطة من ا، ج، وهي في ب و الشافي.
(2) ا: (فهو).
22

فعل النصيح المشفق الحدب المتحنن، ولو كان عليه السلام - وحوشي من ذلك - متهما
عليه لما كان للتهمة عليه مجال في أمر الكتاب خاصة، لان الكتاب بخط عدوه مروان (1)،
وفي يد غلام عثمان، ومحمول على بعيره، ومختوم بخاتمه، فأي ظن تعلق بأمير المؤمنين
عليه السلام في هذا المكان، لولا العداوة وقلة الشكر للنعمة!
ولقد قال له المصريون لما جحد أن يكون الكتاب كتابه شيئا لا زيادة عليه في باب
الحجة، لأنهم قالوا له: إذا كنت ما كتبت ولا أمرت به، فأنت ضعيف، من حيث
تم عليك أن يكتب كاتبك بما تختمه بخاتمك، وينفذه بيد غلامك وعلى بعيرك بغير
أمرك، ومن تم عليه ذلك لا يصلح أن يكون واليا على أمور المسلمين. فاختلع عن
الخلافة على كل حال.
قال: ولقد كان يجب على صاحب،، المغني،، أن يستحيى من قوله: إن أمير المؤمنين عليه السلام قبل عذره، وكيف يقبل عذر من يتهمه ويستغشه، وهو له
ناصح! وما قاله أمير المؤمنين عليه السلام بعد سماع هذا القول منه معروف.
وقوله: إن الكتاب يجوز فيه التزوير، ليس بشئ، لأنه لا يجوز التزوير في
الكتاب والغلام والبعير، وهذه الأمور إذا انضاف بعضها إلى بعض، بعد فيها التزوير،
وقد كان يجب على كل حال أن يبحث عن القصة وعمن زور الكتاب، وأنفذ الرسول،
ولا ينام عن ذلك، حتى يعرف من أين دهى، وكيف تمت الحيلة عليه، فيحترز
من مثلها، ولا يغضي عن ذلك إغضاء ساتر له، خائف من بحثه وكشفه.
فأما قوله: إنه وإن غلب على الظن أن مروان كتب الكتاب، فإن الحكم بالظن
لا يجوز، وتسليمه إلى القوم على ما سألوه إياه ظلم، لان الحد والأدب إذا وجب عليه،
فالامام يقيمه دونهم، فتعلل بما لا يجدي، لأنا لا نعمل إلا على قوله في أنه لم يعلم أن

(1) الشافي: (بخط عدو الله وعدو رسوله وعدو أمير المؤمنين.
23

مروان هو الذي كتب الكتاب، وإنما غلب على ظنه، أما كان يستحق مروان بهذا
الظن بعض التعنيف والزجر والتهديد! أو ما كان يجب مع وقوع التهمه عليه، وقوة
الامارات في أنه جالب الفتنة وسبب الفرقة أن يبعده عنه، ويطرده من داره ويسلبه
ما كان يخصه به من إكرامه! وما في هذه الأمور أظهر من أن ينبه له.
فأما قوله: إن الامر بالقتل لا يوجب قودا ولا دية سيما قبل وقوع القتل المأمور
به، فهب أن ذلك على ما قال، أما أوجب (1) الله تعالى على الامر بقتل المسلمين تأديبا
ولا تعزيرا ولا طردا ولا إبعادا!
وقوله: لم يثبت ذلك، قد مضى ما فيه، وبين أنه لم يستعمل فيه ما يجب استعماله
من البحث والكشف، وتهديد المتهم وطرده وإبعاده والتبرؤ من التهمة بما يتبرأ به
من مثلها.
فأما قوله: إن قتله ظلم وكذلك حبسه في الدار، و منعه من الماء، وأنه لو استحق
القتل أو الخلع لا يحل أن يمنع الطعام والشراب، وقوله: إن من لم
يدفع عن ذلك من
الصحابة يجب أن يكون مخطئا، وقوله: إن قتله لو وجب لم يجز أن يتولاه العوام
من الناس، فباطل، لان الذين قتلوه غير منكر أن يكونوا تعمدوا قتله، وإنما طالبوه
بأن يخلع نفسه لما ظهر لهم من إحداثه، ويعتزل عن (2) الامر اعتزالا يتمكنون معه من إقامة
غيره، فلج وصمم على الامتناع، وأقام على أمر واحد، فقصد القوم بحصره أن يلجئوه
إلى خلع نفسه، فاعتصم بداره، واجتمع إليه نفر من أوباش بنى أمية، يدفعون عنه،
ويرمون من دنا إلى الدار فانتهى الامر إلى القتال بتدريج، ثم إلى القتل، ولم يكن القتال
ولا القتل
مقصودين في الأصل، وإنما أفضى الامر إليهما على ترتيب، وجرى ذلك مجرى

(1) الشافي: (يوجب)
(2) ج والشافي: (يعتزل الامر).
24

ظالم غلب إنسانا على رحله أو متاعه، فالواجب على المغلوب أن يمانعه ويدافعه ليخلص
ماله من يده، ولا يقصد إلى إتلافه ولا قتله، فإن أفضى الامر إلى ذلك بلا قصد كان
معذورا، وإنما خاف القوم - في التأني به، والصبر عليه، إلى أن يخلع نفسه - من كتبه
التي طارت في الآفاق، يستنصر عليهم ويستقدم الجيوش إليهم، ولم يأمنوا أن يرد بعض
من يدفع عنه فيؤدى ذلك إلى الفتنة الكبرى والبلية العظمى.
وأما منع الماء والطعام فما فعل ذلك إلا تضييقا عليه، ليخرج ويحوج إلى الخلع
الواجب عليه. وقد يستعمل في الشريعة مثل ذلك فيمن لجأ إلى الحرم من ذوي
الجنايات، وتعذر إقامة الحد عليه لمكان الحرم. على أن أمير المؤمنين عليه السلام قد
أنكر منع الماء والطعام، وأنفذ من مكن من حمل ذلك، لأنه قد كان في الدار من الحرم
والنسوان والصبيان من لا يحل منعه من الطعام والشراب. ولو كان حكم المطالبة
بالخلع والتجمع عليه والتضافر فيه حكم منع الطعام والشراب في القبح والمنكر،
لا نكره أمير المؤمنين عليه السلام، ومنع منه كما منع من غيره، فقد روى عنه عليه
السلام أنه لما بلغه أن القوم قد منعوا الدار من الماء، قال: لا أرى ذلك، إن في الدار
صبيانا وعيالا، لا أرى أن يقتل هؤلاء عطشا بجرم عثمان. فصرح بالمعنى الذي ذكرناه،
ومعلوم أن أمير المؤمنين عليه السلام ما أنكر المطالبة بالخلع، بل كان مساعدا على
ذلك و مشاورا فيه.
فأما قوله: إن قتل الظالم إنما يحل على سبيل الدفع، فقد بينا أنه لا ينكر أن يكون
قتله وقع على ذلك (1) الوجه، لأنه في تمسكه بالولاية عليهم وهو لا يستحقها، في حكم
الظالم لهم، فمدافعته واجبة.

(1) ا: (هذا).
25

وأما قصة الكتاب الموجود، فلم يحكها على الوجه، وقد شرحنا نحن الرواية
الواردة بها.
وأما قوله: إنه قال: إن كنت أخطأت أو تعمدت، فإني تائب مستغفر، فقد
أجابه القوم عن هذا، وقالوا: هكذا قلت في المرة الأولى، وخطبت على المنبر بالتوبة
والاستغفار، ثم وجدنا كتابك بما يقتضى الاصرار على أقبح ما عتبنا منه (1)، فكيف
نثق بتوبتك و استغفارك!
فأما قوله: إن القتل على وجه الغيلة لا يحل فيمن يستحق القتل، فكيف فيمن
لا يستحقه! فقد بينا أنه لم يكن على سبيل الغيلة، وأنه لا يمتنع أن يكون إنما وقع على
سبيل المدافعة.
فأما ادعاؤه أنه منع من نصرته، وأقسم على عبيده بترك القتال، فقد كان ذلك
لعمري في ابتداء الامر ظنا منه أن الامر ينصلح، والقوم يرجعون عما هموا به، فلما
اشتد الامر، ووقع اليأس من الرجوع والنزوع، لم يمنع أحدا من نصرته والمحاربة عنه،
وكيف يمنع من ذلك، وقد بعث إلى أمير المؤمنين عليه السلام يستنصره ويستصرخه!
والذي يدل على أنه لم يمنع في الابتداء من محاربتهم إلا للوجه الذي ذكرناه دون
غيره، أنه لا خلاف بين أهل الرواية في أن كتبه تفرقت في الآفاق يستنصر ويستدعى
الجيوش، فكيف يرغب عن نصرة الحاضر من يستدعى نصرة الغائب!
فأما قوله: إن أمير المؤمنين عليه السلام أراد أن يأتيه، حتى منعه ابنه محمد، فقول
بعيد مما جاءت به الرواية جدا، لأنه لا إشكال في أن أمير المؤمنين عليه السلام لما
واجهه عثمان بأنه يتهمه ويستغشه، انصرف مغضبا عامدا، على أنه لا يأتيه أبدا، قائلا
فيه ما يستحقه من الأقوال.

(1) ب (فيه).
26

فأما قوله في جواب سؤال من قال إنهم اعتقدوا فيه أنه من المفسدين في الأرض، وأن
آية المحاربة تتناوله، وأنه قد كان يجب أن يتولى الامام ذلك الفعل بنفسه، لان ذلك يجرى
مجرى الحد، فطريف، لان الامام يتولى ما يجرى هذا المجرى إذا كان منصوبا ثابتا، ولم
يكن على مذهب القوم هناك إمام يجوز أن يتولى ما يجرى مجرى الحدود، ومتى
لم يكن إمام يقوم بالدفع عن الدين والذب عن الأمة، جاز أن تتولى الأمة ذلك
بنفوسها.
قال: وما رأيت أعجب من ادعاء مخالفينا أن أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله كانوا
كارهين لما جرى على عثمان، وأنهم كانوا يعتقدونه منكرا وظلما، وهذا يجرى عند من
تأمله مجر دفع الضرورات قبل النظر في الاخبار، وسماع ما ورد من شرح هذه القصة،
لأنه معلوم أن ما يكرهه جميع الصحابة أو أكثرهم في دار عزهم، وبحيث ينفذ أمرهم
ونهيهم لا يجوز أن يتم. ومعلوم أن نفرا من أهل مصر لا يجوز أن يقدموا المدينة فيغلبوا
جميع المسلمين على آرائهم، ويفعلوا بإمامهم ما يكرهونه بمرأى منهم ومسمع، وهذا معلوم
بطلانه بالبداهة والضرورات قبل تصفح الاخبار وتأملها. وقد روى الواقدي عن ابن أبي
الزناد، عن أبي جعفر القاري مولى بنى مخزوم، قال: كان المصريون الذين حصروا عثمان
ستمائة، عليهم عبد الرحمن بن عديس البلوى، وكنانة بن بشر الكندي، وعمرو بن
الحمق الخزاعي. والذين قدموا المدينة من الكوفة مائتين، عليهم مالك الأشتر النخعي.
والذين قدموا من البصرة مائة رجل، رئيسهم حكيم بن جبلة العبدي، وكان أصحاب النبي
صلى الله عليه وآله الذين خذلوه لا يرون أن الامر يبلغ به القتل، ولعمري لو قام بعضهم
فحثا التراب في وجوه أولئك لانصرفوا، وهذه الرواية تضمنت من عدد القوم الوافدين في
هذا الباب أكثر مما تضمنه غيرها.
وروى شعبة بن الحجاج عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، قال: قلت له:
27

كيف لم يمنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عثمان؟ فقال: إنما قتله أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وآله.
وروى عن أبي سعيد الخدري، أنه سئل عن مقتل عثمان: هل شهده أحد من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه؟ فقال: نعم، شهده ثمانمائة.
وكيف يقال: إن القوم كانوا كارهين، وهؤلاء المصريون كانوا يغدون إلى كل
واحد منهم، ويروحون ويشاورونه فيما يصنعونه! هذا عبد الرحمن بن عوف وهو عاقد
الامر لعثمان، وجالبه إليه، ومصيره في يده، يقول - على ما رواه الواقدي، وقد ذكر له
عثمان في مرضه الذي مات فيه -: عاجلوه قبل أن يتمادى في ملكه، فبلغ ذلك عثمان
فبعث إلى بئر كان عبد الرحمن يسقى منها نعمه، فمنع منها، ووصى عبد الرحمن ألا يصلى
عليه عثمان، فصلى عليه الزبير - أو سعد بن أبي وقاص - وقد كان حلف لما تتابعت
أحداث عثمان ألا يكلمه أبدا.
وروى الواقدي، قال: لما توفى أبو ذر بالربذة (1) تذاكر أمير المؤمنين عليه السلام
وعبد الرحمن فعل عثمان، فقال أمير المؤمنين عليه السلام له: هذا عملك! فقال عبد الرحمن:
فإذا شئت فخذ سيفك وآخذ سيفي، إنه خالف ما أعطاني.
فأما محمد بن مسلمة، فإنه أرسل إليه عثمان يقول له عند قدوم المصريين في الدفعة
الثانية: أردد عنى، فقال: لا والله لا أكذب الله في سنة مرتين، وإنما عنى بذلك أنه
كان أحد من كلم المصريين في الدفعة الأولى، وضمن لهم عن عثمان الرضا.
وفي رواية الواقدي أن محمد بن مسلمة، كان يموت وعثمان محصور، فيقال له: عثمان
مقتول، فيقول: هو قتل نفسه.

(1) الربذة: من قرى المدينة على ثلاثة أميال، قريبة من ذات عرق، على طريق الحجاز، بها قبر أبي ذر
الغفاري - واسمه جندب بن جنادة، وقد كان خرج إليها مغاضبا لعثمان بن عفان رضي الله عنه، فأقام
بها إلى أن مات سنة 32. ياقوت.
28

فأما كلام أمير المؤمنين عليه السلام، وطلحة والزبير وعائشة، وجميع الصحابة واحدا
واحدا، فلو تعاطينا ذكره لطال به الشرح، ومن أراد أن يقف على أقوالهم مفصلة،
وما صرحوا به من خلعه والإجلاب عليه، فعليه بكتاب الواقدي (1)، فقد ذكر هو
وغيره من ذلك ما لا زيادة عليه.
* * *
الطعن الثاني:
كونه رد الحكم بن أبي العاص (2) إلى المدينة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه
وآله طرده، وامتنع أبو بكر من رده، فصار بذلك مخالفا للسنة ولسيرة من تقدمه،
مدعيا على رسول الله صلى الله عليه وآله، عاملا بدعواه من غير بينة.
قال قاضى القضاة رحمه الله: وجوابنا عن ذلك أن المروي في الاخبار أنه لما عوتب في
ذلك ذكر أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، وإنما لم يقبل أبو بكر وعمر قوله
لأنه شاهد واحد، وكذلك روى عنهما، فكأنهما جعلا ذلك بمنزلة الحقوق التي تختص، فلم
يقبلا فيه خبر الواحد، وأجرياه مجرى الشهادة، فلما صار الامر إليه حكم بعلمه، لان
للحاكم أن يحكم بعلمه في هذا الباب وفي غيره عند شيخينا، ولا يفصلان بين حد وحق،
ولا بين أن يكون العلم قبل الولاية أو حال الولاية، ويقولان: إنه أقوى من البينة
والاقرار.
وقال شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى: إنه لا وجه يقطع به على كذب روايته في إذن

(1) هو أبو عبد الله محمد بن عمر الواقدي، نقل ابن النديم أنه خلف بعد وفاته ستمائة قمطر كتبا، كل
قمطر منها حمل رحلين، وكان له غلامان مملو كان يكتبان الليل والنهار، وقبل ذلك بيع له كتب بألفي
دينار. ثم أورد أسماء كتبه، منها كتاب التاريخ الكبير. توفى سنة 207. الفهرست 98، 99.
(2) هو الحكم بن أبي العاص بن عبد شمس الأموي، عم عثمان بن عفان، والنظر ترجمته
وأخباره في أسد الغابة 3: 34.
29

النبي صلى الله عليه وسلم في رده، ولا بد من تجويز كونه صادقا، وفي تجويز ذلك
كونه معذورا.
فإن قيل: الحاكم إنما يحكم بعلمه مع زوال التهمة، وقد كانت التهمة في رد الحكم
قوية لقرابته!
قيل: الواجب على غيره ألا يتهمه، إذا كان لفعله وجه يصح عليه، لأنه قد نصب
منصبا يقتضى زوال التهمة عنه، وحمل أفعاله على الصحة، ومتى طرقنا عليه التهمة أدى إلى
بطلان كثير من الاحكام. وقد قال الشيخ أبو الحسين الخياط رحمه الله تعالى: إنه
لو لم يكن في رده إذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم لجاز أن يكون طريقه الاجتهاد،
لأن النفي إذا كان صلاحا في الحال لا يمتنع (1) أن يتغير حكمه باختلاف الأوقات وتغير
حال المنفى، وإذا كان لأبي بكر أن يسترد عمر من جيش أسامة للحاجة إليه - وإن كان
قد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفوذه - من حيث تغيرت الحال، فغير ممتنع مثله
في الحكم.
اعترض المرتضى رحمه الله تعالى على هذا، فقال: أما دعواه أن عثمان ادعى أن رسول
الله صلى الله عليه وآله أذن في رد الحكم فشئ لم يسمع إلا من قاضى القضاة، ولا
يدرى من أين نقله، ولا في أي كتاب وجده! والذي رواه الناس كلهم خلاف ذلك،
روى الواقدي من طرق مختلفة وغيره أن الحكم بن أبي العاص لما قدم المدينة بعد الفتح،
أخرجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وقال: لا تساكني في بلد أبدا، فجاءه عثمان
فكلمه فأبى، ثم كان من أبى بكر مثل ذلك، ثم كان من عمر مثل ذلك، فلما قام عثمان
أدخله ووصله وأكرمه، فمشى في ذلك على والزبير وطلحة وسعد وعبد الرحمن بن عوف

(1) ب: (فلا يمتنع).
30

وعمار بن ياسر، حتى دخلوا على عثمان فقالوا له: إنك قد أدخلت هؤلاء القوم - يعنون
الحكم ومن معه - وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أخرجهم، وإنا نذكرك الله والاسلام
ومعادك، فإن لك معادا ومنقلبا، وقد أبت ذلك الولاة قبلك، ولم يطمع أحد أن يكلمها
فيهم، وهذا شئ نخاف الله فيه عليك. فقال عثمان: إن قرابتهم منى ما تعلمون، وقد
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كلمته أطعمني في أن يأذن لهم، وإنما أخرجهم
لكلمة بلغته عن الحكم، ولم يضركم مكانهم شيئا، وفي الناس من هو شر منهم. فقال
علي عليه السلام: لا أجد شرا منه ولا منهم، ثم قال: هل تعلم عمر يقول: والله ليحملن
بنى أبى معيط على رقاب الناس! والله إن فعل ليقتلنه، فقال عثمان: ما كان منكم أحد
ليكون بينه وبينه من القرابة ما بيني وبينه، وينال من المقدرة ما نلت إلا قد كان سيدخله،
وفي الناس من هو شر منه. قال: فغضب علي عليه السلام، وقال: والله لتأتينا بشر من
هذا إن سلمت، وستري يا عثمان غب ما تفعل! ثم خرجوا من عنده.
وهذا كما ترى خلاف ما ادعاه صاحب،، المغني،، لان الرجل لما احتفل ادعى
أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان أطمعه في رده، ثم صرح بأن رعايته فيه
القرابة هي الموجبة لرده ومخالفة الرسول عليه السلام. وقد روى من طرق مختلفة أن
عثمان لما كلم أبا بكر وعمر في رد الحكم أغلظا له وزبراه، وقال له عمر: يخرجه رسول
الله صلى الله عليه وسلم وتأمرني أن أدخله! والله لو أدخلته لم آمن أن يقول قائل: غير
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لان أشق باثنتين كما تشق الأبلمة (1) أحب إلى
من أن أخالف لرسول الله أمرا، وإياك يا ابن عفان أن تعاودني فيه بعد اليوم، وما رأينا

(1) الأبلم: خوص المقل، والمثل: (المال بيني وبينك شق الأبلمة) مثل يضرب في المساواة
والمشاركة في الامر.
31

عثمان قال في جواب هذا التعنيف والتوبيخ من أبى بكر وعمر: إن عندي عهدا من رسول الله
صلى الله عليه وسلم فيه، لا أستحق معه عتابا ولا تهجينا، وكيف تطيب نفس مسلم موقر لرسول
الله صلى الله عليه وسلم معظم له، أن يأتي إلى عدو رسول الله صلى الله عليه وسلم، مصرح
بعداوته والوقيعة فيه، حتى بلغ به الامر إلى أن كان يحكى مشيته، طرده رسول الله،
وأبعده ولعنه، حتى صار مشهورا بأنه طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكرمه ويرده
إلى حيث أخرج منه، ويصله بالمال العظيم: إما من مال المسلمين أو من ماله! إن هذا
لعظيم كبير قبل التصفح والتأمل و التعلل بالتأويل الباطل!
فأما قول صاحب،، المغني،، إن أبا بكر وعمر لم يقبلا قوله لأنه شاهد واحد، وجعلا
ذلك بمنزلة الحقوق التي تخص، فأول ما فيه أنه لم يشهد عندهما بشئ واحد في باب الحكم
على ما رواه جميع الناس، ثم ليس هذا من باب الذي يحتاج فيه إلى الشاهدين، بل هو
بمنزلة كل ما يقبل فيه أخبار الآحاد. وكيف يجوز أن يجرى أبو بكر وعمر مجرى الحقوق
ما ليس منها! وقوله: لا بد من تجويز كونه صادقا في روايته، لان القطع على كذب
روايته لا سبيل إليه ليس بشئ، لأنا قد بينا أنه لم يرو عن الرسول صلى الله عليه وسلم إذنا،
إنما ادعى أنه أطمعه في ذلك. وإذا جوزنا كونه صادقا في هذه الرواية، بل قطعنا على
صدقه لم يكن معذورا.
فأما قوله: الواجب على غيره ألا يتهمه إذا كان لفعله وجه يصح عليه، لانتصابه
منصبا يزيل التهمة، فأول ما فيه أن الحاكم لا يجوز أن يحكم بعلمه مع التهمة، والتهمة قد
تكون لها أمارات وعلامات، فما وقع منها عن أمارات وأسباب تتهم في العادة كان
مؤثرا، وما لم يكن كذلك فلا تأثير له، والحكم هو عم عثمان، وقريبه ونسيبه، ومن
32

قد تكلم في رده مرة بعد أخرى، ولوال بعد وال، وهذه كلها أسباب التهمة، فقد كان
يجب أن يتجنب الحكم بعلمه في هذا الباب خاصة، لتطرق التهمة إليه.
فأما ما حكاه عن أبي الحسين الخياط من أن الرسول صلى الله عليه وآله لو لم يأذن
في رده لجاز أن يرده إذا أداه اجتهاده إلى ذلك، لان الأحوال قد تتغير - فظاهر
البطلان، لان الرسول عليه السلام إذا حظر شيئا أو أباحه لم يكن لأحد أن يجتهد في
إباحة المحظور أو حظر المباح، ومن يجوز الاجتهاد في الشريعة يقدم على مثل هذا، لأنه
إنما يجوز عندهم فيما لا نص فيه. ولو سوغنا الاجتهاد في مخالفة ما تناوله النص لم يؤمن أن
يؤدى اجتهاد مجتهد إلى تحليل الخمر وإسقاط الصلاة، بأن تتغير الحال، وهذا هدم
للشريعة. فأما الاستشهاد باسترداد عمر من جيش أسامة فالكلام في الامرين واحد (1).
* * *
الطعن الثالث:
أنه كان يؤثر أهل بيته بالأموال العظيمة التي هي عدة المسلمين، نحو ما روى أنه دفع
إلى أربعة أنفس من قريش زوجهم بناته أربعمائة ألف دينار، وأعطى مروان مائة ألف
عند فتح إفريقية، ويروى خمس إفريقية، وغير ذلك، وهذا بخلاف سيرة من تقدمه في
القسمة على الناس بقدر الاستحقاق، وإيثار الأباعد على الأقارب.
قال قاضى القضاة: وجوابنا عن ذلك أن من الظاهر المشهور أن عثمان كان عظيم
اليسار، كثير المال، فلا يمتنع أن يكون إنما أعطى أهل بيته من ماله، وإذا احتمل ذلك
وجب حمله على الصحة.
وقد قال شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى: إن الذي روى من دفعه إلى ثلاثة نفر من
قريش زوجهم بناته، إلى كل واحد منهم مائة ألف دينار، إنما هو من ماله، ولا رواية

(1) بعدها في الشافي 176: (وقد مضى ما فيه).
33

تصح أنه أعطاهم ذلك من بيت المال، ولو صح ذلك لكان لا يمتنع أن يكون أعطاهم
من بيت المال ليرد عوضه من ماله، لان للامام عند الحاجة أن يفعل ذلك، كما له أن
يقرض غيره.
وقال شيخنا أبو علي أيضا: إن ما روى من دفعه خمس إفريقية لما فتحت إلى
مروان، ليس بمحفوظ ولا منقول على وجه يجب قبوله، وإنما يرويه من يقصد التشنيع.
وقد قال الشيخ أبو الحسين الخياط: إن ابن أبي سرح لما غزا البحر، ومعه مروان في
الجيش، ففتح الله عليهم، وغنموا غنيمة عظيمة، اشترى مروان من ابن أبي سرح
الخمس بمائة ألف، وأعطاه أكثرها، ثم قدم على عثمان بشيرا بالفتح، وقد كانت قلوب
المسلمين تعلقت بأمر ذلك الجيش، فرأى عثمان أن يهب له ما بقي عليه من المال، وللامام
فعل مثل ذلك، ترغيبا في مثل هذه الأمور.
قال: وهذا الصنع كان منه في السنة الأولى من إمامته، ولم يبرأ أحد منه فيها، فلا
وجه للتعلق بذلك.
وذكر أبو الحسين الخياط أيضا فيما أعطاه أقاربه أنه وصلهم لحاجتهم، فلا يمتنع مثله
في الامام إذا رآه صلاحا. وذكر في إقطاعه القطائع لبني أمية، أن الأئمة قد تحصل في
أيديهم الضياع لا مالك لها، ويعلمون أنها لا بد فيها ممن يقوم بإصلاحها وعمارتها،
ويؤدى عنها ما يجب من الحق، فله أن يصرف من ذلك إلى من يقوم به، وله أيضا أن
يهد بعضها على بعض بحسب ما يعلم من الصلاح والتألف، وطريق ذلك الاجتهاد.
* * *
اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام، فقال: أما قوله: يجوز أن يكون إنما
أعطاهم من ماله، فالرواية بخلاف ذلك، وقد صرح الرجل بأنه كان يعطى من بيت المال
34

صلة لرحمه، ولما عوتب على ذلك لم يعتذر عنه بهذا الضرب من العذر، ولا قال: إن هذه
العطايا من مالي، فلا اعتراض لأحد فيها. روى الواقدي بإسناده عن المسور بن عتبة،
قال: سمعت عثمان يقول: إن أبا بكر وعمر كانا يتأولان في هذا المال ظلف (1) أنفسهما
وذوي أرحامهما، وإني تأولت فيه صلة رحمي.
وروى عنه أيضا أنه كان بحضرته زياد بن عبيد، مولى الحارث بن كلدة الثقفي،
وقد بعث إليه أبو موسى بمال عظيم من البصرة، فجعل عثمان يقسمه بين ولده وأهله
بالصحاف، فبكى زياد، فقال: لا تبك، فإن عمر كان يمنع أهله وذوي قرابته ابتغاء وجه
الله، وأنا أعطى أهلي وولدي وقرابتي ابتغاء وجه الله.
وقد روى هذا المعنى عنه من عدة طرق بألفاظ مختلفة.
وروى الواقدي أيضا بإسناده، قال: قدمت إبل من إبل الصدقة على عثمان، فوهبها
للحارث بن الحكم بن أبي العاص.
وروى أيضا أنه ولى الحكم بن أبي العاص صدقات قضاعة، فبلغت ثلاثمائة ألف
فوهبها له حين أتاه بها.
وروى أبو مخنف والواقدي أن الناس أنكروا على عثمان إعطاء سعيد بن العاص مائة
ألف، وكلمه على والزبير وطلحة وسعد وعبد الرحمن في ذلك، فقال: إن له قرابة ورحما،
قالوا: فما كان لأبي بكر وعمر قرابة وذوو رحم؟ فقال: إن أبا بكر وعمر كان يحتسبان في
منع قرابتهما، وأنا أحتسب في إعطاء قرابتي، قالوا: فهديهما - والله - أحب إلينا
من هديك.
وروى أبو مخنف أن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية، قدم على
عثمان من مكة، ومعه ناس، فأمر لعبد الله بثلاثمائة ألف، ولكل واحد من القوم بمائة ألف

(1) ظلف نفسه عن الشئ: منعها، وفي الأصول: (طلاق)، والصواب ما أثبته من كتاب الشافي.
35

وصك (1) بذلك على عبد الله بن الأرقم - وكان خازن بيت المال - فاستكثره ورد
الصك به. ويقال: إنه سأل عثمان أن يكتب عليه بذلك كتابا، فأبى وامتنع ابن الأرقم أن
يدفع المال إلى القوم، فقال له عثمان: إنما أنت خازن لنا، فما حملك على ما فعلت؟ فقال ابن
الأرقم: كنت أراني خازن المسلمين، وإنما خازنك غلامك، والله لا إلى لك بيت
المال أبدا، وجاء بالمفاتيح فعلقها على المنبر، ويقال: بل ألقاها إلى عثمان، فرفعها إلى
نائل مولاه.
وروى الواقدي ان عثمان أمر زيد بن ثابت أن يحمل من بيت مال المسلمين إلى
عبد الله بن الأرقم في عقيب هذا الفعل ثلاثمائة ألف درهم، فلما دخل بها عليه، قال له:
يا أبا محمد، إن أمير المؤمنين أرسل إليك يقول: إنا قد شغلناك عن التجارة، ولك ذوو رحم
أهل حاجة، ففرق هذا المال فيهم، واستعن به على عيالك، فقال عبد الله بن الأرقم: ما لي إليه
حاجة، وما عملت لان يثيبني عثمان، والله إن كان هذا من بيت مال المسلمين ما بلغ قدر
عملي أن أعطى ثلاثمائة ألف، ولئن كان من مال عثمان ما أحب أن أرزأه (2) من ماله
شيئا. وما في هذه الأمور أوضح من أن يشار إليه وينبه عليه.
فأما قوله: ولو صح أنه أعطاهم من بيت المال لجاز أن يكون ذلك على طريق
القرض، فليس بشئ، لان الروايات أولا تخالف ما ذكره، وقد كان يجب لما نقم عليه
وجوه الصحابة إعطاء أقاربه من بيت المال، أن يقول لهم: هذا على سبيل القرض، وأنا
أرد عوضه، ولا يقول ما تقدم ذكره، من أنني أصل به رحمي، على أنه ليس للامام أن
يقترض (3) من بيت مال المسلمين إلا ما ينصرف في مصلحة لهم مهمة، يعود عليهم نفعها،
أو في سد خلة وفاقة لا يتمكنون من القيام بالامر معها، فأما أن يقرض المال ليتسع به،

(1) صك: كتب، والصك: الكتاب.
(2) ما أحب أن أرزأه، أي ما أحب أن أصيب منه شيئا.
(3) أي يقترض هو ليعطى، وأن يدفع عوضه له من ماله، وانظر س 1 - 3 من ص 34 من هذا الجزء
36

ويمرح فيه مترفي بنى أمية وفساقهم فلا أحد يجيز ذلك.
فأما قوله حاكيا عن أبي على: إن دفعه خمس إفريقية إلى مروان ليس بمحفوظ
ولا منقول - فباطل، لان العلم بذلك يجرى مجرى العلم بسائر ما تقدم، ومن قرأ الاخبار
علم ذلك على وجه لا يعترض فيه شك، كما يعلم نظائره.
روى الواقدي عن أسامة بن زيد، عن نافع مولى الزبير، عن عبد الله بن الزبير،
قال: أغزانا عثمان سنة سبع وعشرين إفريقية، فأصاب عبد الله بن سعد بن أبي سرح
غنائم جليلة، فأعطى عثمان مروان بن الحكم تلك الغنائم. وهذا كما ترى يتضمن الزيادة
على إعطاء الخمس، ويتجاوزه إلى إعطاء الأصل.
وروى الواقدي، عن عبد الله بن جعفر، عن أم بكر بنت المسور، قالت: لما بنى
مروان داره بالمدينة، دعا الناس إلى طعامه، وكان المسور ممن دعاه، فقال مروان وهو
يحدثهم: والله ما أنفقت في داري هذه من مال المسلمين درهما فما فوقه، فقال المسور: لو
أكلت طعامك وسكت كان خيرا لك. لقد غزوت معنا إفريقية، وإنك لأقلنا مالا
ورقيقا وأعوانا، وأخفنا ثقلا، فأعطاك ابن عمك خمس إفريقية، وعملت على الصدقات،
فأخذت أموال المسلمين.
وروى الكلبي عن أبيه، عن أبي مخنف أن مروان ابتاع خمس إفريقية بمائتي ألف
درهم ومائتي ألف دينار، وكلم عثمان، فوهبها له، فأنكر الناس ذلك على عثمان. وهذا
بعينه هو الذي اعترف به أبو الحسين الخياط واعتذر عنه بأن قلوب المسلمين تعلقت بأمر
ذلك الجيش، فرأى عثمان أن يهب لمروان ثمن ما ابتاعه من الخمس لما جاءه بشيرا بالفتح
على سبيل الترغيب. وهذا الاعتذار ليس بشئ، لان الذي رويناه من الاخبار في هذا
الباب خال من البشارة، وإنما يقتضى أنه سأله ترك ذلك عليه، فتركه وابتدأ هو بصلته،
ولو أتى بشيرا بالفتح كما ادعوا لما جاز أن يترك عليه خمس الغنيمة العائد نفعه على المسلمين،
37

لان تلك البشارة لا تبلغ إلى أن يستحق البشير بها مائتي ألف درهم، ولا اجتهاد في مثل
هذا، ولا فرق بين من جوز أن يؤدى الاجتهاد إلى مثله ومن جوز أن يؤدى الاجتهاد
إلى دفع أصل الغنيمة إلى البشير بها، ومن ارتكب ذلك ألزم جواز أن يؤدى الاجتهاد
إلى إعطاء هذا البشير جميع أموال المسلمين في الشرق والغرب.
فأما قوله: إنه وصل بنى عمه لحاجتهم، ورأي في ذلك صلاحا، فقد بينا أن صلاته لهم
كانت أكثر مما تقتضيه الخلة والحاجة، وأنه كان يصل فيهم المياسير. ثم الصلاح الذي
زعم أنه رآه: لا يخلو إما أن يكون عائدا على المسلمين، أو على أقاربه، فإن كان على
المسلمين فمعلوم ضرورة أنه لا صلاح لأحد من المسلمين في إعطاء مروان مائتي ألف
دينار، والحكم بن أبي العاص ثلاثمائة ألف درهم، وابن أسيد ثلاثمائة ألف درهم، إلى غير
ما ذكرنا، بل على المسلمين في ذلك غاية الضرر. وإن أراد الصلاح الراجع إلى الأقارب
فليس له أن يصلح أمر أقاربه بفساد أمر المسلمين، وينفعهم بما يضر به المسلمين.
وأما قوله: إن القطائع التي أقطعها بنى أمية، إنما أقطعهم إياها لمصلحة تعود على
المسلمين، لان تلك الضياع كانت خرابا لا عامر لها، فسلمها إلى من يعمرها ويؤدى
الحق عنه، فأول ما فيه أنه لو كان الامر على ما ذكره، ولم تكن هذه القطائع على سبيل الصلة
والمعونة لأقاربه لما خفى ذلك على الحاضرين، ولكانوا لا يعدون ذلك من مثالبه،
ولا يواقفونه عليه في جملة ما واقفوه عليه من إحداثه. ثم كان يجب لو فعلوا ذلك أن يكون
جوابه، بخلاف ما روى من جوابه لأنه كان يجب أن يقول لهم: وأي منفعة في هذه
القطائع عائدة على قرابتي حتى تعدوا ذلك من جملة صلاتي لهم، وإيصالي المنافع إليهم!
وإنما جعلتهم فيها بمنزلة الأكرة الذين ينتفع بهم أكثر من انتفاعهم أنفسهم، وما كان
38

يجب أن يقول ما تقدمت روايته، من أنى محتسب في إعطاء قرابتي، وأن ذلك على سبيل
الصلة لرحمي، إلى غير ذلك مما هو خال من المعنى الذي ذكره.
* * *
الطعن الرابع:
أنه حمى الحمى عن المسلمين، مع أن رسول الله صلى الله عليه وآله جعلهم سواء في
الماء والكلأ.
قال قاضى القضاة: وجوابنا عن ذلك أنه لم يحم الكلأ لنفسه، ولا استأثر به،
لكنه حماه لإبل الصدقة التي منفعتها تعود على المسلمين. وقد روى عنه هذا الكلام
بعينه، وأنه قال: إنما فعلت ذلك لإبل الصدقة، وقد أطلقته الان، وأنا أستغفر الله،
وليس في الاعتذار ما يزيد عن ذلك.
* * *
اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام، فقال: اما أولا فالمروي بخلاف
ما ذكر، لان الواقدي روى بإسناده، قال: كان عثمان يحمى الربذة والشرف (1) والبقيع،
فكان لا يدخل الحمى بعير له ولا فرس، ولا لبني أمية حتى كان آخر الزمان، فكان
يحمى الشرف لإبله وكانت ألف بعير، ولإبل الحكم بن أبي العاص، ويحمى الربذة
لإبل الصدقة، ويحمى البقيع لخيل المسلمين وخيله وخيل بنى أمية.
قال: على أنه لو كان إنما حماه لإبل الصدقة لم يكن بذلك مصيبا، لان الله تعالى
ورسوله أباحا الكلأ، وجعلاه مشتركا، فليس لأحد أن يغير هذه الإباحة. ولو كان

(1) في معجم البلدان: قال الأصمعي: (الشرف: كبد نجد، وكانت من منازل بنى آكل المرار من
كندة الملوك وفيها اليوم حمى ضرية، وفيه الربذة، وهي الحمى الأيمن).
39

في هذا الفعل مصيبا، وأنه إنما حماه لمصلحة تعود على المسلمين لما جاز أن يستغفر الله منه
ويعتذر، لان الاعتذار إنما يكون من الخطأ دون الصواب.
* * *
الطعن الخامس:
أنه أعطى من بيت مال الصدقة المقاتلة وغيرها، وذلك مما لا يحل في الدين.
قال قاضى القضاة: وجوابنا عن ذلك أنه إنما جاز له ذلك لعلمه بحاجة المقاتلة،
واستغناء أهل الصدقة، ففعل ذلك على سبيل الإقراض، وقد فعل رسول الله صلى الله
عليه وآله، مثله، وللامام في مثل هذه الأمور أن يفعل ما جرى هذا المجرى، لان عند
الحاجة ربما يجوز له أن يقترض (1) من الناس، فأن يجوز له أن يتناول من مال في يده،
ليرد عوضه من المال الاخر أولى.
* * *
اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام، فقال: إن المال الذي جعل الله
تعالى له جهة مخصوصة، لا يجوز أن يعدل به عن جهته بالاجتهاد، ولو كانت المصلحة في
ذلك موقوفة على الحاجة لشرطها الله تعالى في هذا الحكم، لأنه سبحانه أعلم بالمصالح
واختلافها منا، ولكان لا يجعل لأهل الصدقة منها القسط مطلقا.
وأما قوله: إن الرسول صلى الله عليه وسلم فعل مثله، فهي دعوى مجردة من
برهان، وقد كان يجب أن يروى ما ذكر في ذلك. وأما ما ذكره من الاقتراض، فأين
كان عثمان عن هذا العذر لما ووقف عليه! * * *
الطعن السادس:
أنه ضرب عبد الله بن مسعود حتى كسر بعض أضلاعه.

(1) كذا في ج، وهو الصواب، وفى ب: (يقرض)، تحريف.
40

قال قاضى القضاة: قال شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى: لم يثبت عندنا ولا صح
عندنا ما يقال من طعن عبد الله عليه، وإكفاره له، والذي يصح من ذلك أن عبد الله
كره منه جمعه الناس على قراءة زيد بن ثابت وإحراقه المصاحف، وثقل ذلك عليه كما يثقل
على الواحد منا تقديم غيره عليه.
وقد قيل: إن بعض موالي عثمان ضربه لما سمع منه الوقيعة في عثمان، ولو صح أنه
أمر بضربه لم يكن بأن يكون طعنا في عثمان بأولى من أن يكون طعنا في ابن مسعود،
لان للامام تأديب غيره، وليس لغيره الوقيعة فيه إلا بعد البيان. وقد ذكر الشيخ
أبو الحسين الخياط أن ابن مسعود إنما عابه لعزله إياه، وقد روى أن عثمان اعتذر إليه
فلم يقبل عذره، ولما أحضر إليه عطاءه في مرضه، قال ابن مسعود: منعتني إياه إذ كان
ينفعني، وجئتني به عند الموت! لا أقبله. وأنه وسط أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه
وسلم ليزيل ما في نفسه فلم يجب، وهذا يوجب ذم ابن مسعود إذ لم يقبل الندم، ويوجب
براءة عثمان من هذا العيب، لو صح ما صح ما رووه من ضربه.
اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام، فقال: المعلوم المروي خلاف ما ذكره
أبو علي، ولا يختلف أهل النقل في طعن ابن مسعود على عثمان، وقوله فيه أشد الأقوال
وأعظمها، والعلم بذلك كالعلم بكل ما يدعى فيه الضرورة، وقد روى كل من روى
السيرة من أصحاب الحديث على اختلاف طرقهم أن ابن مسعود كان يقول: ليتني وعثمان
برمل عالج (1) يحثو على وأحثو عليه حتى يموت الأعجز منى ومنه!
ورووا أنه كان يطعن عليه، فيقال له: ألا خرجت عليه، ليخرج معك! فيقول:
لان أزاول جبلا راسيا أحب إلى من أن أزاول ملكا مؤجلا.

(1) عالج: رمال بين فيد والقريات، ينزلها بعض طي، متصلة بالثعلبية. مراصد الاطلاع 2: 911.
41

وكان يقوم كل يوم جمعة بالكوفة جاهرا معلنا: (إن أصدق القول كتاب الله،
وأحسن الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدث بدعة، وكل بدعة
ضلالة، وكل ضلالة في النار). وإنما كان يقول ذلك معرضا بعثمان، حتى غضب الوليد
بن عقبة من استمرار تعريضه، ونهاه عن خطبته هذه، فأبى أن ينتهى، فكتب إلى عثمان
فيه، فكتب عثمان يستقدمه عليه.
وروى أنه لما خرج عبد الله بن مسعود إلى المدينة مزعجا عن الكوفة خرج الناس
معه يشيعونه، وقالوا له: يا أبا عبد الرحمن، ارجع، فوالله لا نوصله إليك أبدا، فإنا
لا نأمنه عليك، فقال: أمر سيكون، ولا أحب أن أكون أول من فتحه.
وقد روى عنه أيضا من طرق لا تحصى كثرة أنه كان يقول: ما يزن عثمان عند الله
جناح ذباب، وتعاطى ما روى عنه في هذا الباب يطول، وهو أظهر من أن يحتاج
إلى الاستشهاد عليه، وإنه بلغ من إصرار عبد الله على مظاهرته بالعداوة أن قال لما حضره
الموت: من يتقبل منى وصية أوصيه بها على ما فيها! فسكت القوم، وعرفوا الذي
يريد، فأعادها، فقال عمار بن ياسر رحمه الله تعالى: أنا أقبلها، فقال ابن مسعود: ألا يصلى
على عثمان، قال: ذلك لك، فيقال: إنه لما دفن جاء عثمان منكرا لذلك، فقال له قائل:
إن عمارا ولى الامر، فقال لعمار: ما حملك على أن تؤذني؟ فقال: عهد إلى ألا أؤذنك،
فوقف على قبره وأثنى عليه، ثم انصرف وهو يقول: رفعتم والله أيديكم عن خير من بقي،
فتمثل الزبير بقول الشاعر:
لا ألفينك بعد الموت تندبني * وفي حياتي ما زودتني زادي (1)
ولما مرض ابن مسعود مرضه الذي مات فيه، أتاه عثمان عائدا، فقال: ما تشتكي؟
فقال: ذنوبي، قال: فما تشتهى؟ قال: رحمه بي، قال: ألا أدعو لك طبيبا؟ قال:

(1) البيت لعبيد بن الأبرص، ديوانه 48.
42

الطبيب أمرضني، قال: أفلا آمر لك بعطائك؟ قال: منعتنيه وأنا محتاج إليه، وتعطينيه
وأنا مستغن عنه! قال: يكون لولدك، قال: رزقهم على الله تعالى، قال: استغفر لي
يا أبا عبد الرحمن، قال: أسأل الله أن يأخذ لي منك حقي.
قال: وصاحب،، المغني،، قد حكى بعض هذا الخبر في آخر الفصل الذي حكاه من
كلامه، وقال: هذا يوجب ذم ابن مسعود من حيث لم يقبل العذر، وهذا منه طريف،
لان مذهبه لا يقتضى قبول كل عذر ظاهر، وإنما يجب قبول العذر الصادق، الذي
يغلب في الظن أن الباطن فيه كالظاهر، فمن أين لصاحب،، المغني،، أن اعتذار عثمان
إلى ابن مسعود كان مستوفيا للشرائط التي يجب معها القبول! وإذا جاز ما ذكرناه لم يكن
على ابن مسعود لوم في الامتناع من قبول عذره.
فأما قوله: إن عثمان لم يضربه، وإنما ضربه بعض مواليه لما سمع وقيعته فيه، فالامر بخلاف
ذلك، وكل من قرأ الاخبار علم أن عثمان أمر بإخراجه عن المسجد على أعنف الوجوه،
وبأمره جرى ما جرى عليه، ولو لم يكن بأمره ورضاه لوجب أن ينكر على مولاه كسر ضلعه،
ويعتذر إلى من عاتبه على فعله بابن مسعود بأن يقول: إني لم آمر بذلك، ولا رضيته من
فاعله، وقد أنكرت عليه فعله.
وفي علمنا بأن ذلك لم يكن دليل على ما قلنا، وقد روى الواقدي بإسناده وغيره أن
ابن مسعود لما استقدم المدينة، دخلها ليلة جمعة، فلما علم عثمان بدخوله، قال: أيها الناس، إنه
قد طرقكم الليلة دويبة، من تمشى على طعامه يقئ ويسلح. فقال ابن مسعود: لست كذلك،
ولكنني صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وصاحبه يوم أحد، وصاحبه يوم
بيعة الرضوان، وصاحبه يوم الخندق، وصاحبه يوم حنين. قال: وصاحت عائشة: يا عثمان!
أتقول هذا لصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال عثمان: اسكتي، ثم قال لعبد الله
بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن عبد العزى بن قصي: أخرجه إخراجا عنيفا، فأخذه
43

ابن زمعة، فاحتمله حتى جاء به باب مسجد، فضرب به الأرض، فكسر ضلعا من
أضلاعه، فقال ابن مسعود: قتلني ابن زمعة الكافر بأمر عثمان وفي رواية أخرى إن ابن
زمعة الذي فعل به ما فعل كان مولى لعثمان أسود مسدما (1) طوالا. وفي رواية أخرى: إن فاعل
ذلك يحموم مولى عثمان. وفي رواية، إنه لما احتمله ليخرجه من المسجد ناداه عبد الله: أنشدك الله،
ألا تخرجني من مسجد خليلي صلى الله عليه وسلم.
قال الراوي: فكأني أنظر إلى حموشة (2) ساقى عبد الله بن مسعود ورجلاه تختلفان
على عنق مولى عثمان حتى أخرج من المسجد، وهو الذي يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(لساقا ابن أم عبد أثقل في الميزان يوم القيامة من جبل أحد).
وقد روى محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي أن عثمان ضرب ابن مسعود
أربعين سوطا في دفنه أبا ذر. وهذه قصة أخرى، وذلك أن أبا ذر رحمه الله تعالى لما حضرته
الوفاة بالربذة، وليس معه إلا امرأته وغلامه عهد إليهما أن غسلاني ثم كفناني، ثم ضعاني
على قارعة الطريق، فأول ركب يمرون بكم قولوا لهم: هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى
الله عليه، فأعينونا على دفنه، فلما مات فعلوا ذلك، وأقبل ابن مسعود في ركب من
العراق معتمرين، فلم يرعهم إلا الجنازة على قارعة الطريق، قد كادت الإبل تطؤها،
فقام إليهم العبد، فقال: هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعينونا على
دفنه، فانهل ابن مسعود باكيا، وقال: صدق رسول الله صلى الله عليه، قال له:
(تمشى وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك)، ثم نزل هو وأصحابه، فواروه.
قال: فأما قوله إن ذلك ليس بأن يكون طعنا في عثمان بأولى من أن يكون طعنا في
ابن مسعود، فواضح البطلان، وإنما كان طعنا في عثمان دون ابن مسعود، لأنه لا خلاف

(1) المسدم: الأهوج.
(2) الحموشة: دقة الساقين.
44

بين الأمة في طهارة ابن مسعود وفضله وإيمانه، ومدح رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وثنائه عليه، وأنه مات على الجملة المحمودة منه، وفي جميع هذا خلاف بين المسلمين
في عثمان.
فأما قوله: إن ابن مسعود كره جمع عثمان الناس على قراءة زيد، وإحراقه
المصاحف، فلا شك أن عبد الله كره ذلك، كما كرهه جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وتكلموا فيه، وقد ذكر الرواة كلام كل واحد منهم في ذلك مفصلا، وما
كره عبد الله من ذلك إلا مكروها، وهو الذي يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقه: (من
سره أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد). وروى عن ابن عباس
رحمه الله تعالى أنه قال: (قراءة ابن أم عبد هي القراءة الأخيرة)، إن رسول الله صلى الله
عليه كان يعرض عليه القرآن في كل سنة من شهر رمضان، فلما كان العام
الذي توفى فيه عرض عليه دفعتين، فشهد عبد الله ما نسخ منه، وما صح فهي
القراءة الأخيرة.
وروى عن الأعمش، قال: قال ابن مسعود: لقد أخذت القرآن من في رسول الله
صلى الله عليه، سبعين سورة، وإن زيد بن ثابت لغلام في الكتاب، له ذؤابة.
فأما حكايته عن أبي الحسين الخياط أن ابن مسعود إنما عاب عثمان لعزله إياه،
فعبد الله عند كل من عرفه بخلاف هذه الصورة، وأنه لم يكن ممن يخرج على عثمان ويطعن
في إمامته بأمر يعود إلى منفعة الدنيا، وإن كان عزله بما لا شبهة فيه في دين ولا أمانة عيبا
لا شك فيه.
* * *
45

الطعن السابع:
أنه جمع الناس على قراءة زيد بن ثابت خاصة، وأحرق المصاحف، وأبطل ما لا شك
أنه نزل من القرآن، وأنه مأخوذ عن الرسول صلى الله عليه، ولو كان ذلك مما يسوغ
لسبق إليه رسول الله صلى الله عليه، ولفعله أبو بكر وعمر.
قال قاضى القضاة: وجوابنا عن ذلك أن الوجه في جمع القرآن على قراءة واحدة
تحصين القرآن وضبطه، وقطع المنازعة والاختلاف فيه. قولهم: لو كان ذلك واجبا
لفعله الرسول صلى الله عليه غير لازم، لان الامام إذا فعله صار كأن الرسول صلى الله
عليه وسلم فعله، ولان الأحوال في ذلك تختلف، وقد روى أن عمر كان عزم على ذلك
فمات دونه. وليس لأحد أن يقول: إن إحراقه المصاحف استخفاف بالدين، وذلك لأنه إذا
جاز من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخرب المسجد الذي بنى ضرارا وكفرا، فغير ممتنع
إحراق المصاحف.
* * *
اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام، فقال: إن اختلاف الناس في القراءة
ليس بموجب لما صنعه، لأنهم يروون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نزل القرآن على
سبعة أحرف، كلها شاف كاف)، فهذا الاختلاف عندهم في القرآن مباح مسند عن
الرسول صلى الله عليه وسلم، فكيف يحظر عليهم عثمان من التوسع في الحروف ما هو مباح!
فلو كان في القراءة الواحدة تحصين القرآن كما ادعى، لما أباح النبي صلى الله عليه وسلم في
الأصل إلا القراءة الواحدة، لأنه أعلم بوجوه المصالح من جميع أمته، من حيث كان مؤيدا
بالوحي، موفقا في كل ما يأتي ويذر. وليس له أن يقول: حدث من الاختلاف في أيام
عثمان ما لم يكن في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا ما أباحه، وذلك لان الامر
46

لو كان على هذا لوجب أن ينهى عن القراءة الحادثة، والامر المبتدع، ولا يحمله ما أحدث
من القراءة على تحريم المتقدم بلا شبهة.
وقوله: إن الامام إذا فعل ذلك، فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم فعله تعلل
بالباطل، وكيف يكون كما ادعى، وهذا الاختلاف بعينه قد كان موجودا في أيام الرسول
صلى الله عليه وسلم، فلو كان سبب الانتشار الزيادة في القرآن، وفي قطعه تحصين له،
لكان عليه السلام بالنهي عن هذا الاختلاف أولى من غيره، اللهم إلا أن يقال: حدث
اختلاف لم يكن، فقد قلنا فيه ما كفى.
وأما قوله: إن عمر قد كان عزم على ذلك فمات دونه، فما سمعناه إلا منه، ولو فعل
ذلك أي فاعل كان لكان منكرا.
فأما الاعتذار عن كون إحراق المصاحف لا يكون استخفافا بالدين، بحمله إياه على
تخريب مسجد الضرار، فبين الامرين بون بعيد، لان البنيان إنما يكون مسجدا وبيتا
لله تعالى بنية الباني وقصده، ولولا ذلك لم يكن بعض البنيان بأن يكون مسجدا أولى من
بعض، ولما كان قصد الباني لذلك الموضع غير القربة والعبادة، بل خلافها وضدها من
الفساد والمكيدة. لم يكن في الحقيقة مسجدا، وإن سمى بذلك مجازا على ظاهر الامر،
فهدمه لا حرج فيه، وليس كذلك ما بين الدفتين، لأنه كلام الله تعالى الموقر المعظم،
الذي يجب صيانته عن البذلة والاستخفاف، فأي نسبة بين الامرين!
* * *
الطعن الثامن:
أنه أقدم عمار بن ياسر بالضرب، حتى حدث به فتق، ولهذا صار أحد من
ظاهر المتظلمين من أهل الأمصار على قتله، وكان يقول: قتلناه كافرا.
47

قال قاضي القضاة: وقد أجاب شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى عن ذلك، فقال: إن ضرب
عمار غير ثابت، ولو ثبت أنه ضربه للقول العظيم الذي كان يقوله لم يجب أن يكون طعنا عليه، لان للامام تأديب من يستحق التأديب. ومما يبعد صحة ذلك أن عمارا لا يجوز أن
يكفره، ولما يقع منه ما يستوجب به الكفر، لان الذي يكفر به الكافر معلوم، ولأنه
لو كان قد وقع ذلك لكان غيره من الصحابة أولى بذلك، ولوجب أن يجتمعوا على خلعه،
ولوجب أن يكون قتله مباحا لهم، بل كان يجب أن يقيموا إماما ليقتله على ما قدمناه. وليس
لأحد أن يقول: إنما كفره عمار من حيث وثب على الخلافة، ولم يكن لها أهلا، لأنا
قد بينا القول في ذلك، ولأنه كان منصوبا لأبي بكر وعمر ما تقدم، وقد بينا أن صحة
إمامتهما تقتضي صحة إمامة عثمان.
وقد روى أن عمارا نازع الحسن بن علي عليهما السلام في أمر عثمان فقال عمار: قتل
عثمان كافرا، وقال الحسن عليه السلام: قتل مؤمنا، وتعلق بعضهما ببعض، فصارا إلى
أمير المؤمنين عليه السلام، فقال: ماذا تريد من ابن أخيك؟ فقال: إني قلت كذا، وقال
كذا، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: أتكفر برب كان يؤمن به عثمان! فسكت
عمار، وقد ذكر الشيخ أبو الحسين الخياط أن عثمان لما نقم عليه ضربه عمارا احتج لنفسه،
فقال: جاءني (1) سعد وعمار، فأرسلا إلى أن ائتنا، فإنا نريد أن نذاكرك أشياء فعلتها،
فأرسلت إليهما: إني مشغول، فانصرفا، فموعدكما يوم كذا، فانصرف سعد وأبى عمار
أن ينصرف، فأعدت الرسول إليه فأبى أن ينصرف، فتناوله بغير أمري، ووالله ما أمرت
به ولا رضيت، وها أنا، فليقتص منى.
قال: وهذا من أنصف قول وأعدله.
* * *
اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام، فقال: أما الدفع لضرب عمار، فهو

(1) كذا في الأصول وكتاب الشافي 277، ولعل الصواب: (جاء سعد).
48

كالإنكار لطلوع الشمس ظهورا وانتشارا، وكل من قرأ الاخبار، وتصفح السير يعلم من
هذا الامر ما لا تثنيه عنه مكابرة ولا مدافعة، وهذا الفعل - أعني ضرب عمار - لم تختلف الرواة
فيه، وإنما اختلفوا في سببه، فروى عباس بن هشام الكلبي عن أبي مخنف، في إسناده أنه
كان في بيت المال بالمدينة سفط فيه حلى وجوهر، فأخذ منه عثمان ما حلى به بعض أهله،
فأظهر الناس الطعن عليه في ذلك، وكلموه فيه بكل كلام شديد، حتى أغضبوه، فخطب
فقال: لنأخذن حاجتنا من هذا الفئ، وإن رغمت به أنوف أقوام! فقال له علي عليه
السلام: إذن تمنع من ذلك، ويحال بينك وبينه، فقال عمار: أشهد الله أن أنفى أول راغم
من ذلك، فقال عثمان: أعلى يا بن ياسر تجترئ! خذوه، فأخذ، ودخل عثمان، فدعا به
فضربه حتى غشى عليه، ثم أخرج فحمل حتى أتى به منزل أم سلمة رضى الله تعالى عنها،
فلم يصل الظهر والعصر والمغرب، فلما أفاق توضأ وصلى، وقال: الحمد لله، ليس هذا أول يوم
أوذينا في الله تعالى! فقال هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي - وكان عمار حليفا لبني مخزوم -:
يا عثمان، أما على فاتقيته، وأما نحن فاجترأت علينا، وضربت أخانا حتى أشفيت به (1)
على التلف، أما والله لئن مات لأقتلن به رجلا من بنى أمية عظيم الشأن! فقال عثمان:
وإنك لها هنا يا بن القسرية، قال: فإنهما قسريتان - وكانت أم هشام وجدته قسريتين (2)
من بجيلة - فشتمه عثمان، وأمر به فأخرج، فأتى به أم سلمة رضى الله تعالى عنها، فإذا هي
قد غضبت لعمار، وبلغ عائشة رضى الله تعالى عنها ما صنع بعمار، فغضبت أيضا، وأخرجت
شعرا من شعر رسول الله صلى الله عليه وآله، ونعلا من نعاله، وثوبا من ثيابه، وقالت:
ما أسرع ما تركتم سنة نبيكم، وهذا شعره وثوبه ونعله لم يبل بعد!

(1) أشفيت به، أي جعلته مشرفا على الهلاك.
(2) قسر: بطن في بجيلة.
49

وروى آخرون أن السبب في ذلك أن عثمان مر بقبر جديد، فسأل عنه، فقيل:
عبد الله بن مسعود، فغضب على عمار لكتمانه إياه موته، إذ كان المتولي للصلاة عليه، والقيام
بشأنه، فعندها وطئ عثمان عمارا حتى أصابه الفتق.
وروى آخرون أن المقداد وعمارا وطلحة والزبير وعدة من أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وآله كتبوا كتابا عددوا فيه أحداث عثمان، وخوفوه به، وأعلموه أنهم مواثبوه
إن لم يقلع، فأخذ عمار الكتاب، فأتاه به. فقرأ منه صدرا، ثم قال له: أعلى تقدم من
بينهم! فقال: لأني أنصحهم لك، قال: كذبت يا بن سمية! فقال: أنا والله ابن سمية،
وابن ياسر! فأمر عثمان غلمانا له، فمدوا بيديه ورجليه، ثم ضربه عثمان برجليه - وهي في
الخفين - على مذاكيره، فأصابه الفتق، وكان ضعيفا كبيرا فغشى عليه.
قال: فضرب عمار على ما ترى غير مختلف فيه بين الرواة، وإنما اختلفوا في سببه،
والخبر الذي رواه صاحب،، المغني،،، وحكاه عن أبي الحسين الخياط ما نعرفه، وكتب
السيرة المعلومة خالية منه ومن نظيره، وقد كان يجب أن يضيفه إلى الموضع الذي أخذ منه، فإن
قوله وقول من أسند إليه ليس بحجة، ولو كان صحيحا لكان يجب أن يقول بدل قوله:
(ها أنا فليقتص منى) - إذا كان ما أمر بذلك، ولا رضى عنه، وإنما ضربه الغلام الجاني -
(فليقتص منه) فإنه أولى وأعدل.
وبعد، فلا تنافى بين الروايتين لو كان ما رواه معروفا، لأنه يجوز أن يكون غلامه
ضربه في حال، وضربه هو في حال أخرى الروايات إذا لم تتعارض لم يجز إسقاط
شئ منها.
فأما قوله: إن عمارا لا يجوز أن يكفره، ولم يقع منه ما يوجب الكفر، فإن تكفير
عمار وغير عمار له معروف، وقد (1) جاءت به الروايات، وقد روى من طرق مختلفه وبأسانيد
كثيرة أن عمارا كان يقول: ثلاثة يشهدون على عثمان بالكفر وأنا الرابع، وأنا شر

(1) ا: (قد).
50

الأربعة، (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) (1)، وأنا أشهد أنه
قد حكم بغير ما أنزل الله.
وروى عن زيد بن أرقم من طرق مختلفة أنه قيل له: بأي شئ كفرتم (2) عثمان؟
فقال: بثلاث: جعل المال دولة بين الأغنياء، وجعل المهاجرين من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم بمنزلة من حارب الله ورسوله، وعمل بغير كتاب الله.
وروى عن حذيفة أنه كان يقول: ما في عثمان بحمد الله أشك، لكني أشك في قاتله،
لا أدرى أكافر قتل كافرا، أم مؤمن خاض إليه الفتنة حتى قتله، وهو أفضل المؤمنين إيمانا!
فأما ما رواه من منازعة الحسن عليه السلام عمارا في ذلك، وترافعهما إلى أمير المؤمنين
عليه السلام، فهو أولا غير دافع لكون عمار مكفرا له، بل شاهد بذلك من قوله عليه
السلام، ثم إن كان الخبر صحيحا فالوجه فيه أن عمارا كان يعلم من لحن كلام أمير المؤمنين
عليه السلام، وعدوله عن أن يقضى بينهما بصريح من القول أنه متمسك بالتقية، فأمسك
عمار متابعة لغرضه (3).
فأما قوله: لا يجوز أن يكفره من حيث وثب على الخلافة، لأنه كان مصوبا لأبي بكر
وعمر لما تقدم من كلامه في ذلك، فإنا لا نسلم له أن عمارا كان مصوبا لهما، وما تقدم من
كلامه قد تقدم كلامنا عليه.
فأما قوله عن أبي على: إنه لو ثبت أنه ضربه للقول العظيم الذي كان يقوله فيه لم يكن
طعنا، لان للامام تأديب من يستحق ذلك، فقد كان يجب أن يستوحش صاحب كتاب
،، المغني،، أو من حكى كلامه من أبى على وغيره من أن يعتذر - من ضرب عمار ووقذه حتى
لحقه من الغشي ما ترك له الصلاة، ووطئه بالاقدام امتهانا واستخفافا - بشئ من العذر،

(1) سورة المائدة 44.
(2) ا: (أكفرتم).
(3) الشافي: (لما فهم من غرضه).
51

فلا عذر يسمع من إيقاع نهاية المكروه بمن روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه:
(عمار جلدة ما بين العين والأنف ومتى تنكأ الجلدة يدم الانف). وروى أنه قال
عليه السلام (ما لهم ولعمار! يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار). روى العوام بن
حوشب عن سلمة بن كهيل عن علقمة عن خالد بن الوليد أن رسول الله صلى الله عليه وآله
قال: (من عادى عمارا عاداه الله، ومن أبغض عمارا أبغضه الله)، وأي كلام غليظ
سمعه عثمان من عمار يستحق به ذلك المكروه العظيم الذي يجاوز مقدار ما فرضه الله تعالى
في الحدود! وإنما كان عمار وغيره أثبتوا عليه أحداثه ومعايبه أحيانا على ما يظهر من
سيئ أفعاله. وقد كان يجب عليه أحد أمرين: إما أن ينزع عما يواقف عليه من تلك الأفعال
، أو يبين من عذره عنها وبراءته منها ما يظهر ويشتهر، فإن أقام مقيم بعد ذلك
على توبيخه وتفسيقه زجره عن ذلك بوعظ أو غيره، ولا يقدم على ما يفعله الجبابرة
والأكاسرة من شفاء الغيظ بغير ما أنزل الله تعالى وحكم به.
* * *
الطعن التاسع:
إقدامه على أبي ذر مع تقدمه في الاسلام، حتى سيره إلى الربذة ونفاه، وقيل:
إنه ضربه.
قال قاضى القضاة في الجواب عن ذلك: إن شيخنا أبا على رحمه الله تعالى قال: إن
الناس اختلفوا في أمر أبي ذر رحمه الله تعالى. وروى أنه قيل لأبي ذر: عثمان أنزلك
الربذة؟ فقال: لا، بل اخترت لنفسي ذلك.
وروى أن معاوية كتب يشكوه وهو بالشام، فكتب عثمان إليه أن صر إلى المدينة،
فلما صار إليها قال: ما أخرجك إلى الشام؟ قال: لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه
52

وسلم يقول: (إذا بلغت عمارة المدينة موضع كذا فأخرج عنها)، فلذلك خرجت،
فقال: فأي البلاد أحب إليك بعد الشام؟ قال: الربذة، فقال: صر إليها.
قال: وإذا تكافأت الاخبار لم يكن لهم في ذلك حجة، ولو ثبت ذلك لكان
لا يمتنع أن يخرجه إلى الربذة لصلاح يرجع إلى الدين، فلا يكون ظلما لأبي ذر، بل
يكون إشفاقا عليه، وخوفا من أن يناله من بعض أهل المدينة مكروه، فقد روى أنه
كان يغلظ في القول ويخشن الكلام، فيقول: لم يبق أصحاب محمد على ما عهد، وينغر (1)
بهذا القول، فرأى إخراجه أصلح لما يرجع إليه وإليهم وإلى الدين، وقد روى أن عمر
أخرج عن المدينة نصر بن الحجاج لما خاف ناحيته، وقد ندب الله سبحانه إلى خفض
الجناح للمؤمنين، وإلى القول اللين للكافرين، وبين للرسول صلى الله عليه وسلم أنه لو
استعمل الفظاظة لانفضوا من حوله، فلما رأى عثمان من خشونة كلام أبي ذر، وما كان
يورده مما يخشى منه التنغير فعل ما فعل.
قال: وقد روى عن زيد بن وهب، قال: قلت لأبي ذر رحمه الله تعالى، وهو
بالربذة: ما أنزلك هذا المنزل؟ قال: أخبرك، إني كنت بالشام في أيام معاوية، وقد
ذكرت هذه الآية: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله
فبشرهم بعذاب أليم) (2)، فقال معاوية: هذه في أهل الكتاب، فقلت: هي
فيهم وفينا، فكتب معاوية إلى عثمان في ذلك، فكتب إلى أن أقدم على، فقدمت
عليه، فانثال الناس إلى كأنهم لم يعرفوني، فشكوت ذلك إلى عثمان، فخيرني وقال:
انزل حيث شئت، فنزلت الربذة.

(1) ينغر: يصيح.
(2) سورة التوبة آية 34.
53

وقد ذكر الشيخ أبو الحسين الخياط قريبا مما تقدم، من أن إخراج أبي ذر إلى
الربذة كان باختياره، وروى في ذلك خبرا، قال: وأقل ما في ذلك أن تختلف الاخبار
فتطرح، ويرجع إلى الأمر الأول في صحة إمامة عثمان وسلامة أحواله.
اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام، فقال:
أما قول أبى على إن الاخبار في سبب خروج أبي ذر إلى الربذة متكافئة، فمعاذ
الله أن تتكافأ في ذلك! بل المعروف والظاهر أنه نفاه أولا إلى الشام، ثم استقدمه إلى
المدينة لما شكا منه معاوية، ثم نفاه من المدينة إلى الربذة. وقد روى جميع أهل السير
على اختلاف طرقهم وأسانيدهم أن عثمان لما أعطى مروان بن الحكم ما أعطاه وأعطى
الحارث بن الحكم بن أبي العاص ثلاثمائة ألف درهم، وأعطى زيد بن ثابت مائة ألف
درهم، جعل أبو ذر يقول: بشر الكانزين بعذاب أليم، ويتلو قول الله تعالى: (والذين
يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) فرفع
ذلك مروان إلى عثمان، فأرسل إلى أبي ذر نائلا مولاه: أن انته عما يبلغني عنك،
فقال: أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله، وعيب من ترك أمر الله! فوالله لان أرضى
الله بسخط عثمان أحب إلى وخير لي من أن أسخط الله برضاه. فأغضب عثمان ذلك،
وأحفظه فتصابر.
وقال يوما: أيجوز للامام أن يأخذ من المال، فإذا أيسر قضى؟ فقال كعب
الأحبار: لا بأس بذلك، فقال له أبو ذر: يا بن اليهوديين، أتعلمنا ديننا! فقال عثمان:
قد كثر أذاك لي وتولعك بأصحابي، الحق بالشام. فأخرجه إليها، فكان أبو ذر ينكر
على معاوية أشياء يفعلها، فبعث إليه معاوية ثلاثمائة دينار، فقال أبو ذر: إن كانت هذه
54

من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا قبلتها، وإن كانت صلة فلا حاجة لي فيها، وردها عليه.
وبنى معاوية الخضراء بدمشق، فقال أبو ذر: يا معاوية، إن كانت هذه من مال
الله فهي الخيانة وإن كانت من مالك فهو الاسراف.
وكان أبو ذر رحمه الله تعالى يقول: والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها، والله ما هي
في كتاب الله ولا سنة نبيه، والله إني لأرى حقا يطفأ وباطلا يحيا، وصادقا مكذبا،
وأثرة بغير تقى، وصالحا مستأثرا عليه، فقال حبيب بن مسلمة الفهري لمعاوية إن
أبا ذر لمفسد عليكم الشام، فتدارك أهله إن كانت لكم حاجة فيه. فكتب معاوية
إلى عثمان فيه، فكتب عثمان إلى معاوية: أما بعد، فاحمل جندبا (1) إلى علي أغلظ مركب
وأوعره، فوجه به مع من سار به الليل والنهار، وحمله على شارف (2) ليس عليها إلا
قتب (3)، حتى قدم به المدينة، وقد سقط لحم فخذيه من الجهد، فلما قدم أبو ذر المدينة،
بعث إليه عثمان أن الحق بأي أرض شئت، فقال: بمكة؟ قال: لا، قال: فبيت المقدس؟
قال: لا، قال: فأحد المصرين (4)؟ قال: لا، ولكني مسيرك إلى الربذة، فسيره
إليها، فلم يزل بها حتى مات.
وفي رواية الواقدي أن أبا ذر لما دخل على عثمان، قال له: لا أنعم الله بك عينا
يا جنيدب! فقال أبو ذر: أنا جنيدب وسماني رسول الله صلى الله عليه عبد الله،
فاخترت اسم، رسول الله الذي سماني به على اسمي فقال عثمان: أنت الذي تزعم أنا نقول
إن يد الله مغلولة، وإن الله فقير ونحن أغنياء! فقال أبو ذر: لو كنتم لا تزعمون لأنفقتم

(1) جندب: اسم أبي ذر الغفاري.
(2) الشارف: الناقة المسنة الهرمة.
(3) القتب: الإكاف الصغير على قدر سنام البعير.
(4) المصران: هما الكوفة والبصرة.
55

مال الله على عباده، ولكني أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه يقول: (إذا بلغ
بنو أبى العاص ثلاثين رجلا جعلوا مال الله دولا، وعباد الله خولا، ودين الله
دخلا)، فقال عثمان لمن حضره: أسمعتموها من نبي الله؟ فقالوا: ما سمعناه، فقال عثمان:
ويلك يا أبا ذر! أتكذب على رسول الله! فقال أبو ذر لمن حضر: أما تظنون أنى
صدقت! قالوا: لا والله ما ندري، فقال عثمان: ادعوا لي عليا، فدعى، فلما جاء قال
عثمان لأبي ذر: أقصص عليه حديثك في بنى أبى العاص، فحدثه، فقال عثمان لعلى:
هل سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه؟ فقال علي عليه السلام: لا، وقد صدق
أبو ذر، قال عثمان: بم (1) عرفت صدقه؟ قال: لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه
يقول: (ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر)،
فقال جميع من حضر من أصحاب النبي صلى الله عليه: لقد صدق أبو ذر، فقال أبو ذر:
أحدثكم أنى سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه ثم تتهمونني! ما كنت أظن أنى
أعيش حتى أسمع هذا من أصحاب محمد صلى الله عليه!
وروى الواقدي في خبر آخر بإسناده عن صهبان مولى الأسلميين، قال: رأيت
أبا ذر يوم دخل به على عثمان، فقال له: أنت الذي فعلت وفعلت! فقال له أبو ذر:
نصحتك فاستغششتني، ونصحت صاحبك فاستغشني، فقال عثمان: كذبت، ولكنك
تريد الفتنة وتحبها، قد أنغلت (2) الشام علينا، فقال له أبو ذر: اتبع سنة صاحبيك،
لا يكن لأحد عليك كلام، قال عثمان: ما لك وذلك لا أم لك! قال أبو ذر: والله
ما وجدت لي عذرا إلا الامر بالمعروف والنهى عن المنكر، فغضب عثمان وقال: أشيروا
على في هذا الشيخ الكذاب، إما أن أضربه أو أحبسه أو أقتله، فإنه قد فرق جماعة
المسلمين، أو أنفيه من أرض الاسلام. فتكلم علي عليه السلام - وكان حاضرا - وقال: أشير عليك

(1) الشافي: (كيف).
(2) أنغلت الشام: أي أفسدت أهله، وأصله في الأديم، يقال: أنغل الأديم، إذا أفسده في الدباغ.
وفى الشافي: (قلبت).
56

بما قاله مؤمن آل فرعون: (وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم
بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدى من هو مسرف كذاب) (1)، قال: فأجابه
عثمان بجواب غليظ، لا أحب ذكره، وأجابه عليه السلام بمثله، قال: ثم إن عثمان
حظر على الناس أن يقاعدوا أبا ذر، أو يكلموه، فمكث كذلك أياما ثم أمر أن يؤتى
به، فلما أتى به وقف بين يديه، قال: ويحك يا عثمان! أما رأيت رسول الله صلى الله عليه
ورأيت أبا بكر وعمر! هل رأيت هذا هديهم! إنك لتبطش بي بطش جبار، فقال:
اخرج عنا من بلادنا، فقال أبو ذر: ما أبغض إلى جوارك! فإلى أين أخرج؟ قال: حيث
شئت، قال: فأخرج إلى الشام أرض الجهاد؟ قال: إنما جلبتك من الشام لما قد أفسدتها
أفأردك إليها! قال: أفأخرج إلى العراق؟ قال: لا، قال: ولم؟ قال: تقدم على قوم أهل
شبه وطعن في الأئمة قال: أفأخرج إلى مصر؟ قال: لا، قال: فإلى أين أخرج؟ قال:
حيث شئت، قال أبو ذر: فهو إذن التعرب (2) بعد الهجرة، أأخرج إلى نجد؟ فقال عثمان:
الشرف الأبعد أقصى فأقصى، امض على وجهك هذا، ولا تعدون الربذة.
فخرج إليها.
وروى الواقدي عن مالك بن أبي الرجال، عن موسى بن ميسرة أن أبا الأسود الدؤلي،
قال: كنت أحب لقاء أبي ذر لأسأله عن سبب خروجه، فنزلت الربذة، فقلت له:
ألا تخبرني؟ أخرجت من المدينة طائعا أم أخرجت مكرها؟ فقال: كنت في ثغر من ثغور
المسلمين، أغنى عنهم، فأخرجت إلى مدينة الرسول عليه السلام، فقلت: أصحابي ودار
هجرتي، فأخرجت منها إلى ما ترى، ثم قال: بينا أنا ذات ليلة نائم في المسجد إذ مر بي رسول الله صلى الله عليه، فضربني برجله وقال: لا أراك نائما في المسجد، فقلت: بأبي أنت

(1) سورة غافر 28.
(2) التعرب: الإقامة بالبادية.
57

وأمي! غلبتني عيني، فنمت فيه، فقال: كيف تصنع إذا أخرجوك منه؟ فقلت: إذن ألحق
بالشام، فإنها أرض مقدسة، وأرض بقية الاسلام، وأرض الجهاد، فقال: فكيف تصنع
إذا أخرجت منها؟ فقلت: أرجع إلى المسجد، قال: فكيف تصنع إذا أخرجوك منه؟
قلت: آخذ سيفي فأضرب به، فقال صلى الله عليه وآله: (ألا أدلك على خير من
ذلك، أنسق معهم حيث ساقوك، وتسمع وتطيع)، فسمعت وأطعت وأنا أسمع وأطيع،
والله ليلقين الله عثمان وهو آثم في جنبي.
وكان يقول بالربذة: ما ترك الحق لي صديقا. وكان يقول: فيها ردني عثمان بعد
الهجرة أعرابيا.
والاخبار في هذا الباب أكثر من أن تحصر وأوسع من أن نذكرها. وما يحمل
نفسه على ادعاء أن أبا ذر خرج مختارا إلى الربذة إلا مكابر. ولسنا ننكر أن
يكون ما أورده صاحب كتاب،، المغني،، من أنه خرج مختارا قد روى، إلا أنه من
الشاذ الناذر. وبإزاء هذه الرواية الفذة كل الروايات التي تتضمن خلافها، ومن تصفح
الاخبار علم أنها غير متكافئة على ما ظن صاحب،، المغني،، وكيف يجوز خروجه عن
اختيار! وإنما أشخص من الشام على الوجه الذي أشخص عليه: من خشونة المركب،
وقبح السير به للموجدة عليه. ثم لما قدم منع الناس من كلامه، وأغلظ له في القول، وكل
هذا لا يشبه أن يكون خروجه إلى الربذة باختياره. وكيف يظن عاقل أن أبا ذر يختار
الربذة منزلا مع جدبها وقحطها وبعدها عن الخيرات، ولم تكن بمنزل مثله!
فأما قوله: إنه أشفق عليه من أن يناله بعض أهل المدينة بمكروه من حيث كان
يغلظ لهم القول، فليس بشئ، لأنه لم يكن في أهل المدينة إلا من كان راضيا بقوله، عاتبا
بمثل عتبه، إلا أنهم كانوا بين مجاهر بما في نفسه، ومخف ما عنده، وما في أهل المدينة إلا
58

من رثى لأبي ذر مما حدث عليه، ومن استفظعه، ومن رجع إلى كتب السيرة
عرف ما ذكرناه.
فأما قوله: إن عمر أخرج من المدينة نصر بن حجاج، فيا بعد ما بين الامرين! وما
كنا نظن أن أحدا يسوى بين أبي ذر وهو وجه الصحابة وعينهم، ومن أجمع المسلمون على
توقيره وتعظيمه، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله مدحه من صدق اللهجة بما لم يمدح به
أحدا، وبين نصر بن الحجاج الحدث الذي كان خاف عمر من افتتان النساء بشبابه، ولاحظ له
في فضل ولا دين! على أن عمر قد ذم بإخراجه نصر بن الحجاج من غير ذنب كان منه،
فإذا كان من أخرج نصر بن حجاج مذموما، فكيف من أخرج أبا ذر!
فأما قوله: إن الله تعالى والرسول قد ندبا إلى خفض الجناح، ولين القول للمؤمن
والكافر، فهو كما قال، إلا أن هذا أدب كان ينبغي أن يتأدب به عثمان في أبي ذر،
ولا يقابله بالتكذيب، وقد قطع رسول الله صلى الله عليه وآله على صدقه، ولا يسمعه
مكروه الكلام، فإنما نصح له، وأهدى إليه عيوبه، وعاتبه على ما لو نزع عنه لكان خيرا
له في الدنيا والآخرة.
* * *
الطعن العاشر:
تعطيله الحد الواجب على عبيد الله بن عمر بن الخطاب، فإنه قتل الهرمزان مسلما
فلم يقده به، وقد كان أمير المؤمنين عليه السلام يطلبه لذلك.
قال قاضى القضاة في الجواب عن ذلك: إن شيخنا أبا على رحمه الله تعالى قال: إنه
لم يكن للهرمزان ولى يطلب بدمه، والامام ولى من لا ولى له، وللولي أن يعفو كما له أن
يقتل، وقد روى أنه سأل المسلمين أن يعفوا عنه، فأجابوا عنه إلى ذلك.
59

قال: وإنما أراد عثمان بالعفو عنه ما يعود إلى عز الدين، لأنه خاف أن يبلغ العدو
قتله، فيقال: قتلوا إمامهم وقتلوا ولده ولا يعرفون الحال في ذلك فيكون فيه شماتة،
وقد قال الشيخ أبو الحسين الخياط: إن عامة المهاجرين أجمعوا على أنه لا يقاد بالهرمزان،
وقالوا لعثمان: هذا دم سفك في غير ولايتك، وليس له، ولى يطلب به وأمره إلى
الامام، فاقبل منه الدية فذلك صلاح للمسلمين.
قال: ولم يثبت أن أمير المؤمنين عليه السلام كان يطلبه ليقتله بالهرمزان، لأنه
لا يجوز قتل من عفا عنه ولى المقتول، وإنما كان يطلبه ليضع من قدره، ويصغر
من شأنه.
قال: ويجوز أن يكون ما روى عن علي عليه السلام من أنه قال: لو كنت بدل
عثمان لقتلته، يعنى أنه كان يرى ذلك أقوى في الاجتهاد، وأقرب إلى التشدد في دين
الله سبحانه.
* * *
اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام، قال:
أما قوله: لم يكن للهرمزان ولى يطلب بدمه، فالامام يكون وليه، وله أن يعفو عنه، كما له
أن يقتص، فليس بمعتمد، لان الهرمزان رجل من أهل فارس، ولم يكن له ولى حاضر
يطالب بدمه، وقد كان الواجب أن يبذل الانصاف لأوليائه ويؤمنوا متى حضروا، حتى
إنه لو كان له ولى يريد المطالبة حضر وطالب. ثم لو لم يكن له ولى
لم يكن عثمان ولى دمه، لأنه قتل في أيام عمر، فصار عمر ولى دمه، وقد أوصى عمر على ما جاءت به الروايات
الظاهرة بقتل ابنه عبيد الله إن لم تقم البينة العادلة على الهرمزان وجفينة، (1) أنهما أمرا أبا لؤلؤة
غلام المغيرة بن شعبة بقتله، وكانت وصيته بذلك إلى أهل الشورى، فقال: أيكم ولى
هذا الامر فليفعل كذا وكذا مما ذكرناه، فلما مات عمر، طلب المسلمون إلى عثمان إمضاء

(1) جفينة، كان نصرانيا من أهل الحيرة وكان ظئرا لسعد بن أبي وقاص، أقدمه إلى المدينة للصلح الذي
بينه وبينهم، وليعلم بالمدينة الكتاب. تاريخ الطبري 5: 42.
60

الوصية في عبيد الله بن عمر، فدافع عن ذلك وعللهم، ولو كان هو ولى الدم على ما ذكروا
لم يكن له أن يعفو وأن يبطل حدا من حدود الله تعالى، وأي شماتة للعدو في إقامة حد
من حدود الله تعالى! وإنما الشماتة كلها من أعداء الاسلام في تعطيل الحدود. وأي حرج
في الجمع بين قتل الامام وابنه، حتى يقال كره أن ينتشر الخبر بأن الامام وابنه
قتلا، وإنما قتل أحدهما ظلما، والاخر عدلا، أو أحدهما بغير أمر الله، والاخر بأمره سبحانه!
وقد روى زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح أن أمير
المؤمنين عليه السلام أتى عثمان، بعد ما استخلف، فكلمه في عبيد الله ولم يكلمه أحد غيره،
فقال: اقتل هذا الفاسق الخبيث الذي قتل أميرا مسلما، فقال عثمان: قتلوا أباه بالأمس،
وأقتله اليوم! وإنما هو رجل من أهل الأرض، فلما أبى عليه مر عبيد الله على علي عليه
السلام، فقال: له إيه يا فاسق! أما والله لئن ظفرت بك يوما من الدهر لأضربن عنقك،
فلذلك خرج مع معاوية عليه.
روى القناد، عن الحسن بن عيسى بن زيد، عن أبيه، أن المسلمين لما قال عثمان:
إني قد عفوت عن عبيد الله بن عمر، قالوا: ليس لك أن تعفو عنه، قال: بلى إنه ليس
لجفينة والهرمزان قرابة من أهل الاسلام، وأنا ولى أمر المسلمين، وأنا أولى بهما، وقد
عفوت، فقال علي عليه السلام: إنه ليس كما تقول، إنما أنت في أمرهما بمنزلة أقصى المسلمين،
إنه قتلهما في إمرة غيرك، وقد حكم الوالي الذي قتلا في إمارته بقتله، ولو كان قتلهما
في إمارتك لم يكن لك العفو عنه، فاتق الله، فإن الله سائلك عن هذا! فلما رأى عثمان
أن المسلمين قد أبوا إلا قتل عبيد الله، أمره فارتحل إلى الكوفة، وأقطعه بها دارا
وأرضا، وهي التي يقال لها: كويفة (1) بن عمر، فعظم ذلك عند المسلمين وأكبروه،
وكثر كلامهم فيه.

