الكتاب: تأويل مختلف الحديث
المؤلف: ابن قتيبة
الجزء:
الوفاة: ٢٧٦
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ القسم العام
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: قوبلت على ثلاث نسخ مخطوطة : ١- الأولى دمشقية بخط العلامة جمال الدين القاسمي ٢- الثانية بغدادية قرأها وصححها العلامة فخر العراق محمود الشكري الألوسي ٣- الثالثة مصرية في المكتبة الخديوية بخط السيد الفاضل محمد خلوصي حافظ الكتب بمكتبة راغب باشا

تأويل مختلف الحديث
تأليف
فقيه الأدباء وأديب الفقهاء الامام
أبى محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة
213 - 276 ه‍
قوبلت على ثلاث نسخ خطية:
1 - الأولى دمشقية بخط العلامة جمال الدين القاسمي
2 - الثانية بغدادية قراها وصححها العلامة فخر العراق
محمود شكري الآلوسي.
3 - الثالثة مصرية في المكتبة الخديوية بخط السيد الفاضل
محمد خلوصي حافظ الكتب بمكتبة راغب باشا.
دار الكتب العلمية
بيروت - لبنان
3

طبعت هذه النسخة على الطبعة التي حققها وصححها
المرحوم الشيخ إسماعيل الأسعردي رحمه الله وقد أثبتناه هذه
الملاحظة اعترافا بفضله
الناشر
جميع الحقوق محفوظة
لدار الكتب العلمية
بيروت - لبنان
يطلب من: دار الكتب العلمية بيروت - لبنان
هاتف 801332 - 805604 - 800842
ص ب: 9424 / 11 تلكس: Le Nasher 41245
4

ترجمة ابن قتيبة
(1) هو أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة، الدينوري - ويقال المروزي -
النحوي، اللغوي، صاحب التصانيف الحسان في فنون العلوم.
(2) ولد أبوه بمرو فلذلك يقال له المروزي، وولد هو بالكوفة فلذلك يقال له
الكوفي، وتولى قضاء الدينور ردحا من الزمن فلذلك يقال له الدينوري، يقال له
أيضا: القتيبي، أو القتبي، نسبة إلى جده قتيبة.
(3) ولد في مستهل رجب بالكوفة في سنة ثلاث عشرة ومائتين من الهجرة
(828 الميلادية) وسكن بغداد مدة، وحدث بها عن إسحاق بن راهويه، ومحمد بن
زياد بن عبيد الله، المعروف بالزيادي، وأبى حاتم السجستاني، وولى قضاء الدينور -
وهي بلدة من بلاد الجبل عند قرمسيين - ثم اشتغل بالتدريس في بغداد، فتخرج عليه
ابنه احمد، وروى عنه محمد بن عبد الله بن جعفر بن درستويه الفارسي وجماعة
ويعتبره العلماء امام مدرسة بغداد النحوية التي خلطت بين مذهبي البصريين والكوفيين.
(4) له تصانيف كلها ممتع مفيد، وقد تناولت هذه المؤلفات جميع معارف
عصره، حذاء فيها حذو المبرزين من أهل هذا العصر المثال أبى عثمان عمرو بن بحر
الجاحظ، وأبي حنيفة الدينوري، وكان من أهم بواعث هؤلاء ان يجعلوا اللغة والشعر
والاخبار في متناول طبقة الكتاب الذين بدأ شانهم يعملوا بما كان لهم من المنزلة المرموقة
في تصريف أمور الدولة يومذاك.
5

(5) لم يقتصر ابن قتيبة على المعارف الأدبية واللغوية، ولكنه اشترك في
المناقشات الكلامية التي استعر لهبها في عصره، وكان له من حسن الدفاع عن الحديث
والقرآن ضد النزعات الفلسفية ما جعل فريقا من الناس يعتبرونه لسان أهل السنة
وحامل لواء الحوار والجدل والمنافحة عنهم، ولكن ذلك كله لم يعصمه من اتهام قوم
له بالزندقة، وذلك شان خفافيش كل عصر حيال الأفذاذ النابهين، فصنف كتابا في
الرد على المشبهة يدرأ به في صدور المتقولين الخرصين ويدفع عن نفسه تهمة الزندقة
التي رموه بها.
(6) أهم تصانيفه الكتب التي نحدثك عنها، ونذكر لك مكان وجودها إن كان،
أو نسند لك الحديث عنها - ان لم نكن نعلم بوجودها - إلى من ذكرها من قدامي
أهل العلم.
1 - أدب الكاتب، طبع في ليدن وليبسك، وطبع بمصر مرارا، وشرحه
الجواليقي والبطليوسي، وشرح خطبته أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي.
2 - الأشربة، طبع بدمشق بتحقيق المرحوم الأستاذ محمد كرد على.
3 - اصلاح الغلط، ذكره القفظي بهذا الاسم، وذكره حاجي خليفة صاحب
كشف الظنون باسم " اصلاح غلط أبى عبيد في غريب الحديث ".
4 - اعراب القرآن، وذكره ابن خلكان، ولكن باسم " اعراب القراءات " وربما
كان الاسم عند ابن خلكان محرفا.
5 - الأنواء، توجد منه نسخة خطية في المكتبة الزكية بالقاهرة.
6 - تأويل مختلف الحديث، [وهو كتابنا هذا].
7 - التسوية بين العرب والعجم، وذكره القفطي في كتابه " انباه الرواة ".
8 - التقفيه، ذكره ابن خلكان، وذكر ابن النديم انه رأى منه ثلاثة اجزاء في
نحو ستمائة ورقة.
6

9 - جامع النحو - ذكره ابن النديم بهذا الاسم، وذكر القفطي كتابين، أحدهما
باسم " النحو " والاخر باسم " النحو الصغير ".
10 - الخيل، ذكره ابن خلكان، وذكره القفطي، وربما كان هو الذي ذكره في
كشف الظنون باسم " الحيل ".
11 - الرد على المشبهة، وذكره القفطي.
12 - طبقات الشعراء، أو الشعر والشعراء، طبع في لندن، وطبع في بيروت -
من منشورات دار الكتب العلمية
13 - العمل، وذكره القفطي.
14 - عيون الأخبار، طبع منه أربعة أقسام في غوتنجن، ثم طبع كاملا في دار
الكتب المصرية، وهذا الكتاب هو أهم المصادر التي صدر عنها ابن عبد ربه في كتاب
" العقد الفريد ".
15 - غريب الحديث، ويوجد في المكتبة الظاهرية بدمشق الثلث الأول والثلث الأخير من هذا الكتاب.
16 - غريب القرآن، يوجد منه نسخة خطية في المكتبة الظاهرية بدمشق تحت
رقم 33 لغة.
17 - الفرس، ذكره القفطي، وابن النديم يعده في ثنايا كتاب " معاني الشعر " الذي نذكره بعد.
18 - الفقه، ذكره القفطي بهذا الاسم، وذكره ابن النديم باسم " جامع الفقه ".
19 - المسائل والجوابات، ذكره بهذا الاسم القفطي، ويذكره السيوطي باسم
" المسائل والأجوبة " ويوجد في دار الكتب المصرية باسم " المسائل " نسخة خطية
محفوظة تحت رقم (6 لغة ش)، كما توجد منه نسخة خطية في مكتبة جوته.
20 - المعارف، طبع في غوتنجن سنة 1850 الميلادية، وطبع في مصر مرارا،
7