(1) الكويفة، ذكرها ياقوت، فقال: (كويفة ابن عمر منسوبة إلى عبيد الله بن عمر بن الخطاب،
نزلها حين قتل بنت أبي لؤلؤة والهرمزان وجفينة العبادي). معجم البلدان 7: 304.
61

وروى عن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال:
ما أمسى عثمان يوم وليلة حتى نقموا عليه في أمر عبيد الله بن عمر، حيث لم يقتله بالهرمزان.
فأما قوله: إن أمير المؤمنين عليه السلام لم يطلبه ليقتله، بل ليضع من قدره، فهو
بخلاف ما صرح به عليه السلام من أنه إن تمكن ليضربن عنقه.
وبعد، فإن ولى الدم إذا عفا عنه على ما ادعوا لم يكن لأحد ان يستخف به،
ولا يضع من قدره كما ليس له أن يقتله.
وأما قوله: إن أمير المؤمنين عليه السلام لا يجوز أن يتوعده مع عفو الامام عنه، فإنما
يكون صحيحا لو كان ذلك العفو مؤثرا، وقد بينا أنه غير مؤثر.
وأما قوله: يجوز أن يكون عليه السلام رأى أن قتله أقوى في الاجتهاد، وأقرب إلى
التشدد في دين الله، فلا شك أنه كذلك، وهذا بناء منه على أن كل مجتهد مصيب،
وقد بينا أن الامر بخلاف ذلك، وإذا كان اجتهاد أمير المؤمنين عليه السلام يقتضى قتله،
فهو الذي لا يسوغ خلافه.
* * *
الطعن الحادي عشر
وهو إجمالي، قالوا: وجدنا أحوال الصحابة دالة على تصديقهم المطاعن فيه،
وبراءتهم منه، والدليل على ذلك أنهم تركوه بعد قتله ثلاثة أيام لم يدفنوه، ولا أنكروا
على من أجلب عليه من أهل الأمصار، بل أسلموه ولم يدفعوا عنه، ولكنهم أعانوا عليه،
ولم يمنعوا من حصره ولا من منع الماء عنه، ولا من قتله، مع تمكنهم من خلاف ذلك،
وهذا من أقوى الدلائل على ما قلناه، ولو لم يدل على أمره عندهم إلا ما روى عن علي عليه
السلام أنه قال: الله قتله وأنا معه، وأنه كان في أصحابه عليه السلام من يصرح بأنه قتل
62

عثمان، ومع ذلك لا يقيدهم بل ولا ينكر عليهم، وكان أهل الشام يصرحون بأن مع أمير
المؤمنين قتله عثمان، ويجعلون ذلك من أو كد الشبه، ولا ينكر ذلك عليهم، مع أنا نعلم
أن أمير المؤمنين عليه السلام لو أراد أن يتعاضد هو وأصحابه على المنع عنه لما وقع في حقه
ما وقع، فصار كفه وكف غيره عن ذلك من أدل الدلائل على أنهم صدقوا عليه ما نسب
إليه من الاحداث، وأنهم لم يقبلوا منه ما جعله عذرا.
وأجاب قاضى القضاة عن هذا، فقال:
أما تركه بعد القتل ثلاثة أيام لم يدفن فليس بثابت، ولو صح لكان طعنا على من
لزمه القيام به، وقد قال شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى: إنه لا يمتنع أن يشتغلوا بإبرام
البيعة لأمير المؤمنين عليه السلام خوفا على الاسلام من الفتنة، فيؤخروا دفنه.
قال: وبعيد مع حضور قريش وقبائل العرب وسائر بنى أمية ومواليهم أن يترك
عثمان ولا يدفن هذه المدة، وبعيد أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام لا يتقدم بدفنه،
ولو مات في جواره يهودي أو نصراني ولم يكن له من يواريه ما تركه أمير المؤمنين ألا يدفن،
فكيف يجوز مثل ذلك في عثمان، وقد روى أنه دفن في تلك الليلة، وهذا هو الأولى.
فأما التعلق بأن الصحابة لم تنكر على القوم، ولا دفعت عنه، فقد سبق القول في
ذلك، والصحيح عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه تبرأ من قتل عثمان، ولعن قتلته في
البر والبحر والسهل والجبل، وإنما كان يجرى من جيشه هذا القول منه على جهة المجاز،
لأنا نعلم أن جميع من كان يقول: نحن قتلناه لم يقتله، لان في الخبر أن العدد الكثير
كانوا يصرحون بذلك، والذين دخلوا عليه وقتلوه اثنان أو ثلاثة، وإنما كانوا يقصدون
بهذا القول، أي احسبوا أنا قتلناه فما لكم! وذلك أن الامام هو الذي يقوم بأمر القود،
وليس للخارج عليه أن يطالب بذلك، ولم يكن لأمير المؤمنين عليه السلام أن يقتل قتلته
لو عرفهم ببينة أو إقرار، وميزهم من غيرهم إلا عند مطالبة ولى الدم، والذين كانوا أولياء
63

الدم لم يكونوا يطالبونه، ولا كانت صفتهم صفة من يطالب، لأنهم كانوا كلهم أو
بعضهم يدعون أن عليا عليه السلام ليس بإمام، ولا يحل لولي الدم مع هذا الاعتقاد أن
يطالب بالقود، فلذلك لم يقتلهم عليه السلام، هذا لو صح أنه كان يميزهم، فكيف
وذلك غير صحيح.
فأما ما روى عنه من قوله عليه السلام: (قتله الله وأنا معه)! فإن صح فمعناه مستقيم،
يريد أن الله أماته وسيميتني وسائر العباد.
ثم قال سائلا نفسه: كيف يقول ذلك وعثمان مات مقتولا من جهة المكلفين!
وأجاب بأنه وإن قتل، فالإماتة من قبل الله تعالى. ويجوز أن يكون ما ناله من الجراح
لا يوجب انتفاء الحياة لا محالة فإذا مات صحت الإماتة على طريق الحقيقة.
* * *
اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام فقال.
أما تضعيفه أن يكون عثمان ترك بعد القتل ثلاثة أيام لم يدفن، فليس بحجة،
لان ذلك قد رواه جماعة الرواة، وليس يخالف في مثله أحد يعرف بالرواية، وقد ذكر ذلك
الواقدي وغيره، وروى أن أهل المدينة منعوا الصلاة عليه، حتى حمل بين المغرب
والعتمة، ولم يشهد جنازته غير مروان وثلاثة من مواليه، ولما أحسوا بذلك رموه بالحجارة
وذكروه بأسوء الذكر، ولم يقع التمكن من دفنه إلا بعد أن أنكر أمير المؤمنين عليه
السلام المنع من دفنه، وأمر أهله بتولي ذلك منه.
فأما قوله: إن ذلك إن صح كان طعنا على من لزمه القيام بأمره، فليس الامر على
ما ظنه، بل يكون طعنا على عثمان من حيث لا يجوز أن يمنع أهل المدينة - وفيها وجوه
الصحابة - من دفنه والصلاة عليه إلا لاعتقاد قبيح، أو لان أكثرهم وجمهورهم يعتقد
ذلك، وهذا طعن لا شبهة فيه، واستبعاد صاحب،، المغني،، لذلك، مع ظهور الرواية به
64

لا يلتفت إليه، فأما أمير المؤمنين عليه السلام واستبعاد صاحب،، المغني،، منه ألا يتقدم
بدفنه، فقد بينا أنه تقدم بذلك بعد مماكسة ومراوضة. وأعجب من كل شئ قول صاحب
،، المغني،، إنهم أخروا دفنه تشاغلا بالبيعة لأمير المؤمنين عليه السلام، وأي شغل في
البيعة لأمير المؤمنين يمنع من دفنه، والدفن فرض على الكفاية، لو قام به البعض وتشاغل
الباقون بالبيعة لجاز! وليس الدفن ولا البيعة أيضا مفتقرة إلى تشاغل جميع أهل المدينة بها.
فأما قوله: إنه قد روى أن عثمان دفن تلك الليلة، فما تعرف هذه الرواية وقد كان
يجب أن يسندها ويعزوها إلى راويها، أو الكتاب الذي أخذها منه، فالذي ظهر في الرواية
هو ما ذكرناه.
فأما إحالته على ما تقدم في معنى الانكار من الصحابة على القوم المجلبين على عثمان،
فقد سبق القول في ذلك.
فأما روايته عن أمير المؤمنين عليه السلام تبرؤه من قتل عثمان، ولعنه قتلته في البر والبحر،
والسهل والجبل، فلا شك في أنه عليه السلام كان بريئا من قتله، وقد روى عنه عليه السلام
أنه قال: والله ما قتلت عثمان، ولا مالأت في قتله، والممالاة هي المعاونة والموازرة، وقد صدق
عليه السلام في أنه ما قتل ولا وازر على القتل.
فأما لعنه قتلته (1) فضعيف في الرواية، وإن كان قد روى، فأظهر منه ما رواه الواقدي،
عن الحكم بن الصلت، عن محمد بن عمار بن ياسر، عن أبيه، قال: رأيت عليا عليه
السلام على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله حين قتل، وهو يقول: ما أحببت
قتله ولا كرهته، ولا أمرت به، ولا نهيت عنه.
وقد روى محمد بن سعد، عن عفان بن جرير بن بشير، عن أبي جلدة، أنه سمع عليا

(1) ا، ج: (قتلة عثمان)
65

عليه السلام، يقول وهو يخطب، فذكر عثمان، وقال: والله الذي لا إله إلا هو، ما قتلته
ولا مالأت على قتله ولا ساءني (1).
وروى ابن بشير، عن عبيدة السلماني، قال: سمعت عليا عليه السلام يقول:
من كان سائلي عن دم عثمان، فإن الله قتله وأنا معه. وقد روى هذا اللفظ من
طرق كثيرة.
وقد روى شعبة عن أبي حمزة الضبعي، قال: قلت لابن عباس: إن أبى أخبرني
أنه سمع عليا، يقول: ألا من كان سائلي على دم عثمان، فإن الله قتله وأنا معه - فقال:
صدق أبوك، هل تدرى ما معنى قوله! إنما عنى: الله قتله وأنا مع الله.
قال: فإن قيل: كيف يصح الجمع بين معاني هذه الأخبار؟
قلنا: لا تنافى بينها، لأنه عليه السلام تبرأ من مباشرة قتله والمؤازرة عليه، ثم قال:
ما أمرت بذلك ولا نهيت عنه، يريد أن قاتليه لم يرجعوا إلى، ولم يكن منى قول
في ذلك بأمر ولا نهى. فأما قوله: (الله قتله وأنا معه)، فيجوز أن يكون المراد به:
الله حكم بقتله وأوجبه وأنا كذلك، لان من المعلوم أن الله تعالى لم يقتله على الحقيقة،
فإضافة القتل إليه لا تكون إلا بمعنى الحكم والرضا، وليس يمتنع أن يكون مما حكم
الله تعالى به، ما لم يتوله بنفسه، ولا آزر عليه، ولا شايع فيه.
فإن قال قائل: هذا ينافي ما روى عنه من قوله: (ما أحببت قتله، ولا كرهته)،
وكيف يكون من حكم الله وحكمه أن يقتل وهو لا يحب قتله!
قلنا: يجوز إن يريد بقوله: (ما أحببت قتله ولا كرهته) أن ذلك لم يكن منى على
سبيل التفصيل، ولا خطر لي ببال، وإن كان على سبيل الجملة يحب قتل من غلب المسلمين

(1) كذا في ا، ج، والشافي، وفي ب: (ولا سأل).
66

على أمورهم، وطالبوه بأن يعتزل، لأنه (1) مستول عليهم بغير حق فامتنع من ذلك، ويكون
فائدة هذا الكلام التبرؤ من مباشرة قتله، والامر به على سبيل التفصيل أو النهى عنه. ويجوز
أن يريد أنني ما أحببت قتله، إن كانوا تعمدوا القتل، ولم يقع على سبيل الممانعة وهو غير
مقصود. ويريد بقوله: (ما كرهته) أنى لم أكرهه على كل حال، ومن كل وجه.
فأما لعنه قتلته فقد بينا أنه ليس بظاهر ظهور ما ذكرناه، وإن صح فهو مشروط
بوقوع القتل على الوجه المحظور من تعمد له، وقصد إليه وغير ذلك، على أن المتولي للقتل
على ما صحت به الرواية كنانة بن بشير التجيبي، وسودان بن حمران المرادي، وما منهما
من كان غرضه صحيحا في القتل، ولا له أن يقدم عليه، فهو ملعون به. فأما محمد بن أبي
بكر، فما تولى قتله، وإنما روى أنه لما جثا بين يديه قابضا على لحيته، قال له: يا ابن أخي،
دع لحيتي، فإن أباك لو كان حيا لم يقعد منى هذا المقعد، فقال محمد: إن أبى لو كان حيا
ثم يراك تفعل ما تفعل لا نكره عليك، ثم وجاه (2) بجماعة قداح كانت في يده فحزت في
جلده ولم تقطع، وبادره من ذكرناه في قتله بما كان فيه قتله.
فأما تأويله قول أمير المؤمنين عليه السلام: (قتله الله وأنا معه)، على أن المراد به، الله
أماته وسيميتني، فبعيد من الصواب، لان لفظة (أنا) لا تكون كناية عن المفعول، وإنما
تكون كناية عن الفاعل، ولو أراد ما ذكره لكان يقول: (وإياي معه)، وليس له
أن يقول: إننا نجعل قوله: (وأنا معه) مبتدأ محذوف الخبر، ويكون تقدير الكلام:
(وأنا معه مقتول)، وذلك لان هذا ترك للظاهر وإحالة على ما ليس فيه، والكلام إذا
أمكن حمله على معنى يستقل ظاهره به من غير تقدير وحذف كان أولى مما يتعلق
بمحذوف، على أنهم إذا جعلوه مبتدأ وقدروا خبرا لم يكونوا بأن يقدروا ما يوافق مذهبهم
بأولى من تقدير خلافه، ويجعل بدلا من لفظة (المقتول) المحذوفة لفظة (معين) أو (ظهير).

(1 - 1) ب: (لأنه مسؤول عليه بحق) وما أثبته من ا، ج وكتاب الشافي.
(2) وجأه: ضربه.
67

وإذا تكافأ القولان في التقدير وتعارضا سقطا، ووجب الرجوع إلى ظاهر الخبر، على أن
عثمان مضى مقتولا، فكيف يقال: إن الله تعالى أماته، والقتل كاف في انتفاء الحياة،
ليس يحتاج معه إلى ناف للحياة يسمى موتا.
وقول صاحب،، المغني،، يجوز أن يكون ما ناله من الجراح لا يوجب انتفاء الحياة، ليس
بشئ، لان المروي أنه ضرب على رأسه بعمود عظيم من حديد، وأن أحد قتلته قال:
جلست على صدره فوجأته تسع طعنات، علمت أنه مات في ثلاث، ووجأته الست الاخر
لما كان في نفسي عليه من الحنق.
وبعد: فإذا كان جائزا، فمن أين علمه أمير المؤمنين عليه السلام حتى يقول: إن الله
أماته؟ وإن الحياة لم تنتف بما فعله القاتلون (1)، وإنما انتفت بشئ زاد على فعلهم من قبل الله
تعالى مما (2) لا يعلمه على سبيل التفصيل إلا علام الغيوب سبحانه.
* * *
والجواب عن هذه المطاعن على وجهين، إجمالا وتفصيلا:
أما الوجه الاجمالي، فهو أننا لا ننكر أن عثمان أحدث أحداثا أنكرها كثير
من المسلمين، ولكنا ندعى مع ذلك أنها لم تبلغ درجة الفسق، ولا أخبطت ثوابه،
وأنها من الصغائر التي وقعت مكفرة (3)، وذلك لأنا قد علمنا أنه مغفور له، وأنه من
أهل الجنة لثلاثة أوجه.
أحدها: أنه من أهل بدر، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (إن الله اطلع
على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم)، ولا يقال: إن عثمان لم يشهد
بدرا، لأنا نقول: صدقتم، إنه لم يشهدها، ولكنه تخلف على رقية ابنة رسول الله

(1) الشافي: (القتلة)، وفي ب: (القائلون) تحريف.
(2) كذا في ا، ج والشافي، وفي ب: (فيما).
(3) الصغائر المكفرة: التي يمحى إثمها.
68

صلى الله عليه وآله بالمدينة لمرضها، وضرب له رسول الله صلى الله عليه وآله بسهمه وأجره
باتفاق سائر الناس.
وثانيها: أنه من أهل بيعة الرضوان الذين قال الله تعالى فيهم: (لقد رضى الله
عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) (1) ولا يقال: إنه لم يشهد البيعة تحت
الشجرة، لأنا نقول: صدقتم، إنه لم يشهدها، ولكنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
أرسله إلى أهل مكة، ولأجله كانت بيعة الرضوان، حيث أرجف (2) بأن قريشا قتلت
عثمان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن كانوا قتلوه، لأضرمنها عليهم نارا)، ثم
جلس تحت الشجرة، وبايع الناس على الموت، ثم قال: (إن كان عثمان حيا فأنا أبايع
عنه)، فصفح بشماله على يمينه، وقال: (شمالي خير من يمين عثمان) روى ذلك جميع أرباب
أهل السيرة متفقا عليه.
وثالثها: أنه من جملة العشرة الذين تظاهرت الاخبار بأنهم من أهل الجنة.
وإذا كانت الوجوه الثلاثة دالة على أنه مغفور له، وأن الله تعالى قد رضى عنه، وهو من
أهل الجنة، بطل أن يكون فاسقا، لان الفاسق يخرج عندنا من الايمان، ويحبط (3) ثوابه،
ويحكم له بالنار ولا يغفر له، ولا يرضى عنه، ولا يرى الجنة ولا يدخلها، فاقتضت هذه
الوجوه الصحيحة الثابتة أن يحكم بأن كل ما وقع منه فهو من باب الصغائر المكفرة،
توفيقا بين هذه الوجوه، وبين روايات الاحداث المذكورة.
وإما الوجه التفصيلي فهو مذكور في كتب أصحابنا المطولة في الإمامة، فليطلب من
مظانه، فإنهم قد استقصوا في الجواب عن هذه المطاعن استقصاء لا مزيد عليه.

(1) سورة الفتح 18
(2) يقال: أرجف القوم، إذا خاضوا في الاخبار السيئة وذكر الفتن على أن يوقعوا الناس في الاضطراب.
(3) ب، ج: (ينحبط) وما أثبته عن ا.
69

[بيعة جرير بن عبد الله البجلي لعلى]
فأما خبر جرير بن عبد الله البجلي، وبعث أمير المؤمنين عليه السلام إياه إلى معاوية،
فنحن نذكره نقلا من،، كتاب صفين،، لنصر بن مزاحم بن بشار المنقري، ونذكر
حال أمير المؤمنين عليه السلام، منذ قدم الكوفة بعد وقعة الجمل، ومراسلته معاوية
وغيره، ومراسلة معاوية له ولغيره، وما كان من ذلك في مبدأ حالتهما إلى أن سار علي عليه
السلام إلى صفين.
قال نصر (1): حدثني محمد بن عبيد الله عن الجرجاني، قال: لما قدم علي عليه السلام
الكوفة بعد انقضاء أمر الجمل، كاتب العمال، فكتب إلى جرير بن عبد الله البجلي مع
زحر بن قيس الجعفي - وكان جرير عاملا لعثمان على ثغر همذان - (2):
أما بعد، ف‍ (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله
بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال) (3). وإني أخبرك عن نبأ (4)
من سرنا إليه من جموع طلحة والزبير، عند نكثهم بيعتي (5)، وما صنعوا بعاملي عثمان
بن حنيف. إني نهضت من المدينة بالمهاجرين والأنصار، حتى إذا كنت بالعذيب (6)،
بعثت إلى أهل الكوفة الحسن بن علي، وعبد الله بن عباس، وعمار بن ياسر، وقيس
بن عبادة، فاستنفرتهم فأجابوا فسرت بهم حتى نزلت بظهر البصرة، فأعذرت في

(1) وقعة صفين للمنقري ص 19 وما بعدها.
(2) همذان، بالإعجام: مدينة ببلاد الجبال من فارس.
(3) سورة الرعد 11.
(4) ب: (أنباء).
(5) كتاب صفين: (بيعتهم).
(6) العذيب: ماء عن يمين القادسية لبني تميم، بينه وبين القادسية أربعة أميال (مراصد الاطلاع).
70

الدعاء، وأقلت العثرة، وناشدتهم عهد (1) بيعتهم، فأبوا إلا قتالي، فاستعنت الله عليهم،
فقتل من قتل، وولوا مدبرين إلى مصرهم، و سألوني ما كنت دعوتهم إليه قبل اللقاء،
فقبلت العافية، ورفعت السيف، و استعملت عليهم عبد الله بن العباس، وسرت إلى
الكوفة، وقد بعثت إليك زحر بن قيس، فاسأله عما بدا لك. والسلام.
قال: فلما قرأ جرير الكتاب، قام فقال: أيها الناس، هذا كتاب أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب عليه السلام، وهو المأمون على الدين والدنيا، وقد كان من أمره وأمر
عدوه ما نحمد الله عليه، وقد بايعه الناس الأولون من المهاجرين والأنصار والتابعين
بإحسان، ولو جعل هذا الامر شورى بين المسلمين كان أحقهم بها. ألا وإن البقاء في
الجماعة، والفناء في الفرقة وإن عليا حاملكم على الحق ما استقمتم، فإن ملتم أقام ميلكم.
فقال الناس: سمعا وطاعة، رضينا رضينا.
فكتب جرير إلى علي عليه السلام جواب كتابه بالطاعة.
* * *
قال نصر: وكان (2) مع علي رجل من طيئ، ابن أخت لجرير، فحمل زحر بن قيس
شعرا له إلى خاله جرير، وهو:
جرير بن عبد الله لا تردد الهدى * وبايع عليا إنني لك ناصح
فإن عليا خير من وطئ الحصا * سوى أحمد، والموت غاد ورائح
ودع عنك قول الناكثين فإنما * أولاك - أبا عمرو - كلاب نوابح (3)
وبايع إذا بايعته بنصيحة * ولا يك منها من ضميرك قادح
فإنك إن تطلب بها الدين تعطه * وإن تطلب الدنيا فإنك رابح (4)

(1) صفين (عقد).
(2) صفين: 20، 21.
(3) أبو عمرو، كنية جرير بن عبد الله البجلي.
(4) وقعة صفين: (فبيعك رابح).
71

وإن قلت عثمان بن عفان حقه * على عظيم والشكور مناصح
فحق على إذ وليك كحقه * وشكرك ما أوليت في الناس صالح
وإن قلت لا أرضى عليا إمامنا * فدع عنك بحرا ضل فيه السوابح
أبى الله إلا أنه خير دهره * وأفضل من ضمت عليه الأباطح (1)
* * *
قال نصر: ثم إن جريرا قام في أهل همذان خطيبا، فقال: الحمد لله الذي اختار
لنفسه الحمد، وتولاه دون خلقه، لا شريك له في الحمد، ولا نظير له في المجد، ولا إله
إلا الله وحده، الدائم القائم، إله السماء والأرض، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله
بالنور الواضح، والحق الناطق، داعيا إلى الخير، وقائدا إلى الهدى، ثم قال: أيها
الناس، إن عليا قد كتب إليكم كتابا لا يقال بعده إلا رجيع من القول، ولكن
لا بد من رد الكلام. إن الناس بايعوا عليا بالمدينة عن غير محاباة له ببيعتهم، لعلمه
بكتاب الله وسنن الحق، وإن طلحة والزبير نقضا بيعته على غير محاباة حدثت (2)،
وألبا عليه الناس، ثم لم يرضيا حتى نصبا له الحرب، وأخرجا أم المؤمنين، فلقيهما فأعذر
في الدعاء، وأحسن في البقية، وحمل الناس على ما يعرفون، فهذا عيان ما غاب عنكم،
وإن سألتم الزيادة زدناكم، ولا قوة إلا بالله، ثم قال:
أتانا كتاب على فلم * ترد الكتاب بأرض العجم
ولم نعص ما فيه لما أتى * ولما نذم ولما نلم
ونحن ولاة على ثغرنا * نضيم العزيز ونحمي الذمم
نساقيهم الموت عند اللقاء * بكأس المنايا ونشفي القرم

(1) يريد بهم قريش البطاح، وهم الذين ينزلون بين أخشى مكة، والأخشبان جبلان بها.
(2) ب: (على غير حدث).
72

فصلى الاله على أحمد * رسول المليك تمام النعم (1)
رسول المليك ومن بعده * خليفتنا القائم المدعم
عليا عنيت وصى النبي * نجالد عنه غواة الأمم
له الفضل والسبق والمكرمات * وبيت النبوة لا يهتضم
قال نصر: فسر الناس بخطبة جرير وشعره.
وقال ابن الأزور القسري في جرير يمدحه بذلك:
لعمر أبيك والأنباء تنمى * لقد جلى بخطبته جرير
وقال مقالة جدعت رجالا * من الحيين خطبهم كبير
بدا بك قبل أمته على * ومخك إن رددت الحق رير (2)
أتاك بأمره زحر بن قيس * وزحر بالتي حدثت خبير
فكنت لما أتاك به سميعا * وكدت إليه من فرح تطير
فأنت بما سعدت به ولى * وأنت لما تعد له نصير
وأحرزت الثواب ورب حاد * حدا بالركب ليس له بعير (3)
[بيعة الأشعث لعلي]
قال نصر: (4) وكتب علي عليه السلام إلى الأشعث - وكان عامل عثمان على أذربيجان -

(1) لم يذكر هذا البيت في كتاب صفين، وذكر موضعه:
طحناهم طحنة بالقنا * وضرب سيوف تطير اللمم
مضينا يقينا على ديننا * ودين النبي مجلي الظلم
أمين الاله وبرهانه * خليفتنا القائم المدعم
(2) يقال: مح رير، إذا كان فاسدا.
(3) بعده في كتاب صفين:
ليهنك ما سبقت به رجالا * من العلياء والفضل الكبير
(4) وقعة صفين 24.
73

يدعوه إلى البيعة والطاعة، وكتب جرير بن عبد الله البجلي إلى الأشعث، يحضه على
طاعة أمير المؤمنين عليه السلام، وقبول كتابه: أما بعد، فإني أتتني بيعة على، فقبلتها
ولم أجد إلى دفعها سبيلا، لأني نظرت فيما غاب عنى من أمر عثمان، فلم أجده يلزمني، وقد
شهد المهاجرون والأنصار، فكان أوفق أمرهم فيه الوقوف، فاقبل بيعته، فإنك لا تنقلب
إلى خير منه، و اعلم أن بيعة على خير من مصارع أهل البصرة. والسلام.
قال نصر: فقبل الأشعث البيعة، وسمع وأطاع، وأقبل جرير سائرا من ثغر
همذان حتى ورد علي عليه السلام الكوفة فبايعه، ودخل فيما دخل فيه الناس من (1)
طاعته ولزوم أمره.
[دعوة على معاوية إلى البيعة والطاعة، ورد معاوية عليه]
قال نصر: (2) فلما أراد علي عليه السلام أن يبعث إلى معاوية رسولا، قال له
جرير: ابعثني يا أمير المؤمنين إليه، فإنه لم يزل لي مستخصا (3) وودا (4)، آتيه (5)
فأدعوه، على أن يسلم لك هذا الامر، ويجامعك على الحق، على أن يكون أميرا من
أمرائك، وعاملا من عمالك، ما عمل بطاعة الله، واتبع ما في كتاب الله، و أدعو أهل
الشام إلى طاعتك وولايتك، فجلهم قومي وأهل بلادي، وقد رجوت ألا يعصوني.
فقال له الأشتر: لا تبعثه ولا تصدقه، فوالله إني لأظن هواه هواهم، و نيته نيتهم.
فقال له علي عليه السلام: دعه حتى ننظر ما يرجع به إلينا. فبعثه علي عليه السلام،
وقال له عليه السلام حين أراد أن يبعثه: إن حولي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم من أهل الرأي والدين من قد رأيت، وقد اخترتك عليهم لقول رسول الله فيك:

(1) ب: (في).
(2) وقعة صفين للمنقري 32 وما بعدها.
(3) كذا في الأصول، وفي صفين. (مستنصحا).
(4) ودا، بضم الواو، أي ذا ود، على حذف المضاف.
(5) كتاب صفين. (نأتيه).
74

(إنك من خير ذي يمن) (1)، ائت معاوية بكتابي، فإن دخل فيما دخل فيه المسلمون،
وإلا فانبذ (2) إليه وأعلمه أنى لا أرضى به أميرا، وأن العامة لا ترضى به خليفة.
فانطلق جرير حتى أتى الشام، ونزل بمعاوية، فلما دخل عليه حمد الله وأثنى عليه،
وقال: أما بعد يا معاوية، فإنه قد اجتمع لابن عمك أهل الحرمين، وأهل المصرين، وأهل
الحجاز، وأهل اليمن، وأهل مصر، وأهل العروض - والعروض عمان - وأهل البحرين
واليمامة، فلم يبق إلا هذه الحصون التي أنت فيها، لو سال عليها سيل من أوديته غرقها،
وقد أتيتك أدعوك إلى ما يرشدك ويهديك إلى مبايعة هذا الرجل. ودفع إليه كتاب علي عليه
السلام، وفيه:
أما بعد، فإن بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام، لأنه بايعني القوم الذين بايعوا
أبا بكر وعمر وعثمان، على ما بويعوا عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يرد،
وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، إذا اجتمعوا على رجل فسموه (3) إماما، كان ذلك لله
رضا، فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو رغبة ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه
على اتباع سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى، ويصليه جهنم وساءت مصيرا. وإن طلحة
والزبير بايعاني ثم نقضا بيعتي، فكان نقضهما كردتهما، فجاهدتهما على ذلك، حتى جاء
الحق، وظهر أمر الله وهم كارهون. فادخل فيما دخل فيه المسلمون، فإن أحب الأمور
إلى فيك العافية، إلا أن تتعرض للبلاء، فإن تعرضت له قاتلتك، واستعنت بالله عليك.
وقد أكثرت في قتله عثمان، فادخل فيما دخل فيه الناس، ثم حاكم القوم إلى أحملك

(1) أي من خير أهل اليمن.
(2) فانبذ إليه، في اللسان: (المنابذة: أن يكون بين فريقين مختلفين عهد وهدنة بعد القتال، ثم
أرادا نقض ذلك العهد، فينبذ كل فريق منهما إلى صاحبه العهد الذي تهادنا عليه، ومنه قوله تعالى:
(وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء).
(3) ب: (وسموه).
75

وإياهم على كتاب الله، فأما تلك التي تريدها فخدعه الصبي عن اللبن ولعمري لئن نظرت
بعقلك دون هواك، لتجدني أبرأ قريش من دم عثمان. واعلم أنك من الطلقاء (1) الذين
لا يحل لهم الخلافة، ولا تعرض فيهم الشورى. وقد أرسلت إليك [وإلى من قبلك] (2)
جرير بن عبد الله البجلي، وهو من أهل الايمان والهجرة، فبايع، ولا قوة إلا بالله.
* * *
فلما قرأ الكتاب، قام جرير فخطب، فقال:
الحمد لله المحمود بالعوائد، والمأمول منه الزوائد، المرتجى منه الثواب، المستعان على
النوائب، أحمده وأستعينه في الأمور التي تحير دونها الألباب، [وتضمحل عندها
الأسباب] (2)، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كل شئ هالك إلا وجهه،
له الحكم وإليه ترجعون. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بعد فترة من الرسل
الماضية والقرون الخالية، [والأبدان البالية، والجبلة الطاغية] (2)، فبلغ الرسالة، ونصح
للأمة، وأدى الحق الذي استودعه الله، وأمره بأدائه إلى أمته صلى الله عليه وسلم، من
رسول ومبتعث ومنتجب (3).
أيها الناس، إن أمر عثمان قد أعيا من شهده، فكيف بمن غاب عنه! وإن الناس
بايعوا عليا غير واتر ولا موتور، وكان طلحة والزبير ممن بايعاه ثم نكثا بيعته على غير
حدث، ألا وإن هذا الدين لا يحتمل الفتن، [ألا وإن العرب لا تحتمل الفتن] (2)،
وقد كانت بالبصرة أمس روعة ملحمة إن يشفع البلاء بمثلها فلا بقاء للناس.

(1) الطلقاء: جمع طليق، وهم الأسارى الذين أطلقهم الرسول عليه السلام يوم فتح مكة ولم يسترقهم.
(2) تكملة من كتاب صفين.
(3) المنتجب: المصطفى المختار.
76

وقد بايعت الأمة (1) عليا، ولو ملكنا والله الأمور (2)، لم نختر لها غيره [ومن خالف
هذا استعتب] (3) فادخل يا معاوية فيما دخل فيه الناس.
فإن قلت: استعملني عثمان ثم لم يعزلني، فإن هذا قول لو جاز لم يقم لله دين، وكان
لكل امرئ ما في يديه، ولكن الله جعل للآخر من الولاة حق الأول، وجعل الأمور
موطأة ينسخ بعضها بعضا
ثم قعد.
قال نصر: فقال معاوية: أنظر وتنظر، وأستطلع رأى أهل الشام.
فمضت أيام، وأمر معاوية مناديا ينادى: الصلاة جامعة! فلما اجتمع الناس صعد المنبر،
ثم قال:
الحمد لله الذي جعل الدعائم للاسلام أركانا، والشرائع للايمان برهانا، يتوقد قبسه
في الأرض المقدسة، جعلها الله محل الأنبياء والصالحين من عباده، فأحلهم أرض الشام (4)،
ورضيهم لها، ورضيها لهم، لما سبق في مكنون علمه من طاعتهم ومناصحتهم خلفاءه،
والقوام بأمره، والذابين عن دينه وحرماته، ثم جعلهم لهذه الأمة نظاما، وفي سبيل
الخيرات أعلاما، يردع الله بهم الناكثين، ويجمع بهم ألفة المؤمنين، والله نستعين على
ما تشعب من أمر المسلمين بعد الالتئام، وتباعد بعد القرب اللهم انصرنا على أقوام يوقظون
نائمنا، ويخيفون آمننا، ويريدون إراقة (5) دمائنا، وإخافة سبلنا. وقد علم الله أنا
لا نريد لهم (6) عقابا، ولا نهتك لهم حجابا، ولا نوطئهم زلقا، غير أن الله الحميد كسانا

(1) صفين: (العامة).
(2) صفين: (أمورنا).
(3) من صفين.
(4) صفين: (فأحلها أهل الشام).
(5) صفين: (هراقة دمائنا)، وهما بمعنى.
(6) صفين: (لم نرد بهم عقابا).
77

من الكرامة ثوبا لن ننزعه طوعا، ما جاوب الصدى، وسقط الندى، وعرف الهدى،
حملهم على ذلك البغي والحسد، فنستعين الله عليهم. أيها الناس، قد علمتم أنى خليفة أمير
المؤمنين عمر بن الخطاب وخليفة أمير المؤمنين عثمان بن عفان عليكم، وأنى لم أقم رجلا منكم على
خزاية (1) قط، وأنى ولى عثمان، وقد قتل مظلوما، والله تعالى يقول: (ومن قتل
مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا) (2)،
وأنا أحب أن تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان.
فقام أهل الشام بأجمعهم، فأجابوا إلى الطلب بدم عثمان، وبايعوه على ذلك، وأوثقوا له
على أن يبذلوا بين يديه أموالهم وأنفسهم، حتى يدركوا بثأره أو تلتحق أرواحهم بالله.
قال نصر: فلما أمسى معاوية اغتم بما هو فيه، وجنه الليل وعنده أهل بيته، فقال:
تطاول ليلى واعترتني وساوسي * لات أتى بالترهات البسابس (3)
أتاني والحوادث جمة * بتلك التي فيها اجتداع المعاطس
أكايده والسيف بيني وبينه * ولست لأثواب الدنئ بلابس
إن الشام أعطت طاعة يمنية * تواصفها أشياخها في المجالس
فإن يفعلوا أصدم عليا بجبهة * تفت عليه كل رطب ويابس
وإني لأرجو خير ما نال نائل * وما أنا من ملك العراق بايس (4)
قلت: الجبهة هاهنا: الخيل، ومنه قول النبي صلى الله عليه وآله: (ليس في الجبهة
صدقة)، أي زكاة.
* * *

(1) أقامهم على الخزاية، أي حملهم على أمر يستحيا منه.
(2) سورة الإسراء 33.
(3) البسابس: الأمور الباطلة. والأبيات والخبر في الكامل 1: 326.
(4) الكامل: (بيائس).
78

قال نصر: فاستحثه (1) جرير بالبيعة، فقال: يا جرير، إنها ليست بخلسة، وإنه
أمر له ما بعده، فأبلعني ريقي [حتى أنظر] (2)، ودعا ثقاته (3)، فأشار عليه أخوه بعمرو
بن العاص، وقال له: إنه من قد عرفت، وقد اعتزل عثمان في حياته، وهو لأمرك
أشد اعتزالا إلا أن يثمن له دينه.
وقد ذكرنا فيما تقدم خبر استدعائه عمرا، وما شرط له من ولاية مصر، و استقدامه
شرحبيل بن السمط رئيس اليمنية وشيخها والمقدم عليها، وتدسيس الرجال إليه يغرونه
بعلي عليه السلام، ويشهدون عنده أنه قتل عثمان، حتى ملئوا صدره وقلبه حقدا وترة
وإحنة على علي عليه السلام وأصحابه بما لا حاجة إلى إعادته (4).
* * *
قال نصر: فحدثني محمد بن عبيد الله عن الجرجاني، قال:
(5) جاء شرحبيل إلى حصين بن نمير، فقال: ابعث إلى جرير فليأتنا، فبعث حصين
بن نمير إلى جرير: أن زرنا فعندنا شرحبيل، فاجتمعا عند حصين، فتكلم شرحبيل،

(1) وقعة صفين 249
(2) من كتاب وقعة صفين
(3 - 3) وقعة صفين: (فقال له عتبة بن أبي سفيان - وكان نظيره -: اجتمعن على هذا الامر بعمرو
ابن العاس، وأثمن له بدينه، فإنه من قد عرفت، وقد اعتزل أمر عثمان في حياته، وهو لأمرك أشد
اعتزالا إلا أن يرى فرصة).
(4) الجزء الثاني في ص 61 وما بعدها.
(5) صدر هذا الخبر كما ورد في كتاب وقعة صفين 52: (لما قدم شرحبيل على معاوية تلقاه الناس
فأعظموه، ودخل على معاوية، فتكلم معاوية فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا شرحبيل، إن جرير بن
عبد الله يدعونا إلى بيعة على، وعلى خير الناس لولا أنه قتل عثمان بن عفان، وقد حبست نفسي عليك،
وإنما أنا رجل من أهل الشام، أرضى ما رضوا، وأكره ما كرهوا، فقال شرحبيل: أخرج فأنظر،
فخرج فلقيه هؤلاء النفر الموطئون له، فكلهم يخبره بأن عليا قتل عثمان بن عفان. فخرج مغضبا إلى معاوية
فقال: يا معاوية، أبى الناس إلا أن عليا قتل عثمان، ووالله لئن بايعت لنخرجنك من الشام أو لنقتلنك.
قال معاوية: ما كنت لأخالف عليكم، وما أنا إلا رجل أهل الشام. قال: فرد هذا الرجل إلى صاحبه إذا
قال، فعرف معاوية أن شرحبيل قد نفذت بصيرته في حرب أهل العراق، وأن الشام كله مع شرحبيل،
فخرج شرحبيل فأتى حصين بن نمير...)، وقد نقله المؤلف مختصرا فيما سبق في الجزء الثاني ص 52 - 53.
79

فقال: يا جرير أتيتنا بأمر ملفف (1) لتلقينا في لهوات الأسد، وأردت أن تخلط الشام
بالعراق، وأطريت (2) عليا، وهو قاتل عثمان، والله سائلك عما قلت يوم القيامة.
فأقبل عليه جرير وقال: يا شرحبيل، أما قولك: إني جئت بأمر ملفف، فكيف
يكون ملففا وقد اجتمع عليه المهاجرون والأنصار، وقوتل على رده طلحة والزبير!
وأما قولك: إني ألقيك في لهوات الأسد، ففي لهواتها ألقيت نفسك.
وأما خلط أهل الشام بأهل العراق، فخلطهما على حق خير من فرقتهما
على باطل.
وأما قولك: إن عليا قتل عثمان، فوالله ما في يديك من ذلك إلا القذف
بالغيب من مكان بعيد، ولكنك ملت إلى الدنيا، وشئ كان في نفسك على زمن سعد
بن أبي وقاص.
فبلغ ما قالاه إلى معاوية، فبعث إلى جرير فزجره. قال نصر: وكتب إلى شرحبيل
كتاب لا يعرف كاتبه (3) فيه:
شرحبيل يا بن السمط: لا تتبع الهوى * فما لك في الدنيا من الدين من بدل
ولا تك كالمجري إلى شر غاية * فقد خرق السربال واستنوق الجمل
وقل لابن حرب: ما لك اليوم خلة * تروم بها ما رمت واقطع له الامل (4)
شرحبيل: إن الحق قد جد جده * فكن فيه مأمون الأديم من النغل
وأرود ولا تفرط بشئ نخافه * عليك، ولا تعجل، فلا خير في العجل (5)

(1) أي جلب من هنا وهاهنا.
(2) صفين: (أطرأت)، وهما بمعنى: (مدحت).
(3) وقعة صفين: (وكتب جرير إلى شرحبيل).
(4) وقعة صفين: (مالك اليوم حرمة... واقطع).
(5) الإرواد: الامهال، والفرط: السبق.
80

مقال ابن هند في علي عضيهة * ولله في صدر بن أبي طالب أجل (1)
على في ابن عفان سقطة * بقول، ولا ما لا عليه ولا قتل (2)
وما كان إلا لازما قعر بيته * إلى أن أتى عثمان في داره الاجل
فمن قال قولا غير هذا فحسبه * من الزور والبهتان بعض الذي احتمل (3)
وصى رسول الله من دون أهله * ومن باسمه في فضله يضرب المثل.
قال نصر: فلما قرأ شرحبيل الكتاب ذعر وفكر، وقال: هذه نصيحة لي في ديني،
ولا والله لا أعجل في هذا الامر بشئ [وفي نفسي منه حاجة] (4)، وكاد (5) يحول عن نصر
معاوية ويتوقف، فلفق (6) له معاوية الرجال يدخلون إليه ويخرجون، ويعظمون عنده قتل
عثمان، ويرمون به عليا، ويقيمون الشهادة الباطلة، والكتب المختلقة، حتى أعادوا
رأيه، وشحذوا عزمه (7).
* * *

(1) العضيهة: الإفك والبهتان. وفى ب: (وقال ابن هند)، والوجه ما أثبته من ج.
(2) مالا عليه، أصله: (مالا) بالهمز، والممالاة: المعاونة. وفى صفيه: (ولا جلب عليه).
(3) في صفين:
* من الزور والبهتان قول الذي احتمل *
(4) من كتاب وقعة صفين.
(5 - 5) في وقعة صفين: (واستتر له القوم).
(6) كذا في ج، وفى ا، ب، (فلقوله) تصحيف، وفى صفين: (فلفف).
(7) بقية الخبر في كتاب كتاب وقعة صفين: (وبلغ ذلك قومه، فبعث ابن أخت له من بارق - وكان
يرى رأى علي بن أبي طالب - فبايعه بعد، وكان ممن لحق من أهل الشام، وكان ناسكا، فقال:
لعمر أبى الأشقى ابن هند لقد رمى * شرحبيل بالسهم الذي هو قاتله
ولفف قوما يسحبون ذيولهم * جميعا وأولى الناس بالذنب فاعله
فألفى يمانيا ضعيفا نخاعه * إلى كل ما يهوون تحدى رواحله
فطأطأ لها لما رموه بثقلها * ولا يرزق التقوى من الله خاذله
ليأكل دنيا لابن هند بدينه * ألا وابن هند قبل ذلك آكله
وقالوا على في ابن عفان * خدعة ودبت إليه بالشنان غوائله
ولا والذي أرسى ثبيرا مكانه * لقد كف عنه كفه ووسائله
وما كان إلا من صحاب محمد * وكلهم تغلي عليه مراجله
فلما بلغ شرحبيل هذا القول قال: هذا بعيث الشيطان، الان امتحن الله قلبي، والله لأسيرن صاحب
هذا الشعر أو ليفوتنني، فهرب الفتى إلى الكوفة - وكان أصله منها - وكاد أهل الشام أن يرتابوا.
81

قال نصر: وحدثنا (1) عمر بن سعد بإسناده قال: (2) بعث معاوية إلى شرحبيل
ابن السمط:
إنه قد كان من إجابتك إلى الحق، وما وقع فيه أجرك على الله، وقبله عنك
صلحاء الناس ما علمت، وإن هذا الامر الذي نحن فيه لا يتم إلا برضا العامة، فسر في
مدائن الشام، وناد فيهم بأن عليا قتل عثمان، وأنه يجب على المسلمين أن يطلبوا بدمه.
فسار شرحبيل، فبدأ بأهل حمص، فقام فيهم خطيبا - وكان مأمونا في أهل الشام
ناسكا متألها، فقال:
أيها الناس، إن عليا قتل عثمان، فغضب له قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه،
فلقيهم فهزم الجمع، وقتل صلحاءهم وغلب على الأرض، فلم يبق إلا الشام، وهو واضع سيفه
على عاتقه، ثم خائض غمرات (3) الموت، حتى يأتيكم أو يحدث الله أمرا، ولا نجد أحدا
أقوى على قتاله من معاوية، فجدوا وانهضوا.
فأجابه الناس كلهم إلا نساكا من أهل حمص، فإنهم قالوا له: بيوتنا قبورنا
ومساجدنا، وأنت أعلم بما ترى.
قال: وجعل شرحبيل يستنهض مدائن الشام حتى استفرغها، لا يأتي على قوم إلا قبلوا

(1) صفين 56،.
(2) في صفين: (محمد بن عبيد الله وعمر بن سعد بإسناده، قال).
(3) صفين: (غمار الموت).
82

ما أتاهم به، فبعث إليه النجاشي بن الحارث (1) - وكان له صديقا:
شرحبيل ما للدين فارقت ديننا (2) * ولكن لبغض المالكي جرير
وشحناء دبت بين سعد وبينه * فأصبحت كالحادي بغير بعير
[وما أنت إذ كانت بجيلة عاتبت * قريشا فيا لله بعد نصير] (3)
أتفصل أمرا غبت عنه بشبهة * وقد حار فيه عقل كل بصير
بقول رجال لم يكونوا أئمة * ولا للتي لقوكها بحضور
[وما قول قوم غائبين تقاذفوا * من الغيب ما دلاهم بغرور] (3)
وتترك أن الناس أعطوا عهودهم * عليا على أنس به وسرور
إذا قيل هاتوا واحدا يقتدى به (4) * نظيرا له لم يفصحوا بنظير
لعلك أن تشقى الغداة بحربه * فليس الذي قد جئته بصغير.
* * *
قال نصر: وحدثنا (5) عمر بن سعد عن نمير بن وعلة، عن الشعبي، أن شرحبيل بن السمط
بن الأسود بن جبلة [الكندي] (3) دخل على معاوية، فقال له: أنت عامل أمير المؤمنين
وابن عمه، ونحن المؤمنون، فإن كنت رجلا تجاهد عليا وقتلة عثمان حتى ندرك ثارنا
أو تذهب أرواحنا استعملناك علينا، وإلا عزلناك واستعملنا غيرك ممن نريد، ثم جاهدنا
معه حتى ندرك بدم عثمان أو نهلك.
فقال جرير بن عبد الله - وكان حاضرا: مهلا يا شرحبيل، فإن الله قد حقن الدماء،
ولم الشعث، وجمع أمر الأمة، ودنا من هذه الأمة سكون، فإياك أن تفسد بين الناس،

(1) في حواشي صفين: (والمعروف في شعرائهم النجاشي الحارثي، واسمه قيس بن عمرو بن مالك:
من بنى الحارث بن كعب، وهو ممن حده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لشربه الخمر).
(2) وقعة صفين: (أمرنا).
(3) من كتاب وفعة صفين.
(4) وقعة صفين: (تقتدونه).
(5) وقعة صفين 57، 58.
83

وأمسك عن هذا القول قبل أن يشيع ويظهر عنك قول لا تستطيع رده، فقال: لا والله
لا أسره أبدا. ثم قام فتكلم به، فقال الناس: صدق صدق! القول ما قال، والرأي
ما رأى. فأيس جرير عند ذلك من معاوية ومن عوام أهل الشام.
* * *
قال نصر: (1) وحدثني محمد بن عبيد الله، عن الجرجاني، قال: كان معاوية قد أتى
جريرا قبل ذلك في منزله، فقال له: يا جرير، إني قد رأيت رأيا، قال: هاته، قال: اكتب
إلى صاحبك يجعل لي الشام ومصر جباية، فإذا حضرته الوفاة لم يجعل لأحد بعده في عنقي
بيعة، وأسلم له هذا الامر، وأكتب إليه بالخلافة. فقال جرير: اكتب ما أردت أكتب
معك (2).
فكتب معاوية بذلك إلى علي، فكتب علي عليه السلام إلى جرير:
أما بعد، فإنما أراد معاوية ألا يكون لي في عنقه بيعة، وأن يختار من أمره
ما أحب، وأراد أن يريثك ويبطئك حتى يذوق أهل الشام، وإن المغيرة بن شعبة
قد كان أشار على أن أستعمل معاوية على الشام، وأنا حينئذ بالمدينة، فأبيت ذلك
عليه، ولم يكن الله ليراني أتخذ المضلين عضدا، فإن بايعك الرجل، وإلا فأقبل والسلام.
* * *
قال نصر: وفشا (3) كتاب معاوية في العرب، فبعث إليه الوليد بن عقبة:
معاوي إن الشام شامك فاعتصم * بشامك لا تدخل عليك الأفاعيا
وحام عليها بالصوارم والقنا * ولا تك موهون الذراعين وانيا (4)
وإن عليا ناظر ما تجيبه * فأهد له حربا تشيب النواصيا

(1) وقعة صفين 58.
(2) صفين: (اكتب بما أردت وأكتب معك).
(3) صفين 59، 60.
(4) صفين: (بالقنابل... محشوش الذراعين).
84

وإلا فسلم إن في السلم راحة * لمن لا يريد الحرب فاختر معاويا
وإن كتابا يا بن حرب كتبته * على طمع، يزجي إليك الدواهيا
سألت عليا فيه ما لن تناله * ولو نلته لم يبق إلا لياليا
وسوف ترى منه التي ليس بعدها * بقاء، فلا تكثر عليك الأمانيا
أمثل على تعتريه بخدعة * وقد كان ما جربت من قبل كافيا!
قال: وكتب الوليد بن عقبة إلى معاوية أيضا يوقظه ويشير عليه بالحرب، وألا يكتب
جواب جرير:
معاوي إن الملك قد جب غاربه * وأنت بما في كفك اليوم صاحبه
أتاك كتاب من على بخطة * هي الفصل فاختر سلمه أو تحاربه
فلا ترج عند الواترين مودة * ولا تأمن اليوم الذي أنت راهبه
وحاربه إن حاربت حرب ابن حرة * وإلا فسلم لا تدب عقاربه (1)
فإن عليا غير ساحب ذيله * على خدعة ما سوغ الماء شاربه
[ولا قابل ما لا يريد وهذه * يقوم بها يوما عليه نوادبه] (2)
فلا تدعن الملك والامر مقبل * وتطلب ما أعيت عليك مذاهبه (3)
فإن كنت تنوى أن تجيب كتابه * فقبح ممليه وقبح كاتبه
وإن كنت تنوى أن ترد كتابه * وأنت بأمر لا محالة راكبه
فألق إلى الحي اليمانين كلمة * تنال بها الامر الذي أنت طالبه
تقول: أمير المؤمنين أصابه * عدو ومالأهم عليه أقاربه
أفانين منهم قائل ومحرض * بلا تره كانت، وآخر سالبه

(1) ب: (حرا بن حرة)، والصواب ما أثبته من ا، ج وكتاب صفين.
(2) من كتاب صفين.
(3) ب: (عليه)، والصواب ما أثبته من ج وصفين.
85

وكنت أميرا قبل بالشام فيكم * فحسبي وإياكم من الحق واجبه
فجيئوا، ومن أرسى ثبيرا مكانه * ندافع بحرا لا ترد غواربه (1)
فأقلل وأكثر ما لها اليوم صاحب * سواك، فصرح لست ممن تواربه
قال نصر: وخرج (2) جرير يوما يتجسس الاخبار، فإذا هو بغلام يتغنى على قعود له،
هو يقول:
حكيم وعمار الشجا ومحمد * وأشتر والمكشوح جروا الدواهيا (3)
وقد كان فيها للزبير عجاجة * وصاحبه الأدنى أثاروا الدواهيا (4)
فأما على فاستجار ببيته * فلا آمر فيها ولم يك ناهيا
فقل في جميع الناس ما شئت بعده * فلو قلت: أخطأ الناس لم تك خاطيا
وإن قلت: عم القوم فيه بفتنة * فحسبك من ذاك الذي كان كافيا
فقولا لأصحاب النبي محمد * وخصا الرجال الأقربين الا دانيا:
أيقتل عثمان بن عفان بينكم * على غير شئ ليس إلا تعاميا
فلا نوم حتى نستبيح حريمكم * ونخضب من أهل الشنان العواليا
فقال جرير: يا بن أخي، من أنت؟ فقال: غلام من قريش، وأصلي من ثقيف،
أنا ابن المغيرة بن الأخنس بن شريق، قتل أبى مع عثمان يوم الدار. فعجب جرير

(1) كذا في ج، وصفين وفى ا، ب: (تجيبوا)، والغوارب: أعالي الموج.
(2) وقعة صفين 60.
(3) حكيم بن جبلة بن حصن العبدي، كان عثمان بعثه إلى السند، ثم نزل البصرة، وقتل بها يوم
الجمل. وعمار بن ياسر، ومحمد بن أبي بكر الصديق، والأشتر: مالك بن الحارث. والمكشوح المرادي،
واسمه هبيرة بن هلال، ونسبه في بجيلة.
(4) صفين: (أشاب النواصيا).
86

من شعره وقوله، و كتب بذلك إلى علي عليه السلام، فقال على: والله ما أخطأ
الغلام شيئا.
* * *
قال نصر: (1) وفي حديث صالح بن صدقة، قال: أبطأ جرير عند معاوية حتى اتهمه
الناس، وقال علي عليه السلام: قد وقت لجرير وقتا لا يقيم بعده إلا مخدوعا أو عاصيا،
وأبطأ على على حتى أيس منه.
قال: وفي حديث محمد وصالح بن صدقة، قالا: فكتب علي عليه السلام إلى
جرير بعد ذلك:
إذا أتاك كتابي هذا فاحمل معاوية على الفصل، ثم خيره وخذه بالجواب بين حرب
مخزية (2) أو سلم محظية، فإن اختار الحرب فانبذ إليه، وإن اختار السلم فخذه ببيعته.
والسلام.
قال: فلما انتهى الكتاب إلى جرير أتى معاوية، فاقرأه الكتاب، و قال له:
يا معاوية، إنه لا يطبع على قلب إلا بذنب، ولا يشرح صدر إلا بتوبة، ولا أظن
قلبك إلا مطبوعا عليه، أراك قد وقفت بين الحق والباطل، كأنك تنتظر شيئا في
يد غيرك.
فقال معاوية: ألقاك بالفصل (3) في أول مجلس إن شاء الله.
فلما بايع معاوية أهل الشام بعد أن ذاقهم، قال: يا جرير الحق بصاحبك، وكتب
إليه بالحرب، وكتب في أسفل الكتاب شعر كعب بن جعيل:
أرى الشام تكره أهل العراق * وأهل العراق لهم كارهونا

(1) وقعة صفين 61.
(2) صفين: (مجلبة).
(3) صفين: (بالفيصل).
87

وقد ذكرنا هذا الشعر فيما تقدم.
* * *
وقال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في كتاب،، الكامل،، (1): إن عليا عليه
السلام لما أراد أن يبعث جريرا إلى معاوية، قال: والله يا أمير المؤمنين ما أدخرك
من نصرتي شيئا، وما أطمع لك في معاوية. فقال علي عليه السلام: إنما قصدي حجة
أقيمها [عليه]. (2) فلما أتى جرير معاوية دافعه بالبيعة، فقال له جرير: إن المنافق لا يصلى
حتى لا يجد من الصلاة بدا. فقال معاوية: إنها ليست بخدعة الصبي عن اللبن، فأبلغني
ريقي (3)، إنه أمر له ما بعده.
قال: وكتب مع جرير إلى علي عليه السلام جوابا عن كتابه إليه: من معاوية بن
صخر إلى علي بن أبي طالب، أما بعد فلعمري لو بايعك القوم الذين بايعوك وأنت
برئ من دم عثمان كنت كأبي بكر وعمر وعثمان، ولكنك أغريت بعثمان المهاجرين،
وخذلت عنه الأنصار، فأطاعك الجاهل، وقوى بك الضعيف، وقد أبى أهل الشام
إلا قتالك، حتى تدفع إليهم قتله عثمان، فإن فعلت كانت شورى بين المسلمين، ولعمري
(4) ليس حججك على كحججك على طلحة والزبير، لأنهما بايعاك ولم أبايعك،
وما حجتك على أهل الشام كحجتك على أهل البصرة، لان أهل البصرة أطاعوك
ولم يطعك أهل الشام. فأما شرفك في الاسلام، وقرابتك من النبي صلى الله عليه وموضعك
من قريش، فلست أدفعه.

(1) الكامل 3: 209 وما بعدها - بشرح المرصفي، مع تصرف في الخبر.
(2) من كتاب الكامل.
(3) أي أنظرني بمقدار ما أبلع ريقي.
(4 - 4) الكامل: (ما حجتك على كحجتك عل طلحة...).
88

ثم كتب في آخر الكتاب شعر كعب بن جعيل الذي أوله:
أرى الشام تكره أهل العراق * وأهل العراق لهم كارهونا
* * *
قال أبو العباس المبرد (1) رحمه الله تعالى: (2) فكتب إليه علي عليه السلام جوابا
عن كتابه هذا:
من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى معاوية بن صخر بن حرب:
أما بعد، فإنه أتاني منك كتاب امرئ ليس له بصر يهديه، ولا قائد يرشده،
دعاه الهوى فأجابه، وقاده الضلال فاتبعه، زعمت أنك إنما أفسد عليك بيعتي خطيئتي
في عثمان، ولعمري ما كنت إلا رجلا من المهاجرين، أوردت كما أوردوا، وأصدرت
كما أصدروا، وما كان الله ليجمعهم على الضلال، ولا ليضربهم بالعمى. وبعد فما أنت
وعثمان! إنما أنت رجل من بنى أمية، وبنو عثمان أولى بمطالبة دمه، فإن زعمت أنك
أقوى على ذلك، فادخل فيما دخل فيه المسلمون، ثم حاكم القوم إلى. وأما تمييزك بينك
وبين طلحة والزبير، وبين أهل الشام وأهل البصرة، فلعمري ما الامر فيما هناك
إلا سواء، لأنها بيعة شاملة لا يستثنى فيها الخيار، ولا يستأنف فيها النظر. وأما شرفي
في الاسلام وقرابتي من رسول الله صلى الله عليه، وموضعي من قريش، فلعمري لو استطعت
دفعه لدفعته.
قال: ثم دعا النجاشي، أحد بنى الحارث بن كعب، فقال له: إن ابن جعيل شاعر
أهل الشام، وأنت شاعر أهل العراق، فأجب الرجل. فقال: يا أمير المؤمنين، أسمعني قوله،
قال: إذن أسمعك شعر شاعر، ثم أسمعه، فقال النجاشي يجيبه:

(1) في الكامل 3: 224 - بشرح المرصفي، وذكره المنقري في كتاب صفين 64، 65.
(2 - 2) في الكامل: فكتب إليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه جواب هذه الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم من علي بن أبي طالب إلى معاوية بن صخر).
89

دعا يا معاوي ما لن يكونا * فقد حقق الله ما تحذرونا
أتاكم على بأهل العراق * وأهل الحجاز فما تصنعونا! (1)
على كل جرداء خيفانة * وأشعث نهد يسر العيونا (2)
عليها فوارس مخشية * كأسد العرين حمين العرينا
يرون الطعان خلال العجاج * وضرب الفوارس في النقع دينا (3)
هم هزموا الجمع جمع الزبير * وطلحة والمعشر الناكثينا
وآلوا يمينا على حلفة * لنهدي إلى الشام حربا زبونا (4)
تشيب النواهد قبل المشيب * وتلقى الحوامل منها الجنينا (5)
فإن تكرهوا الملك ملك العراق * فقد رضى القوم ما تكرهونا
فقل للمضلل من وائل * ومن جعل الغث يوما سمينا
جعلتم عليا وأشياعه * نظير ابن هند، أما تستحونا!
إلى أفضل الناس بعد الرسول * وصنو الرسول من العالمينا
وصهر الرسول ومن مثله * إذا كان يوم يشيب القرونا!
قلت: أبيات كعب بن جعيل خير من هذه الأبيات، وأخبث مقصدا
وأدهى وأحسن.
وزاد نصر بن مزاحم في هذه الرسالة بعد قوله: (ولا ليضربهم بالعمى):
(وما ألبت (6) فتلزمني خطيئة الامر، ولا قتلت فيجب على القصاص. وأما قولك إن

(1) لم يذكر المبرد في الكامل سوى البيتين الأولين، وقال: (وبعد هذا ما نمسك عنه).
(2) الجرداء: الفرس القصيرة الشعر. والخيفانة: الخفيفة الوثابة. والنهد من الخيل: الجسيم المشرف
(3) النقع: التراب.
(4) صفين: (وقالوا). والايلاء: الجلف.
(5) صفين: (تشيب النواهد).
(6) ما ألبت، أي ما حرضت. وفي صفين: (وما أمرت).
90

أهل الشام هم الحكام على أهل الحجاز، فهات رجلا من أهل الشام يقبل في الشورى،
أو تحل له الخلافة، فإن زعمت ذلك كذبك المهاجرون والأنصار، وإلا أتيتك به من
قريش الحجاز. وأما ولوعك بي في أمر عثمان، فما قلت ذلك عن حق العيان،
ولا يقين الخبر (1).
وهذه الزيادة التي ذكرها نصر بن مزاحم تقتضي أنه كان في كتاب معاوية إليه
عليه السلام أن أهل الشام هم الحكام على أهل الحجاز، وما وجدنا هذا الكلام
في كتابه.
* * *
[أخبار متفرقة]
وروى نصر بن مزاحم، قال: لما (2) قتل عثمان ضربت الركبان إلى الشام بقتله،
فبينا معاوية يوما إذا أقبل رجل متلفف، فكشف عن وجهه، وقال لمعاوية: يا أمير المؤمنين،
أتعرفني؟ قال: نعم، أنت الحجاج بن خزيمة بن الصمة، فأين تريد؟ قال إليك القربان،
أنعى ابن عفان، ثم قال:
إن بنى عمك عبد المطلب * هم قتلوا شيخكم غير كذب
وأنت أولى الناس بالوثب فثب * واغضب معاوي للإله واحتسب
وسر بنا سير الجرير المتلئب * وانهض بأهل الشام ترشد وتصب
* ثم اهزز الصعدة للشأس الشغب (3) *
قال: يعنى عليا عليه السلام.
قلت: المتلئب المستقيم المطرد، يقال: هذا قياس متلئب، أي مستمر مطرد.

(1) الخبر: العلم.
(2) وقعة صفين 86، 87.
(3) الصعدة، بالفتح: القناة المستوية.
91

ويقال: مكان شأس، أي غليظ صلب والشغب: الهائج للشر، ومن رواه: (للشاسي)
بالياء فأصله (الشاصي) بالصاد، وهو المرتفع، يقال: شصا السحاب إذا ارتفع، فأبدل
الصاد سينا، ومراده هنا نسبة علي عليه السلام إلى التيه والترفع عن الناس.
قال نصر: فقال له معاوية: أفيك مهز؟ فقال: نعم، فقال أخبر الناس، فقال
الحجاج: يا أمير المؤمنين - ولم يخاطب معاوية ب‍ (أمير المؤمنين) قبلها - إني كنت فيمن
خرج مع يزيد بن أسد القسري، مغيثا لعثمان، فقدمت أنا وزفر بن الحارث، فلقينا
رجلا زعم أنه ممن قتل عثمان، فقتلناه، وإني أخبرك يا أمير المؤمنين أنك لتقوى على
على بدون ما يقوى به عليك، لان معك قوما لا يقولون إذا قلت، ولا يسألون إذا أمرت،
وإن مع علي قوما يقولون إذا قال، ويسألون إذا أمر، فقليل ممن معك خير من كثير ممن
معه. واعلم أنه لا يرضى على إلا بالرضا، وأن رضاه سخطك، ولست وعلى سواء، على
لا يرضى بالعراق دون الشام، وأنت ترضى بالشام دون العراق.
قال نصر: فضاق معاوية صدرا بما أتاه، وندم على خذلان عثمان (1) وقال:
أتاني أمر فيه للنفس غمة * وفيه بكاء للعيون طويل
وفيه فناء شامل وخزاية * وفيه اجتداع للأنوف أصيل
مصاب أمير المؤمنين وهدة (2) * تكاد لها صم الجبال تزول
فلله عينا من رأى مثل هالك * أصيب بلا ذنب وذاك جليل!
تداعت عليه بالمدينة عصبة * فريقان منهم قاتل وخذول
دعاهم فصموا عنه عند دعائه * وذاك على ما في النفوس دليل
ندمت على ما كان من تبعي الهوى * وقصري فيه حسرة وعويل (3)

(1) وقعة صفين 88، وفيه: (وقال معاوية حين أتاه قتل هثمان).
(2) ج: (وهذه).
(3) قصري فيه، أي حسي.
92

سأبغي أبا عمرو بكل مثقف * وبيض لها في الدار عين صليل (1)
تركتك للقوم الذين هم هم * شجاك فما ذا بعد ذاك أقول!
فلست مقيما ما حييت ببلدة * أجر بها ذيلي وأنت قتيل
فلا نوم حتى تشجر الخيل بالقنا * ويشفى من القوم الغواة غليل (2)
ونطحنهم طحن الرحا بثفالها * وذاك بما أسدوا إليك قليل (3)
فأما التي فيها مودة بيننا * فليس إليها ما حييت سبيل
سألقحها حربا عوانا ملحة * وإني بها من عامنا لكفيل
قال نصر: وافتخر الحجاج على أهل الشام بما كان من تسليمه على معاوية
بإمرة المؤمنين.
* * *
قال نصر: (4) وحدثنا صالح بن صدقة، عن ابن إسحاق، عن خالد الخزاعي وغيره ممن
لا يتهم، أن عثمان لما قتل وأتى معاوية بكتاب علي عليه السلام بعزله عن الشام، صعد المنبر ونادى
في الناس أن يحضروا، فحضروا: فخطبهم. فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على رسوله، ثم قال:
يا أهل الشام، قد علمتم أنى خليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وخليفة عثمان، وقد قتل
وأنا ابن عمه ووليه، والله تعالى يقول: (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) (5)
وأنا أحب أن تعلموني ما في نفوسكم من قتل خليفتكم.

(1) وقعة صفين: (سأنعى)، وسأبغي. أي سأطلب ثأره، وأبو عمرو كنية عثمان.
(2) تشجر الخيل: تطعن.
(3) الثفال: جلد يبسط فتوضع فوقه الرحا ليسقط عليه الدقيق. وفي اللسان: (وفي حديث على:
وتدقهم الفتن دق الرحا بثفالها، هو من ذلك: والمعنى أنها تدقهم دق الرحا للحب، إذا كانت مثفلة،
ولا تثفل إلا عند الطحن).
(4) وقعة صفين 91.
(5) سورة الإسراء 33
93

فقام مرة بن كعب (1)، وفي المسجد يومئذ أربعمائة رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه
وآله أو نحوها، فقال: والله لقد قمت مقامي هذا، وإني لأعلم أن فيكم من هو أقدم
صحبة لرسول الله صلى الله عليه منى، ولكني شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم نصف
النهار في يوم شديد الحر، وهو يقول: (لتكونن فتنة حاضرة)، فمر رجل مقنع، فقال رسول
الله: وهذا [المقنع] (2) يومئذ على الهدى، فقمت فأخذت بمنكبه، وحسرت عن رأسه،
فإذا عثمان، فأقبلت بوجهه على رسول الله صلى الله عليه، وقلت: هذا يا رسول الله؟ فقال: نعم:
فأصفق أهل الشام مع معاوية حينئذ، وبايعوه على الطلب بدم عثمان أميرا لا يطمع في
الخلافة ثم الامر شورى.
* * *
وروى إبراهيم بن الحسن بن ديزيل في،، كتاب صفين،، عن أبي بكر بن عبد الله
الهذلي أن الوليد بن عقبة كتب إلى معاوية يستبطئه في الطلب بدم عثمان، ويحرضه وينهاه
عن قطع الوقت بالمكاتبة:
ألا أبلغ معاوية بن حرب * فإنك من أخي ثقة مليم (3)
قطعت الدهر كالسدم المعنى * تهدر في دمشق ولا تريم (4)

(1) وقعة صفين: (كعب بن مرة السلمي).
(2) من صفين.
(3) من أبيات، في اللسان 15: 36، 37. ومليم، من قولهم: ألام الرجل، إذا أتى ما يلام عليه.
(4) السدم: الفحل غير الكريم يكره أهله أن يضرب في إبلهم، فيقيد ولا يسرح في الإبل رغبة
عنه، فهو يصول ويهدر، أي يصيح. والمعنى أصله: (المعنن) من العنة، فأبدلت إحدى النونين ياء،
كما قالوا: تظني، وأصله: (تظنن)، وفى المثل: (كالمهدر في العنة). وانظر مجمع الأمثال للميداني
2: 141.
94

فإنك والكتاب إلى علي * كدابغة وقد حلم الأديم (1)
لك الويلات أفحمها عليهم * فخير الطالبي الترة الغشوم (2)
قال: فكتب معاوية إليه الجواب بيتا من شعر أوس بن حجر:
ومستعجب مما يرى من أناتنا ولو زبنته الحرب لم يترمرم (3)
* * *
وروى ابن ديزيل قال: لما عزم علي عليه السلام على المسير إلى الشام، دعا رجلا،
فأمره أن يتجهز ويسير إلى دمشق، فإذا دخل أناخ راحلته بباب المسجد، ولا يلقى من
ثياب سفره شيئا، فإن الناس إذا رأوه عليه آثار الغربة سألوه، فليقل لهم: تركت عليا
قد نهد (4) إليكم بأهل العراق. فانظر ما يكون من أمرهم.
ففعل الرجل ذلك، فاجتمع الناس وسألوه، فقال لهم، فكثروا عليه يسألونه فأرسل

(1) الحلم، بالتحريك: أن يفسد الجلد في العمل ويقع فيه دود فيتثقب، تقول منه حلم، بالكسر،
والحلمة: دودة تقع في الجلد فتأكله، فإذا دبغ وهي موضع الاكل، فبقي رقيقا، تقول منه: حلم الأديم،
ومعنى البيت: أنت تسعى في إصلاح أمر قد تم فساده كهذه المرأة التي تدبغ الأديم الحلم الذي وقعت فيه
الحلمة فنقبته وأفسدته فلا ينتفع به. كذا فسره صاحب اللسان واستشهد بالبيت.
(2) في اللسان بعد هذا البيت:
فقومك بالمدينة قد تردوا * فهم صرعى كأنهم الهشيم
فلو كنت المصاب وكان حيا * تجرد لا ألف ولا سئم
يهنيك الامارة كل ركب * من الآفاق سيرهم الرسيم
وزاد الطبري بعد البيت الثاني من زيادات اللسان:
ولا نكل عن الأوتار حتى * يبئ بها ولا برم جثوم
وذكر الضبي في الفاخر 30 بعض هذه الأبيات ونسبها إلى مروان بن الحكم.
(3) ديوانه 27، ومقاييس اللغة 2: 380، 4: 244، ولم يترمرم، أي ما حرك فاه بالكلام،
كرا فسره ابن فارس واستشهد بالبيت. وانظر اللسان 15: 147.
(4) يقال: نهد لعدوه، إذا أسرع لقتاله.
95

إليه معاوية بالأعور السلمي يسأله، فأتاه فسأله، فقال له، فأتى معاوية فأخبره، فنادى:
الصلاة جامعة، ثم قام فخطب الناس، وقال لهم إن عليا قد نهد إليكم في أهل العراق، فما
ترون؟ فضرب الناس بأذقانهم على صدورهم، لا يتكلمون، فقام ذو الكلاع الحميري
فقال: عليك أم رأى وعلينا أم فعال، وهي لغة حمير (1).
فنزل، ونادى في الناس بالخروج إلى معسكرهم، وعاد إلى علي عليه السلام، فأخبره
فنادى: الصلاة جامعة، ثم قام فخطب الناس، فأخبرهم أنه قدم عليه رسول كان بعثه إلى الشام،
وأخبره أن معاوية قد نهد إلى العراق في أهل الشام، فما الرأي؟
قال: فاضطرب أهل المسجد، هذا يقول: الرأي كذا، وهذا يقول: الرأي كذا،
وكثر الغط واللجب، فلم يفهم علي عليه السلام من كلامهم شيئا، ولم يدر المصيب من
المخطئ، فنزل عن المنبر، وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون! ذهب بها ابن أكالة
الأكباد (2) - يعنى معاوية.
* * *
وروى ابن ديزيل عن عقبة بن مكرم، عن يونس بن بكير، عن الأعمش، قال:
كان أبو مريم صديقا لعلى عليه السلام، فسمع بما كان فيه علي عليه السلام من اختلاف أصحابه
عليه، فجاءه، فلم يرع عليا عليه السلام إلا وهو قائم على رأسه بالعراق، فقال له: أبا مريم،
ما جاء بك نحوي؟ قال: ما جاء بي غيرك، عهدي بك لو وليت أمر الأمة كفيتهم،
ثم سمعت بما أنت فيه من الاختلاف! فقال: يا أبا مريم، إني منيت بشرار خلق الله،
أريدهم على الامر الذي هو الرأي، فلا يتبعونني.
* * *

(1) وهي لغة نقلت عن طئ أيضا، وعليه ورد الحديث: (ليس من أمير أمصيام في أمسفر).
مغني اللبيب لابن هشام 1: 48.
(2) آكلة الأكباد، هي هند بنت عتبة بن ربيعة، زوج أبي سفيان وأم معاوية.
96

وروى ابن ديزيل عن عبد الله بن عمر، عن زيد بن الحباب، عن علاء بن جرير
العنبري، عن الحكم بن عمير الثمالي - وكانت أمه بنت أبي سفيان بن حرب - قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه ذات يوم: كيف بك يا أبا بكر إذا وليت؟ قال:
لا يكون ذلك أبدا، قال: فكيف بك يا عمر إذا وليت؟ (1 فقال: آكل حجرا 1)، لقد
لقيت إذن شرا، قال: فكيف بك يا عثمان إذا وليت؟ قال: آكل وأطعم وأقسم
ولا أظلم، قال: فكيف بك يا علي إذا وليت؟ قال: آكل الفوت وأحمى الجمرة، وأقسم
التمرة، وأخفى الصور - قال: أي العورة - فقال صلى الله عليه وسلم: (أما إنكم كلكم سيلي،
وسيرى الله أعمالكم)، ثم قال: يا معاوية، كيف بك إذا وليت؟ قال: الله ورسوله أعلم
فقال: (أنت رأس الحطم، ومفتاح الظلم، حصبا وحقبا، تتخذ الحسن قبيحا، والسيئة حسنة،
يربو فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير، أجلك يسير، وظلمك عظيم).
* * *
وروى ابن ديزيل أيضا عن عمر بن عون، عن هشيم، عن أبي فلج، عن عمرو بن
ميمون، قال: قال عبد الله بن مسعود: كيف أنتم إذا لقيتكم فتنة يهرم فيها الكبير،
و يربو فيها الصغير، تجرى بين الناس، ويتخذونها سنة، فإذا غيرت قيل: هذا منكر!
* * *
وروى ابن ديزيل، قال: حدثنا الحسن بن الربيع البجلي، عن أبي إسحاق الفزاري
عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك، في قوله تعالى: (فإما نذهبن بك فإنا منهم
منتقمون * أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون) (2). قال: أكرم الله
تعالى نبيه عليه السلام أن يريه في أمته ما يكره رفعه إليه، وبقيت النقمة.

(1) (1 - 1) في ا، ج: (فقال حجرا)، وفى حاشية ج: (يحتمل أن يكون بسكون الجيم، بمعنى المنع).
(2) سورة الزخرف 41، 42.
97

قال ابن ديزيل: وحدثنا عبد الله بن عمر، قال: حدثنا عمرو (1) بن محمد، قال: أخبرنا
أسباط، عن السدى، عن أبي المنهال، عن أبي هريرة، قال: قال صلى الله عليه
وآله: (سألت ربى لامتي ثلاث خلال، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة: سألته ألا
تكفر أمتي صفقة واحدة فأعطانيها، وسألته ألا يعذبهم بما عذب به الأمم قبلهم فأعطانيها، وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها).
* * *
قال ابن ديزيل: وحدثنا يحيى بن عبد الله الكرابيسي، قال: حدثنا أبو كريب،
قال: حدثنا أبو معاوية، عن عمار بن زريق، عن عمار الدهني، عن سالم بن أبي الجعد
قال: جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود، فقال: إن الله تعالى قد آمننا أن يظلمنا، ولم يؤمنا
أن يفتننا، أرأيت إذا أنزلت فتنة، كيف أصنع؟ فقال: عليك كتاب الله تعالى، قال:
أفرأيت إن جاء قوم كلهم يدعو إلى كتاب الله تعالى؟ فقال ابن مسعود: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع الحق)،
يعنى عمارا.
* * *
وروى ابن ديزيل، قال: حدثنا يحيى بن زكريا (2)، قال: حدثنا علي بن القاسم،
عن سعيد بن طارق، عن عثمان بن القاسم، عن زيد بن أرقم، قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على ما إن تساءلتم عليه لم تهلكوا؟ إن وليكم الله،
وإن إمامكم علي بن أبي طالب، فناصحوه وصدقوه، فإن جبريل أخبرني بذلك).
فإن قلت: هذا نص صريح في الإمامة، فما الذي تصنع المعتزلة بذلك؟
قلت: يجوز أن يريد أنه إمامهم في الفتاوى والأحكام الشرعية، لا في الخلافة.
وأيضا فإنا قد شرحنا من قول شيوخنا البغداديين ما محصله: إن الإمامة كانت لعلى

(1) ب: (عمر).
(2) ب: (زكريا بن يحيى).
98

عليه السلام إن رغب فيها ونازع عليها، وإن أقرها في غيره وسكت عنها تولينا ذلك الغير،
وقلنا بصحة خلافته، وأمير المؤمنين عليه السلام لم ينازع الأئمة الثلاثة، ولا جرد السيف،
ولا استنجد بالناس عليهم، فدل ذلك على إقراره لهم على ما كانوا فيه، فلذلك توليناهم،
وقلنا فيهم بالطهارة والخير والصلاح، ولو حاربهم وجرد السيف عليهم، واستصرخ العرب
على حربهم لقلنا فيهم ما قلناه فيمن عامله هذه المعاملة، من التفسيق والتضليل.
* * *
قال ابن ديزيل: وحدثنا عمرو بن الربيع، قال: حدثنا السرى بن شيبان، عن
عبد الكريم، أن عمر بن الخطاب قال لما طعن: يا أصحاب محمد تناصحوا، فإنكم إن لم تفعلوا
غلبكم عليها عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان.
قلت: إن محمد بن النعمان المعروف بالمفيد أحد الامامية قال في بعض كتبه: إنما أراد
عمر بهذا القول إغراء معاوية وعمرو بن العاص بطلب الخلافة وإطماعهما فيها، لان
معاوية كان عامله وأميره على الشام، وعمرو بن العاص عامله وأميره على مصر، وخاف
أن يضعف عثمان عنها، وأن تصير إلى علي عليه السلام، فألقى هذه الكلمة إلى الناس
لتنقل إليهما - وهما بمصر والشام - فيتغلبا على هذين الإقليمين إن أفضت إلى علي عليه
السلام.
وهذا عندي من باب الاستنباطات التي يوجبها الشنان والحنق، وعمر كان أتقى لله
من أن يخطر له هذا، ولكنه من فراسته الصادقة التي كان يعلم بها كثيرا من الأمور
المستقبلة، كما قال عبد الله بن عباس في وصفه: والله ما كان أوس بن حجر عنى أحدا
سواه بقوله:
الألمعي الذي يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمعا (1)
* * *

(1) ديوانه 13.
99

وروى ابن ديزيل، عن عفان بن مسلم، عن وهب بن خالد، عن أيوب، عن أبي
قلابة، عن أبي الأشعث، عن مرة بن كعب، قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه
وآله فتنة فقربها، فمر رجل قد تقنع بثوبه، فقال عليه السلام: (هذا وأصحابه يومئذ
على الحق)، فقمت إليه فأخذت بمنكبه، فقلت: هو هذا؟ فقال: نعم، فإذا هو عثمان
بن عفان.
قلت: هذا الحديث قد رواه كثير من محققي أصحاب الحديث، ورواه محمد بن إسماعيل
البخاري في،، تاريخه الكبير،، بعدة روايات. وليس لقائل أن يقول: فهذا الحديث
إذا صححتموه كان حجة للسفيانية، لأنا نقول: الخبر يتضمن أن عثمان وأصحابه على الحق،
وهذا مذهبنا، لأنا نذهب إلى أن عثمان قتل مظلوما، وأنه وناصرية يوم الدار على الحق،
وأن القوم الذين قتلوه لم يكونوا على الحق، فأما معاوية وأهل الشام الذين حاربوا عليا
عليه السلام بصفين فليسوا بداخلين في الخبر، ولا في ألفاظ الخبر لفظ عموم يتعلق به،
ألا ترى أنه ليس فيه كل من أظهر الانتصار لعثمان في حياته وبعد وفاته فهو على الحق،
وإنما خلاصته أنه ستقوم فتنة، يكون عثمان فيها وأصحابه على الحق، ونحن لا نأبى ذلك،
بل هو مذهبنا.
* * *
وروى نصر بن مزاحم في كتاب،، صفين،، قال: (1) لما قدم عبيد الله بن عمر
بن الخطاب على معاوية بالشام، أرسل معاوية إلى عمرو بن العاص: إن الله قد أحيا لك
عمر بن الخطاب بالشام بقدوم عبيد الله بن عمر، وقد رأيت أن أقيمه خطيبا يشهد على على بقتل
عثمان، وينال منه، فقال: الرأي ما رأيت، فبعث إليه، فأتاه، فقال له معاوية: يا بن أخي، إن لك

(1) وقعة صفين 92 - 94
100

اسم أبيك فانظر بملء عينيك، وأنطق بملء فيك، فأنت المأمون المصدق، فاصعد المنبر
واشتم عليا، واشهد عليه أنه قتل عثمان.
فقال: أيها الأمير، أما شتمه، فإن أباه أبو طالب، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم،
فما عسى أن أقول في حسبه! وأما بأسه فهو الشجاع المطرق، وأما أيامه فما قد عرفت،
ولكني ملزمه دم عثمان، فقال عمرو بن العاص: قد وأبيك إذن نكأت القرحة.
فلما خرج عبيد الله بن عمر، قال معاوية: أما والله لولا قتله الهرمزان، ومخافته عليا
على نفسه ما أتانا أبدا، ألا ترى إلى تقريظه عليا! فقال عمرو: يا معاوية، إن لم تغلب
فاخلب، قال: وخرج حديثهما إلى عبيد الله، فلما قام خطيبا تكلم بحاجته، فلما انتهى
إلى أمر على أمسك ولم يقل شيئا، فلما نزل بعث إليه معاوية: يا بن أخي، إنك بين
عي وخيانة، فبعث إليه: إني كرهت أن أقطع الشهادة على رجل لم يقتل عثمان، وعرفت
أن الناس محتملوها عنى فتركتها.
قال: فهجره معاوية واستخف به وفسقه، فقال عبيد الله:
معاوي لم أحرض بخطبة خاطب * ولم أك عيا في لؤي بن غالب (1)
ولكنني زاولت نفسا أبية * على قذف شيخ بالعراقين غائب
وقذفي عليا بابن عفان جهرة * كذاب، وما طبي سجايا المكاذب (2)
ولكنه قد قرب القوم جهده * ودبوا حواليه دبيب العقارب
فما قال: أحسنتم ولا قد أسأتم * وأطرق إطراق الشجاع المواثب

(1) لم أحرض: لم أكل ولم أعي. وفى صفين: (لم أخرص)، أي لم أكذب.
(2) رواية كتاب صفين:
* يجدع بالشحنا أنوف الأقارب *
101

فأما ابن عفان فأشهد أنه * أصيب بريئا لابسا ثوب تائب (1)
وقد كان فيها للزبير عجاجة * وطلحة فيها جاهد غير لاعب
وقد أظهرا من بعد ذلك توبة * فياليت شعري ما هما في العواقب!
قال: فلما بلغ معاوية شعره بعث إليه فأرضاه، وقال: حسبي هذا منك.
* * *
وروى نصر، عن عبيد الله بن موسى، قال: سمعت سفيان بن سعيد المعروف
بسفيان الثوري، يقول: ما أشك أن طلحة والزبير بايعا عليا، وما نقما عليه جورا
في حكم ولا استئثارا بفئ، وما قاتل عليا أحد إلا وعلى أولى بالحق منه.
وروى نصر بن مزاحم أن عليا عليه السلام قدم من البصرة في غرة شهر رجب من
سنة ست وثلاثين إلى الكوفة، وأقام بها سبعة عشر شهرا، تجرى الكتب بينه وبين
معاوية وعمرو بن العاص، حتى سار إلى الشام.
قال نصر: (2) وقد روى من طريق أبى الكنود وغيره أنه قدم الكوفة بعد وقعة
الجمل، لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رجب سنة ست وثلاثين.
قال نصر: فدخل الكوفة ومعه أشراف الناس من أهل البصرة وغيرهم، فاستقبله
أهل الكوفة، وفيهم قراؤهم وأشرافهم، فدعوا له بالبركة وقالوا: يا أمير المؤمنين
أين تنزل؟ أتنزل القصر؟ قال: لا، ولكني أنزل الرحبة، فنزلها وأقبل حتى دخل
المسجد الأعظم، فصلى فيه ركعتين، ثم صعد المنبر فحمد الله، وأثنى عليه وصلى على
رسوله، ثم قال:

(1) بعده في كتاب صفين: حرام على آهاله نتف شعره فكيف وقد جازوه ضربة لازب
(2) وقعة صفين 5 - 8.
102

أما بعد يا أهل الكوفة، فإن لكم في الاسلام فضلا ما لم تبدلوا وتغيروا،
دعوتكم إلى الحق فأجبتم، وبدأتم بالمنكر فغيرتم، ألا إن فضلكم فيما بينكم وبين الله،
فأما في الاحكام والقسم فأنتم أسوة غيركم ممن أجابكم، ودخل فيما دخلتم فيه. ألا إن
أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى، وطول الامل، أما اتباع الهوى فيصد عن
الحق، وأما طول الامل فينسى الآخرة، ألا إن الدنيا قد ترحلت مدبرة، وإن الآخرة
قد ترحلت مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة. اليوم عمل
ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل، الحمد لله الذي نصر وليه، وخذل عدوه، وأعز
الصادق المحق، وأذل الناكث المبطل.
عليكم بتقوى الله وطاعة من أطاع الله من أهل بيت نبيكم، الذين هم أولى
بطاعتكم فيما أطاعوا الله فيه من المستحلين المدعين المقابلين (1) إلينا، يتفضلون بفضلنا،
ويجاحدوننا أمرنا، وينازعوننا حقنا، ويباعدوننا عنه، فقد ذاقوا وبال ما اجترحوا
فسوف يلقون غيا. ألا إنه قد قعد عن نصرتي رجال منكم، وأنا عليهم عاتب زار،
فاهجروهم وأسمعوهم ما يكرهون، حتى يعتبوا (2) ليعرف بذلك حزب الله عند الفرقة.
فقام إليه مالك بن حبيب اليربوعي - وكان صاحب شرطته - فقال: والله إني
لأرى الهجر وسماع المكروه لهم قليلا، والله لو أمرتنا لنقتلنهم. فقال علي عليه السلام:
سبحان الله يا مال! جزت المدى، وعدوت الحد، فأغرقت (3) في النزع. فقال: يا أمير
المؤمنين، لبعض الغشم أبلغ في أمر ينوبك من مهادنة الأعادي، فقال علي عليه السلام:
ليس هكذا قضى الله، يا مال، قال سبحانه: (النفس بالنفس) (4) فما بال ذكر الغشم!

(1) كذا في ج وصفين، وفى ا، ب: (القائلين إلينا).
(2) الأعتاب: إعطاء العتبى، وهي الرضا (3) ا، ج: (وأغرقت).
(4) سورة المائدة 45.
103

وقال تعالى: (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا يسرف في القتل) (1)،
والاسراف في القتل أن تقتل غير قاتلك، فقد نهى الله عنه، وذاك هو الغشم.
فقام إليه أبو بردة بن عوف الأزدي - وكان ممن تخلف عنه - فقال: يا أمير
المؤمنين، أرأيت القتلى حول عائشة وطلحة والزبير، علا م قتلوا؟ - أو قال: بم قتلوا؟ -
فقال علي عليه السلام: قتلوا بما قتلوا شيعتي وعمالي، وقتلوا أخا ربيعة العبدي في
عصابة من المسلمين، قالوا: إنا لا ننكث كما نكثتم، ولا نغدر كما غدرتم، فوثبوا
عليهم فقتلوهم، فسألتهم أن يدفعوا إلى قتلة إخواني أقتلهم بهم، ثم كتاب الله حكم
بيني وبينهم، فأبوا على، وقاتلوني - وفي أعناقهم بيعتي، ودماء قريب من ألف رجل
من شيعتي - فقتلتهم، أفي شك أنت من ذلك! فقال: قد كنت في شك، فأما الان
فقد عرفت، واستبان لي خطأ القوم، وإنك المهتدي المصيب.
قال نصر: وكان أشياخ الحي يذكرون أنه كان عثمانيا، وقد شهد على ذلك صفين مع علي عليه السلام، ولكنه
بعد ما رجع كان يكاتب معاوية، فلما ظهر معاوية أقطعه
قطيعة بالفلوجة (2)، وكان عليه كريما.
قال: ثم إن عليا عليه السلام تهيأ لينزل، وقام رجال ليتكلموا، فلما رأوه نزل
جلسوا وسكتوا.
قال: ونزل علي عليه السلام بالكوفة على جعدة بن هبيرة المخزومي.
قلت: جعدة ابن أخته أم هاني بنت أبي طالب، كانت تحت هبيرة بن أبي وهب
المخزومي، فأولدها جعدة، وكان شريفا.
* * *

(1) سورة الإسراء 33.
(2) في مراصد الاطلاع: الفلوجة الكبرى والفلوجة الصغرى: قريتان كبيرتان من سواد بغداد والكوفة
قرب عين التمر. قلت: والمشهور هي هذه التي على شاطئ الفرات، عندها فم نهر الملك من الجانب الشرقي.
104

قال نصر: ولما (1) قدم علي عليه السلام إلى الكوفة نزل على باب المسجد، فدخل
فصلى، ثم تحول فجلس إليه الناس، فسأل عن رجل من الصحابة كان نزل الكوفة،
فقال قائل: استأثر الله به، فقال علي عليه السلام: إن الله تبارك وتعالى لا يستأثر بأحد
من خلقه، إنما أراد الله جل ذكره بالموت إعزاز نفسه، وإذلال خلقه، وقرأ: (كنتم
أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم) (2)، قال نصر: فلما لحقه عليه السلام
ثقله قالوا: أننزل القصر؟ فقال: قصر الخبال، لا تنزلوا فيه (3).
* * *
قال نصر: ودخل (4) سليمان بن صرد الخزاعي على علي عليه السلام، مرجعه (5) من
البصرة، فعاتبه وعذله، وقال له: ارتبت وتربصت وراوغت، وقد كنت من أوثق
الناس في نفسي، وأسرعهم فيما أظن إلى نصرتي، فما قعد بك عن أهل بيت نبيك؟
وما زهدك في نصرتهم؟
فقال: يا أمير المؤمنين، لا تردن الأمور على أعقابها، ولا تؤنبني بما مضى منها، واستبق
مودتي تخلص لك نصيحتي، فقد بقيت أمور تعرف فيها عدوك من وليك.
فسكت عنه، وجلس سليمان قليلا، ثم نهض، فخرج إلى الحسن بن علي عليه السلام،
وهو قاعد في باب المسجد، فقال: ألا أعجبك من أمير المؤمنين، وما لقيت منه من التوبيخ
والتبكيت؟ فقال الحسن: إنما يعاتب من ترجى مودته ونصيحته، فقال: لقد وثبت
أمور ستشرع فيها القنا، وتنتضى فيها السيوف، ويحتاج فيها إلى أشباهي، فلا

(1) كتاب صفين 8.
(2) سورة البقرة 28.
(3) صفين: (لا تنزلونيه).
(4) وقعة صفين 9
(5) وقعة صفين: (بعد رجعته).
105

تستغشوا عتبي (1)، ولا تتهموا نصحي.
فقال الحسن: رحمك الله، ما أنت عندنا بظنين (2).
قال نصر: ودخل عليه سعيد بن قيس الأزدي، فسلم عليه، فقال: وعليك السلام
وإن كنت من المتربصين! قال: حاش لله يا أمير المؤمنين! فإني لست من أولئك.
فقال: لعل الله فعل ذلك.
* * *
قال نصر: وحدثنا (3) عمر بن سعد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن محمد بن
مخنف، قال: دخلت مع أبي على علي عليه السلام، مقدمه (4) من البصرة، وهو عام
بلغت الحلم، فإذا بين يديه رجال يؤنبهم، ويقول لهم: ما أبطأ بكم عنى، وأنتم أشراف
قومكم! والله إن كان من ضعف النية وتقصير البصيرة، إنكم لبور (5)، وإن كان من شك
في فضلي ومظاهرة على، إنكم لعدو.
فقالوا: حاش لله يا أمير المؤمنين! نحن سلمك وحرب عدوك. ثم اعتذر القوم فمنهم
من ذكر عذرا، ومنهم من اعتل بمرض، ومنهم من ذكر غيبة، فنظرت إليهم فعرفتهم،
فإذا عبد (6) الله المعتم العبسي، وحنظلة بن الربيع التميمي، وكلاهما كانت له صحبة، وإذا
أبو بردة بن عوف الأزدي، وإذا غريب بن شرحبيل الهمداني.
قال: ونظر علي عليه السلام إلى أبى، فقال: ولكن مخنف بن مسلم وقومه لم يتخلفوا،
ولم يكن مثلهم كمثل القوم الذين قال الله تعالى فيهم: (وإن منكم لمن ليبطئن فإن

(1) لا تستغشوا عتبي، أي لا تظنوا عتابي لكم غشا.
(2) الظنين: المتهم، وأصله: (مظنون).
(3) وقعة صفين 10
(4) وقعة صفين: (حين قدم).
(5) لبور، أي هالكون، جمع بلفظ المفرد.
(6) في الأصول: (عبيد الله) صوابه من صفين.
106

أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله على إذ لم أكن معهم شهيدا * ولئن أصابكم
فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم
فأفوز فوزا عظيما) (1).
قال نصر: ثم (2) إن عليا عليه السلام مكث بالكوفة، فقال الشني في ذلك، [شن بن
عبد القيس] (3):
قل لهذا الامام قد خبت الحرب * وتمت بذلك النعماء
وفرغنا من حرب من نقض العهد * وبالشام حية صماء
تنفث السم ما لمن نهشته * - فارمها قبل أن تعض - شفاء (4)
إنه والذي يحج له الناس * ومن دون بيته البيداء
لضعيف النخاع إن رمى اليوم * بخيل كأنها أشلاء (5)
تتبارى بكل أصيد كالفحل * بكفيه صعدة سمراء (6)
إن تذره فما معاوية الدهر * بمعطيك ما أراك تشاء
ولنيل السماء أقرب من ذاك * ونجم العيوق والعواء (7)
فأعد بالحد والحديد إليهم * ليس والله غير ذاك دواء

(1) سورة النساء 72، 73.
(2) كتاب صفين 11، 12.
(3) تكملة من كتاب وقعة صفين، وهو الأعور الشني، واسمه بشر بن منقذ، أحد بنى شن بن
أقصى بن عبد القيس. وانظر المؤتلف والمختلف للآمدي 38
(4) في اللسان: (قيل للحية التي لا تجيب الراقي صماء، لان الرقي لا تنفعها).
(5) أشلاء الانسان: أعضاؤه، وبعده في كتاب صفين:
جانحات تحت العجاج سخالا * مجهضات تخالها الأسلاء
(6) الصعدة: القناة المستوية التي لا تحتاج إلى التثقيف.
(7) العيوق: نجم أحمر مضئ في طرف المجرة الأيمن، يتلو الثريا لا يتقدمها. والعواء: منزل للقمر.
107

قال نصر: وأتم علي عليه السلام صلاته يوم دخل الكوفة، فلما كانت الجمعة خطب
الناس، فقال:
الحمد لله الذي أحمده (1) وأستعينه وأستهديه، وأعوذ بالله من الضلالة، من
يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده
لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، انتجبه لامره، واختصه بنبوته. أكرم خلقه
عليه، وأحبهم إليه، فبلغ رسالة ربه، ونصح لامته، وأدى الذي عليه.
أوصيكم بتقوى الله، فإن تقوى الله خير ما تواصى به عباد الله، وأقربه إلى رضوان الله،
وخيره في عواقب الأمور عند الله، وبتقوى الله أمرتم، وللاحسان والطاعة خلقتم،
فاحذروا من الله ما حذركم من نفسه، فإنه حذر بأسا شديدا، واخشوا خشية ليست بتعذير (2)
واعملوا في غير رياء ولا سمعة فإنه من عمل لغير الله وكله الله إلى ما عمل له، ومن عمل لله
مخلصا تولى الله أجره. أشفقوا من عذاب الله، فإنه لم يخلقكم عبثا، ولم يترك شيئا من
أمركم سدى، قد سمى آثاركم، وعلم أعمالكم، وكتب آجالكم، فلا تغتروا بالدنيا
فإنها غرارة لأهلها، مغرور من اغتر بها، وإلى فناء ما هي، وإن الآخرة هي دار الحيوان
لو كانوا يعلمون. أسأل الله منازل الشهداء، ومرافقة الأنبياء، ومعيشة السعداء، فإنما
نحن به وله (3).
قال نصر: ثم (4) استعمل علي عليه السلام العمال وفرقهم في البلاد، وكتب
إلى معاوية مع جرير بن عبد الله البجلي ما تقدم ذكره.

(1) صفين: (إن الحمد لله أحمده).
(2) التعذير هنا: الاهمال والتقصير.
(3) صفين 13.
(4) كتاب صفين 14، وفيه: (ثم إن عليا أقام بالكوفة واستعمل العمال).
108

قال نصر: (1) وقال معاوية لعمرو بن العاص، أيام كان جرير عنده ينتظر جوابه: إنني
قد رأيت أن نلقى إلى أهل مكة وأهل المدينة كتابا، نذكر فيه أمر عثمان، فإما أن ندرك
به حاجتنا، أو نكف القوم عنا، فقال له عمرو: إنما تكتب إلى ثلاثة نفر: رجل
راض بعلي فلا يزيده كتابك إلا بصيرة فيه، أو رجل يهوى عثمان، فلن يزيده
كتابك على ما هو عليه، أو رجل معتزل، فلست في نفسه بأوثق من على.
قال: على ذاك، فكتبا:
أما بعد، فإنه مهما غاب عنا من الأمور فلم يغب عنا أن عليا قتل عثمان، والدليل على
ذلك مكان قتلته منه، وإنما نطلب قتلته، حتى يدفعوا إلينا، فنقتلهم بكتاب الله
عز وجل، فإن دفعهم على إلينا كففنا عنه، وجعلناها شورى بين المسلمين على ما جعلها
عليه عمر بن الخطاب. فأما الخلافة فلسنا نطلبها، فأعينونا على أمرنا هذا، وانهضوا
من ناحيتكم، فإن أيدينا وأيديكم إذا اجتمعت على أمر واحد هاب على ما هو
فيه، والسلام.
فكتب إليهما عبد الله بن عمر:
أما بعد، فلعمري لقد أخطأتما موضع النصرة وتناولتماها من مكان بعيد، وما زاد
الله من شك في هذا الامر بكتابكما إلا شكا، وما أنتما والمشورة، وما أنتما والخلافة! أما أنت
يا معاوية فطليق، وأما أنت يا عمرو فظنين (2)، ألا فكفا أنفسكما، فليس لكم فينا ولى
ولا نصير. والسلام.
قال نصر: وكتب (3) رجل من الأنصار إليهما مع كتاب عبد الله بن عمر:

(1) كتاب صفين 70، 71.
(2) كتاب صفين: (فظنون)، والظنين والظنون بمعنى المتهم.
(3) صفين 71.
109

معاوي إن الحق أبلج واضح * وليس بما ربصت أنت ولا عمرو
نصبت ابن عفان لنا اليوم خدعة * كما نصب الشيخان إذ قضى الامر (1)
- يعنى طلحة والزبير رحمهما الله -
فهذا كهذاك البلا حذو نعله * سواء كرقراق يغر به السفر (2)
رميتم عليا بالذي لا يصيره * وإن عظمت فيه المكيدة والمكر (3)
وما ذنبه إن عثمان معشر * أتوه من الاحياء تجمعهم مصر
فثار إليه المسلمون ببيعة * علانية ما كان فيها لهم قسر
وبايعه الشيخان ثم تحملا * إلى العمرة العظمى وباطنها الغدر
فكان الذي قد كان مما اقتصاصه * يطول، فيا لله ما أحدث الدهر (4)
وما أنتما والنصر منا وأنتما * بعيثا حروب ما يبوخ لها جمر (5)
وما أنتما لله در أبيكما * وذكركما الشورى وقد وضح الفجر (6)
* * *
قال نصر (7): وقام عدى بن حاتم الطائي إلى علي عليه السلام، فقال: يا أمير المؤمنين
إن عندي رجلا لا يوازى (8) به رجل، وهو يريد أن يزور ابن عمة حابس بن سعد
الطائي بالشام، فلو أمرناه أن يلقى معاوية لعله أن يكسره ويكسر أهل الشام، فقال على

(1) كتاب صفين: (إذ زخرف الامر).
(2) الرقراق: ما يتراءى للمسافر من رمال الصحراء كأنها الماء.
(3) كتاب صفين: (لا يضره).
(4) اقتصاصه: قصه وحكايته، وفى صفين: (رجيع فيالله ما أحدث الدهر).
(5) يبوخ الجمر: ينطفئ.
(6) صفين: (وقد فلج الفجر).
(7) صفين 71 - 74.
(8) صفين: (لا يجارى به).
110

عليه السلام: نعم، فأمره عدى بذلك (1) - وكان اسم الرجل خفاف بن عبد الله.
فقدم على ابن عمه حابس بن سعد بالشام - وحابس سيد طئ بها - فحدث خفاف حابسا
أنه شهد عثمان بالمدينة، وسار مع علي إلى الكوفة، وكان لخفاف لسان وهيئة وشعر،
فغدا حابس بخفاف إلى معاوية، فقال: إن هذا ابن عم لي، قدم الكوفة مع علي،
وشهد عثمان بالمدينة، وهو ثقة. فقال له معاوية: هات، حدثنا عن عثمان، فقال: نعم حصره
المكشوح [وحكم فيه حكيم، ووليه عمار، وتجرد في أمره ثلاثة نفر: عدى بن
حاتم] (2) والأشتر النخعي، وعمرو بن الحمق، وجد في أمره رجلان وطلحة
والزبير، وأبرأ الناس منه على. قال: ثم مه، قال: ثم تهافت الناس على على بالبيعة تهافت
الفراش، حتى ضاعت النعل و (3) وسقط الرداء، ووطئ الشيخ. ولم يذكر عثمان ولم يذكر
له، ثم تهيا للمسير، وخف معه المهاجرون والأنصار، وكره القتال معه ثلاثة نفر: سعد
بن مالك، وعبد الله بن عمر، ومحمد بن مسلمة، فلم يستكره أحدا، واستغنى بمن خف معه
عمن ثقل. ثم سار حتى أتى جبل طئ، فأتته منا جماعة كان ضاربا بهم الناس، حتى
إذا كان ببعض الطريق أتاه مسير طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة، فسرح رجالا إلى
الكوفة يدعونهم، فأجابوا دعوته، فسار إلى البصرة، فإذا هي في كفه، ثم قدم الكوفة
فحمل إليه الصبي، ودبت إليه العجوز، وخرجت إليه العروس فرحا به وشوقا إليه،
وتركته وليس له همة إلا الشام.
فذعر معاوية من قوله، وقال حابس: أيها الأمير، لقد أسمعني شعرا غير به حالي
في عثمان، وعظم به عليا عندي.

(1) صفين: (فمره بذلك).
(2) ما بين العلامتين تكملة من كتاب صفين.
(3) صفين: (حتى ضلت النعل).
111

فقال معاوية: أسمعنيه يا خفاف، فأنشده شعرا أوله:
قلت والليل ساقط الأكناف ولجنبي عن الفراش تجاف
- يذكر فيه حال عثمان وقتله، وفيه إطالة عدلنا عن ذكره (1)... ومن جملته:
قد مضى ما مضى ومر به الدهر كما مر ذاهب الأسلاف (2)
إنني والذي يحج له الناس * على لحق البطون عجاف (3)
تتبارى مثل القسي من النبع بشعث مثل السهام نحاف (4)
أرهب اليوم إن أتاكم على * صيحة مثل صيحة الأحقاف
إنه الليث غاديا وشجاع * مطرق نافث بسم زعاف (5)
واضع السيف فوق عاتقه الأيمن * يفرى به شؤون القحاف (6)
سوم الخيل ثم قال لقوم * بايعوه إلى الطعان خفاف (7)
استعدوا لحرب طاغية الشام * فلبوه كاليدين اللطاف
ثم قالوا أنت الجناح لك الريش * القدامى ونحن منه الخوافي (8)
فانظر اليوم قبل بادرة القوم * بسلم تهم أم بخلاف (9)
قال: فانكسر معاوية، وقال: يا حابس إني لأظن هذا عينا لعلى، أخرجه عنك
لئلا يفسد علينا أهل الشام.

(1) كلمة غير واضحة في جميع الأصول.
(2) القصيدة كاملة في كتاب صفين 73 - 75.
(3) اللحق: جمع لاحق، وهو الضامر من الخيل.
(4) صفين: (مثل الرصاف).
(5) الشجاع هنا: الحية.
(6) القحاف: عظام الجماجم. والشؤون: مجتمع قبائل الرأس. وفي صفين: (يذرى).
(7) سوم الخيل: أعلمها بعلامة.
(8) القدامى: الريشات التي تكون في مقدمة الجناح، الواحدة قادمة. الخوافي: ريشات إذا ضم
الطائر جناحيه خفيت. وفي المثل: (ليس القوادم كالخوافي).
(9) صفين: (نادية القوم).
112

قال نصر: وحدثنا عطية بن غنى (1)، عن زياد بن رستم، قال: (2) كتب معاوية
إلى عبد الله بن عمر خاصة، وإلى سعد بن أبي وقاص، وإلى محمد بن مسلمة، دون كتابه
إلى أهل المدينة، فكان كتابه إلى عبد الله بن عمر:
أما بعد، فإنه لم يكن أحد من قريش أحب إلى أن يجتمع عليه الناس (3) بعد قتل
عثمان منك، ثم ذكرت خذلك إياه، وطعنك على أنصاره، فتغيرت لك، وقد هون
ذلك على خلافك على على، ومحا عنك بعض ما كان منك، فأعنا - رحمك الله - على حق
هذا الخليفة المظلوم، فإني لست أريد الامارة عليك، ولكني أريدها لك، فإن أبيت
كانت شورى بين المسلمين (4).
فأجابه عبد الله بن عمر:
أما بعد، فإن الرأي الذي أطمعك في، هو الذي صيرك إلى ما صيرك إليه. أترك عليا
في المهاجرين والأنصار، وطلحة والزبير وعائشة أم المؤمنين، وأتبعك! وأما زعمك
أنى طعنت على على، فلعمري ما أنا كعلى في الايمان والهجرة، ومكانه من رسول الله صلى
الله عليه وسلم، ونكايته في المشركين، ولكني عهد (5) إلى في هذا الامر عهد، ففزعت
فيه إلى الوقوف وقلت: إن كان هذا هدى ففضل تركته، وإن كان ضلالا فشر
نجوت منه، فأغن عنا نفسك، والسلام (6).

(1) كذا في ا، وصفين، وفي ب: (غناء)، وفي ج: (مغني).
(2) كتاب صفين 79، 80.
(3) صفين: (الأمة).
(4) ذكر في كتاب صفين أبياتا مطلعها:
الأقل لعبد الله واخصص محمدا * وفارسنا المأمون سعد بن مالك
(5) صفين: (ولكن حدث أمر لم يكن من رسول الله إلى فيه عهد).
(6) في كتاب صفين: (ثم قال لابن أبي غزية: أجب الرجل - وكان أبوه ناسكا، وكان من أشعر
قريش فقال)... وذكر أبياتا مطلعها:
معاوي لا ترجو الذي لست نائلا * وحاول نصيرا غير سعد بن مالك
113

قال: وكان كتاب معاوية إلى سعد:
أما بعد، فإن أحق الناس بنصر عثمان أهل الشورى من قريش، الذين أثبتوا حقه
واختاروه على غيره، وقد نصره طلحة والزبير، وهما شريكان في الامر، ونظيراك في
الاسلام، وخفت لذلك أم المؤمنين، فلا تكرهن ما رضوا، ولا تردن ما قبلوا، فإنا
نردها شورى بين المسلمين (1).
فأجابه سعد.
أما بعد فإن عمر لم يدخل في الشورى إلا من تحل له الخلافة من قريش، فلم يكن
أحد منا أحق بها من صاحبه إلا بإجماعنا (2) عليه، ألا إن عليا كان فيه ما فينا،
ولم يكن فينا ما فيه، وهذا أمر قد كرهت أوله، وكرهت آخره، فأما طلحة والزبير
فلو لزما بيوتهما لكان خيرا لهما، والله يغفر لام المؤمنين ما أتت والسلام (3).
قال: وكان كتاب معاوية إلى محمد بن مسلمة:
أما بعد، فإني لم أكتب إليك وأنا أرجو مبايعتك (4)، ولكني أردت أن أذكرك
النعمة التي خرجت منها، والشك الذي صرت إليه، إنك فارس الأنصار، وعدة
المهاجرين، وقد ادعيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرا لم تستطع إلا أن تمضي عليه،
وهو أنه نهاك عن قتال أهل القبلة (5)، أفلا نهيت أهل القبلة (5) عن قتال بعضهم بعضا!

(1) في كتاب صفين: 83 (وقال شعرا)، وذكر أبياتا أولها.
ألا يا سعد قد أظهرت شكا * وشك المرء في الاحداث الداء
(2) كتاب صفين: (باجتماعنا).
(3) في كتاب صفين 84: (ثم أجابه في الشعر)، وذكر أبياتا أولها:
معاوي داؤك الداء العياء * فليس لما تجئ به دواء
(4) كتاب صفين: (متابعتك).
(5) كتاب صفين: (الصلاة).
114

فقد كان عليك أن تكره لهم ما كره رسول الله صلى الله عليه، ألم تر عثمان وأهل الدار
من أهل القبلة (1)! فأما قومك فقد عصوا الله، وخذلوا عثمان، والله سائلهم
وسائلك عما كان يوم القيامة. والسلام.
قال: فكتب إليه محمد بن مسلمة:
أما بعد، فقد اعتزل هذا الامر من ليس في يده من رسول الله صلى الله عليه مثل
الذي في يده، قد أخبرني رسول الله صلى الله على بالذي هو كائن قبل أن يكون، فلما كان
كسرت سيفي، وجلست في بيتي، واتهمت الرأي على الدين، إذ لم يصح لي معروف
آمر به، ولا منكر أنهى عنه. وأما أنت فلعمري ما طلبت إلا الدنيا، ولا اتبعت إلا الهوى
وإن تنصر عثمان ميتا فقد خذلته حيا، والسلام (2).
* * *
[مفارقة جرير بن عبد الله البجلي لعلى]
قد أتينا على ما أردنا ذكره من حال أمير المؤمنين عليه السلام، مذ قدم من حرب
البصرة إلى الكوفة، وما جرى بينه وبين معاوية من المراسلات، وما جرى بين معاوية
وبين غيره من الصحابة من الاستنجاد والاستصراخ، وما أجابوه به، ونحن نذكر الان
ما جرى لجرير بن عبد الله عند عوده إلى أمير المؤمنين من تهمة الشيعة له بممالاة معاوية
عليهم، ومفارقته جنبة أمير المؤمنين.
قال نصر بن مزاحم: (3) حدثنا صالح بن صدقة بإسناده، قال: قال لما رجع جرير

(1) كتاب صفين: (الصلاة).
(2) تتمة الرسالة كما في كتاب صفين 86: (فما أخرجني الله من نعمة، ولا صيرني إلى شك، إن كنت
أبصرت خلاف ما تحبني به ومن قبلنا من المهاجرين والأنصار، فنحن أولى بالصواب منك).
(3) كتاب صفين 66 - 68.
115

إلى علي عليه السلام، كثر قول الناس في التهمة لجرير في أمر معاوية فاجتمع جرير
والأشتر عند علي عليه السلام، فقال الأشتر: أما والله يا أمير المؤمنين، أن لو كنت
أرسلتني إلى معاوية، لكنت خيرا لك من هذا الذي أرخى خناقة (1)، وأقام عنده،
حتى لم يدع بابا يرجو فتحه إلا فتحه، ولا بابا يخاف أمره إلا سده.
فقال جرير: لو كنت والله أتيتهم لقتلوك - وخوفه بعمرو، وذي الكلاع،
وحوشب - (2) وقال: إنهم يزعمون أنك من قتله عثمان.
فقال الأشتر: والله لو أتيتهم يا جرير لم يعيني جوابها، ولم يثقل على محملها، ولحملت
معاوية على خطة أعجله فيها عن الفكر.
قال: فائتهم إذا. قال: الان وقد أفسدتهم ووقع بينهم الشر!
وروى نصر، عن نمير بن وعلة، عن الشعبي قال: (3) اجتمع جرير والأشتر عند علي عليه
السلام، فقال الأشتر: أليس قد نهيتك يا أمير المؤمنين أن تبعث جريرا، وأخبرتك
بعداوته وغشه! وأقبل الأشتر يشتمه، ويقول: يا أخا بجيلة، إن عثمان اشترى منك دينك
بهمدان (4)، والله ما أنت بأهل أن تترك تمشى فوق الأرض، إنما أتيتهم لتتخذ عندهم
يدا بمسيرك إليهم، ثم رجعت إلينا من عندهم تهددنا بهم، وأنت والله منهم، ولا أرى
سعيك إلا لهم، لئن أطاعني فيك أمير المؤمنين ليحبسنك وأشباهك في حبس لا تخرجون
منه حتى تستتم هذه الأمور، ويهلك الله الظالمين.
قال جرير: وددت والله أن لو كنت مكاني بعثت، إذن والله لم ترجع.

(1) صفين: (من خناقه).
(2) صفين: (وحوشب بن ظليم).
(3) كتاب صفين 67، 68.
(4) كذا في ب وصفين، وفي ج: (بهمذان).
116

قال: فلما سمع جرير مثل ذلك من قوله، فارق عليا عليه السلام، فلحق بقرقيسياء (1)
ولحق به ناس من قسر (2) من قومه، فلم يشهد صفين من قسر غير تسعة عشر رجلا،
ولكن شهدها من أحمس (3) سبعمائة رجل.
قال نصر: وقال الأشتر فيما كان من تخويف من جرير إياه بعمرو وحوشب
[وذي الكلاع] (4):
لعمرك يا جرير لقول عمرو * وصاحبه معاوي بالشام
وذي كلع وحوشب ذي ظليم * أخف على من ريش النعام (5)
إذا اجتمعوا على فخل عنهم * وعن باز مخالبه دوامي
ولست بخائف ما خوفوني * وكيف أخاف أحلام النيام!
وهمهم الذي حاموا عليه * من الدنيا، وهمي ما أمامي (6)
فإن أسلم أعمهم بحرب * يشيب لهولها رأس الغلام
وإن أهلك فقد قدمت أمرا * أفوز بفلجه يوم الخصام (7)
وقد زادوا على وأوعدوني * ومن ذا مات من خوف الكلام!
* * *
[نسب جرير بن عبد الله البجلي وبعض أخباره]
وذكر ابن قتيبة في،، المعارف،، أن جريرا قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1) قرقيسياء: بلد بالخابور عند مصبه.
(2) قسر: رهط جرير لن عبد الله البجلي.
(3) أحمس: بطن في بجيلة.
(4) من كتاب صفين.
(5) صفين: (من زف النعام). والزف: صغار ريش النعام.
(6) ب: (وهمهما).
(7) الفلج: الفوز والانتصار.
117

سنة عشر من الهجرة في شهر رمضان، فبايعه وأسلم، وكان جرير صبيح الوجه جميلا،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كأن على وجهه مسحة ملك. وكان عمر يقول:
جرير يوسف هذه الأمة. وكان طوالا يفتل في ذروة البعير من طوله، وكانت نعله ذراعا،
وكان يخضب لحيته بالزعفران من الليل ويغسلها إذا أصبح، فتخرج مثل لون التبر.
واعتزل عليا عليه السلام ومعاوية، وأقام بالجزيرة ونواحيها حتى توفى بالشراة سنة أربع
وخمسين في ولاية الضحاك بن قيس على الكوفة (1).
* * *
فأما نسبه فقد ذكره ابن الكلبي في،، جمهرة الأنساب،، فقال: هو جرير بن عبد الله
بن جابر بن مالك بن نضر بن ثعلب بن جشم بن عويف بن حرب بن علي بن مالك
بن سعد بن بدير بن قسر - واسمه ملك - بن عبقر بن أنمار بن أراش بن عمرو بن
الغوث بن نبت بن زيد بن كهلان.
ويذكر أهل السير أن عليا عليه السلام هدم دار جرير ودور قوم ممن خرج معه، حيث
فارق عليا عليه السلام، منهم أبو أراكة بن مالك بن عامر القسري، كان ختنه على ابنته،
وموضع داره بالكوفة كان يعرف بدار أبى أراكة قديما، ولعله اليوم نسي ذلك الاسم.

(1) المعارف 292، وانظر طبقات فقهاء اليمن للجعدي 45، 46.
118

(44)
ومن كلام له عليه السلام لما هرب مصقلة بن هبيرة الشيباني إلى معاوية، وكان قد
ابتاع سبى بنى ناجية من عامل أمير المؤمنين عليه السلام وأعتقه، فلما طالبه بالمال خاس
به وهرب إلى الشام، فقال:
الأصل:
قبح الله مصقلة! فعل فعل السادة، وفر فرار العبيد، فما أنطق مادحه حتى
أسكته، ولا صدق واصفه حتى بكته، ولو أقام لأخذنا ميسوره، وانتظرنا
بماله وفوره.
الشرح:
خاس به يخيس ويخوس: أي غدر به، وخاس فلان بالعهد: أي نكث.
وقبح الله فلانا: أي نحاه عن الخير، فهو مقبوح.
والتبكيت، كالتقريع والتعنيف. والوفور. مصدر وفر المال: أي تم، ويجئ
متعديا. ويروى (موفوره)، والموفور: التام، وقد أخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال:
يا من مدحناه فأكذبنا * بفعاله وأثابنا خجلا
بردا قشيبا من مدائحنا * سربلت فاردده لنا سملا (1)
إن التجارب تهتك المستور من * أبنائها وتبهرج الرجلا

(1) السمل: الثوب البالي.
119

[نسب بنى ناجية]
فأما القول في نسب بنى ناجية، فإنهم ينسبون أنفسهم إلى سامة بن لؤي بن غالب
بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار
بن معد بن عدنان. وقريش تدفعهم عن هذا النسب، ويسمونهم بنى ناجية - وهي
أمهم وهي امرأة سامة بن لؤي بن غالب، ويقولون: إن سامة خرج إلى ناحية
البحرين مغاضبا لأخيه كعب بن لؤي في مماظة (1) كانت بينهما، فطأطأت ناقته رأسها
لتأخذ العشب، فعلق بمشفرها أفعى، ثم عطفت على قتبها فحكته به، فدب الأفعى على
القتب حتى نهش ساق سامة فقتله فقال أخوه كعب بن لؤي يرثيه (2):
عين جودي لسامة بن لؤي علقت ساق سامه العلاقة (3)
رب كأس هرقتها ابن لؤي حذر الموت لم تكن مهراقه
قالوا: وكانت معه امرأته ناجية، فلما مات تزوجت رجلا في البحرين، فولدت منه
الحارث، ومات أبوه وهو صغير، فلما ترعرع طمعت أمه أن تلحقه بقريش، فأخبرته
أنه ابن سامة بن لؤي بن غالب، فرحل من البحرين إلى مكة ومعه أمه، فأخبر كعب
بن لؤي أنه ابن أخيه سامة، فعرف كعب أمه ناجية، فظن أنه صادق في دعواه، فقبله
ومكث عنده مدة، حتى قدم مكة ركب من البحرين، فرأوا الحارث، فسلموا عليه،
وحادثوه، فسألهم كعب بن لؤي: من أين يعرفونه؟ فقالوا: هذا ابن رجل من بلدنا
يعرف بفلان، وشرحوا له خبره، فنفاه كعب عن مكة ونفى أمه، فرجعا إلى البحرين،
فكانا هناك، وتزوج الحارث، فأعقب هذا العقب.

(1) المماظة: المخاصمة والمنازعة.
(2) ويروى أن قائلة هذا الشعر امرأة أزدية كان سامه نزل بزوجها، في خبر وأبيات أخرى ذكره صاحب اللسان
في 12: 195 (3) العلاقة: المنية.
120

وقال هؤلاء: إنه روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عمى سامة
لم يعقب) (1).
وزعم ابن الكلبي أن سامة بن لؤي ولد غالب بن سامة، والحارث بن سامة - وأم غالب
بن سامة ناجية - ثم هلك سامة، فخلف عليها ابنه الحارث بن سامة، نكاح مقت (2)،
ثم هلك ابنا سامة ولم يعقبا، وإن قوما من بنى ناجية بن جرم بن ربان بن علاف، ادعوا
أنهم بنو سامة بن لؤي، وأن أمهم ناجية هذه، ونسبوها هذا النسب، وانتموا إلى
الحارث بن سامة، وهم الذين باعهم علي عليه السلام على مصقلة بن هبيرة وهذا هو قول
الهيثم بن عدي. كل هذا ذكره أبو الفرج الأصفهاني في،، كتاب الأغاني الكبير،، (3).
ووجدت أنا في،، جمهرة النسب،، لابن الكلبي كلاما قد صرح فيه بأن سامة بن
لؤي أعقب، فقال: ولد سامة بن لؤي الحارث - وأمه هند بنت تيم - وغالب بن سامة -
وأمه ناجية بنت جرم بن بابان، من قضاعة، فهلك غالب بعد أبيه، وهو ابن اثنتي عشرة
سنة، فولد الحارث بن سامة لؤيا وعبيدة وربيعة وسعدا، وأمهم سلمى بنت ثيم بن شيبان
بن محارب بن فهر وعبد البيت، وأمه ناجية بنت جرم، خلف عليها الحارث بعد أبيه
بنكاح مقت، فهم الذين قتلهم علي عليه السلام.
قال أبو الفرج الأصفهاني: أما الزبير بن بكار، فإنه أدخلهم في قريش، وهم قريش
العازبة، قال: وإنما سموا العازبة، لأنهم عزبوا عن قومهم فنسبوا إلى أمهم ناجية
بنت جرم بن ربان بن علاف، وهو أول من اتخذ الرحال العلافية فنسبت إليه

(1) بقية الخبر كما في الأغاني: (وكان بنو ناجية ارتدوا عن الاسلام، ولما ولى علي بن أبي طالب رضى
عنه الخلاقة دعاهم إلى الاسلام، فأسلم بعضهم وأقام الباقون على الردة، فسباهم واسترقهم، فاشتراهم مصقلة
ابن هبيرة منه، وأدى ثلث ثمنهم وأشهد بالباقي على نفسه، ثم أعتقهم وهرب من تحت ليله إلى معاوية،
فصاروا أحرارا، ولزمه الثمن، فشعت علي بن أبي طالب شيئا من داره، وقيل بل هدمها. فلم يدخل
مصقلة الكوفة حتى قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه).
(2) نكاح المقت: أن يتزوج الرجل امرأة أبيه إذا طلقها أو مات عنها، وكان يفعل في الجاهلية وحرمه الاسلام.
(3) الأغاني 10: 205 - 207 (طبعة الدار).
121

واسم ناجية ليلى، وإنما سميت ناجية، لأنها سارت مع سامة في مفازة، فعطشت،
فاستسقته، فقال لها: الماء بين يديك، وهو يريها السراب، حتى أتت إلى الماء فشربت،
فسميت ناجية.
قال أبو الفرج: وللزبير بن بكار في إدخالهم في قريش مذهب، وهو مخالفة أمير
المؤمنين علي عليه السلام، وميله إليهم، لاجماعهم على بغضه عليه السلام، حسب المشهور
المأثور من مذهب الزبير في ذلك.
* * *
[نسب علي بن الجهم وذكر طائفة من أخباره وشعره]
ومن المنتسبين إلى سامة بن لؤي علي بن الجهم الشاعر، وهو علي بن الجهم بن
بدر بن جهم بن مسعود بن أسيد بن أذينة بن كراز بن كعب بن جابر بن مالك
بن عتبة (1) بن الحارث بن عبد البيت بن سامة بن لؤي بن غالب.
هكذا ينسب نفسه، وكان مبغضا لعلى عليه السلام، ينحو نحو مروان بن أبي حفصة
في هجاء الطالبيين وذم الشيعة، وهو القائل:
ورافضة تقول بشعب رضوى: * إمام، خاب ذلك من إمام! (2)
إمام من له عشرون ألفا * من الأتراك مشرعة السهام!
وقد هجاه أبو عبادة البحتري، فقال فيه.
إذا ما حصلت عليا قريش * فلا في العير أنت ولا النفير (3)
ولو أعطاك ربك ما تمنى * لزاد الخلق في عظم الأيور

(1) في الأغاني: (عينية).
(2) الأغاني 10: 205.
(3) ديوانه 2: 1038 (دار المعارف)، والأغاني 10: 206
122

وما الجهم بن بدر حين يعزى * من الأقمار ثم ولا البدور (1)
علام هجوت مجتهدا عليا * بما لفقت من كذب وزور!
أمالك في استك الوجعاء شغل * يكفك عن أذى أهل القبور!
* * *
وسمع أبو العيناء علي بن الجهم يوما يطعن على أمير المؤمنين، فقال له: أنا أدرى لم
تطعن على أمير المؤمنين! فقال: أتعني قصة بيعه أهلي من مصقلة بن هبيرة؟ قال: لا،
أنت أوضع من ذلك، ولكنه عليه السلام قتل الفاعل من قوم لوط، والمفعول به،
وأنت أسفلهما.
ومن شعر علي بن الجهم لما حبسه المتوكل (2):
ألم تر مظهرين على عتبا (3) * وهم بالأمس إخوان الصفاء
فلما أن بليت غدوا وراحوا (4) * علي أشد أسباب البلاء
أبت أخطارهم أن ينصروني * بمال أو بجاه أو ثراء (5)
وخافوا أن يقال لهم: خذلتم * صديقا، فادعوا قدم الجفاء
تظافرت الروافض والنصارى * وأهل الاعتزال على هجائي

(1) الديوان والأغاني: (ومار غثاؤك) في حواشي الأغاني: (الرغثاء أصلها عصب أو عرق في
الثدي يدر اللبن، واستعملها البحتري هنا في الأب).
(2) من قصيدة طويلة في ديوانه 81 - 85، وفي الأغاني 10: 206 - 208: (كان علي بن
الجهم قد هجا بختيشوع، فسبه عند المتوكل، فحبسه المتوكل، فقال علي بن الجهم في حبسه عدة قصائد
كتب بها إلى المتوكل، فأطلقه بعد سنة ثم نفاه بعد ذلك إلى خراسان. فقال أول ما حبس قصيدة كتب
بها إلى أخيه، أولها قوله:
توكلها على رب السماء * وسلمنا لأسباب القضاء
ثم أورد القصيدة.
(3) الأغاني: (عيبا)، والديوان: (غشا).
(4) الديوان: (بليت بنكبة فعدوا وراحوا).
(5) الديوان: (براء)، وقال في شرحه: الراء: الرأي.
123

وعابوني وما ذنبي إليهم * سوى علمي بأولاد الزناء
يعنى بالروافض: نجاح بن مسلمة (1)، والنصارى بختيشوع (2)، وأهل الاعتزال
على (3) بن يحيى بن المنجم (4).
قال أبو الفرج: (5) وكان علي بن الجهم من الحشوية (6) شديد النصب (7)
عدوا للتوحيد والعدل، فلما سخط المتوكل على أحمد بن أبي دؤاد وكفأه (8)، شمت
به علي بن الجهم، فهجاه وقال فيه (9):
يا أحمد بن أبي دؤاد دعوة * بعثت عليك جنادلا وحديدا (10)
ما هذه البدع التي سميتها * - بالجهل منك - العدل والتوحيدا
أفسدت أمر الدين حين وليته * ورميته بأبي الوليد وليدا

(1) نجاح بن مسلمة، كان على ديوان الوقيع والتتبع على العمال في عهد المتوكل، فكان جميع العمال
يتقونه، وكان المتوكل ربما نادمه، وتوفى منكوبا سنة 245. تاريخ الطبري (وفيات سنة 245).
(2) هو بختيشوع بن جبريل بن بختيشوع الأكبر المتطبب.
(3) علي بن يحيى بن أبي متصدر المنجم، نديم المتوكل وأحد خواصه المتقدمين عنده، توفى سنة 275.
ابن خلكان 1: 356.
(4) في طبقات الشعراء لابن المعتز 320: (وإنما عنى بالروافض الطاهريين، وبأهل الاعتزال بنى
دؤاد، وبالنصارى بختيشوع بن جبريل، فإنه كان يعاديه).
(5) الأغاني 10: 217.
(6) الحشوية: فرقة من المرجئة يقولون: حكم الأحاديث كلها واحد، وعندهم أن تارك النفل كتارك
الفرض، تفسير القرطبي 4: 162.
(7) النواصب: قوم يتدينون ببغضة على (8) كفأه، أي طرده وأبعده.
(9) ذكر صاحب الأغاني في هذا الخبر أنه لما حبس المتوكل علي بن الجهم مدح أحمد بن أبي دؤاد عدة مدائح،
وسأله أن يقوم بأمره، منها قوله:
يا أحمد بن أبي دؤاد إنما * تدعى لكل عظيمة يا أحمد
أبلغ أمير المؤمنين ودونه * خوض الردى ومخاوف لا تنفد
أنتم بنو عم النبي محمد * أولى بما شرع النبي محمد
فلم يفعل وقعد عنه، فلما نفى المتوكل أحمد بن أبي دؤاد شمت به علي بن الجهم، وهجاه بهذه الأبيات
(10) ديوانه 125، 126.
124

- أبو الوليد بن أحمد بن أبي دؤاد، وكان رتبه قاضيا (1) -
لا محكما جلدا ولا مستطرفا * كهلا ولا مستحدثا محمودا (2)
شرها إذا ذكر المكارم والعلا * ذكر القلايا مبدئا ومعيدا (3)
ويود لو مسخت ربيعة كلها * وبنو إياد صحفة وثريدا
وإذا تربع في المجالس خلته * ضبعا وخلت بنى أبيه قرودا
وإذا تبسم ضاحكا شبهته * شرقا تعجل شربه مردودا
لا أصبحت بالخير عين أبصرت * تلك المناخر والثنايا السودا.
وقال يهجوه لما فلج (4):
لم يبق منك سوى خيالك لامعا * فوق الفراش ممهدا بوساد
فرحت بمصرعك البرية كلها * من كان منهم موقنا بمعاد
كم مجلس لله قد عطلته * كي لا يحدث فيه بالاسناد
ولكم مصابيح لنا أطفأتها * حتى تحيد عن الطريق الهادي (5)
ولكم كريمة معشر أرملتها * ومحدث أوثقت في الأقياد
إن الأسارى في السجون تفرجوا * لما أتتك مواكب العواد
وغدا لمصرعك الطبيب فلم يجد * لدواء دائك حيلة المرتاد
فذق الهوان معجلا ومؤجلا * والله رب العرش بالمرصاد
لا زال فالجك الذي بك دائما * وفجعت قبل الموت بالأولاد

(1) وكان يتولى المظالم سرا بسامراء، وعزله المتوكل سنة 237.
(2) الديوان والأغاني: (لا محكما جزلا) والجزل هنا: الجيد الرأي.
(3) القلايا: المقليات، مفرده قلية.
(4) ديوانه 128، 129، والأغاني 10: 229.
(5) الأغاني: (حتى يزول عن الطريق الهادي).
125

وروى أبو الفرج الأصفهاني في كتاب،، الأغاني،، في ترجمة مروان بن أبي حفصة (1) الأصغر
أن علي بن الجهم خطب امرأة من قريش، فلم يزوجوه، وبلغ المتوكل ذلك، فسأل عن
السبب، فحدث بقصة بنى سامة بن لؤي، وأن أبا بكر وعمر لم يدخلاهم في قريش، وأن
عثمان أدخلهم فيها، وأن عليا عليه السلام أخرجهم منها، فارتدوا، وأنه قتل من ارتد
منهم، وسبى بقيتهم، فباعهم من مصقلة بن هبيرة، فضحك المتوكل، وبعث إلى علي بن
الجهم فأحضره، وأخبره بما قال القوم، وكان فيهم مروان بن أبي حفصة المكنى أبا السمط
وهو مروان الأصغر، وكان المتوكل يغريه بعلي بن الجهم، ويضعه على هجائه وثلبه،
فيضحك منهما، فقال مروان:
إن جهما حين تنسبه * ليس من عجم ولا عرب
لج في شتمي بلا سبب * سارق للشعر والنسب
من أناس يدعون أبا * ماله في الناس من عقب
فغضب علي بن الجهم، ولم يجبه، لأنه كان يستحقره فأومأ إليه المتوكل أن
يزيده فقال:
أأنتم يا بن جهم من قريش * وقد باعوكم ممن تريد
أترجو أن تكاثرنا جهارا * بأصلكم وقد بيع الجدود
فلم يجبه ابن الجهم، فقال فيه أيضا:
على تعرضت لي ضلة * لجهلك بالشعر يا مائق (2)
تروم قريشا وأنسابها * وأنت لأنسابها سارق
فإن كان سامة جدا لكم * فأمك مني إذا طالق

(1) لم أجد هذا الخبر وهذا الشعر فيما طبع من كتاب الأغاني.
(2) المائق: الأحمق.
126

[نسب مصقلة بن هبيرة]
فأما نسب مصقلة بن هبيرة، فإن ابن الكلبي، قد ذكره في،، جمهرة النسب،،
فقال: هو مصقلة بن هبيرة بن شبل بن يثربي امرئ القيس بن ربيعة بن مالك
بن ثعلبة بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن
هنب بن أفصى بن دعمي، بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان.
[خبر بنى ناجية مع علي]
وأما خبر بنى ناجية مع أمير المؤمنين عليه السلام، فقد ذكره إبراهيم بن هلال الثقفي
في كتاب،، الغارات،، قال:
حدثني محمد بن عبد الله بن عثمان، عن نصر بن مزاحم، قال: حدثني عمر بن سعد،
عمن حدثه ممن أدرك أمر بنى ناجية، قال: لما بايع أهل البصرة عليا بعد الهزيمة، دخلوا
في الطاعة غير بنى ناجية، فإنهم عسكروا، فبعث إليهم علي عليه السلام رجلا من
أصحابه في خيل ليقاتلهم، فأتاهم، فقال: ما بالكم عسكرتم، وقد دخل الناس في الطاعة
غيركم! فافترقوا ثلاث فرق: فرقة قالوا: كنا نصارى فأسلمنا، ودخلنا فيما دخل الناس فيه
من الفتنة، ونحن نبايع كما بايع الناس، فأمرهم فاعتزلوا. وفرقة قالوا: كنا نصارى فلم نسلم،
وخرجنا مع القوم الذين كانوا خرجوا، قهرونا فأخرجونا كرها، فخرجنا معهم فهزموا،
فنحن ندخل فيما دخل الناس فيه، ونعطيكم الجزية كما أعطيناهم، فقال: اعتزلوا فاعتزلوا.
وفرقة قالوا: كنا نصارى فأسلمنا فلم يعجبنا الاسلام، فرجعنا إلى النصرانية، فنحن نعطيكم
الجزية كما أعطاكم النصارى. فقال لهم: توبوا وارجعوا إلى الاسلام، فأبوا، فقتل مقاتلهم
وسبى ذراريهم، وقدم بهم على علي عليه السلام.
127

[قصة الخريت بن راشد الناجي وخروجه على على]
قال ابن هلال الثقفي: وروى محمد بن عبد الله بن عثمان، عن أبي سيف، عن الحارث
بن كعب الأزدي، عن عمه عبد الله بن قعين الأزدي، قال: كان (1) الخريت بن راشد
الناجي، أحد بنى ناجية، قد شهد مع علي عليه السلام صفين، فجاء إلى علي عليه السلام
بعد انقضاء صفين، وبعد تحكيم الحكمين في ثلاثين من أصحابه، يمشى بينهم حتى قام
بين يديه، فقال: لا والله لا أطيع أمرك، ولا أصلى خلفك، وإني غدا لمفارق لك،
فقال له: ثكلتك أمك! إذا تنقض عهدك، وتعصى ربك، ولا تضر إلا نفسك، أخبرني
لم تفعل ذلك! قال: لأنك حكمت في الكتاب، وضعفت عن الحق إذ جد الجد، وركنت
إلى القوم الذين ظلموا أنفسهم، فأنا عليك راد، وعليهم ناقم، ولكم جميعا مباين.
فقال له علي عليه السلام: ويحك! هلم إلى أدارسك وأناظرك في السنن، وأفاتحك
أمورا من الحق أنا أعلم بها منك، فلعلك تعرف ما أنت الان له منكر، وتبصر ما أنت الان
عنه عم وبه جاهل، فقال الخريت: فإني غاد عليك غدا. فقال علي عليه السلام: اغد
ولا يستهوينك الشيطان، ولا يتقحمن بك رأى السوء، ولا يستخفنك الجهلاء الذين
لا يعلمون، فوالله إن استرشدتني واستنصحتني وقبلت منى لأهدينك سبيل الرشاد.
فخرج الخريت من عنده منصرفا إلى أهله.
قال عبد الله بن قعين: فعجلت في أثره مسرعا، وكان لي من بنى عمه صديق،
فأردت أن ألقى ابن عمه في ذلك، فأعلمه بما كان من قوله لأمير المؤمنين، وآمر ابن عمه
أن يشتد بلسانه عليه، وأن يأمره بطاعة أمير المؤمنين ومناصحته، ويخبره أن ذلك خير له
في عاجل الدنيا وآجل الآخرة.
قال: فخرجت حتى انتهيت إلى منزله - وقد سبقني - فقمت عند باب دار فيها رجال
من أصحابه، لم يكونوا شهدوا معه دخوله على أمير المؤمنين عليه السلام، فوالله ما رجع

(1) وانظر الخبر أيضا في تاريخ الطبري 5: 113 وما بعدها.
128

ولا ندم على ما قال لأمير المؤمنين وما رد عليه، ولكنه قال لهم: يا هؤلاء، إني قد رأيت
أن أفارق هذا الرجل، وقد فارقته على أن أرجع إليه من غد، ولا أرى إلا المفارقة، فقال
له أكثر أصحابه: لا تفعل حتى تأتيه، فإن أتاك بأمر تعرفه قبلت منه، وإن كانت
الأخرى فما أقدرك على فراقه! قال لهم: نعم ما رأيتم، قال: فاستأذنت عليهم فأذنوا
لي، فأقبلت على ابن عمه - وهو مدرك بن الريان الناجي، وكان من كبراء العرب - فقلت
له: إن لك على حقا لإحسانك وودك وحق المسلم على المسلم (1). إن ابن عمك كان منه ما قد
ذكر لك، فأخل به فاردد عليه رأيه وعظم عليه ما أتى، واعلم أنى خائف إن فارق
أمير المؤمنين أن يقتلك ونفسه وعشيرته فقال: جزاك الله خيرا من أخ! إن أراد فراق
أمير المؤمنين عليه السلام ففي ذلك هلاكه، وإن اختار مناصحته والإقامة معه ففي
ذلك حظه ورشده.
قال: فأردت الرجوع إلى علي عليه السلام، لأعلمه الذي كان، ثم اطمأننت إلى
قول صاحبي، فرجعت إلى منزلي، فبت ثم أصبحت، فلما ارتفع النهار أتيت أمير المؤمنين
عليه السلام، فجلست عنده ساعة، وأنا أريد أن أحدثه بالذي كان على خلوة، فأطلت
الجلوس، ولا يزداد الناس إلا كثرة، فدنوت منه، فجلست وراءه، فأصغى إلى برأسه،
فأخبرته بما سمعته من الخريت، وما قلت لابن عمه وما رد على، فقال عليه السلام:
دعه، فإن قبل الحق ورجع عرفنا له ذلك وقبلناه منه، فقلت: يا أمير المؤمنين، فلم
لا تأخذه الان فتستوثق منه؟ فقال: إنا لو فعلنا هذا بكل من يتهم من الناس ملأنا
السجون منهم، ولا أراني يسعني الوثوب بالناس والحبس لهم وعقوبتهم حتى يظهروا
لي الخلاف.
قال: فسكت عنه وتنحيت، فجلست مع أصحابي هنيهة، فقال لي عليه السلام:

(1) في الطبري: (بعد حق المسلم على المسلم).
129

ادن منى، فدنوت، فقال لي مسرا: اذهب إلى منزل الرجل فاعلم ما فعل، فإنه قل
يوم لم يكن يأتيني فيه قبل هذه الساعة، فأتيت إلى منزله، فإذا ليس في منزله منهم ديار،
فدرت على أبواب دور أخرى، كان فيها طائفة من أصحابه، فإذا ليس فيها داع ولا
مجيب فأقبلت إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فقال لي حين رآني: أوطنوا (1) فأقاموا أم جبنوا
فظعنوا؟ قلت: لا بل ظعنوا، فقال: أبعدهم الله كما بعدت ثمود! أما والله لو قد أشرعت
لهم الأسنة، وصبت على هامهم السيوف، لقد ندموا، إن الشيطان قد استهواهم وأضلهم،
وهو غدا متبرئ منهم، ومخل عنهم، فقام إليه زياد بن خصفة، فقال: يا أمير المؤمنين،
إنه لو لم يكن من مضرة هؤلاء إلا فراقهم إيانا لم يعظم فقدهم علينا، فإنهم قلما يزيدون
في عددنا لو أقاموا معنا، وقلما ينقصون من عددنا بخروجهم منا، ولكنا نخاف أن يفسدوا
علينا جماعة كثيرة ممن يقدمون عليهم من أهل طاعتك، فائذن لي في اتباعهم حتى أردهم
عليك إن شاء الله.
فقال له عليه السلام: فأخرج في آثارهم راشدا، فلما ذهب ليخرج قال له: وهل تدرى
أين توجه القوم؟ قال: لا والله، ولكني أخرج فأسأل وأتبع الأثر، فقال: اخرج رحمك
الله حتى تنزل دير أبى موسى ثم لا تبرحه حتى يأتيك أمري، فإنهم إن كانوا خرجوا
ظاهرين بارزين للناس في جماعة، فإن عمالي ستكتب إلى بذلك، وإن كانوا متفرقين
مستخفين، فذلك أخفى لهم، وسأكتب إلى من حولي من عمالي فيهم.
فكتب نسخة واحدة وأخرجها إلى العمال:
من عبد الله على أمير المؤمنين إلى من قرئ عليه كتابي هذا من العمال،
أما بعد، فإن رجالا لنا عندهم تبعة، خرجوا هرابا نظنهم خرجوا نحو بلاد البصرة، فاسأل
عنهم أهل بلادك، واجعل عليهم العيون في كل ناحية من أرضك، ثم اكتب إلى بما
ينتهى إليك عنهم. والسلام.

(1) وطن بالمكان، أي أقام، وانظر تاريخ الطبري 5: 115.
130

فخرج زياد بن خصفة حتى أتى داره، وجمع أصحابه فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
يا معشر بكر بن وائل، إن أمير المؤمنين ندبني لأمر من أموره مهم له، وأمرني بالانكماش
فيه بالعشيرة، حتى آتي أمره، وأنتم شيعته وأنصاره، وأوثق حي من أحياء العرب في
نفسه، فانتدبوا معي الساعة، وعجلوا. فوالله ما كان إلا ساعة حتى اجتمع إليه مائة وثلاثون
رجلا، فقال: اكتفينا لا نريد أكثر من هؤلاء، فخرج حتى قطع الجسر،
ثم أتى دير أبى موسى فنزله، فأقام به بقيه يومه ذلك، ينتظر أمر أمير المؤمنين
عليه السلام.
قال إبراهيم بن هلال: فحدثني محمد بن عبد الله، عن ابن أبي سيف، عن أبي
الصلت التيمي، عن أبي سعيد، عن عبد الله بن وأل التيمي، قال: إني لعند
أمير المؤمنين، إذا فيج (1) قد جاءه يسعى بكتاب من قرظة بن كعب بن عمرو الأنصاري - وكان
أحد عماله - فيه: ذ
لعبد الله على أمير المؤمنين من قرظة بن كعب، سلام عليك، فإني أحمد إليك
الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد:
فإني أخبر أمير المؤمنين، أن خيلا مرت من قبل الكوفة متوجهة [نحو نفر] (2) وأن رجلا
من دهاقين أسفل الفرات قد أسلم وصلى، يقال له: زاذان فروخ، أقبل من عند أخوال له
فلقوه، فقالوا له: أمسلم أنت أم كافر؟ قال: بل مسلم، قالوا: فما تقول في علي؟ قال: أقول
فيه خيرا، أقول: إنه أمير المؤمنين عليه السلام وسيد البشر ووصى رسول الله صلى الله
عليه وسلم. فقالوا: كفرت يا عدو الله! ثم حملت عليه عصابة منهم، فقطعوه بأسيافهم،
وأخذوا معه رجلا من أهل الذمة يهوديا، فقالوا له: ما دينك؟ قال: يهودي، فقالوا:

(1) الفيج: رسول السلطان على رجله، فارسي معرب (پيك). تاج العروس 2: 89.
(2) تكملة من تاريخ الطبري. ونفر: بلدة على نهر النرس.
131

خلوا سبيل هذا، لا سبيل لكم عليه، فأقبل إلينا ذلك الذمي، فأخبرنا الخبر، وقد
سألت عنهم، فلم يخبرني أحد عنهم بشئ، فليكتب إلى أمير المؤمنين فيهم برأي أنته
إليه، إن شاء الله.
فكتب إليه أمير المؤمنين عليه السلام: أما بعد، فقد فهمت ما ذكرت من أمر العصابة التي مرت بعملك، فقتلت البر
المسلم، وأمن عندهم المخالف المشرك (1)، وإن أولئك قوم استهواهم الشيطان فضلوا، كالذين
حسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا، فأسمع بهم وأبصر يوم تخبر (2) أعمالهم! فالزم عملك
وأقبل على خراجك، فإنك كما ذكرت في طاعتك ونصيحتك، والسلام.
قال: فكتب علي عليه السلام إلى زياد بن خصفة، مع عبد الله بن وأل التيمي،
كتابا نسخته:
أما بعد، فقد كنت أمرتك أن تنزل دير أبى موسى حتى يأتيك أمري، وذلك
أنى لم أكن علمت أين توجه القوم، وقد بلغني أنهم أخذوا نحو قرية من قرى السواد،
فاتبع آثارهم وسل عنهم، فإنهم قد قتلوا رجلا من أهل السواد مسلما مصليا، فإذا أنت
لحقت بهم فارددهم إلى، فإن أبوا فناجزهم، واستعن بالله عليهم، فإنهم قد فارقوا الحق،
وسفكوا الدم الحرام، وأخافوا السبيل. والسلام.
قال عبد الله بن وأل: فأخذت الكتاب منه عليه السلام - وأنا يومئذ شاب - فمضيت به
غير بعيد ثم رجعت إليه، فقلت: يا أمير المؤمنين، ألا أمضى مع زياد بن خصفة إلى
عدوك، إذا دفعت إليه كتابك؟ فقال: يا بن أخي، افعل، فوالله إني لأرجو أن تكون
من أعواني على الحق وأنصاري على القوم الظالمين. قال: فوالله ما أحب أن لي بمقالته

(1) الطبري: (الكافر).
(2) كذا في ج والطبري، وفي ا، ب: (تحشر).
132

تلك حمر النعم، فقلت له: يا أمير المؤمنين، أنا والله كذلك من أولئك، أنا والله
حيث تحب.
ثم مضيت إلى زياد بالكتاب، وأنا على فرس رائع كريم، وعلى السلاح، فقال لي
زياد: يا بن أخي، والله ما لي عنك من غنى (1)، وإني أحب أن تكون معي في وجهي هذا،
فقلت: إني قد استأذنت أمير المؤمنين في ذلك فأذن لي، فسر بذلك، ثم خرجنا حتى أتينا
الموضع الذي كانوا فيه، فسألنا عنهم، فقيل: أخذوا نحو المدائن فلحقناهم، وهم نزول
بالمدائن، وقد أقاموا بها يوما وليلة، وقد استراحوا وعلفوا خيولهم، فهم جامون مريحون،
وأتيناهم وقد تقطعنا ولغبنا ونصبنا، فلما رأونا وثبوا على خيولهم، فاستووا عليها، فجئنا حتى
انتهينا إليهم، فنادى الخريت بن راشد: يا عميان القلوب والابصار، أمع الله وكتابه أنتم
أم مع القوم الظالمين؟ فقال له زياد بن خصفة: بل مع الله وكتابه وسنة رسوله، ومع من الله
ورسوله وكتابه آثر عنده من الدنيا ثوابا ولو أنها منذ يوم خلقت إلى يوم تفنى لآثر الله
عليها. أيها العمى الابصار، الصم الاسماع!
فقال الخريت: فأخبرونا ما تريدون؟ فقال له زياد - وكان مجربا رفيقا: قد ترى
ما بنا من النصب واللغوب (2)، والذي جئنا له لا يصلح فيه الكلام علانية على رؤوس
أصحابك، ولكن تنزلون وننزل، ثم نخلو جميعا، فنتذاكر أمرنا وننظر فيه، فإن رأيت
فيما جئنا له حظا لنفسك قبلته، وإن رأيت فيما أسمع منك أمرا أرجو فيه العافية لنا ولك
لم أرده عليك.
فقال الخريت: انزل، فنزل فأقبل إلينا زياد، فقال: أنزلوا على هذا الماء، فأقبلنا حتى
انتهينا إلى الماء، فنزلنا به، فما هو إلا أن نزلنا فتفرقنا، فتحلقنا عشرة وتسعة وثمانية وسبعة،
تضع كل حلقة طعامها بين أيديها، لتأكل ثم تقوم إلى الماء فتشرب.

(1) الطبري: (غناء).
(2) الطبري: (من السغوب واللغوب).
133

وقال لنا زياد: علقوا على خيولكم، فعلقنا عليها مخاليها، ووقف زياد في خمسة
فوارس، أحدهم عبد الله بن وأل بيننا وبين القوم، وانطلق القوم فتنحوا، فنزلوا وأقبل
إلينا زياد، فلما رأى تفرقنا وتحلقنا، قال: سبحان الله! أنتم أصحاب حرب! والله لو أن
هؤلاء جاءوكم الساعة على هذه الحالة ما أرادوا من غرتكم أفضل من أعمالكم التي أنتم
عليها، عجلوا، قوموا إلى خيولكم. فأسرعنا فمنا من يتوضأ، ومنا من يشرب، ومنا من
يسقى فرسه، حتى إذا فرغنا من ذلك أتينا زيادا، وإن في يده لعرقا (1) ينهسه، فنهس منه
نهستين أو ثلاثة، ثم أتى بإداوة فيها ماء، فشرب ثم ألقى العرق من يده، وقال: يا هؤلاء،
إنا قد لقينا العدو، وإن القوم لفي عدتكم، ولقد حزرتهم فما أظن أحد الفريقين
يزيد على الاخر خمسة نفر، فإني أرى أمركم وأمرهم سيصير إلى القتال، فإن كان ذلك فلا تكونوا
أعجز الفريقين.
ثم قال: ليأخذ كل رجل منكم بعنان فرسه، فإذا دنوت منهم وكلمت صاحبهم، فإن
تابعني على ما أريد، وإلا فإذا دعوتكم فاستووا على متون خيلكم، ثم أقبلوا معا غير
متفرقين. ثم استقدم أمامنا وأنا معه، فسمعت رجلا من القوم يقول: جاءكم القوم وهم
كالون معيون، وأنتم جامون (2) مريحون (3)، فتركتموهم حتى نزلوا فأكلوا وشربوا،
وأراحوا دوابهم، هذا والله سوء الرأي.
قال: ودعا زياد صاحبهم الخريت، فقال له: اعتزل ننظر في أمرنا، فأقبل إليه في
خمسة نفر، فقلت لزياد: أدعو لك ثلاثة نفر من أصحابنا، حتى نلقاهم في عددهم؟ فقال:
ادع من أحببت. فدعوت له ثلاثة، فكنا خمسة وهم خمسة.
فقال له زياد: ما الذي نقمت على أمير المؤمنين وعلينا حتى فارقتنا؟ فقال: لم أرض

(1) العرق بالفتح: العظم بلحمه، ويقال: نهش اللحم، أي أخذه بمقدم أسنانه.
(2) جم، من الجمام، وهو الراحة.
(3) مريحون، من قولهم: أراح فلان إذا رجعت إليه نفسه بعد الإعياء.
134

صاحبكم إماما، ولم أرض بسيرتكم سيرة، فرأيت أن أعتزل، وأكون مع من يدعو إلى
الشورى بين الناس، فإذا اجتمع الناس على رجل هو لجميع الأمة رضا كنت مع الناس.
فقال زياد: ويحك! وهل يجتمع الناس على رجل يداني عليا عالما بالله وبكتابه وسنة
رسوله، مع قرابته وسابقته في الاسلام! فقال الخريت: هو ما أقول لك، فقال: ففيم قتلتم
الرجل المسلم؟ فقال الخريت: ما أنا قتلته، قتلته طائفة من أصحابي، قال: فادفعهم إلينا
قال: ما إلى ذلك من سبيل، قال: أو هكذا أنت فاعل! قال: هو ما تسمع.
قال: فدعونا أصحابنا، ودعا الخريت أصحابه، ثم اقتتلنا، فوالله ما رأيت قتالا مثله
منذ خلقني الله، لقد تطاعنا (1) بالرماح حتى لم يبق في أيدينا رمح، ثم اضطر بنا بالسيوف حتى
انحنت، وعقرت (2) عامة خلنا و خيلهم، وكثرت الجراح فيما بيننا وبينهم، وقتل منا
رجلان: مولى لزياد كانت معه رايته يدعى سويدا، ورجل من الأبناء يدعى واقد بن
بكر، وصرع منهم خمسة نفر، وحال الليل بيننا وبينهم، وقد والله كرهونا وكرهناهم،
وهرونا وهررناهم (3)، وقد جرح زياد وجرحت. ثم إنا بتنا في جانب وتنحوا،
فمكثوا ساعة من الليل ثم مضوا، فذهبوا وأصبحنا، فوجدناهم قد ذهبوا، فوالله ما كرهنا
ذلك، فمضينا حتى أتينا البصرة، وبلغنا أنهم أتوا الأهواز (4)، فنزلوا في جانب منها، وتلاحق
بهم ناس من أصحابهم نحو مائتين كانوا معهم بالكوفة، لم يكن لهم من القوة
ما ينهضون به (5) معهم حين نهضوا، فاتبعوهم من بعد لحوقهم بالأهواز، فأقاموا معهم.
قال: وكتب زياد بن خصفة إلى علي عليه السلام: أما بعد: فإنا لقينا عدو الله الناجي وأصحابه بالمدائن، فدعوناهم إلى الهدى والحق وكلمة

(1) الطبري: (أطعنا).
(2) عقرت الدابة، إذا قطعت قوائمها بالسيف.
(3) هرونا وهررناهم، أي كرهونا وكرهناهم.
(4) الأهواز: سبع كور بين البصرة وفارس.
(5) الطبري: (ما ينهضهم).
135

السواء، فتولوا عن الحق وأخذتهم العزة بالاثم، وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن
السبيل، فقصدونا وصمدنا صمدهم، فاقتتلنا قتالا شديدا ما بين قائم الظهر إلى أن
دلكت (1) الشمس، واستشهد منا رجلان صالحان، وأصيب منهم خمسة نفر، وخلوا
لنا المعركة، وقد فشت فينا وفيهم الجراح -. ثم إن القوم لما أدركوا الليل خرجوا من تحته
متنكرين إلى أرض الأهواز، وقد بلغني أنهم نزلوا من الأهواز جانبا. ونحن بالبصرة
نداوي جراحنا، وننتظر أمرك رحمك الله، والسلام.
فلما أتاه الكتاب، قرأه على الناس، فقام إليه معقل بن قيس الرياحي، فقال:
أصلحك الله يا أمير المؤمنين إنما كان ينبغي أن يكون مكان كل رجل من هؤلاء الذين
بعثتهم في طلبهم عشرة من المسلمين، فإذا لحقوهم استأصلوا شأفتهم (2)، وقطعوا دابرهم،
فأما أن تلقاهم بأعدادهم، فلعمري ليصبرن لهم، فإنهم قوم عرب، والعدة تصبر للعدة،
فيقاتلون كل القتال.
قال: فقال عليه السلام له: تجهز يا معقل إليهم، وندب معه ألفين من أهل
الكوفة، فيهم يزيد بن معقل، وكتب إلى عبد الله بن العباس بالبصرة رحمه الله تعالى:
أما بعد، فابعث رجلا من قبلك صليبا شجاعا، معروفا بالصلاح في ألفي رجل من
أهل البصرة، فليتبع معقل بن قيس، فإذا خرج من أرض البصرة، فهو أمير أصحابه حتى
يلقى معقلا، فإذا لقيه فمعقل أمير الفريقين، فليسمع (3) منه وليطعه ولا يخالفه، ومر زياد بن
خصفة فليقبل إلينا، فنعم المرء زياد، ونعم القبيل قبيله! والسلام.