وتوجد منه نسختان خطيتان في دار الكتب المصرية.
21 - معاني الشعر، طبع منه قطعة بالهند في سنة 1850 الهجرية، ويذكر
أصحاب دائرة المعارف الاسلامية انه توجد منه نسخة خطية في مكتبة ايا صوفيا
بالاستانة محفوظة تحت رقم 4050.
22 - مشكل الحديث، وذكره ابن خلكان، وذكره القفطي.
23 - مشكل القرآن، وذكره ابن خلكان والقفطي أيضا، وقد جمع بينه وبين
كتاب غريب القرآن ابن مطرف الكناني في كتاب سماه " القرطين "، وقد طبع كتاب القرطين بمصر.
24 - الميسر والقداح، طبع هذا الكتاب في مصر بتحقيق الأستاذ محب الدين
الخطيب.
وله كتب كثيرة غير هذه، وينسب إليه كتاب " الامامية والسياسية " الذي طبع
مرارا في مصر وفى غير مصر، ولكن الاثبات، من ذوي الدراية والبحث يشكون
كثيرا - وحق لهم - في أن يكون ابن قتيبة ناسج بردته.
(7) توفى أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة في ذي العقدة من سنة سبعين
ومائتين (مايو 884 الميلادية) ويقال: في سنة احدى وسبعين ومائتين، ويقال: في
منتصف شهر رجب من سنة ست وسبعين ومائتين (نوفمبر 889 الميلادية) قال ابن
خلكان بعد حكاية هذه الأقوال على هذا الترتيب: " والأخير أصح الأقوال: وكانت
وفاته فجأة، صاح صيحة سمعت من بعد، ثم أغمي عليه ومات " رحمة الله رحمة
واسعة.
(8)
وكان ولده أبو جعفر أحمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة فقيها، وروى عن
أبيه كتبه المصنفة كلها، وتولى القضاء بمصر، وقدم مصر في الثامن عشر من شهر
جمادى الآخرة من سنة احدى وعشرين وثلاثمائة، وتوفى بها في شهر ربيع الأول من
سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة.
8

يقول مصححه الأول رحمه الله: ليعلم انا عثرنا لهذا الكتاب على أربعة أسانيد إلى
المؤلف أبى محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة رحمه الله تعالى، وانا له قربه، الا ان أبعها
لم يكن سالما من التحريف والسقط، كما اخبر كاتبه عن نفسه ان لم يكن من كتابته على
ثقة، لاندراس بعض الكلمات من اكل العث، واغفال بعضها من النقط.
فلما لم يفدنا ثلج الصدور، ولم يكن تصحيحه ولا بمراجعة شئ من كتب التراجم،
كالوفيات، اكتفينا باثبات الثلاثة التي اعتمدناها وأعرضنا عن الرابع لما علمت، ولا
سيما انه ليس من أصل الكتاب، فلا يهم إسقاطه.
والغرض من السند تصحيح نسبة الكتاب إلى مؤلفه.
ونسبة هذا الكتاب إلى ابن قتيبة مما لا شك فيه.
كيف وقد أثبت له كثير من الأئمة، ومنهم العسقلاني في شرح النخبة كتابا في
مختلف الحديث؟!!
ونقل عنه مثل الامام أبى الفرج ابن الجوزي، والإمام ابن فورك، كل في مؤلفه،
في موضوع الكتاب، وعبارات هي بعينها موجودة فيه؟!.
وها هي الأسانيد الثلاثة:
نص الأول
أخبرنا الشيخ أبو الحسن علي بن صالح بن ميمون العسقلاني، بمدينة عسقلان في
جمادى الأولى، في سنة ثلاثين وأربعمائة، قال: أخبرنا أبو عبد الله، عبيد الله بن محمد
9

العكبري، المعروف ب‍ " ابن بطة " قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن الحسن
الدينوري، قال: قرأت على أبى عبد الله بن مسلم بن قتيبة، فأقول: قال " اما بعد،
أسعدك الله الخ ".
نص الثاني
أخبرنا بجمعيه الشيخ الإمام أبو الحسن، علي بن إبراهيم البغدادي النحاس، قال:
حدثنا الشيخ الامام الحافظ، أبو بكر، محمد بن علي بن ثابت البغدادي، رضي الله عنه،
فيما كتب لي به في إجازة قال: أخبرنا أبو علي بن الحسن بن شهاب العكبري بقراءتي
عليه، قال أخبرنا أبو عبد الله، عبيد الله بن محمد شيخ همدان الفقيه، قال: حدثنا أبو
بكر، أحمد بن حسين إبراهيم الدينوري، بالدينور، قال: قال أبو محمد، عبد الله
ابن مسلم بن قتيبة " الحمد الله رب العالمين، العاقبة للمتقين، وصلى الله على محمد وآله
الطيبين الطاهرين، اما بعد، أسعدك الله الخ ".
نص الثالث
جاء في فهرست ما رواه عن شيوخه من الدواوين المصنفة في ضروب العلم وأنواع
المعارف، الفقيه المقرئ المحدث: أبو بكر، محمد بن خير الإشبيلي، مما يتعلق بهذا
الكتاب، ما نصه:
" كتاب مختلف الحديث، المدعى عليه التناقص " تأليف ابن قتيبة. حدثني به الشيخ
أبو جعفر، أحمد بن محمد بن عبد العزيز، عن أبي على، حسين بن محمد الغساني، قال:
اخبرني به أبو العاصي، حكم بن محمد بن الجذامي، عن أبي إسحاق، إبراهيم بن علي
ابن محمد بن غالب التمار، عن أحمد مروان المالكي، عن أبي محمد بن قتيبة.
قال أبو علي: حدثني به أيضا، حكم بن محمد، ان أبى عبد الله، محمد بن أحمد بن
عبد الوشاحي، عن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الله بن مسلم، ابن قتيبة، عن أبيه، عن
جده، أ ه‍.
10

بسم الله الرحمن الرحيم
قال الإمام أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة رحمه الله تعالى
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وصلى الله على محمد خاتم النبيين وآله
الطيبين الطاهرين
أما بعد أسعدك الله تعالى بطاعته وحاطك بكلاءته ووفقك للحق برحمته
وجعلك من أهله فإنك كتبت إلي تعلمني ما وقفت عليه من ثلب أهل الكلام أهل
الحديث وامتهانهم وإسهابهم في الكتب بذمهم ورميهم بحمل الكذب ورواية
المتناقض حتى وقع الاختلاف وكثرت النحل وتقطعت العصم وتعادى
المسلمون وأكفر بعضهم بعضا وتعلق كل فريق منهم لمذهبه بجنس من الحديث
فالخوارج تحتج بروايتهم ضعوا سيوفكم على عواتقكم ثم أبيدوا خضراءهم
ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم خلاف من خالفهم
ومن قتل دون ماله فهو شهيد
والقاعد يحتج بروايتهم عليكم بالجماعة فإن يد الله عز وجل عليها
ومن فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه
11

واسمعوا وأطيعوا وإن تأمر عليكم عبد حبشي مجدع الأطراف
وصلوا خلف كل بر وفاجر
ولا بد من إمام بر أو فاجر
وكن حلس بيتك فإن دخل عليك فادخل مخدعك فإن دخل عليك فقل بؤ
بإثمي وإثمك
وكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل
والمرجئ يحتج بروايتهم من قال لا إله إلا الله فهو في الجنة قيل وإن زنى
وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق
ومن قال لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة ولم تمسه النار
وأعددت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي
والمخالف له يحتج بروايتهم لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق
السارق حين يسرق وهو مؤمن
ولم يؤمن من لم يأمن جاره بوائقه
ولم يؤمن من لم يأمن المسلمون من لسانه ويده
ويخرج من النار رجل قد ذهب حبره وسبره
ويخرج من النار قوم قد امتحشوا فينبتون كما تنبت الحبة في حميل
12

السيل أو كما تنبت التغاريز
والقدري يحتج بروايتهم كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه أو
ينصرانه
وبأن الله تعالى قال خلقت عبادي جميعا حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن
دينهم
والمفوض يحتج بروايتهم اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما من كان من أهل
السعادة فهو يعمل للسعادة ومن كان من أهل الشقاء فيعمل للشقاء
وإن الله تعالى مسح ظهر آدم فقبض قبضتين فأما القبضة اليمنى فقال إلى الجنة
برحمتي والقبضة اليسرى فقال إلى النار ولا أبالي
والسعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه هذا وما أشبهه
والرافضة تتعلق في إكفارها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بروايتهم ليردن علي
الحوض أقوام ثم ليختلجن دوني فأقول أي ربي أصيحابي أصيحابي فيقول
إنك لا تدري ما أحدثوا بعد ك إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم
ولا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض
ويحتجون في تقديم علي رضي الله تعالى عنه بروايتهم أنت مني بمنزلة هارون
من موسى غير أنه لا نبي بعدي
13

ومن كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه
وأنت وصي
ومخالفوهم يحتجون في تقديم الشيخين رضي الله عنهم بروايتهم اقتدوا
باللذين من بعدي أبي بكر وعمر
ويأبى الله ورسوله والمسلمون إلا أبا بكر
وخير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر
ويتعلق مفضلو الغنى بروايتهم اللهم إني أسألك غناي وغنى مولاي اللهم
إني أعوذ بك من فقر مرب أو ملب
ويتعلق مفضلو الفقر بروايتهم اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا
واحشرني في زمرة المساكين
والفقر بالرجل المؤمن أحسن من العذار الحسن على خد الفرس
ويتعلق القائلون بالبداء بروايتهم صلة الرحم تزيد في العمر والصدقة تدفع
القضاء المبرم
وبقول عمر اللهم إن كنت كتبتني في أهل الشقاء فامحني واكتبني في أهل
السعادة
هذا مع روايات كثيرة في الاحكام اختلف لها الفقهاء في الفتيا حتى افترق
الحجازيون والعراقيون في أكثر أبواب الفقه وكل يبني على أصل من روايتهم
قالوا ومع افترائهم على الله تعالى في أحاديث التشبيه كحديث عرق الخيل
14

وزغب الصدر ونور الذراعين وعيادة الملائكة
وقفص الذهب على جمل أورق عشية عرفة
والشاب القطط ودونه فراش الذهب وكشف الساق يوم القيامة إذا
كادوا يباطشونه وخلق آدم على صورته ووضع يده بين كتفي حتى وجدت
برد أنامله بين ثندوتي وقلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الله تعالى
ومع روايتهم كل سخافة تبعث على الاسلام الطاعنين وتضحك منه الملحدين
وتزهد من الدخول فيه المرتدين وتزيد في شكوك المرتابين
كروايتهم في عجيزة الحوراء إنها ميل في ميل وفيمن قرأ سورة كذا وكذا
ومن فعل كذا كذا أسكن من الجنة سبعين ألف قصر في كل قصر سبعون ألف مقصورة في كل
مقصورة سبعون ألف مهاد على كل مهاد سبعون ألف كذا
وكروايتهم في الفأرة إنها يهودية وإنها لا تشرب ألبان الإبل كما أن اليهود لا
تشربها
15

وفي الغراب إنه فاسق وفي السنور إنها عطسة الأسد والخنزير إنه عطسة الفيل
وفي الإربيانة أنها كانت خياطة تسرق الخيوط فمسخت وأن الضب كان يهوديا
عاقا فمسخ وأن سهيلا كان عشارا باليمن وأن الزهرة كانت بغيا عرجت إلى
السماء باسم الله الأكبر فمسخها الله شهابا وأن الوزغة كانت تنفخ النار على
إبراهيم وأن العظاية تمج الماء عليه وأن الغول كانت تأتي مشربة أبي أيوب كل
ليلة وأن عمر رضي الله عنه صارع الجني فصرعه وأن الأرض على ظهر حوت
وأن أهل الجنة يأكلون من كبده أول ما يدخلون وأن ذئبا دخل الجنة لأنه أكل
عشارا وإذا وقع الذباب في الاناء فامقلوه فإن في أحد جناحيه سما وفي الآخر
شفاء وأنه يقدم السم ويؤخر الشفاء وأن الإبل خلقت من الشيطان مع أشياء
كثيرة يطول استقصاؤها
قالوا ومن عجيب شأنهم أنهم ينسبون الشيخ إلى الكذب ويكتبون عنه ما
يوافقه عليه المحدثون بقدح يحيى بن معين وعلي بن المديني وأشباههما
ويحتجون بحديث أبي هريرة فيما لا يوافقه عليه أحد من الصحابة وقد أكذبه
عمر وعثمان وعائشة
ويحتجون بقول فاطمة بنت قيس وقد أكذبها عمر وعائشة وقالوا لا ندع
كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة ويبهرجون الرجل بالقدر فلا يحملون عنه
16