(1) دلكت الشمس: اصفرت وجنحت للمغيب.
(2) الشأفة في الأصل: قرحة تخرج في أسفل القدم فتكوى فتذهب، وإذا قطعت مات صاحبها،
وقولهم: استأصل الله شأفته، أي أذهبه كما تذهب القرحة، ومعناه أزاله من أصله.
(3) الطبري: (فليسمع من معقل).
136

قال: وكتب عليه السلام إلى زياد بن خصفة:
أما بعد، فقد بلغني كتابك، وفهمت ما ذكرت به الناجي وأصحابه، الذين طبع الله
على قلوبهم، وزين لهم الشيطان أعمالهم، فهم حيارى عمون، يحسبون أنهم يحسنون
صنعا، ووصفت ما بلغ بك وبهم الامر، فأما أنت وأصحابك فلله سعيكم وعليه جزاؤكم!
وأيسر ثواب الله للمؤمن خير له من الدنيا التي يقبل الجاهلون بأنفسهم عليها، ف‍ (ما
عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا
يعملون) (1): وأما عدوكم الذين لقيتم فحسبهم خروجهم من الهدى، وارتكاسهم في
الضلالة، وردهم الحق، وجماحهم في التيه، فذرهم وما يفترون، ودعهم في طغيانهم يعمهون،
فأسمع بهم وأبصر، فكأنك بهم عن قليل بين أسير وقتيل، فأقبل إلينا أنت وأصحابك
مأجورين، فقد أطعتم وسمعتم، وأحسنتم البلاء. والسلام.
قال: ونزل الناجي جانبا من الأهواز، واجتمع إليه علوج كثير من أهلها، ممن
أراد كسر الخراج ومن اللصوص، وطائفة أخرى من الاعراب ترى رأيه.
قال إبراهيم بن هلال: فحدثنا محمد بن عبد الله، قال: حدثني ابن أبي سيف، عن الحارث بن كعب، عن عبد الله بن قعين، قال: كنت أنا وأخي كعب بن قعين في ذلك
الجيش مع معقل بن قيس، فلما أراد الخروج أتى أمير المؤمنين (2) عليه السلام يودعه،
فقال: يا معقل بن قيس، اتق الله ما استطعت، فإنه وصية الله للمؤمنين، لا تبغ على أهل
القبلة، ولا تظلم أهل الذمة ولا تتكبر، فإن الله لا يحب المتكبرين. فقال معقل:
الله المستعان، فقال: خير مستعان.

(1) سورة النحل 96.
(2) الطبري: (أقبل إلى علي).
137

ثم قام فخرج، وخرجنا معه، حتى نزل الأهواز، فأقمنا ننتظر بعث البصرة، فأبطأ
علينا، فقام معقل فقال: أيها الناس، إنا قد انتظرنا أهل البصرة، و قد أبطئوا علينا،
وليس بنا بحمد الله قلة ولا وحشة إلى الناس، فسيروا بنا إلى هذا العدو القليل الذليل،
فإني أرجو أن ينصركم الله ويهلكهم. فقام إليه أخي كعب بن قعين فقال: أصبت إن
شاء الله رأينا رأيك، وإني لأرجو أن ينصرنا الله عليهم، وإن كانت الأخرى، فإن في
الموت على الحق لتعزية عن الدنيا. فقال: سيروا على بركة الله. فسرنا، فوالله ما زال معقل
بن قيس لي ولأخي مكرما وادا، ما يعدل بنا أحدا من الجند، ولا يزال يقول لأخي:
كيف قلت: إن في الموت على الحق لتعزية عن الدنيا! صدقت والله وأحسنت، ووفقت
وفقك الله! قال: فوالله ما سرنا يوما، وإذا بفيج (1) يشتد بصحيفة في يده.
من عبد الله بن عباس إلى معقل بن قيس، أما بعد، فإن أدركك رسولي
بالمكان الذي كنت مقيما به، أو أدركك وقد شخصت منه، فلا تبرحن من المكان
الذي ينتهى إليك رسولي وأنت فيه، حتى يقدم عليك بعثنا الذي وجهناه إليك، فقد
وجهت إليك خالد بن معدان الطائي، وهو من أهل الدين والصلاح والنجدة، فاسمع منه
واعرف ذلك له إن شاء الله. والسلام.
قال: فقرأه معقل بن قيس على أصحابه. فسروا به، وحمدوا الله، وقد كان ذلك الوجه
هالهم. وأقمنا حتى قدم علينا خالد بن معدان الطائي، وجاءنا حتى دخل على صاحبنا،
فسلم عليه بالإمرة، واجتمعنا جميعا في عسكر واحد، ثم خرجنا إلى الناجي وأصحابه،
فأخذوا يرتفعون نحو جبال رامهرمز، يريدون قلعة حصينة، وجاءنا أهل البلد فأخبرونا
بذلك، فخرجنا في آثارهم فلحقناهم، وقد دنوا من الجبل، فصففنا لهم، ثم أقبلنا نحوهم،
فجعل معقل على ميمنته يزيد بن المعقل الأزدي، وعلى ميسرته منجاب بن راشد الضبي، ووقف

(1) انظر الحاشية 1 ص 131 من هذا الجزء.
138

الخريت بن راشد الناجي بمن معه من العرب، فكانوا ميمنة، وجعل أهل البلد
والعلوج (1) ومن أراد كسر الخراج وجماعة من الأكراد ميسرة.
قال: وسار فينا معقل يحرضنا، ويقول: يا عباد الله، لا تبدءوا القوم، وغضوا الابصار،
وأقلوا الكلام، ووطنوا أنفسكم على الطعن والضرب، وأبشروا في قتالهم بالاجر العظيم،
إنما تقاتلون مارقة مرقت وعلوجا (1) منعوا الخراج، ولصوصا وأكرادا، فما تنتظرون!
فإذا حملت فشدوا شدة رجل واحد.
قال: فمر في الصف يكلمهم، يقول هذه المقالة، حتى إذا مر بالناس كلهم أقبل
فوقف وسط الصف في القلب، ونظرنا إليه ما يصنع، فحرك رأسه تحريكتين، ثم حمل
في الثالثة، وحملنا معه جميعا، فوالله ما صبروا لنا ساعة حتى ولوا وانهزموا، وقتلنا سبعين
عربيا من بنى ناجية، ومن بعض من اتبعه من العرب، ونحو ثلاثمائة من العلوج
والأكراد.
قال كعب: ونظرت، فإذا صديقي مدرك بن الريان قتيلا، وخرج الخريت منهزما،
حتى لحق بسيف (2) من أسياف البحر، وبها جماعة من قومه كثير، فما زال يسير فيهم
ويدعوهم إلى خلاف علي عليه السلام، ويزين لهم فراقه، ويخبرهم أن الهدى في حربه
ومخالفته، حتى اتبعه منهم ناس كثير.
وأقام معقل بن قيس بأرض الأهواز، وكتب إلى أمير المؤمنين عليه السلام بالفتح،
وكنت أنا الذي قدم بالكتاب عليه، وكان في الكتاب:
لعبد الله على أمير المؤمنين، من معقل بن قيس. سلام عليك، فإني أحمد إليك
الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد فإنا لقينا المارقين، وقد استظهروا علينا بالمشركين،

(1) العلوج: كفار العجم، واحده علج.
(2) السيف، بالكسر: ساحل البحر.
139

فقتلنا منهم ناسا كثيرا ولم نعد فيهم سيرتك فلم نقتل منهم مدبرا ولا أسيرا، ولم
نذفف (1) منهم على جريح، وقد نصرك الله والمسلمين، والحمد لله رب العالمين.
قال: فلما قدمت بالكتاب على علي عليه السلام، قرأه على أصحابه، واستشارهم في
الرأي، فاجتمع رأى عامتهم على قول واحد. قالوا: نرى أن تكتب إلى معقل بن
قيس، يتبع آثارهم، ولا يزال في طلبهم حتى يقتلهم أو ينفيهم من أرض الاسلام، فإنا
لا نأمن أن يفسدوا عليك الناس.
قال: فردني إليه، وكتب معي:
أما بعد، فالحمد لله على تأييده أولياءه، وخذله أعداءه، جزاك الله والمسلمين خيرا،
فقد أحسنتم البلاء، وقضيتم ما عليكم، فاسأل عن أخي بنى ناجية، فإن بلغك أنه استقر
في بلد من البلدان، فسر إليه حتى تقتله أو تنفيه، فإنه لم يزل للمسلمين عدوا،
وللفاسقين وليا، والسلام.
قال: فسأل معقل عن مسيره والمكان الذي انتهى إليه، فنبئ بمكانه بسيف البحر
بفارس، وأنه قد رد قومه عن طاعة علي عليه السلام، وأفسد من قبله من عبد القيس،
ومن والاهم من سائر العرب، وكان قومه قد منعوا الصدقة عام صفين، ومنعوها في ذلك
العام أيضا، فسار إليهم معقل بن قيس في ذلك الجيش من أهل الكوفة والبصرة، فأخذوا
على أرض فارس، حتى انتهوا إلى أسياف البحر، فلما سمع الخريت بن راشد بمسيره،
أقبل على من كان معه من أصحابه، ممن يرى رأى الخوارج، فأسر إليهم، إني أرى
رأيكم، وإن عليا ما كان ينبغي له أن يحكم الرجال في دين الله، وقال لمن يرى رأى
عثمان وأصحابه: إنا على رأيكم، وإن عثمان قتل مظلوما معقولا، وقال لمن منع الصدقة:

(1) ذفف على الجريح: أجهز عليه.
140

شدوا أيديكم على صدقاتكم، ثم صلوا بها أرحامكم، وعودوا إن شئتم على فقرائكم،
فأرضي كل طائفة بضرب من القول، وكان فيهم نصارى كثير، وقد كانوا أسلموا،
فلما رأوا ذلك الاختلاف، قالوا: والله لديننا الذي خرجنا منه خير وأهدى من دين هؤلاء
الذين لا ينهاهم دينهم عن سفك الدماء، وإخافة السبل، فرجعوا إلى دينهم.
فلقى الخريت أولئك، فقال: ويحكم! إنه لا ينجيكم من القتل إلا الصبر لهؤلاء القوم
ولقتالهم، أتدرون ما حكم على فيمن أسلم من النصارى ثم رجع إلى النصرانية؟ لا والله
لا يسمع له قولا، ولا يرى له عذرا، ولا يقبل منه توبة، ولا يدعوه إليها، وإن حكمه
فيه أن يضرب عنقه ساعة يستمكن منه، فما زال حتى خدعهم وجاءهم من كان من
بنى ناجية في تلك الناحية ومن غيرهم، فاجتمع إليه ناس كثير، وكان منكرا داهيا.
قال: فلما رجع معقل، قرأ على أصحابه كتابا من علي عليه السلام فيه:
من عبد الله على أمير المؤمنين إلى من قرئ عليه كتابي هذا، من المسلمين والمؤمنين
والمارقين والنصارى والمرتدين. سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله وكتابه،
والبعث بعد الموت وافيا بعهد الله، ولم يكن من الخائنين، أما بعد فإني أدعوكم إلى كتاب
الله وسنة نبيه، وأن أعمل فيكم بالحق وبما أمر الله تعالى في كتابه، فمن رجع منكم إلى
رحله وكف يده، واعتزل هذا المارق (1) الهالك المحارب (2)، الذي حارب الله ورسوله
والمسلمين، وسعى في الأرض فسادا، فله الأمان على ماله ودمه. ومن تابعه على حربنا
والخروج من طاعتنا، استعنا بالله عليه، وجعلناه بيننا وبينه، وكفى بالله وليا. والسلام.
قال: فأخرج معقل راية أمان فنصبها، وقال: من أتاها من الناس فهو آمن إلا
الخريت وأصحابه الذين نابذوا أول مرة، فتفرق عن الخريت كل من كان معه من غير
قومه، وعبأ معقل بن قيس أصحابه، ثم زحف بهم نحوه، وقد حضر مع الخريت جميع

(1) ا: (الفاسق).
(2) ساقطة من ج.
141

قومه! مسلمهم ونصرانيهم، ومانعي الصدقة منهم، فجعل مسلميهم يمنه، والنصارى ومانعي
الصدقة يسرة، وجعل يقول لقومه: امنعوا اليوم حريمكم، وقاتلوا عن نسائكم وأولادكم،
والله لئن ظهروا عليكم ليقتلنكم وليسلبنكم.
فقال له رجل من قومه: هذا والله ما جرته علينا يدك ولسانك، فقال لهم: قاتلوا
فقد سبق السيف العذل.
قال: وسار معقل بن قيس يحرض أصحابه فيما بين الميمنة والميسرة، ويقول:
أيها الناس، ما تدرون ما سيق إليكم في هذا الموقف من الاجر العظيم! إن الله ساقكم
إلى قوم منعوا الصدقة، وارتدوا عن الاسلام، ونكثوا البيعة ظلما وعدوانا، إني شهيد
لمن قتل منكم بالجنة، ومن عاش بأن الله يقر عينه بالفتح والغنيمة، ففعل ذلك حتى مر
بالناس أجمعين، ثم وقف في القلب برايته، وبعث إلى يزيد بن المعقل الأزدي، وهو
في الميمنة، أن أحمل عليهم، فحمل، فثبتوا له، فقاتل طويلا وقاتلوه، ثم رجع حتى وقف
موقفه الذي كان فيه من الميمنة، ثم بعث إلى المنجاب بن راشد الضبي، وهو في الميسرة:
أن أحمل عليهم، فحمل فثبتوا له، فقاتل طويلا وقاتلوه، ثم رجع حتى وقف موقفه الذي
كان في الميسرة، ثم بعث معقل إلى ميمنته وميسرته: إذا حملت فاحملوا جميعا. ثم أجرى
فرسه وضربها، وحمل أصحابه، فصبروا لهم ساعة.
ثم إن النعمان بن صهبان الراسبي بصر بالخريت، فحمل عليه، فصرعه عن فرسه،
ثم نزل إليه وقد جرحه، فاختلفا بينهما ضربتين، فقتله النعمان وقتل معه في المعركة
سبعون ومائة، وذهب الباقون في الأرض يمينا وشمالا، وبعث معقل الخيل إلى رحالهم،
فسبى (1) من أدرك فيها رجالا ونساء وصبيانا، ثم نظر فيهم، فمن كان مسلما خلاه وأخذ

(1) السبي: الأسر.
142

بيعته، وخلى سبيل عياله، ومن كان ارتد عن الاسلام عرض عليه الرجوع إلى الاسلام
وإلا القتل، فأسلموا. فخلى سبيلهم، وسبيل عيالاتهم، إلا شيخا منهم نصرانيا يقال له:
الرملخس (1) بن منصور، فإنه قال: والله ما زلت (2) مصيبا مذ عقلت، إلا في خروجي
من ديني، دين الصدق، إلى دينكم، دين السوء، لا والله لا أدع ديني ولا أقرب
دينكم ما حييت.
فقدمه معقل فضرب عنقه، وجمع الناس، فقال: أدوا ما عليكم في هذه السنين
من الصدقة، فأخذ من المسلمين عقالين، وعمد إلى النصارى وعيالاتهم فاحتملهم معه، وأقبل
المسلمون الذين كانوا معهم، يشيعونهم، فأمر معقل بردهم، فلما ذهبوا لينصرفوا، تصايحوا
ودعا الرجال والنساء بعضهم إلى بعض.
قال: فلقد رحمتهم رحمة ما رحمتها أحدا قبلهم ولا بعدهم. وكتب معقل إلى علي عليه
السلام:
أما بعد، فإني أخبر أمير المؤمنين عن جنده وعن عدوه أنا دفعنا إلى عدونا بأسياف
البحر، فوجدنا بها قبائل ذات حد وعدد، وقد جمعوا لنا، فدعوناهم إلى الجماعة والطاعة،
وإلى حكم الكتاب والسنة، وقرأنا عليهم كتاب أمير المؤمنين عليه السلام، ورفعنا لهم
راية أمان، فمالت إلينا طائفة منهم، وثبتت طائفة أخرى، فقبلنا أمر التي أقبلت، وصمدنا
إلى التي أدبرت، فضرب الله وجوههم، ونصرنا عليهم، فأما من كان مسلما، فإنا مننا
عليه، وأخذنا بيعته لأمير المؤمنين، وأخذنا منهم الصدقة التي كانت عليهم، وأما من ارتد
فعرضنا عليهم الرجوع إلى الاسلام، وإلا قتلناهم، فرجعوا إلى الاسلام، غير رجل واحد
فقتلناه، وأما النصارى، فإنا سبيناهم وأقبلنا بهم، ليكونوا نكالا لمن بعدهم من أهل
الذمة، كي لا يمنعوا الجزية، ولا يجترئوا على قتال أهل القبلة، وهم

(1) كذا في تاريخ الطبري 5: 128، وفي الأصول: (الرملحس)، تحريف.
(2) وفى الأصول: (ما ظلت)، والصواب ما أثبته من الطبري.
143

أهل. رحمك الله يا أمير المؤمنين، وعليك الصلاة والسلام، وأوجب لك جنات
النعيم. والسلام.
قال: ثم أقبل بالأسارى حتى مر على مصقلة بن هبيرة الشيباني، وهو عامل لعلى عليه
السلام على أردشير خرة (1) وهم خمسمائة إنسان، فبكى إليه النساء والصبيان، وتصايح
الرجال: يا أبا الفضل، يا حامل الثقل (2)، يا مؤوي الضعيف، وفكاك العصاة، امنن علينا فاشترنا وأعتقنا. فقال مصقلة: أقسم بالله لأتصدقن عليهم، إن الله يجزى المتصدقين. فبلغ
قوله معقل بن قيس، فقال: والله لو أعلمه قالها توجعا لهم وإزراء على لضربت عنقه،
وإن كان في ذلك فناء بنى تميم وبكر بن وائل.
ثم إن مصقلة بعث ذهل بن الحارث الذهلي إلى معقل، فقال: بعني نصارى ناجية،
فقال: أبيعكهم بألف ألف درهم، فأبى عليه، فلم يزل يراوده حتى باعه إياهم بخمسمائة
ألف درهم، ودفعهم إليه، وقال: عجل بالمال إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فقال مصقلة: أنا
باعث الان بصدر منه، ثم أتبعك بصدر آخر، ثم كذلك حتى لا يبقى منه شئ. وأقبل
معقل إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فأخبره بما كان من الامر، فقال له: أحسنت
وأصبت ووفقت.
وانتظر علي عليه السلام مصقلة أن يبعث بالمال، فأبطأ به. وبلغ عليا عليه السلام
أن مصقلة خلى الأسارى ولم يسألهم أن يعينوه في فكاك أنفسهم بشئ، فقال:
ما أرى مصقلة إلا قد حمل حمالة، ولا أراكم إلا سترونه عن قريب مبلدحا (3)، ثم
كتب إليه:

(1) أردشير خرة، بالفتح ثم السكون وفتح الدال المهملة وكسر الشين المعجمة وياء ساكنة وراء،
وخاء معجمة مضمومة، وراء مفتوحة مشددة وهاء: من كور فارس (مراصد الاطلاع).
(2) الثقل. متاع الانسان وحشمه.
(3) المبلدح: الملقى على الأرض من الضرب.
144

أما بعد، فإن من أعظم الخيانة خيانة (1) الأمة، وأعظم الغش على أهل المصر غش
الامام، وعندك من حق المسلمين خمسمائة ألف درهم، فابعث بها إلى حين يأتيك رسولي،
وإلا فأقبل إلى حين تنظر في كتابي، فإني قد تقدمت إلى رسولي ألا يدعك ساعة واحدة
تقيم بعد قدومه عليك، إلا أن تبعث بالمال، والسلام.
وكان الرسول أبو جرة الحنفي، فقال له أبو جرة: إن تبعث بهذا المال وإلا فاشخص
معي إلى أمير المؤمنين. فلما قرأ كتابه أقبل حتى نزل البصرة، وكان العمال يحملون المال من
كور البصرة إلى ابن عباس، فيكون ابن عباس هو الذي يبعث به إلى أمير المؤمنين عليه
السلام، ثم أقبل من البصرة حتى أتى عليا عليه السلام بالكوفة، فأقره أياما لم يذكر له
شيئا، ثم سأله المال، فأدى إليه مائتي ألف درهم، وعجز عن الباقي.
قال: فروى ابن أبي سيف، عن أبي الصلت، عن ذهل بن الحارث، قال: دعاني
مصقلة إلى رحله، فقدم عشاء فطعمنا منه، ثم قال: و الله إن أمير المؤمنين عليه السلام
يسألني هذا المال، ووالله ما أقدر عليه، فقلت له: لو شئت لم يمض عليك جمعة حتى تجمع
هذا المال، فقال: ما كنت لأحملها قومي، ولا أطلب فيها إلى أحد.
ثم قال: والله لو أن ابن هند مطالبي بها، أو ابن عفان، لتركها لي، ألم تر إلى عثمان
كيف أعطى الأشعث مائة ألف درهم من خراج أذربيجان في كل سنة! فقلت: إن هذا
لا يرى ذلك الرأي، وما هو بتارك لك شيئا. فسكت ساعة، وسكت عنه، فما مكث ليلة
واحدة (2) بعد هذا الكلام حتى لحق بمعاوية.
فبلغ ذلك عليا عليه السلام فقال: ما له ترحه الله! فعل فعل السيد وفر فرار العبد،
وخان خيانة الفاجر، أما إنه لو أقام فعجز ما زدنا على حبسه، فإن وجدنا له شيئا أخذناه،

(1) كلمة (خيانة) ساقطة من ا، ب، ثابتة في ج والطبري.
(2) الطبري: (فلا والله ما مكث إلا ليلة واحدة).
145

وإن لم نجد له مالا تركناه. ثم سار علي عليه السلام إلى داره فهدمها.
وكان أخوه نعيم بن هبيرة الشيباني شيعة لعلى عليه السلام، مناصحا، فكتب إليه مصقلة
من الشام مع رجل من نصارى تغلب، يقال له حلوان:
أما بعد، فإني كلمت معاوية فيك، فوعدك الكرامة، ومناك الامارة، فأقبل
ساعة تلقى رسولي. والسلام.
فأخذه مالك بن كعب الأرحبي فسرح به إلى علي عليه السلام، فأخذ كتابه فقرأه
ثم قدمه فقطع يده، فمات. وكتب نعيم إلى [أخيه] مصقلة شعرا لم يرده عليه (1):
لا ترمين هداك الله معترضا * بالظن منك فما بالي وحلوانا
ذاك الحريص على ما نال من طمع * وهو البعيد فلا يورثك أحزانا (2)
ماذا أردت إلى إرساله سفها * ترجو سقاط امرئ لم يلف وسنانا
عرضته لعلى إنه أسد * يمشى العرضنة من آساد خفانا (3)
قد كنت في خير مصطاف ومرتبع * تحمى العراق وتدعى خير شيبانا (4)
حتى تقحمت أمرا كنت تكرهه * للراكبين له سرا وإعلانا
لو كنت أديت مال الله مصطبرا * للحق زكيت أحيانا وموتانا (5)
لكن لحقت بأهل الشام ملتمسا * فضل ابن هند فذاك الرأي أشجانا
فاليوم تقرع سن العجز من ندم (6) * ماذا تقول وقد كان الذي كانا!
أصبحت تبغضك الاحياء قاطبة * لم يرفع الله بالعصيان إنسانا (7)

(1) الأبيات في تاريخ الطبري 5: 130 وما بعدها.
(2) الطبري: (فلا يحزنك إذ خانا).
(3) العرضنة: (البغي في المشي من النشاط. وخفان: مأسدة قرب الكوفة.
(4) الطبري: (قد كنت في منظر عن ذا ومستمع).
(5) رواية الطبري:
لو كنت أديت ما للقوم مصطبرا * للحق أحييت أحيانا وموتانا
(6) الطبري: (سن الغرم).
(7) الطبري: (بالبغضاء إنسانا).
146

فلما بلغ الكتاب إليه علم أن النصراني قد هلك (1)، ولم يلبث التغلبيون إلا قليلا حتى
بلغهم هلاك صاحبهم، فأتوا مصقلة، فقالوا: أنت أهلكت صاحبنا، فإما أن تجيئنا (2) به،
وإما أن تديه، فقال: أما أن أجئ (3) به، فلست أستطيع ذلك، وأما أن أديه
فنعم، فوداه.
قال إبراهيم: وحدثني ابن أبي سيف، عن عبد الرحمن بن جندب، عن أبيه، قال:
قيل لعلى عليه السلام حين هرب مصقلة: أردد الذين سبوا ولم تستوف أثمانهم في الرق،
فقال: ليس ذلك في القضاء بحق، قد عتقوا إذ أعتقهم الذي اشتراهم، وصار مالي دينا على
الذي اشتراهم.
وروى إبراهيم أيضا، عن إبراهيم بن ميمون، عن عمرو بن القاسم بن حبيب التمار،
عن عمار الدهني، قال: لما هرب مصقلة قال أصحاب علي عليه السلام له: يا أمير المؤمنين،
فيئنا! قال: إنه قد صار على غريم من الغرماء، فاطلبوه.
وقال ظبيان بن عمارة، أحد بنى سعد بن زيد مناة في بنى ناجية:
هلا صبرت للقراع ناجيا * والمرهفات تختلي الهواديا (4)
والطعن في نحوركم تواليا * وصائبات الأسهم القواضيا
وقال ظبيان أيضا:
ألا فاصبروا للطعن والضرب ناجيا * وللمرهفات يختلين الهواديا
فقد صب رب الناس خزيا عليكم * وصيركم من بعد عز مواليا

(1) الطبري: (فلما وقع الكتاب إليه علم أن رسوله قد هلك).
(2) الطبري: (تحييه).
(3) الطبري: (أحييه).
(4) تختلي: تجز، والهوادي هنا: الأعناق.
147

سما لكم بالخيل جردا عواديا * أخو ثقة لا يبرح الدهر غازيا
فصبحكم في رحلكم وخيولكم * بضرب يرى منه المدجج هاويا
فأصبحتم من بعد عز وكثرة * عبيد العصا لا تمنعون الذراريا
قال إبراهيم بن هلال: وروى عبد الرحمن بن حبيب، عن أبيه، أنه لما بلغ عليا عليه
السلام مصاب بنى ناجية، وقتل صاحبهم، قال: هوت أمه! ما كان أنقص عقله وأجرأه!
إنه جاءني مرة فقال: إن في أصحابك رجالا قد خشيت أن يفارقوك، فما ترى فيهم؟
فقلت: إني لا آخذ على التهمة، ولا أعاقب على الظن، ولا أقاتل إلا من خالفني وناصبني،
وأظهر العداوة لي، ثم لست مقاتله حتى أدعوه وأعذر إليه (1)، فإن تاب ورجع قبلنا منه،
وإن أبى إلا الاعتزام على حربنا استعنا بالله عليه، وناجزناه. فكف عنى ما شاء الله، ثم
جاءني مرة أخرى، فقال لي: إني قد خشيت أن يفسد عليك عبد الله بن وهب وزيد بن
حصين الطائي، إني سمعتهما يذكر انك بأشياء لو سمعتهما لم تفارقهما حتى تقتلهما أو
توثقهما، فلا يزالان بمحبسك أبدا. فقلت له: إني مستشيرك فيهما، فما ذا تأمرني به؟
قال: إني آمرك أن تدعو بهما فتضرب رقابهما، فعلمت أنه لا ورع له ولا عقل. فقلت
له: والله ما أظن لك ورعا ولا عقلا، لقد كان ينبغي لك أن تعلم أنى لا أقتل من لم يقاتلني،
ولم يظهر لي عداوته للذي كنت أعلمتكه من رأيي، حيث جئتني في المرة الأولى، ولقد
كان ينبغي لك - لو أردت قتلهم - أن تقول لي: اتق الله! بم تستحل قتلهم ولم يقتلوا أحدا،
ولم ينابذوك ولم يخرجوا من طاعتك!
* * *
فأما ما يقوله الفقهاء في مثل هذا السبي، فقبل أن نذكر ذلك نقول: إن الرواية قد

(1) أي يكون لي عنده عذر.
148

اختلفت في المرتدين من بنى ناجية، فالرواية الأولى التي رواها محمد بن عبد الله عثمان،
عن نصر بن مزاحم، تتضمن أن الأمير الذي من قبل علي عليه السلام قتل مقاتله المرتدين
منهم بعد امتناعهم من العود إلى الاسلام، وسبى ذراريهم، فقدم بها على علي عليه
السلام، فعلى هذه الرواية يكون الذين اشتراهم مصقلة ذراري أهل الردة.
والرواية الثانية التي رواها محمد بن عبد الله، عن ابن أبي سيف، تتضمن أن معقل بن
قيس، الأمير من قبل علي عليه السلام لم يقتل من المرتدين من بنى ناجية إلا رجلا واحدا،
وأما الباقون فرجعوا إلى الاسلام، والاسترقاق إنما كان للنصارى الذين ساعدوا في الحرب
وشهروا السيف على جيش الامام، وليسوا مرتدين، بل نصارى في الأصل، وهم الذين
اشتراهم مصقلة.
فإن كانت الرواية الأولى هي الصحيحة ففيها إشكال، لان المرتدين لا يجوز عند الفقهاء
استرقاقهم، ولا أعرف خلافا في هذه المسألة، ولا أظن الامامية أيضا (1) تخالف فيها، وإنما
ذهب أبو حنيفة إلى أن المرأة المرتدة إذا لحقت بدار الحرب جاز استرقاقها، وسائر الفقهاء
على خلافة، ولم يختلفوا في أن الذكور البالغين من المرتدين لا يجوز استرقاقهم، فلا أعلم
كيف وقع استرقاق المرتدين من بنى ناجية على هذه الرواية! على أنى أرى أن الرواية
المذكورة لم يصرح فيها باسترقاقهم، ولا بأنهم بيعوا على مصقلة، لان لفظ الراوي:
(فأبوا، فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم فقدم بهم على علي عليه السلام)، وليس في الرواية
ذكر استرقاقهم ولا بيعهم على مصقلة، بل فيها ما ينافي بيعهم على مصقلة، وهو قوله: (فقدم
بهم على علي عليه السلام)، فإن مصقلة ابتاع السبي من الطريق في أردشير خرة قبل
قدومه على علي عليه السلام، ولفظ الخبر: (فقدم بهم على علي عليه السلام).
وإنما يبقى الاشكال على هذه الرواية أن يقال: إذا كان قد قدم بهم على علي عليه

(1) ساقطة من ج.
149

السلام، فمصقلة من اشترى! ولا يمكن دفع كون مصقلة اشترى قوما في الجملة، فإن الخبر
بذلك مشهور جدا يكاد يكون متواترا.
فإن قيل: فما قولكم فيما إذا ارتد البالغون من الرجال والنساء، ثم أولدوا ذرية صغارا
بعد الردة، هل يجوز استرقاق الأولاد؟ فإن كان يجوز، فهلا حملتم الخبر عليه!
قيل: إذا ارتد الزوجان فحملت منه في حال الردة وأتت بولد كان محكوما بكفره،
لأنه ولد بين كافرين.
وهل يجوز استرقاقه؟ فيه للشافعي قولان، وأما أبو حنيفة فقال: ان ولد في دار
الاسلام لم يجز استرقاقه، وإن ولد في دار الحرب جاز استرقاقه، فإن كان استرقاق هؤلاء
الذرية موافقا لأحد قولي الشافعي، فلعله ذاك.
وأما الرواية الثانية، فإن كانت هي الصحيحة - وهو الأولى - فالفقه في المسألة أن الذمي
إذا حارب المسلمين فقد نقض عهده، فصار كالمشركين الذين في دار الحرب، فإذا ظفر به
الامام جاز استرقاقه وبيعه، وكذلك إذا امتنع من أداء الجزية أو امتنع من التزام
أحكام الاسلام.
واختلف الفقهاء في أمور سبعة: هل ينتقض بها عهدهم، ويجوز استرقاقهم أم لا، وهي
أن يزنى الذمي بمسلمة، أو يصيبها باسم نكاح، أو يفتن مسلما عن دينه، أو يقطع الطريق
على المسلمين، أو يؤوى (1) للكفار عينا، أو يدل على عورات المسلمين، أو يقتل مسلما.
فأصحاب الشافعي يقولون: إن شرط عليهم في عقد الذمة الكف عن ذلك، فهل
ينقض عهدهم بفعله؟ فيه وجهان. وإن لم يشترط ذلك في عقد الذمة، لم ينتقض عهدهم
بذلك.
وقال الطحاوي من أصحاب أبي حنيفة: ينتقض عهدهم بذلك، سواء شورطوا عن

(1) ب: (يؤدى)، تحريف.
150

الكف عنه في عقد الذمة، أو لم يشارطوا عليه.
فنصارى بنى ناجية على هذه الرواية قد انتقض عهدهم بحرب المسلمين، فأبيحت دماؤهم،
وجاز للامام قتلهم وجاز له استرقاقهم كالمشركين الأصليين في دار الحرب، وأما استرقاق
أبى بكر بن أبي قحافة لأهل الردة وسبيه ذراريهم، فإن صح كان مخالفا لما يقول
الفقهاء من تحريم استرقاق المرتدين، إلا أن يقولوا إنه لم يسب المرتدين، وإنما سبى
من ساعدهم وأعانهم في الحرب من المشركين الأصليين.
وفي هذا الموضع نظر.
151

(45)
ومن خطبه له عليه السلام:
الأصل:
الحمد لله غير مقنوط من رحمته، ولا مخلو من نعمته، ولا مأيوس من مغفرته،
ولا مستنكف عن عبادته، الذي لا تبرح منه رحمة، ولا تفقد له نعمة.
والدنيا دار منى لها الفناء، ولأهلها منها الجلاء، وهي حلوة خضرة، وقد
عجلت للطالب، والتبست بقلب الناظر، فارتحلوا منها بأحسن ما بحضرتكم من الزاد،
ولا تسألوا فيها فوق الكفاف، ولا تطلبوا منها أكثر من البلاغ.
* * *
الشرح:
منى لها الفناء، أي قدر. والجلاء، بفتح الجيم: الخروج عن الوطن، قال سبحانه:
(ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء) (1).
وحلوة خضرة، مأخوذ من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الدنيا حلوة
خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون).
والكفاف من الرزق: قدر القوت، وهو ما كف عن الناس، أي أغنى.
والبلاغ والبلغة من العيش: ما يتبلغ به.
* * *

(1) سورة الحشر 3.
152

واعلم أن هذا الفصل يشتمل على فصلين من كلام أمير المؤمنين عليه السلام: أحدهما
حمد الله والثناء عليه إلى قوله: (ولا تفقد له نعمة)، والفصل الثاني ذكر الدنيا إلى آخر
الكلام. وأحدهما غير مختلط بالآخر ولا منسوق عليه، ولكن الرضى رحمه الله تعالى
يلتقط كلام أمير المؤمنين عليه السلام التقاطا، ولا يقف مع الكلام المتوالي، لان غرضه
ذكر فصاحته عليه السلام لا غير، ولو أتى بخطبه كلها على وجهها لكانت أضعاف
كتابه الذي جمعه.
* * *
[فصل بلاغي في الموازنة والسجع]
فأما الفصل الأول، فمشتمل من علم البيان على باب كبير يعرف بالموازنة، وذلك
(غير مقنوط) فإنه وازنه في الفقرة الثانية بقوله: (ولا مخلو). ألا ترى أن كل واحدة منهما
على وزن (مفعول)، ثم قال في الفقرة الثالثة: (ولا مأيوس)، فجاء بها على وزن
(مفعول) أيضا، ولم يمكنه في الفقرة الرابعة ما أمكنه في الأولى، فقال: (ولا مستنكف)
فجاء به على وزن (مستفعل) وهو وإن كان خارجا عن الوزن، فإنه غير خارج عن
المفعولية، لان (مستفعل) (مفعول) في الحقيقة، كقولك: زيد مستحسن، ألا ترى
أن (مستحسنا) من استحسنه، فهو أيضا غير خارج عن المفعولية.
ثم وازن عليه السلام بين قوله: (لا تبرح) وقوله: (لا تفقد)، وبين (رحمة)
و (نعمة)، فأعطت هذه الموازنات الكلام من الطلاوة والصنعة ما لا تجده عليه لو قال:
(الحمد لله غير مخلو من نعمته، ولا مبعد من رحمته) لان (مبعد) بوزن (مفعل)،
وهو غير مطابق ولا مماثل لمفعول، بل هو بناء آخر.
وكذلك لو قال: (لا تزول منه رحمة)، فإن (تزول) ليست في المماثلة والموازنة
153

لم‍ (تفقد) ك‍ (تبرح) ألا ترى أنها معتلة، وتلك صحيحة! وكذلك لو قال: (لا تبرح
منه رحمة ولا يفقد له إنعام) فإن (إنعاما) ليس في وزن (رحمة)، والموازنة مطلوبة
في الكلام الذي يقصد فيه الفصاحة، لأجل الاعتدال الذي هو مطلوب الطبع في جميع
الأشياء. والموازنة أعم من السجع، لان السجع تماثل أجزاء الفواصل لو أوردها على حرف
واحد، نحو القريب، والغريب، والنسيب، وما أشبه ذلك. وأما الموازنة فنحو القريب
والشديد، والجليل، وما كان على هذا الوزن وإن لم يكن الحرف الاخر بعينه واحدا،
وكل سجع موازنة، وليس كل موازنة سجعا، ومثال الموازنة في الكتاب العزيز:
(وآتيناهما الكتاب المستبين * وهديناهما الصراط المستقيم) (1)، وقوله تعالى:
(ليكونوا لهم عزا)، ثم قال: (ويكونون عليهم ضدا)، ثم قال: (تؤزهم
أزا) ثم قال: (نعد لهم عدا) (2) فهذه الموازنة.
ومما جاء من المثال في الشعر قوله:
بأشدهم بأسا على أعدائهم وأعزهم فقدا على الأصحاب
فقوله: (وأعزهم) بإزاء (أشدهم)، وقوله: (فقدا) بإزاء (بأسا).
والموازنة كثيرة في الكلام وهي في كتاب الله تعالى أكثر.
* * *
[نبذ من كلام الحكماء في مدح القناعة وذم الطمع]
فأما الفصل الثاني فيشتمل على التحذير من الدنيا، وعلى الامر بالقناعة، والرضا
بالكفاف، فأما التحذير من الدنيا فقد ذكرنا ونذكر منه ما يحضرنا، وأما القناعة فقد
ورد فيها شئ كثير.

(1) سورة الصافات 117، 118.
(2) سورة مريم 81، 82، 83، 84.
154

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأخوين من الأنصار: (لا تيئسا من روح الله
ما تهزهزت رؤوسكما، فإن أحدكم يولد لا قشر عليه، ثم يكسوه الله ويرزقه).
وعنه صلى الله عليه وسلم - ويعزى إلى أمير المؤمنين عليه السلام -: (القناعة
كنز لا ينفد).
وما يقال إنه من كلام لقمان الحكيم: (كفى بالقناعة عزا، وبطيب النفس نعيما).
ومن كلام عيسى عليه السلام: اتخذوا البيوت منازل، والمساجد مساكن، وكلوا
من بقل البرية، واشربوا من الماء القراح، واخرجوا من الدنيا بسلام. لعمري لقد انقطعتم
إلى غير الله فما ضيعكم، أفتخافون الضيعة إذا انقطعتم إليه!
وفي بعض الكتب الإلهية القديمة: يقول الله تعالى: يا بن آدم، أتخاف أن أقتلك
بطاعتي هزلا، د وأنت تتفتق بمعصيتي سمنا!
قال أبو وائل: ذهبت أنا وصاحب لي إلى سلمان الفارسي، فجلسنا عنده، فقال:
لولا أن رسول الله صلى الله عليه نهى عن التكلف لتكلفت لكم، ثم جاء بخبز وملح
ساذج لا أبزار عليه، فقال صاحبي: لو كان لنا في ملحنا هذا سعتر (1)! فبعث سلمان
بمطهرته، فرهنها على سعتر، فلما أكلنا قال صاحبي: الحمد لله الذي قنعنا بما رزقنا،
فقال سلمان: لو قنعت بما رزقك لم تكن مطهرتي مرهونة!
عباد بن منصور: لقد كان بالبصرة من هو أفقه من عمرو بن عبيد وأفصح،
ولكنه كان أصبرهم عن الدينار والدرهم، فساد أهل البصرة.
قال خالد بن صفوان لعمرو بن عبيد: لم لا تأخذ منى؟ فقال: لا يأخذ أحد من
أحد إلا ذل له، وأنا أكره أن أذل لغير الله.

(1) السعتر: نبات طيب الرائحة حريف زهره أبيض إلى الغير.
155

كان معاش عمرو بن عبيد من دار ورثها، كان يأخذ أجرته في كل شهر دينارا
واحدا فيتبلغ به.
الخليل بن أحمد: كان الناس يكتسبون الرغائب بعلمه، وهو بين أخصاص البصرة،
لا يلتفت إلى الدنيا ولا يطلبها.
وهب بن منبه: أرملت مرة حتى كدت أقنط، فأتاني آت في المنام ومعه شبه
لوزة، فقال: افضض، ففضضتها، فإذا حريرة فيها ثلاثة أسطر: لا ينبغي لمن عقل عن
الله أمره، وعرف لله عدله، أن يستبطئ الله في رزقه، فقنعت وصبرت، ثم أعطاني
الله فأكثر.
قيل للحسن عليه السلام: إن أبا ذر كان يقول: الفقر أحب إلى من الغنى،
والسقم أحب إلى من الصحة، فقال: رحم الله أبا ذر، أما أنا فأقول: من اتكل إلى
حسن الاختيار من الله لم يتمن أنه في غير الحال التي اختارها الله له، لعمري يا بن آدم،
الطير لا تأكل رغدا، ولا تخبأ لغد، وأنت تأكل رغدا، وتخبأ لغد، فالطير أحسن ظنا
منك بالله عز وجل.
حبس عمر بن عبد العزيز الغذاء عن مسلمة، حتى برح به الجوع، ثم دعا بسويق
فسقاه، فلما فرغ منه لم يقدر على الاكل، فقال: يا مسلمة، إذا كفاك من الدنيا
ما رأيت، فعلا م التهافت في النار!
عبد الواحد بن زيد: ما أحسب شيئا من الأعمال يتقدم الصبر إلا الرضا والقناعة،
ولا أعلم درجة أرفع من الرضا، وهو رأس المحبة.
قال ابن شبرمة في محمد بن واسع: لو أن إنسانا اكتفى بالتراب لاكتفى به.
يقال من جملة ما أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: قل لعبادي المتسخطين
لرزقي، إياكم أن أغضب فأبسط عليكم الدنيا.
156

كان لبعض الملوك نديم، فسكر، ففاتته الصلاة، فجاءت جارية له بجمرة نار،
فوضعتها على رجله، فانتبه مذعورا، فقالت: إنك لم تصبر على نار الدنيا، فكيف تصبر
على نار الآخرة! فترك الدنيا وانقطع إلى العبادة، وقعد يبيع البقل، فدخل عليه الفضيل
وابن عيينة، فإذا تحت رأسه لبنة، وليس تحت جنبه حصير، فقالا له: إنا روينا أنه
لم يدع أحد شيئا لله إلا عوضه خيرا منه، فما عوضك؟ قال: القناعة والرضا بما أنا فيه.
أصابت داود الطائي ضائقة شديدة، فجاء حماد بن أبي حنيفة بأربعمائة درهم من تركة
أبيه، فقال داود: هي لعمري من مال رجل ما أقدم عليه أحدا في زهده وورعه وطيب
كسبه، ولو كنت قابلا من أحد شيئا لقبلتها إعظاما للميت، وايجابا للحي، ولكني أحب
أن أعيش في عز القناعة.
سفيان الثوري: ما أكلت طعام أحد قط إلا هنت عليه.
مسعر بن كدام: من صبر على الخل والبقل لم يستعبد.
فضيل: أصل الزهد الرضا بما رزقك الله، ألا تراه كيف يصنع بعبده ما تصنع الوالدة
الشفيقة بولدها! تطعمه مرة خبيصا (1)، ومرة صبرا، تريد بذلك ما هو أصلح له.
المسيح عليه السلام: أنا الذي كببت الدنيا على وجهها، وقدرتها بقدرها، ليس لي
ولد يموت، ولا بيت يخرب، وسادي الحجر، وفراشي المدر، وسراجي القمر.
أمير المؤمنين عليه السلام: أكل تمر دقل (2)، ثم شرب عليه ماء، ومسح بطنه،
وقال: من أدخلته بطنه النار، فأبعده الله، ثم أنشد:
فإنك إن أعطيت بطنك سؤله وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا (3)

(1) الخبيص: التمر المعمول من السمن والعسل.
(2) الدقل: أردأ التمر.
(3) البيت لحاتم الطائي، ديوانه 17 (طبع بيروت).
157

في الحديث الصحيح المرفوع: (إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس
حتى تستكمل رزقها، فأجملوا في الطلب).
من كلام الحكماء: من ظفر بالقناعة فقد ظفر بالكيمياء الأعظم.
الحسن: الحريص الراغب، والقانع الزاهد كلاهما مستوف أجله، مستكمل أكله،
غير مزداد ولا منتقص مما قدر له، فعلا م التقحم في النار!
ابن مسعود، رفعه: (إنه ليس أحد بأكيس من أحد، قد كتب النصيب والأجل،
وقسمت المعيشة والعمل، والناس يجرون منهما إلى منتهى معلوم).
المسيح عليه السلام: انظروا إلى طير السماء تغدو وتروح، ليس معها شئ، من أرزاقها،
لا تحرث ولا تحصد، والله يرزقها، فإن زعمتم أنكم أوسع بطونا من الطير، فهذه
الوحوش من البقر والحمر، لا تحرث ولا تحصد، والله يرزقها.
سويد بن غفلة: كان إذا قيل له: قد ولى فلان، يقول: حسبي كسرتي وملحي.
وفد عروة (1) بن أذينة على هشام بن عبد الملك فشكا إليه خلته، فقال له:
ألست القائل:
لقد علمت وما الاشراف من خلقي * أن الذي هو رزقي سوف يأتيني (2)
أسعى له فيعنيني تطلبه * ولو قعدت أتاني لا يعنيني
فكيف خرجت من الحجاز إلى الشام تطلب الرزق! ثم اشتغل عنه، فخرج وقعد
على ناقته ونصها راجعا إلى الحجاز، فذكره هشام في الليل، فسأل عنه فقيل: إنه رجع
إلى الحجاز، فتذمر وندم، وقال: رجل قال حكمة، ووفد على مستجديا، فجبهته،

(1) الخبر في الشعر والشعراء 56.
(2) الاشراف. الحرص، كذا فسره صاحب اللسان واستشهد بالبيت.
158

ورددته! ثم وجه إليه بألفي درهم، فجاء الرسول وهو بالمدينة، فدفعها إليه فقال له: قل
لأمير المؤمنين، كيف رأيت! سعيت فأكديت، وقعدت في منزلي فأتاني رزقي.
عمر بن الخطاب: تعلم أن الطمع فقر، وأن اليأس غنى، ومن يئس من شئ
استغنى عنه.
أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم طائران، فأكل أحدهما عشية، فلما أصبح
طلب غداء، فأتته بعض أزواجه بالطائر الاخر، فقال: (ألم أنهك أن ترفعي شيئا لغد،
فإن من خلق الغد خلق رزقه).
وفي الحديث المرفوع: (قد أفلح من رزق كفافا وقنعه الله بما آتاه).
من حكمة سليمان عليه السلام: قد جربنا لين العيش وشدته، فوجدنا
أهنأه أدناه.
وهب، في قوله تعالى: (فلنحيينه حياة طيبة) (1)، قال: القناعة.
بعض حكماء الشعراء:
فلا تجزع إذا أعسرت يوما * فقد أيسرت في الدهر الطويل
ولا تظنن بربك ظن سوء * فإن الله أولى بالجميل
وإن العسر يتبعه يسار * وقيل الله أصدق كل قيل
ولو أن العقول تجر رزقا * لكان المال عند ذوي العقول
عائشة: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أردت اللحوق بي فيكفيك
من الدنيا زاد الراكب، ولا تخلقي ثوبا حتى ترقعيه، وإياك ومجالسة الأغنياء).

(1) سورة النحل 97.
159

يقال: إن جبرائيل عليه السلام جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمفاتيح
خزائن الدنيا، فقال: (لا حاجة لي فيها، بل جوعتان وشبعة).
وجد مكتوبا على صخرة عادية (1): يا بن آدم، لست ببالغ أملك، ولا سابق
أجلك، ولا مغلوب على رزقك، ولا مرزوق ما ليس لك، فعلا م تقتل نفسك!
الحسين بن الضحاك:
يا روح من عظمت قناعته * حسم المطامع من غد وغد (2)
من لم يكن لله متهما * لم يمس محتاجا إلى أحد
أوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائه: أتدري لم رزقت الأحمق؟ قال: لا، قال: ليعلم
العاقل أن طلب الرزق ليس بالاحتمال.
قنط (3) يوسف بن يعقوب عليه السلام في الجب لجوع اعتراه، فأوحى إليه: انظر
إلى حائط البئر، فنظر فانفرج الحائط عن ذرة على صخرة، معها طعامها، فقيل له:
أتراني لا أغفل عن هذه الذرة، وأغفل عنك، وأنت نبي ابن نبي!
دخل علي عليه السلام المسجد، وقال لرجل: أمسك على بغلتي، فخلع لجامها،
وذهب به، فخرج علي عليه السلام بعد ما قضى صلاته، وبيده درهمان ليدفعهما إليه
مكافأة له، فوجد البغلة عطلا، فدفع إلى أحد غلمانه الدرهمين، ليشترى بهما لجاما،
فصادف الغلام اللجام المسروق في السوق، قد باعه الرجل بدرهمين، فأخذه بالدرهمين
وعاد إلى مولاه، فقال علي عليه السلام: (إن العبد ليحرم نفسه الرزق الحلال بترك الصبر،

(1) عادية، أي قديمة نسبة إلى قبيلة عاد البائدة.
(2) من أبيات في الحيوان 5: 480، قال الجاحظ: (وهذا شعر رويته له على وجه الدهر، وزعم
حسين بن الصحاك أنه له، وكان يدعى ما ليس له).
(3) قنط قنوطا، أي يئس.
160

ولا يزاد على ما قدر له.
سليمان بن المهاجر البجلي:
كسوت جميل الصبر وجهي فصانه * به الله عن غشيان كل بخيل
فلم يتبذلني البخيل ولم أقم * على بابه يوما مقام ذليل
وإن قليلا يستر الوجه أن يرى * إلى الناس مبذولا لغير قليل
وقف بعض الملوك على سقراط وهو في المشرقة (1)، فقال له: سل حاجتك، قال:
حاجتي أن تزيل عنى ظلك، فقد منعتني الرفق (2) بالشمس، فأحضر له ذهبا وكسوة
ديباج، فقال: إنه لا حاجة بسقراط إلى حجارة الأرض ولعاب الدود، إنما حاجته إلى أمر
يصحبه حيثما توجه.
صلى معروف الكرخي خلف إمام، فلما انفتل سأل ذلك الامام معروفا: من أين
تأكل؟ قال: اصبر على حتى أعيد ما صليته خلفك، قال: لماذا؟ قال: لان من شك
في الرزق شك في الرازق، قال الشاعر:
ولا تهلكن النفس وجدا وحسرة * على الشئ أسداه لغيرك قادره (3)
ولا تيأسن من صالح أن تناله * وإن كان نهبا بين أيد تبادره
فإنك لا تعطى امرأ حظ نفسه * ولا تمنع الشق الذي الغيث ناصره
قال عمر بن الخطاب لعلي بن أبي طالب عليه السلام: قد مللت الناس، وأحببت
أن ألحق بصاحبي، فقال: إن سرك اللحوق بهما فقصر أملك، وكل دون الشبع،
واخصف النعل (4) وكن كميش (5) الإزار، مرقوع القميص، تلحق بهما.

(1) المشرقة: موضع مقعود في الشمس في الشتاء.
(2) الرفق بالشئ: الانتفاع به.
(3) ا: (سداه لغيرك)، أي أعطاه.
(4) خصف النعل: خرزها بالمخصف.
(5) يقال: كمش إزاره، إذ قصره وشمره.
161

وقال بعض شعراء العجم:
غلا السعر في بغداد من بعد رخصه * وإني في الحالين بالله واثق
فلست أخاف الضيق والله واسع * غناه، ولا الحرمان والله رازق
قيل لعلى عليه السلام: لو سد على رجل باب بيت وترك فيه، من أين كان يأتيه
رزقه؟ قال: من حيث كان يأتيه أجله.
قال بعض الشعراء:
صبرت النفس لا أجزع * من حادثة الدهر
رأيت الرزق لا يكسب * بالعرف ولا النكر
ولا بالسلف الأمثل * أهل الفضل والذكر
ولا بالسمر اللدن * ولا بالخذم البتر (1)
ولا بالعقل والدين * ولا الجاه ولا القدر
ولا يدرك بالطيش * ولا الجهل ولا الهذر
ولكن قسم تجرى * بما ندري ولا ندري
جاء فتح بن شخرف إلى منزله بعد العشاء، فلم يجد عندهم ما يتعشى به، ولا وجد
دهنا للسراج وهم في الظلمة، فجلس ليلة يبكى من الفرح، ويقول: بأي يد قد كانت منى،
بأي طاعة تنعم على بأن أترك على مثل هذه الحال!
لقى هرم بن حيان أويسا القرني، فقال: السلام عليك يا أويس بن عامر! فقال:
وعليك السلام يا هرم بن حيان، فقال هرم: أما إني عرفتك بالصفة، فكيف عرفتني؟
قال: إن أرواح المؤمنين لتشام كما تشام الخيل، فيعرف بعضها بعضا. قال أوصني،

(1) السمر: جمع أسمر، وهو الرمح اللدن اللين. والخذم: جمع خاذم، أي قاطع.
162

قال: عليك بسيف البحر، قال: فمن أين المعاش؟ قال: أف لك! خالطت الشك
الموعظة، أتفر إلى الله بدينك وتتهمه في رزقك!
منصور الفقيه:
الموت أسهل عندي * بين القنا والأسنه
والخيل تجرى سراعا * مقطعات الأعنه
من أن يكون لنذل * علي فضل ومنه
أعرابي:
أتيأس أن يقارنك النجاح * فأين الله والقدر المتاح (1)
قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: (إياك والطمع، فإنه فقر
حاضر، وعليك باليأس مما في أيدي الناس).
حكيم: أحسن الأحوال حال يغبطك بها من دونك، ولا يحقرك لها
من فوقك.
أبو العلاء المعرى:
فإن كنت تهوى العيش فابغ توسطا * فعند التناهي يقصر المتطاول (2)
توقى البدور النقص وهي أهلة * ويدركها النقصان، وهي كوامل
خالد بن صفوان: كن أحسن ما تكون في الظاهر حالا، أقل ما تكون
في الباطن مالا، فإن الكريم من كرمت عند الحاجة خلته (3)، واللئيم من لؤمت عند
الفاقة طعمته.

(1) المتاح: المهيأ.
(2) شروح سقط الزند 552.
(3) الخلة: الحاجة.
163

شعر:
وكم ملك جانبته من كراهة * لإغلاق باب أو لتشديد حاجب
ولى في غنى نفسي مراد ومذهب * إذا أبهمت دوني وجوه المذاهب (1).
بعض الحكماء: ينبغي للعاقل أن يكون في دنياه كالمدعو إلى الوليمة، إن أتته صحفة تناولها،
وإن جازته لم يرصدها ولم يطلبها.

(1) أبهم الامر، إذا اشتبه.
164

(46)
ومن كلام له عليه السلام عند عزمه على المسير إلى الشام:
الأصل:
اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، وسوء المنظر،
في الأهل والمال والولد. اللهم أنت الصاحب في السفر، وأنت الخليفة في الأهل،
ولا يجمعهما غيرك، لان المستخلف لا يكون مستصحبا، والمستصحب
لا يكون مستخلفا.
* * *
قال الرضى رحمه الله:
وابتداء هذا الكلام مروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله، وقد قفاه
أمير المؤمنين عليه السلام بأبلغ كلام، وتممه بأحسن تمام، من قوله: (ولا يجمعهما غيرك)،
إلى آخر الفصل.
* * *
الشرح:
وعثاء السفر: مشقته، وأصل الوعث المكان السهل الكثير الدهس، تغيب
فيه الاقدام، ويشق على من يمشى فيه، أوعث القوم، أي وقعوا في الوعث. والكآبة:
الحزن. والمنقلب، مصدر من انقلب منقلبا، أي رجع، وسوء المنظر: قبح المرأى.
165

وصدر الكلام مروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسانيد الصحيحة،
وختمه أمير المؤمنين عليه السلام وتممه بقوله: (ولا يجمعهما غيرك)، وهو الصحيح،
لان من يستصحب لا يكون مستخلفا، فإنه مستحيل أن يكون الشئ الواحد في المكانين
مقيما وسائرا، وإنما تصح هذه القضية في الأجسام، لان الجسم الواحد لا يكون في جهتين
في وقت واحد، فأما ما ليس بجسم وهو البارئ سبحانه، فإنه في كل مكان، لا على معنى
أن ذاته ليست مكانية، وإنما المراد علمه وإحاطته ونفوذ حكمه وقضائه وقدره، فقد صدق
عليه السلام أنه المستخلف وأنه المستصحب، وأن الامرين مجتمعان له جل اسمه.
وهذا الدعاء دعا به أمير المؤمنين عليه السلام بعد وضع رجله في الركاب، من منزله
بالكوفة متوجها إلى الشام لحرب معاوية وأصحابه، ذكره نصر بن مزاحم في كتاب
،، صفين (1)،، وذكره غيره أيضا من رواة السيرة.
* * *
[أدعية على عند خروجه من الكوفة لحرب معاوية]
قال نصر: لما وضع علي عليه السلام رجله في ركاب دابته يوم خرج من الكوفة إلى
صفين، قال: بسم الله، فلما جلس على ظهرها، قال: (سبحان الذي سخر لنا هذا
وما كنا له مقرنين * وإنا إلى ربنا لمنقلبون)، (2) اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر...
إلى آخر الفصل. وزاد فيه نصر: (ومن الحيرة بعد اليقين). قال: ثم خرج أمامه
الحر بن سهم بن طريف، وهو يرتجز ويقول:
يا فرسي سيرى وأمي الشاما * وقطعي الحزون والاعلاما (3)
ونابذي من خالف الاماما * إني لأرجو إن لقينا العاما

(1) كتاب صفين 149.
(2) سورة الزخرف 13، 14.
(3) صفين: (وأقطعي)، والحزون: جمع حزن، وهو ضد السهل من الأرض.
166

جمع بنى أمية الطغاما (1) * أن نقتل العاصي والهماما
* وأن نزيل من رجال هاما *
قال: وقال حبيب بن مالك، وهو على شرطه علي عليه السلام، وهو آخذ بعنان
دابته: يا أمير المؤمنين، أتخرج بالمسلمين فيصيبوا أجر الجهاد بالقتال، وتخلفني بالكوفة
لحشر الرجال! فقال عليه السلام: إنهم لن يصيبوا من الاجر شيئا إلا كنت شريكهم
فيه، وأنت هاهنا أعظم غناء عنهم منك لو كنت معهم. فخرج علي عليه السلام، حتى
إذا حاذى الكوفة صلى ركعتين (2).
قال: وحدثنا عمرو بن خالد، عن أبي الحسين زيد بن علي عليه السلام، عن
آبائه: أن (3) عليا عليه السلام خرج وهو يريد صفين، حتى إذا قطع النهر، أمر مناديه،
فنادى بالصلاة، فتقدم فصلى ركعتين، حتى إذا قضى الصلاة، أقبل على الناس بوجهه،
فقال: أيها الناس، ألا من كان مشيعا أو مقيما فليتم الصلاة، فإنا قوم سفر، ألا ومن
صحبنا فلا يصومن المفروض. والصلاة المفروضة ركعتان.
قال نصر: ثم خرج حتى نزل دير أبى موسى - وهو من الكوفة على فرسخين -
فصلى به العصر، فلما انصرف من الصلاة، قال: سبحان الله ذي الطول والنعم! سبحان
الله ذي القدرة والافضال، أسأل الله الرضا بقضائه، والعمل بطاعته، والإنابة إلى أمره،
إنه سميع الدعاء (3).
قال نصر: ثم (4) خرج عليه السلام حتى نزل على شاطئ نرس (5) بين موضع
حمام أبى بردة وحمام عمر، فصلى بالناس المغرب، فلما انصرف، قال: الحمد لله الذي يولج

(1) الطغام: أوغاد الناس.
(2) كتاب صفين 150: (حتى إذا جاز حد الكوفة).
(3) كتاب صفين 150
(4) كتاب صفين 151.
(5) نرس، بالفتح ثم السكون وآخره سين مهملة: نهر حفره نرسي بن بهرام بنواحي الكوفة، مأخذه
من الفرات، وعليه عدة قرى. (مراصد الاطلاع).
167

الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، والحمد لله كلما وقب ليل وغسق، والحمد لله كلما
لاح نجم وخفق.
ثم أقام حتى صلى الغداة، ثم شخص حتى بلغ إلى قبة قبين (1)، وفيها نخل طوال إلى
جانب البيعة من وراء النهر، فلما رآها، قال: (والنخل باسقات لها طلع نضيد). ثم
أقحم دابته النهر، فعبر إلى تلك البيعة فنزلها، ومكث قدر الغداء.
قال نصر: وحدثنا عمر بن سعد، عن محمد بن مخنف بن سليم (2) قال: إني لأنظر إلى
أبى وهو يساير عليا عليه السلام، وعلى يقول له: إن بابل أرض قد خسف بها، فحرك
دابتك لعلنا نصلى العصر خارجا منها. فحرك دابته، وحرك الناس دوابهم في أثره، فلما
جاز جسر الفرات (3)، نزل فصلى بالناس العصر.
قال: حدثني عمر بن عبد الله بن يعلى بن مره الثقفي، عن أبيه، عن عبد خير، قال:
كنت مع علي أسير في أرض بابل، قال: وحضرت الصلاة صلاة العصر، قال: فجعلنا
نأتى مكانا إلا رأيناه أفيح (4) من الاخر، قال: حتى أتينا على مكان أحسن ما رأينا،
وقد كادت الشمس أن تغيب. قال: فنزل علي عليه السلام، فنزلت معه، قال: فدعا الله،
فرجعت الشمس كمقدارها من صلاة العصر. قال: فصليت العصر، ثم غابت الشمس، ثم خرج حتى أتى دير كعب ثم
خرج منه فبات بساباط، فأتاه دهاقينها يعرضون عليه
النزل (5) والطعام، فقال: لا، ليس ذلك لنا عليكم. فلما أصبح وهو بمظلم ساباط (6)،

(1) قبين، بالضم ثم الكسر والتشديد، قال صاحب مراصد الاطلاع: (ولاية بالعراق).
(2) صفين 151، والسند هناك: نصر: عمر، عن رجل - يعنى أبا مخنف، عن عمه ابن مخنف).
(3) صفين: (جسر الصراة)، والصراة من أنهار الفرات.
(4) أفيح من الفيح وهو السعة.
(5) النزل: طعام الضيف.
(6) مظلم ساباط، موضع مضاف إلى ساباط التي بقرب المدائن، قليل الضوء: مراصد الاطلاع 1286
168

قرأ: (أتبنون بكل ريع آية تعبثون) (1).
قال نصر: وبلغ عمرو بن العاص مسيره فقال:
لا تحسبني يا علي غافلا * لأوردن الكوفة القنابلا (3)
* بجمعي العام وجمعي قابلا *
قال: فبلغ ذلك عليا عليه السلام، فقال:
لأوردن العاصي ابن العاصي * سبعين ألفا عاقدي النواصي
مستحقبين حلق الدلاص (4) * قد جنبوا الخيل مع القلاص (5)
* أسود غيل حين لا مناص *
* * *
[نزول على بكربلاء]
قال نصر: وحدثنا منصور بن سلام التميمي، قال: حدثنا حيان التيمي، عن أبي
عبيدة، عن هرثمة بن سليم، قال (6): غزونا مع علي عليه السلام صفين، فلما نزل
بكربلاء صلى بنا، فلما سلم رفع إليه من تربتها فشمها، ثم قال: واها لك يا تربة (7)!
ليحشرن منك قوم يدخلون الجنة بغير حساب.
قال: فلما رجع هرثمة من غزاته (8) إلى امرأته جرداء بنت سمير - وكانت من شيعة
علي عليه السلام - حدثها هرثمة فيما حدث، فقال لها: ألا أعجبك من صديقك أبى حسن!

(1) سورة الشعراء 128 (2) صفين 153
(3) القنابل: جماعات الخيل والناس.
(4) مستحقبين: حاملين، والدلاص: الدروع اللينة.
(5) يقال: جنب الرجل الفرس إذا قاده إلى جنبه. والقلاص: جمع قلوص، وهي الشابة من الإبل،
بمنزلة الجارية من النساء.
(6) كتاب صفين 157.
(7) صفين: (واها لك أيتها التربة).
(8) صفين: (من غزوته).
169

قال: لما نزلنا كربلاء، وقد أخذ حفنة من تربتها فشمها، وقال: (واها لك أيتها التربة!
ليحشرن منك قوم يدخلون الجنة بغير حساب): وما علمه بالغيب؟ فقالت المرأة له: دعنا
منك أيها الرجل، فإن أمير المؤمنين عليه السلام لم يقل إلا حقا.
قال: فلما بعث عبيد الله بن زياد البعث الذي بعثه إلى الحسين عليه السلام، كنت
في الخيل التي بعث إليهم، فلما انتهيت إلى الحسين عليه السلام وأصحابه، عرفت المنزل الذي
نزلنا فيه مع علي عليه السلام، والبقعة التي رفع إليه من تربتها والقول الذي قاله،
فكرهت مسيري، فأقبلت على فرسي حتى وقفت على الحسين عليه السلام فسلمت عليه،
وحدثته بالذي سمعت من أبيه في هذا المنزل، فقال الحسين: أمعنا أم علينا؟ فقلت:
يا بن رسول الله، لا معك ولا عليك، تركت ولدى وعيالي (1) أخاف عليهم من ابن زياد،
فقال الحسين عليه السلام: فول هربا حتى لا ترى مقتلنا (2)، فوالذي نفس حسين (3)
بيده لا يرى اليوم مقتلنا أحد ثم لا يعيننا (4) إلا دخل النار.
قال: فأقبلت في الأرض أشتد هربا، حتى خفى على مقتلهم.
* * *
قال نصر: وحدثنا مصعب، قال: حدثنا الأجلح بن عبد الله الكندي عن أبي
جحيفة، قال: جاء (5) عروة البارقي إلى سعد بن وهب، فسأله فقال: حديث
حدثتناه (6) عن علي بن أبي طالب، قال: نعم بعثني مخنف بن سليم إلى علي عند
توجهه إلى صفين، فأتيته بكربلاء، فوجدته يشير بيده، ويقول: هاهنا، هاهنا! فقال له

(1) صفين: (تركت أهلي وولدي).
(2) صفين: (حتى لا ترى لنا مقتلا).
(3) صفين: (فوالذي نفس محمد).
(4) صفين: (لا يغيثنا)
(5) صفين 158.
(6) صفين: (حدثتنيه).
170

رجل: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ فقال: ثقل لآل محمد ينز هاهنا، فويل لهم منكم، وويل
لكم منهم! فقال له الرجل: ما معنى هذا الكلام يا أمير المؤمنين؟ قال: ويل لهم منكم
تقتلونهم، وويل لكم منهم يدخلكم الله بقتلهم النار
قال نصر: وقد روى هذا الكلام على وجه آخر، أنه عليه السلام قال: (فويل لكم
منهم، وويل لكم عليهم)، فقال الرجل أما (ويل لنا منهم)، فقد عرفناه، فويل لنا
عليهم، ما معناه! فقال: ترونهم يقتلون لا تستطيعون نصرتهم.
قال نصر: وحدثنا سعيد بن حكيم العبسي، عن الحسن بن كثير، عن أبيه، أن
عليا عليه السلام أتى كربلاء، فوقف بها، فقيل له: يا أمير المؤمنين، هذه كربلاء،
فقال: (ذات كرب وبلاء)، ثم أومأ بيده إلى مكان، فقال: هاهنا موضع رحالهم،
ومناخ ركابهم، ثم أومأ بيده إلى مكان آخر، فقال: هاهنا مراق دمائهم، ثم مضى
إلى ساباط (1).
* * *
[خروج على لحرب معاوية وما دار بينه وبين أصحابه]
وينبغي أن نذكر هاهنا ابتداء عزمه على مفارقة الكوفة، والمسير إلى الشام وما خاطب
به أصحابه، وما خاطبوه به، وما كاتب به العمال وكاتبوه جوابا عن كتبه، وجميع ذلك
منقول من كتاب نصر بن مزاحم.
قال نصر: حدثنا عمر بن سعد، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الرحمن بن عبيد
أبى الكنود، قال: لما أراد علي عليه السلام المسير إلى الشام، دعا من كان معه من
المهاجرين والأنصار، فجمعهم، ثم حمد الله وأثنى عليه، وقال: أما بعد، فإنكم ميامين

(1) صفين 158
171

الرأي، مراجيح الحلم، مباركو الامر، ومقاويل بالحق، وقد عزمنا على المسير إلى عدونا
وعدوكم، فأشيروا علينا برأيكم.
فقام هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: أما بعد
يا أمير المؤمنين، فأنا بالقوم جد خبير، هم لك ولأشياعك أعداء، وهم لمن يطلب حرث
الدنيا أولياء، وهم مقاتلوك ومجادلوك (1) لا يبقون جهدا، مشاحة على الدنيا، وضنا
بما في أيديهم منها، ليس لهم إربة غيرها، إلا ما يخدعون به الجهال من طلب دم ابن عفان،
كذبوا ليس لدمه ينفرون، ولكن الدنيا يطلبون، انهض بنا إليهم فإن أجابوا إلى الحق
فليس بعد الحق إلا الضلال، وإن أبوا إلا الشقاق، فذاك ظني بهم (2)، والله ما أراهم
يبايعون وقد بقي فيهم أحد ممن يطاع إذا نهى، ويسمع إذا أمر (3).
قال نصر: وحدثنا عمر بن سعد، عن الحارث بن حصيرة، عن عبد الرحمن بن عبيد
أبى الكنود أن عمار بن ياسر قام فحمد الله وأثنى عليه، وقال: يا أمير المؤمنين،
إن استطعت ألا تقيم يوما واحدا فافعل، اشخص بنا قبل استعار نار الفجرة، واجتماع
رأيهم على الصدود والفرقة، وادعهم إلى حظهم ورشدهم، فإن قبلوا سعدوا، وإن أبوا
إلا حربنا، فوالله إن سفك دمائهم، والجد في جهادهم، لقربة عند الله، وكرامة منه (4).
ثم قام قيس بن سعد بن عبادة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أمير المؤمنين،
انكمش (5) بنا إلى عدونا ولا تعرج (6)، فوالله لجهادهم أحب إلى من جهاد الترك

(1) صفين: (مجاهدوك).
(2) صفين: (فذلك الظن بهم).
(3) كتاب صفين 103
(4) صفين: (وهو كرامة منه).
(5) الانكماش: الجد في السير.
(6) صفين: (لا تعرد) والتعريد: الفرار.
172

والروم، لإدهانهم (1) في دين الله، واستذلالهم أولياء الله من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله،
من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان، إذا غضبوا على رجل حبسوه وضربوه
وحرموه وسيروه، وفيئنا لهم في أنفسهم حلال، ونحن لهم فيما يزعمون قطين (2) - قال:
يعنى رقيق.
فقال أشياخ الأنصار، منهم خزيمة بن ثابت وأبو أيوب، وغيرهما: لم تقدمت
أشياخ قومك وبدأتهم بالكلام يا قيس؟ فقال: أما إني عارف، بفضلكم معظم
لشأنكم، ولكني وجدت في نفسي الضغن الذي في صدوركم جاش حين ذكرت
الأحزاب.
فقال بعضهم لبعض: ليقم رجل منكم فليجب أمير المؤمنين عن جماعتكم، فقام، سهل بن حنيف، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أمير المؤمنين، نحن سلم لمن سالمت،
وحرب لمن حاربت، ورأينا رأيك، ونحن (3) يمينك، وقد رأينا أن تقوم [بهذا الامر] (4) في أهل الكوفة فتأمرهم بالشخوص، وتخبرهم بما صنع لهم في ذلك من الفضل، فإنهم أهل
البلد وهم الناس، فإن استقاموا لك استقام لك الذي تريد وتطلب، فأما نحن فليس
عليك خلاف منا، متى دعوتنا أجبناك، ومتى أمرتنا أطعناك (5).
قال نصر: فحدثنا عمر بن سعد، عن أبي مخنف، عن زكريا بن الحارث، عن أبي
خشيش، عن معبد، قال: قام علي عليه السلام خطيبا على منبره، فكنت تحت المنبر،
أسمع تحريضه (6) الناس وأمره لهم بالمسير إلى صفين لقتال أهل الشام، فسمعته يقول:

(1) الادهان: الغش والخديعة.
(2) القطين: الخدم والاتباع.
(3) صفين: (ونحن كف يمينك).
(4) من صفين
(5) صفين 105
(6) صفين: (حين حرض الناس).
173

سيروا إلى أعداء الله، سيروا إلى أعداء القرآن والسنن، سيروا إلى بقية الأحزاب وقتلة
المهاجرين والأنصار. فقام رجل من بنى فزارة، فقال له: أتريد أن تسير بنا إلى إخواننا
من أهل الشام فنقتلهم لك، كما سرت بنا إلى إخواننا من أهل البصرة فقتلتهم! كلا،
ها الله (1) إذا لا نفعل ذلك.
فقام الأشتر، فقال: من هذا المارق! (2)
فهرب الفزاري، واشتد الناس على إثره، فلحق في مكان من السوق تباع فيه
البراذين، فوطئوه بأرجلهم، وضربوه بأيديهم ونعال سيوفهم حتى قتل، فأتى علي عليه
السلام، فقيل له: يا أمير المؤمنين، قتل الرجل، قال: ومن قتله؟ قالوا: قتلته
همدان ومعهم شوب من الناس، فقال: قتيل عمية (3)، لا يدرى من قتله! ديته من
بيت مال المسلمين، فقال بعض بنى تيم اللات بن ثعلبة (4):
أعوذ بربي أن تكون منيتي * كما مات في سوق البراذين أربد
تعاوره همدان خفق نعالهم * إذا رفعت عنه يد وضعت يد.
فقام الأشتر، فقال: يا أمير المؤمنين، لا يهدنك ما رأيت، ولا يؤيسنك من نصرنا
ما سمعت من مقالة هذا الشقي الخائن، إن جميع من ترى من الناس شيعتك، لا يرغبون
بأنفسهم عن نفسك، ولا يحبون البقاء بعدك، فإن شئت فسر بنا إلى عدوك، فوالله
ما ينجو من الموت من خافه، ولا يعطى البقاء من أحبه، وإنا لعلى بينة من ربنا، وإن
أنفسنا لن تموت حتى يأتي أجلها. وكيف لا نقاتل قوما هم كما وصف أمير المؤمنين،
وقد وثبت عصابة منهم على طائفة من المسلمين بالأمس، وباعوا خلاقهم بعرض
من الدنيا يسير!

(1) الهاء هنا للتنبيه يقسم بها.
(2) صفين: (من لهذا أيها الناس).
(3) قتيل عمية، أي ميتة فتنة وجهالة.
(4) صفين: (فقال علاقة التيمي).
174

فقال علي عليه السلام: الطريق مشترك، والناس في الحق سواء، ومن اجتهد رأيه
في نصيحة العامة، فقد قضى ما عليه. ثم نزل فدخل منزله (1).
* * *
قال نصر: وحدثنا عمر بن سعد، قال: حدثني أبو زهير العبسي، عن النضر بن
صالح أن عبد الله بن المعتم العبسي وحنظله بن الربيع التميمي، لما أمر علي عليه السلام
الناس بالمسير إلى الشام دخلا عليه في رجال كثير من غطفان وبنى تميم، فقال له حنظلة: يا أمير
المؤمنين، إنا قد مشينا إليك في نصيحة فاقبلها، ورأينا لك رأيا فلا تردنه علينا، فإنا
نظرنا لك ولمن معك، أقم وكاتب هذا الرجل، ولا تعجل إلى قتال أهل الشام، فإنا
والله ما ندري ولا تدرى لمن تكون الغلبة إذا التقيتم، ولا على من تكون الدبرة!
وقال ابن المعتم مثل (2) قوله، وتكلم القوم الذين دخلوا معهما بمثل كلامهما، فحمد
علي عليه السلام الله وأثنى، ثم قال:
أما بعد فإن الله وارث العباد والبلاد، ورب السماوات السبع، والأرضين السبع،
وإليه ترجعون، يؤتى الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل
من يشاء. أما الدبرة، فإنها على الضالين العاصين ظفروا أو ظفر بهم، وأيم الله إني
لأسمع كلام قوم ما أراهم يعرفون معروفا، ولا ينكرون منكرا.
فقام إليه معقل بن قيس الرياحي، فقال: يا أمير المؤمنين، إن هؤلاء والله ما آثروك
بنصح، ولا دخلوا عليك إلا بغش، فأحذرهم فإنهم أدنى العدو.
وقال له مالك بن حبيب: إنه بلغني يا أمير المؤمنين أن حنظلة هذا يكاتب معاوية،
فادفعه إلينا نحبسه حتى تنقضي غزاتك، وتنصرف.

(1) صفين 107
(2) صفين: (وقام المعتم فتكلم).
175

وقام من بنى عبس قائد بن بكير وعياش بن ربيعة العبسيان، فقالا: يا أمير المؤمنين
إن صاحبنا عبد الله بن المعتم قد بلغنا أنه يكاتب معاوية، فاحبسه أو مكنا من حبسه،
حتى تنقضي غزاتك ثم تنصرف.
فقالا: هذا جزاء لمن نظر لكم، وأشار عليكم بالرأي فيما بينكم وبين عدوكم.
فقال لهما علي عليه السلام: الله بيني وبينكم، وإليه أكلكم، وبه أستظهر عليكم
اذهبوا حيث شئتم (1).
قال نصر: وبعث علي عليه السلام إلى حنظلة بن الربيع المعروف بحنظلة الكاتب،
- وهو من الصحابة - فقال له: يا حنظلة، أنت على أم لي؟ فقال: لا لك ولا عليك،
قال: فما تريد؟ قال: أشخص إلى الرها (2)، فإنه فرج من الفروج، اصمد له حتى ينقضي
هذا الامر.
فغضب من قوله، خيار بنى عمرو بن تميم وهم رهطه فقال: إنكم والله لا تغروني
من ديني، دعوني فأنا أعلم منكم، فقالوا: والله إن لم تخرج مع هذا الرجل لا ندع
فلانة تخرج معك - لام ولده - ولا ولدها، ولئن أردت ذلك لنقتلنك.
فأعانه ناس من قومه واخترطوا سيوفهم، فقال: أجلوني حتى أنظر. ودخل منزله
وأغلق بابه، حتى إذا أمسى هرب إلى معاوية، وخرج من بعده إليه من قومه رجال
كثير، وهرب ابن المعتم أيضا حتى أتى معاوية في أحد عشر رجلا من قومه.
وأما حنظلة فخرج إلى معاوية في ثلاثة وعشرين رجلا من قومه، لكنهما لم يقاتلا
مع معاوية، واعتزلا الفريقين جميعا (3).