ك‍ (غيلان وعمرو بن عبيد ومعبد الجهني وعمرو بن فائد ويحملون
عن أمثالهم من أهل مقالتهم ك قتادة وابن أبي عروبة وابن أبي نجيح ومحمد بن
المنكدر وابن أبي ذئب
ويقدحون في الشيخ يسوي بين علي وعثمان أو يقدم عليا عليه
ويروون عن أبي الطفيل عامر بن واثلة صاحب راية المختار وعن جابر الجعفي
وكلاهما يقول بالرجعة
قالوا وهم مع هذا أجهل الناس بما يحملون وأبخس الناس حظا فيما
يطلبون وقالوا في ذلك
زوامل للاشعار لا علم عندهم بجيدها إلا كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا بأحماله أو راح ما في الغرائر
قد قنعوا من العلم برسمه ومن الحديث باسمه
ورضوا بأن يقولوا فلان عارف بالطرق وراوية للحديث
وزهدوا في أن يقال عالم بما كتب أو عامل بما علم قالوا وما ظنكم برجل
منهم يحمل عنه العلم وتضرب إليه أعناق المطي خمسين سنة أو نحوها سئل في ملا
من الناس عن فأرة وقعت في بئر فقال البئر جبار
17

وآخر سئل عن قوله تعالى ريح فيها صر فقال هو هذا الصرصر يعني
صراصر الليل وآخر حدثهم عن سبعة وسبعين ويريد شعبة وسفين وآخر روى
لهم يستر المصلي مثل آجرة الرجل يريد مثل آخرة الرحل وسئل آخر متى
يرتفع هذا الأجل فقال إلى قمرين يريد إلى شهري هلال
وقال آخر يدخل يده في فيه فيقضمها قضم الفجل يريد قضم الفحل
وقال آخر أجد في كتابي الرسول ولا أجد الله يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
المستملي اكتبوا وشك في الله تعالى مع أشياء يكثر تعدادها
قالوا وكلما كان المحدث أموق كان عندهم أنفق
وإذا كان كثير اللحن والتصحيف كانوا به أوثق
وإذا ساء خلقه وكثر غضبه واشتد حدة وعسرة في الحديث تهافتوا عليه
ولذلك كان الأعمش يقلب الفرو ويلبسه ويطرح على عاتقه منديل الخوان
وسأله رجل عن إسناد حديث فأخذ بحلقه وأسنده إلى الحائط
وقال هذا إسناده وقال إذا رأيت الشيخ لم يطلب الفقه أحببت أن أصفعه
مع حماقات كثيرة تؤثر عنه لا نحسبه كان يظهرها إلا لينفق بها عندهم
18

قال أبو محمد هذا ما حكيت من طعنهم على أصحاب الحديث وشكوت تطاول
الامر بهم على ذلك من غير أن ينضح عنهم ناضح ويحتج لهذه الأحاديث محتج أو
يتأولها متأول حتى أنسوا بالعيب ورضوا بالقذف وصاروا بالامساك عن الجواب
كالمسلمين وبتلك الأمور معترفين
وتذكر أنك وجدت في كتابي المؤلف في غريب الحديث بابا ذكرت فيه شيئا
من المتناقض عندهم وتأولته فأملت بذلك أن تجد عندي في جميعه مثل الذي وجدته
في تلك من الحجج وسألت أن أتكلف ذلك محتسبا للثواب
فتكلفته بمبلغ علمي ومقدار طاقتي وأعدت ما ذكرت في كتبي من هذه
الأحاديث ليكون الكتاب تاما جامعا للفن الذي قصدوا الطعن به
وقدمت قبل ذكر الأحاديث وكشف معانيها وصف أصحاب الكلام
وأصحاب الحديث بما أعرف به كل فريق
وأرجو أن لا يطلع ذو النهى مني على تعمد لتمويه ولا إيثار لهوى ولا ظلم
لخصم
وعلى الله أتوكل فيم أحاول وبه أستعين
19

باب
ذكر أصحاب الكلام وأصحاب الرأي
قال أبو محمد وقد تدبرت رحمك الله مقالة أهل الكلام فوجدتهم يقولون
على الله مالا يعلمون ويفتنون الناس بما يأتون ويبصرون القذى في عيون الناس
وعيونهم تطر ف على الأجذاع ويتهمون غيرهم في النقل ولا يتهمون آراءهم في
التأويل
ومعاني الكتاب والحديث وما أودعاه من لطائف الحكمة وغرائب اللغة لا يدرك
بالطفرة والتولد والعرض والجوهر والكيفية والكمية والأينية
ولو ردوا المشكل منهما إلى أهل العلم بهما وضح لهم المنهج واتسع لهم المخرج
ولكن يمنع من ذلك طلب الرياسة وحب الاتباع واعتقاد الاخوان بالمقالات
والناس أسراب طير يتبع بعضها بعضا
20

ولو ظهر لهم من يدعي النبوة مع معرفتهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء أو
من يدعي الربوبية لوجد على ذلك أتباعا وأشياعا
وقد كان يجب مع ما يدعونه من معرفة القياس وإعداد آلات النظر أن لا
يختلفوا كما لا يختلف الحساب والمساح والمهندسون لان آلتهم لا تدل إلا على عدد
واحد وإلا على شكل واحد وكما لا يختلف حذاق الأطباء في الماء وفي نبض العروق
لان الأوائل قد وقفوهم من ذلك على أمر واحد فما بالهم أكثر الناس اختلافا لا
يجتمع اثنان من رؤسائهم على أمر واحد في الدين
ف‍ (أبو الهذيل العلاف يخالف النظام والنجار يخالفهما وهشام بن
الحكم يخالفهم وكذلك ثمامة ومويس وهاشم الأوقص وعبيد الله بن
الحسن وبكر العمى وحفص وقبة وفلان وفلان
ليس منهم واحد إلا وله مذهب في الدين يدان برأيه وله عليه تبع
قال أبو محمد ولو كان اختلافهم في الفروع والسنن لاتسع لهم العذر عندنا وإن
كان لا عذر لهم مع ما يدعونه لأنفسهم كما اتسع لأهل الفقه ووقعت لهم الأسوة
بهم
ولكن اختلافهم في التوحيد وفي صفات الله تعالى وفي قدرته وفي نعيم أهل
الجنة وعذاب أهل النار وعذاب البرزخ وفي اللوح وفي غير ذلك من الأمور التي
لا يعلمها نبي إلا بوحي من الله تعالى
ولن يعدم هذا من رد مثل هذه الأصول إلى استحسانه ونظره وما أوجبه القياس
عنده لاختلاف الناس في عقولهم وإراداتهم واختياراتهم
فإنك لا تكاد ترى رجلين متفقين حتى يكون كل واحد منهما يختار ما يختاره
الآخر ويرذل ما يرذله الآخر إلا من جهة التقليد
21

والذي خالف بين مناظرهم وهيئاتهم وألوانهم ولغاتهم وأصواتهم وخطوطهم
وآثارهم حتى فرق القائف بين الأثر والأثر وبين الأنثى والذكر هو الذي خالف بين
آرائهم
والذي خالف بين الآراء هو الذي أراد الاختلاف لهم
ولن تكمل الحكمة والقدرة إلا بخلق الشئ وضده ليعرف كل واحد منهما
بصاحبه
فالنور يعرف بالظلمة والعلم يعرف بالجهل والخير يعرف بالشر والنفع
يعرف بالضر والحلو يعرف بالمر لقول الله تبارك وتعالى سبحان الذي خلق
الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون
والأزواج الأضداد والأصناف كالذكر والأنثى واليابس والرطب
وقال تعالى وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى
ولو أردنا رحمك الله أن ننتقل عن أصحاب الحديث ونرغب عنهم إلى
أصحاب الكلام ونرغب فيهم لخرجنا من اجتماع إلى تشتت وعن نظام إلى تفرق
وعن أنس إلى وحشة وعن اتفاق إلى اختلاف لان أصحاب الحديث كلهم مجمعون
على أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لا يكون وعلى أنه خالق الخير والشر وعلى
أن القرآن كلام الله غير مخلوق وعلى أن الله تعالى يرى يوم القيامة وعلى تقديم
الشيخين وعلى الايمان بعذاب القبر لا يختلفون في هذه الأصول ومن فارقهم في شئ
منها نابذوه وباغضوه وبدعوه وهجروه وإنما اختلفوا في اللفظ بالقرآن لغموض
وقع في ذلك وكلهم مجمعون على أن القرآن بكل حال مقروءا ومكتوبا ومسموعا
ومحفوظا غير مخلوق فهذا الاجماع
22

وأما الايتساء فبالعلماء المبرزين والفقهاء المتقدمين والعباد المجتهدين الذين
لا يجارون ولا يبلغ شأوهم
مثل سفيان الثوري ومالك بن أنس والأوزاعي وشعبة والليث بن سعد
وعلماء الأمصار وكإبراهيم بن أدهم ومسلم الخواص والفضيل بن عياض وداود
الطائي ومحمد بن النضر الحارثي وأحمد بن حنبل وبشر الحافي وأمثال هؤلاء ممن
قرب من زماننا
فأما المتقدمون فأكثر من أن يبلغهم الاحصاء ويحوزهم العدد ثم بسواد الناس
ودهمائهم وعوامهم في كل مصر وفي كل عصر فإن من أمارات الحق إطباق
قلوبهم على الرضاء به ولو أن رجلا قام في مجامعهم وأسواقهم بمذاهب أصحاب
الحديث التي ذكرنا إجماعهم عليها ما كان في جميعهم لذلك منكر ولا عنه نافر ولو
قام بشئ مما يعتقده أصحاب الكلام مما يخالفه ما ارتد إليه طرفه إلا مع خروج
نفسه
فإذا نحن أتينا أصحاب الكلام لما يزعمون أنهم عليه من معرفة القياس وحسن
النظر وكمال الإرادة وأردنا أن نتعلق بشئ من مذاهبهم ونعتقد شيئا من نحلهم
وجدنا النظام شاطرا من الشطار يغدو على سكر ويروح على سكر ويبيت على
جرائرها ويدخل في الأدناس ويرتكب الفواحش والشائنات وهو القائل
ما زلت آخذ روح الزق في لطف وأستبيح دما من غير مجروح
23

حتى انثنيت ولي روحان في جسدي والزق مطرح جسم بلا روح
ثم نجد أصحابه يعدون مخطئه قوله إن الله عز وجل يحدث الدنيا وما فيها
في كل وقت من غير إفنائها
قالوا فالله في قوله يحدث الموجود ولو جاز إيجاد الموجود لجاز إعدام المعدوم
وهذا فاحش في ضعف الرأي وسوء الاختيار
وحكوا عنه أنه قال قد يجوز أن يجمع المسلمون جميعا على الخطأ
قال ومن ذلك إجماعهم على أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس كافة دون جميع الأنبياء
وليس كذلك وكل نبي في الأرض بعثه الله تعالى فإلى جميع الخلق بعثه لان آيات
الأنبياء لشهرتها تبلغ آفاق الأرض وعلى كل من بلغه ذلك أن يصدقه ويتبعه
فخالف الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال بعثت إلى الناس كافة وبعثت إلى الأحمر
والأسود وكان النبي يبعث إلى قومه وأول الحديث
وفي مخالفة الرواية وحشة فكيف بمخالفة الرواية والاجماع لما استحسن
وكان يقول في الكنايات عن الطلاق كالخلية والبرية وحبلك على غاربك
والبتة وأشباه ذلك أنه لا يقع بها طلاق نوى الطلاق أو لم ينوه
فخالف إجماع المسلمين وخالف الرواية لما استحسن
24

وكذلك كان يقول إذا ظاهر بالبطن أو الفرج لم يكون مظاهرا وإذا آلى بغير
الله تعالى لم يكن موليا لان الايلاء مشتق من اسم الله تعالى
وكان يقول إذا نام الرجل أول الليل على طهارة مضطجعا أو قاعدا أو
متوركا أو كيف نام إلى الصبح لم ينتقض وضوؤه لان النوم لا ينقض الوضوء
قال وإنما أجمع الناس على الوضوء من نوم الضجعة لأنهم كانوا يرون
أوائلهم إذا قاموا بالغداة من نوم الليل تطهروا لان عادات الناس الغائط والبول
مع الصبح ولان الرجل يستيقظ وبعينه رمص وبفيه خلوف وهو متهيج
الوجه فيتطهر للحدث والنشرة لا للنوم وكما أوجب كثير من الناس الغسل يوم
الجمعة لان الناس كانوا يعملون بالغداة في حيطانهم فإذا أرادوا الرواح
اغتسلوا
فخالف بهذا القول الرواية والاجماع وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أمتي لا
تجتمع على خطأ
وذكر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لو كان هذا الدين بالقياس لكان
باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره
فقال كان الواجب على عمر العمل بمثل ما قال في الاحكام كلها وليس ذلك
بأعجب من قوله أجرؤكم على الجد أجرؤكم على النار ثم قضى في الجد بمائة قضية
مختلفة
25

وذكر قول أبي بكر رضي الله تعالى عنه حين سئل عن آية من كتاب الله
تعالى فقال أي سماء تظلني وأي أر ض تقلني أم أين أذهب أم كيف أصنع
إذا أنا قلت في آية من كتاب الله تعالى بغير ما أراد الله
ثم سئل عن الكلالة فقال أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن
كان خطأ فمني هي ما دون الولد والوالد
قال وهذا خلاف القول الأول ومن استعظم القول بالرأي ذلك الاستعظام
لم يقدم على القول بالرأي هذا الاقدام حتى ينفذ عليه الاحكام
وذكر قول علي كرم الله وجهه حين سئل عن بقرة قتلت حمارا فقال أقول
فيها برأيي فإن وافق رأيي قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فذاك وإلا فقضائي رذل
فسل
قال وقال من أحب أن يتقحم جراثيم جهنم فليقل في الجد ثم قضى فيه
بقضايا مختلفة
وذكر قول بن مسعود في حديث بروع بنت واشق
أقول فيها برأيي فإن كان خطأ فمني وإن كان صوابا فمن الله تعالى
قال وهذا هو الحكم بالظن والقضاء بالشبهة وإذا كانت الشهادة بالظن
حراما فالقضاء بالظن أعظم
قال ولو كان بن مسعود بدل نظره في الفتيا نظر في الشقي كيف يشقى
والسعيد كيف يسعد حتى لا يفحش قوله على الله تعالى ولا يشتد غلطه لقد كان
أولى به
قال وزعم أن القمر انشق وأنه رآه وهذا من الكذب الذي لا خفاء به لان
الله تعالى لا يشق القمر له وحده ولا لآخر معه وإنما يشقه ليكون آية للعالمين
26