(1) صفين: 107، 108
(2) الرها: مدنية بالجزيرة بين الموصل والشام.
(3) صفين 109
176

وقال: وأمر علي عليه السلام بهدم دار حنظلة، فهدمت، هدمها عريفهم شبث بن
ربعي وبكر بن تميم، فقال حنظلة يهجوهما:
أيا راكبا إما عرضت فبلغن * مغلغلة عنى سراة بنى عمرو
فأوصيكم بالله والبر والتقى * ولا تنظروا في النائبات إلى بكر
ولا شبث ذي المنخرين كأنه * أزب جمال قد رغا ليلة النفر (1)
وقال أيضا يحرض معاوية بن أبي سفيان:
أبلغ معاوية بن حرب خطة * ولكل سائلة تسيل قرار
لا تقبلن دنية ترضونها (2) * في الامر حتى تقتل الأنصار
وكما تبوء دماؤهم بدمائكم * وكما تهدم بالديار ديار
وترى نساؤهم يجلن حواسرا * ولهن من ثكل الرجال جؤار (3)
قال نصر: حدثنا عمر بن سعد، عن سعد بن طريف، عن أبي المجاهد، عن المحل
بن خليفة، قال: قام عدى بن حاتم الطائي بين يدي علي عليه السلام، فحمد الله وأثنى عليه،
وقال: (4) يا أمير المؤمنين، ما قلت إلا بعلم، ولا دعوت إلا إلى حق، ولا أمرت إلا
برشد، ولكن إذا رأيت (5) أن تستأني هؤلاء القوم وتستديمهم - حتى تأتيهم كتبك،
ويقدم عليهم رسلك - فعلت. فإن يقبلوا يصيبوا رشدهم (6)، والعافية أوسع لنا ولهم،

(1) الأزب: الكثير شعر الوجه والعثنون، وفي صفين:
* أزب جمال في ملا حية صفر *
(2) صفين: (تعطونها).
(3) صفين: (ولهن من ثكل الرجال خوار).
(4) صفين 110
(5) صفين: (فإن رأيت).
(6) صفين: (فإن يقبلوا يصيبوا ويرشدوا).
177

وإن يتمادوا في الشقاق ولا ينزعوا عن الغي فسر إليهم. وقد قدمنا إليهم بالعذر (1)،
و دعوناهم إلى ما في أيدينا من الحق، فوالله لهم من الحق أبعد، وعلى الله أهون، من
قوم قاتلناهم أمس بناحية البصرة لما دعوناهم إلى الحق فتركوه، ناوجناهم براكاء
القتال (2)، حتى بلغنا منهم ما نحب، وبلغ الله منهم رضاه.
فقام زيد بن حصين الطائي - وكان من أصحاب البرانس (3) المجتهدين - فقال: الحمد
لله حتى يرضى، ولا إله إلا الله ربنا، أما بعد: فوالله إن كنا في شك من قتال من
خالفنا، ولا تصلح لنا النية في قتالهم حتى نستديمهم ونستأنيهم - ما الأعمال إلا في تباب،
ولا السعي إلا في ضلال، والله تعالى يقول: (وأما بنعمة ربك فحدث) (4) إننا،
والله ما ارتبنا طرفة عين فيمن يتبعونه (5)، فكيف بأتباعه القاسية قلوبهم، القليل من
الاسلام حظهم، أعوان الظلمة وأصحاب الجور والعدوان (6) ليسوا من المهاجرين ولا
الأنصار، ولا التابعين بإحسان.
فقام رجل من طيئ فقال: يا زيد بن حصين، أكلام سيدنا عدى بن حاتم
تهجن (7)! فقال: زيد ما أنتم بأعرف بحق عدى منى، ولكني لا أدع القول بالحق
وإن سخط الناس.
قال نصر: وحدثنا عمر بن سعد، عن الحارث بن حصين قال (8): دخل أبو زينب

(1) صفين: (العذر).
(2) البراكاء: الإبتراك في الحرب، وهو أن يجثو القوم على ركبهم.، ويقال: وجن به، أي ضرب
به الأرض، وفى صفين: (ناوخناهم).
(3) جمع برنس، وهو قلنسوة طويلة كان يلبسها في صدر الاسلام النساك والزهاد.
(4) سورة الضحى 11.
(5) صفين: (يبتغون دمه).
(6) صفين: (ومسددي أساس الجور والعدوان).
(7) في صفين بعد هذه الكلمة: (قال: فقال عدى بن حاتم: الطريق مشترك، والناس في الحق
سواء، فمن اجتهد رأيه في نصيحة العامة فقد قضى الذي عليه).
(8) صفين 112: (الحارث بن حصيرة).
178

ابن عوف، على علي عليه السلام، فقال: يا أمير المؤمنين، لئن كنا على الحق لأنت
أهدانا سبيلا، وأعظمنا في الخير نصيبا، ولئن كنا على ضلال، إنك لأثقلنا ظهرا وأعظمنا
وزرا، قد أمرتنا بالمسير إلى هذا العدو، وقد قطعنا ما بيننا وبينهم من الولاية وأظهرنا
لهم العداوة، نريد بذلك ما يعلمه الله تعالى من طاعتك، أليس الذي نحن عليه هو الحق
المبين، والذي عليه عدونا هو الحوب الكبير!
فقال عليه السلام: بلى، شهدت أنك إن مضيت معنا ناصرا لدعوتنا، صحيح النية في
نصرنا، قد قطعت منهم الولاية، وأظهرت لهم العداوة كما زعمت، فإنك ولى الله، تسبح (1)
في رضوانه، وتركض في طاعته، فأبشر أبا زينب.
وقال له عمار بن ياسر: أثبت أبا زينب، ولا تشك في الأحزاب، أعداء (2)
الله ورسوله.
فقال أبو زينب: ما أحب أن لي شاهدين من هذه الأمة شهدا لي عما سألت من هذا
الامر الذي أهمنى - مكانكما.
قال: وخرج عمار بن ياسر، وهو يقول:
سيروا إلى الأحزاب أعداء النبي * سيروا فخير الناس أتباع على
هذا أوان طاب سل المشرفي * وقودنا الخيل وهز السمهري (3).
قال نصر: وحدثنا عمر بن سعد، عن أبي روق، قال: (4) دخل يزيد بن قيس
الأرحبي على علي عليه السلام، فقال: يا أمير المؤمنين، نحن أولو جهاز وعدة، و أكثر

(1) صفين: (تسيح).
(2) سفين: (عدو الله ورسوله).
(3) السيوف المشرفية: منسوبة إلى مشارف الشام، قرى من أرض العرب. والسمهري: الرمح
الصلب، منسوب إلى سمهر زوج ردينة، وكانا مثقفين للرماح.
(4) صفين 113.
179

الناس أهل قوة، ومن ليس به ضعف (1) ولا علة، فمر مناديك، فليناد الناس يخرجوا
إلى معسكرهم بالنخيلة، فإن أخا الحرب ليس بالسئوم ولا النئوم، ولا من إذا أمكنته
الفرص أجلها، واستشار فيها، ولا من يؤخر عمل الحرب في اليوم لغد وبعد غد.
فقال زياد بن النضر: لقد نصح لك يزيد بن قيس يا أمير المؤمنين، وقال ما يعرف،
فتوكل على الله، وثق به، وأشخص بنا إلى هذا العدو راشدا معانا، فإن يرد الله بهم
خيرا لا يتركوك رغبة عنك إلى من ليس له مثل سابقتك وقدمك (2) وإلا ينيبوا
ويقبلوا ويأبوا إلا حربنا نجد حربهم علينا هينا، ونرجو أن يصرعهم الله مصارع إخوانهم
بالأمس.
ثم قام عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي، فقال: يا أمير المؤمنين، إن القوم
لو كانوا الله يريدون، ولله يعملون، ما خالفونا، ولكن القوم إنما يقاتلوننا فرارا من
الأسوة وحبا للإثرة، وضنا بسلطانهم، وكرها لفراق دنياهم التي في أيديهم، وعلى
إحن في نفوسهم، وعداوة يجدونها في صدورهم، لوقائع أوقعتها يا أمير المؤمنين، بهم قديمة،
قتلت فيها آباء هم وأعوانهم (3).
ثم التفت إلى الناس، فقال: كيف يبايع معاوية عليا، وقد قتل أخاه حنظلة، وخاله
الوليد، وجده عتبة في موقف واحد، والله ما أظنهم يفعلون (4)، ولن يستقيموا لكم
دون أن تقصف فيهم قنا المران (5)، وتقطع على هامهم السيوف، وتنثر حواجبهم بعمد
الحديد، وتكون أمور جمة بين الفريقين.

(1) صفين: (ومن ليس بمضعف).
(2 - 2) صفين: (إلى من ليس مثلك في السابقة مع النبي صلى الله عليه وآله والقدم في الاسلام).
(3) صفين: (وإخوانهم).
(4) صفين: (ما أظن أن يفعلوا).
(5) صفين: (تقصد)، وهي بمعنى (تقصف) والمران: الرماح اللدنة.
180

قال نصر: وحدثنا عمر بن سعد عن الحارث بن حصين عن عبد الله بن شريك،
قال (1): خرج حجر بن عدي وعمرو بن الحمق، يظهران البراءة من أهل الشام، فأرسل
علي عليه السلام إليهما أن كفا عما يبلغني عنكما، فأتياه، فقالا: يا أمير المؤمنين، ألسنا
محقين؟ قال: بلى، قالا: أو ليسوا مبطلين؟ قال: بلى، قالا: فلم منعتنا من شتمهم؟
قال: كرهت لكم أن تكونوا لعانين شتامين تشتمون وتتبرأون، ولكن لو وصفتم
مساوئ أعمالهم فقلتم: من سيرتهم كذا وكذا، ومن أعمالهم كذا وكذا، كان أصوب
في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان لعنكم إياهم، وبراءتكم منهم: اللهم احقن
دماءهم ودماءنا، وأصلح ذات بينهم وبيننا، واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق
منهم من جهله، ويرعوي عن الغي والعدوان منهم من لهج به - لكان أحب إلى
وخيرا لكم
فقالا: يا أمير المؤمنين، نقبل عظتك، ونتأدب بأدبك.
قال نصر: وقال له عمرو بن الحمق يومئذ: والله يا أمير المؤمنين، إني ما أحببتك
ولا بايعتك على قرابة بيني وبينك، ولا إرادة مال تؤتينيه، ولا التماس سلطان ترفع
ذكرى به، ولكنني أحببتك بخصال خمس: أك ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله،
ووصيه، وأبو الذرية التي بقيت فينا من رسول الله صلى الله عليه وآله، وأسبق الناس
إلى الاسلام، وأعظم المهاجرين سهما في الجهاد، فلو أنى كلفت نقل الجبال الرواسي،
ونزح البحور الطوامي، حتى يأتي على يومى في أمر أقوى به وليك، وأهين عدوك،
ما رأيت أنى قد أديت فيه كل الذي يحق على من حقك.
فقال علي عليه السلام اللهم نور قلبه بالتقى، واهده إلى صراطك المستقيم (2)،

(1) صفين 115، 116.
(2) صفين: (إلى صراط مستقيم).
181

ليت أن في جندي مائة مثلك، فقال حجر: إذا والله يا أمير المؤمنين، صح جندك،
وقل فيهم من يغشك.
قال نصر: وقام حجر بن عدي، فقال: يا أمير المؤمنين، نحن بنو الحرب وأهلها
الذين نلقحها وننتجها، قد ضارستنا وضارسناها (1)، ولنا أعوان وعشيرة ذات عدد ورأي
مجرب، وبأس محمود، وأزمتنا منقادة لك بالسمع والطاعة، فإن شرقت شرقنا، وإن
غربت غربنا، وما أمرتنا به من أمر فعلنا. فقال علي عليه السلام: أكل قومك يرى
مثل رأيك؟ قال: ما رأيت منهم إلا حسنا، وهذه يدي عنهم بالسمع والطاعة وحسن
الإجابة. فقال له علي عليه السلام خيرا.
* * *
قال نصر: حدثنا عمر بن سعد، قال: كتب عليه السلام إلى عماله حينئذ
يستفزهم، فكتب إلى مخنف بن سليم:
سلام (2) عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإن جهاد من
صدف عن الحق رغبة عنه، وعب في نعاس العمى والضلال، اختيارا له - فريضة على
العارفين. إن الله يرضى عمن أرضاه، ويسخط على من عصاه، وإنا قد هممنا بالسير
إلى هؤلاء القوم الذين عملوا في عباد الله بغير ما أنزل الله، واستأثروا بالفئ، وعطلوا
الحدود، وأماتوا الحق، وأظهروا في الأرض الفساد، واتخذوا الفاسقين وليجة من دون
المؤمنين، فإذا ولى لله أعظم أحداثهم أبغضوه وأقصوه وحرموه، وإذا ظالم ساعدهم على
ظلمهم أحبوه، وأدنوه وبروه، فقد أصروا على الظلم، وأجمعوا على الخلاف، وقديما
ما صدوا عن الحق، تعاونوا على الاثم، وكانوا ظالمين. فإذا أتيت بكتابي هذا،
فاستخلف على عملك أوثق أصحابك في نفسك، وأقبل إلينا، لعلك تلقى معنا هذا العدو

(1) ضارست الأمور: جريتها.
(2) كتاب صفين: 116، 117.
182

المحل، فتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتجامع الحق، وتباين الباطل
فإنه لا غناء
بنا ولا بك عن أجر الجهاد، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وكتبه عبيد الله (1) بن أبي رافع في سنة سبع وثلاثين.
قال: فاستعمل مخنف على أصبهان الحارث بن أبي الحارث بن الربيع، واستعمل على
همذان سعيد بن وهب، وكلاهما من قومه، وأقبل حتى شهد مع علي عليه السلام صفين.
قال نصر: وكتب عبد الله بن العباس من البصرة إلى علي عليه السلام يذكر له
اختلاف أهل البصرة، فكتب إليه علي عليه السلام: [من عبد الله على أمير المؤمنين
إلى عبد الله بن عباس] (2):
أما بعد، فقد قدم على رسولك، وقرأت كتابك، تذكر فيه حال أهل البصرة
واختلافهم بعد انصرافي عنهم، وسأخبرك عن القوم، وهم بين مقيم لرغبة يرجوها،
أو خائف من عقوبة يخشاها، فأرغب راغبهم بالعدل عليه، والانصاف له والاحسان إليه،
واحلل عقدة الخوف عن قلوبهم، وانته إلى أمري ولا تعده، وأحسن إلى هذا الحي من
ربيعة وكل من قبلك فأحسن إليه ما استطعت إن شاء الله.
قال نصر: وكتب إلى أمراء أعماله كلهم بنحو ما كتب به إلى مخنف بن سليم،
وأقام ينتظرهم.
قال: فحدثنا عمر بن سعد، عن أبي روق، قال (3): قال زياد بن النضر الحارثي لعبد الله
بن بديل: إن يومنا اليوم عصبصب (4) ما يصبر عليه إلا كل مشيع (5) القلب، الصادق

(1) صفين: (عبد الله).
(2) من صفين.
(3) صفين 124 - 128.
(4) العصبصب: الشديد، وفى صفين: (عصيب).
(5) المشيع القلب: القوى الجاد الشجاع.
183

النية، رابط الجأش (1)، وأيم الله ما أظن ذلك اليوم يبقى منهم، ولا منا إلا الرذال (2)
فقال عبد الله بن بديل: أنا والله أظن ذلك. فبلغ كلامهما عليا عليه السلام، فقال
لهما: ليكن هذا الكلام مخزونا في صدوركما لا تظهراه ولا يسمعه منكما سامع، إن الله
كتب القتل على قوم والموت على آخرين، وكل آتيه منيته كما كتب الله له،
فطوبى للمجاهدين في سبيله، والمقتولين في طاعته!
قال نصر: فلما سمع هاشم بن عتبة ما قالاه أتى عليا عليه السلام، فقال: سر بنا
يا أمير المؤمنين إلى هؤلاء القوم، القاسية قلوبهم، الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم،
وعملوا في عباد الله، بغير رضا الله فأحلوا حرامه، وحرموا حلاله، واستوى بهم (3)
الشيطان، ووعدهم الأباطيل، ومناهم الأماني، حتى أزاغهم عن الهدى، وقصد بهم
قصد الردى، وحبب إليهم الدنيا فهم يقاتلون على دنياهم رغبه فيها، كرغبتنا في الآخرة
وانتجاز موعد ربنا. وأنت يا أمير المؤمنين أقرب الناس من رسول الله صلى الله عليه
رحما، وأفضل الناس سابقة وقدما، وهم يا أمير المؤمنين يعلمون منك مثل الذي نعلم،
ولكن كتب عليهم الشقاء، ومالت بهم الأهواء، وكانوا ظالمين، فأيدينا مبسوطة لك
بالسمع والطاعة، وقلوبنا منشرحة لك ببذل النصيحة، وأنفسنا تنصرك على من خالفك،
وتولى الامر دونك جذلة، والله ما أحب أن لي ما على الأرض مما أقلت، ولا ما تحت
السماء مما أظلت، وأنى واليت عدوا لك، أو عاديت وليا لك!
فقال عليه السلام: اللهم ارزقه الشهادة في سبيلك، والمرافقة لنبيك (4).
قال نصر: ثم إن عليا عليه السلام صعد المنبر فخطب الناس، ودعاهم إلى الجهاد، فبدأ
بحمد الله والثناء عليه، ثم قال:

(1) الجأش: القلب، وفلان رابط الجأش، أي شجاع لا يضطرب قلبه خوفا.
(2) الرذال، والرذيل: ما انتقى جيده وبقى أخسه وأدونه
(3) صفين: (واستولاهم).
(4) كذا في صفين، وفى الأصول: (الموافقة)
184

إن الله قد أكرمكم بدينه، وخلقكم لعبادته، فانصبوا أنفسكم في أداء حقه، وتنجزوا
موعوده، واعلموا أن الله جعل أمراس الاسلام متينة، وعراه وثيقة، ثم جعل الطاعة حظ
الأنفس ورضا الرب، وغنيمة الأكياس عند تفريط العجزة (1)، وقد حملت أمر أسودها
وأحمرها، ولا قوة إلا بالله! ونحن سائرون إن شاء الله إلى من سفه نفسه، وتناول ما ليس
له وما لا يدركه معاوية وجنده، الفئة الطاغية الباغية، يقودهم إبليس، ويبرق لهم ببارق
تسويفه، ويدليهم بغروره، وأنتم أعلم الناس بالحلال والحرام، فاستغنوا بما علمتم، واحذروا
ما حذركم الله من الشيطان، وارغبوا فيما عنده من الاجر والكرامة، واعلموا أن المسلوب
من سلب دينه وأمانته، والمغرور من آثر الضلالة على الهدى، فلا أعرفن أحدا منكم
تقاعس عنى، وقال: في غيري كفاية، فإن الذود إلى الذود إبل، ومن لا يذد عن حوضه
يتهدم. ثم إني آمركم بالشدة في الامر، والجهاد في سبيل الله، وألا تغتابوا مسلما، وانتظروا
للنصر العاجل من الله إن شاء الله.
قال نصر: ثم قام ابنه الحسن بن علي عليهما السلام، فقال:
الحمد لله لا إله غيره ولا شريك له.
ثم قال: إن مما عظم الله عليكم من حقه، وأسبغ عليكم من نعمه ما لا يحصى ذكره،
ولا يؤدى شكره، ولا يبلغه قول ولا صفة، ونحن إنما غضبنا لله ولكم، إنه لم يجتمع قوم
قط على أمر واحد إلا اشتد أمرهم، واستحكمت عقدتهم. فاحتشدوا في قتال عدوكم معاوية
وجنوده، ولا تخاذلوا، فإن الخذلان يقطع نياط القلوب، وإن الاقدام على الأسنة نخوة
وعصمة، لم يتمتع (2) قوم قط إلا رفع الله عنهم العلة، وكفاهم جوائح الذلة، هداهم إلى
معالم الملة، ثم أنشد:

(1) صفين: (الفجرة).
(2) صفين: (لم يمتنع)، والتمنع والامتناع: العز والقوة.
185

والصلح تأخذ منه ما رضيت به والحرب يكفيك من أنفاسها جرع (1)
ثم قام الحسين بن علي عليه السلام، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: يأهل الكوفة،
أنتم الأحبة الكرماء، والشعار دون الدثار، جدوا في إطفاء ما دثر بينكم، وتسهيل (2)
ما توعر عليكم. ألا إن الحرب شرها ذريع وطعمها فظيع، فمن أخذ لها أهبتها، واستعد
لها عدتها، ولم يألم كلومها قبل حلولها، فذاك صاحبها، ومن عاجلها قبل أوان فرصتها،
واستبصار سعيه فيها، فذاك قمن ألا ينفع قومه، وأن يهلك نفسه، نسأل الله بقوته أن
يدعمكم بالفيئة (3) ثم نزل.
قال نصر: فأجاب عليا عليه السلام إلى السير جل الناس، إلا أن
أصحاب عبد الله بن مسعود أتوه، فيهم عبيدة السلماني وأصحابه، فقالوا له: إنا نخرج
معكم، ولا نترك عسكركم ونعسكر على حدة، حتى ننظر في أمركم وأمر أهل الشام، فمن
رأيناه أراد ما لا يحل له أو بدا لنا منه بغى كنا عليه. فقال لهم علي عليه السلام: مرحبا
وأهلا، هذا هو الفقه في الدين، والعلم بالسنة، من لم يرض بهذا فهو خائن جبار (4).
وأتاه آخرون من أصحاب عبد الله بن مسعود، منهم الربيع بن خثيم، وهم يومئذ
أربعمائة رجل، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إنا قد شككنا في هذا القتال، على معرفتنا
بفضلك، ولا غناء بنا ولا بك ولا بالمسلمين عمن يقاتل العدو، فولنا بعض هذه الثغور
نكمن (5) ثم نقاتل عن أهله، فوجه علي عليه السلام بالربيع بن خثيم على ثغر الري،
فكان أول لواء عقده عليه السلام بالكوفة لواء الربيع بن خثيم.
* * *

(1) البيت للعباس بن مرداس السلمي، الخزانة 2: 82
(2) صفين: (إسهال).
(3) صفين: (بألفته).
(4) صفين: (جائر).
(5) صفين: (تكون به).
186

قال نصر: وحدثني عمر بن سعد، عن يوسف يزيد، عن عبد الله بن عوف
ابن الأحمر، أن عليا عليه السلام لم يبرح النخيلة، حتى قدم عليه ابن عباس بأهل البصرة
قال: وكان كتاب علي عليه السلام إلى ابن عباس:
أما بعد، فاشخص إلى بمن قبلك من المسلمين والمؤمنين، وذكرهم بلائي عندهم،
وعفوي عنهم في الحرب، وأعلمهم الذي لهم في ذلك من الفضل. والسلام.
قال: فلما وصل كتابه إلى ابن عباس بالبصرة، قام في الناس، فقرأ عليهم الكتاب،
وحمد الله وأثنى عليه، وقال:
أيها الناس، استعدوا للشخوص إلى أمامكم، وانفروا خفافا وثقالا، وجاهدوا
بأموالكم وأنفسكم، فإنكم تقاتلون المحلين القاسطين، الذين لا يقرءون القرآن،
ولا يعرفون حكم الكتاب، ولا يدينون دين الحق، مع أمير المؤمنين، وابن عم رسول
الله، الامر بالمعروف، والناهي عن المنكر، والصادع بالحق، والقيم بالهدى، والحاكم
بحكم الكتاب، الذي لا يرتشي في الحكم، ولا يداهن الفجار، ولا تأخذه في الله
لومة لائم.
فقام إليه الأحنف بن قيس، فقال: نعم والله لنجيبنك، ولنخرجن معك على العسر
واليسر، والرضا والكره، نحتسب في ذلك الاجر، ونأمل به من الله العظيم حسن الثواب.
وقام خالد بن المعمر السدوسي فقال: سمعنا وأطعنا، فمتى استنفرتنا نفرنا، ومتى
دعوتنا أجبنا.
وقام عمرو بن مرجوم العبدي، فقال: وفق الله أمير المؤمنين، وجمع له أمر المسلمين،

(1) كتاب صفين 130.
187

ولعن المحلين القاسطين لا يقرءون القرآن، نحن والله عليهم حنقون، ولهم في الله مفارقون،
فمتى أردتنا صحبك خيلنا (1) ورجالنا إن شاء الله.
قال: وأجاب الناس إلى المسير، ونشطوا وخفوا، فاستعمل ابن عباس على البصرة
أبا الأسود الدؤلي وخرج حتى قدم على علي عليه السلام بالنخيلة.
[كتاب محمد بن أبي بكر إلى معاوية وجوابه عليه]
قال نصر: وكتب (2) محمد بن أبي بكر إلى معاوية:
من محمد (3) بن أبي بكر إلى الغاوي معاوية بن صخر، سلام على أهل طاعة الله
ممن هو سلم (4) لأهل ولاية الله. أما بعد فإن الله بجلاله وعظمته وسلطانه وقدرته، خلق
خلقا بلا عبث ولا ضعف في قوته، لا حاجة به إلى خلقهم، ولكنه خلقهم عبيدا،
وجعل منهم شقيا وسعيدا، وغويا ورشيدا، ثم اختارهم على علمه، فاصطفى وانتخب
منهم محمدا صلى الله عليه وآله، فاختصه برسالته، واختاره لوحيه، وائتمنه على أمره،
وبعثه رسولا مصدقا لما بين يديه من الكتب، ودليلا على الشرائع، فدعا إلى سبيل أمره
بالحكمة والموعظة الحسنة، فكان أول من أجاب وأناب، وصدق [ووافق] (5) فأسلم
وسلم أخوه وابن عمه - علي بن أبي طالب عليه السلام، فصدقه بالغيب المكتوم، وآثره
على كل حميم، ووقاه كل هول، وواساه بنفسه في كل خوف، فحارب حربه، وسالم
سلمه، فلم يبرح مبتذلا لنفسه في ساعات الأزل (6)، ومقامات الروع، حتى برز سابقا

(1) صفين: (ورجلنا) (2) صفين 132 - 135
(3) في صفين: (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن أبي بكر.
(4) صفين: (مسلم).
(5) من صفين
(6) الأزل: الشدة والضيق.
188

لا نظير له في جهاده، ولا مقارب له في فعله، وقد رأيتك تساميه وأنت أنت، وهو هو
السابق المبرز في كل خير، أول الناس إسلاما، وأصدق الناس نية، وأطيب الناس
ذرية، وأفضل الناس زوجة، وخير الناس ابن عم. وأنت اللعين ابن اللعين، لم تزل
أنت وأبوك تبغيان لدين الله الغوائل، وتجتهدان على إطفاء نور الله، وتجمعان على ذلك
الجموع، وتبذلان فيه المال، وتحالفان في ذلك القبائل، على هذا مات أبوك، وعلى ذلك
خلفته، والشاهد عليك بذلك من يأوى ويلجأ إليك، من بقيه الأحزاب ورؤوس النفاق
والشقاق لرسول الله صلى الله عليه وآله، والشاهد لعلى مع فضله وسابقته القديمة أنصاره
الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن، ففضلهم وأثنى عليهم من المهاجرين والأنصار، فهم
معه كتائب وعصائب، يجالدون حوله بأسيافهم، ويهريقون دماءهم دونه، يرون الفضل
في اتباعه، والشقاق والعصيان في خلافه، فكيف - يا لك الويل - تعدل نفسك بعلي،
وهو وارث رسول الله صلى الله عليه وآله ووصيه وأبو ولده، وأول الناس له اتباعا، وآخرهم
به عهدا، يخبره بسره، ويشركه في أمره، وأنت عدوه وابن عدوه، فتمتع ما استطعت
بباطلك، وليمددك لك ابن العاص في غوايتك، فكأن أجلك قد انقضى، وكيدك قد وهي،
وسوف تستبين لمن تكون العاقبة العليا. واعلم أنك إنما تكايد ربك الذي قد أمنت
كيده، وأيست من روحه، وهو لك بالمرصاد، وأنت منه في غرور. وبالله وبأهل بيت
رسوله عنك الغناء! والسلام على من اتبع الهدى.
فكتب إليه معاوية (1):
من معاوية بن أبي سفيان، إلى الزاري على أبيه محمد بن أبي بكر. سلام على أهل طاعة
الله، أما بعد، فقد أتاني كتابك تذكر فيه ما الله أهله في قدرته وسلطانه، وما أصفى به
نبيه، مع كلام ألفته ووضعته، لرأيك فيه تضعيف، ولأبيك فيه تعنيف، ذكرت حق

(1) بعدها في صفين: (بسم الله الرحمن الرحيم).
189

ابن أبي طالب وقديم سابقته، وقرابته من نبي الله ونصرته له، ومواساته إياه، في كل
خوف وهول، واحتجاجك على، وفخرك بفضل غيرك لا بفضلك. فاحمد إلها صرف
ذلك الفضل عنك، وجعله لغيرك، فقد كنا وأبوك معنا في حياة نبينا، نرى حق ابن أبي
طالب لازما لنا، وفضله مبرزا علينا، فلما اختار الله لنبيه ما عنده، وأتم له ما وعده، وأظهر
دعوته، وأفلج حجته، قبضه الله إليه، فكان أبوك وفاروقه، أول من ابتزه وخالفه، على
ذلك اتفقا واتسقا (1)، ثم دعواه إلى أنفسهما فأبطأ عنهما، وتلكأ عليهما، فهما به الهموم:
وأرادا به العظيم، فبايعهما وسلم لهما، لا يشركانه في أمرهما، ولا يطلعانه على سرهما، حتى قبضا
وانقضى أمرهما. ثم أقاما بعدهما ثالثهما عثمان بن عفان، يهتدى بهديهما، ويسير بسيرتهما،
فعبته أنت وصاحبك، حتى طمع فيه الأقاصي من أهل المعاصي، وبطنتما وظهرتما (2)،
وكشفتما له عداوتكما وغلكما، حتى بلغتما منه مناكما، فخذ حذرك يا بن أبي بكر، فسترى
وبال أمرك، وقس شبرك بفترك، تقصر عن أن تساوى أو توازي من يزن الجبال
حلمه، ولا تلين على قسر قناته ولا يدرك ذو مدى أناته، أبوك مهد له مهاده،
وبنى ملكه وشاده، فإن يكن ما نحن فيه صوابا فأبوك أوله، وإن يكن جورا فأبوك
أسه (3) ونحن شركاؤه، فبهديه أخذنا، وبفعله اقتدينا، رأينا أباك فعل ما فعل، فاحتذينا
مثاله، واقتدينا بفعاله، فعب أباك بما بدا لك، أو دع. والسلام على من أناب، ورجع
من غوايته وناب.
* * *
قال: وأمر علي عليه السلام الحارث الأعور أن ينادى في الناس: اخرجوا إلى معسكركم

(1) صفين: (وانشقا).
(2) صفين: (أظهر تما).
(3) صفين: (أسسه).
190

بالنخيلة، فنادى الحارث في الناس بذلك، وبعث إلى مالك بن حبيب اليربوعي صاحب
شرطته، يأمره أن يحشر الناس إلى المعسكر، ودعا عقبة بن عمرو الأنصاري، فاستخلفه
على الكوفة - وكان أصغر أصحاب العقبة السبعين، ثم خرج عليه السلام، وخرج
الناس معه.
قال نصر: ودعا علي عليه السلام زياد بن النضر وشريح بن هانئ - وكانا على
مذحج والأشعريين - فقال: يا زياد، اتق الله في كل ممسي ومصبح، وخف على
نفسك الدنيا الغرور، لا تأمنها على حال واعلم أنك إن لم تزعها عن كثير مما تحب مخافة
مكروهه، سمت بك الأهواء إلى كثير من الضرر، فكن لنفسك مانعا وازعا من البغي و
الظلم والعدوان، فإني قد وليتك هذا الجند، فلا تستطيلن عليهم، إن خيركم عند الله
أتقاكم، تعلم من عالمهم، وعلم جاهلهم، واحلم عن سفيههم، فإنك إنما تدرك الخير بالحلم
وكف الأذى والجهل (1).
فقال زياد: أوصيت يا أمير المؤمنين حافظا لوصيتك، مؤديا لأربك، يرى الرشد في
نفاذ أمرك، والغي في تضييع عهدك.
فأمرهما أن يأخذا في طريق واحد ولا يختلفا، وبعثهما في اثنى عشر ألفا على
مقدمته، وكل واحد منهما على جماعة من ذلك الجيش، فأخذ شريح يعتزل بمن معه
من أصحابه على حدة، ولا يقرب زيادا، فكتب زياد إلى علي عليه السلام مع مولى له
يقال له شوذب:
لعبد الله على أمير المؤمنين، من زياد بن النضر:
سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإنك وليتني أمر

(1) الجهل هنا: السفاهة والغضب.
191

الناس، وإن شريحا لا يرى بي عليه طاعة ولا حقا، وذلك من فعله بي استخفاف بأمرك،
وترك لعهدك، والسلام.
وكتب شريح بن هاني إلى علي عليه السلام:
لعبد الله على أمير المؤمنين من شريح بن هاني، سلام عليك، فإني أحمد الله إليك
الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإن زياد بن النضر حين أشركته في أمرك، ووليته جندا
من جنودك، طغى واستكبر، ومال به العجب والخيلاء والزهو إلى ما لا يرضى الله تعالى به
من القول والفعل، فإن رأى أمير المؤمنين عليه السلام أن يعزله عنا ويبعث مكانه من
يحب فليفعل، فإنا له كارهون، والسلام.
فكتب علي عليه السلام إليهما:
من عبد الله على (1) أمير المؤمنين إلى زياد بن النضر وشريح بن هانئ. سلام عليكما،
فإني أحمد إليكما الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد، فإني قد وليت مقدمتي زياد
ابن النضر، وأمرته عليها، وشريح بن هاني على طائفة منها أمير، فإن انتهى جمعكما إلى بأس،
فزياد بن النضر على الناس كلهم، وإن افترقتما فكل واحد منكما أمير الطائفة التي
وليناه أمرها. واعلما أن مقدمة القوم عيونهم، وعيون المقدمة طلائعهم، فإذا أنتما خرجتما
من بلادكما فلا تسأما من توجيه الطلائع، ومن نفض الشعاب (2) والشجر والخمر (3)
في كل جانب، كي لا يغتركما عدو، أو يكون لهم كمين. ولا تسيرن الكتائب والقبائل
من لدن الصباح إلى المساء إلا على تعبئة، فإن دهمكم عدو أو غشيكم مكروه، كنتم قد تقدمتم
في التعبئة، فإذا نزلتم بعدو أو نزل بكم فليكن معسكركم في قبل الاشراف أو سفاح (4)

(1) صفين: (بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله...).
(2) يقال: نفض المكان ينفضه، إذا نظر جميع ما فيه حتى يعلم منه، ومنه قول زهير:
وتنفض عنها غيب كل خميلة وتخشى رماة الغوث من كل مرصد
والشعاب: جمع شعبة، وهي ما انشعب وتفرع من الوادي.
(3) الخمر: ما وارى الانسان من شجر ونحوه.
(4) الاشراف: جمع شرف، وهي الأماكن العالية. وسفاح الجبال: أسافلها.
192

الجبال وأثناء الأنهار، كيما يكون ذلك لكم ردءا، وتكون مقاتلتكم من وجه واحد
أو اثنين، واجعلوا رقباءكما (1) في صياصي الجبال، وبأعالي الاشراف، ومناكب الأنهار
يرون لكم، كي لا (2) يأتيكم عدو من مكان مخافة أو أمن. وإياكم والتفرق، فإذا نزلتم فانزلوا
جميعا، وإذا رحلتم فارحلوا جميعا، فإذا غشيكم الليل فنزلتم فحفوا عسكركم بالرماح
والترسة (3)، ولتكن رماتكم من وراء ترسكم ورماحكم يلونهم. وما أقمتم فكذلك فافعلوا
كي لا تصاب لكم غفلة، ولا تلفى لكم غرة، فما قوم يحفون عسكرهم برماحهم
وترستهم من ليل أو نهار إلا كانوا كأنهم في حصون. واحرسا عسكركما بأنفسكما،
وإياكما أن تذوقا نوما حتى تصبحا إلا غرارا أو مضمضة (4). ثم ليكن ذلك شأنكما
ودأبكما حتى تنتهيا إلى عدوكما، وليكن كل يوم عندي خبركما ورسول من قبلكما.
فإني - ولا شئ إلا ما شاء الله - حثيث السير في أثركما. عليكما في جريكما (5) بالتؤدة،
وإياكما والعجلة، إلا أن تمكنكما فرصة بعد الاعذار والحجة، وإياكما أن تقاتلا حتى أقدم
عليكما، إلا أن تبدءا، أو يأتيكما أمري، إن شاء الله (6).
قال نصر: (7) وكتب علي عليه السلام إلى أمراء الأجناد - وكان قد قسم
عسكره أسباعا، فجعل على كل سبع أميرا، فجعل سعد بن مسعود الثقفي على
قيس وعبد القيس، ومعقل بن قيس اليربوعي على تميم وضبة والرباب وقريش

(1) صفين: (رقباءكم).
(2) كذا في ا، وفى ب، ج بحذف (كي).
(3) الترسة: جمع ترس، وهو صفحة من الفولاذ مستديرة، ويجمع على تراس أيضا.
(4) الغرار: القليل من النوم. وقوله: (مضمضة)، لما جعل للنوم ذوقا، أسرهم ألا ينالوا منه إلا
بألسنتهم ولا يسيغوه، فشبهه بالمضمضة بالماء وإلقائه من الفم من غير ابتلاع، كذا فسره صاحب اللسان
(9: 10)، وأورد كلام الامام.
(5) صفين: (حربكما).
(6) صفين 138 - 140.
(7) صفين 132، 140 - 141.
193

وكنانة وأسد، ومخفف بن سليم على الأزد وبجيلة وخثعم الأنصار وخزاعة، وحجر
ابن عدي الكندي على كندة وحضرموت وقضاعة، وزياد بن النضر على مذحج
والأشعريين، وسعيد بن مرة الهمداني على همدان ومن معهم من حمير، وعدي بن
حاتم الطائي على طيئ، تجمعهم الدعوة مع مذحج، وتختلف الرايتان: راية مذحج مع
زياد بن النضر، وراية طيئ مع عدى بن حاتم، هذه عساكر الكوفة. وأما عساكر
البصرة فخالد بن معمر السدوسي على بكر بن وائل، وعمرو بن مرجوم العبدي على عبد
القيس، وابن شيمان الأزدي (1) على الأزد، والأحنف على تميم وضبة والرباب، وشريك
ابن الأعور الحارثي على أهل العالية:
أما بعد، فإني أبرأ إليكم من معرة الجنود (2) [إلا من جوعة إلى شبعة، ومن فقر
إلى غنى، أو عمى إلى هدى، فإن ذلك عليهم] (3). فأغربوا (4) الناس عن الظلم
والعدوان، وخذوا على أيدي سفهائكم، واحترسوا أن تعملوا أعمالا لا يرضى الله بها عنا
فيرد بها علينا وعليكم دعاءنا، فإنه تعالى يقول: (ما يعبأ بكم ربى لولا دعاؤكم) (5).
وإن الله إذا مقت قوما من السماء هلكوا في الأرض، فلا تألوا أنفسكم خيرا، ولا الجند
حسن سيرة، ولا الرعية معونة ولا دين الله قوة، وأبلوا في سبيله ما استوجب عليكم،
فإن الله قد اصطنع عندنا وعندكم ما يجب علينا أن نشكره بجهدنا، وأن ننصره ما بلغت
قوتنا ولا قوة إلا بالله.

(1) في صفين: (صبرة بن شيمان).
(2) قوله: (أبرأ إليكم من معرة الجيش)، نسبه صاحب اللسان هذا القول إلى عمر بن الخطاب،
وقال: (وأما معرة الجيش التي تبرأ منها عمر رضي الله عنه، فهي وطأتهم من مروا به من مسلم أو
معاهد، وإصابتهم إياهم في حريمهم وأموالهم وزروعهم بما لم يؤذن لهم فيه)، وفى صفين: (معرة الجيش).
(3) تكملة من كتاب صفين.
(4) أغربوا الناس، أي نحوهم، وفى صفين) فاعزلوا الناس).
(5) سورة الفرقان 77
194

قال: وكتب عليه السلام إلى جنوده يخبرهم بالذي لهم وعليهم:
أما بعد، فإن الله جعلكم في الحق جميعا سواء، أسودكم وأحمركم، وجعلكم من
الوالي وجعل الوالي منكم بمنزلة الوالد من الولد، و [بمنزلة] (1) الولد من الوالد،
[الذي لا يكفيه منعه إياهم طلب عدوه والتهمة به، ما سمعتم وأطعتم وقضيتم الذي
عليكم] (1). فحقكم عليه إنصافكم والتعديل بينكم، والكف عن فيئكم، فإذا فعل
معكم ذلك، وجبت عليكم طاعته فيما وافق الحق، ونصرته والدفع عن سلطان الله،
فإنكم وزعه الله في الأرض، فكونوا له أعوانا، ولدينه أنصارا، ولا تفسدوا في الأرض
بعد إصلاحها، إن الله لا يحب المفسدين (2).
* * *
قال نصر: وحدثنا عمر بن سعد، قال: حدثنا سعد بن طريف، عن الأصبغ
ابن نباتة، قال: قال علي عليه السلام: ما يقول الناس في هذا القبر؟ - وفي النخيلة،
وبالنخيلة قبر عظيم يدفن اليهود موتاهم حوله - فقال الحسن بن علي عليهما السلام: يقولون
هذا قبر هود لما عصاه قومه، جاء فمات هاهنا، فقال: كذبوا، لأنا أعلم به منهم، هذا قبر
يهودا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، بكر يعقوب، ثم قال: أهاهنا أحد من مهرة (3)؟
فأتى بشيخ [كبير] (1)، فقال: أين منزلك؟ قال: على شاطئ البحر، قال: أين أنت
من الجبل (4)؟ قال: أنا قريب منه، قال: فما يقول قومك فيه؟ قال: يقولون: إن فيه قبر
ساحر، قال: كذبوا، ذاك قبر هود النبي عليه السلام، وهذا قبر يهودا بن يعقوب. ثم قال

(1) تكملة من كتاب صفين.
(2) صفين 141، 142.
(3) مهرة: حي من اليمن
(4) صفين: (أين من الجبل الأحمر).
195

عليه السلام: يحشر من ظهر الكوفة سبعون ألفا على غرة (1) الشمس، يدخلون الجنة
بغير حساب.
قال نصر: فلما نزل علي عليه السلام النخيلة متوجها إلى الشام، وبلغ معاوية خبره،
وهو يومئذ بدمشق، قد ألبس منبر دمشق قميص عثمان مختضبا بالدم، وحول المنبر
سبعون ألف (2) شيخ يبكون حوله، لا تجف دموعهم على عثمان، خطبهم، وقال:
يا أهل الشام، قد كنتم تكذبونني في علي، وقد استبان لكم أمره، والله ما قتل
خليفتكم غيره. وهو أمر بقتله، وألب الناس عليه، وآوى قتلته، وهم جنده وأنصاره
وأعوانه، وقد خرج بهم قاصدا بلادكم ودياركم لإبادتكم. يا أهل الشام، الله الله
في دم عثمان! فأنا وليه وأحق من طلب بدمه، وقد جعل الله لولي المقتول ظلما سلطانا،
فانصروا خليفتكم المظلوم، فقد صنع القوم به ما تعلمون، قتلوه ظلما وبغيا، وقد أمر
الله تعالى بقتال الفئة الباغية حتى تفئ إلى أمر الله.
ثم نزل.
قال نصر: فأعطوه الطاعة وانقادوا له، وجمع إليه أطرافه، واستعد للقاء علي عليه
السلام (3).

(1) غرة الشمس: مطلها.
(2) كذا في الأصول وفي كتاب صفين.
(3) كتاب صفين 142، 143
196

ومن كلام له عليه السلام في ذكر الكوفة:
الأصل
كأني بك يا كوفة تمدين مد الأديم العكاظي، تعركين بالنوازل،
وتركبين بالزلازل، وإني لأعلم أنه ما أراد بك جبار سوءا إلا ابتلاه الله بشاغل
أو رماه (1) بقاتل.
* * *
عكاظ: اسم سوق للعرب بناحية مكة، كانوا يجتمعون بها في كل سنة، يقيمون
شهرا ويتبايعون ويتناشدون شعرا ويتفاخرون، قال أبو ذؤيب:
إذا بنى القباب على عكاظ * وقام البيع واجتمع الألوف (2)
فلما جاء الاسلام هدم ذلك، وأكثر ما كان يباع الأديم بها، فنسب إليها.
والأديم واحد والجمع أدم، كما قالوا: أفيق للجلد الذي لم تتم دباغته، وجمعه أفق. وقد
يجمع أديم على آدمة، كما قالوا: رغيف وأرغفة.
والزلازل هاهنا: الأمور المزعجة، والخطوب المحركة.

(1) مخطوطة النهج: (ورماه).
(2) ديوان الهذليين 1: 98، وفي شرحه (على عكاظ، يريد بعكاظ، ويقال: فلان نازل على
فلان، وعلى ضرية، أي بها. قام البيع، يريد: قامت السوق).
197

وقوله عليه السلام: (تمدين مد الأديم)، استعارة لما ينالها من العسف والخبط.
وقوله تعركين)، من عركت القوم الحرب إذا مارستهم حتى أتعبتهم.
* * *
[فصل في ذكر فضل الكوفة]
وقد جاء في فضل الكوفة عن أهل البيت عليهم السلام شئ كثير، نحو قول
أمير المؤمنين عليه السلام: نعمت المدرة.
وقوله عليه السلام: إنه يحشر من ظهرها يوم القيامة سبعون ألفا، وجوههم على
صورة القمر. وقوله عليه السلام: هذه مدينتنا ومحلتنا، ومقر شيعتنا
وقول جعفر بن محمد عليه السلام: اللهم ارم من رماها، وعاد من عاداها.
وقوله عليه السلام: تربة تحبنا ونحبها.
فأما ما هم به الملوك وأرباب السلطان فيها من السوء، ودفاع الله تعالى عنها، فكثير.
قال المنصور لجعفر بن محمد عليهما السلام: إني قد هممت أن أبعث إلى الكوفة من ينقض منازلها، ويجمر (1) نخلها، ويستصفي أموالها، ويقتل أهل الريبة منها،
فأشر على. فقال: يا أمير المؤمنين، إن المرء ليقتدى بسلفه، ولك أسلاف ثلاثة:
سليمان أعطى فشكر، وأيوب ابتلى فصبر، ويوسف قدر فغفر، فاقتد بأيهم شئت. فصمت
قليلا، ثم قال: قد غفرت.

(1) جمر النخلة، أي قطع جمارها.
198

وروى أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي في كتاب،، المنتظم،، أن زيادا
لما حصبه أهل الكوفة، وهو يخطب على المنبر، قطع أيدي ثمانين منهم، وهم أن يخرب
دورهم، ويجمر نخلهم، فجمعهم حتى ملا بهم المسجد والرحبة، يعرضهم على البراءة
من علي عليه السلام، وعلم أنهم سيمتنعون، فيحتج بذلك على استئصالهم،
وإخراب بلدهم.
قال عبد الرحمن بن السائب الأنصاري: فإني لمع نفر من قومي، والناس يومئذ
في أمر عظيم، إذ هومت تهويمة (1)، فرأيت شيئا أقبل، طويل العنق، مثل عنق البعير
أهدر أهدل (2)، فقلت: ما أنت؟ فقال: أنا النقاد ذو الرقبة، بعثت إلى صاحب هذا
القصر، فاستيقظت فزعا، فقلت لأصحابي: هل رأيتم ما رأيت؟ قالوا: لا، فأخبرتهم،
وخرج علينا خارج من القصر، فقال: انصرفوا، فإن الأمير يقول لكم: إني عنكم اليوم
مشغول، وإذا بالطاعون قد ضربه، فكان يقول: إني لأجد في النصف من جسدي
حر النار حتى مات، فقال عبد الرحمن بن السائب:
ما كان منتهيا عما أراد بنا * حتى تناوله النقاد ذو الرقبة
فأثبت الشق منه ضربة عظمت * كما تناول ظلما صاحب الرحبة (2)
قلت: قد يظن ظان أن: (قوله صاحب الرحبة) يمكن أن يحتج به من قال: إن
قبر أمير المؤمنين عليه السلام في رحبة المسجد بالكوفة، ولا حجة في ذلك، لان أمير
المؤمنين كان يجلس معظم زمانه في رحبة المسجد، يحكم بين الناس، فجاز أن ينسب إليه
بهذا الاعتبار.

(1) التهويم: هن الرأس من النعاس.
(2) يقال: هدر البعير، صوت في غير شقشقة، والجمل الأهدل: المسترخي المشفر.
199

ومن خطبة له عليه السلام عند المسير إلى الشام:
الأصل:
الحمد لله كلما وقب ليل وغسق، والحمد لله كلما لاح نجم وخفق، والحمد لله غير
مفقود الانعام، ولا مكافئ الإفضال. أما بعد، فقد بعثت مقدمتي، وأمرتهم
بلزوم هذا الملطاط حتى يأتيهم أمري، وقد رأيت أن أقطع هذه النطفة إلى
شرذمة منكم، موطنين أكناف دجلة، فأنهضهم معكم إلى عدوكم، وأجعلهم
من أمداد القوة لكم.
* * *
قال الرضى رحمه الله:
يعنى عليه السلام بالملطاط هاهنا السمت الذي أمرهم بلزومه، وهو شاطئ الفرات،
ويقال ذلك أيضا لشاطئ البحر، وأصله ما استوى من الأرض، ويعني بالنطفة ماء
الفرات، وهو من غريب العبارات وعجيبها.
* * *
الشرح:
وقب الليل، أي دخل، قال الله تعالى: (ومن شر غاسق إذا وقب) (1).
وغسق، أي أظلم. وخفق النجم، أي غاب.

(1) سورة الفلق 3
200

ومقدمة الجيش، بكسر الدال: أوله، وما يتقدم منه على جمهور العسكر، ومقدمة
لانسان، بفتح الدال: صدره.
والملطاط: حافة الوادي وشفيره، وساحل البحر، قال رؤبة:
* نحن جمعنا الناس بالملطاط *
قال الأصمعي: يعنى به ساحل البحر، وقول ابن مسعود: هذا الملطاط طريق بقية
المؤمنين، هرابا من الدجال - يعنى به شاطئ الفرات.
فأما قول الرضى رحمه الله تعالى: (الملطاط: السمت الذي أمرهم بلزومه وهو شاطئ
الفرات، ويقال ذلك لشاطئ البحر)، فلا معنى له، لأنه لا فرق بين شاطئ الفرات
وشاطئ البحر، وكلاهما أمر واحد، وكان الواجب أن يقول: الملطاط: السمت في
الأرض، ويقال أيضا لشاطئ البحر.
والشرذمة: نفر قليلون.
وموطنين أكناف دجلة، أي قد جعلوا أكنافها وطنا، أوطنت البقعة.
والأكناف: الجوانب، واحدها كنف. والأمداد: جمع مدد، وهو ما يمد به
الجيش تقوية له.
وهذه الخطبة خطب بها أمير المؤمنين عليه السلام وهو بالنخيلة خارجا من الكوفة
ومتوجها إلى صفين لخمس بقين من شوال سنة سبع وثلاثين، ذكرها جماعة من أصحاب السير،
وزادوا فيها: (وقد أمرت على المصر عقبة بن عمرو الأنصاري، ولم الكم ولا نفسي (1)،
فإياكم والتخلف والتربص، فإني قد خلفت مالك بن حبيب اليربوعي، وأمرته ألا يترك
متخلفا إلا ألحقه بكم عاجلا، إن شاء الله) (2).

(1) يقال: ما يألو الشئ، أي ما يتركه.
(2) صفين 148
201

وروى نصر بن مزاحم عوض قوله: (فأنهضهم معكم إلى عدوكم) (فأنهضهم معكم
إلى عدو الله) (1). قال نصر: فقام إليه معقل بن قيس الرياحي، فقال: يا أمير المؤمنين، والله ما يتخلف
عنك إلا ظنين، ولا يتربص بك إلا منافق، فمر مالك بن حبيب فليضرب أعناق
المتخلفين. فقال: قد أمرته بأمري، وليس بمقصر إن شاء الله (2).
* * *
[أخبار على في جيشه وهو في طريقه إلى صفين]
قال نصر بن مزاحم: ثم سار عليه السلام حتى انتهى إلى مدينة بهرسير (3)، وإذا
رجل من أصحابه يقال له حر بن سهم بن طريف، من بنى ربيعة بن مالك، ينظر إلى آثار
كسرى، ويتمثل بقول الأسود بن يعفر:
جرت الرياح على محل ديارهم فكأنما كانوا على ميعاد (4)
فقال له عليه السلام: ألا قلت: (كم تركوا من جنات وعيون * وزروع ومقام
كريم * ونعمة كانوا فيها فاكهين * كذلك وأورثناها قوما آخرين * فما بكت
عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين) (5)، إن هؤلاء كانوا وارثين فأصبحوا
مورثين، ولم يشكروا النعمة، فسلبوا دنياهم بالمعصية. إياكم وكفر النعم، لا تحل بكم
النقم، أنزلوا بهذه الفجوة (6).

(1) صفين: (إلى أعداء الله).
(2) صفين 148
(3) بهر سير: بلد قرب المدائن.
(4) من قصيدة له في المفضليات 216 - 220
(5) سورة الدخان 25 - 29
(6) الفجوة: المكان المتسع في الأرض، وفي صفين 159 (النجوة)، وهو المكان المرتفع.
202

قال نصر: وحدثنا (1) عمر بن سعد، عن مسلم الأعور عن حبة العرني، قال:
أمر علي عليه السلام الحارث الأعور، فصاح في أهل المدائن: من كان من المقاتلة فليواف
أمير المؤمنين عليه السلام صلاة العصر. فوافوه في تلك الساعة، فحمد الله، وأثنى عليه،
ثم قال: أما بعد، فإني قد تعجبت من تخلفكم عن دعوتكم، وانقطاعكم عن أهل
مصركم في هذه المساكن الظالم أهلها، الهالك أكثر ساكنيها، لا معروف يأمرون به،
ولا منكر ينهون عنه.
قالوا: يا أمير المؤمنين، إنا ننتظر أمرك، مرنا بما أحببت. فسار وخلف عليهم
عدى بن حاتم، فأقام عليهم ثلاثا ثم خرج في ثمانمائة رجل منهم، وخلف ابنه زيدا
بعده، فلحقه في أربعمائة رجل منهم.
وجاء علي عليه السلام حتى مر بالأنبار، فاستقبله بنو خشنوشك (2)، دهاقينها.
- قال نصر: الكلمة فارسية، أصلها (خش) أي الطيب (3) -
قال: فلما استقبلوه، نزلوا عن خيولهم، ثم جاءوا يشتدون معه، وبين يديه ومعهم
براذين قد أوقفوها في طريقه، فقال: ما هذه الدواب التي معكم؟ وما أردتم بهذا الذي
صنعتم؟ قالوا: أما هذا الذي صنعنا فهو خلق منا نعظم به الامراء، وأما هذه البراذين
فهدية لك، وقد صنعنا للمسلمين طعاما، وهيأنا لدوابكم علفا كثيرا.
فقال عليه السلام: أما هذا الذي زعمتم أنه فيكم خلق تعظمون به الامراء
فوالله ما ينفع ذلك الامراء، وإنكم لتشقون به على أنفسكم وأبدانكم: فلا تعودوا

(1) صفين 160، 161
(2) في الأصول (خشوش)، وما أثبته من كتاب صفين.
(3) العبارة كما في كتاب صفين: (قال سليمان: خش: طيب. نوشك: راض، يعنى بنى الطيب
الراضي، بالفارسية).
203

له. وأما دوابكم هذه، فإن أحببتم أن آخذها منكم، وأحسبها لكم من خراجكم
أخذناها منكم. وأما طعامكم الذي صنعتم لنا، فإنا نكره أن نأكل من أموالكم
إلا بثمن. قالوا: يا أمير المؤمنين، نحن نقومه ثم نقبل ثمنه، قال: إذا لا تقومونه قيمته،
نحن نكتفي بما هو دونه. قالوا: يا أمير المؤمنين، فإن لنا من العرب موالي ومعارف،
أتمنعنا أن نهدي لهم أو تمنعهم أن يقبلوا منا؟ فقال: كل العرب لكم موال، وليس
ينبغي لأحد من المسلمين أن يقبل هديتكم، وإن غصبكم أحد فأعلمونا. قالوا:
يا أمير المؤمنين، إنا نحب أن تقبل هديتنا وكرامتنا. قال: ويحكم! فنحن أغنى منكم.
وتركهم وسار.
قال نصر: وحدثنا (1) عبد العزيز بن سياه، قال: حدثنا حبيب بن أبي ثابت، قال:
حدثنا [أبو] (2) سعيد التيمي المعروف بعقيصي، قال: كنا مع علي عليه السلام في مسيره
إلى الشام، حتى إذا كنا بظهر الكوفة من جانب هذا السواد، عطش الناس واحتاجوا
إلى الماء، فانطلق بنا علي عليه السلام حتى أتى [بنا] (2) إلى صخرة ضرس (3) في الأرض،
كأنها ربضة عنز (4)، فأمرنا فاقتلعناها، فخرج لنا من تحتها ماء، فشرب الناس منه، وارتووا.
ثم أمرنا فأكفأناها عليه. وسار الناس حتى إذا مضى قليلا، قال عليه السلام: أمنكم
أحد يعلم مكان هذا الماء الذي شربتم منه؟ قالوا: نعم يا أمير المؤمنين، قال: فانطلقوا
إليه، فانطلق منا رجال ركبانا ومشاة، فاقتصصنا الطريق إليه، حتى انتهينا إلى المكان
الذي نرى أنه فيه، فطلبناه، فلم نقدر على شئ، حتى إذا عيل علينا انطلقنا إلى دير قريب

(1) صفين 161، 162.
(2) من صفين والقاموس.
(3) الضرس: الأكمة الخشنة.
(4) الربضة، بضم الراء ويقال بكسرها، مقدار جثة العنز إذا ربضت، وفي الأثر: (جاء بثريد كأنه
ربضة أرنب) أي جثتها. راجع اللسان.
204

منا، فسألناهم: أين هذا الماء الذي عندكم؟ قالوا: ليس قربنا ماء، فقلنا: بلى إنا شر بنا
منه، قالوا: أنتم شربتم منه! قلنا: نعم، فقال صاحب الدير: والله ما بنى هذا الدير إلا
بذلك الماء، وما استخرجه إلا نبي أو وصى نبي.
قال نصر: ثم مضى عليه السلام، حتى نزل بأرض الجزيرة، فاستقبله بنو تغلب
والنمر بن قاسط بجزور (1)، فقال عليه السلام ليزيد بن قيس الأرحبي: يا يزيد،
قال: لبيك يا أمير المؤمنين! قال: هؤلاء قومك، من طعامهم فأطعم، ومن
شرابهم فاشرب.
قال: ثم سار حتى أتى الرقة - وجل أهلها عثمانية، فروا من الكوفة إلى معاوية -
فأغلقوا أبوابها دونه، وتحصنوا، وكان أميرهم سماك بن مخرقة الأسدي في طاعة معاوية،
وقد كان فارق عليا عليه السلام في نحو من مائة رجل من بنى أسد، ثم كاتب معاوية،
وأقام بالرقة حتى لحق به سبعمائة رجل.
قال نصر: فروى حبة أن عليا عليه السلام لما نزل على الرقة، نزل بموضع يقال
له البليخ على جانب الفرات، فنزل راهب هناك من صومعته، فقال لعلى عليه السلام:
إن عندنا كتابا توارثناه عن آبائنا، كتبه أصحاب عيسى بن مريم، أعرضه عليك؟
قال: نعم، فقرأ الراهب الكتاب:
بسم الله الرحمن الرحيم. الذي قضى فيما قضى، وسطر فيما كتب (2): أنه باعث
في الأميين رسولا منهم، يعلمهم الكتاب والحكمة، ويدلهم على سبيل الله، لا فظ
ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزى بالسيئة السيئة، بل يعفو ويصفح، أمته
الحمادون الذين يحمدون الله على كل نشر (3) و، في كل صعود وهبوط، تذل ألسنتهم

(1) الجزور: الناقة التي تنحر، وفى صفين: (بالجزيرة).
(2) صفين: (فيا سطر).
(3) النشز: المكان المرتفع، كالنشاز.
205

بالتكبير والتهليل، والتسبيح، وينصره الله على من ناوأه، فإذا توفاه الله، اختلفت
أمته من بعده، ثم اجتمعت، فلبثت ما شاء الله، ثم اختلفت، فيمر رجل من أمته
بشاطئ هذا الفرات، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويقضى بالحق ولا يركس (1)
الحكم، الدنيا أهون عليه من الرماد في يوم عصفت به الريح، والموت أهون عليه من
شرب الماء على الظمآن (2). يخاف الله في السر، وينصح له في العلانية، لا يخاف في
الله لومة لائم، فمن أدرك ذلك النبي من أهل هذه البلاد فآمن به كان ثوابه رضواني
والجنة، ومن أدرك ذلك العبد الصالح فلينصره، فإن القتل معه شهادة.
ثم قال له: أنا مصاحبك، فلا أفارقك حتى يصيبني ما أصابك. فبكى عليه
السلام، ثم قال: الحمد لله الذي لم أكن عنده منسيا، الحمد لله الذي ذكرني عنده في
كتب الأبرار.
فمضى الراهب معه، فكان فيما ذكروا يتغدى مع أمير المؤمنين ويتعشى، حتى
أصيب يوم صفين، فلما خرج الناس يدفنون قتلاهم قال عليه السلام: اطلبوه، فلما
وجدوه صلى عليه ودفنه. وقال: هذا منا أهل البيت، واستغفر له مرارا (3).
روى هذا الخبر نصر بن مزاحم في كتاب،، صفين،، عن عمر بن سعد، عن مسلم
الأعور، عن حبة العرني. ورواه أيضا إبراهيم بن ديزيل الهمداني، بهذا الاسناد عن
حبة أيضا في كتاب صفين.
* * *
وروى ابن ديزيل في هذا الكتاب، قال: حدثني يحيى بن سليمان. حدثني
يحيى بن عبد الملك بن حميد بن عتيبة، عن أبيه، عن إسماعيل بن رجاء، عن أبيه ومحمد

(1) الركس: رد الشئ مقلوبا، وفى صفين: (ولا يرتشي في الحكم).
(2) صفين: (الظلماء).
(3) كتاب صفين لنصر 164، 165.
206

بن فضيل، عن الأعمش، عن إسماعيل بن رجاء، عن أبي سعيد الخدري، رحمه الله
قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله، فانقطع شسع (1) نعله، فألقاها
إلى علي عليه السلام يصلحها، ثم قال: (إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن، كما قاتلت
على تنزيله)، فقال أبو بكر الصديق: أنا هو يا رسول الله؟ فقال: لا، فقال عمر بن الخطاب:
أنا هو يا رسول الله؟ قال: (لا، ولكنه ذاكم خاصف النعل) - ويد علي عليه السلام
على نعل النبي صلى الله عليه وآله يصلحها.
قال أبو سعيد: فأتيت عليا عليه السلام فبشرته بذلك فلم يحفل به، كأنه شئ قد كان
علمه من قبل.
* * *
وروى ابن ديزيل في هذا الكتاب أيضا، عن يحيى بن سليمان، عن ابن فضيل،
عن إبراهيم الهجري، عن أبي صادق، قال: قدم علينا أبو أيوب الأنصاري العراق،
فأهدت له الأزد جزرا (2)، فبعثوها معي، فدخلت إليه فسلمت عليه، وقلت له: يا أبا
أيوب، قد كرمك الله عز وجل بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ونزوله عليك، فما لي
أراك تستقبل الناس بسيفك، تقاتلهم هؤلاء مرة وهؤلاء مرة! قال: إن رسول الله صلى
الله عليه وآله عهد إلينا أن نقاتل مع علي الناكثين، فقد قاتلناهم، وعهد إلينا أن نقاتل معه
القاسطين، فهذا وجهنا إليهم - يعنى معاوية وأصحابه - وعهد إلينا أن نقاتل معه المارقين،
ولم أرهم بعد.
وروى ابن ديزيل أيضا في هذا الكتاب، عن يحيى، عن يعلى بن عبيد الحنفي، عن
إسماعيل السدى، عن زيد بن أرقم، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وهو

(1) الشسع: قبال النعل، وهو زمام بين الإصبع الوسطى والتي تليها.
(2) الجزر: جمع الجزور، وهو ما يذبح من الإبل.
207

في الحجرة يوحى إليه ونحن ننتظره حتى اشتد الحر، فجاء علي بن أبي طالب ومعه فاطمة
وحسن وحسين عليهما السلام، فقعدوا في ظل حائط ينتظرونه، فلما خرج رسول الله
صلى الله عليه وآله، رآهم فأتاهم ووقفنا نحن مكاننا، ثم جاء إلينا وهو يظلهم بثوبه،
ممسكا بطرف الثوب، وعلى ممسك بطرفه الاخر، وهو يقول: (اللهم إني أحبهم،
فأحبهم، اللهم إني سلم لمن سالمهم، وحرب لمن حاربهم) قال: فقال ذلك
ثلاث مرات.
قال إبراهيم في الكتاب المذكور: وحدثنا يحيى بن سليمان، قال: حدثنا ابن فضيل،
قال: حدثنا الحسن بن الحكم النخعي، عن رباح بن الحارث النخعي، قال: كنت
جالسا عند علي عليه السلام، إذ قدم عليه قوم متلثمون، فقالوا: السلام عليك يا مولانا،
فقال لهم: أو لستم قوما عربا! قالوا: بلى، ولكنا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله يقول
يوم غدير خم: (من كنت مولاه فعلى مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه،
وانصر من نصره، واخذل من خذله) قال: فلقد رأيت عليا عليه السلام ضحك حتى
بدت نواجذه، ثم قال: اشهدوا.
ثم إن القوم مضوا إلى رحالهم فتبعتهم، فقلت لرجل منهم: من القوم؟ قالوا: نحن
رهط من الأنصار، وذاك - يعنون رجلا منهم - أبو أيوب صاحب منزل رسول الله
صلى الله عليه وآله، قال: فأتيته فصافحته.
* * *
قال نصر: وحدثني عمر بن سعد، عن نمير بن وعلة، عن أبي الوداك أن (1) عليا
عليه السلام بعث من المدائن معقل بن قيس الرياحي، في ثلاث آلاف، وقال له: خذ على

(1) كتاب صفين 165 - 166
208

الموصل، ثم نصيبين، ثم القنى بالرقة، فإني موافيها. وسكن الناس وأمنهم، ولا تقاتل
إلا من قاتلك، وسر البردين (1) وغور بالناس (2). أقم الليل، ورفه في السير
ولا تسر أول الليل، فإن الله جعله سكنا، أرح فيه بدنك وجندك وظهرك، فإذا كان
السحر، أو حين يتبلج (3) الفجر، فسر.
فسار حتى أتى الحديثة - وهي إذ ذاك منزل الناس، وإنما بنى مدينة الموصل
بعد ذلك محمد بن مروان - فإذا بكبشين ينتطحان، ومع معقل بن قيس رجل من خثعم
يقال له شداد بن أبي ربيعة (4) - قتل بعد ذلك مع الحرورية - فأخذ يقول: إيه، إيه!
فقال معقل: ما تقول؟ فجاء رجلان نحو الكبشين، فأخذ كل واحد منهما كبشا
وانصرفا، فقال الخثعمي لمعقل: لا تغلبون ولا تغلبون، فقال معقل: من أين علمت؟
قال: أما أبصرت الكبشين، أحدهما مشرق والاخر مغرب، التقيا فاقتتلا وانتطحا،
فلم يزل كل واحد من مصاحبه منتصفا، حتى أتى كل واحد منهما صاحبه فانطلق به!
فقال معقل: أو يكون خيرا مما تقول يا أخا خثعم! ثم مضى حتى وافى عليا عليه
السلام بالرقة.
قال نصر: وقالت طائفة من أصحاب علي عليه السلام له: يا أمير المؤمنين، اكتب
إلى معاوية ومن قبله من قومك، فإن الحجة لا تزداد عليهم بذلك إلا عظما. فكتب
إليهم عليه السلام: [بسم الله الرحمن الرحيم] (5)، من عبد الله على أمير المؤمنين إلى
معاوية ومن قبله من قريش:

(1) البردان: الغداة والعشي.
(2) غور بالناس، أي انزل بهم في الغائرة، وهي القائلة، أو نصف النهار.
(3) صفين: (ينبطح)، وفي ب: (ينبلح).
(4) كذا في صفين، ا، ج، وفي ب: (شرار بن أبي ربيعة).
(5) من صفين.
209

سلام عليكم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإن لله عبادا آمنوا
بالتنزيل، وعرفوا التأويل، وفقهوا في الدين، وبين الله فضلهم في القرآن الحكيم،
وأنتم في ذلك الزمان أعداء للرسول، تكذبون (1) بالكتاب، مجمعون على حرب المسلمين،
من ثقفتم منهم حبستموه أو عذبتموه أو قتلتموه، حتى أراد الله تعالى إعزاز دينه، وإظهار
أمره، فدخلت العرب في الدين أفواجا، وأسلمت له هذه الأمة طوعا وكرها، فكنتم
فيمن دخل في هذا الدين، إما رغبة وإما رهبة، على حين فاز أهل السبق بسبقهم، وفاز
المهاجرون الأولون بفضلهم. ولا ينبغي لمن ليست له مثل سوابقهم في الدين، ولا فضائلهم
في الاسلام، أن ينازعهم الامر الذي هم أهله وأولى به، فيجور (2) ويظلم، ولا ينبغي
لمن كان له عقل أن يجهل قدره، ويعدو طوره، ويشقى نفسه بالتماس ما ليس بأهله، فإن
أولى الناس بأمر هذه الأمة قديما وحديثا أقربها من الرسول، وأعلمها بالكتاب، وأفقهها
في الدين، أولها إسلاما، وأفضلها جهادا، وأشدها بما تحمله الأئمة من أمر الأمة
اضطلاعا، فاتقوا الله الذي إليه ترجعون، ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق
وأنتم تعلمون.
واعلموا أن خيار عباد الله الذين يعملون بما يعلمون، وأن شرارهم الجهال الذين ينازعون
بالجهل أهل العلم، فإن للعالم بعلمه فضلا، وإن الجاهل لا يزداد بمنازعته العالم إلا جهلا.
ألا وإني أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه، وحقن دماء هذه الأمة، فإن قبلتم أصبتم
رشدكم، واهتديتم لحظكم، وإن أبيتم إلا الفرقة وشق عصا هذه الأمة، لم تزدادوا من الله
إلا بعدا، ولا يزداد الرب عليكم إلا سخطا والسلام.
فكتب إليه معاوية جواب هذا الكتاب، سطرا واحدا: وهو أما بعد فإنه

(1) ا: (مكذبون)
(2) ب وصفين: (يحوب).
210

ليس بيني وبين قيس عتاب غير طعن الكلى وضرب الرقاب
فقال علي عليه السلام لما أتاه هذا الجواب: (إنك لا تهدى من أحببت ولكن
الله يهدى من يشاء وهو أعلم بالمهتدين) (1).
قال نصر: وقال علي عليه السلام لأهل الرقة: جسروا لي جسرا أعبر عليه من هذا
المكان إلى الشام، فأبوا، وقد كانوا ضموا السفن إليهم، فنهض من عندهم ليعبر
على جسر منبج، وخلف عليهم الأشتر، فقال: يا أهل هذا الحصن، إني أقسم بالله
إن مضى أمير المؤمنين عليه السلام ولم تجسروا له عند مدينتكم حتى يعبر منها، لأجردن فيكم
السيف، فلا قتلن مقاتلكم، ولأخربن أرضكم، ولآخذن أموالكم.
فلقى بعضهم بعضا، فقالوا: إن الأشتر يفي بما حلف عليه، وإنما خلفه على عندنا
ليأتينا بشر، فبعثوا إليه: إنا ناصبون لكم جسرا، فأقبلوا. فأرسل الأشتر إلى علي عليه
السلام، فجاء، ونصبوا له الجسر، فعبر الأثقال والرجال، وأمر الأشتر فوقف في ثلاثة آلاف
فارس، حتى لم يبق من الناس أحد الا عبر، ثم عبر آخر الناس رجلا.
قال نصر: وازدحمت الخيل حين عبرت، فسقطت قلنسوة عبد الله بن أبي الحصين،
فنزل فأخذها، وركب، ثم سقطت قلنسوة عبد الله بن الحجاج، فنزل فأخذها، ثم ركب
فقال لصاحبه:
فإن يك ظن الزاجري الطير صادقا * كما زعموا، أقتل وشيكا وتقتل
فقال عبد الله بن أبي الحصين: ما شئ أحب إلى مما ذكرت، فقتلا معا
يوم صفين (2).

(1) سورة القصص 56.
(2) صفين 169.
211

قال نصر: فلما (1) قطع علي عليه السلام الفرات، دعا زياد بن النضر وشريح بن هانئ
فسرحهما أمامه نحو معاوية، على حالهما الذي كانا عليه حين خرجا من الكوفة، في
اثنى عشر ألفا، وقد كانا حيث سرحهما من الكوفة مقدمة له أخذا على شاطئ الفرات
من قبل البر، مما يلي الكوفة حتى بلغا عانات (2)، فبلغهم أخذ علي عليه السلام
طريق الجزيرة، وعلما أن معاوية قد أقبل في جنود الشام من دمشق لاستقباله، فقالا:
والله ما هذا برأي، أن نسير وبيننا وبين أمير المؤمنين هذا البحر، وما لنا خير في أن نلقى
جموع الشام في قلة من العدد، منقطعين عن المدد. فذهبوا ليعبروا من عانات، فمنعهم
أهلها، وحبسوا عنهم السفن، فأقبلوا راجعين حتى عبروا من هيت، ولحقوا عليا عليه
السلام بقرية دون قرقيسيا، فلما لحقوا عليا عليه السلام عجب، وقال: مقدمتي تأتى من
ورائي! فقام له زياد وشريح، وأخبراه بالرأي الذي رأيا. فقال: قد أصبتما رشدكما. فلما
عبروا الفرات قدمهما أمامه نحو معاوية، فلما انتهيا إلى معاوية، لقيهما أبو الأعور
السلمي في جنود من أهل الشام، وهو على مقدمة معاوية، فدعواه إلى الدخول في طاعة
أمير المؤمنين عليه السلام فأبى، فبعثوا إلى علي عليه السلام: إنا قد لقينا أبا الأعور السلمي
بسور الروم في جند من أهل الشام، فدعوناه وأصحابه إلى الدخول في طاعتك، فأبى علينا،
فمرنا بأمرك.
فأرسل علي عليه السلام إلى الأشتر، فقال: يا مال، إن زيادا وشريحا أرسلا إلى
يعلمانني أنهما لقيا أبا الأعور السلمي في جند من أهل الشام بسور الروم، ونبأني الرسول
أنه تركهم متواقفين، فالنجاء النجاء إلى أصحابك، فإذا أتيتهم فأنت عليهم، وإياك أن
تبدأ القوم بقتال إن لم يبدأوك، والقهم واسمع منهم، ولا يجرمنك شنآنهم على قتالهم قبل

(1) صفين 170 وما بعدها.
(2) عانات: قرية من قرى الفرات.
212

دعائهم والاعذار إليهم مرة بعد مرة، واجعل على ميمنتك زيادا، وعلى ميسرتك
شريحا، وقف من أصحابك وسطا، ولا تدن منهم دنو من يريد أن ينشب الحرب،
ولا تتباعد عنهم تباعد من يهاب الناس، حتى أقدم عليك، فإني حثيث السير إليك
إن شاء الله.
قال: وكتب علي عليه السلام إليهما - وكان الرسول الحارث بن جمهان الجعفي -:
أما بعد فإني قد أمرت عليكما مالكا، فاسمعا له وأطيعا أمره، وهو ممن لا يخاف
رهقه ولا سقاطه (1)، ولا بطؤه عما الاسراع إليه أحزم، ولا إسراعه إلى ما البطء عنه أمثل،
وقد أمرته بمثل الذي أمرتكما، ألا يبدأ القوم بقتال حتى يلقاهم ويدعوهم، ويعذر إليهم إن شاء الله.
قال: فخرج الأشتر حتى قدم على القوم، فاتبع ما أمره به علي عليه السلام، وكف عن
القتال، فلم يزالوا متواقفين (2)، حتى إذا كان عند المساء، حمل عليهم أبو الأعور فثبتوا له
واضطربوا ساعة. ثم إن أهل الشام انصرفوا، ثم خرج هاشم بن عتبة في خيل ورجال
حسن عدتها وعددها، فخرج إليهم أبو الأعور السلمي، فاقتتلوا يومهم ذلك، تحمل الخيل
على الخيل، والرجال على الرجال، وصبر بعضهم لبعض، ثم انصرفوا. وبكر عليهم
الأشتر، فقتل من أهل الشام عبد الله بن المنذر التنوخي، قتله ظبيان بن عمارة التميمي، وما هو
يومئذ إلا فتى حديث السن. وإن كان الشامي لفارس أهل الشام، وأخذ الأشتر يقول:
ويحكم أروني أبا الأعور!
ثم إن أبا الأعور دعا الناس، فرجعوا نحوه فوقف على تل من وراء المكان الذي
كان فيه أول مرة، وجاء الأشتر حتى صف أصحابه في المكان الذي كان فيه أبو الأعور
أول مرة، فقال الأشتر لسنان بن مالك النخعي. انطلق إلى أبو الأعور، فادعه إلى المبارزة،

(1) الرهق: الطيش والنزق. والسقاط: الخطأ.
(2) متواقفين: وقف بعضهم أمام بعض في الحرب
213

فقال: إلى مبارزتي أم إلى مبارزتك؟ فقال: أولو أمرتك بمبارزته فعلت؟ قال: نعم،
والذي لا إله إلا هو، لو أمرتني أن أعترض صفهم بسيفي لفعلت حتى أضربه بالسيف.
فقال: يا بن أخي، أطال الله بقاءك! قد والله ازددت. فيك رغبة، لا ما أمرتك بمبارزته،
إنما أمرتك أن تدعوه لمبارزتي، فإنه لا يبارز - إن كان ذلك من شأنه - إلا ذوي الأسنان
والكفاءة والشرف، وأنت بحمد الله من أهل الكفاءة والشرف، ولكنك حديث
السن، وليس يبارز الاحداث، فاذهب فادعه إلى مبارزتي.
فأتاهم فقال: أنا رسول فأمنوني، فجاء حتى انتهى إلى أبى الأعور.
قال نصر: فحدثني (1) عمر بن سعد، عن أبي زهير العبسي، عن صالح بن سنان، عن
أبيه، قال: فقلت له: إن الأشتر يدعوك إلى المبارزة، قال: فسكت عنى طويلا، ثم قال:
إن خفة الأشتر وسوء رأيه وهوانه: دعاه إلى إجلاء عمال عثمان، وافترائه عليه، يقبح
محاسنه، ويجهل حقه، ويظهر عداوته. ومن خفة الأشتر وسوء رأيه أنه سار إلى عثمان
في داره وقراره، فقتله فيمن قتله، وأصبح متبعا (2) بدمه، لا حاجة لي في مبارزته.
فقلت: إنك قد تكلمت فاسمع حتى أجيبك، فقال: لا حاجة لي في جوابك
ولا الاستماع منك، اذهب عنى، وصاح بي أصحابه فانصرفت عنه، ولو سمع لأسمعته عذر
صاحبي وحجته.
فرجعت إلى الأشتر، فأخبرته أنه قد أبى المبارزة، فقال: لنفسه نظر.
قال: فتواقفنا، فإذا هم قد انصرفوا. قال: وصبحنا علي عليه السلام غدوة سائرا نحو
معاوية، فإذا أبو الأعور قد سبق إلى سهولة الأرض وسعة المنزل، وشريعة الماء، مكان

(1) كتاب صفين 173
(2) صفين: (مبتعى).
214

أفيح، وكان أبو الأعور على مقدمة معاوية، واسمه سفيان بن عمرو وقد جعل على ساقته
بسر بن أرطاة العامري، وعلى الخيل عبيد الله بن عمر بن الخطاب، ودفع اللواء إلى
عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وجعل على ميمنته حبيب بن مسلمة الفهري، وعلى رجالته
من الميمنة يزيد بن زحر الضبي، وعلى الميسرة عبد الله بن عمرو بن العاص، وعلى الرجالة من
الميسرة حابس بن سعيد الطائي، وعلى خيل دمشق الضحاك بن قيس الفهري، وعلى رجالة
أهل دمشق يزيد بن أسد بن كرز البجلي، وعلى أهل حمص ذا الكلاع، وعلى أهل
فلسطين مسلمة بن مخلد، وكان وصول علي عليه السلام إلى صفين لثمان بقين من المحرم من
سنة سبع وثلاثين
215

ومن خطبه له عليه السلام:
الأصل:
الحمد لله الذي بطن خفيات الأمور، ودلت عليه أعلام الظهور، وامتنع على
عين البصير، فلا عين من لم يره تنكره، ولا قلب من أثبته يبصره.
سبق في العلو فلا شئ أعلى منه، وقرب في الدنو فلا شئ أقرب منه، فلا
استعلاؤه باعده عن شئ من خلقه، ولا قربه ساواهم في المكان به.
لم يطلع العقول على تحديد صفته، ولم يحجبها عن واجب معرفته، فهو الذي
تشهد له أعلام الوجود، على إقرار قلب ذي الجحود، تعالى الله عما يقوله المشبهون
به والجاحدون له علوا كبيرا!
* * *
الشرح:
بطنت سر فلان، أي أخفيته.
والاعلام: جمع علم، وهو المنار يهتدى به، ثم جعل لكل ما دل على شئ، فقيل
لمعجزات الأنبياء أعلام، لدلالتها على نبوتهم. وقوله عليه السلام: (أعلام الظهور)، أي
الأدلة الظاهرة الواضحة.
وقوله فيما بعد: (أعلام الوجود) أي الأدلة الموجودة، والدلالة هي الوجود نفسه،
وسيأتي شرح ذلك.
وقوله: (وامتنع على عين البصير)، يقول: إنه سبحانه ليس بمرئى بالعين، ومع
216

ذلك فلا يمكن من لم يره بعينه أن ينكره، لدلالة كل شئ عليه، بل لدلالته سبحانه
على نفسه.
ثم قال: (ولا قلب من أثبته يبصره)، أي لا سبيل لمن أثبت وجوده أن يحيط
علما بجميع أحواله ومعلوماته ومصنوعاته، أو أراد أنه لا تعلم حقيقة ذاته، كما قاله قوم
من المحققين.
وقد روى هذا الكلام على وجه آخر، قالوا (1) في الخطبة: (فلا قلب من لم يره
ينكره، ولا عين من أثبته تبصره)، وهذا غير محتاج إلى تفسير لوضوحه.
وقوله عليه السلام: (فلا استعلاؤه باعده)، أي ليس علوة ولا قربه كما نعقله من العلو
والقرب المكانيين، بل هو علو وقرب خارج من ذلك، فليس علوه يقتضى بعده بالمكان
عن الأجسام، ولا قربه يقتضى مساواته إياها في الحاجة إلى المكان والجهة.
والباء في (به) متعلقة ب‍ (ساواهم)، معناه: ولا قربه ساواهم به في الحاجة إلى المكان،
أي لم يقتض قربه مماثلته ومساواته إياهم في ذلك.
* * *
[فصول في العلم الإلهي]
وهذا الفصل يشتمل على عدة مباحث من العلم الإلهي:
أولها: كونه تعالى عالما بالأمور الخفية.
والثاني: كونه تعالى مدلولا عليه بالأمور الظاهرة، يعنى أفعاله.
والثالث: أن هويته تعالى غير معلومة للبشر.
والرابع: نفى تشبيهه بشئ من مخلوقاته.