وحجة للمرسلين ومزجرة للعباد وبرهانا في جميع البلاد فكيف لم تعرف بذلك
العامة ولم يؤرخ الناس بذلك العام ولم يذكره شاعر وليسلم عنده كافر ولم
يحتج به مسلم على ملحد
قال ثم جحد من كتاب الله تعالى سورتين فهبه لم يشهد قراءة النبي صلى الله عليه وسلم بهما
فهلا استدل بعجيب تأليفهما وأنهما على نظم سائر القرآن المعجز للبلغاء أن ينظموا
نظمه وأن يحسنوا مثل تأليفه
قال وما زال يطبق في الركوع إلى أن مات كأنه لم يصل مع النبي صلى الله عليه وسلم أو
كان غائبا وشتم زيد بن ثابت بأقبح الشتم لما اختار المسلمون قراءته لأنها آخر
العرض
وعاب عثمان رضي الله عنه حين بلغه أنه صلى بمنى أربعا ثم تقدم
فكان أول من صلى أربعا فقيل له في ذلك فقال الخلاف شر والفرقة شر وقد
عمل بالفرقة في أمور كثيرة ولم يزل يقول في عثمان القول القبيح منذ اختار
قراءة زيد ورأي قوما من الزط فقال هؤلاء أشبه من رأيت بالجن ليلة الجن
ذكر ذلك سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي
وذكر داود عن الشعبي عن علقمة قال قلت لابن مسعود كنت مع النبي صلى الله
عليه وآله سلم ليلة الجن فقال ما شهدها منا أحد
وذكر حذيفة بن اليمان فقال جعل يحلف لعثمان على أشياء بالله تعالى ما قالها
وقد سمعوه قالها
فقيل له في ذلك فقال إني أشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كله
رواه مسعر بن كدام عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة
وذكر أبا هريرة فقال أكذبه عمر وعثمان وعلي وعائشة رضوان الله
عليهم
27

وروى حديثا في المشي في الخف الواحد فبلغ عائشة فمشت في خف واحد
وقالت لأخالفن أبا هريرة
وروى أن الكلب والمرأة والحمار تقطع الصلاة
فقالت عائشة رضي الله عنها ربما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وسط السرير
وأنا على السرير معترضة بينه وبين القبلة
قال وبلغ عليا أن أبا هريرة يبتدئ بميامنه في الوضوء وفي اللباس فدعا بماء
فتوضأ فبدأ بمياسره وقال لأخالفن أبا هريرة
وكان من قوله حدثني خليلي وقال خليلي ورأيت خليلي
فقال له علي متى كان النبي خليلك يا أبا هريرة
قال وقد روى من أصبح جنبا فلا صيام له
فأرسل مروان في ذلك إلى عائشة وحفصة يسألهما فقالتا كان النبي صلى الله عليه وسلم
يصبح جنبا من غير احتلام ثم يصوم
فقال للرسول اذهب إلى أبي هريرة حتى تعلمه
فقال أبو هريرة إنما حدثني بذلك الفضل بن العباس
فاستشهد ميتا وأوهم الناس أنه سمع الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسمعه
قال أبو محمد هذا قوله في جلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم كأنه لم
يسمع بقول الله عز وجل في كتابه الكريم محمد رسول الله والذين معه إلى
آخر السورة ولم يسمع بقوله تعالى لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك
تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم
ولو كان ما ذكرهم به حقا لا مخر منه ولا عذر فيه ولا تأويل له إلا ما
ذهب إليه لكان حقيقا بترك ذكره والاعراض عنه إذ كان قليلا يسيرا مغمورا
28

في جنب محاسنهم وكثير مناقبهم وصحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبذلهم مهجهم
وأموالهم في ذات الله تعالى
قال أبو محمد وشئ أعجب عندي من ادعائه على عمر بن الخطاب رضي
الله عنه أنه قضى في الجد بمائة قضية مختلفة وهو من أهل النظر وأهل القياس
فهلا اعتبر هذا ونظر فيه ليعلم أن يستحيل أن يقضي عمر في أمر واحد بمائة
قضية مختلفة فأين هذه القضايا وأين عشرها ونصف عشرها أما كان في حملة
الحديث من يحفظ منها خمسا أو ستا ولو اجتهد مجتهد أن يأتي من القضاء في
الجد بجميع ما يمكن فيه من قول ومن حيلة ما كان يتيسر له أن يأتي فيه
بعشرين قضية وكيف لم يجعل هذا الحديث إذ كان مستحيلا مما ينكر من
الحديث ويدفع مما قد أتى به الثقات وما ذاك إلا لضغن يحتمله على عمر رضي
الله عنه وعداوة
قال أبو محمد وأما طعنه على أبي بكر رضي الله عنه بأنه سئل عن اية من كتاب
الله تعالى فاستعظم أن يقول فيها شيئا ثم قال في الكلالة برأيه
فإن أبا بكر رضي الله عنه سئل عن شئ من متشابه القرآن العظيم الذي لا يعلم
تأويله إلا الله والراسخون في العلم فأحجم عن القول فيه مخافة أن يفسره بغير
مراد الله تعالى
وأفتى في الكلالة برأيه لأنه أمر ناب المسلمين واحتاجوا إليه في مواريثهم
وقد أبيح له اجتهاد الرأي فيما لم يؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شئ ولم يأت له
في الكتاب شئ كاشف وهو إمام المسلمين ومفزعهم فيما ينوبهم فلم يجد بدا من
أن يقول
وكذلك قال عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد رضي الله عنهم حين سئلوا
وهم الأئمة والمفزع إليهم عند النوازل
29