(1) كذا في جميع الأصول
217

والخامس: بيان أن الجاحد لاثباته مكابر بلسانه، وعارف به بقلبه.
ونحن نذكر القول في جميع ذلك على سبيل اقتصاص المذاهب والأقوال، ونحيل
في البرهان على الحق من ذلك وبطلان شبه المخالفين فيه، على ما هو مذكور في كتبنا
الكلامية، إذ ليس هذا الكتاب موضوعا لذلك، وإن كنا قد لا نخلي بعض فصوله
من إشارة إلى الدليل موجزة، وتلويح إلى الشبهة لطيف، فنقول: أما
* * *
الفصل الأول
وهو الكلم في كونه تعالى عالما بالأمور الخفية
فاعلم أن أمير المؤمنين إنما قال: بطن خفيات الأمور) وهذا القدر
من الكلام يقتضى كونه تعالى عالما، يعلم الأمور الخفية الباطنة، وهذا منقسم قسمين:
أحدهما: أن يعلم الأمور الخفية الحاضرة.
والثاني: أن يعلم الأمور الخفية المستقبلة.
والكلام من حيث إطلاقه يحتمل الامرين، فنحمله عليهما معا. فقد خالف في كل
واحدة من المسألتين قوم، فمن الناس من نفى كونه عالما بالمستقبلات، ومن الناس من نفى
كونه عالما بالأمور الحاضرة، سواء كانت خفية أو ظاهرة، وهذا يقتضينا (1) أن نشرح أقوال
العقلاء في هذه المسائل، فنقول: إن الناس فيها على أقوال:
القول الأول: قول جمهور المتكلمين، وهو أن البارئ سبحانه يعلم كل معلوم:
الماضي والحاضر والمستقبل، ظاهرها وباطنها، ومحسوسها وغير محسوسها، فهو تعالى
العالم بما كان وما هو حاضر، وما سيكون وما لم يكن، أن لو كان كيف كان يكون، كقوله

(1) ب: (يقتضى)
218

تعالى: (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) (1)، فهذا علم بأمر مقدر على تقدير وقوع أصله
الذي قد علم أنه لا يكون.
القول الثاني: قول من زعم أنه تعالى لا يعلم الأمور المستقبلة، وشبهوه بكونه
مدركا، قالوا: كما أنه لا يدرك المستقبلات، فكذلك لا يعلم المستقبلات. وهو قول هشام
بن الحكم (2).
القول الثالث: قول من زعم أنه لا يعلم الأمور الحاضرة، وهذا القول نقيض القول
الثاني، وشبهوه بكونه قادرا، قالوا: كما أنه لا يقدر على الموجود، فكذلك لا يعلم
الموجود، ونسب ابن الراوندي هذا القول إلى معمر بن عباد (3)، أحد شيوخنا، وأصحابنا
يكذبونه في ذلك، ويدفعون الحكاية عنه.
القول الرابع: قول من زعم أنه تعالى لا يعلم نفسه خاصة، ويعلم كل ما عدا ذاته،
ونسب ابن الراوندي هذه المقالة إلى معمر أيضا، وقال: إنه يقول: إن العالم غير المعلوم
والشئ لا يكون غير نفسه، وأصحابنا يكذبون ابن الراوندي في هذه الحكاية، وينزهون
معمرا عنها.
القول الخامس: قول من قال إنه تعالى لم يكن فيما لم يزل عالما بشئ أصلا، وإنما
أحدث لنفسه علما علم به الأشياء، وهو قول جهم بن صفوان (4).
القول السادس: قول من قال إنه تعالى لا يعلم كل المعلومات على تفاصيلها، وإنما
يعلم ذلك إجمالا وهؤلاء يسمون المسترسلية، لأنهم يقولون: يسترسل علمه على المعلومات

(1) سورة الأنعام 28
(2) هو هشام بن الحكم، من متكلمي الشيعة، وصاحب المقالة في التشبيه، وإليه تنسب الهشامية،
إحدى الفرق الغالية، ذكره الشهرستاني وبسط آراءه في الملل والنحل 1: 164 - 166
(3) معمر بن عباد السلمي القدري، والنظر آراءه في الملل والنحل للشهرستاني 1: 65 - 67
(4) جهم بن صفوان، وإليه تنسب الفرقة الجهمية، من الجبرية، ظهرت بدعته بترمذ، وقتله سالم بن
أخوز المازني بمرو، في آخر ملك بنى أمية، الشهرستاني 1: 79 - 81.
219

إجمالا لا تفصيلا، وهو مذهب الجويني (1) من متكلمي الأشعرية.
القول السابع: قول من قال إنه تعالى يعلم المعلومات المفصلة ما لم يفض القول به إلى
محال، وزعموا أن القول بأنه يعلم كل شئ يفضي إلى محال، وهو أن يعلم ويعلم أنه يعلم،
وهلم جرا إلى ما لا نهاية له، وكذلك المحال لازم إذا قيل إنه يعلم الفروع، وفروع الفروع
ولوازمها ولوازم لوازمها إلى ما لا نهاية له. قالوا: ومحال اجتماع كل هذه العلوم غير
المتناهية في الوجود، وهذا مذهب أبي البركات البغدادي صاحب المعتبر (2).
القول الثامن: قول من زعم أنه تعالى لا يعلم الشخصيات الجزئية، وإنما يعلم
الكليات التي لا يجوز عليها التغيير، كالعلم بأن كل إنسان حيوان، ويعلم نفسه أيضا،
وهذا مذهب أرسطو وناصري قوله من الفلاسفة كابن سينا وغيره.
القول التاسع: قول من زعم أنه تعالى لا يعلم شيئا أصلا، لا كليا ولا جزئيا، وإنما
وجد العالم عنه لخصوصية ذاته فقط من غير أن يعلمه، كما أن المغناطيس يجذب الحديد لقوة
فيه من غير أن يعلم بالجذب، وهذا قول قوم من قدماء الفلاسفة.
فهذا تفصيل المذاهب في هذه المسألة.
واعلم أن حجه المتكلمين على كونه عالما بكل شئ، إنما تتضح بعد إثبات حدوث
العالم، وأنه فعله بالاختيار، فحينئذ لا بد من كونه عالما، لأنه لو لم يكن عالما بشئ أصلا لما
صح أن يحدث العالم على طريق الاختيار، لان الاحداث على طريق الاختيار، إنما يكون
بالغرض والداعي، وذلك يقتضى كونه عالما، فإذا ثبت أنه عالم بشئ أفسدوا حينئذ أن
يكون عالما بمعنى اقتضى له العالمية، أو بأمر خارج عن ذاته، مختارا كان أو غير مختار،

(1) هو الإمام أبو المعالي عبد الملك بن يوسف الجويني، إمام الحرمين، المتوفى سنة 478.
(ابن خلكان).
(2) كتاب المعتبر في الحكمة، طبع في حيدر آباد، لأبي البركات علي بن ملكا البغدادي، توفى سنة 560
والنظر أخبار العلماء للقفطي 343.
220

فحينئذ ثبت (1) لهم أنه إنما علم لأنه هذه الذات المخصوصة لا لشئ، أزيد منها، فإذا كان لهم
ذلك وجب أن يكون عالما بكل معلوم، لان الامر الذي أوجب كونه عالما بأمر ما، هو
ذاته يوجب كونه عالما بغيره من الأمور، لان نسبة ذاته إلى الكل نسبة واحدة.
فأما الجواب عن شبه المخالفين فمذكور في المواضع المختصة بذلك، فليطلب من
كتبنا الكلامية.
* * *
الفصل الثاني
في تفسير قوله عليه السلام: (ودلت عليه أعلام الظهور)
فنقول: إن الذي يستدل به على إثبات الصانع يمكن أن يكون من وجهين، وكلاهما
يصدق عليه أنه أعلام الظهور، أحدهما الوجود والثاني الموجود.
أما الاستدلال عليه بالوجود نفسه فهي طريقة المدققين من الفلاسفة، فإنهم استدلوا
على أن مسمى الوجود مشترك، وأنه زائد على ماهيات الممكنات، وأن وجود البارئ
لا يصح أن يكون زائدا على ماهيته، فتكون ماهيته وجودا، ولا يجوز أن تكون
ماهيته عارية عن الوجود، فلم يبق إلا أن تكون ماهيته هي الوجود نفسه، وأثبتوا
وجوب ذلك الوجود، واستحالة تطرق العدم إليه بوجه ما، فلم يفتقروا في إثبات البارئ
إلى تأمل أمر غير نفس الوجود.
وأما الاستدلال عليه بالموجود لا بالوجود نفسه، فهو الاستدلال عليه بأفعاله، وهي
طريقة المتكلمين. قالوا: كل ما لم يعلم بالبديهة ولا بالحس، فإنما يعلم بآثاره الصادرة
عنه، والبارئ تعالى كذلك، فالطريق إليه ليس إلا أفعاله، فاستدلوا عليه بالعالم، وقالوا
تارة: العالم محدث وكل محدث له محدث وقالوا تارة أخرى: العالم ممكن، فله مؤثر.

(1) ج: (يثبت).
221

وقال ابن سينا: إن الطريقة الأولى وهي الاستدلال عليه بالوجود نفسه أعلى
وأشرف، لأنه لم يحتج فيها إلى الاحتجاج بأمر خارج عن ذاته، واستنبط آية من
الكتاب العزيز في هذا المعنى، وهي قوله تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي
أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) (1).
قال ابن سينا: أقول: إن هذا حكم لقوم - يعنى المتكلمين وغيرهم، ممن يستدل
عليه تعالى بأفعاله، وتمام الآية: (أو لم يكف بربك أنه على كل شئ
شهيد) (1).
قال: هذا حكم الصديقين الذين يستشهدون به لا عليه، يعنى الذين استدلوا عليه
بنفس الوجود، ولم يفتقروا إلى التعلق بأفعاله في إثبات ربوبيته.
* * *
الفصل الثالث
في أن هويته تعالى غير هوية البشر
وذلك معنى قوله عليه السلام: (وامتنع على عين البصير)، وقوله: (ولا قلب
من أثبته يبصره)، وقوله: (ولم يطلع العقول على تحديد صفته)، فنقول: إن جمهور
المتكلمين زعموا أنا نعرف حقيقة ذات الاله، ولم يتحاشوا من القول بأنه تعالى لا يعلم من
ذاته إلا ما نعلمه نحن منها.
وذهب ضرار (2) بن عمرو: أن لله تعالى ماهية لا يعلمها إلا هو، وهذا هو مذهب

(1) سورة فصلت 53
(2) هو ضرار بن عمرو، صاحب مذهب الضرارية من فرق الجبرية، كان في بدء أمره تلميذ الواصل
ابن عطاء المعتزلي، ثم خالفه في خلق الأعمال وإنكار عذاب القبر. الفرق بين الفرق 201
222

الفلاسفة. وقد حكى عن أبي حنيفة وأصحابه أيضا، وهو الظاهر من كلام أمير المؤمنين
عليه السلام في هذا الفصل.
* * *
الفصل الرابع
في نفى التشبيه عنه تعالى
وهو معنى قوله عليه السلام: (بعد وقرب)، أي في حال واحدة، وذلك يقتضى
نفى كونه تعالى جسما؟ وكذلك قوله عليه السلام: (فلا استعلاؤه باعده، ولا قربه
ساواهم في المكان به) فنقول: إن مذهب جمهور المتكلمين نفى التشبيه، وهذا القول
يتنوع أنواعا:
النوع الأول: نفى كونه تعالى جسما مركبا، أو جوهرا فردا غير مركب، والمراد
بالجوهر هاهنا الجرم والحجم. وهو قول المعتزلة، وأكثر محققي المتكلمين من سائر الفرق،
وإليه ذهبت الفلاسفة أيضا.
وقال قوم من مستضعفي المتكلمين خلاف ذلك، فذهب هشام بن الحكم إلى أنه
تعالى جسم مركب كهذه الأجسام، واختلفت الحكاية عنه، فروى عنه أنه قال: إنه
يشبر نفسه سبعة أشبار. وروى عنه أنه قال: إنه على هيئة السبيكة. وروى عنه أنه قال:
إنه على هيئة البلورة الصافية المستوية الاستدارة من حيث أتيتها رأيتها على هيئة واحدة،
وروى عنه أيضا قال: إنه ذو صورة. وأصحابه من الشيعة يدفعون اليوم هذه الحكايات
عنه، ويزعمون أنه لم يزد على قوله: إه جسم لا كالأجسام، وإنه إنما أراد بإطلاق هذا
اللفظ عليه إثباته.
223

وصدقوا عنه أنه كان يطلق عليه كونه نورا، لقول الله سبحانه: (الله نور السماوات
والأرض مثل نوره) (1).
وحكى عن محمد بن النعمان الأحول، المعروف بشيطان الطاق، وهشام بن سالم المعروف
بالجواليقي، وأبى مالك بن الحضرمي، أنه نور على صورة الانسان، وأنكروا مع ذلك
أن يكون جسما، وهذه مناقضة ظاهرة.
وحكى عن علي بن ميثم مثله. وقد حكى عنه أنه كان يقول بالصورة والجسم.
وحكى عن مقاتل بن سليمان، وداود الجواربي، ونعيم بن حماد المصري، أنه في
صورة الانسان، وأنه لحم ودم، وله جوارح وأعضاء من يد ورجل ولسان ورأس وعينين،
وهو مع ذلك لا يشبه غيره، ولا يشبهه غيره، وافقهم على ذلك جماعة من العامة ومن
لا نظر له.
وحكى عن داود الجواربي أنه قال: اعفوني من الفرج واللحية وسلوني عما وراء
ذلك. وحكى عنه أنه قال: هو أجوف من فيه إلى صدره، وما سوى ذلك مصمت.
وحكى أبو عيسى الوراق أن هشام بن سالم الجواليقي كان يقول: إن له وفرة سوداء.
وذهب جماعة من هؤلاء إلى القول بالمؤانسة والخلوة والمجالسة والمحادثة.
وسئل بعضهم عن معنى قوله تعالى: (في مقعد صدق عند مليك مقتدر) (2)،
فقال: يقعد معه على سريره ويغلفه بيده.
وقال بعضهم: سألت معاذا العنبري، فقلت: أله وجه؟ فقال: نعم، حتى عددت

(1) سورة النور 35
(2) سورة القمر 55
224

جميع الأعضاء من أنف وفم وصدر وبطن، واستحييت أن أذكر الفرج، فأومأت بيدي
إلى فرجى، فقال: نعم، فقلت أذكر أم أنثى؟ فقال: ذكر.
ويقال: إن ابن خزيمة أشكل عليه القول في أنه: أذكر أم أنثى، فقال له بعض
أصحابه: إن هذا مذكور في القرآن، وهو قوله تعالى: (وليس الذكر كالأنثى) (1)،
فقال: أفدت وأجدت، وأودعه كتابه.
ودخل إنسان على معاذ بن معاذ يوم عيد، وبين يديه لحم في طبيخ سكباج، فسأله
عن البارئ تعالى في جملة ما سأله، فقال: هو والله مثل هذا الذي بين يدي، لحم دم.
وشهد بعض المعتزلة عند معاذ بن معاذ، فقال له: لقد هممت أن أسقطك، لولا أنى
سمعتك تلعن حماد بن سلمة، فقال: أما حماد فلم ألعنه، ولكني ألعن من يقول: إنه سبحانه
ينزل ليلة عرفة من السماء إلى الأرض على جمل أحمر في هودج من ذهب، فإن كان حماد
يروى هذا أو يقوله فعليه لعنة الله. فقال: أخرجوه، فأخرج.
وقال بعضهم: خرجنا يوم عيد إلى المصلى، فإذا جماعة بين يدي أمير (2)، والطبول
تضرب والاعلام تخفق فقال واحد من خلفنا: اللهم لا طبل إلا طبلك! فقل له: لا تقل
هكذا، فليس لله تعالى طبل، فبكى، وقال: أرأيتم هو يجئ وحده ولا يضرب بين يديه
طبل، ولا ينصب على رأسه علم، فإذن هو دون الأمير!
وروى بعضهم أنه تعالى أجرى خيلا، فخلق نفسه من مثلها.
وروى قوم منهم أنه نظر في المرآة فرأى صورة نفسه، فخلق آدم عليها.
ورووا أنه يضحك حتى تبدو نواجذه.

(1) سورة آل عمران 36
(2) ب (أمير المؤمنين)، والأجود ما أثبته عن ا، ج.
(15 - مهج - 3)
225

ورووا أنه أمرد جعد قطط (1)، في رجليه نعلان من ذهب، وأنه في روضة خضراء
على كرسي تحمله الملائكة.
ورووا أنه يضع رجلا على رجل، ويستلقي فإنها جلسة الرب.
ورووا أنه خلق الملائكة من زغب ذراعيه، وأنه اشتكى عينه فعادته
الملائكة، وأنه يتصور بصورة آدم، ويحاسب الناس في القيامة، وله حجاب من
الملائكة يحجبونه.
ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رأيت ربى في أحسن صورة، فسألته
عما يختلف فيه الملاء الأعلى، فوضع يده بين كتفي، فوجدت بردها، فعلمت
ما اختلفوا فيه).
ورووا أنه ينزل إلى السماء الدنيا في نصف شعبان، وأنه جالس على العرش قد فضل
منه أربع أصابع من كل جانب. وأنه يأتي الناس يوم القيامة، فيقول: أنا ربكم،
فيقولون: نعوذ بالله منك، فيقول لهم: أفتعرفونه إن رأيتموه؟ فيقولون: بيننا وبينه علامة،
فيكشف لهم عن ساقه، وقد تحول في الصورة التي يعرفونها، فيخرون له سجدا.
ورووا أنه يأتي في غمام، فوقه هواء، وتحته هواء.
وكان بطبرستان قاص من المشبهة، يقص على الناس، فقال يوما في قصصه: إن يوم
القيامة تجئ فاطمة بنت محمد، معها قميص الحسين ابنها تلتمس القصاص من يزيد
بن معاوية، فإذا رآها الله تعالى من بعيد، دعا يزيد وهو بين يديه، فقال له: ادخل تحت
قوائم العرش، لا تظفر بك فاطمة، فيدخل (2) ويختبئ، وتحضر فاطمة، فتتظلم وتبكي،
فيقول سبحانه: انظري يا فاطمة إلى قدمي، ويخرجها إليها، وبه جرح من سهم نمرود،

(1) قطط: قصير.
(2) ب: (فيدخل يزيد)، وما أثبته عن ا، ج
226

فيقول: هذا جرح نمرود في قدمي، وقد عفوت عنه، أفلا تعفين أنت عن يزيد! فتقول.
هي: اشهد يا رب أنى قد عفوت عنه.
وذهب بعض متكلمي المجسمة إلى أن البارئ تعالى مركب من أعضاء على
حروف المعجم.
وقال بعضهم: إنه ينزل على حمار في صورة غلام أمرد، في رجليه نعلان من ذهب،
وعلى وجهه فراش من ذهب يتطاير.
وقال بعضهم: إنه في صورة غلام أمرد صبيح الوجه، عليه كساء أسود، ملتحف به.
وسمعت أنا في عصري هذا من قال في قوله تعالى: (وترى الملائكة حافين من
حول العرش) (1): إنهم قيام على رأسه بسيوفهم وأسلحتهم، فقال له آخر على سبيل
التهكم به: يحرسونه من المعتزلة أن يفتكوا به! فغضب وقال: هذا إلحاد.
ورووا أن النار تزفر وتتغيظ تغيظا شديدا، فلا تسكن حتى يضع قدمه فيها، فتقول:
قط قط، أي حسبي حسبي. ويرفعون هذا الخبر مسندا. وقد ذكر شبيه به في الصحاح.
وروى في الكتب الصحاح أيضا: (أن الله خلق آدم على صورته)، وقيل: إن في
التوراة نحو ذلك في السفر الأول.
واعلم أن أهل التوحيد يتأولون ما يحتمل التأويل من هذه الروايات على وجوه محتملة
غير مستبعدة، وما لا يحتمل التأويل منها يقطعون ببطلانه، وبأنه موضوع، وللاستقصاء
في هذا المعنى موضع غير هذا الموضع.
وحكى أبو إسحاق النظام ومحمد بن عيسى برغوث أن قوما قالوا: إنه تعالى الفضاء
نفسه، وليس بجسم، لان الجسم يحتاج إلى مكان ونفسه مكان الأشياء.

(1) سورة الزمر 75
227

وقال برغوث: وطائفة منهم يقولون: هو الفضاء نفسه، وهو جسم تحل الأشياء
فيه، وليس بذي غاية ولا نهاية، واحتجوا بقوله تعالى: (وجاهدوا في الله حق
جهاده) (1).
فأما من قال: إنه جسم لا كالأجسام، على معنى أنه بخلاف العرض الذي يستحيل
أن يتوهم منه فعل، ونفوا عنه معنى الجسمية، وإنما أطلقوا هذه اللفظة لمعنى أنه شئ
لا كالأشياء، وذات لا كالذوات، فأمرهم سهل، لان خلافهم في العبارة، وهم: على
ابن منصور، والسكاك، ويونس بن عبد الرحمن، والفضل بن شاذان، وكل هؤلاء من
قدماء رجال الشيعة. وقد قال بهذا القول ابن كرام وأصحابه، قالوا: معنى قولنا فيه
سبحانه إنه جسم، أنه قائم بذاته لا بغيره.
والمتعصبون لهشام بن الحكم من الشيعة في وقتنا هذا يزعمون أنه لم يقل بالتجسيم
المعنوي، وإنما قال إنه جسم لا كالأجسام، بالمعنى الذي ذكرناه عن يونس والسكاك
وغيرهما، وإن كان الحسن بن موسى النوبختي - وهو من فضلاء الشيعة - قد روى عنه
التجسيم المحض في كتاب،، الآراء والديانات،،.
* * *
النوع الثاني: نفى الأعضاء والجوارح عنه سبحانه، فالذي يذهب إليه المعتزلة وسائر
المحققين من المتكلمين نفى ذلك عنه، وقد تأولوا ما ورد في القرآن العزيز من ذلك،
من نحو قوله تعالى: (لما خلقت بيدي) (2)، وقوله سبحانه: (على ما فرطت في جنب
الله) (3) وغير ذلك، وحملوه على وجوه صحيحة جائزة في اللغة العربية.
وأطلقت الكرامية عليه سبحانه لفظ (اليدين والوجه)، وقالوا: لا نتجاوز الاطلاق،

(1) سورة الحج 78
(2) سورة ص 75.
(3) سورة الزمر 46
228

ولا نفسر ذلك ولا نتأوله، وإنما نقتصر على إطلاق ما ورد به النص.
وأثبت الأشعري اليدين صفة قائمة بالبارئ سبحانه، وكذلك الوجه من غير تجسيم.
وقالت المجسمة: إن لله تعالى يدين، هما عضوان له، وكذلك الوجه والعين، وأثبتوا
له رجلين قد فضلتا عن عرشه، وساقين يكشف عنهما يوم القيامة، وقدما يضعها في جهنم
فتمتلئ، وأثبتوا له ذلك معنى لا لفظا، وحقيقة لا مجازا.
فأما أحمد بن حنبل فلم يثبت عنه تشبيه ولا تجسيم أصلا، وإنما كان يقول بترك
التأويل فقط، ويطلق ما أطلقه الكتاب والسنة، ولا يخوض في تأويله، ويقف على
قوله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله) (1)، وأكثر المحصلين من أصحابه على
هذا القول.
* * *
النوع الثالث: نفى الجهة عنه سبحانه، فالذي يذهب إليه المعتزلة وجمهور المحققين
من المتكلمين أنه سبحانه ليس في جهة ولا مكان، وأن ذلك من توابع الجسمية أو العرضية
اللاحقة بالجسمية، فإذا انتفى عنه كونه جسما وكونه عرضا لم يكن في جهة أصلا، وإلى هذا
القول يذهب الفلاسفة.
وذهبت الكرامية والحشوية (2) إلى أن الله تعالى في جهة فوق، وإليه ذهب هشام
ابن الحكم، وعلي بن منصور، ويونس بن عبد الرحمن، وهشام بن سالم الجواليقي،
وكثير من أهل الحديث.
وذهب محمد بن الهيصم، متكلم الكرامية إلى أنه تعالى ذات موجودة منفردة
بنفسها عن سائر الموجودات، لا تحل شيئا حلول الاعراض، ولا تمازج شيئا ممازجة الأجسام

(1) سورة آل عمران 7
(2) الكرامية: أصحاب محمد بن كرام، والحشوية طائفة من المشبهة، سموا بذلك لأنهم لا يتحاشون من
إظهار الحشو. راجع شفاء العليل 105
229

بل هو مباين للمخلوقين، إلا أنه في جهة فوق، وبينه وبين العرش بعد لا يتناهى.
هكذا يحكى المتكلمون عنه، ولم أره في شئ من تصانيفه وأحالوا ذلك، لان ما لا يتناهى
لا يكون محصورا بين حاصرين، وأنا أستبعد عنه هذه الحكاية، لأنه كان أذكى من
أن يذهب عليه فساد هذا القول وحقيقة مذهب مثبتي المكان أنه سبحانه متمكن على
العرش، كما يتمكن الملك على سريره، فقيل لبعض هؤلاء: أهو أكبر من العرش،
أم أصغر، أم مساو له؟ فقال: بل أكبر من العرش، فقيل له: فكيف يحمله؟ فقال:
كما تحمل رجلا الكركي جسم الكركي وجسمه أكبر من رجليه. ومنهم من يجعله
مساويا للعرش في المقدار، ولا يمتنع كثير منهم من إطلاق القول بأن أطرافه تفضل
عن العرش، وقد سمعت أنا من قال منهم: إنه مستو على عرشه كما أنا مستو على
هذه الدكة (1) ورجلاه على الكرسي الذي وسع السماوات والأرض، والكرسي تحت
العرش، كما يجعل اليوم الناس تحت أسرتهم كراسي يستريحون بوضع أرجلهم عليها.
وقال هؤلاء كلهم: إنه تعالى ينزل ويصعد حقيقة لا مجازا، وإنه يتحرك وينزل، فمن
ذلك نزوله إلى السماء الدنيا، كما ورد في الخبر، ومن ذلك إتيانه و مجيئه، كما نطق به
الكتاب العزيز في قوله سبحانه: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من
الغمام) (2)، وقوله: (وجاء ربك والملك صفا صفا) (3).
وأطلق ابن الهيصم عليه هذه الألفاظ اتباعا لما ورد في الكتاب والسنة، وقال: لا أقول
بمعانيها، ولا أعتقد حركته الحقيقية، وإنما أرسلها إرسالا كما وردت. وأما غيره فاعتقد
معانيها حقيقة.
وقال ابن الهيصم في كتاب،، المقالات،،: إن أكثر الحشوية يجيز عليه تعالى
العدو والهرولة.

(1) الدكة: بناء يسطح أعلاه للجلوس عليه.
(2) سورة البقرة 210 (3) سورة الفجر 22
230

وقال قوم منهم: إنه تعالى يجوز أن ينزل فيطوف البلدان، ويدور في السكك.
وقال بعض الأشعريين: إن سائلا سأل السكاك فقال: إذا أجزت عليه
الحركة، فهلا أجزت عليه أن يطفر! فقال: لا يجوز عليه الطفر، لان الطفر إنما يكون
فرارا من ضد، أو اتصالا بشكل. فقال له: فالحركة أيضا كذلك! فلم يأت بفرق.
فأما القول بأنه تعالى في كل مكان، فإن المعتزلة يقولون ذلك، وتريد (1) به أنه
وإن لم يكن في مكان أصلا، فإنه عالم بما في كل مكان، ومدبر لما في كل مكان،
وكأنه موجود في جميع الأمكنة لإحاطته بالجميع.
وقال قوم من قدماء الفلاسفة: إن البارئ تعالى روح شديد في غاية اللطافة، وفي غاية
القوة، ينفذ في كل العالم. وهؤلاء يطلقون عليه أنه في كل مكان حقيقة لا تأويلا، ومن
هؤلاء من أوضح هذا القول، وقال: إنه تعالى سار في هذا العالم سريان نفس الواحد منا
في بدنه، فكما أن كل بدن منا له نفس سارية فيه تدبره، كذلك البارئ سبحانه هو
نفس العالم، وسار في كل جزء من العالم، فهو إذا في كل مكان بهذا الاعتبار، لان
النفس في كل جزء من البدن.
وحكى الحسن بن موسى النوبختي عن أهل الرواق من الفلاسفة، أن الجوهر الإلهي
سبحانه روح ناري عقلي، ليس له صورة، لكنه قادر على أن يتصور بأي صورة شاء،
ويتشبه بالكل، وينفذ في الكل بذاته وقوته، لا بعلمه وتدبيره.
* * *
النوع الرابع: نفى كونه عرضا حالا في المحل، فالذي تذهب إليه المعتزلة وأكثر
المسلمين والفلاسفة نفى ذلك القول باستحالته عليه سبحانه لوجوب وجوده، وكون كل
حال في الأجسام ممكنا بل حادثا.

(1) ب: (فإن المعتزلة يقولون ذلك ويريدون..))
231

وذهبت الحلولية من أهل الملة وغيرها، إلى أنه تعالى يحل في بعض الأجسام دون بعض
كما يشاء سبحانه، وإلى هذا القول ذهب أكثر الغلاة في أمير المؤمنين. ومنهم من قال
بانتقاله من أمير المؤمنين عليه السلام إلى أولاده، ومنهم من قال بانتقاله من أولاده إلى
قوم من شيعته وأوليائه، واتبعهم على هذه المقالة قوم من المتصوفة كالحلاجية
والبسطامية وغيرهم.
وذهبت النسطورية (1) من النصارى إلى حلول الكلمة في بدن عيسى عليه السلام،
كحلول السواد في الجسم.
فأما اليعقوبية (2) من النصارى، فلا تثبت الحلول، وإنما تثبت الاتحاد بين الجوهر
الإلهي والجوهر الجسماني، وهو أشد بعدا من الحلول.
* * *
النوع الخامس: في نفى كونه تعالى محلا لشئ، ذهبت المعتزلة وأكثر أهل الملة
والفلاسفة إلى نفى ذلك، والقول باستحالته على ذاته سبحانه.
وذهبت الكرامية إلى أن الحوادث تحل في ذاته، فإذا أحدث جسما أحدث معنى
حالا في ذاته، وهو الاحداث، فحدث ذلك الجسم مقارنا لذلك المعنى أو عقيبه، قالوا: وذلك
المعنى هو قول (كن) وهو المسمى خلقا، والخلق غير المخلوق، قال الله تعالى: (ما أشهدتهم
خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم) (3)، قالوا: لكنه قد أشهدنا ذواتها، فدل على
أن خلقها غيرها.

(1) النسطورية: أصحاب نسطور الحكيم، ظهر في زمن المأمون، وتصرف في الأناجيل برأيه وانظر
الملل والنحل للشهرستاني 1: 205 - 206
(2) اليعقوبية أصحاب يعقوب، قالوا بالأقانيم الثلاثة، إلا أنهم قالوا: انقلبت الكلمة لحما ودما، فصار
الاله هو المسيح.... الشهرستاني 1: 206 - 208
(3) سورة الكهف 51
232

وصرح ابن الهيصم في كتاب،، المقالات،، بقيام الحوادث بذات البارئ فقال: إنه
تعالى إذا أمر أو نهى، أو أراد شيئا كان أمره ونهيه وإراداته كائنة بعد أن لم تكن، وهي
قائمة به، لان قوله منه يسمع، وكذلك إرادته منه توجد.
قال: وليس قيام الحوادث بذاته دليلا على حدوثه، وإنما يدل على الحدوث تعاقب
الأضداد التي لا يصح أن يتعطل منها، والباري تعالى لا تتعاقب عليه الأضداد.
وذهب أبو البركات البغدادي صاحب،، المعتبر،، إلى أن الحوادث تقوم بذات
البارئ سبحانه، وأنه لا يصح إثبات الإلهية إلا بذلك. وقال: إن المتكلمين ينزهونه
عن ذلك، والتنزيه عن هذا التنزيه، هو الواجب.
وذهب أصحابنا وأكثر المتكلمين إلى أن ذلك لا يصح في حق واجب الوجود،
و أنه دليل على إمكان ذاته، بل على حدوثها. وأجازوا مع ذلك عليه أن يتجدد له صفات
- يعنون الأحوال لا المعاني -، نحو كونه مدركا بعد أن لم يكن. وكقول أبى الحسين:
إنه يتجدد له عالمية بما وجد، وكان من قبل عالما بأنه سيوجد، وإحدى هاتين الصفتين
غير الأخرى.
وقالوا: إن الصفات والأحوال قيل (1) مفرد عن المعاني، والمحال إنما هو حلول المعاني
في ذاته لا تجدد الصفات لذاته، وللكلام في هذا الباب موضع هو أليق به.
* * *
النوع السادس: في نفى اتحاده تعالى بغيره، ذهب أكثر العقلاء إلى استحالة ذلك،
وذهبت اليعقوبية من النصارى إلى أن الكلمة اتحدت بعيسى، فصارت جوهرا من
جوهرين: أحدهما إلهي، والاخر جسماني. وقد أجاز الاتحاد في نفس الامر لا في ذات

(1) قيل، أي قول.
233

البارئ قوم من قدماء الفلاسفة، منهم فرفريوس وأجازه أيضا منهم من ذهب إلى
أن النفس إنما تعقل المعقولات، لاتحادها بالجوهر المفارق المفيض للنفوس على الأبدان،
وهو المسمى بالعقل الفعال.
* * *
النوع السابع: في نفى الاعراض الجسمانية عنه من التعب والاستراحة، والألم واللذة،
الغم والسرور، ونحو ذلك.
وذهبت المعتزلة و أكثر العقلاء من أهل الملة وغيرهم إلى نفى ذلك، والقول باستحالته
عليه سبحانه.
وذهبت الفلاسفة إلى جواز اللذة عليه، وقالوا: إنه يلتذ بإدراك ذاته وكماله، لان
إدراك الكمال هو اللذة أو سبب اللذة، وهو تعالى أكمل الموجودات، وإدراكه أكمل
الادراكات، وإلى هذا القول ذهب محمد الغزالي (1) من الأشعرية.
وحكى ابن الراوندي عن الجاحظ أن أحد قدماء المعتزلة - ويعرف بأبي شعيب - كان
يجوز عليه تعالى السرور والغم، والغيرة والأسف، ويذكر في ذلك ما روى عن النبي صلى
الله عليه وآله أنه قال: (لا أحد أغير من الله، وأنه تعالى يفرح بتوبة عبده ويسر بها).
وقال تعالى: (فلما آسفونا انتقمنا منهم) (2)، وقال مقال المتحسر (3) على الشئ:
(يا حسرة على العباد) (4)، وحكى عنه أيضا أنه يجوز عليه أن يتعب ويستريح،
ويحتج بقوله: (وما مسنا من لغوب) (5).

(1) هو الإمام محمد بن محمد أبو حامد الغزالي صاحب الاحياء.
(2) سورة الزخرف 55
(3) كذا في ا، ج، وفي ب، ا (حكاية عن التحسر).
(4) سورة يس 30
(5) سورة ق 38
234

وهذه الألفاظ كلها عند أصحابنا متأولة محمولة على محامل صحيحة، تشتمل على شرحها
الكتب المبسوطة.
* * *
النوع الثامن: في أنه تعالى ليس بمتلون. لم يصرح أحد من العقلاء قاطبة بأن الله تعالى
متلون، وإنما ذهب قوم من أهل التشبيه التجسيم إلى أنه نور، فإذا أبصرته العيون
وأدركته أبصرت شخصا نورانيا مضيئا، لم يزيدوا على ذلك، ولم يصرحوا بإثبات اللون
بهذه العبارة، وإن كان كل مضئ ملونا.
* * *
النوع التاسع: في أنه تعالى لا يشتهى ولا ينفر، ذهب شيوخنا المتكلمون إلى أنه سبحانه
لا يصح عليه الشهوة والنفرة، لأنهما إنما يصحان على ما يقبل الزيادة والنقصان بطريق
الاغتذاء والنمو، والبارئ سبحانه وتعالى يتعالى عن ذلك، وما عرفت لأحد من الناس
خلافا في ذلك، اللهم إلا أن يطلق هاتان اللفظتان على مسمى الإرادة والكراهية، على
سبيل المجاز.
* * *
النوع العاشر: في أن البارئ تعالى غير متناهي الذات قالت المعتزلة: لما كان البارئ
تعالى ليس بجسم وجسماني، وكانت النهاية من لواحق الأشياء ذوات المقادير، يقال:
هذا الجسم متناه، أي ذو طرف.
قلنا: إن ذات البارئ تعالى غير متناهية، لا على معنى أن امتداد ذاته غير متناه، فإنه
سبحانه ليس بذي امتداد، بل بمعنى أن الموضوع الذي يصدق عليه النهاية ليس بمتحقق
في حقه سبحانه، فقلنا: إن ذاته غير متناهية، كما يقول المهندس: إن النقطة غير متناهية،
لا على معنى أن لها امتدادا غير متناه، فإنها ليست بممتدة أصلا، بل على معنى أن الامر
235

الذي تصدق عليه النهاية - وهو الامتداد - لا يصدق عليها، فإذن صدق عليها أنها غير
متناهية. وهذا قول الفلاسفة وأكثر المحققين.
وقالت الكرامية: البارئ تعالى ذات واحدة منفردة عن العالم قائمة بنفسها، مباينة
للموجودات، متناهية في ذاتها، وإن كنا لا نطلق عليها هذا اللفظ لما فيه من إيهام
انقطاع وجودها، وتصرم بقائها.
وأطلق هشام بن الحكم وأصحابه عليه تعالى القول بأنه متناهي الذات، غير
متناهي القدرة.
وقال الجاحظ: إن لي قوما زعموا أنه تعالى ذاهب في الجهات الست، التي لا نهاية لها.
* * *
النوع الحادي عشر: في أنه تعالى لا تصح رؤيته. قالت المعتزلة: رؤية البارئ
تعالى مستحيلة في الدنيا والآخرة، وإنما يصح أن يرى المقابل ذو الجهة.
وقالت الكرامية والحنابلة والأشعرية: تصح رؤيته ويرى في الآخرة، يراه
المؤمنون، ثم اختلفوا، فقالت الكرامية والحنابلة: يرى في جهة فوق، وحكى عن
مضر وكهمس وأحمد الجبي (1) أنهم أجازوا رؤيته في الدنيا، وملامسته ومصافحته،
وزعموا أن المخلصين يعانقونه متى شاءوا، ويسمون الحبية.
وحكى شيخنا أبو الحسين في،، التصفح،، عن أيوب السجستاني من المرجئة، أن
البارئ تعالى تصح رؤيته ولمسه.
وذهب قوم إلى أنهم لا يزالون يرون الله تعالى، وأن الناس كلهم كافرهم ومؤمنهم
يرونه، ولكن لا يعرفونه.

(1) كذا في ا، وفى الحاشية نقلا عن القاموس: أحمد بن عبد الله الجبى، ويقال: الجبابي، لبيعه
الجباب، محدث، وفى ب: (انجمي)
236

وقال من ترفع عن هذه الطبقة منهم: لا يجوز أن يرى بعين خلقت للفناء، وإنما
يرى الآخرة بعين خلقت للبقاء.
وقال كثير من هؤلاء: إن محمدا صلى الله عليه وآله رأى ربه بعيني رأسه ليلة المعراج.
ورووا عن كعب الأحبار أن الله تعالى قسم كلامه ورؤيته بين موسى ومحمد
عليه السلام.
ورووا عن المبارك بن فضالة أن الحسن كان يحلف بالله: قد رأى محمد ربه.
وتعلق كثير منهم بقوله تعالى: (ولقد رآه نزلة أخرى (1))، وقالوا: كلمه موسى
عليه السلام مرتين، ورآه محمد صلى الله عليه وآله مرتين.
وأنكر ابن الهيصم مع اعتقاده أقوال الكرامية ذلك، وقال: إن محمدا صلى الله
عليه وآله لم يره، ولكنه سوف يراه في الآخرة.
قال: وإلى هذا القول ذهبت عائشة وأبو ذر وقتادة، وقد روى مثله عن ابن
عباس وابن مسعود.
واختلف من قال: إنه يرى في الآخرة، هل يجوز أن يراه الكافر؟ فقال أكثرهم:
إن الكفار لا يرونه، لان رؤيته كرامة، والكافر لا كرامة له. وقالت السالمية وبعض
الحشوية: إن الكفار يرونه يوم القيامة، وهو قول محمد بن إسحاق بن خزيمة، ذكر
ذلك عنه محمد بن الهيصم.
فأما الأشعري وأصحابه، فإنهم لم يقولوا كما قال هؤلاء: إنه يرى كما يرى الواحد منا،
بل قالوا: يرى، وليس فوقا ولا تحتا ولا يمينا ولا شمالا ولا أماما ولا وراء، ولا يرى
كله ولا بعضه، ولا هو في مقابلة الرائي ولا منحرفا عنه، ولا تصح الإشارة إليه إذا رئي،

(1) سورة النجم 13
237

وهو (1) مع ذلك يرى ويبصر. وأجازوا أيضا عليه أن تسمع ذاته، وأن تشم وتذاق وتحس،
لا على طريق الاتصال، بل تتعلق هذه الادراكات كلها بذاته تعلقا عاريا عن الاتصال.
وأنكرت الكرامية ذلك ولم يجيزوا عليه إلا إدراك البصر وحده، وناقضهم شيخنا
أبو الحسين في،، التصفح،، وألزمهم أحد أمرين، إما نفى الجميع أو إثبات إدراكه من جميع
الجهات، كما يقوله الأشعرية.
وذهب ضرار بن عمرو، إلى أن الله تعالى يرى يوم القيامة بحاسة سادسة لا بهذا البصر.
وقيل ذلك عن جماعة غيره.
وقال قوم: يجوز أن يحول الله تعالى قوة القلب إلى العين، فيعلم الله تعالى بها،
فيكون ذلك الادراك علما باعتبار أنه بقوة القلب، ورؤية باعتبار أنه قد وقع بالمعنى الحال
في العين.
فهذه الأنواع الأحد عشر هي الأقوال والمذاهب التي يشتمل قوله عليه السلام بنفي
التشبيه عليها، وسيأتي من كلامه عليه السلام في نفى التشبيه ما هو أشد تصريحا من الألفاظ
التي نحن في شرحها.
الفصل الخامس
في بيان أن الجاحد له مكابر بلسانه ومثبت له بقلبه
وهو معنى قوله عليه السلام: (فهو الذي تشهد له أعلام الوجود، على إقرار قلب
ذي الجحود).
لا شبهة في أن العلم بافتقار المتغير إلى المغير ضروري، والعلم بأن المتغير ليس هو المغير

(1) ب: (ومع ذلك).
238

إما أن يكون ضروريا أو قريبا من الضروري، فإذا قد شهدت أعلام الوجود على أن
الجاحد لاثبات الصانع، إنما هو جاحد بلسانه لا بقلبه، لان العقلاء لا يجحدون الأوليات
بقلوبهم، وإن كابروا بألسنتهم، ولم يذهب أحد من العقلاء إلى نفى الصانع سبحانه.
وأما القائلون بأن العالم وجد عن طبيعة، وأن الطبيعة هي المدبرة له، والقائلون بتصادم
الاجزاء في الخلاء الذي لا نهاية له، حتى حصل منها هذا العالم. والقائلون بأن أصل العالم
وأساس بنيته هو النور والظلمة، والقائلون بأن مبادئ العالم هي الاعداد المجردة، والقائلون
بالهيولى القديمة، التي منها حدث العالم، والقائلون بعشق النفس للهيولي، حتى تكونت
منها هذه الأجسام، فكل هؤلاء أثبتوا الصانع، وإنما اختلفوا في ماهيته وكيفية فعله.
وقال قاضى القضاة: إن أحدا من العقلاء لم يذهب إلى نفى الصانع للعالم بالكلية، ولكن
قوما من الوراقين اجتمعوا ووضعوا بينهم مقالة، لم يذهب أحد إليها، وهي أن العالم قديم
لم يزل على هيئته هذه، ولا إله للعالم ولا صانع أصلا، وإنما هو هكذا ما زال، ولا يزال من
غير صانع ولا مؤثر.
قال: وأخذ ابن الراوندي هذه المقالة فنصرها في كتابه المعروف بكتاب،، التاج،،
قال: فأما الفلاسفة القدماء والمتأخرون، فلم ينفوا الصانع، وإنما نفوا كونه فاعلا بالاختيار،
وتلك مسألة أخرى. قال: والقول بنفي الصانع قريب من القول بالسفسطة، بل هو هو
بعينه، لان من شك في المحسوس أعذر ممن قال: إن المتحركات تتحرك من غير
محرك حركها.
وقول قاضى القضاة هذا، هو محض كلام أمير المؤمنين عليه السلام وعينه، وليس
قول الجاحظ هو هذا، لان الجاحظ يذهب إلى أن جميع المعارف والعلوم الإلهية ضرورية،
ونحن ما ادعينا في هذا المقام إلا أن العلم بإثبات الصانع فقط هو الضروري، فأين أحد
القولين من الاخر!
239

(50) ومن خطبة له عليه السلام:
الأصل:
إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع، وأحكام تبتدع، يخالف فيها كتاب الله،
ويتولى عليها رجال رجالا، على غير دين الله، فلو أن الباطل خلص من مزاج الحق
لم يخف على المرتادين، ولو أن الحق خلص من لبس الباطل، انقطعت عنه ألسن
المعاندين، ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث، فيمزجان، فهنالك يستولي
الشيطان على أوليائه، وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى.
الشرح:
المرتاد: الطالب. والضغث من الحشيش: القبضة منه، قال الله تعالى: (وخذ
بيدك ضغثا) (1).
يقول عليه السلام: إن المذاهب الباطلة والآراء الفاسدة التي يفتتن الناس بها، أصلها
اتباع الأهواء، وابتداع (2) الاحكام التي لم تعرف يخالف فيها الكتاب، وتحمل العصبية والهوى
على تولى أقوام قالوا بها، على غير وثيقة من الدين. ومستند وقوع هذه الشبهات امتزاج
الحق بالباطل في النظر الذي هو الطريق إلى استعلام المجهولات، فلو أن النظر تخلص
مقدماته وترتب قضاياه من قضايا باطلة، لكان الواقع عنه هو العلم المحض، وانقطع عنه
ألسن المخالفين، وكذلك لو كان النظر تخلص مقدماته من قضايا صحيحة، بأن كان كله مبنيا

(1) سورة ص 44
(2) كذا في ج، وفى ا، ب: (اتباع).
240

على الفساد، لظهر فساده لطلبة الحق، وإنما يقع الاشتباه لامتزاج قضاياه الصادقة
بالقضايا الكاذبة.
مثال ذلك احتجاج من أجاز الرؤية بأن البارئ تعالى ذات موجودة، وكل موجود
يصح أن يرى، فإحدى المقدمتين حق، والأخرى باطل، فالتبس أمر النتيجة على كثير
من الناس.
ومثال ما يكون المقدمتان جميعا باطلتين، قول قوم من الباطنية: البارئ لا موجود
ولا معدوم، وكل ما لا يكون موجودا ولا معدوما يصح أن يكون حيا قادرا، فالبارئ
تعالى يصح أن يكون حيا قادرا، فهاتان المقدمتان جميعا باطلتان. لا جرم أن هذه المقالة
مرغوب عنها عند العقلاء!
ومثال ما تكون مقدماته حقا كلها: العالم متغير، وكل متغير ممكن، فالعالم ممكن،
فهذا مما لا خلاف فيه بين العقلاء.
فإن قيل: فما معنى قوله عليه السلام: (فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه، وينجو
الذين سبقت لهم من الله الحسنى)، أليس هذا إشعارا بقول المجبرة وتلويحا به؟
قيل: لا إشعار في ذلك بالجبر، ومراده عليه السلام أنه إذا امتزج في النظر الحق
بالباطل، وتركبت المقدمات من قضايا صحيحة وفاسدة، تمكن الشيطان من الإضلال والإغواء،
ووسوس إلى المكلف، وخيل له النتيجة الباطلة، وأماله إليها، وزينها عنده، بخلاف ما إذا
كانت المقدمات حقا كلها، فإنه لا يقدر الشيطان على أن يخيل له ما يخالف العقل الصريح،
ولا يكون له مجال في تزيين الباطل عنده، ألا ترى أن الأوليات لا سبيل للانسان
إلى جحدها وإنكارها، لا بتخييل الشيطان ولا بغير ذلك!
241

ومعنى قوله: (على أوليائه)، أي على من عنده استعداد للجهل، وتمرن على اتباع
الهوى، وزهد في تحقيق الأمور العقلية على وجهها، تقليدا للأسلاف، ومحبة لاتباع المذهب
المألوف، فذاك هو الذي يستولي عليه الشيطان ويضله، وينجو الذين سبقت لهم من الله
الحسنى، وهم الذين يتبعون محض العقل، ولا يركنون إلى التقليد، ويسلكون مسلك
التحقيق، وينظرون النظر الدقيق (1)، يجتهدون في البحث عن مقدمات أنظارهم، وليس
في هذا الكلام تصريح بالجبر، ولا إشعار به على وجه من الوجوه، وهذا واضح.
وحمل الراوندي قوله عليه السلام: (فلو أن الباطل خلص...) إلى آخره، على أن
المراد به نفى القياس في الشرع، قال: لان القائسين يحملون المسكوت عنه على المنطوق،
فيمتزج المجهول بالمعلوم، فيلتبس ويظن لامتزاج بعضه ببعض حقا، وهذا غير مستقيم،
لان لفظ الخطبة أن الحق يمتزج بالباطل، وأصحاب القياس لا يسلمون أن استخراج العلة
من الحكم المعلوم باطل، بل يقولون إنه حق، وإن الدليل الدال على ورود العبارة
بالقياس، قد أمنهم من كونه باطلا.
* * *
واعلم أن هذا الكلام الذي قاله عليه السلام حق إذا تأملته، وإن لم تفسره على
ما قدمناه من التفسير، فإن الذين ضلوا من مقلدة اليهود والنصارى وأرباب المقالات
الفاسدة من أهل الملة الاسلامية وغيرها، إنما ضل أكثرهم بتقليد الأسلاف، ومن يحسن
الظن فيه من الرؤساء وأرباب المذاهب، وإنما قلدهم الاتباع، لما شاهدوا من إصلاح
ظواهرهم، ورفضهم الدنيا وزهدهم فيها، وإقبالهم على العبادة، وتمسكهم بالدين، وأمرهم
بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وشدتهم في ذات الله، وجهادهم في سبيله، وقوتهم في

(1) ا، ج: (النظر التام).
242

مذاهبهم، وصلابتهم في عقائدهم، فاعتقد الاتباع والخلف والقرون التي جاءت بعدهم أن
هؤلاء يجب اتباعهم، وتحرم مخالفتهم، وأن الحق معهم، وأن مخالفهم مبتدع ضال،
فقلدوهم في جميع ما نقل إليهم عنهم، ووقع الضلال والغلط بذلك، لان الباطل استتر وانغمر
بما مازجه من الحق الغالب الظاهر المشاهد عيانا، أو الحكم الظاهر، ولو لاه لما تروج
الباطل، ولا كان له قبول أصلا
243

(51)
ومن كلام له عليه السلام لما غلب أصحاب معاوية أصحابه عليه السلام
على شريعة الفرات بصفين ومنعوهم من الماء:
الأصل:
قد استطعموكم القتال، فأقروا على مذلة، وتأخير محلة، أو رووا السيوف
من الدماء ترووا من الماء، فالموت في حياتكم مقهورين، والحياة فموتكم
قاهرين.
ألا وإن معاوية قاد لمة من الغواة، وعمس عليهم الخبر، حتى جعلوا نحورهم
أغراض المنية.
* * *
الشرح:
استطعموكم القتال، كلمة مجازية، ومعناها: طلبوا القتال منكم، كأنه جعل القتال شيئا
يستطعم، أي يطلب أكله، وفي الحديث: (إذا استطعمكم الامام فأطعموه)، يعنى
إمام الصلاة، أي إذا أرتج فاستفتحكم فافتحوا عليه. وتقول: فلان يستطعمني الحديث،
أي يستدعيه منى ويطلبه.
واللمة، بالتخفيف: جماعة قليلة.
وعمس عليهم الخبر، يجوز بالتشديد، ويجوز بالتخفيف، والتشديد يعطى الكثرة
ويفيدها، ومعناه أبهم عليهم الخبر، وجعله مظلما. ليل عماس، أي مظلم، وقد عمس الليل نفسه
244

بالكسر، إذا أظلم وعمسه غيره، وعمست عليه عمسا، إذا أريته أنك لا تعرف الامر
وأنت به عارف.
والأغراض: جمع غرض وهو الهدف.
وقوله: (فأقروا على مذلة وتأخير محلة)، أي أثبتوا على الذل وتأخر المرتبة والمنزلة،
أو فافعلوا كذا وكذا.
ونحو قوله عليه السلام: (فالموت في حياتكم مقهورين) قول أبى نصر بن نباتة:
والحسين الذي رأى الموت في العز حياة والعيش في الذل قتلا.
وقال التهامي:
ومن فاته نيل العلا بعلومه * وأقلامه فليبغها بحسامه (1)
فموت الفتى في العز مثل حياته * وعيشته في الذل مثل حمامه
* * *
[الاشعار الواردة في الاباء والأنف من احتمال الضيم]
والاشعار في الاباء الانف من احتمال الضيم والذل والتحريض على الحرب كثيرة،
ونحن نذكر منها هاهنا طرفا، فمن ذلك قول عمرو بن براقة الهمداني:
وكيف ينام الليل من جل ماله * حسام كلون الملح أبيض صارم (2)
كذبتم وبيت الله لا تأخذونها * مراغمة ما دام للسيف قائم
ومن يطلب المال الممنع بالقنا * يعش ماجدا أو تخترمه الخوارم (3).

(1) ديوانه 33
(2) من أبيات له في الأغاني 21: 113، 114 (ساسي).
(3) الأغاني: (المخارم).
245

ومثله:
ومن يطلب المال الممنع بالقنا * يعش ماجدا أو يؤذ فيما يمارس
وقال حرب بن مسعر:
عطفت عليه المهر عطفة باسل * كمي ومن لا يظلم الناس يظلم
فأوجرته لدن الكعوب مثقفا * فخر صريعا لليدين وللفم
وقال الحارث بن الأرقم:
وما ضاق صدري يا سليمي بسخطكم * ولكنني في الحادثات صليب
تروك لدار الخسف والضيم، منكر * بصير بفعل المكرمات أريب
إذا سامني السلطان ذلا أبيته ولم * أعط خسفا ما أقام عسيب
وقال العباس بن مرداس السلمي:
بأبي فوارس لا يعرى صواهلها * أن يقبلوا الخسف من ملك وإن عظما
لا والسيوف بأيدينا مجردة * لا كان منا غداة الروع منهزما
وقال وهب بن الحارث:
لا تحسبني كأقوام عبثت بهم * لن يأنفوا الذل حتى تأنف الحمر
لا تعلقني قذاة لست فاعلها * واحذر شباتي فقد ما ينفع الحذر
فقد علمت بأني غير مهتضم * حتى يلوح ببطن الراحة الشعر
وقال المسيب بن علس:
أبلغ ضبيعة أن البلاد * فيها لذي قوة مغضب (1)

(1) ديوان الأعشين 349، مع اختلاف في الرواية
246

وقد يقعد القوم في دارهم * إذا لم يضاموا وإن أجدبوا
ويرتحل القوم عند الهوان * عن دارهم بعد ما أخصبوا
وقد كان سامة في قومه * له مطعم وله مشرب
فساموه خسفا فلم يرضه * وفي الأرض عن ضيمهم مهرب
وقال آخر:
إن الهوان حمار القوم يعرفه * والحر ينكره والرسلة الأجد (1)
ولا يقيم على خسف يراد به إلا * الأذلان عير الحي والوتد (2)
هذا على الخسف مشدود برمته * وذا يشج فلا يأوى له أحد (3)
فإن أقمتم على ضيم يراد بكم * فإن رحلي له وال ومعتمد
وفي البلاد إذا ما خفت بادرة * مكروهة عن ولاة السوء مفتقد
وقال بعض بنى أسد:
إني امرؤ من بنى خزيمة لا * أطعم خسفا لناعب نعبا
لست بمعط ظلامة أبدا * عجما ولا أتقى بها عربا
دخل مويلك السدوسي إلى البصرة يبيع إبلا، فأخذ عامل الصدقة بعضها، فخرج
إلى البادية وقال:
ناق إني أرى المقام على الضيم عظيما في قبة الاسلام
قد أراني ولى من العامل النصف * بحد السنان أو بالحسام

(1) للمتلمس، معاهد التنصيص 2: 306. الرسلة: الناقة السهلة السير. والأجد:
الموثقة الخلق.
(2) العير، بفتح العين: الحمار، وغلب على الوحشي، والمراد به هنا الأهلي.
(3) الرمة: القطعة من الحبل، وأوى له، أي رق.
247

ووثقت بالدنيا وأنت ترى جماعتها شتاتا
وعزمت ويك على الحياة * وطولها عزما بتاتا
يا من رأى أبويه - فيمن قد رأى - كانا فماتا
هل فيهما لك عبرة * أم خلت أن لك انفلاتا!
ومن الذي طلب التفلت من منيته ففاتا!
كل تصبحه المنية أو تبيته بياتا
وله:
أرى الدنيا لمن هي في يديه * عذابا، كلما كثرت لديه (1)
تهين المكرمين لها بصغر * وتكرم كل من هانت عليه
إذا استغنيت عن شئ فدعه * وخذ ما أنت محتاج إليه
وله:
ألم تر ريب الدهر في كل ساعة * له عارض فيه المنية تلمع (2)
أيا باني الدنيا لغيرك تبتنى * ويا جامع الدنيا لغيرك تجمع
أرى المرء وثابا على كل فرصة * وللمرء يوما لا محالة مصرع
ينازل ما لا يملك الملك غيره * متى تنقضي حاجات من ليس يشبع!
وأي امرئ في غاية ليس نفسه * إلى غاية أخرى سواها تطلع!
وله:
سل الأيام عن أمم تقضت * ستخبرك المعالم والرسوم (3)

(1) ديوانه 288
(2) ديوانه 144
(3) ديوانه 246
248

وإلا حساما يبهر العين لمحه * كصاعقة في عارض قد تبسما
* * *
[أباة الضيم وأخبارهم]
سيد أهل الاباء، الذي علم الناس الحمية والموت تحت ظلال السيوف، اختيارا له على
الدنية، أبو عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام، عرض عليه الأمان
وأصحابه، فأنف من الذل، وخاف من ابن زياد أن يناله بنوع من الهوان، إن لم يقتله،
فاختار الموت على ذلك.
وسمعت النقيب أبا زيد يحيى بن زيد العلوي البصري، يقول: كان أبيات أبى
تمام في محمد بن حميد الطائي (1) ما قيلت إلا في الحسين عليه السلام:
وقد كان فوت الموت سهلا فرده * إليه الحفاظ المر والخلق الوعر
ونفس تعاف الضيم حتى كأنه * هو الكفر يوم الروع أو دونه الكفر
فأثبت في مستنقع الموت رجله * وقال لها: من تحت أخمصك الحشر
تردى ثياب الموت حمرا فما أتى * لها الليل إلا وهي من سندس خضر
لما فر أصحاب مصعب عنه، وتخلف في نفر يسير من أصحابه، كسر جفن
سيفه، وأنشد:
فإن الألى بالطف من آل هاشم * تأسوا فسنوا للكرام التأسيا (2)
فعلم أصحابه أنه قد استقتل.
ومن كلام الحسين عليه السلام يوم الطف، المنقول عنه، نقله عنه زين العابدين على
ابنه عليه السلام: (ألا وإن الدعي بن الدعي، قد خيرنا بين اثنتين: السلة (3)

(1) ديوانه 368 - طبع بيروت.
(2) لسليمان بن قتة الكامل 1: 14، والطف: من ضاحية الكوفة، كان فيها مقتل الحسين عليه السلام
(3) السل: انتزاعك الشئ وإخراجك إياه في رفق، وعند السلة، أي عند استلال السيوف.
249

أو الذلة، وهيهات منا الذلة! يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت، وحجز
طهرت (1)، وأنوف حمية، ونفوس أبيه).
وهذا نحو قول أبيه عليه السلام، وقد ذكرناه فيما تقدم: (إن امرأ أمكن عدوا من
نفسه، يعرق لحمه، ويفري جلده، ويهشم عظمه، لعظيم عجزه، ضعيف ما ضمت عليه
جوانح صدره، فكن أنت ذاك إن شئت، فأما أنا فدون أن أعطى ذلك ضرب بالمشرفية
تطير منه فراش الهام، وتطيح السواعد والاقدام).
* * *
وقال العباس بن مرداس السلمي:
مقال امرئ يهدى إليك نصيحة * إذا معشر جادوا بعرضك فابخل (2)
وإن بوءوك منزلا غير طائل (3) * غليظا فلا تنزل به وتحول
ولا تطعمن ما يعلفونك إنهم * أتوك على قرباهم بالمثمل (4)
أراك إذا قد صرت للقوم ناضحا * يقال له بالغرب أدبر وأقبل (5)
فخذها فليست للعزيز بخطة * وفيها مقام لامرئ متذلل

(1) الحجز: جمع حجزة، حيث يثنى طرف الأزرار، كناية عن العفة.
(2) من أبيات في الحماسة 2: 11 - بشرح التبريزي، طلعها:
ألا أبلغ أبا سلمى رسولا يروعه * ولو حل ذا سدر وأهلي بعسجل
(3) الحماسة: (مبركا غير طائل).
(4) قال التبريزي: المثمل: هو السم الذي قد خلط به ما يقويه ويهيجه ليكون أنفذ، أي سقوك
السم وإن كانوا أقرباءك فلا تغتر بهم وكن ذا أنفة). وبعده في رواية التبريزي:
أبعد الإزار مجسدا لك شاهدا * أتيت به في الدار لم يتزيل
(5) الناضح: البعير الذي يستقى عليه الماء، قال التبريزي: (يقول: أبعد الإزار مخصوبا بالدم أتيت
به في الدار شاهدا تصالحهم! فإن فعلت ذلك صرت كالناضح للقوم انقيادا لهم).
250

وله أيضا:
فحارب فإن مولاك حارد نصره * ففي السيف مولى نصره لا يحارد (1)
وقال مالك بن حريم الهمداني:
وكنت إذا قوم غزوني غزوتهم * فهل أنا في ذا يال همدان ظالم! (2)
متى تجمع القلب الذكي وصارما * وأنفا حميا تجتنبك المظالم
وقال رشيد بن رميض العنزي: (3)
باتوا نياما وابن هند لم ينم * بات يقاسيها غلام كالزلم (4)
خدلج الساقين خفاق القدم (5) * قد لفها الليل بسواق حطم (6)
ليس براعي إبل ولا غنم * ولا بجزار على ظهر وضم (7)
* من يلقني يود كما أودت إرم *
وقال آخر:
ولست بمبتاع الحياة بسبة * ولا مرتق من خشية الموت سلما (8)
ولما رأيت الود ليس بنافعي * عمدت إلى الامر الذي كان أحزما
* * *

(1) ديوان الحماسة 2: 15 - بشرح التبريزي: وحارد نصره، أي امتنع، والمحاردة في الأصل قلة
اللبن، واستعير هنا.
(2) من قصيدة له في الأغاني 21: 113، 114 وحريم، ضبطه البكري في اللآلي 748 (بالحاء
والراء المهملتين، لا حاء مفتوحة، والراء مكسورة)، وقال: (ومن روى حزيم، بالزاي فقد صحف).
(3) ديوان الحماسة 1: 333 - بشرح التبريزي، من وصف غارة.
(4) الزلم: القدح. يقاسيها، أي يعاني الغارة كيف يوقعها ويدبرها.
(5) خدلج الساقين: ممتلئهما. خفاق القدم: سريع الخطو، ضراب بها للأرض.
(6) قد لفها، أي الإبل، وجعل الفعل لليل على المجاز. والحطم: الذي لا يبقى من السير شيئا، والمعنى
أنه جمعها برجل متناهي القوة، عنيف السوق.
(7) الوضم: كل ما قطع عليه اللحم.
(8) للحصين بن حمام المري، المفضليات 65 مع اختلاف في الرواية.
251

ومن أباة الضيم يزيد بن المهلب كان يزيد بن عبد الملك يشنؤه قبل خلافته،
لأسباب ليس هذا موضع ذكرها، فلما أفضت إليه الخلافة، خلعه يزيد بن المهلب،
ونزع يده من طاعته، وعلم أنه إن ظفر به قتله وناله من الهوان ما القتل دونه، فدخل
البصرة وملكها عنوة، وحبس عدى بن أرطاة عامل يزيد بن عبد الملك عليها، فسرح
إليه يزيد بن عبد الملك جيشا كثيفا، ويشتمل على ثمانين ألفا من أهل الشام والجزيرة،
وبعث مع الجيش أخاه مسلمة بن عبد الملك، وكان أعرف الناس بقيادة الجيوش وتدبيرها،
وأيمن الناس نقيبة في الحرب، وضم إليه ابن أخيه العباس بن الوليد بن عبد الملك، فسار
يزيد بن المهلب من البصرة، فقدم واسط، فأقام بها أياما، ثم سار عنها فنزل العقر (1)، واشتملت جريدة جيشه على مائة وعشرين ألفا، وقدم مسلمة بجيوش الشام، فلما تراءى
العسكران، وشبت الحرب، أمر مسلمة قائدا من قواده أن يحرق الجسور التي كان عقدها
يزيد بن المهلب فأحرقها، فلما رأى أهل العراق الدخان قد علا انهزموا، فقيل ليزيد
بن المهلب: قد انهزم الناس، قال: ومم انهزموا؟ هل كان قتال ينهزم الناس من مثله؟
فقيل له: إن مسلمة أحرق الجسور فلم يثبتوا، فقال: قبحهم الله! بق دخن عليه فطار!
ثم وقف ومعه أصحابه، فقال: اضربوا وجوه المنهزمين، ففعلوا ذلك حتى كثروا عليه،
واستقبله منهم أمثال الجبال، فقال: دعوهم قبحهم الله! غنم عدا في نواحيها الذئب. وكان
يزيد لا يحدث نفسه بالفرار، وقد كان أتاه يزيد بن الحكم بن أبي العاص الثقفي بواسط،
فقال له:
فعش ملكا أو مت كريما فإن تمت * وسيفك مشهور بكفك تعذر
فقال: ما شعرت، فقال:

(1) قال ابن خلكان: (هي عقر بابل، وهي عند الكوفة بالقرب من كربلاء، الموضع الذي قتل فيه
الحسين رضي الله عنه).
252

إن بنى مروان قد باد ملكهم فإن كنت لم تشعر بذلك فاشعر.
فقال: أما هذا فعسى. فلما رأى يزيد انهزام أصحابه، نزل عن فرسه، وكسر جفن
سيفه واستقتل، فأتاه آت فقال: إن أخاك حبيبا قد قتل، فزاده ذلك بصيرة في توطينه
نفسه على القتل، وقال: لا خير في العيش بعد حبيب! والله لقد كنت أبغض الحياة بعد
الهزيمة، وقد ازددت لها بغضا، امضوا قدما. فعلم أصحابه أنه مستميت، فتسلل عنه من
يكره القتال، وبقى معه جماعة خشية، فهو يتقدم كلما مر بخيل كشفها، وهو يقصد مسلمة
بن عبد الملك لا يريد غيره، فلما دنا منه، أدنى مسلمة فرسه ليركب، وحالت خيول أهل
الشام بينهما، وعطفت على يزيد بن المهلب، فجالدهم بالسيف مصلتا (1)، حتى قتل وحمل
رأسه إلى مسلمة، وقتل معه أخوه محمد بن المهلب، وكان أخوهما المفضل بن المهلب، يقاتل
أهل الشام في جهة أخرى، ولا يعلم بقتل أخويه يزيد ومحمد، فأتاه أخوه عبد الملك بن
المهلب، وقال له: ما تصنع وقد قتل يزيد ومحمد، وقبلهما قتل حبيب، وقد انهزم الناس!
وقد روى أنه لم يأته بالخبر على وجهه، وخاف أن يخبره بذلك فيستقتل ويقتل، فقال
له: إن الأمير قد انحدر إلى واسط، فاقتص أثره، فانحدر المفضل حينئذ، فلما علم بقتل
إخوته، حلف ألا يكلم أخاه عبد الملك أبدا: وكانت عين المفضل قد أصيبت من قبل
في حرب الخوارج، فقال: فضحني عبد الملك فضحه الله! ما عذري إذا رآني الناس
فقالوا: شيخ أعور مهزوم، ألا صدقني فقتلت! ثم قال:
ولا خير في طعن الصناديد بالقنا * ولا في لقاء الناس بعد يزيد
فلما اجتمع من بقي من آل المهلب بالبصرة بعد الكسرة، أخرجوا عدى بن أرطاة
أمير البصرة من الحبس، فقتلوه وحملوا عيالهم في السفن البحرية، ولججوا في البحر، فبعث
إليهم مسلمة بن عبد الملك بعثا عليه قائد من قواده، فأدركهم في قندابيل (2)، فحاربهم

(1) مصلتا، أي مجردا من غمده.
(2) قندابيل: مدينة بالسند.
253

وحاربوه، وتقدم بنو المهلب بأسيافهم، فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم، وهم: المفضل بن
المهلب، وزياد بن المهلب، ومروان بن المهلب، وعبد الملك بن المهلب، ومعاوية بن يزيد
بن المهلب، والمنهال بن أبي عيينة بن المهلب، وعمرو والمغيرة ابنا قبيصة بن المهلب، وحملت
رؤوسهم إلى مسلمة بن عبد الملك، وفي أذن كل واحد منهم رقعة فيها اسمه، واستؤسر
الباقون في الوقعة، فحملوا إلى يزيد بن عبد الملك بالشام، وهم أحد عشر رجلا، فلما دخلوا
عليه قام كثير بن أبي جمعة، فأنشد:
حليم إذا ما نال عاقب مجملا * أشد العقاب أو عفا لم يثرب
فعفوا أمير المؤمنين وحسبة * فما تأته من صالح لك يكتب
أساؤوا فإن تصفح فإنك قادر * وأفضل حلم حسبة حلم مغضب.
فقال يزيد: أطت (1) بك الرحم يا أبا صخر! لولا أنهم قدحوا في الملك لعفوت
عنهم، ثم أمر بقتلهم فقتلوا، وبقى منهم صبي صغير، فقال: اقتلوني فلست بصغير، فقال
يزيد بن عبد الملك: أنظروا هل أنبت! فقال: أنا أعلم بنفسي، قد احتلمت ووطئت
النساء فاقتلوني، فلا خير في العيش بعد أهلي! فأمر به فقتل.
قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: وأسماء الأسارى الذين قتلوا صبرا - وهم أحد عشر
مهلبيا: المعارك وعبد الله والمغيرة والمفضل والمنجاب، بنو يزيد بن المهلب. ودريد
والحجاج وغسان وشبيب والفضل، بنو المفضل بن المهلب لصلبه. والفضل بن قبيصة بن
المهلب. قال: ولم يبق بعد هذه الوقعة الثانية لأهل المهلب باقية إلا أبو عيينة بن المهلب.
وعمر بن يزيد بن المهلب، وعثمان بن المفضل بن المهلب فإنهم لحقوا برتبيل (2)، ثم
أومنوا بعد ذلك.
* * *

(1) أطت بك الرحم: رقت وحنت.
(2) رتبيل: من ملوك الترك.
254

وقال الرضى الموسوي رحمه الله تعالى:
ألا لله بادرة الطلاب * وعزم لا يروع بالعتاب (1)
وكل مشمر البردين يهوى * هوى المصلتات إلى الرقاب
أعاتبه على بعد التنائي * فيعذلني على قرب الإياب
رأيت العجز يخضع لليالي * ويرضى عن نوائبها الغضاب
وآمل أن تطاوعني الليالي * وينشب في المنى ظفري ونابي
ولولا صولة الأقدار دوني * هجمت على العلا من كل باب
وقال أيضا:
لا يبذ الهموم إلا غلام * يركب الهول والحسام رديف (2)
ما يذل الزمان بالفقر حرا * كيفما كان فالشريف شريف
وقال أيضا رحمه الله تعالى:
ولست أضل في طرق المعالي * ونار العز عالية الشعاع (3)
ودون المجد رأى مستطيل * وباع غير مجبوب الذراع
ويعجبني البعاد كأن قلبي * يحدث عن عدى بن الرقاع
فرد نهى العلاء بلا رقيب * وشمر في الأمور بلا نزاع
ولا تغررك قعقعة الأعادي * فذاك الصخر خر من اليفاع
ونحن أحق بالدنيا ولكن * تخيرت القطوف على الوساع (4)
* * *

(1) ديوانه لوحة 77، من قصيدة يفتخر ويمدح فيها آل البيت ويذكر قبورهم ويتشوقها.
(2) ديوانه، لوحة 189.
(3) ديوانه، لوحة 36 من قصيدة يمدح فيها أباه ويهنئه.
(4) القطوف: الدابة البطيئة السير. والفرس الوساع: الجواد ذو السعة في خطوه.
255

وقال حارثة بن بدر الغداني:
أهان وأقصى ثم ينتصحونني * ومن ذا الذي يعطى نصيحته قسرا!
رأيت أكف المصلتين عليكم * ملاء وكفى من عطائكم صفرا
متى تسألوني ما على وتمنعوا * الذي لي، لا أستطيع في ذلكم صبرا
وقال بعض الخوارج:
تعيرني بالحرب عرسي وما درت * بأني لها في كل ما أمرت ضد
لحا الله قوما يقعدون وعندهم * سيوف ولم يعصب بأيديهم قد
وقال الأعشى:
أبالموت خشتني عباد وإنما * رأيت منايا القوم يسعى دليلها (1)
وما موتة إن متها غير عاجز * بعار إذا ما غالت النفس غولها
وقال آخر:
فلا أسمعن فيكم بأمر هضيمة * وضيم ولا تسمع به هامتي بعدي
فإن السنان يركب المرء حدة * من الضيم، أو يعدو على الأسد الورد
ومثله:
إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته * على طرف الهجران إن كان يعقل (2)
ويركب حد السيف من أن تضيمه * إذا لم يكن عن شفرة السيف معدل

(1) ديوانه 125.
(2) لمعن بن أوس، ديوانه 59.
256

وقال آخر:
كرهوا الموت فاستبيح حماهم * وأقاموا فعل اللئيم الذليل
أمن الموت تهربون فإن * الموت الذليل غير جميل
وقال بشامة بن الغدير:
وإن التي سامكم قومكم * هم جعلوها عليكم عدولا (1)
أخزى الحياة وكره الممات * فكلا أراه طعاما وبيلا
فإن لم يكن غير إحداهما * فسيروا إلى الموت سيرا جميلا
ولا تقعدوا وبكم منة * كفى بالحوادث للمرء غولا
* * *
قال يزيد بن المهلب في حرب جرجان لأخيه أبى عيينة: ما أحسن منظر رأيت
في هذه الحرب؟ قال: سيف بن أبي سبرة وبيضته، وكان عبد الله بن أبي سبرة حمل
على غلام تركي قد أفرج الناس له، وصدوا عنه لبأسه وشجاعته، فتضاربا ضربتين،
فقتله ابن أبي سبرة بعد أن ضربه التركي في رأسه، فنشب سيفه في بيضة ابن أبي سبرة،
فعاد إلى الصف وسيفه مصبوغ بدم التركي وسيف التركي ناشب في بيضته كجزء منها يلمع،
فقال الناس: هذا كوكب الذنب، وعجبوا من منظره.
وقال هدبة بن خشرم:
وإني إذ ما الموت لم يك دونه * قدى الشبر أحمى الانف أن أتأخرا (2)
ولكنني أعطى الحفيظة حقها * فأعرف معروفا وأنكر منكرا
وقال آخر:
إني أنا المرء لا يغضي على تره * ولا يقر على ضيم إذا غشما

(1) مختارات ابن الشجري 16، المفضليات 59
(2) قدى الشبر: قدره، والبيت في اللسان (20: 32).
257

ألقى المنية خوفا أن يقال فتى * أمسى - وقد ثبت الصفان - منهزما
وقال آخر:
قوض خيامك والتمس بلدا * تنأى عن الغاشيك بالظلم
أو شد شدة بيهس فعسى * أن يتقوك بصفحة السلم (1)
استنصر سبيع بن الخطيم التيمي من بنى تيم اللات بن ثعلبة زيد الفوارس الضبي
فنصره، فقال:
نبهت زيدا فلم أفزع إلى وكل * رث السلاح ولا في الحي مغمور
سالت عليه شعاب الحي حين دعا * أنصاره بوجوه كالدنانير
وقال أبو طالب بن عبد المطلب:
كذبتم وبيت الله نخلي محمدا * ولما نطاعن دونه ونناضل (2)
وننصره حتى نصرع حوله * ونذهل عن أبنائنا والحلائل
* * *
لما برز على وحمزة وعبيدة عليهم السلام يوم بدر إلى عتبة وشيبة والوليد، قتل علي عليه
السلام الوليد، وقتل حمزة شيبة، على اختلاف في رواية ذلك: هل كان شيبة قرنه أم
عتبة؟ وتجالد عبيدة وعتبة بسيفيهما، فجرح عبيدة عتبة في رأسه، وقطع عتبة ساق عبيدة،
فكر على وحمزة عليهما السلام على صاحبهما، فاستنقذاه من عتبة، وخبطاه بسيفيهما حتى
قتلاه واحتملا صاحبهما، فوضعاه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله في العريش،
وهو يجود بنفسه، وإن مخ ساقه ليسيل، فقال: يا رسول الله، لو كان أبو طالب حيا لعلم
أنى أولى منه بقوله:

(1) البيهس: الشجاع.
(2) ديوانه 110، 111 مع اختلاف في الرواية
258

كذبتم وبيت الله نخلي محمدا * ولما نطاعن دونه ونناضل
وننصره حتى نصرع حوله * ونذهل عن أبنائنا والحلائل
فبكى رسول الله صلى الله عليه وآله، وقال: (اللهم أنجز لي ما وعدتني؟ اللهم إن
تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض).
* * *
لما قد جيش الحرة إلى المدينة، وعلى الجيش مسلم بن عقبة المري، أباح المدينة
ثلاثا، واستعرض أهلها بالسيف جزرا كما يجزر القصاب الغنم، حتى ساخت الاقدام
في الدم، وقتل أبناء المهاجرين والأنصار وذرية أهل بدر، وأخذ البيعة ليزيد بن معاوية
على كل من استبقاه من الصحابة والتابعين، على أنه عبد قن لأمير المؤمنين يزيد بن
معاوية، هكذا كانت صورة المبايعة يوم الحرة، إلا علي بن الحسين بن علي عليهم السلام،
فإنه أعظمه وأجلسه معه على سريره، وأخذ بيعته على أنه أخو أمير المؤمنين يزيد بن
معاوية وابن عمه، دفعا له عما بايع عليه غيره، وكان ذلك بوصاة من يزيد بن معاوية له،
فهرب علي بن عبد الله بن العباس رحمه الله تعالى إلى أخواله من كندة، فحموه من مسلم
بن عقبة، وقالوا: لا يبايع ابن أختنا إلا على ما بايع عليه ابن عمه علي بن الحسين، فأبى مسلم
بن عقبة ذلك، وقال: إني لم أفعل ما فعلت إلا بوصاة أمير المؤمنين، ولولا ذلك لقتلته،
فإن أهل هذا البيت أجدر بالقتل، أو لأخذت بيعته على ما أخذت عليه بيعة غيره. وسفر
السفراء بينه وبينهم، حتى وقع الاتفاق على أن يبايع ويقول: أنا أبايع لأمير المؤمنين
يزيد بن معاوية، وألتزم طاعته، ولا يقول غير ذلك، فقال علي بن عبد الله بن العباس:
أبى العباس رأس بنى قصي * وأخوالي الملوك بنو وليعه
هم منعوا ذماري يوم جاءت * كتائب مسرف وبنو اللكيعه
259

أراد بي التي لا عز فيها * فحالت دونه أيد منيعه
مسرف كناية عن مسلم، وأم علي بن عبد الله بن العباس زرعة بنت مشرح بن
معدي كرب بن وليعة بن شرحبيل بن معاوية بن كندة.
قال الحسين بن الحمام:
ولست بمبتاع الحياة بسبة * ولا مرتق من خشية الموت سلما (1)
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد * لنفسي حياة مثل أن أتقدما
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا * ولكن على أقدامنا تقطر الدما
نفلق هاما من رجال أعزة * علينا، وهم كانوا أعق وأظلما
أبى لابن سلمى أنه غير خالد * ملاقي المنايا أي صرف تيمما
ابن سلمى يعنى نفسه، وسلمى أمه.
وقال الطرماح بن حكيم:
وما منعت دار ولا عز أهلها * من الناس إلا بالقنا والقنابل (2)
وقال آخر:
وإن التي حدثتها في أنوفنا * وأعناقنا من الاباء كما هيا
وقال آخر:
فإن تكن الأيام فينا تبدلت * ببؤسي ونعمي والحوادث تفعل (3)
فما لينت منا قناة صليبة * ولا ذللتنا للتي ليس تجمل
ولكن رحلناها نفوسا كريمة * تحمل ما لا يستطاع فتحمل

(1) المفضليات 68، 69
(2) ديوانه 159
(3) لإبراهيم بن كنيف النبهائي، ديوان الحماسة 1 - 251 - بشرح التبريزي.
260

وقال آخر:
إذا جانب أعياك فاعمد لجانب * فإنك لاق في البلاد معولا (1)
وقال أبو النشناش:
إذا المرء لم يسرح سواما ولم يرح * سواما ولم تعطف عليه أقاربه (2)
فللموت خير للفتى من قعوده * عديما ومن مولى تدب عقاربه
ولم أر مثل الهم ضاجعه الفتى * ولا كسواد الليل أخفق طالبه
فعش معدما أو مت كريما فإنني * أرى الموت لا ينجو من الموت هاربه
* * *
وفد يحيى بن عروة بن الزبير على عبد الملك، فجلس يوما على بابه ينتظر إذنه،
فجرى ذكر عبد الله بن الزبير، فنال منه حاجب عبد الملك، فلطم يحيى وجهه حتى أدمى
أنفه، فدخل على عبد الملك ودمه يجرى من أنفه، فقال: من ضربك؟ قال: يحيى
بن عروة، قال: أدخله - وكان عبد الملك متكئا فجلس - فلما دخل قال: ما حملك
على ما صنعت بحاجبي؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن عمى عبد الله كان أحسن جوارا لعمتك
منك، لنا والله إن كان ليوصي أهل ناحيته ألا يسمعوها قذعا (3)، ولا يذكروكم عندها
إلا بخير، وإن كان ليقول لها: من سب أهلك فقد سب أهله، فأنا والله المعم المخول،
تفرقت العرب بين عمى وخالي، فكنت كما قال الأول:
يداه أصابت هذه حتف هذه * فلم تجد الأخرى عليها مقدما
فرجع عبد الملك إلى متكئه، ولم يزل يعرف منه الزيادة في إكرام يحيى بعدها.