فماذا كان ينبغي لهم أن يفعلوا عند أيدعون النظر في الكلالة وفي الجد إلى
أن يأتي هو وأشباهه فيتكلموا فيهما
ثم طعنه على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بقوله إن القمر انشق وأنه
رأى ذلك ثم نسبه فيه إلى الكذب وهذا ليس بإكذاب لابن مسعود ولكنه بخس
لعلم النبوة وإكذاب للقرآن العظيم لان الله تعالى يقول اقتربت الساعة وانشق
القمر فإن كان القمر لم ينشق في ذلك الوقت وكان مراده سينشق القمر
فيما بعد فما معنى قوله وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر
بعقب هذا الكلام
أليس فيه دليل على أن قوما رأوه منشقا فقالوا هذا سحر مستمر من
سحره وحيلة من حيله كما قد كانوا يقولون في غير ذلك من أعلامه
وكيف صارت الآية من آيات النبي صلى الله عليه وسلم والعلم من أعلامه لا يجوز عنده أن
يراها الواحد والاثنان والنفر دون الجميع
أوليس قد يجوز أن يخبر الواحد والاثنان والنفر والجميع كما أخبر مكلم
الذئب بأن ذئبا كلمه وأخبر آخر بأن بعيرا شكا إليه وأخبر آخر أن مقبورا
لفظته الأرض
وطعنه عليه لجحده سورتين من القرآن العظيم يعني المعوذتين فإن لابن مسعود
في ذلك سببا والناس قد يظنون ويزلون وإذا كان هذا جائزا على النبيين
والمرسلين فهو على غيرهم أجوز
وسببه في تركه إثباتهما في مصحفه أنه كان يرى النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ بهما الحسن
والحسين ويعوذ غيرهما كما كان يعوذهما بأعوذ بكلمات الله التامة فظن أنهما
ليستا من القرآن فلم يثبتهما في مصحفه
30

وبنحو هذا السبب أثبت أبي بن كعب في مصحفه افتتاح دعاء القنوت
وجعله سورتين لأنه كان يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بهما في الصلاة دعاء دائما
فظن أنه من القرآن
وأما التطبيق فليس من فرض الصلاة وإنما الفرض الركوع والسجود لقول
الله عز وجل اركعوا واسجدوا فمن طبق فقد ركع ومن وضع يديه على
ركبتيه فقد ركع وإنما وضع اليدين على الركبتين أو التطبيق من آداب
الركوع وقد كان الاختلاف في آداب الصلاة فكان منهم من يقعي ومنهم من
يفترش ومنهم من يتورك وكل ذلك لا يفسد الصلاة وإن اختلف
وأما نسبته إياه إلى الكذب في حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم الشقي من شقي في بطن
أمه والسعيد من سعد في بطن أمه
فكيف يجوز أن يكذب بن مسعود على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الحديث
الجليل المشهور ويقول حدثني الصادق المصدوق وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
متوافرون ولا ينكره أحد منهم ولأي معنى يكذب مثله على رسول الله صلى الله عليه وسلم في
أمر لا يجتذب به إلى نفسه نفعا ولا يدفع عنه ضرا ولا يدنيه من سلطان
ولا رعية ولا يزداد به مالا إلى ماله وكيف يكذب في شئ قد وافقه على
روايته عدد منهم أبو أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبق العلم وجف القلم وقضي
القضاء وتم القدر بتحقيق الكتاب وتصديق الرسل بالسعادة لمن آمن واتقى
والشقاء لمن كذب وكفر
وقال عز وجل بن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء
وبإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد وبفضلي ورحمتي أديت إلي
فرائضي وبنعمتي قويت على معصيتي
31

وهذا الفضل بن عباس بن عبد المطلب يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال له
يا غلام احفظ الله يحفظك وتوكل عليه تجده أمامك وتعرف إليه في الرخاء
يعرفك في الشدة واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن
ليصيبك وأن القلم قد جف بما هو كائن إلى يوم القيامة
وكيف يكذب بن مسعود في أمر يوافقه عليه الكتاب
يقول الله تعالى أولئك كتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه أي جعل في قلوبهم الايمان كما قال في الرحمة فأكتبها للذين يتقون ويؤتون
الزكاة الآية أي سأجعلها
ومن جعل الله تعالى في قلبه الايمان فقد قضى له بالسعادة
وقال عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من
يشاء ولا يجوز أن يكون إنك لا تسمي من أحببت هاديا ولكن الله يسمي
من يشاء هاديا
وقال يضل من يشاء ويهدي من يشاء كما قال وأضل فرعون قومه وما هدى ولا يجوز أن يكون سمى فرعون
قومه ضالين وما سماهم
مهتدين
وقال فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام ومن يرد أن يضله
يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء
وقال ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم
من الجنة والناس أجمعين وأشباه هذا في القرآن والحديث يكثر ويطول
32

ولم يكن قصدنا في هذا الموضع الاحتجاج على القدرية فنذكر ما جاء في
الرد عليهم ونذكر فساد تأويلاتهم واستحالتها وقد ذكرت هذا في غير موضع
من كتبي في القرآن
وكيف يكذب بن مسعود في أمر توافقه عليه العرب في الجاهلية والاسلام قال
بعض الرجاز
يا أيها المضمر هما لا تهم * إنك إن تقدر لك الحمى تحم
ولو علوت شاهقا من العلم * كيف توقيك وقد جف القلم
وقال آخر
هي المقادير فلمني أو فذر * إن كنت أخطأت فما أخطأ القدر
وقال لبيد
إن تقوى ربنا خير نفل * وبأمر الله ريثي وعجل
من هداه سبل الخير اهتدى * ناعم البال ومن شاء أضو
قال الفرزدق
ندمت ندامة الكسعي لما * غدت مني مطلقة نوار
وكانت جنة فخرجت منها * كآدم حين أخرجه الضرار
ولو ضنت يداي بها ونفسي * لكان علي للقدر الخيار
وقال النابغة
وليس امرؤ نائلا من هواه * شيئا إذا هو لم يكتب
وكيف يكذب بن مسعود رضي الله عنه في أمر توافقه عليه كتب الله تعالى
وهذا وهب بن منبه يقول قرأت في اثنين وسبعين كتابا من كتب الله تعالى
33

اثنان وعشرون منها من الباطن وخمسون من الظاهر أجد فيها كلها أن من
أضاف إلى نفسه شيئا من الاستطاعة فقد كفر
وهذه التوراة فيها إن الله تعالى قال لموسى اذهب إلى فرعون فقل له
أخرج إلي بني بكري بني إسرائيل من أرض كنعان إلى الأرض المقدسة
ليحمدوني ويمجدوني ويقدسوني اذهب إليه فأبلغه وأنا أقسي قلبه حتى لا
يفعل
قال أبو محمد بكري أي هو لي بمنزلة أولاد الرجل للرجل وهو بكري
أي أول من اخترته
وقال حماد رواية عن مقاتل قال لي عمرو بن فائد يأمر الله بالشئ ولا
يريد أن يكون
قلت نعم أمر إبراهيم عليه السلام أن يذبح ابنه وهو لا يريد أن يفعل
قال إن تلك رؤيا
قلت ألم تسمعه يقول يا أبت افعل ما تؤمر وهذه أمم العجم كلها
تقول بالاثبات والهند تقول في كتاب كليلة ودمنة وهو من جيد كتبهم القديمة
اليقين بالقدر لا يمنع الحازم توقي المهالك وليس على أحد النظر في القدر
المغيب ولكن عليه العمل بالحزم
34