(1) لجابر بن ثعلب الطائي، ديوان الحماسة 1: 293 - بشرح التبريزي.
(2) ديوان الحماسة 1: 302 - بشرح التبريزي
(3) القذع: الفحش.
261

وأم يحيى هذه ابنة الحكم بن أبي العاص عمة عبد الملك بن مروان.
وقال سعيد بن عمر الحرشي أمير خراسان:
فلست لعامر إن لم تروني * أمام الخيل أطعن بالعوالي (1)
وأضرب هامة الجبار منهم * بماضي الغرب حودث بالصقال (2)
فما أنا في الحروب بمستكين * ولا أخشى مصاولة الرجال
أبى لي والدي من كل ذم * وخالي حين يذكر خير خال
* * *
قال عبد الله بن الزبير لما خطب حين أتاه نعى مصعب: أما، بعد فإنه أتانا من
العراق خبر أفرحنا وأحزننا، أتانا خبر قتل المصعب، فأما الذي أحزننا فلوعة يجدها
الحميم، عند فراق حميمه ثم يرعوي بعدها ذو اللب إلى حسن الصبر وكرم العزاء.
وأما الذي أفرحنا، فإن ذلك كان له شهادة، وكان لنا وله خيرة إنا والله ما نموت
حبجا (3) كما يموت آل أبي العاص، ما نموت إلا قتلا قعصا (4) بالرماح، وموتا تحت
ظلال السيوف، فإن يهلك المصعب، فإن في آل الزبير لخلفا.
وخطب مرة أخرى فذكره فقال: لوددت والله أن الأرض قاءتني عنده حين لفظ
غصته وقضى نحبه.
شعر:
خذيه فجريه ضباع وأبشري * بلحم امرئ لم يشهد اليوم ناصره

(1) العوالي: جمع عالية، وهي أعلى القناة.
(2) غرب السيف: حده: ويقال: حادث السيف، إذا جلاه، وصقال السيف: جلاؤه.
(3) الحبج: أن يأكل البعير لحاء العرفج فيرم بطنه سمنا وربما قتله ذلك، وفي اللسان (3: 48).
بعد أن ذكر كلام ابن الزبير: (يعرض ببني مروان لكثرة أكلهم وإسرافهم في ملاذ الدنيا، وأنهم
يموتون بالتخمة) وفيج: (جنحا).
(4) اقعص: الموت السريع، ويقال: مات قعصا، أي أصابته ضربة أو رمية فمات مكانه.
262

وقال الشداخ بن يعمر الكناني:
قاتلوا القوم يا خزاع ولا * يدخلكم من قتالهم فشل (1)
القوم أمثالكم لهم شعر * في الرأس لا ينشرون إن قتلوا
وقال يحيى بن منصور الحنفي:
ولما نأت عنا العشيرة كلها * أنخنا فحالفنا السيوف على الدهر (2)
فما أسلمتنا عند يوم كريهة * ولا نحن أغضينا الجفون على وتر
قيل لرجل شهد يوم الطف مع عمر بن سعد: ويحك! أقتلتم ذرية رسول الله صلى
الله عليه وآله! فقال: عضضت بالجندل، إنك لو شهدت ما شهدنا لفعلت ما فعلنا، ثارت
علينا عصابة، أيديها في مقابض سيوفها كالأسود الضارية تحطم الفرسان يمينا وشمالا، وتلقى
أنفسها على الموت، لا تقبل الأمان، ولا ترغب في المال، ولا يحول حائل بينها و بين الورود
على حياض المنية، أو الاستيلاء على الملك، فلو كففنا عنها رويدا لأتت على نفوس العسكر
بحذافيرها، فما كنا فاعلين لا أم لك!
* * *
السخاء من باب الشجاعة، والشجاعة من باب السخاء، لان الشجاعة إنفاق العمر
وبذله فكانت سخاء، والسخاء إقدام على إتلاف ما هو عديل المهجة فكان
شجاعة.
أبو تمام في تفضيل الشجاعة على السخاء:
كم بين قوم إنما نفقاتهم * مال وقوم ينفقون نفوسا (3)
* * *

(1) ديوان الحماسة لأبي تمام 1: 189 - بشرح التبريزي، والفشل: الجبن والضعف.
(2) ديوان الحماسة - بشرح التبريزي 1: 310
(3) ديوانه 2: 267
263

قيل لشيخنا أبى عبد الله البصري رحمه الله تعالى: أتجد في النصوص ما يدل على
تفضيل علي عليه السلام، بمعنى كثرة الثواب لا بمعنى كثرة مناقبه، فإن ذاك أمر مفروغ
منه؟ فذكر حديث الطائر المشوي (1)، وأن المحبة من الله تعالى إرادة الثواب. فقيل له:
قد سبقك الشيخ أبو علي رحمه الله تعالى إلى هذا، فهل تجد غير ذلك قال: نعم قول الله
تعالى: (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص)،
فإذا كان أصل المحبة لمن ثبت كثبوت البنيان المرصوص، فكل من زاد ثباته، زادت
المحبة له، ومعلوم أن عليا عليه السلام ما فر في زحف قط، وفر غيره في غير موطن.
* * *
وقال أبو تمام:
السيف أصدق أنباء من الكتب * في حده الحد (2) بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف * في متونهن جلاء الشك والريب (3)
والعلم في شهب الا رماح لامعة * بين الخميسين لا في السبعة الشهب (4)
وقال أبو الطيب المتنبي:
حتى رجعت وأقلامي قوائل لي: * المجد للسيف ليس المجد للقلم (5)

(1) يشير إلى ما رواه الترمذي في باب المناقب (13: 170)، بسنده عن أنس بن مالك، ولفظه:
(كان عند النبي صلى الله عليه وسلم طير فقال: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك، يأكل معي هذا الطير.
فجاء على فأكل معه. وانظر الجزء الأول من هذا الكتاب ص 7
(2) ديوانه 1: 45، من قصيدة يمدح بها المعتصم بالله، ويذكر فتح عمورية، وكان المنجمون قد
حكموا أن المعتصم لا يفتح عمورية، وراسلته الروم بأنا نجد في كتبنا أنه لا تفتح مدينتنا إلا وقت إدراك التين
والعنب، وبيننا وبين ذلك الوقت شهور يمنعك من المقام فيها الثلج والبرد، فأبى أن ينصرف وأكب
عليها ففتحها، فأبطل ما قالوا.
(3) الصفائح: جمع صفيحة، وهي الحديدة العريضة، ويقال للسيف العريض كذلك.
(4) يرد على المنجمين ما حكموا به، لان الظفر كان قبل حكمهم. ويعني بشهب الأرماح أسنتها، ويعني
بالسبعة الشهب الطوالع التي أرفعها زحل وأدناها القمر.
(5) ديوانه 4: 159
264

اكتب بنا أبدا بعد الكتاب به * فإنما نحن للأسياف كالخدم
أسمعتني ودوائي ما أشرت به * فإن غفلت فدائي قلة الفهم
من اقتضى بسوى الهندي حاجته * أجاب كل سؤال عن (هل) بلم
* * *
قال عطاف بن محمد الآلوسي:
أمكابد الزفرات مؤصدة * تلتذ خوف القطع بالشلل
صرف همومك تنتدب همما * فالسكر يعقب نشوة الثمل
ولليلة الميلاد مفرحة * تنسى الحوامل أشهر الحبل
سر في البلاد تخوضها لججا * فالدر ليس يصاب في الوشل
واجعل لصبوتك الظبا سكنا * والدور أكوارا على الإبل
والعيش والوطن الممهد في * غرب الحسام وغارب الجمل
واشدد عليك وخذ إليك ودع * ضعة الخمول وفترة الكسل
وارم العداة بكل صائبة ما * الرمي موقوفا على ثعل (2)
لا تحسب النكبات منقصة * قد يستجاد السيف بالفلل
* * *
وقال عروة بن الورد:
لحا الله صعلوكا إذا جن ليله * مصافي المشاش آلفا كل مجزر (3)

(1) الوشل: الماء القليل.
(2) ثعل: أبو حي من طئ، اشتهروا بالرمي.
(3) ديوانه 93 (ضمن دواوين الشعراء الخمسة). الصعلوك: الفقير: والمصافي: من المصافاة، وهي
الاختيار والملازمة. والمشاش: العظم الممكن مضغه، والمجزر: موضع نحر الإبل.
265

يعد الغنى من نفسه كل ليلة * أصاب قراها من صديق ميسر (1)
ينام عشاء ثم يصبح ناعسا * يحت الحصا من جنبه المتعفر (2)
يعين نساء الحي ما يستعنه * ويمسي طليحا كالبعير المحسر (3)
ولكن صعلوكا صفيحة وجهه * كضوء شهاب القابس المتنور
مطلا على أعدائه يزجرونه * بساحتهم زجر المنيح المشهر (4)
وإن قعدوا لا يأمنون اقترابه * تشوف أهل الغائب المنتظر (5)
فذلك إن يلق المنية يلقها * حميدا وإن يستغن يوما فأجدر
* * *
وقال آخر:
ولست بمولى سوءة أدعى لها * فإن لسوآت الأمور مواليا (6)
وسيان عندي أن أموت وأن أرى * كبعض رجال يوطنون المخازيا
ولن يجد الناس الصديق ولا العدا * أديمي إذا عدوا أديمي واهيا
وإن نجاري بابن غنم مخالف * نجار لئام فابغني من ورائيا (7)
ولست بهياب لمن لا يهابني * ولست أرى للمرء ما لا يرى ليا
إذا المرء لم يحببك إلا تكرها * عراض العلوق لم يكن ذاك باقيا (8)
* * *

(1) الميسر: الذي قد نتج إبله فكثر خيره، يقول: من صفات ذلك الصعلوك أنه إذا أصاب القرى
في كل ليلة من صديق غنى، عد ذلك لنفسه غنى وخيرا.
(2) يحت الحصا: يفركه، والناعس: الذي يأتي عليه الصباح وهو ناعس لخموله وانحطاط همته.
(3) البعير الطليح: المعني، وكذلك المحسر.
(4) أطل على أعدائه: أوفى عليهم. والمنيح والسفيح والرغد: قداح لا أنصباء لها، وإنما يكثر بها
القداح فهي تجال أبدا، وتزجر حالا بعد حال، فشبه الصعلوك به (من شرح التبريزي).
(5) الديوان: (فإن بعدوا يأمنون اقترابه).
(6) لطرفة الجذيمي، ديوان الحماسة - بشرح التبريزي 1: 389، مع اختلاف في الرواية وترتيب الأبيات
(7) النجار: الأصل.
(8) العلوق: الناقة التي ترأم ولدها وتلمسه حتى يأنس بها، فإذا أراد ارتضاع اللبن منها ضربته وطردته.
266

نهار بن توسعة في يزيد بن المهلب:
وما كنا نؤمل من أمير * كما كنا نؤمل من يزيد
فأخطأ ظننا فيه وقدما * زهدنا في معاشرة الزهيد
إذا لم يعطنا نصفا أمير * مشينا نحوه مشى الأسود
* * *
كان هدبه اليشكري - وهو ابن عم شوذب الخارجي اليشكري - شجاعا مقداما،
وكان ابن عمه بسطام الملقب شوذبا الخارج في خلافة عمر بن عبد العزيز ويزيد بن
عبد الملك، فأرسل إليه يزيد بن عبد الملك جيشا كثيفا فحاربه، فانكشفت الخوارج،
وثبت هدبة وأبى الفرار، فقاتل حتى قتل، فقال أيوب بن خولي يرثيه:
فيا هدب للهيجا ويا هدب للندى * ويا هدب للخصم الألد يحاربه (1)
ويا هدب كم من ملحم قد أجبته * وقد أسلمته للرماح كتائبه (2)
تزودت من دنياك درعا ومغفرا * وعضبا حساما لم تخنك مضاربه (3)
وأجرد محبوك السراة كأنه إذا * انفض وافى الريش حجن مخالبه (4)
* * *
كانت وصايا إبراهيم الامام وكتبه ترد إلى أبى مسلم بخراسان: إن استطعت ألا
تدع بخراسان أحدا يتكلم بالعربية إلا وقتلته فافعل، وأيما غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه

(1) الأبيات مع ذكر الخبر مفصلا في تاريخ الطبري 2: 1376 - 1378 (طبع أوروبا).
(2) الملحم: الذي أسر وظفر به أعداؤه، وفي ج: (ملجم) تصحيف.
(3) الطبري: (تزود... لم تخنه).
(4) أجرد، من وصف الفرس، والجرد قصر شعر الجلد فيه، وهو من الأوصاف المحمودة. السراة:
الظهر، ومحبوك السراة، أي شديد الخلق. حجن مخالبه، يريد صقرا، والحجن. الاعوجاج.
267

فاقتله، وعليك بمضر، فإنهم العدو القريب الدار، فأبد خضراءهم (1)، ولا تدع على
الأرض منهم ديارا.
* * *
قال المتنبي:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى * حتى يراق على جوانبه الدم (2)
وله:
ومن عرف الأيام معرفتي بها * وبالناس روى رمحه غير راحم (3)
فليس بمرحوم إذا ظفروا به * ولا في الردى الجاري عليهم بآثم
وقال المتنبي أيضا:
ردى حياض الردى يا نفس واطرحي * حياض خوف الردى للشاء والنعم (4)
إن لم أذرك على الا رماح سائلة * فلا دعيت ابن أم المجد والكرم
* * *
ومن أباه الضيم قتيبة بن مسلم الباهلي أمير خراسان وما وراء النهر، لم يصنع أحد
صنيعه في فتح بلاد الترك، وكان (5) الوليد بن عبد الملك أراد أن ينزع أخاه سليمان بن عبد الملك
من العهد بعده، ويجعله في ابنه عبد العزيز بن الوليد، فأجابه إلى ذلك قتيبة بن مسلم
وجماعة من الامراء، فلما مات الوليد قبل إتمام ذلك، وقام سليمان بالامر بعده - وكان

(1) في الأساس: أباد الله خضراءهم، أي شجرتهم التي تفرعوا منها.
(2) ديوانه 4: 125
(3) ديوانه 4: 112
(4) ديوانه 4: 43
(5) الطبري (حوادث سنة 91).
268

قتيبة أشد الناس في أمر سليمان وخلعه عن العهد - علم أنه سيعزله عن خراسان يوليها
يزيد بن المهلب، لود كان بينه وبين سليمان، فكتب قتيبة إليه كتابا يهنئه بالخلافة،
ويذكر بلاءه وطاعته لعبد الملك وللوليد بعده، وأنه على مثل ذلك إن لم يعزله عن
خراسان، وكتب إليه كتابا آخر يذكره فيه بفتوحه وآثاره، ونكايته في الترك، وعظم
قدره عند ملوكهم، وهيبة العجم والعرب له وعظم صيته فيهم، ويذم آل المهلب، ويحلف
له بالله: لئن استعمل يزيد بن المهلب خراسان ليخلعنه، وليملأنها عليه خيلا ورجلا،
وكتب كتابا ثالثا فيه خلع سليمان، وبعث بالكتب الثلاثة مع رجل من قومه من
باهلة يثق به، وقال له: ادفع الكتاب الأول إليه، فإن كان يزيد بن المهلب حاضرا
عنده، فقرأ الكتاب ثم دفعه إلى يزيد فادفع إليه هذا الثاني، فإن قرأه وألقاه إليه أيضا
فادفع إليه الثالث، وإن قرأ الكتاب الأول ولم يدفعه إلى يزيد، فاحتبس الكتابين
الآخرين معك.
فقدم الرسول على سليمان، ودخل عليه وعنده يزيد بن المهلب، فدفع إليه الكتاب
الأول، فقرأ وألقاه إلى يزيد، فدفع إليه الكتاب الثاني، فقرأه وألقاه إلى يزيد أيضا،
فدفع إليه الكتاب الثالث، فقرأه وتغير لونه وطواه، وأمسكه بيده، وأمر بإنزال الرسول
وإكرامه، ثم أحضره ليلا، ودفع إليه جائزته، وأعطاه عهد قتيبة على خراسان، وكان
ذلك مكيدة من سليمان يسكنه ليطمئن ثم يعزله، وبعث مع رسوله رسولا، فلما كان
بحلوان بلغه خلع قتيبة سليمان بن عبد الملك، فرجع رسول سليمان إليه، فلما اختلفت العرب
على قتيبة حين أبدى صفحته لسليمان، وخلع ربقة الطاعة، بايعوا وكيع بن أبي سود
التميمي على إمارة خراسان، وكانت أمراء القبائل قد تنكرت لقتيبة لإذلاله إياهم،
واستهانته بهم واستطالته عليهم، وكرهوا إمارته، فكانت بيعة وكيع في أول الأمر
269

سرا، ثم ظهر لقتيبة أمره، فأرسل إليه يدعوه، فوجده قد طلا رجله بمغرة (1) وعلق
في عنقه خرزا، وعنده رجلان يرقيان رجله، فقال للرسول: قد ترى ما برجلي! فرجع
وأخبر قتيبة فأعاده إليه، فقال: قل له ليأتيني محمولا، قال: لا أستطيع. فقال قتيبة
لصاحب شرطته: انطلق إلى وكيع فأتني به، فإن أبى فاضرب عنقه، وأتني برأسه، ووجه
معه خيلا. فقال وكيع لصاحب الشرطة: البث قليلا تلحق الكتائب، وقام فلبس سلاحه،
ونادى في الناس فأتوه، فخرج فتلقاه رجل، فقال: ممن أنت؟ فقال: من بنى أسد،
فقال: ما اسمك؟ فقال ضرغام، فقال: ابن من؟ قال: ابن ليث، فتيمن به وأعطاه
رايته، وأتاه الناس أرسالا من كل وجه، فتقدم بهم، وهو يقول:
قوم إذا حمل مكروهة شد الشراسيف لها والحزيم (2)
واجتمع إلى قتيبة أهله وثقاته، وأكثر العرب ألسنتهم له وقلوبهم عليه. فأمر
قتيبة رجلا فنادى: أين بنو عامر؟ وقد كان قتيبة جفاهم في أيام سلطانه - فقال له مجفر (3)
ابن جزء الكلابي: نادهم حيث وضعتهم، فقال قتيبة: أنشدكم الله والرحم - وذاك لان
باهلة وعامرا من قيس عيلان - فقال مجفر: أنت قطعتها، قال: فلكم العتبى، فقال مجفر:
لا أقالنا الله إذا، فقال قتيبة:
يا نفس صبرا على ما كان من ألم إذ لم أجد لفضول العيش أقرانا
ثم دعا (4) ببرذون له مدرب (5) ليركبه، فجعل يمنعه الركوب حتى أعيا. فلما رأى ذلك

(1) المغرة: طين أحمر.
(2) البيت في اللسان 15: 21، من غير نسبة. القرم: السيد. والشراسيف: أطراف أضلاع الصدر
التي تشرف على البطن. والحزيم: موضع الحزام من الصدر والظهر كله.
(3) في الطبري: (محصن).
(4) في الطبري: (ودعا بعمامة، وكانت أمه بعثت بها إليه: فاعتم بها، وكان يعتم بها في الشدائد،
ودعا ببرذون...).
(5) المدرب: المؤدب الذي ألف الركوب وعود المشي.
270

عاد إلى سريره فجلس، وقال: دعوه، فإن هذا أمر يراد. وجاء حيان النبطي - وهو
يومئذ أمير الموالي، وعدتهم سبعة آلاف، كان واجدا على قتيبة - فقال له عبد الله بن
مسلم أخو قتيبة: احمل يا حيان، فقال: لم يأن بعد، فقال له: ناولني قوسك، فقال حيان:
ليس هذا بيوم قوس. ثم قال حيان لابنه: إذ رأيتني قد حولت قلنسوتي، ومضيت نحو
عسكر وكيع فمل بمن معك من العجم إلى، فلما حول حيان قلنسوته ومضى نحو عسكر
وكيع، مالت الموالي معه بأسرها، فبعث قتيبة أخاه صالح بن مسلم إلى الناس، فرماه رجل
من بنى ضبة فأصاب رأسه، فحمل إلى قتيبة ورأسه مائل، فوضعه على مصلاه، وجلس
عند رأسه ساعة، وتهايج الناس، وأقبل عبد الرحمن بن مسلم أخو قتيبة نحوهم، فرماه
الغوغاء وأهل السوق فقتلوه، وأشير على قتيبة بالانصراف، فقال: الموت أهون من
الفرار. وأحرق وكيع موضعا كانت فيه إبل قتيبة ودوابه، وزحف بمن معه حتى دنا منه،
فقاتل دونه رجل من أهله قتالا شديدا، فقال له قتيبة: انج بنفسك، فإن مثلك يضن
به عن القتل، قال: بئسما جزيتك به أيها الأمير إذا، وقد أطعمتني الجردق، وألبستني
النمرق (1). وتقدم الناس حتى بلغوا فسطاط قتيبة، فأشار عليه نصحاؤه بالهرب، فقال:
إذا لست لمسلم بن عمرو! ثم خرج إليهم بسيفه يجالدهم، فجرح جراحات كثيرة، حتى
ارتث (2) وسقط، فأكبوا عليه، فاحتزوا رأسه، وقتل معه من إخوته عبد الرحمن،
وعبد الله وصالح، والحصين، وعبد الكريم، ومسلم، وقتل معه جماعة من أهله وعدة
من قتل معه من أهله وإخوته أحد عشر رجلا. وصعد وكيع بن أبي سود المنبر وأنشد:
* من ينك العير ينك نياكا * (3)

(1) الجردق: الرغيف، معرب فارسيته: (كرده). والنمرق: الميثرة.
(2) ارتث، بالبناء للمجهول: حمل من المعركة جريحا وبه رمق.
(3) مثل، قاله خضر بن شبل الخثعمي، في خبر ذكره صاحب مجمع الأمثال 2: 305
271

إن قتيبة أراد قتلى، وأنا قتال الاقران، ثم أنشد:
قد جربوني ثم جربوني * من غلوتين ومن المئين
حتى إذا شبت وشيبوني * خلوا عناني ثم سيبوني (1)
حذار منى وتنكبوني * فإنني رام لمن يرميني
ثم قال: أنا أبو مطرف، يكررها مرارا، ثم قال:
أنا ابن خندف تنميني قبائلها * للصالحات وعمى قيس عيلانا
ثم أخذ بلحيته، وقال: إني لأقتلن ثم لأقتلن ولأصلبن ثم لأصلبن، إن مرزبانكم (2)
هذا ابن الزانية، قد أغلى أسعاركم، والله لئن لم يصر القفيز (3) بأربعة دراهم لأصلبنه،
صلوا على نبيكم.
ثم نزل وطلب رأس قتيبة وخاتمه، فقيل له: إن الأزد أخذته، فخرج مشهرا (4)،
وقال: والله الذي لا إله إلا هو لا أبرح حتى أوتى بالرأس، أو يذهب رأسي معه، فقال له
الحصين بن المنذر: يا أبا مطرف فإنك تؤتى به. ثم ذهب إلى الأزد، فأخذ الرأس وأتاه
به، فسيره إلى سليمان بن عبد الملك، فأدخل عليه ومعه رؤوس إخوته وأهله، وعنده الهذيل
بن زفر بن الحارث الكلابي، فقال: أساءك هذا يا هذيل؟ قال: لو ساءني لساء ناسا كثيرا.
فقال سليمان: ما أردت هذا كله، وإنما قال سليمان ذلك للهذيل، لان قيس عيلان تجمع
كلابا وباهلة، قالوا: ما ولى خراسان أحد كقتيبة بن مسلم، ولو كانت باهلة في الدناءة
والضعة واللؤم إلى أقصى غاية، لكان لها بقتيبة الفخر على قبائل العرب.

(1) أصله في الدابة، يقال: سيب الدابة، إذا تركها تذهب حيث شاءت، وفي تاريخ الطبري:
حتى إذا شبت وشببوني * خلوا عناني وتنكبوني
وانظر أمالي القالي 1: 286
(2) المرزبة: رياسة الفرس، وهو مرزبانهم.
(3) الطبري: (والله ليصيرن القفين في السوق غدا بأربعة).
(4) أي مشهرا سيفه.
272

قال رؤساء خراسان من العجم لما قتل قتيبة: يا معشر العرب، قتلتم قتيبة، والله لو كان
منا ثم مات لجعلناه في تابوت، فكنا نستفتح به إذا غزونا.
وقال الأصبهبذ (1): يا معشر العرب، قتلتم قتيبة ويزيد بن المهلب، لقد جئتم شيئا
إدا! فقيل له: أيهما كان أعظم عندكم وأهيب؟ قال: لو كان قتيبة بأقصى حجرة (2) في
المغرب، مكبلا بالحديد و القيود، ويزيد معنا في بلدنا وال علينا، لكان قتيبة أهيب
في صدورنا وأعظم.
وقال عبد الرحمن بن جمانة الباهلي يرثي قتيبة:
كأن أبا حفص قتيبة لم يسر * بجيش إلى جيش ولم يعل منبرا
ولم تخفق الرايات والجيش حوله * صفوفا ولم يشهد له الناس عسكرا
دعته المنايا فاستجاب لربه * وراح إلى الجنات عفا مطهرا
فما رزئ الاسلام بعد محمد * بمثل أبى حفص، فبكيه عبهرا
عبهر: أم ولد له.
* * *
وفي الحديث الصحيح: (إن من خير الناس رجلا ممسكا بعنان فرسه في سبيل الله،
كلما سمع هيعة (3) طار إليها).
كتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد: واعلم أن عليك عيونا من الله ترعاك وتراك، فإذا
لقيت العدو، فاحرص على الموت توهب لك الحياة، ولا تغسل الشهداء من دمائهم،
فإن دم الشهيد يكون له نورا يوم القيامة.

(1) الأصبهبذ في الديلم: كالأمير في العرب.
(2) الحجرة: الناحية.
(3) الهيعة: الصوت أو الصياح.
273

عمر: لا تزالون أصحاء ما نزعتم ونزوتم، يزيد: ما نزعتم في (1) القوس، ونزوتم
على الخيل.
بعض الخوارج:
ومن يخش أظفار المنايا فإننا * لبسنا لهن السابغات من الصبر
وإن كريه الموت عذب مذاقه * إذا ما مزجناه بطيب من الذكر
حفص منصور بن عمار في قصصه على الغزو والجهاد، فطرحت في المجلس صرة فيها
شئ، ففتحت فإذا فيها ضفيرتا امرأة، وقد كتبت: رأيتك يا بن عمار تحض على الجهاد،
ووالله إني لا أملك لنفسي مالا، ولا أملك سوى ضفيرتي هاتين، وقد ألقيتهما إليك،
فتالله إلا جعلتهما قيد فرس غاز في سبيل الله، فلعل الله أن يرحمني بذلك.
فارتج المجلس بالبكاء والضجيج.
* * *
لبعض شعراء العجم:
وا سوءتا لامرئ شبيبته * في عنفوان وماؤه خضل!
راض بنزر المعاش مضطهد * على تراث الاباء يتكل
لا حفظ الله ذاك من رجل * ولا رعاه ما أطت الإبل
كلا وربى حتى تكون فتى * قد نهكته الاسفار والرحل
مشمرا يطلب الرياسة أو * يضرب يوما بهلكه المثل
حتى متى تتبع الرجال ولا * تتبع يوما، لامك الهبل!
* * *

(1) يقال: نزع في القوس نزعا، وإذا جذب الوتر بالسهم.
274

عبد الله بن ثعلبة الأزدي:
فلئن عمرت لأشفين النفس من تلك المساعي
ولأعلمن البطن أن الزاد ليس بمستطاع
أما النهار فقد أرى * قومي بمرقبة يفاع (1)
في قرة هلك وشوك * مثل أنياب الأفاعي (2)
ترد السباع معي فتحسبني السباع من السباع
* * *
مجير الجراد أبو حنبل حارثة بن مر الطائي، أجار جرادا نزل به ومنع من صيده،
حتى طار من أرضه، فسمى مجير الجراد.
وقال هلال بن معاوية الطائي:
وبالجبلين لنا معقل * صعدنا إليه بصم الصعاد
ملكناه في أوليات الزمان * من قبل نوح ومن قبل عاد
ومنا ابن مر أبو حنبل * أجار من الناس رجل الجراد
وزيد لنا ولنا حاتم * غياث الورى في السنين الشداد
* * *
وقال يحيى بن منصور الحنفي:
ولما نأت عنا العشيرة كلها * أنخنا فحالفنا السيوف على الدهر (3)
فما أسلمتنا عند يوم كريهة * ولا نحن أغضينا الجفون على وتر

(1) اليفاع: التل.
(2) ما يصيب الانسان من البرد.
(3) ديوان الحماسة 326 - بشرح المرزوقي.
275

وقال آخر:
أرق لأرحام أراها قريبة * لحار بن كعب لا لجرم وراسب (1)
وإنا نرى أقدامنا في نعالهم * وآنفنا بين اللحى والحواجب
وإقدامنا يوم الوغى وإباءنا * إذا ما أبينا لا ندر لعاصب
* * *
حاصرت الترك مدينة برذعة من أعمال أذربيجان في أيام هشام بن عبد الملك حصارا
شديدا، واستضعفتها وكادت تملكها، وتوجه إليها لمعاونتها سعيد الحرشي من قبل
هشام بن عبد الملك في جيوش كثيفة، وعلم الترك بقربه منهم فخافوا، وأرسل سعيد
واحدا من أصحابه إلى أهل برذعة سرا يعرفهم وصوله، ويأمرهم بالصبر خوفا
ألا يدركهم، فسار الرجل، ولقيه قوم من الترك، فأخذوه وسألوه عن حاله، فكتمهم
فعذبوه، فأخبرهم وصدقهم فقالوا: إن فعلت ما نأمرك به أطلقناك، وإلا قتلناك، فقال:
ما تريدون؟ قالوا: أنت عارف بأصحابك ببرذعة وهم يعرفونك، فإذا وصلت تحت السور
فنادهم: إنه ليس خلفي مدد، ولا من يكشف ما بكم، وإنما بعثت جاسوسا. فأجابهم
إلى ذلك، فلما صار تحت سورها، وقف حيث يسمع أهلها كلامه، وقال لهم: أتعرفونني؟
قالوا: نعم، أنت فلان ابن فلان، قال: فإن سعيدا الحرشي قد وصل إلى مكان كذا
في مائة ألف سيف، وهو يأمركم بالصبر وحفظ البلد، وهو مصبحكم أو ممسيكم، فرفع
أهل برذعة أصواتهم بالتكبير، وقتلت الترك ذلك الرجل، ورحلوا عنها ووصل سعيد
فوجد أبوابها مفتوحة وأهلها سالمين.
وقال الراجز:
من كان ينوى أهله فلا رجع فر من الموت وفي الموت وقع

(1) ديوان الحماسة 1: 328 بشرح المرزوقي، ونسبها إلى بعض بنى عبس.
276

أشرف معاوية يوما فرأى عسكر علي عليه السلام بصفين فهاله، فقال: من طلب
عظيما خاطر بعظيمته.
وقال الكلحبة:
إذا المرء لم يغش المكاره أوشكت * حبال الهوينى بالفتى أن تقطعا (1)
* * *
ومن شعر الحماسة:
أقول لها وقد طارت شعاعا * من الابطال ويحك لا تراعى (2)
فإنك لو سألت بقاء يوم * على الاجل الذي لك لم تطاعي
فصبرا في مجال الموت صبرا * فما نيل الخلود بمستطاع
ولا ثوب البقاء بثوب عز * فيطوى عن أخي الخنع اليراع (3)
سبيل الموت غاية كل حي * فداعيه لأهل الأرض داع
ومن لا يعتبط يسأم ويهرم * وتسلمه المنون إلى انقطاع
وما للمرء خير في حياة * إذا ما عد من سقط المتاع
ومنه أيضا:
وفي الشر نجاة حين لا ينجيك إحسان
ومنه أيضا:
ولم ندر إن جضنا عن الموت جيضة * كم العمر باق والمدى متطاول (5)

(1) المفضليات 32
(2) لقطري بن الفجاءة ديوان الحماسة - بشرح التبريزي 1: 96
(3) أخو الخنع: الذليل. واليراع: الرجل الجبان، كأنه لا قلب له، تشبيها له بالقصبة الجوفاء.
(4) للفند الزماني، ديوان الحماسة - بشرح التبريزي 1: 26
(5) لجعفر بن علبة الحارثي، ديوان الحماسة - بشرح التبريزي 1: 48. جضنا: عدلنا وانحرفنا.
277

ومنه أيضا:
ولا يكشف الغماء إلا ابن حرة * يرى غمرات الموت ثم يزورها (1)
ومنه أيضا:
فلا تحسبي أنى تخشعت بعدكم * لشئ ولا أنى من الموت أفرق (2)
ولا أن نفسي يزدهيها وعيدكم (3) * ولا أنني بالمشي في القيد أخرق
ومنه أيضا:
سأغسل عنى العار بالسيف جالبا * على قضاء الله ما كان جالبا (4)
وأذهل عن داري وأجعل هدمها * لعرصى من باقي المذمة حاجبا
ويصغر في عيني تلادي إذا انثنت * يميني بإدراك الذي كنت طالبا
فإن تهدموا بالغر داري فإنها * تراث كريم لا يبالي العواقبا
أخي عزمات لا يطيع على الذي * يهم به من مفظع الامر عاتبا
إذا هم ألقى بين عينيه عزمه * ونكب عن ذكر العواقب جانبا
فيا لرزام رشحوا بي مقدما * إلى الموت خواضا إليه السباسبا
إذا هم لم تردع عزيمة همه * ولم يأت ما يأتي من الامر هائبا
ولم يستشر في أمره غير نفسه * ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا
ومنه أيضا:
هما خطتا إما إسار ومنة * وإما دم، والقتل بالحر أجدر (5)

(1) لجعفر بن علبة أيضا، ديوان الحماسة - بشرح التبريزي 1: 50
(2) له أيضا، ديوان الحماسة - بشرح التبريزي 1: 54.
(3) وفى الشرح: ويروى (وعيدهم).
(4) لسعد بن ناشب، ديوان الحماسة - بشرح التبريزي 1: 70
(5) لتأبط شرا، ديوان الحماسة - بشرح التبريزي 1: 78
278

ومنه أيضا:
وإنا لقوم لا نرى القتل سبة * إذا ما رأته عامر وسلول (1)
يقصر حب الموت آجالنا لنا * وتكرهه آجالهم فتطول
وما مات منا سيد حتف أنفه * ولا طل منا حيث كان قتيل
تسيل على حد الظباة نفوسنا * وليست على غير السيوف تسيل
ومنه أيضا:
لا يركنن أحد إلى الاحجام * يوم الوغى متخوفا لحمام (2)
فلقد أراني للرماح دريئة * من عن يميني تارة وأمامي
حتى خضبت بما تحدر من دمى * أكناف سرجي أو عنان لجامي
ثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب * جذع البصيرة قارح الاقدام
ومنه أيضا:
وإني لدى الحرب الضروس موكل * بإقدام نفس لا أريد بقاءها (3)
متى يأت هذا الموت لا تلف حاجة * لنفسي إلا قد قضيت قضاءها
* * *
كتب عبد الحميد بن يحيى عن مروان بن محمد إلى أبى مسلم كتابا، حمل على جمل
لعظمه وكثرته. وقيل: إنه لم يكن في الطول إلى هذه الغاية، وقد حمل على جمل تعظيما
لامره، وقال لمروان بن محمد: إن قرأه خاليا نخب (4) قلبه، وإن قرأه في ملا من

(1) للسمؤل، ديوان الحماسة - بشرح التبريزي 1: 111
(2) لقطري بن الفجاءة، ديوان الحماسة - بشرح التبريزي 1: 130
(3) لقيس بن الخطيم، ديوان الحماسة - بشرح التبريزي 1: 181
(4) نخب: جبن.
279

أصحابه ثبطهم وخذلهم، فلما وصل إلى أبى مسلم أحرقه بالنار ولم يقرأه، وكتب على بياض
كان على رأسه وأعاده إلى مروان:
محا السيف أسطار البلاغة وانتحت * إليك ليوث الغاب من كل جانب (1)
فإن تقدموا نعمل سيوفا شحيذة * يهون عليها العتب من كل عاتب (2)
ويقال: إن أول الكتاب كان: لو أراد الله بالنملة صلاحا، لما أنبت لها جناحا.
وكتب أبو مسلم إلى نصر بن سيار، وهو أول كتاب صدر عن أبي مسلم إلى نصر،
وذلك حين لبس السواد، وأعلن بالدعوة في شهر رمضان من سنة تسع وعشرين ومائة:
أما بعد فإن الله جل ثناؤه ذكر أقواما فقال: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم
نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا *
استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، فهل
ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا)
فلما ورد الكتاب إلى نصر تعاظمه أمره، وكسر له إحدى عينيه، وقال: إن لهذا
الكتاب لأخوات، وكتب إلى مروان يستصرخه، وإلى يزيد بن هبيرة يستنجده،
فقعدا عنه حتى أفضى ذلك إلى خروج الامر عن بنى عبد شمس.
* * *
الرضى الموسوي رحمه الله تعالى:
سأمضي للتي لا عيب فيها * وإن لم أستفد إلا عناء (4)

(1) انتحت: قصدت.
(2) شحيذة: مسنونة.
(3) سورة فاطر 42، 43.
(4) ديوانه لوحة 75 - 76
280

وأطلب غاية إن طوحت بي * أصابت بي الحمام أو العلاء
نماني من أباة الضيم آب (1) * أفاض على تلك الكبرياء
ومنا كل أغلب مستميت * إذا أنت لددته بالذل قاء (2)
إذا ما ضيم نمر صفحتيه * وقام على براثنه إباء (3)
ونأبى أن ينال النصف منا * وأن نعطي مقارعنا السواء
ولو كان العداء يسوغ فينا * لما سمنا الورى إلا العداء
وله:
سيقطعك المهند ما تمنى * ويعطيك المثقف ما تشاء (4)
وما ينجي من الغمرات إلا * طعان أو ضراب أو رماء
* * *
ومن أهل الاباء الذين كرهوا الدنية واختاروا عليها المنية، عبد الله بن الزبير،
تفرق عنه - لما حاربه الحجاج بمكة، وحصره في الحرم - عامة أصحابه، وخرج كثير منهم إلى
الحجاج في الأمان، حتى حمزة وخبيب ابناه، فدخل عبد الله على أمه أسماء بنت أبي بكر
الصديق، وكانت قد كف بصرها، وهي عجوز كبيرة، فقال لها: خذلني الناس حتى
ولدى وأهلي، ولم يبق معي إلا من ليس عنده من الدفع أكثر من ساعة، والقوم يعطونني
من الدنيا ما سألت، فما رأيك؟ فقالت: أنت يا بنى أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك
على حق وإليه تدعو فامض له، فقد قتل أكثر أصحابك، فلا تمكن من رقبتك
يتلاعب بها غلمان بنى أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت! أهلكت

(1) الديوان: (تام).
(2) الأغلب: الشجاع، وأصله في الأسد.
(3) الصفحتان: جانبا العنق، ونمرهما: جعلهما يشبهان صفحة النمر.
(4) ديوانه لوحة 176
281

نفسك، وأهلكت من قتل معك، وإن كنت قاتلت على الحق، فما وهن
أصحابك إلا ضعفت، فليس هذا فعل الأحرار ولا أهل الدين. وكم خلودك في الدنيا!
القتل أحسن.
فدنا عبد الله منها فقبل رأسها، وقال: هذا والله رأيي، والله ما ركنت إلى الدنيا
ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله تعالى عز وجل أن
تستحل محارمه، ولكنني أحببت أن أعلم رأيك، فقد زدتني بصيرة، فانظري يا أماه،
إني مقتول يومى هذا، فلا يشتد جزعك، وسلمى لأمر الله، فإن ابنك لم يتعمد إتيان
منكر، ولا عملا بفاحشة، ولم يجر في حكم الله، ولم يظلم مسلما ولا معاهدا، ولا بلغني ظلم
عن عامل من عمالي فرضيت به بل أنكرته، ولم يكن شئ عندي آثر من رضا الله.
اللهم إني لا أقول هذا تزكية لنفسي، أنت أعلم بي، ولكني أقوله تعزية لأمي لتسلو عنى.
فقالت: إني لأرجو من الله أن يكون عزائي فيك حسنا إن تقدمتني، فأخرج لأنظر
إلى ماذا يصير أمرك! فقال: جزاك الله خيرا يا أمي! فلا تدعى الدعاء لي حيا وميتا.
قالت: لا أدعه أبدا، فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق، ثم قالت: اللهم ارحم
طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النحيب في الظلماء، وذلك الصوم في هواجر
مكة والمدينة، وبره بأبيه وبي، اللهم إني قد أسلمت لأمرك، ورضيت بما قضيت فيه،
فأثبني عليه ثواب الصابرين.
وقد روى في قصة عبد الله مع أمه أسماء رواية أخرى، أنه لما دخل عليها وعليه الدرع
والمغفر - وهي عمياء لا تبصر - وقف فسلم، ثم دنا فتناول يدها فقبلها، قالت: هذا
وداع فلا تبعد، فقال: نعم، إنما جئت مودعا، إني لأرى هذا اليوم آخر أيامي من
الدنيا، واعلمي يا أمي أنى إذا قتلت فإنما أنا لحم لا يضرني ما صنع بي، فقالت: صدقت يا بنى!
أقم على بصيرتك، ولا تمكن ابن أبي عقيل منك، ادن منى لأودعك، فدنا منها فقبلته
282

وعانقته، فوجدت مس الدرع، فقالت: ما هذا صنع من يريد ما تريد. فقال: إنما لبسته
لأشد منك، قالت: إنه لا يشد منى، ثم انصرف عنها، وهو يقول:
إني إذا أعرف يومى أصبر * إذ بعضهم يعرف ثم ينكر
وأقام أهل الشام على كل باب من أبواب الحرم (1) رجالا وقائدا، فكان لأهل حمص
الباب الذي يواجه باب الكعبة، ولأهل دمشق باب بنى شيبة، ولأهل الأردن باب
الصفا، ولأهل فلسطين باب جمع، ولأهل قنسرين باب بنى سهم. وخرج ابن الزبير
فمرة يحمل هاهنا ومرة يحمل هاهنا، وكأنه أسد لا يقدم عليه الرجال، وأرسلت إليه زوجته:
أأخرج فأقاتل معك؟ فقال: لا، وأنشد:
كتب القتل والقتال علينا * وعلى المحصنات جر الذيول (2)
فلما كان الليل، قام يصلى إلى قريب السحر ثم أغفى محتبيا بحمائل سيفه، ثم قام
فتوضأ وصلى، وقرأ (ن والقلم وما يسطرون)، ثم قال بعد انقضاء صلاته: من كان عنى
سائلا فإني في الرعيل الأول، ثم أنشد:
ولست بمبتاع الحياة بسبة * ولا مرتق من خشية الموت سلما (3)
ثم حمل حتى بلغ الحجون، فرمى بأجرة، فأصابت وجهه فدمي، فلما وجد سخونة
الدم يسيل على وجهه، أنشد:
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا * ولكن على أقدامنا تقطر الدما (3)
ثم حمل على أهل الشام فغاص فيهم، واعتوروه بأسيافهم حتى سقط، وجاء الحجاج

(1) كذا في ج، وهو الصواب، وفي ب: (مكة)
(2) ينسب إلى عمر بن أبي ربيعة، ملحق ديوانه 498.
(3) للحصين بن الحمام المري، من مفضليته ص 64 - 69
283

فوقف عليه وهو ميت، ومعه طارق بن عمرو، فقال: ما ولدت النساء أذكر من هذا!
وبعث برأسه إلى المدينة، فنصب بها، ثم حمل إلى عبد الملك.
* * *
أبو الطيب المتنبي:
أطاعن خيلا من فوارسها الدهر * وحيدا وما قولي كذا ومعي الصبر! (1)
وأشجع منى كل يوم سلامتي * وما ثبتت إلا وفي نفسها أمر
تمرست بالآفات حتى تركتها * تقول: أمات الموت؟ أم ذعر الذعر؟
وأقدمت إقدام الأبي كأن لي * سوى مهجتي أو كان لي عندها وتر (2)
ذر النفس تأخذ حظها قبل بينها * فمفترق جاران دارهما العمر!
ولا تحسبن المجد زقا وقينة * فما المجد إلا السيف والفتكة البكر (3)
وتضريب هامات الملوك وأن ترى * لك الهبوات السود والعسكر المجر (4)
وتركك في الدنيا دويا كأنما * تداول سمع المرء أنمله العشر
* * *
وقال ابن حيوس:
ولست كمن أخنى عليه زمانه * فظل على أحداثه يتعتب (5)
تلذ له الشكوى وإن لم يفد بها * صلاحا كما يلتذ بالحك أجرب
ولكنني أحمى ذماري بعزمة * تنوب مناب السيف والسيف مقضب (6)

(1) ديوانه 1: 148
(2) في الديوان: (إقدام الآتي)، والآتي: السيل الذي لا يرده شئ.
(3) القينة: المغنية والزق: ظرف الخمر. والفتكة البكر: التي لم يسبق إلى مثلها.
(4) الهبوات: جمع هبوة، وهي الغيرة العظيمة. والمجر: الجيش العظيم.
(5) ديوانه 1: 35.
(6) المقضب: السيف القطاع.
284

وليس الفتى من لم تسم جسمه الظبا * ويحطم فيه من قنا الخط أكعب (1)
وله أيضا:
أخفق المترف الجنوح إلى الخفض * وفاز المخاطر المقدام (2)
وإذا ما السيوف لم تشهد الحرب * فسيان صارم وكهام
* * *
وممن تقبل مذاهب الأسلاف في إباء الضيم وكراهية الذل، واختار القتل على ذلك
وأن يموت كريما، أبو الحسين زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام،
أمه أم ولد، وكان السبب في خروجه وخلعه طاعة بنى مروان، أنه كان يخاصم عبد الله بن
حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام في صدقات علي عليه السلام، هذا
يخاصم عن بنى حسين، وهذا عن بنى حسن، فتنازعا يوما عند خالد بن عبد الملك بن
الحارث بن الحكم أمير المدينة، فأغلظ كل واحد منهما لصاحبه، فسر خالد بن عبد الملك
بذلك، وأعجبه سبابهما، وقال لهما حين سكنا: اغدوا على، فلست بابن عبد الملك إن
لم أفصل بينكما غدا، فباتت المدينة تغلي كالمرجل، فمن قائل يقول: قال زيد كذا،
وقائل يقول: قال عبد الله كذا، فلما كان الغد جلس خالد في المسجد، وجمع الناس، فمن
بين شامت، ومغموم، ودعا بهما وهو يحب أن يتشاتما، فذهب عبد الله يتكلم، فقال زيد:
لا تعجل يا أبا محمد، أعتق زيد ما يملك إن خاصمك إلى خالد أبدا، ثم أقبل على خالد،
فقال له: أجمعت ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله لأمر ما كان يجمعهم عليه أبو بكر
ولا عمر، فقال خالد: أما لهذا السفيه أحد يكلمه!
فتكلم رجل من الأنصار من آل عمرو بن حزم، فقال: يا بن أبي تراب، ويا بن

(1) الديوان: (تسم جسمه).
(2) ديوانه 2: 566
285

حسين السفيه! أما ترى عليك لوال حقا ولا طاعة! فقال زيد: اسكت أيها القحطاني،
فإنا لا نجيب مثلك، فقال الأنصاري: ولم ترغب عنى! فوالله إني لخير منك، وأبى خير
من أبيك، وأمي خير من أمك! فتضاحك زيد، وقال: يا معشر قريش، هذا الدين قد
ذهب، أفذهبت الأحساب! فتكلم عبد الله بن واقد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب،
فقال: كذبت أيها القحطاني، والله لهو خير منك نفسا وأبا وأما ومحتدا، وتناوله بكلام
كثير، وأخذ كفا من الحصا، فضرب به الأرض، وقال: إنه والله ما لنا على هذا من
صبر، وقام.
فقام زيد أيضا، وشخص من فوره إلى هشام بن عبد الملك، فجعل هشام لا يأذن له
وزيد يرفع إليه القصص، وكلما رفع إليه قصة كتب هشام في أسفلها: ارجع إلى أرضك،
فيقول زيد: والله لا أرجع إلى ابن الحارث أبدا. ثم أذن له بعد حبس طويل وهشام
في علية له، فرقى زيد إليها، وقد أمر هشام خادما له أن يتبعه حيث لا يراه زيد، ويسمع
ما يقول. فصعد زيد - وكان بادنا - فوقف في بعض الدرجة، فسمعه الخادم، وهو
يقول: ما أحب الحياة إلا من ذل! فأخبر الخادم هشاما بذلك، فلما قعد زيد بين يدي
هشام وحدثه حلف له على شئ، فقال هشام: لا أصدقك، فقال زيد: إن الله لا يرفع
أحدا عن أن يرضى بالله، ولم يضع أحدا عن أن يرضى بذلك منه. قال له هشام: إنه
بلغني أنك تذكر الخلافة وتتمناها، ولست هناك! لأنك ابن أمة، فقال زيد: إن لك
جوابا، قال: تكلم، قال: إنه ليس أحد أولى بالله، ولا أرفع درجة عنده من نبي
ابتعثه، وهو إسماعيل بن إبراهيم، وهو ابن أمة، قد اختاره الله لنبوته، وأخرج منه خير
البشر، فقال هشام: فما يصنع أخوك البقرة! فغضب زيد، حتى كاد يخرج من إهابه،
ثم قال: سماه رسول الله صلى الله عليه وآله الباقر وتسميه أنت البقرة! لشد ما اختلفتما!
لتخالفنه في الآخرة، كما خالفته في الدنيا، فيرد الجنة، وترد النار.
286

فقال هشام: خذوا بيد هذا الأحمق المائق، فأخرجوه، فأخذ الغلمان بيده فأقاموه،
فقال هشام: احملوا هذا الخائن الأهوج إلى عامله، فقال زيد: والله لئن حملتني إليه
لا أجتمع أنا وأنت حيين، وليموتن الأعجل منا. فأخرج زيد وأشخص إلى المدينة، ومعه
نفر يسيرونه حتى طردوه عن حدود الشام، فلما فارقوه عدل إلى العراق، ودخل الكوفة،
وبايع لنفسه، فأعطاه البيعة أكثر أهلها، والعامل عليها وعلى العراق يومئذ يوسف بن
عمر الثقفي، فكان بينهما من الحرب ما هو مذكور في كتب التواريخ. وخذل أهل
الكوفة زيدا، وتخلف معه ممن تابعه نفر يسير، وأبلى بنفسه بلاء حسنا وجهادا عظيما،
حتى أتاه سهم غرب (1)، فأصاب جانب جبهته اليسرى، فثبت في دماغه فحين نزع منه
مات عليه السلام.
* * *
عنف محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عليه السلام زيدا لما خرج، وحذره القتل،
وقال له: إن أهل العراق خذلوا أباك عليا وحسنا وحسينا عليهم السلام، وإنك مقتول،
وإنهم خاذلوك، فلم يثن ذلك عزمه وتمثل.
بكرت تخوفني الحتوف كأنني * أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل (2)
فأجبتها إن المنية منهل * لابد أن أسقى بذاك المنهل
إن المنية لو تمثل مثلت * مثلي، إذا نزلوا بضيق المنزل (3)
فاقني حياءك لا أبالك واعلمي * أنى امرؤ سأموت إن لم أقتل (4)
* * *

(1) سهم غرب، على الإضافة: لا يدرى راميه.
(2) لعنترة، ديوانه 42، (من مجموعة العقد الثمين).
(3) في الديوان: (ضنك المنزل).
(4) أقني حياءك: الزميه.
287

العلوي البصري صاحب الزنج يقول:
وإذا تنازعني أقول لها قرى * موت الملوك على صعود المنبر
ما قد قضى سيكون فاصطبري له * ولك الأمان من الذي لم يقدر
وقال أيضا:
إني وقومي في أنساب قومهم * كمسجد الخيف في بحبوحة الخيف
ما علق السيف منا بابن عاشرة * إلا وعزمته أمضى من السيف
بعض الطالبيين:
وإنا لتصبح أسيافنا * إذا ما انتضين ليوم سفوك
منابرهن بطون الأكف * وأغمادهن رؤوس الملوك
بعض الخوارج يصف أصحابه:
وهم الأسود لدى العرين بسالة * ومن الخشوع كأنهم أحبار
يمضون قد كسروا الجفون إلى الدعا * متبسمين وفيهم استبشار
فكأنما أعداؤهم أحبابهم * فرحا إذا خطر القنا الخطار
يردون حومات الحمام وإنها * تالله عند نفوسهم لصغار
ولقد مضوا وأنا الحبيب إليهم * وهم لدي أحبه أبرار
قدر يخلفني ويمضيهم به * يا لهف كيف يفوتني المقدار!
وفي الحديث المرفوع (خلقان يحبهما الله: الشجاعة والسخاء).
* * *
كان بشر بن المعتمر من قدماء شيوخنا رحمه الله تعالى يقول بتفضيل علي عليه السلام
288

ويقول: كان أشجعهم وأسخاهم، ومنه سرى القول بالتفضيل إلى أصحابنا البغداديين
قاطبة، وفي كثير من البصريين.
دخل النضر بن راشد العبدي على امرأته في حرب الترك بخراسان في ولاية الجنيد
ابن عبد الرحمن المري في خلافة هشام بن عبد الملك، والناس يقتتلون، فقال لها: كيف
تكونين إذا أتيت بي في لبد قتيلا مضرجا بالدماء؟ فشقت جيبها، ودعت بالويل،
فقال: حسبك! لو أعولت على كل أنثى لعصيتها شوقا إلى الجنة. ثم خرج فقاتل حتى
قتل، وحمل إلى امرأته في لبد ودمه يقطر من خلاله.
* * *
قال أبو الطيب المتنبي:
إذا غامرت في شرف مروم * فلا تقنع بما دون النجوم (1)
فطعم الموت في أمر حقير * كطعم الموت في أمر عظيم
يرى الجبناء أن الجبن حزم * وتلك خديعة الطبع اللئيم
وكل شجاعة في المرء تغنى * ولا مثل الشجاعة في الحكيم
وقال:
إذا لم تجد ما يبتر العمر قاعدا * فقم واطلب الشئ الذي يبتر العمرا (2)
وقال:
أهم بشئ والليالي كأنها * تطاردني عن كونه وأطارد (3)
وحيدا من الخلان في كل بلدة * إذا عظم المطلوب قل المساعد
* * *

(1) ديوانه 4: 119
(2) ديوانه 2: 114
(3) ديوانه 1: 270
289

قيل لأبي مسلم في أيام صباه: نراك تنظر إلى السماء كثيرا كأنك تسترق السمع،
أو تنتظر نزول الوحي! قال: لا، ولكن لي همة عالية، ونفس تتطلع إلى معالي الأمور،
مع عيش كعيش الهمج والرعاع، وحال متناهية في الاتضاع. قيل: فما الذي يشفى علتك،
ويروى غلتك؟ قال: الملك، قيل: فاطلب الملك، قال: إن الملك لا يطلب هكذا.
قيل: فما تصنع وأنت تذوب حسرا (1)، وتموت كمدا؟ قال: سأجعل بعض عقلي جهلا،
وأطلب به ما لا يطلب إلا بالجهل، وأحرس بالباقي ما لا يحرس إلا بالعقل، فأعيش بين
تدبير ضدين، فإن الخمول أخو العدم، والشهرة أخت الكون.
* * *
قال ابن حيوس:
أمواتهم بالذكر كالاحياء * ولحيهم فضل على الاحياء (2)
نزلوا على حكم المروءة وامتطوا * بالبأس ظهر العزة القعساء
والعز لا يبقى لغير معود * أن يكشف الغماء بالغماء
لا تحسب الضراء ضراء إذا * أفضت بصاحبها إلى السراء
وقال:
وهي الرياسة لا تبوح بسرها * إلا لأروع لا يباح ذماره (3)
يحمى حماه قلبه ولسانه * وتذود عنه يمينه ويساره
لا العذل ناهيه، ولا الحرص الذي * أمر النفوس بشحها أماره
فليعلم الساعي ليبلغ ذا المدى * أن الطريق كثيرة أخطاره
* * *

(1) يقال حصر عليه حسرا وحسرة، أي تلهف.
(2) ديوانه 1: 12 - 19 (3) ديوانه 1: 298 - 299
290

كان ثابت قطنة في خيل عبد الله بن بسطام في فتح شكند من بلاد الترك في أيام
هشام بن عبد الملك، فاشتدت شوكة الترك، وانحاز كثير من المسلمين واستؤسر منهم
خلق، فقال ثابت: والله لا ينظر إلى بنو أمية غدا مشدودا في الحديد، أطلب الفداء،
اللهم إني كنت ضيف ابن بسطام البارحة، فاجعلني ضيفك الليلة، ثم حمل وحمل معه
جماعة، فكسرتهم الترك، فرجع أصحابه وثبت هو، فرمى برذونه فشب، وضربه
فأقدم، فصرع ثابت وارتث، فقال: اللهم إنك استجبت دعوتي وأنا الان ضيفك،
فاجعل قراي الجنة، فنزل تركي فأجهز عليه.
* * *
قال يزيد بن المهلب لابنه خالد، وقد أمره على جيش في حرب جرجان: يا بنى،
إن غلبت على الحياة فلا تغلبن على الموت، وإياك أن أراك غدا عندي مهزوما!
عن النبي صلى الله عليه وسلم: (الخير في السيف، والخير مع السيف، والخير
بالسيف)، كما يقال: المنية ولا الدنية، والنار ولا العار، والسيف ولا الحيف.
قال سيف بن ذي يزن لأنوشروان حين أعانه بوهرز الديلمي ومن معه: أيها الملك،
أين تقع ثلاثة آلاف من خمسين ألفا؟ فقال: يا أعرابي، كثير الحطب يكفيه قليل النار.
* * *
لما حبس مروان بن محمد إبراهيم الامام خرج أبو العباس السفاح، وأخوه أبو جعفر،
وعبد الوهاب ومحمد ابنا إبراهيم الامام، وعيسى وصالح وإسماعيل وعبد الله وعبد الصمد
أبناء علي بن عبد الله بن العباس، وعيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله
بن العباس، ويحيى بن جعفر بن تمام بن العباس، من الحميمة من أرض السراة، يطلبون
الكوفة، وقد كان داود بن علي بن عبد الله بن العباس وابنه موسى بن داود بالعراق،
فخرجا يطلبان الشام، فتلقاهما أبو العباس وأهل بيته بدومة الجندل، فسألهم داود عن
291

خروجهم، فأخبروه أنهم يريدون الكوفة ليظهروا بها، ويدعوا إلى البيعة
لأبي العباس. فقال: يا أبا العباس، يظهر أمرك الان بالكوفة، ومروان بن محمد
شيخ بنى أمية بحران مطل على العراق في جيوش أهل الشام والجزيرة، ويزيد بن عمر
بن هبيرة شيخ العرب بالعراق في فرسان العرب! فقال: يا عم من أحب الحياة ذل،
ثم تمثل بقول الأعشى:
فما ميتة إن متها غير عاجز * بعار إذا ما غالت النفس غولها (1)
فقال داود لابنه موسى: صدق ابن عمك، ارجع بنا معه، فإما أن نهلك
أو نموت كراما.
وكان عيسى بن موسى يقول بعد ذلك إذا ذكر خروجهم من الحميمة يريدون
الكوفة: إن ثلاثة عشر رجلا خرجوا من ديارهم وأهليهم يطلبون ما طلبنا لعظيمة
هممهم، كبيرة نفوسهم، شديدة قلوبهم.
* * *
أبو الطيب المتنبي:
وإذا كانت النفوس كبارا * تعبت في مرادها الأجسام (2)
وله:
إلى أي حين أنت في زي محرم * وحتى متى في شقوة وإلى كم! (3)
وإلا تمت تحت السيوف مكرما * تمت وتقاسي الذل غير مكرم
فثب واثقا بالله وثبة ماجد * يرى الموت في الهيجا جنى النحل في الفم

(1) ديوانه 125.
(2) ديوانه 3: 345
(3) ديوانه 4: 33
292

وقال آخر:
إن تقتلوني فأجال الرجال كما * حدثت قتل وما بالقتل من عار
وإن سلمت لوقت بعده فعسى * وكل شئ إلى حد ومقدار
* * *
خطب الحجاج فشكا سوء طاعة أهل العراق، فقام إليه جامع المحاربي، فقال:
أيها الأمير، دع ما يباعدهم منك إلى ما يقربهم إليك، والتمس العافية ممن دونك تعطها
ممن فوقك، فلو أحبوك لأطاعوك، إنهم ما شنئوك بنسبك ولا لبأسك، ولكن لايقاعك
بعد وعيدك، ووعيدك بعد وعدك.
فقال الحجاج: ما أراني أرد بنى اللكيعة (1) إلى طاعتي إلا بالسيف، فقال جامع:
أيها الأمير، إن السيف إذا لاقى السيف ذهب الخيار، فقال الحجاج: الخيار يومئذ لله،
فقال: أجل، ولكنك لا تدرى لمن يجعله الله، فقال: يا هناه، إيها فإنك من محارب،
فقال جامع:
وللحرب سمينا فكنا محاربا * إذا ما القنا أمسى من الطعن أحمرا
* * *
ومن الشعر الجيد في تحسين الاباء والحمية والتحريض على النهوض والحرب وطلب
الملك والرياسة، قصيدة عمارة اليمنى شاعر المصريين في فخر الدين توران شاه بن أيوب،
التي يغريه فيها بالنهوض إلى اليمن، والاستيلاء على ملكها، وصادفت هذه القصيدة
محلا قابلا، وملك توران شاه اليمن بما هزت هذه القصيدة من عطفه، وحركت من
عزمه، وأولها:

(1) الكيعة: الأمة اللئيمة.
293

العلم مذ كان محتاج إلى العلم * وشفرة السيف تستغنى عن القلم (1)
وخير خيلك إن غامرت في شرف * عزم يفرق بين الساق والقدم
إن المعالي عروس غير واصلة * ما لم تخلق رادءيها بنضح دم
ترى مسامع فخر الدين تسمع ما * أملاه خاطر أفكاري على قلمي
فإن أصبت فلي حظ المصيب وإن * أخطأت قصدك فاعذرني ولا تلم
كم تترك البيض في الأجفان ظامئة * إلى الموارد في الأعناق والقمم
ومقلة المجد نحو العزم شاخصة * فاترك قعودك عن إدراكها وقم
فعمك الملك المنصور سومها * من الفرات إلى مصر بلا سأم
واخلق لنفسك أمرا لا تضاف به * إلى سواك، وأور النار في العلم
وانه المشيرين إن لجت نصيحتهم * أولا، فأنعم على العميان بالصمم
واعزم وصمم فقد طالت وقد سمجت * قضية لفظتها ألسن الأمم
فرب أمر يهاب الناس غايته * والامر أهون فيه من يد لفم
فكيف إن نهضت فيما هممت به * أسد تسير من الخطى في أجم
لا يدرك المجد إلا كل مقتحم * في موج ملتطم أو فوج مضطرم
لا ينقض الخطوة الأولى بثانية * ولا يفكر في العقبى من الندم
كأنما السيف أفتاه بقتلهم * في فتح مكة حل القتل في الحرم
ولم يراعوا لعثمان ولا عمر * ولا الحسين ذمام الأشهر الحرم
فما تروم سوى فتح صوارمه * يضحكن في كل يوم عابس البهم
حتى كأن لسان السيف في يده * يروى الشريعة عن عاد وعن إرم

(1) النكت العصرية 352.
294

هذا ابن تومرت قد كانت بدايته * فيما يقول الورى لحما على وضم
وقد ترقى إلى أن صار طالعه * من الكواكب بالأنفاس والكظم
وكان أول هذا الدين من رجل * سعى إلى أن دعوه سيد الأمم
- كذب، لم يظهر الدين الحنيف المقدس على الأديان بسعي البشر، بل بالتأييد الإلهي،
والسر الرباني، صلوات الله وسلامه على القائم به، والمتحمل له -
والبدر يبدو هلالا ثم يكشف * بالأنوار ما سترته شملة الظلم
والغيث فهو كما قد قيل أوله * قطر وبدء خراب السد بالعرم
تنمو قوى الشئ بالتدريج إن رزقت * لطفا ويقوى شرار النار بالضرم
حاسب ضميرك عن رأى أتاك وقل * نصيحة وردت من غير متهم
أقسمت ما أنت ممن جل همته * ما راق من نعم أورق من نعم
وإنما أنت مرجو لواحدة * بنى بها الدهر مجدا غير منهدم
كأنني بالليالي وهي هاتفة * قد صم سمع رجال دونها وعمى
وبالعلا كلما لاقتك قائلة * أهلا بمنشر آمالي من الرمم
* * *
ومن أباه الضيم الذين اختاروا القتل على الأسر، والموت على الدنية، مصعب بن
الزبير، كان أمير العراقين من قبل عبد الله بن الزبير، وكان قد كسر جيوش عبد الملك
مرارا، وأعياه أمره، فخرج إليه من الشام بنفسه، فليم في ذلك، وقيل له: إنك تغرر
بنفسك وخلافتك، فقال: إنه لا يقوم لحرب مصعب غيري، هذا أمر يحتاج إلى أن يقوم
به شجاع ذو رأى، وربما بعثت شجاعا ولا رأى له، أو ذا رأى ولا شجاعة عنده،
وأنا بصير بالحرب، شجاع بالسيف، فلما أجمع على الخروج إلى حرب مصعب، جاءته
295

امرأته عاتكة بنت يزيد بن معاوية، فالتزمته، وبكت لفراقه، وبكى جواريها حولها،
فقال عبد الملك: قاتل الله ابن أبي جمعة (1) كأنه شاهد هذه الصورة حيث يقول:
إذا هم بالأعداء لم يثن عزمه * حصان عليها نظم در يزينها
نهته فلما لم تر النهى عاقه * بكت فبكى مما عراها قطينها
فسار عبد الملك حتى إذا كان بمسكن من إرض العراق، وقد دنا منه عسكر
مصعب، تقاعد بمصعب أصحابه وقواده وخذلوه، فقال لابنه عيسى: الحق بمكة فانج
بنفسك، وأخبر عمك عبد الله بما صنع أهل العراق بي، ودعني فإني مقتول، فقال:
لا تتحدث نساء قريش أنى فررت عنك، ولكن أقاتل دونك حتى نقتل، فالفرار عار،
ولا عار في القتل، ثم قاتل دونه حتى قتل. وخف من يحامي عن مصعب من أهل
العراق، وأيقن بالقتل، فأنفذ عبد الملك إليه أخاه محمد بن مروان، فأعطاه الأمان وولاية
العراقين أبدا ما دام حيا، وألفى ألف درهم صلة، فأبى وقال: إن مثلي لا ينصرف عن هذا
المكان إلا غالبا أو مقتولا، فشد عليه أهل الشام ورموه بالنبل فأثخنوه، وطعنه زائدة
بن قيس بن قدامة السعدي، ونادى: يا لثارات المختار! فوقع إلى الأرض، فنزل إليه
عبد الملك بن زياد بن ظبيان، فاحتز رأسه، وحمله إلى عبد الملك.
لما حمل رأس مصعب إلى عبد الملك بكى وقال: لقد كان أحب الناس إلى وأشدهم
مودة لي، ولكن الملك عقيم.
كتب مصعب إلى سكينة بنت الحسين عليه السلام، وكانت زوجته لما شخص إلى
حرب عبد الملك وهي بالكوفة بعد ليال من فراقها:
وكان عزيزا أن أبيت وبيننا * حجاب فقد أصبحت منى على عشر

(1) هو كثير بن عبد الرحمن بن أبي جمعة.
296

وأبكاهما والله للعين فاعلمي * إذا ازددت مثليها فصرت على شهر
وأنكى لقلبي منهما اليوم أنني * أخاف بألا نلتقي آخر الدهر
ثم أرسل إليها وأشخصها، فشهدت معه حرب عبد الملك، فدخل عليها يوم قتل،
وقد نزع ثيابه ثم لبس غلالة، وتوشح بثوب واحد، وهو محتضن سيفه، فعلمت أنه غير
راجع، فصاحت: وا حزناه عليك يا مصعب! فالتفت إليها، وقال: إن كل هذا في
قلبك! قالت: وما أخفى أكثر. قال: لو كنت أعلم هذا لكان لي ولك شأن، ثم
خرج فلم يرجع.
فقال عبد الملك يوما لجلسائه: من أشجع الناس؟ فقالوا: قطري، شبيب، فلان وفلان،
قال عبد الملك: بل رجل جمع بين سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة، وأمة الحميد
بنت عبد الله بن عامر بن كريز، وقلابة ابنة زبان بن أنيف الكلبي سيد العرب، وولى
العراقين خمس سنين، فأصاب كذا وكذا ألف درهم، وأعطى الأمان على ذلك كله وعلى
ولايته وماله فأبى، ومشى بسيفه إلى الموت حتى قتل، ذاك مصعب بن الزبير، لا من
قطع الجسور مرة هاهنا ومرة هاهنا!
سئل سالم بن عبد الله بن، عمر أي ابني الزبير أشجع؟ فقال: كلاهما جاءه الموت،
وهو ينظر إليه
لما وضع رأس مصعب بين يدي عبد الملك أنشد:
لقد أردى الفوارس يوم حسي * غلاما غير مناع المتاع (1)
ولا فرح بخير إن أتاه * ولا هلع من الحدثان لاع
ولا وقافة والخيل تردى * ولا خال كأنبوب اليراع

(1) من أبيات نسبها ابن الشجري في أماليه 85 إلى طفيل الغنوي.
297

كان ابن ظبيان، يقول: ما ندمت على شئ ندمي على ألا أكون لما حملت إلى
عبد الملك رأس مصعب فسجد قتلته في سجدته، فأكون قد قتلت ملكي العرب
في يوم واحد.
قال رجل لعبد الله بن ظبيان: بماذا تحتج عند الله عز وجل غدا، وقد قتلت مصعبا؟
قال: إن تركت أحتج كنت أخطب من صعصعة بن صوحان!
كان مصعب لما خرج إلى حرب عبد الملك سأل عن الحسين بن علي عليه السلام، وكيف
كان قتله؟ فجعل عروة بن المغيرة يحدث عن ذلك، فقال متمثلا بقول سليمان بن قتة:
وإن الألى بالطف من آل هاشم * تأسوا فسنوا للكرام التأسيا (1)
قال عروة: فعلمت أن مصعبا لا يفر
لما كان يوم السبخة، وعسكر الحجاج بإزاء شبيب، قال له الناس: أيها الأمير،
لو تنحيت عن هذه السبخة، فإنها منتنة الريح! قال ما تنحوني - والله - إليه أنتن، وهل
ترك مصعب لكريم مفرا! ثم أنشد قول الكلحبة:
إذا المرء لم يغش الكريهة أوشكت * حبال الهوينى بالفتى أن تقطعا (2)
* * *
وروى أبو الفرج في كتاب،، الأغاني،، (3): خطبة عبد الله بن الزبير في قتل مصعب
برواية هي أتم مما ذكرناه نحن فيما تقدم، قال. لما أتى خبر المصعب إلى مكة، أضرب
عبد الله بن الزبير عن ذكره أياما، حتى تحدث به جميع أهل مكة في الطريق، ثم صعد
المنبر فجلس عليه مليا لا يتكلم، فنظر الناس إليه، وإن الكآبة على وجهه لبادية وإن

(1) اللسان 18: 37
(2) المفضليات 32
(3) الأغاني 17: 166 (ساسي)، عيون الأخبار 2: 240 مع اختلاف في الروايات.
298

جبينه ليرشح عرفا، فقال واحد لآخر: ما له لا يتكلم؟ أتراه يهاب النطق! فوالله إنه لخطيب.
فما تراه يهاب؟ قال: أراه يريد أن يذكر قتل المصعب سيد العرب، فهو يقطع بذلك.
فابتدأ فقال: الحمد لله الذي له الخلق والامر، ملك الدنيا والآخرة، يعز من يشاء،
ويذل من يشاء، ألا إنه لا يذل من كان الحق معه وإن كان مفردا ضعيفا، ولا يعز من
كان الباطل معه، وإن كان ذا عدد وكثرة. ثم قال: أتانا خبر من العراق، بلد الغدر
والشقاق، فساءنا وسرنا، أتانا أن مصعبا قتل رحمه الله، فأما الذي أحزننا من ذلك
فأن لفراق الحميم لذعة ولوعة، يجدها حميمه عند المصيبة، ثم يرعوي ذو الرأي والدين إلى
جميل الصبر. وأما الذي سرنا منه، فأن قتله كان له شهادة، وإن الله جاعل لنا وله في
ذلك الخيرة. ألا إن أهل العراق باعوه بأقل الأثمان وأخسرها، وأسلموه إسلام النعم
المخطمة (1) فقتل، وإن قتل لقد قتل أبوه وعمه وأخوه (2)، وكانوا الخيار الصالحين،
وإنا والله ما نموت حتف آنافنا، ما نموت إلا قتلا قتلا، وقعصا (3) قعصا، بين قصد (4)
الرماح، وتحت ظلال السيوف، ليس كما تموت بنو مروان (5)، والله ما قتل منهم رجل في
جاهلية ولا إسلام، وإنما الدنيا عارية من الملك القهار الذي لا يزول سلطانه، ولا يبيد
ملكه، فإن تقبل الدنيا على لا آخذها أخذ اللئيم البطر، وإن تدبر عنى لا أبكى عليها
بكاء الخرف (6) المهتر. ثم نزل.
* * *

(1) المخطمة، من قولهم خطم البعير بالخطام إذا جعله على أنفه، والخطام: ما وضع على أنف البعير ليقتاد به.
(2) قتل أبوه عبد الله بن الزبير يوم الجمل، قتله عمرو بن جرموز في صلاته بوادي السباع. وعمه
عبد الرحمن بن العوام بن خويلد، ويقال: مات قعصا، أي أصابته ضربة أو رمية فمات في مكانه.
(4) القصدة: القطعة مما يكسر، وجمعه قصد.
(5) كذا في جميع الأصول، ويرى السيد جاسم أنها (بنو أبى العاص).
(6) الخرف: من فسد عقله من الكبر، وكذلك المهتر.
299

وقال الطرماح بن حكيم، وكان يرى رأى الخوارج:
وإني لمقتاد جوادي فقاذف * به وبنفسي اليوم إحدى المتالف (1)
لأكسب مالا أو أأوب إلى غنى * من الله يكفيني عداة الخلائف (2)
فيا رب إن حانت وفاتي فلا تكن * على شرجع يعلى بخضر المطارف (3)
ولكن قبري بطن نسر مقيله * بجو السماء في نسور عواكف
وأمسى شهيدا ثاويا في عصابة * يصابون في فج من الأرض خائف
فوارس أشتات يؤلف بينهم * هدى الله نزالون عند المواقف
قال ابن شبرمة: مررت يوما في بعض شوارع الكوفة، فإذا بنعش حوله رجال،
وعليه مطرف خز أخضر، فسألت عنه فقيل: الطرماح، فعلمت أن الله تعالى لم يستحب له.
* * *
وقال محمد بن هانئ:
ولم أجد الانسان إلا ابن سعيه * فمن كان أسعى كان بالمجد أجدرا (4)
وبالهمة العلياء ترقى إلى العلا * فمن كان أعلى همة كان أظهرا
ولم يتأخر من أراد تقدما * ولم يتقدم من أراد تأخرا
الرضى الموسوي رحمه الله تعالى:
ومن أخرته نفسه مات عاجزا * ومن قدمته نفسه مات سيدا (5)

(1) ديوانه 155 والأغاني 12: 44، والشعر والشعراء 570 والقود: نقيض السوق، فهو من أمام
(2) الخلائف: جمع خليفة، وهو السلطان.
(3) الشرجع: النعش. وفي الديوان: (إذا العرش إن حانت).
(4) ديوانه 362
(5) ديوانه 127 (طبعة نخبة الاخبار).
300

وله رحمه الله:
ما مقامي على الهوان وعندي * مقول صارم وأنف حمى (1)
وإباء محلق بي عن الضيم كما زاغ طائر وحشي
أبو الطيب المتنبي:
تقولين ما في الناس مثلك عاشق * جدي مثل من أحببته تجدي مثلي (2)
محب كنى بالبيض عن مرهفاته * وبالحسن في أجسامهن عن الصقل (3)
وبالسمر عن سمر القنا غير أنني * جناها أحبائي وأطرافها رسلي
عدمت فؤادا لم يبت فيه فضلة * لغير ثنايا الغر والحدق النجل
تريدين إدراك المعالي رخيصة * ولا بد دون الشهد من إبر النحل
ابن الهبارية: الهمم العلية، والمهج الأبية تقرب المنية، منك أو الأمنية.
* * *
أبو تمام:
فتى النكبات من يأوى إذا ما * قطفن به إلى خلق وساع (4)
يثير عجاجة في كل فج * يهيم بها عدى بن الرقاع (5)
يخوض مع السباع الماء حتى * لتحسبه السباع (6)

(1) ديوانه 546 (مطبعة نخبة الاخبار).
(2) ديوانه 3: 289 مع اختلاف في الرواية.
(3) البيض: النساء. والمرهفات: السيوف.
(4) ديوانه 2: 336.
(5) يشير إلى ما ذكره عدى بن الرقاع في حمار وأتان:
يتنازعان من الغبار ملاءة * في الأرض منشؤها، هما نسجاها
تطوى إذا فرعا بلادا حزنة * وإذا أصابا سهلة نشراها
(6) رواية الديوان: (أبن مع السباع الماء حتى).
301

من السباع فلب العزم إن حاولت يوما * بأن تستطيع غير المستطاع
فلم تركب كناجية المهاري * ولم تركب همومك كالزماع
وله أيضا:
إن خيرا مما رأيت من الصفح عن النائبات والاغماض (1)
غربة تقتدي بغربة قيس بن زهير والحارث بن مضاض (2)
غرضي نكبتين ما فتلا رأيا * فخافا عليه نكث انتقاض
من أبن البيوت أصبح في ثوب * من العيش ليس بالفضفاض (3)
صلتان أعداؤه حيث حلوا * في حديث من ذكره مستفاض (4)
والفتى من تعرقته الليالي * والفيافي، كالحية النضناض (5)
كل يوم له بصرف الليالي * فتكة مثل فتكة البراض (6)
وله أيضا:
إن تريني ترى حساما صقيلا * مشرفيا من السيوف الحداد
ثاني الليل ثالث البيد والسير * نديم النجوم ترب السهاد
أخذ هذا اللفظ أبو عبادة البحتري فقال:
يا نديمي بالسواجير من شمس بن عمرو وبحتر بن عتود (7)

(1) ديوانه 2: 309
(2) قيس بن زهير العبسي، بعد حربه ذبيان تنقل في البلاد، وفي آخر عمره لقيه رجل فسأله عن خبره
فلما علم أنه قاتل حذيفة وحمل ابني بدر قتله. والحارث بن مضاض الجرهمي، كان رئيسا بمكة أيام كان بها
قومه، ويقال: إن خزاعة أجلتهم عنها، وهو القاتل:
كأن لم يكن بين الحجون إلى * الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر
(3) يقال: أبن بالموضع إذا أقام به.
(4) الصلتان: الماضي في أمره.
(5) الحية: المضاض: التي لا تستقر في مكان. تعدقته الليالي: أخذت ما عليه من اللحم.
(6) البراض بن قيس الكناني، قتل عروة الرحال في غير حرب، فجر ذلك حرب الفجار بين قيس وكنانة.
(7) ديوانه 1: 205. وفي الديوان: (ود بن معن)
302

اطلبا ثالثا سواي فإني * رابع العيس والدجى والبيد
لست بالعاجز الضعيف ولا القائل * يوما إن الغنى بالجدود
وإذا استصعبت مقادة أمر * سهلته أيدي المهارى القود
* * *
وقال الرضى رحمه الله تعالى:
ولم أر كالرجاء اليوم شيئا * تذل له الجماجم والرقاب (1)
وبعض العدم مأثرة وفخر * وبعض المال منقصة وعاب
بناني والعنان إذا نبت بي * ربا أرض، ورجلي والركاب
وقد عرفت توقلي الليالي * كما عرفت توقلي العقاب (2)
لأمنع جانبا وأفيد عزا * وعز الموت ما عز الجناب
إذا هول دعاك فلا تهبه * فلم يبق الذين أبوا وهابوا
كليب عافصته يد وأودى * عتيبة يوم أقعصه ذؤاب (3)
سواء من أقل الترب منا * ومن وارى معالمه التراب
وإن مزايل العيش اعتباطا * مساو للذين بقوا وشابوا
وأولنا العناء إذا طلعنا * إلى الدنيا، وآخرنا الذهاب
إلى كم ذا التردد في الأماني * وكم يلوي بناظري السراب!
ولا نقع يثار ولا قتام * ولا طعن يشب ولا ضراب

(1) ديوانه لوحة 79
(2) التوقل: الصعود. والعقاب: جمع عقبة، وهي المرتقى الصعب في الجبل ونحوه.
(3) عافصته: صرعته، وكليب هو كليب وائل، وأراد باليد جساس بن مرة الذي قتله. وأودى:
هلك. وعتية هو ابن الحارث بن شهاب كان فارس بنى تميم قتله ذؤاب بن ربيعة الأسدي. وأقعصه: قتله قتلا سريعا.
303

ولا خيل معقدة النواصي * يموج على شكائمها اللعاب
عليها كل ملتهب الحواشي * يصيب من العدو ولا يصاب
سأخطبها بحد السيف فعلا * إذا لم يغن قول أو خطاب
وآخذها وإن رغمت أنوف * مغالبة وإن ذلت رقاب
* * *
قعد سليمان بن عبد الملك يعرض ويفرض، فأقبل فتى من بنى عبس وسيم، فأعجبه،
فقال: ما اسمك؟ قال: سليمان، قال: ابن من؟ قال: ابن عبد الملك، فأعرض عنه،
وجعل يفرض لمن دونه، فعلم الفتى أنه كره موافقة اسمه واسم أبيه، فقال: يا أمير المؤمنين
لا عدمت اسمك، ولا شقي اسم يوافق اسمك؟ فافرض، فإنما أنا سيف بيدك، إن
ضربت به قطعت، وإن أمرتني أطعت، وسهم في كنانتك، أشتد إن أرسلت، وأنفذ
حيث وجهت. فقال له سليمان، وهو يروزه (1) ويختبره: ما قولك يا فتى، لو لقيت
عدوا؟ قال: أقول: حسبي الله ونعم الوكيل. قال سليمان: أكنت مكتفيا بهذا لو لقيت
عدوك دون ضرب شديد! قال الفتى: إنما سألتني يا أمير المؤمنين: ما أنت قائل
فأخبرتك، ولو سألتني: ما أنت فاعل لأنبأتك، إنه لو كان ذلك لضربت بالسيف حتى
يتعقف، ولطعنت بالرمح حتى يتقصف، ولعلمت إن ألمت فإنهم يألمون، ولرجوت من
الله ما لا يرجون. فأعجب سليمان به وألحقه في العطاء بالاشراف، وتمثل:
إذا ما اتقى الله الفتى ثم لم يكن * على أهله كلا فقد كمل الفتى

(1) يروزه: يختبره ويجربه.
304

السر تحت قوله: (ثم لم يكن على أهله كلا)، يقال في المثل: (لا تكن كلا على
أهلك فتهلك).
عدى بن زيد:
فهل من خالد إما هلكنا * وهل بالموت يا للناس عار (1)
* * *
الرضى الموسوي رحمه الله تعالى:
إذا لم يكن إلا الحمام فإنني * سأكرم نفسي عن مقال اللوائم (2)
وألبسهما حمراء تضفو ذيولها * من الدم بعدا عن لباس الملاوم
فمن قبل ما اختار ابن الأشعث عيشه * على شرف عال رفيع الدعائم
فطار ذميما قد تقلد عارها * بشر جناح يوم دير الجماجم (3)
وجاءهم يجرى البريد برأسه * ولم يغن إيغال به في الهزائم
وقد حاص من خوف الردى كل حيصة * فلم ينج والأقدار ضربة لازم (4)
وهذا يزيد بن المهلب نافرت * به الذل أعراق الجدود الأكارم (5)
فقال وقد عن الفرار أو الردى: * لحا الله أخزى ذكرة في المواسم
وما غمرات الموت إلا انغماسة * ولا ذي المنايا غير تهويم نائم

(1) شعراء النصرانية 456
(2) ديوانه لوحة 110
(3) وقعة دير الجماجم كانت بين الحجاج الثقفي وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، انتهت بمقتل ابن
الأشعث سنة 83
(4) حاص، أي حاد وذهب بعيدا.
(5) يزيد بن المهلب بن أبي صفرة، من أمراء الدولة الأموية وقوادها، قتله يزيد بن عبد الملك في
خبر مشهور سنة 102
305

رأى أن هذا السيف أهون محملا * من العار يبقى وسمه في المخاطم
وما قلد البيض المباتير عنقه * سوى الخوف من تقليدها بالأداهم
فعاف الدنايا وامتطى الموت شامخا * بمارن عز لا يذل لخاطم
وقد حلقت خوف الهوان بمصعب * قوادم آباء كرام المقادم
على حين أعطوه الأمان فعافه * وخير فاختار الردى غير نادم
وفي خدره غراء من آل طلحة * علاقة قلب للنديم المخالم (1)
تحبب أيام الحياة وإنها * لأعذب من طعم الخلود لطاعم
ففارقها والملك لما رآهما * يجران إذلال النفوس الكرائم
ولما ألاح الحوفزان من الردى * حذاه المخازي رمح قيس بن عاصم
وغادرها شنعاء إن ذكرت له * من العار طأطأ رأس خزيان واجم
كذاك منى بعد الفرار أمية * بشقشقة لو ثاء من آل دارم
وسل لها سل الحسام ابن معمر * فكر على أعقاب ناب بصارم
يردد ذكرى كل نجد وغائر * وألجم خوفي كل باع وظالم
وهددني الأعداء في المهد لم يحن * نهوضي ولم تقطع عقود تمائمي
وعندي يوم لو يزيد ومسلم * بدا لهما لاستصغرا يوم وأقم
على العز مت لا ميتة مستكينة * تزيل عن الدنيا بشم المراغم
وخاطر على الجلي خطار ابن حرة * وإن زاحم الامر العظيم فزاحم
* * *

(1) هي عائشة بنت طلحة، كانت زوجا لعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، ولما هلك تزوجها
مصعب بن الزبير، فقتل عنها، والمخالمة: المصادقة والمغازلة.
306

ومن أباة الضيم ومؤثري الموت على الحياة الذليلة محمد وإبراهيم، ابنا عبد الله
بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام. لما أحاطت عساكر عيسى
ابن موسى بمحمد وهو بالمدينة، قيل له: انج بنفسك، فإن لك خيلا مضمرة (1)
ونجائب سابقة (2)، فاقعد عليها، والتحق بمكة أو باليمن. قال: إني إذا لعبد! وخرج
إلى الحرب يباشرها بنفسه وبمواليه، فلما أمسى تلك الليلة وأيقن بالقتل، أشير عليه
بالاستتار، فقال: إذن يستعرض عيسى أهل المدينة بالسيف، فيكون لهم [يوم] كيوم الحرة،
لا والله لا أحفظ نفسي بهلاك أهل المدينة، بل أجعل دمى دون دمائهم. فبذل له عيسى الأمان
على نفسه وأهله وأمواله، فأبى ونهد (3) إلى الناس بسيفه، لا يقاربه أحد إلا قتله، لا والله
ما يبقى شيئا، وإن أشبه خلق الله به فيما ذكر هو حمزة بن عبد المطلب. ورمى بالسهام،
ودهمته الخيل، فوقف إلى ناحية جدار، وتحاماه الناس فوجد الموت، فتحامل على سيفه
فكسره، فالزيدية تزعم أنه كان سيف رسول الله صلى الله عليه وآله ذا الفقار.
وروى أبو الفرج الأصفهاني في كتاب،، مقال الطالبيين،، أن محمدا عليه السلام،
قال لأخته ذلك اليوم: إني في هذا اليوم على قتال هؤلاء، فإن زالت الشمس، وأمطرت
السماء فإني مقتول، وإن زالت الشمس ولم تمطر السماء، وهبت الريح، فإني أظفر بالقوم،
فأججي التنانير، وهيئي هذه الكتب - يعنى كتب البيعة الواردة عليه من الآفاق - فإن
زالت الشمس، ومطرت السماء فاطرحي هذه الكتب في التنانير، فإن قدرتم على بدني

(1) ضمر الخيل، إذا ربطها وأكثر ماءها وعلفها حتى تسمن، ثم قلل ماءها وعلفها مدة، ثم ركضها
في الميدان حتى تهزل، ومدة التضمير عند العرب أربعون يوما.
(2) الخيل السوابق: المجلية في الجري.
(3) يقال نهد لعدوه، إذا برز لقتاله وصمد له.
307

فخذوه، وإن لم تقدروا على رأسي فخذوا سائر بدني، فأتوا به ظلة بنى بلية (1) على مقدار
أربعة أذرع أو خمسة منها، فاحفروا لي حفيرة، وادفنوني فيها. فمطرت السماء وقت الزوال،
وقتل محمد عليه السلام، وكان عندهم مشهورا أن آية قتل النفس الزكية أن يسيل دم بالمدينة
حتى يدخل بيت عاتكة، فكانوا يعجبون كيف يسيل الدم حتى يدخل ذلك البيت!
فأمطرت السماء ذلك اليوم، وسال الدم بالمطر حتى دخل بيت عاتكة، وأخذ جسده،
فحفر له حفيرة في الموضع الذي حده لهم، فوقعوا على صخرة فأخرجوها، فإذا فيها مكتوب:
(هذا قبر الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام)، فقالت زينب أخت محمد عليه السلام:
رحم الله أخي، كان أعلم حيث أوصى أن يدفن في هذا الموضع (2).
* * *
وروى أبو الفرج، قال: قدم على المنصور قادم، فقال: هرب محمد! فقال له: كذبت!
إنا أهل البيت لا نفر.
* * *
وأما إبراهيم عليه السلام، فروى أبو الفرج عن المفضل بن محمد الضبي، قال (3):
كان إبراهيم بن عبد الله بن الحسن متواريا عندي بالبصرة، وكنت أخرج وأتركه،
فقال لي: إذا خرجت ضاق صدري، فأخرج إلى شيئا من كتبك أتفرج به، فأخرجت إليه
كتبا من الشعر، فاختار منها القصائد السبعين التي صدرت بها كتاب،، المفضليات،،،
ثم أتممت عليها باقي الكتاب.
فلما خرج خرجت، معه فلما صار بالمربد، مربد سليمان بن علي، وقف عليهم،
وأمنهم واستسقى ماء، فأتى به فشرب، فأخرج إليه صبيان من صبيانهم فضمهم إليه،

(1) مقاتل الطالبين: (بنى نبيه).
(2) مقاتل الطالبين 271، 272
(3) ورد الخبر مختصرا في مقاتل الطالبين 338، 339.
308

وقال: هؤلاء والله منا ونحن منهم، لحمنا ودمنا، ولكن آباءهم انتزوا على أمرنا، وابتزوا
حقوقنا، وسفكوا دماءنا، ثم تمثل:
مهلا بنى عمنا ظلامتنا * إن بنا سورة من الغلق (1)
لمثلكم نحمل السيوف ولا * تغمز أحسابنا من الرقق
إني لأنمى إذا انتميت إلى * عز عزيز ومعشر صدق
بيض سباط كأن أعينهم * تكحل يوم الهياج بالعلق
فقلت له: ما أجود هذه الأبيات وأفحلها! فلمن هي؟ فقال: هذه يقولها ضرار
ابن الخطاب الفهري يوم عبر الخندق على رسول الله صلى الله عليه وآله، وتمثل بها علي بن
أبي طالب يوم صفين، والحسين يوم الطف، وزيد بن علي يوم السبخة، ويحيى بن زيد
يوم الجوزجان، فتطيرت له من تمثله بأبيات لم يتمثل بها أحد إلا قتل. ثم سرنا
إلى باخمرى، فلما قرب منها أتاه نعى أخيه محمد، فتغير لونه وجرض بريقه، ثم أجهش
باكيا، وقال: اللهم إن كنت تعلم أن محمدا خرج يطلب مرضاتك، ويؤثر أن تكون
كلمتك العليا، وأمرك المتبع المطاع، فاغفر له وارحمه، وارض عنه، واجعل ما نقلته إليه
من الآخرة خيرا مما نقلته عنه من الدنيا، ثم انفجر باكيا ثم تمثل:
أبا المنازل يا خير الفوارس من * يفجع بمثلك في الدنيا فقد فجعا (2)
الله يعلم أنى لو خشيتهم * أوآنس القلب من خوف لهم فزعا
لم يقتلوك ولم أسلم أخي لهم * حتى نعيش جميعا، أو نموت معا
قال المفضل: فجعلت أعزيه وأعاتبه على ما ظهر من جزعه، فقال: إني والله في هذا،
كما قال دريد بن الصمة:

(1) من أبيات في حماسة ابن الشجري 16، والأغاني 17: 18 (ساسي)، مع اختلاف في ترتيب الأبيات
وعددها وروايتها.
(2) الأبيات لراسع بن خشرم يرثي هدبة، الأغاني 21: 177.
309

يقول ألا تبكي أخاك وقد أرى * مكان البكا، لكن بنيت على الصبر (1)
لمقتل عبد الله والهالك الذي * على الشرف الأعلى قتيل أبى بكر
وعبد يغوث تحجل الطير حوله * وجل مصابا جثو قبر على قبر
فإما ترينا لا تزال دماؤنا * لدى واتر يسعى بها آخر الدهر
فإنا للحم السيف غير نكيرة * ونلحمه طورا، وليس بذي نكر
يغار علينا واترين فيشتفى * بنا إن أصبنا أو نغير على وتر
بذاك قسمنا الدهر شطرين بيننا * فما ينقضي إلا ونحن على شطر
قال المفضل: ثم ظهرت لنا جيوش أبى جعفر مثل الجراد، فتمثل إبراهيم عليه
السلام قوله:
إن يقتلوني لا تصب أرماحهم * ثاري ويسعى القوم سعيا جاهدا
نبئت أن بنى جذيمة أجمعت * أمرا تدبره لتقتل خالدا
أرمى الطريق وإن رصدت بضيقه * وأنازل البطل الكمي الحاردا
فقلت له: من يقول هذا الشعر يا بن رسول الله؟ فقال: يقوله خالد بن جعفر
ابن كلاب يوم شعب (2) جبلة، وهذا اليوم الذي لقيت فيه قيس تميما. قال: وأقبلت عساكر
أبى جعفر، فطعن رجلا وطعنه آخر، فقلت له: أتباشر القتال بنفسك! وإنما العسكر
منوط بك، فقال: إليك يا أخا بنى ضبة، فإني لكما قال عويف القوافي:
ألمت سعاد وإلمامها * أحاديث نفس وأحلامها
محجبة من بنى مالك * تطاول في المجد أعلامها

(1) ديوان الحماسة - بشرح التبريزي 2: 309 مع اختلاف في الرواية وعدد الأبيات.
(2) لعامر وحلفائهم من عبس، على تميم وحلفائهم من ذبيان وأسد وغيرهما. الأغاني 10: 33 (ساسي).
310

وإن لنا أصل جرثومة * ترد الحوادث أيامها
ترد الكتيبة مفلولة * بها أفنها وبها ذامها
والتحمت الحرب واشتدت، فقال: يا مفضل، احكني بشئ، فذكرت أبياتا لعويف
القوافي لما كان ذكره هو من شعره، فأنشدته:
ألا إيها الناهي فزارة بعدما * أجدت لسير، إنما أنت ظالم
أبى كل حر أن يبيت بوتره * وتمنع منه النوم إذ أنت نائم
أقول لفتيان كرام تروحوا * على الجرد في أفواههن الشكائم
قفوا وقفة من يحيى لا يخز بعدها * ومن يخترم لا تتبعه اللوائم
وهل أنت إن باعدت نفسك عنهم * لتسلم فيما بعد ذلك سالم
فقال: أعد، وتبينت من وجهه أنه يستقتل، فانتهبت وقلت: أو غير ذلك؟ فقال:
لا، بل أعد الأبيات، فأعدتها، فتمطى في ركابيه فقطعهما، وحمل فغاب عنى، وأتاه سهم
عائر فقتله، وكان آخر عهدي به عليه السلام.
قلت: في هذا الخبر ما يحتاج إلى تفسير، أما قوله (1):
* إن بنا سورة من الغلق *
فالغلق: الضجر وضيق الصدر والحدة، يقال: احتد فلان فنشب في حدته وغلق.
والسورة: الوثوب، يقال: إن لغضبة لسورة، وإنه لسوار، أي وثاب معربد وسورة
الشراب: وثوبه في الرأس، وكذلك سورة السم، وسورة السلطان: سطوته واعتداؤه.
وأما قوله: (لمثلكم نحمل السيوف) فمعناه أن غيركم ليس بكفء لنا لنحمل له
السيوف وإنما نحملها لكم، لأنكم أكفاؤنا، فنحن نحاربكم على الملك والرياسة، وإن
كانت أحسابنا واحدة، وهي شريفة لا مغمز فيها.

(1) ص 109
311

والرقق، بفتح الراء: الضعف، ومنه قول الشاعر:
* لم تلق في عظمها وهنا ولا رققا *
وقوله:
* تكحل يوم الهياج بالعلق *
فالعلق الدم، يريد أن عيونهم حمر لشدة الغيظ والغضب، فكأنها
كحلت بالدم.
وقوله: (لكن بنيت على الصبر)، أي خلقت وبنيت بنية تقتضي الصبر. والشرف
الأعلى: العالي، وبنو أبى بكر بن كلاب، من قيس عيلان، ثم أحد بنى عامر بن صعصعة.
وأما قوله (1):
* إن يقتلوني لا تصب أرماحهم *
فمعناه أنهم إن قتلوني ثم حاولوا أن يصيبوا رجلا آخر مثلي يصلح أن يكون لي نظيرا،
وأن يجعل دمه بواء لدمي، وسعوا في ذلك سعيا جاهدا، فإنهم لم يجدوا ولم يقدروا عليه.
وقوله: (أرمى الطريق...) البيت، يقول أسلك الطريق الضيق، ولو جعل
على فيه الرصد لقتلى.
والحارد المنفرد في شجاعته، الذي لا مثل له.
* * *
[غلبة معاوية على الماء بصفين ثم غلبة علي عليه بعد ذلك]
فأما حديث الماء وغلب أصحاب معاوية على شريعة الفرات بصفين، فنحن نذكره
من كتاب،، صفين،، لنصر بن مزاحم.
قال نصر: كان (2) أبو الأعور السلمي على مقدمة معاوية، وكان قد ناوش مقدمة

(1) ص 310.
(2) ص 175 وما بعدها.
312

علي عليه السلام وعليها الأشتر النخعي مناوشة ليست بالعظيمة، وقد ذكرنا ذلك فيما سبق
من هذا الكتاب، وانصرف أبو الأعور عن الحرب راجعا، فسبق إلى الماء فغلب عليه
في الموضع المعروف بقناصرين (1) إلى جانب صفين، وساق الأشتر يتبعه، فوجده غالبا
على الماء، وكان في أربعة آلاف من مستبصري (2) أهل العراق، فصدموا أبا الأعور وأزالوه
عن الماء، فأقبل معاوية في جميع الفيلق بقضه وقضيضه، فلما رآهم الأشتر انحاز إلى علي عليه
السلام، وغلب معاوية وأهل الشام على الماء، وحالوا بين أهل العراق وبينه، وأقبل
علي عليه السلام في جموعه، فطلب موضعا لعسكره، وأمر الناس أن يضعوا أثقالهم، وهم
أكثر من مائة ألف فارس، فلما نزلوا تسرع فوارس من فوارس علي عليه السلام على
خيولهم إلى جهة معاوية يتطاعنون ويرمون بالسهام، ومعاوية بعد لم ينزل فناوشهم
أهل الشام القتال، فاقتتلوا هويا.
قال نصر: فحدثني عمر بن سعد، عن سعد بن طريف، عن الأصبغ بن نباتة:
فكتب معاوية إلى علي عليه السلام: عافانا الله وإياك.
ما أحسن العدل والانصاف من عمل * وأقبح الطيش ثم النفش في الرجل
وكتب بعده:
اربط حمارك لا تنزع سويته * إذا يرد وقيد العير مكروب (3)
ليست ترى السيد زيدا في نفوسهم * كما يراه بنو كوز ومرهوب
إن تسألوا الحق نعط الحق سائله * والدرع محقبة والسيف مقروب
أو تأنفون فإنا معشر أنف * لا نطعم الضيم إن السم مشروب (4)

(1) قناصرين: (موضع بالشام. (القاموس).
(2) صفين: (متبصري أهل العراق).
(3) الأبيات لعبد الله بن عنمة الضبي، وهي في المفضليات 382، مع اختلاف في الرواية.
(4) المفضليات: (لا نطعم الذل).
313

فأمر علي عليه السلام أن يوزع (1) الناس عن القتال، حتى أخذ أهل الشام مصافهم
ثم قال: أيها الناس، إن هذا موقف، من نطف (2) فيه نطف يوم القيامة، ومن فلج
فيه فلج يوم القيامة، ثم قال لما رأى نزول معاوية بصفين:
لقد أتانا كاشرا عن نابه * يهمط الناس على اعتزابه (3)
* فليأتينا الدهر بما أتى به *
قال نصر: وكتب علي عليه السلام إلى معاوية جواب كتابه، أما بعد:
فإن للحرب عراما شررا * إن عليها قائدا عشنزرا (4)
ينصف من أحجر أو تنمرا * على نواحيها مزجا زمجرا
* إذا ونينا ساعة تغشمرا (5) *
وكتب بعده.
ألم تر قومي إن دعاهم أخوهم * أجابوا، وإن يغضب على القوم يغضبوا
هم حفظوا غيبي كما كنت حافظا * لقومي أخرى مثلها إن يغيبوا
بنو الحرب لم تقعد بهم أمهاتهم * وآباؤهم آباء صدق فأنجبوا
قال: قد تراجع الناس كل من الفريقين إلى معسكرهم، وذهب شباب من الناس
إلى أن يستقوا فمنعهم أهل الشام.
* * *
قلت: في هذه الألفاظ ما ينبغي أن يشرح.

(1) يوزع الناس: يكفون. وفى صفين: (فوزعوا عن القتال حتى تأخذ أهل المصاف مصافهم).
(2) نطف: اتهم بريبة.
(3) يهمط الناس: يقهرهم.
(4) العشنزر: الشديد.
(5) تغشمر: تنمر ووثب.
314

قوله: (فاقتتلوا هويا)، بفتح الهاء، أي قطعة من الزمان، وذهب هوى من
الليل، أي فريق منه.
والنفش: كثرة الكلام والدعاوى، وأصله من نفش الصوف.
والسوية: كساء محشو بثمام ونحوه، كالبرذعة. وكرب القيد، إذا ضيقه على المقيد،
وقيد مكروب، أي ضيق، يقول: لا تنزع برذعة حمارك عنه واربطه وقيده، وإلا أعيد
إليك وقيده ضيق. وهذا مثل ضربه لعلى عليه اسلام، يأمره فيه بأن يردع جيشه عن
التسرع والعجلة في الحرب.
وزيد المذكور في الشعر، هو زيد بن حصين بن ضرار بن عمرو بن مالك بن زيد
بن كعب بن بجالة بن ذهل بن مالك بن بكر بن سعد بن ضبة بن أد بن طابخة
بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وهو المعروف بزيد الخيل، وكان فارسهم.
وبنو السيد من ضبة أيضا، وهم بنو السيد بن مالك بن بكر بن سعد بن ضبة بن أد
بن طابخة... إلى آخر النسب، وبنو السيد بنو عم زيد الفوارس، لأنه من بنى ذهل
بن مالك، وهؤلاء بنو السيد بن مالك، وبينهم عداوة النسب، يقول: إن بنى السيد
لا يرون زيدا في نفوسهم كما تراه أهله الأدنون منه نسبا، وهم بنو كوز وبنو مرهوب،
فأما بنو كوز فإنهم بنو كوز بن كعب بن بجالة بن ذهل بن مالك، وأما بنو مرهوب،
فإنهم بنو مرهوب بن عبيد بن هاجر بن كعب بن بجالة بن ذهل بن مالك، يقول: نحن
لا نعظم زيدا ولا نعتقد فيه من الفضيلة ما يعتقده أهله وبنو عمه الأدنون، والمثل لعلى
عليه السلام، أي نحن لا نرى في علي ما يراه أهل العراق من تعظيمه وتبجيله.
وقوله:
* والدرع محقبة والسيف مقروب *
أي والدرع بحالها في حقابها، وهو ما يشد به في غلافها، والسيف بحاله أي في قرابه،
315

وهو جفنه، يقال: حقبت الدرع وقربت السيف، كلاهما ثلاثيان، يقول: إن سألتم
الحق أعطيناكموه من غير حاجة إلى الحرب، بل نجيبكم إليه والدروع بحالها لم تلبس،
والسيوف في أجفانها لم تشهر.
وأما إثبات النون في (تأنفون فإن الأصوب حذفها لعطف الكلمة على المجزوم
قبلها، ولكنه استأنف ولم يعطف، كأنه قال: أو كنتم تأنفون، يقول: وإن أنفتم
وأبيتم إلا الحرب، فإنا نأنف مثلكم أيضا، لا نطعم الضيم ولا نقبله، ثم قال: إن
السم مشروب، أي أن السم قد نشربه ولا نشرب الضيم، أي نختار الموت على الضيم
والذلة. ويروى:
وإن أنفتم فإنا معشر أنف * لا نطعم الضيم إن الضيم مرهوب
والشعر لعبد الله بن عنمة الضبي، من بنى السيد، ومن جملته:
وقد أروح أمام الحي يقدمني * صافي الأديم كميت اللون منسوب (1)
محنب مثل شاة الربل محتفز * بالقصريين على أولاه مصبوب (2)
يبذ ملجمه هاد له تلع * كأنه من جذوع العين مشذوب
فذاك ذخري إذا ما خيلهم ركضت * إلى المثوب أو مقاء سرحوب (3)
فأما قوله عليه السلام: (هذا موقف من نطف فيه نطف يوم القيامة)، أي من تلطخ

(1) من هذه القطعة أبيات، نسبها أبو عبيدة في كتاب الخيل إلى يزيد بن عمرو الحنفي.
(2) المحنب من الخيل: المعطف العظام، وهو مدح في الخيل. الربل: نبت. ويحتفز: يجتهد في
مد يديه. والقصريان: ضلعان يليان الترقوتين. وقوله: (على أولاده مصبوب)، يقول: يجرى على
جريه الأول لا يحول عنه، كذا فسره صاحب اللسان (7: 303).
(3) المقاء من الخيل: الواسعة الأرفاغ. والسرحوب: الطويلة على وجه الأرض، ورواية البيت في
كتاب الخيل.
فذاك عندي إذا ما خيلهم ركبت * إلى المثوب أو شقاء سرحوب
316

فيه بعيب من فرار أو نكول عن العدو. يقال: نطف فلان بالكسر، إذا تدنس
بعيب. نطف أيضا إذا فسد، يقول: من فسدت حاله اليوم في هذا الجهاد فسدت حاله
غدا عند الله.
قوله: (من فلج فيه) بفتح اللام، أي من ظهر وفاز، وكذلك يكون غدا عند
الله، يقال فلج زيد على خصمه، بالفتح، يفلج، بضم اللام، أي ظهرت حجته
عليه، وفي المثل: من يأت الحكم وحده يفلج.
قوله: (يهمط الناس)، أي يقهرهم ويخبطهم، وأصله الاخذ بغير تقدير.
وقوله: (على اعتزابه) أي على بعده عن الامارة والولاية على الناس. والعرام،
بالضم: الشراسة والهوج. والعشنزر: الشديد القوى.
وأحجر: لم الناس حتى ألجأهم إلى أن دخلوا حجرهم أو بيوتهم. وتنمر، أي تنكر
حتى صار كالنمر، يقول: هذا القائد الشديد القوى ينصف من يظلم الناس ويتنكر لهم،
أي ينصف منه، فحذف حرف الجر كقوله: (واختار موسى قومه)، أي من قومه.
والمزج، بكسر الميم: السريع النفوذ، وأصله الرمح القصير، كالمزراق.
ورجل زمجر، أي مانع حوزته، والميم زائدة. ومن رواها (زمخرا) بالخاء، عنى
به المرتفع العالي الشأن، وجعل الميم زائدة أيضا، من زخر الوادي، أي علا وارتفع.
وغشمر السيل: أقبل، والغشمرة: إثبات الامر بغير تثبيت، يقول: إذا أبطأن
ساقهن سوقا عنيفا.
والأبيات البائية لربيعة بن مقروم الطائي.
* * *
قال نصر: حدثنا عمر بن سعد، عن يوسف بن يزيد، عن عبد الله بن عوف بن
317

الأحمر، قال: لما (1) قدمنا على معاوية وأهل الشام بصفين، وجدناهم قد نزلوا منزلا
اختاروه مستويا بساطا واسعا، وأخذوا الشريعة فهي في أيديهم، وقد صف عليها
أبو الأعور الخيل والرجالة، وقدم الرامية ومعهم أصحاب الرماح والدرق، وعلى رؤوسهم
البيض، وقد أجمعوا أن يمنعونا الماء، ففزعنا إلى أمير المؤمنين عليه السلام فأخبرناه
بذلك، فدعا صعصعة بن صوحان فقال: ائت معاوية وقل له: إنا سرنا إليك مسيرنا
هذا وأنا كره لقتالكم (2) قبل الاعذار إليكم، وإنك قدمت خيلك، فقاتلتنا قبل
أن نقاتلك، وبدأتنا بالحرب، ونحن ممن رأينا الكف حتى ندعوك ونحتج عليك،
وهذه أخرى قد فعلتموها، قد حلتم بين الناس وبين الماء، فخل بينهم وبينه حتى ننظر فيما
بيننا وبينكم، وفيما قدمنا له وقدمتم له، وإن كان أحب إليك، أن ندع ما جئنا له،
وندع الناس يقتتلون حتى يكون الغالب هو الشارب، فعلنا.
فلما مضى صعصعة برسالته إلى معاوية، قال معاوية لأصحابه: ما ترون؟ فقال الوليد
بن عقبة: أمنعهم الماء كما منعوه ابن عفان، حصروه أربعين يوما يمنعونه برد الماء ولين
الطعام، اقتلهم عطشا، قتلهم الله!
وقال عمرو بن العاص: خل بين القوم وبين الماء، فإنهم لن يعطشوا وأنت ريان،
ولكن لغير الماء فانظر فيما بينك وبينهم.
فأعاد الوليد مقالته.
وقال عبد الله بن سعيد بن أبي سرح - وكان أخا عثمان من الرضاعة -: أمنعهم الماء
إلى الليل، فإنهم إن لم يقدروا عليه رجعوا، وكان رجوعهم هزيمتهم، أمنعهم الماء منعهم

(1) كتاب صفين المنقري 179، 180.
(2) صفين: (وأنا أكره قتالكم).
318

الله يوم القيامة! فقال صعصعه بن صوحان: إنما يمنعه الله يوم القيامة الفجرة الكفرة،
شربة الخمر، ضربك وضرب (1) هذا الفاسق - يعنى الوليد بن عقبة.
فتواثبوا إليه يشتمونه ويتهددونه، فقال معاوية: كفوا عن الرجل، فإنما هو رسول.
قال عبد الله بن عوف بن أحمر: إن صعصعة لما رجع إلينا حدثنا بما قال معاوية،
وما كان منه وما رده عليه، قلنا: وما الذي رده عليك معاوية؟ قال: لما أردت الانصراف
من عنده، قلت: ما ترد على؟ قال: سيأتيكم رأيي، قال: فوالله ما راعنا إلا تسوية الرجال
والصفوف والخيل، فأرسل إلى أبى الأعور: أمنعهم الماء، فازدلفنا والله إليهم، فارتمينا
وأطعنا بالرماح، واضطربنا بالسيوف، فطال ذلك بيننا وبينهم حتى صار الماء في أيدينا،
فقلنا: لا والله لا نسقيهم. فأرسل إلينا علي عليه السلام أن خذوا من الماء حاجتكم، وارجعوا
إلى معسكركم، وخلوا بينهم وبين الماء فإن الله قد نصركم عليهم بظلمهم وبغيهم.
* * *
وروى نصر بن محمد بن عبد الله، قال: قام (2) ذلك اليوم رجل من أهل الشام من
السكون، يعرف بالشليل (3) بن عمر إلى معاوية، فقال:
اسمع اليوم ما يقول الشليل * إن قولي قول له تأويل
امنع الماء من صحاب على * أن يذوقوه، فالذليل ذليل
واقتل القوم مثل ما قتل الشيخ * صدى فالقصاص أمر جميل (4)
إننا والذي تساق له البدن * هدايا كأنهن الفيول (5)
[لو على وصحبه وردوا الماء * لما ذقتموه حتى تقولوا] (6)

(1) ضربك، أي مثلك.
(2) صفين 181 (3) صفين: (السليل).
(4) صفين: (ظما والقصاص أمر جميل).
(5) صفين: (هدايا لنحرها تأجيل).
(6) تكملة من صفين.
319

قد رضينا بأمركم وعلينا * بعد ذاك الرضا جلاد ثقيل
فامنع القوم ماءكم، ليس للقوم * بقاء وإن يكن فقليل
فقال معاوية: أما أنت فندري ما تقول - وهو الرأي - ولكن عمرا لا يدرى. فقال
عمرو: خل بينهم وبين الماء، فإن عليا لم يكن ليظمأ وأنت ريان، وفي يده أعنة الخيل،
وهو ينظر إلى الفرات حتى يشرب أو يموت، وأنت تعلم أنه الشجاع المطرق [ومعه أهل
العراق وأهل الحجاز] (1)، وقد سمعته أنا مرارا وهو يقول: لو استمكنت من أربعين
رجلا (2) يعنى في الأمر الأول!
* * *
وروى نصر، قال: (3) لما غلب أهل الشام على الفرات، فرحوا بالغلبة، وقال
معاوية: يا أهل الشام، هذا والله أول الظفر، لا سقاني الله ولا أبا سفيان إن شربوا منه
أبدا حتى يقتلوا بأجمعهم عليه، وتباشر أهل الشام، فقام إلى معاوية رجل من أهل
الشام همداني، ناسك يتأله ويكثر العبادة، يعرف بمعرى بن أقبل، وكان صديقا لعمرو
بن العاص وأخا له، فقال: يا معاوية، سبحان الله! لان سبقتم القوم إلى الفرات فغلبتموهم
عليه، تمنعوهم الماء! أما والله لو سبقوكم إليه لسقوكم منه. أليس أعظم ما تنالون من القوم
أن تمنعوهم الفرات فينزلوا على فرضة أخرى ويجازوكم بما صنعتم! أما تعلمون أن فيهم
العبد والأمة والأجير والضعيف، ومن لا ذنب له. وهذا والله أول الجور! لقد شجعت
الجبان، ونصرت المرتاب، وحملت من لا يريد قتالك على كتفيك. فأغلظ له معاوية،
وقال لعمرو: اكفني صديقك. فأتاه عمرو فأغلظ له، فقال الهمداني في ذلك شعرا:
لعمر أبى معاوية بن حرب وعمرو، ما لدائمها دواء

(1) تكملة من صفين.
(2 - 2) في صفين: (فذكر أمرا، يعنى لو أن معي أربعين رجلا يوم فتش البيت - يعنى بيت فاطمة)
(3) صفين 182.
320

سوى طعن يحار العقل فيه * وضرب حين تختلط الدماء
ولست بتابع دين ابن هند * طوال الدهر ما أرسى حراء
لقد ذهب العتاب فلا عتاب * وقد ذهب الولاء فلا ولاء
وقولي في حوادث كل خطب (1): * على عمرو وصاحبه العفاء
إلا لله درك يا بن هند * لقد برح الخفاء فلا خفاء! (2)
أتحمون الفرات على رجال * وفي أيديهم الأسل الظماء
وفي الأعناق أسياف حداد * كأن القوم عندهم نساء
أترجو أن يجاوركم على * بلا ماء وللأحزاب ماء
دعاهم دعوة فأجاب قوم * كجرب الإبل خالطها الهناء
قال: ثم سار الهمداني في سواد الليل حتى لحق بعلي عليه السلام.
* * *
قال: (3) ومكث أصحاب علي عليه السلام بغير ماء، واغتم علي عليه السلام بما فيه
أهل العراق:
قال نصر: وحدثنا محمد بن عبد الله، عن الجرجاني، قال: لما اغتم على بما فيه أهل
العراق من العطش، خرج ليلا قبل رايات مذحج، فإذا رجل ينشد شعرا:
أيمنعنا القوم ماء الفرات * وفينا الرماح وفينا الحجف (4)
وفينا الشوازب مثل الوشيج * وفينا السيوف وفينا الزغف (5)

(1) صفين: (كل أمر).
(2) برح الخفاء بكسر الراء وفتحها، أي ظهر ما كان خافيا
(3) صفين 183، 184
(4) الحجف: جمع حجفة، وهي الترس من جلود الإبل يطارق بعضها في بعض.
(5) الشوازب: الخيل الضامرة، والوشيج في الأصل: شجر الرماح، ويريد به هنا الرماح، شبه بها
الخيل في ضمرها. والزغف: الدروع الواسعة.
321

وفينا على له سورة * إذا خوفوه الردى لم يخف
ونحن الذين غداة الزبير * وطلحة خضنا غمار التلف (1)
فما بالنا أمس أسد العرين * وما بالنا اليوم شاء النجف (2)
فما للعراق وما للحجاز * سوى الشام خصم فصكوا الهدف (3)
وثوروا عليهم كبزل الجمال * دوين الذميل وفوق القطف (4)
فإما تفوزوا بماء الفرات * ومنا ومنهم عليه جيف
وإما تموتوا على طاعة * تحل الجنان وتحبو الشرف
وإلا فأنتم عبيد العصا * وعبد العصا مستذل نطف (5)
قال: فحرك ذلك عليا عليه السلام، ثم مضى إلى رايات كندة، فإذا إنسان ينشد
إلى جانب منزل الأشعث، وهو يقول:
لئن لم يجل الأشعث اليوم كربة * من الموت فيها للنفوس تعنت (6)
فنشرب من ماء الفرات بسيفه * فهبنا أناسا قبل ذاك فموتوا (7)
فإن أنت لم تجمع لنا اليوم أمرنا * وتنض التي فيها عليك المذلة (8)

(1) يشير إلى وقعة الجمل، والغمار: جمع غمرة، وهي الشدة.
(2) العرين: مأوى الأسد، والشاء: جمع شاة، والنجف: الحلب الجيد حتى ينفض الضرع، ويقال:
انتجفت الغنم، إذا استخرجت أقصى ما في الضرع من لبن، والبيت من شواهد الكافية، على أن (أسد
العرين) و (شاء النجف) حالان، إما على تقدير مثل، وإما على تقدير هما بوصف. وانظر خزانة
الأدب للبغدادي 1: 528، والمسعودي 2: 385
(3) صكوا: اضربوا، وفي صفين: (سوى اليوم يوم).
(4) الذميل والقطف: ضربان من السير. والبازل: البعير الذي انشق نابه بدخوله في التاسعة، وجمعه
بزل. وفي صفين: (فدبوا إليهم).
(5) عبيد العصا، أي أذلاء. والنطف: المعيب.
(6) في المسعودي 2: 385 (تفلت).
(7) صفين والمسعودي: (كانوا فموتوا).
(8) صفين: (وتلق التي فيها عليك التشتت)
322

فمن ذا الذي تثنى الخناصر باسمه * سواك، ومن هذا إليه التلفت!
وهل من بقاء بعد يوم وليلة * نظل خفوتا والعدو يصوت! (1)
هلموا إلى ماء الفرات ودونه * صدور العوالي والصفيح المشتت
وأنت امرؤ من عصبة يمنية * وكل امرئ من سنخه حين ينبت (2)
قال: فلما سمع الأشعث قول الرجل، قام فأتى عليا عليه السلام، فقال:
يا أمير المؤمنين، أيمنعنا القوم ماء الفرات، وأنت فينا، والسيوف في أيدينا! خل عنا
وعن القوم، فوالله لا نرجع حتى نرده أو نموت، ومر الأشتر فليعل بخيله، ويقف حيث
تأمره. فقال علي عليه السلام: ذلك إليكم.
فرجع الأشعث فنادى في الناس: من كان يريد الماء أو الموت فميعاده موضع كذا،
فإني ناهض. فأتاه اثنا عشر ألفا من كندة وأفناء قحطان، واضعي سيوفهم على عواتقهم،
فشد عليه سلاحه (3) ونهض بهم، حتى كاد يخالط أهل الشام، وجعل يلقى رمحه،
ويقول لأصحابه: بأبي وأمي أنتم! تقدموا إليهم قاب رمحي (4) هذا، فلم يزل ذلك دأبه،
حتى خالط القوم، وحسر عن رأسه، ونادى: أنا الأشعث بن قيس! خلوا عن الماء.
فنادى أبو الأعور: أما [والله] (5) حتى لا تأخذنا وإياكم السيوف، فقال الأشعث:

(1) صفين: (عطاشا والعدو يصوت).
(2) السنخ: الأصل، وفي صفين: (من غصنه).
(3) صفين: وشد عليه سلاحه، وهو يقول:
ميعادنا اليوم بياض الصبح * هل يصلح الزاد بغير ملح!
لا لا، ولا أمر بغير نصح * دبوا إلى القوم بطعن سمح
مثل العزالي بطعان نفح * لأصلح للقوم، وأين صلحي!
* حسبي من الإقحام قاب رمح *
(4) قاب رمحي: قدر رمحي.
(5) من صفين.
323

قد والله أظنها دنت منا ومنكم. وكان الأشتر قد تعالى بخيله حيث أمره على، فبعث
إليه الأشعث: أقحم الخيل، فأقحمها حتى وضعت سنابكها في الفرات، وأخذت أهل الشام
السيوف، فولوا مدبرين.
* * *
قال نصر: (1) وحدثنا عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر وزيد بن الحسن، قال:
فنادى الأشعث عمرو بن العاص، فقال: ويحك يا بن العاص! خل بيننا وبين الماء،
فوالله لئن لم تفعل لتأخذنا وإياكم السيوف، فقال عمرو: والله لا نخلي عنه حتى تأخذنا
السيوف وإياكم، فيعلم ربنا: أينا أصبر اليوم. فترجل الأشعث والأشتر، وذوو البصائر
من أصحاب علي عليه السلام، وترجل معهما اثنا عشر ألفا، فحملوا على عمرو وأبى الأعور
ومن معهما من أهل الشام، فأزالوهم عن الماء، حتى غمست خيل علي عليه السلام سنابكها
في الماء.
قال نصر: فروى عمر بن سعد أن عليا عليه السلام قال ذلك اليوم: هذا يوم
نصرتم فيه بالحمية (2).
* * *
قال نصر: وحدثنا عمرو بن شمر، عن جابر، قال: (3) سمعت تميما الناجي يقول:
سمعت الأشعث يقول: حال عمرو بن العاص بيننا وبين الفرات، فقلت له: ويحك
يا عمرو! أما والله إن كنت لأظن لك رأيا، فإذا أنت لا عقل لك. أترانا نخليك والماء!
تربت يداك (4)! أما علمت أنا معشر عرب! ثكلتك أمك وهبلتك! لقد رمت أمرا
عظيما. فقال لي عمرو: أما والله لتعلمن اليوم أنا سنفي بالعهد، ونحكم العقد، ونلقاكم

(1) صفين 187 (2) صفين 187
(3) صفين 189، 190.
(4) صفين: (يداك وفمك)
324

بصبر وجد. فنادى به الأشتر: يا بن العاص، أما والله لقد نزلنا هذه الفرضة، وإنا لنريد
القتال على البصائر والدين، وما قتالنا سائر اليوم إلا حمية.
ثم كبر الأشتر وكبرنا معه وحملنا، فما ثار الغبار حتى انهزم أهل الشام.
قالوا: فلقى عمرو بن العاص بعد انقضاء صفين الأشعث، فقال له: يا أخا كندة،
أما والله لقد أبصرت صواب قولك يوم الماء، ولكن كنت مقهورا على ذلك الرأي،
فكابرتك بالتهدد والوعيد، والحرب خدعة.
قال نصر: ولقد كان من رأى عمرو التخلية بين أهل العراق والماء. ورجع معاوية
بأخرة إلى قوله بعد اختلاط القوم في الحرب، فإن عمرا - فيما روينا - أرسل إلى معاوية
أن خل بين القوم وبين الماء، أترى القوم يموتون عطشا وهم ينظرون إلى الماء! فأرسل
معاوية إلى يزيد بن أسد القسري: أن خل بين القوم وبين الماء يا أبا عبد الله، فقال
يزيد - وكان شديد العثمانية -: كلا والله لنقتلنهم عطشا كما قتلوا أمير المؤمنين.
* * *
قال: فحدثنا عمرو بن شمر، عن جابر، قال: خطب علي عليه السلام يوم الماء فقال:
(أما بعد، فإن القوم قد بدأوكم بالظلم، وفاتحوكم بالبغي، واستقبلوكم بالعدوان،
وقد استطعموكم القتال حيث منعوكم الماء، فأقروا على مذلة وتأخير مهلة.....)،
الفصل إلى آخره.
قال نصر: وكان (1) قد بلغ أهل الشام أن عليا عليه السلام جعل للناس إن فتح الشام
أن يقسم بينهم التبر والذهب - وهما الأحمران - وأن يعطى كلا منهم خمسمائة كما أعطاهم
بالبصرة، فنادى ذلك اليوم منادى أهل الشام: يا أهل العراق، لماذا نزلتم بعجاج

(1) صفين 187، 188.
325

من الأرض! نحن أزد شنوءة لا أزد عمان، يا أهل العراق:
لا خمس إلا جندل الأحرين (1) * والخمس قد تجشمك الامرين (2)
* * *
قال نصر: فحدثني عمرو بن شمر، عن إسماعيل السدى، عن بكر بن تغلب، قال:
حدثني (3) من سمع الأشعث يوم الفرات - وقد كان له غناء عظيم من أهل العراق، وقتل
رجالا من أهل الشام بيده، وهو يقول: والله إن كنت لكارها قتال أهل الصلاة،
ولكن معي من هو أقدم منى في الاسلام، وأعلم بالكتاب والسنة، فهو الذي
يسخى بنفسه.
* * *

(1) لا خمس، أراد لا خمسمائة. والجندل: الحجارة والأحرين: جمع حرة، وهي الحجارة السوداء.
(2) الامرين: الشر والامر العظيم، وفى اللسان (5: 252) بعد شرح كلمة (الآخرين)
أنشد ثعلب لزيد بن عناهية التيمي، وكان زيد المذكور لما عظم البلاء بصفين قد انهزم ولحق بالكوفة،
وكان علي رضي الله عنه قد أعطى أصحابه يوم الجمل خمسمائة من بيت مال البصرة، فلما قدم زيد
على أهله قالت له ابنته: أين خمس المائة؟ فقال:
إن أباك فر يوم صفين * لما رأى عكا والأشعريين
وقيس عيلان الهوازنيين * وابن نمير في سراة الكنديين
وذا الكلاع سيد اليمانين * وحابسا يستن في الطائيين
قال نفس السوء: هل تفرين؟ * لا خمس إلا جندل الأحرين
والخمس قد جشمتك الامرين * جمزا إلى الكوفة من قنسرين
ويروى: (قد تجشمك)، و (قد يجشمنك). وقال ابن سيده: معنى (لا خمس) ما ورد في حديث
صفين أن معاوية زاد أصحابه يوم صفين خمسمائة، فلما التقوا بعد ذلك قال أصحاب علي رضي الله عنه:
* لا خمس إلا جندل الأحرين *
أرادوا: لا خمسمائة.
(3) صفين 191 - 192
326

قال نصر: وحمل (1) ظبيان بن عمارة التميمي على أهل الشام، وهو يقول:
هل لك يا ظبيان من بقاء * في ساكني الأرض بغير ماء!
لا وإله الأرض والسماء * فاضرب وجوه الغدر الأعداء
بالسيف عند حمس الهيجاء (2) * حتى يجيبوك إلى السواء
قال: فضربهم والله حتى خلوا له الماء.
* * *
قال نصر: ودعا (3) الأشتر بالحارث بن همام النخعي، ثم الصهباني، فأعطاه لواءه،
وقال له: يا حارث، لولا أنى أعلم أنك تصبر عند الموت لاخذت لوائي منك، ولم أحبك
بكرامتي، فقال: والله يا مالك لأسرنك أو لأموتن، فاتبعني. ثم تقدم باللواء
وارتجز، فقال:
يا أخا الخيرات يا خير النخع * وصاحب النصر إذا عم الفزع
كاشف الخطب إذا الامر وقع * ما أنت في الحرب العوان بالجذع (4)
قد جزع القوم وعموا بالجزع * وجرعوا الغيظ وغصوا بالجرع
إن تسقنا الماء فليست بالبدع * أو نعطش اليوم فجند مقتطع
* ما شئت خذ منها وما شئت فدع *
فقال الأشتر: ادن منى يا حارث، فدنا منه فقبل رأسه، فقال: لا يتبع رأسه اليوم
إلا خير، ثم صاح الأشتر في أصحابه: فدتكم نفسي! شدوا شدة المحرج الراجي للفرج،
فإذا نالتكم الرماح فالتووا فيها، فإذا عضتكم السيوف فليعض الرجل على نواجذه،
فإنه أشد لشؤون (5) الرأس، ثم استقبلوا القوم بهامكم.

(1) صفين 192.
(2) الحمس: الشدة في القتال، وفى صفين: حمس الوغاء).
(3) صفين 293، والمسعودي 2: 386
(4) الحرب العوان: التي قوتل فيها مرة بعد مرة، كأنهم جعلوا الأولى بكرا. والجذع: الصغير السن.
(5) الشؤون هنا: جمع شأن، وهو موصل قبائل الرأس.
327

قال: وكان الأشتر يومئذ على فرس له محذوف (1) أدهم، كأنه حلك الغراب، وقتل
بيده من أهل الشام من فرسانهم وصناديدهم سبعة: صالح بن فيروز العكي، ومالك بن أدهم
السلماني، ورياح بن عتيك الغساني، والأجلح بن منصور الكندي - وكان فارس
أهل الشام - وإبراهيم بن وضاح الجمحي، وزامل بن عبيد الحزامي، ومحمد
بن روضة الجمحي.
قال نصر: فأول قتيل قتله الأشتر بيده ذلك اليوم صالح بن فيروز، ارتجز على الأشتر
وقال له:
يا صاحب الطرف الحصان الأدهم * أقدم إذا شئت علينا أقدم
أنا ابن ذي العز وذي التكرم * سيد عك كل عك فاعلم
قال: وكان صالح مشهورا بالشدة والبأس، فارتجز عليه الأشتر، فقال له:
أنا ابن
خير مذحج مركبا * وخيرها نفسا وأما وأبا
آليت لا أرجع حتى أضربا * بسيفي المصقول ضربا معجبا
ثم شد عليه فقتله، فخرج إليه مالك بن أدهم السلماني - وهو من مشهوريهم أيضا،
فحمل على الأشتر بالرمح، فلما رهقه (2) التوى الأشتر على فرسه ومار السنان (3) فأخطأه،
ثم استوى على فرسه، وشد على الشامي فقتله طعنا بالرمح، ثم قتل بعده رياح بن
عقيل (4) وإبراهيم بن وضاح، ثم برز إليه زامل بن عقيل - وكان فارسا - فطعن الأشتر في
موضع الجوشن (5) فصرعه عن فرسه، ولم يصب مقتلا، وشد عليه الأشتر بالسيف راجلا
فكشف قوائم فرسه، وارتجز عليه فقال

(1) المحذوف: المقطوع الذنب.
(2) وهقه: غشيه.
(3) مار السنان: اضطرب.
(4) صفين: (رياح بن غتيك)
(5) الجوشن: الصدر.
328

لا بد من قتلى أو من قتلكا * قتلت منكم أربعا من قبلكا (1)
* كلهم كانوا حماة مثلكا *
ثم ضربه بالسيف وهما راجلان فقتله، ثم خرج إليه محمد بن روضة، فقال، وهو
يضرب في أهل العراق ضربا منكرا:
يا ساكني الكوفة يا أهل الفتن * يا قاتلي عثمان ذاك المؤتمن
أورث قلبي قتله طول الحزن * أضربكم ولا أرى أبا حسن!
فشد عليه الأشتر فقتله، وقال:
لا يبعد الله سوى عثمانا * وأنزل الله بكم هوانا
* ولا يسلي عنكم الأحزانا (2) *
ثم برز إليه الأجلح بن منصور الكندي - وكان من شجعان العرب وفرسانها - وهو
على فرس له اسمه لاحق، فلما استقبله الأشتر، كره لقاءه واستحيا أن يرجع عنه، فتضاربا
بسيفيهما، فسبقه الأشتر بالضربة فقتله، فقالت أخته ترثيه:
ألا فابكي أخا ثقة * فقد والله أبكينا
لقتل الماجد القمقام * لا مثل له فينا (3)
أتانا اليوم مقتله * فقد جزت نواصينا
كريم ماجد الجدين * يشفى من أعادينا
شفانا الله من أهل * العراق فقد أبادونا
أما يخشون ربهم * ولم يرعوا له دينا!

(1) صفين: (قتلت خمسة)
(2) بقية الرجز كما في صفين:
مخالف قد خالف الرحمانا * نصرتموه عابدا شيطانا
(3) القمقام: السيد الكثير العطاء.
329

قال: وبلغ شعرها عليا عليه السلام، فقال: أما إنهن ليس بملكهن ما رأيتم من
الجزع، أما إنهم قد أضروا بنسائهم، فتركوهن أيامى حزانى (1) بائسات. قاتل الله
معاوية! اللهم حمله آثامهم وأوزارا وأثقالا مع أثقاله! اللهم لا تعف عنه!
* * *
قال نصر: وحدثنا (2) عمرو بن شمر، عن جابر، عن الشعبي، عن الحارث بن أدهم،
وعن صعصعة، قال: أقبل الأشتر يوم الماء، فضرب بسيفه جمهور أهل الشام حتى كشفهم
عن الماء، وهو يقول:
لا تذكروا ما قد مضى وفاتا * والله ربى الباعث الأمواتا
من بعد ما صاروا كذا رفاتا (3) * لأوردن خيلي الفراتا
* شعث النواصي أو يقال ماتا *
قال: وكان لواء الأشعث بن قيس مع معاوية بن الحارث، فقال له الأشعث: لله أبوك!
ليست النخع بخير من كندة، قدم لوائك فإن الحظ لمن سبق. فتقدم لواء الأشعث،
وحملت الرجال بعضها على بعض، وحمل في ذلك اليوم أبو الأعور السلمي، وحمل الأشتر
عليه، فلم ينتصف أحدهما من صاحبه، وحمل شرحبيل بن السمط على الأشعث، فكانا
كذلك، وحمل حوشب ذو ظليم على الأشعث أيضا، وانفصلا ولم ينل أحدهما من صاحبه
أمرا، فما زالوا كذلك حتى انكشف أهل الشام عن الماء، وملك أهل العراق المشرعة.
* * *
قال نصر: فحدثنا محمد بن عبد الله، عن الجرجاني، قال: قال (4) عمرو بن العاص
لمعاوية لما ملك أهل العراق الماء، ما ظنك يا معاوية بالقوم إن منعوك اليوم الماء كما منعتهم

(1) صفين: (خزايا).
(2) صفين 201
(3) صفين: (صدى فراتا).
(4) صفين 208
330

أمس! أتراك تضاربهم عليه كما ضاربوك عليه! ما أغنى عنك أن تكشف لهم السوءة.
فقال معاوية: دع عنك ما مضى، فما ظنك بعلي؟ قال: ظني أنه لا يستحل منك ما استحللت
منه، وأن الذي جاء له غير الماء. قال: فقال له معاوية قولا أغضبه، فقال عمرو:
أمرتك أمرا فسخفته * وخالفني ابن أبي سرحه (1)
وأغمضت في الرأي إغماضة * ولم تر في الحرب كالفسحه
فكيف رأيت كباش العراق * ألم ينطحوا جمعنا نطحه!
فإن ينطحونا غدا مثلها * نكن كالزبيري أو طلحة
أظن لها اليوم ما بعدها * وميعاد ما بيننا صبحه
وإن أخروها لما بعدها * فقد قدموا الخبط والنفحة
وقد شرب القوم ماء الفرات * وقلدك الأشتر الفضحه
قال نصر: فقال أصحاب علي عليه السلام له: أمنعهم الماء يا أمير المؤمنين كما منعوك، فقال: لا،
خلوا بينهم وبينه، لا أفعل ما فعله الجاهلون، سنعرض عليهم كتاب الله، وندعوهم إلى
الهدى، فإن أجابوا، وإلا ففي حد السيف ما يغنى إن شاء الله.
قال: فوالله ما أمسى الناس حتى رأوا سقاتهم وسقاة أهل الشام ورواياهم وروايا
أهل الشام يزدحمون على الماء، ما يؤذى إنسان إنسانا.

(1) يريد بابن أبى سرحة عبد الله بن سعد بن أبي سرح.
331

(52) (*)
ومن خطبة له عليه السلام، وقد تقدم مختارها برواية، ونذكر ما نذكره
هنا برواية أخرى، لتغاير الروايتين:
الأصل:
ألا وإن الدنيا قد تصرمت وآذنت بانقضاء، وتنكر معروفها وأدبرت حذاء،
فهي تحفز بالفناء سكانها، وتحدو بالموت جيرانها، وقد أمر فيها ما كان حلوا،
وكدر منها ما كان صفوا، فلم يبق منها إلا سملة كسملة الإداوة، أو جرعة (1)
كجرعة المقلة، لو تمززها الصديان لم ينقع.
فأزمعوا عباد الله الرحيل عن هذه الدار المقدور على أهلها الزوال، ولا يغلبنكم
فيها الامل، ولا يطولن عليكم فيها (2) الأمد. فوالله لو حننتم حنين الوله العجال،
ودعوتم بهديل الحمام، وجأرتم جؤار متبتلي الرهبان، وخرجتم إلى الله من الأموال
والأولاد، التماس القربة إليه في ارتفاع درجة عنده، أو غفران سيئة أحصتها
كتبه، وحفظتها رسله لكان قليلا فيما أرجو لكم من ثوابه، وأخاف عليكم
من عقابه.
وبالله لو انماثت قلوبكم انمياثا، وسالت عيونكم - من رغبة إليه أو رهبة
منه - دما، ثم عمرتم في الدنيا - ما الدنيا باقية - ما جزت أعمالكم - ولو لم تبقوا
شيئا من جهدكم - أنعمه عليكم العظام، وهداه إياكم للايمان.

* انظر الخطبة رقم 28 الجزء الثاني ص 91
(1) مخطوطة النهج: (وجرعة).
(2) كلمة (فيها) ساقطة في مخطوطة النهج.
332

الشرح
تصرمت: انقطعت وفنيت. وآذنت بانقضاء: أعلمت بذلك، آذنته بكذا، أي أعلمته.
وتنكر معروفها: جهل منها ما كان معروفا.
والحذاء: السريعة الذهاب، ورحم حذاء: مقطوعة غير موصولة. ومن رواه (جذاء)
بالجيم، أراد منقطعة الدر والخير.
وتحفر بالفناء سكانها: تعجلهم وتسوقهم. وأمر الشئ: صار مرا. وكدر الماء، بكسر
الدال، ويجوز كدر بضمها. والمصدر من الأول كدرا، ومن الثاني كدورة.
والسملة، بفتح الميم: البقية من الماء تبقى في الاناء.
والمقلة، بفتح الميم وتسكين القاف: حصاة القسم التي تلقى في الماء ليعرف قدر ما يسقى
كل واحد منهم، وذلك عند قلة الماء في المفاوز، قال:
قذفوا سيدهم في ورطة * قذفك المقلة وسط المعترك (1)
والتمزز: تمصص الشراب قليلا قليلا. والصديان: العطشان.
ولم ينقع: لم يرو، وهذا يمكن أن يكون لازما، ويمكن أن يكون متعديا،
تقول: نقع الرجل بالماء، أي روى وشفى غليله، ينقع. ونقع الماء الصدى ينقع، أي سكنه.
فأزمعوا الرحيل، أي اعزموا عليه، يقال: أزمعت الامر، ولا يجوز أزمعت على الامر،
وأجازه الفراء.
قوله: (المقدور على أهلها الزوال)، أي المكتوب، قال:
واعلم بأن ذا الجلال قد قدر * في الصحف الأولى الذي كان سطر.

(1) اللسان 14: 150، ونسبه إلى يزيد بن طعمة الخطمي.
333

أي كتب والوله العجال: النوق الوالهة الفاقدة أولادها، الواحدة عجول، والوله:
ذهاب العقل وفقد التمييز.
وهديل الحمام: صوت نوحه. والجؤار: صوت مرتفع. والمتبتل: المنقطع عن الدنيا.
وانماث القلب، أي ذاب.
وقوله: (ولو لم تبقوا شيئا من جهدكم) اعتراض في الكلام.
وأنعمه، منصوب لأنه مفعول (جزت).
* * *
وفي هذا الكلام تلويح وإشارة إلى مذهب البغداديين من أصحابنا في أن الثواب على
فعل الطاعة غير واجب، لأنه شكر النعمة، فلا يقتضى وجوب ثواب آخر، وهو قوله عليه
السلام: (لو انماثت قلوبكم انمياثا....
، إلى آخر الفصل.
وأصحابنا البصريون لا يذهبون إلى ذلك، بل يقولون: إن الثواب واجب على الحكيم
سبحانه، لأنه قد كلفنا ما يشق علينا، وتكليف المشاق كانزال المشاق، فكما اقتضت
الآلام والمشاق النازلة بنا من جهته سبحانه أعواضا مستحقة عليه تعالى عن إنزالها بنا، كذلك
تقتضي التكليفات الشاقة ثوابا مستحقا عليه تعالى عن إلزامه إيانا بها، قالوا: فأما ما سلف
من نعمه علينا فهو تفضل منه تعالى، ولا يجوز في الحكمة أن يتفضل الحكيم على غيره بأمر
من الأمور، ثم يلزمه أفعالا شاقة ويجعلها بإزاء ذلك التفضل، إلا إذا كان في تلك الأمور
منافع عائدة على ذلك الحكيم، فكان ما سلف من المنافع جاريا مجرى الأجرة، كمن يدفع
درهما إلى إنسان ليخيط له ثوبا، والبارئ تعالى منزه عن المنافع، ونعمه علينا منزهة أن تجرى
مجرى الأجرة على تكليفنا المشاق.
وأيضا فقد يتساوى اثنان من الناس في النعم المنعم بها عليهما، ويختلفان في التكاليف،
334

فلو كان التكليف لأجل ما مضى من النعم لوجب أن يقدر بحسبها. فإن قيل: فعلى ماذا
يحمل كلام أمير المؤمنين عليه السلام، وفيه إشارة إلى مذهب البغداديين؟
قيل: إنه عليه السلام لم يصرح بمذهب البغداديين، ولكنه قال: لو عبدتموه بأقصى
ما ينتهى الجهد إليه وما وفيتم بشكر أنعمه، وهذا حق غير مختلف فيه، لان نعم البارئ تعالى
لا تقوم العباد بشكرها، وإن بالغوا في عبادته والخضوع له والاخلاص في طاعته، ولا يقتضى
صدق هذه القضية وصحتها صحة مذهب البغداديين في أن الثواب على الله تعالى غير واجب،
لان التكليف إنما كان باعتبار أنه شكر النعمة السالفة.
* * *
[ما قيل من الاشعار في ذم الدنيا]
فأما ما قاله الناس في ذم الدنيا و غرورها وحوادثها وخطوبها وتنكرها لأهلها،
والشكوى منها، والعتاب لها والموعظة بها، وتصرمها وتقلبها، فكثير، من ذلك قول بعضهم:
هي الدنيا تقول بملء فيها * حذار حذار من بطشي وفتكي (1)
فلا يغرركم حسن ابتسامي * فقولي مضحك والفعل مبك.
وقال آخر:
تنح عن الدنيا ولا تطلبنها * ولا تخطبن قتالة من تناكح
فليس يفي مرجوها بمخوفها، * ومكروهها إما تأملت راجح
لقد قال فيها القائلون فأكثروا * وعندي لها وصف لعمرك صالح
سلاف، قصاراها ذعاف، ومركب * شهي إذا استلذذته فهو جامح
وشخص جميل يعجب الناس حسنه * ولكن له أفعال سوء قبائح

(1) لأبي الفرج الساوي، معاهد التنصيص 4: 241.
335

وقال أبو الطيب:
أبدا تسترد ما تهب الدنيا * فيا ليت جودها كان بخلا (1)
وهي معشوقة على الغدر لا تحفظ عهدا ولا تتم وصلا
كل دمع يسيل منها عليها * وبفك اليدين عنها تخلى
شيم الغانيات فيها ولا أدرى * لذا أنث اسمها الناس أم لا!
وقال آخر:
إنما الدنيا عوار * والعواري مسترده (2)
شدة بعد رخاء * ورخاء بعد شده
وقال محمد بن هانئ المغربي:
وما الناس إلا ظاعن فمودع * وثاو قريح الجفن يبكى لراحل (3)
فما الدهر إلا كالزمان الذي مضى * ولا نحن إلا كالقرون الأوائل
نساق من الدنيا إلى غير دائم * ونبكي من الدنيا على غير طائل
فما عاجل نرجوه إلا كآجل * ولا آجل نخشاه إلا كعاجل
وقال ابن المظفر المغربي:
دنياك دار غرور * ونعمة مستعاره
ودار أكل وشرب * ومكسب وتجاره
ورأس مالك نفس * فخف عليها الخساره

(1) ديوانه 3: 131
(2) محاضرات الأدباء 2: 126 من غير نسبة.
(3) ديوانه 587 (طبعة المعارف)
336

ولا تبعها بأكل * وطيب عرف وشاره
فإن ملك سليمان * لا يفي بشراره
* * *
وقال أبو العتاهية:
ألا إنما التقوى هي البر والكرم * وحبك للدنيا هو الفقر والعدم (1)
وليس على عبد تقى غضاضة * إذا صحح التقوى وإن حاك أو حجم (2)
وقال أيضا:
تعلقت بآمال * طوال أي آمال
وأقبلت على الدنيا * ملحا أي إقبال
أيا هذا تجهز لفراق * الأهل والمال
فلا بد من الموت * على حال من الحال
وقال أيضا:
سكن يبقى له سكن * ما بهذا يؤذن الزمن! (3)
نحن في دار يخبرنا * ببلاها ناطق لسن
دار سوء لم يدم فرح * لامرئ فيها ولا حزن
في سبيل الله أنفسنا * كلنا بالموت مرتهن
كل نفس عند موتتها * حظها من مالها الكفن
إن مال المرء ليس له * منه إلا ذكره الحسن

(1) ديوانه 243
(2) ديوانه 213
(3) ديوانه 252
337

وقال أيضا:
ألا إننا كلنا بائد * وأي بني آدم خالد! (1)
وبدؤهم كان من ربهم * وكل إلى ربه عائد
فوا عجبا كيف يعصى الاله * أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شئ له آية * تدل على أنه الواحد
وقال الرضى الموسوي:
يا آمن الأيام بادر صرفها * واعلم بأن الطالبين حثاث (2)
خذ من ثرائك ما استطعت فإنما * شركاؤك الأيام والوراث
لم يقض حق المال إلا معشر * نظروا الزمان يعيث فيه فعاثوا
تحثو على عيب الغنى يد الغنى * والفقر عن عيب الفتى بحاث
المال مال المرء ما بلغت به الشهوات أو دفعت به الاحداث
ما كان منه فاضلا عن قوته * فليعلمن بأنه ميراث
ما لي إلى الدنيا الدنية حاجة * فليجن ساحر كيدها النفاث
طلقتها ألفا لأحسم داءها * وطلاق من عزم الطلاق ثلاث
وثباتها مرهوبة، وعداتها * مكذوبة، وحبالها أنكاث
أم المصائب لا تزال تروعنا * منها ذكور حوادث وإناث
إني لأعجب للذين تمسكوا * بحبائل الدنيا وهن رثاث
كنزوا الكنوز وأعقلوا شهواتهم * فالأرض تشبع والبطون غراث
أتراهم لم يعلموا أن التقى * أزوادنا، وديارنا الأجداث!

(1) ديوانه 69
(2) ديوانه لوحة 123، وفيه: (يا آمن الاقدار)
338

وقال آخر:
هذه الدنيا إذا صرفت * وجهها لم تنفع الحيل
وإذا ما أقبلت لعم * بصرته كيف يفتعل
وإذا ما أدبرت لذكي غاب عنه السهل والجبل
فهي كالدولاب دائرة * ترتقي طورا وتستفل
في زمان صار ثعلبه * أسدا واستذأب الحمل
فالذنابي فيه ناصية * والنواصي خشع ذلل
فاصبري يا نفس واحتملي * إن نفس الحر تحتمل
وقال أبو الطيب:
نعد المشرفية والعوالي * وتقتلنا المنون بلا قتال (1)
ونرتبط السوابق مقربات * وما ينجين من خبب الليالي (2)
ومن لم يعشق الدنيا قديما * ولكن لا سبيل إلى الوصال!
نصيبك في حياتك من حبيب * نصيبك في منامك من خيال
رماني الدهر بالأرزاء حتى * فؤادي في غشاء من نبال
فصرت إذا أصابتني سهام * تكسرت النصال على النصال
وهان فما أبالي بالرزايا * لأني ما انتفعت بأن أبالي
يدفن بعضنا بعضا ويمشي * أواخرنا على هام الأوالي
وكم عين مقبلة النواحي * كحيل في الجنادل والرمال

(1) ديوانه 3: 8، المشرفية: السيوف، والعوالي: الرماح.
(2) المقربات من الخيل: الكرام التي تربط لكرامتها على أصحابها.
339

ومغض كان لا يغضي لخطب * وبال كان يفكر في الهزال
* * *
وقال أبو العتاهية في أرجوزته المشهورة في ذم الدنيا وفيها أنواع مختلفة من الحكمة:
ما زالت الدنيا لنا دار أذى * ممزوجة الصفو بألوان القذى (1)
الخير والشر بها أزواج * لذا نتاج، ولذا نتاج
من لك بالمحض وليس محض * يخبث بعض ويطيب بعض
لكل إنسان طبيعتان * خير وشر وهما ضدان
والخير والشر إذا ما عدا * بينهما بون بعيد جدا
إنك لو تستنشق الشحيحا * وجدته أنتن شئ ريحا
حسبك مما تبتغيه القوت * ما أكثر القوت لمن يموت!
الفقر فيما جاوز الكفافا * من اتقى الله رجا وخافا
هي المقادير فلمني أو فذر * إن كنت أخطأت فما أخطأ القدر
لكل ما يؤذى وإن قل ألم * ما أطول الليل على من لم ينم!
ما انتفع المرء بمثل عقله * وخير ذخر المرء حسن فعله
إن الفساد ضده الصلاح * ورب جد جره المزاح
من جعل النمام عينا هلكا * مبلغك الشر كباغيه لكا
إن الشباب والفراغ والجده * مفسدة للمرء أي مفسده
يغنيك عن كل قبيح تركه * قد يوهن الرأي الأصيل شكه
ما عيش من آفته بقاه * نغص عيشا ناعما فناه (2)

(1) ديوانه 346 مع اختلاف في ترتيب الأبيات.
(2) الديوان: (تقاؤه)، (فناؤه).
340

يا رب من أسخطنا بجهده * قد سرنا الله بغير حمده
ما تطلع الشمس ولا تغيب * إلا لأمر شأنه عجيب
لكل شئ قدر وجوهر * وأوسط وأصغر وأكبر
وكل شئ لاحق بجوهره * أصغره متصل بأكبره
من لك بالمحض وكل ممتزج * وساوس في الصدر منك تعتلج
عجبت واستغرقني السكوت * حتى كأني حائر مبهوت
إذا قضى الله فكيف أصنع * والصمت إن ضاق الكلام أوسع
وقال أيضا:
كل على الدنيا له حرص * والحادثات لنا بها قرص (1)
وكأن من واروه في جدث * لم يبد منه لناظر شخص
يهوى من الدنيا زيادتها * وزيادة الدنيا هي النقص
ليد المنية في تلطفها * عن ذخر كل نفيسة فحص
وقال أيضا:
أبلغ الدهر في مواعظه بل * زاد فيهن لي من الإبلاغ (2)
أي عيش يكون أطيب من عيش كفاف قوت بقدر البلاغ
غصبتني الأيام أهلي ومالي * وشبابي وصحتي وفراغي
صاحب البغي ليس يسلم منه * وعلى نفسه بغى كل باغ
رب ذي نعمه تعرض منها * حائل بينه وبين المساغ
* * *

(1) ديوانه 136.
(2) ديوانه 164.
341

وقال ابن المعتز:
حمدا لربي وذما للزمان فما * أقل في هذه الدنيا مسراتي!
كفت يدي أملى عن كل مطلب * وأغلقت بابها من دون حاجاتي
وله أيضا:
ألست ترى يا صاح ما أعجب الدهرا * فذما له، لكن للخالق الشكرا
لقد حبب الموت البقاء الذي أرى * فيا حبذا منى لمن سكن القبرا
وسبحان ربى راضيا بقضائه * وكان اتقائي الشر يغري بي الشرا
وله:
قل لدنياك: قد تمكنت منى * فافعلي ما أردت أن تفعلي بي
واخرقي كيف شئت خرق جهول * إن عندي لك اصطبار لبيب
وقال أبو العلاء المعرى:
والدهر إبرام ونقض وتفريق * وجمع ونهار وليل (1)
لو قال لي صاحبه سمه * ما جزت عن ناجية أو بديل
وقال آخر:
والدهر لا يبقى على حالة * لا بد أن يدبر أو يقبلا
وقال أبو الطيب:
ما لي وللدنيا طلابي نجومها * ومسعاي منها في شدوق الأراقم (2)

(1) سقط الزند 161.
(2) ديوانه 4: 111. الأراقم: الحيات.
342

وقال آخر:
لعمرك ما الأيام إلا معارة * فما اسطعت من معروفها فتزود
وقال آخر:
لعمرك ما الأيام إلا كما ترى * رزية مال، أو فراق حبيب
الوزير المهلبي:
ألا موت يباع فأشتريه * فهذا العيش ما لا خير فيه (1)
ألا رحم المهيمن نفس حر * تصدق بالممات على أخيه
وله:
أشكو إلى الله أحداثا من الزمن * يبرينني مثل بري القدح بالسفن
لم يبق بالعيش لي إلا مرارته * إذا تذوقته، والحلو منه فنى
لا تحسبن نعما سرتك صحبتها * إلا مفاتيح أبواب من الحزن
عبيد الله بن عبد الله بن طاهر:
ألا أيها الدهر الذي قد مللته * سألتك إلا ما سللت حياتي
فقد وجلال الله حببت جاهدا * إلى - على كره الممات - مماتي
وله:
ألم تر أن الدهر يهدم ما بنى * ويسلب ما أعطى ويفسد ما أسدى
فمن سره ألا يرى ما يسوءه * فلا يتخذ شيئا يخاف له فقدا
البحتري.
كأن الليالي أغريت حادثاتها * بحب الذي نأبى، وبغض الذي نهوى (2)

(1) ابن خلكان 1: 142
(2) ديوانه 1: 10.
343

ومن عرف الأيام لم ير خفضها * نعيما ولم يعدد مضرتها بلوى
أبو بكر الخوارزمي:
ما أثقل الدهر على من ركبه
حدثني عنه لسان التجربة
لا تشكر الدهر لخير سببه
فإنه لم يتعمد بالهبه
وإنما أخطأ فيك مذهبه
كالسيل قد يسقى مكانا أخربه
والسم يستشفى به من شربه
وقال آخر:
يسعى الفتى في صلاح العيش مجتهدا * والدهر ما عاش في إفساده ساعى
آخر:
يغر الفتى مر الليالي سليمة * وهن به عما قليل عواثر
آخر:
إذا ما الدهر جر على أناس * كلاكله أناخ بآخرينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا * سيلقي الشامتون كما لقينا
آخر:
قل لمن أنكر حالا منكره * ورأي من دهره ما حيره
ليس بالمنكر ما أنكرته * كل من عاش رأى ما لم يره
ابن الرومي:
سكن الزمان وتحت سكنته * دفع من الحركات والبطش
344

كالأفعوان تراه منبطحا * بالأرض ثم يثور للنهش
أبو الطيب:
إنا لفي زمن ترك القبيح به * من أكثر الناس إحسان وإجمال (1)
ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته * ما فاته، وفضول العيش أشغال
وقال آخر:
جار الزمان علينا في تصرفه * وأي حر عليه الدهر لم يجر!
عندي من الدهر ما لو أن أيسره * يلقى على الفلك الدوار لم يدر
آخر:
هذا الزمان الذي كنا نحاذره * فيما يحدث كعب وابن مسعود
إن دام هذا ولم تعقب له غير * لم يبك ميت، ولم يفرح بمولود
آخر:
يا زمانا ألبس الأحرار ذلا ومهانه
لست عندي بزمان * إنما أنت زمانه
أجنون ما نراه * منك يبدو أم مجانه!
الرضى الموسوي:
تأبى الليالي أن تديما * يؤسا لخلق أو نعيما (2)
والمرء بالإقبال يبلغ * وادعا خطرا جسيما
فإذا انقضى إقباله * رجع الشفيع له خصيما

(1) ديوانه 3: 287.
(2) ديوانه لوحة 64.
345

وهو الزمان إذا نبا * سلب الذي أعطى قديما
كالريح ترجع عاصفا * من بعد ما بدأت نسيما
أبو عثمان الخالدي:
ألفت من حادثات الدهر أكبرها * فما أعادي على أحداثها الصغر
تزيدني قسوة الأيام طيب نثا * كأنني المسك بين الفهر والحجر
السرى الرفاء:
تنكد هذا الدهر فيما يرومه * على أنه فيما نحاذره ندب (1)
فسير الذي نرجوه سير مقيد * وسير الذي نخشى غوائله وثب
ابن الرومي:
ألا إن في الدنيا عجائب جمة * وأعجبها ألا يشيب وليدها
إذا ذل في الدنيا الأعزاء واكتست * أذلتها عزا وساد مسودها
هناك فلا جادت سماء بصوبها * ولا أمرعت أرض، ولا اخضر عودها
أرى الناس مخسوفا بهم غير أنهم * على الأرض لم يقلب عليهم صعيدها
وما الخسف أن يلفي أسافل بلدة * أعاليها، بل أن يسود عبيدها
السرى الرفاء:
لنا من الدهر خصم لا نطالبه * فما على الدهر لو كفت نوائبه (2)!
يرتد عنه جريحا من يسالمه * فكيف يسلم منه من يحاربه!
ولو أمنت الذي تجنى أراقمه * على هان الذي تجنى عقاربه

(1) ديوانه 36.
(2) ديوانه 54، وفيه: (خصم لا نغالبه).
346

أبو فراس بن حمدان:
تصفحت أحوال الزمان ولم يكن * إلى غير شاك للزمان وصول (1)
أكل خليل هكذا غير منصف * وكل زمان بالكرام بخيل!
ابن الرومي:
رأيت الدهر يرفع كل وغد * ويخفض كل ذي شيم شريفه
كمثل البحر يغرق فيه حي * ولا ينفك تطفو فيه جيفه
أو الميزان يخفض كل واف * ويرفع كل ذي زنة خفيفه
ابن نباتة:
وأصغر عيب في زمانك أنه * به العلم جهل، والعفاف فسوق
وكيف يسر الحر فيه بمطلب * وما فيه شئ بالسرور حقيق!
* * *
أبو العتاهية:
لتجذبني يد الدنيا بقوتها * إلى المنايا، وإن نازعتها رسني (2)
لله دنيا أناس دائبين لها * قد ارتعوا في غياض الغي والفتن
كسائمات رواع تبتغى سمنا * وحتفها لو درت في ذلك السمن
وله أيضا:
أنساك محياك المماتا * فطلبت في الدنيا الثباتا (3)

(1) ديوانه 315 (نشرة سامي الدهان).
(2) ديوانه 288.
(3) ديوانه 53.
347

وقال يزيد بن مفرغ الحميري:
لا ذعرت السوام في فلق الصبح * مغيرا ولا دعيت يزيدا (1)
يوم أعطى من المخافة ضيما * والمنايا يرصدنني أن أحيدا (2)
وقال آخر:
لا تحسبيني يا أمامة * عاجزا دنسا ثيابه
إني إذا خفت الهوان * مشيع ذلل ركابه (3)
مثله قول عنترة:
ذلل ركابي حيث شئت مشايعي * لبى وأحفزه برأي مبرم (4)
وقال آخر:
أخشية الموت در دركم * أعطيتم القوم فوق ما سألوا
إنا لعمر الاله نأبى الذي * قالوا ولما تقصف الأسل
نقبل ضيما ونحن نعرفه * ما دام منا بظهرها رجل
وقال آخر:
ورب يوم حبست النفس مكرهة * فيه لأكبت أعداء أحاشيها
آبي وآنف من أشياء آخذها * رث القوى، وضعيف القوم يعطيها
مثله للشداخ:
أبينا فلا نعطي مليكا ظلامة * ولا سوقة إلا الوشيج المقوما (5)

(1) السوام: الإبل الراعية.
(2) يرصدنني: يراقبنني.
(3) المشيع: الشجاع.
(4) من المعلقة 205 - بشرح التبريزي. ذلل: جمع ذلول، وهو من الإبل وغيرها ضد الصعب، والمشايع:
الشجاع، مثل المشيع، كأن قلبه لا يخذله فهو يشيعه. وأحفزه: أدفعه. والمبرم: المحكم.
(5) يعنى بالوشيج الرمح.
348

تروم الخلد في دار التفاني * وكم قد رام قبلك ما تروم!
لأمر ما تصرمت الليالي * وأمر ما تقلبت النجوم
تنام ولم تنم عنك المنايا * تنبه للمنية يا نئوم
إلى ديان يوم الدين نمضي * وعند الله تجتمع الخصوم
* * *
حسبنا الله وحده، وصلواته على خيرته من خلقه سيدنا محمد وآله الطاهرين.
* * *
تم الجزء الثالث
ويليه الجزء الرابع وأوله في ذكر يوم النحر وصفة الأضحية
349