قال أبو محمد ونحن نجمع تصديقا بالقدر وأخذا بالحزم
قال أبو محمد وقرأت في كتب العجم أن هرمز سئل عن السبب الذي بعث
فيروز على غزو الهياطلة ثم الغدر بهم
فقال إن العباد يجرون من قدر ربنا ومشيئته فيما ليس لهم صنع معه ولا
يملكون تقدما ولا تأخرا عنه
فمن كانت مسألته عما سأل عنه وهو مستشعر للمعرفة بما ذكرنا من ذلك لا
يقصد بمسألته إلا عن العلة التي جرى بها المقدار على من جرى ذلك الامر عليه
والسبب الظاهر الذي أدركته الأعين منه متبعا لما جرى عليه الناس في قولهم
ما صنع فلان وهم يريدون ما صنع به أو صنع على يديه
وكذلك قولهم مات فلان أو عاش فلان وإنما يريدون فعل به فذلك
القصد من مسألته ومن تعدى ذلك كان الجهل أولى به
وليس حملنا ما حملنا على المقادير في قصته تحريا لمعذرته ولا طلبا
لتحسين أمره ولا إنكارا أن يكون ما قدر على المخلوق من آثاره وإن لم يكن
يستطيع دفع مكروهها ولا اجتلاب محمودها إلى نفسه وهو السبب الذي يجري به
ما غيب عنا من ثوابه وعقابه مما حتم به عدل المبتدي لخلقه
وأما حديثه الآخر الذي نسبه فيه إلى الكذب فقال رأى قوما من الزط فقال
هؤلاء أشبه من رأيت بالجن ليلة الجن ثم سئل عن ذلك فقيل له كنت مع النبي
صلى الله عليه وسلم ليلة الجن فقال ما شهدها منا أحد
35

فادعى في الحديث الأول أنه شهدها وأنكر ذلك في الحديث الآخر وتصحيحه
الخبرين عنه فكيف يصح هذا عن بن مسعود مع ثاقب فهمه وبارع علمه
وتقدمه في السنة الذين انتهى إليهم العلم بها واقتدت بهم الأمة مع خاصته برسول
الله صلى الله عليه وسلم ولطف محله
وكيف يجوز عليه أن يقر بالكذب هذا الاقرار فيقول اليوم شهدت
ويقول غدا لم أشهد ولو جهد عدوه أن يبلغ منه ما بلغه من نفسه ما قدر ولو
كان به خبل أو عته أو آفة ما زاد على ما وسم به نفسه
وأصحاب الحديث لا يثبتون حديث الزط وما ذكر من حضوره مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم ليلة الجن وهم القدوة عندنا في المعرفة بصحيح الاخبار وسقيمها لأنهم
أهلها والمعتنون بها وكل ذي صناعة أولى بصناعته
غير أنا لا نشك في بطلان أحد الخبرين لأنه لا يجوز على عبد الله بن مسعود
أنه يخبر الناس عن نفسه بأنه قد كذب ولا يسقط عندهم مرتبته ولو فعل
ذلك لقيل له فلم خيرتنا أمس بأنك شهدت
فإن كان الامر على ما قال أصحاب الحديث فقد سقط الخبر الأول وإن
كان الحديثان جميعا صحيحين فلا أرى الناقل للخبر الثاني إلا وقد أسقط منه
حرفا وهو غيري يدلك على ذلك أنه قال قيل له أكنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة
الجن فقال ما شهدها أحد منا غيري فأغفل الراوي غيري إما بأنه لم
يسمعه أو بأنه سمعه فنسيه أو بأن الناقل عنه أسقطه
وهذا وأشباهه قد يقع ولا يؤمن ومما يدل على ذلك أنه قال له هل كنت
36

مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن فقال ما شهدها أحد منا
وليس هذا جوابا لقوله هل كنت وإنما هو جواب لقول السائل هل
كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن وإذا كان قول السائل هل كنت مع النبي
صلى الله عليه وسلم ليلة الجن حسن أن يكون الجواب ما شهدها أحد منا غيري يؤكد
ذلك ما كان من متقدم قوله
وأما ما حكاه عن حذيفة أنه حلف على أشياء لعثمان ما قالها وقد سمعوه
قالها فقيل له في ذلك
فقال إني أشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كله
فكيف حمل الحديث على أقبح وجوهه ولم يتطلب له العذر والمخرج وقد
أخبر به وذلك قوله أشتري ديني بعضه ببعض
أفلا تفهم عنه معناه وتدبر قوله ولكن عداوته لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
وما احتمله من الضغن عليهم حال بينه وبين النظر
والعداوة البغض يعميان ويصمان كما أن الهوى يعمي ويصم
واعلم رحمك الله أن الكذب والحنث في بعض الأحوال أولى بالمرء
وأقرب إلى الله من الصدق في القول والبر في اليمين
ألا ترى رجلا لو رأى سلطانا ظالما وقادرا قاهرا يريد سفك دم امرئ
مسلم أو معاهد بغير حق أو استباحة حرمه أو إحراق منزله فتخرص قولا
كاذبا ينجيه به أو حلف يمينا فاجرة كان مأجورا عند الله مشكورا عند
عباده
37

ولو أن رجلا حلف لا يصل رحما ولا يؤدي زكاة ثم استفتى الفقهاء لأفتوه
جميعا بأن لا يبر في يمينه والله تعالى يقول ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم
أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس
يريد لا تجعلوا الحلف بالله مانعا لكم من الخير إذا حلفتم أن لا تأتوه
ولكن كفروا وائتوا الذي هو خير
وكذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلف على شئ فرأى غيره خيرا منه
فليكفر وليأت الذي هو خير
وقد رخص في الكذب في الحرب لأنها خدعة وفي الاصلاح بين الناس وفي
إرضاء الرجل أهله
ورخص له أن يوري في يمينه إلى شئ إذا ظلم أو خاف على نفسه
والتورية أن ينوي غير ما نوى مستحلفه كأن كان معسرا أحلفه رجل عند حاكم
على حق له عليه فخاف الحبس وقد أمر الله تعالى بإنظاره
فيقول والله ما لهذا علي شئ ويقول في نفسه يومي هذا
أو يقول واللاه يريد من اللهو إلا أنه حذف الياء وأبقى الكسرة منها دليلا
عليها كما قال الله تعالى يا عباد الذين آمنوا ويوم يدع الداع
ويناد المناد
أو يقول كل مالا أملكه صدقة يريد كل ما لن أملكه أي ليس أملكه
وأن يحلفه رجل أن لا يخرج من باب هذه الديار وهو له ظالم فيتسور الحائط
ويخرج متأولا بأنه لم يخرج من باب الدار وإن كانت نية المستحلف أن لا يخرج
منها بوجه من الوجوه فهذا وما أشبهه من التورية
38

وجاءت الرخصة في المعاريض وقيل إن فيها عن الكذب مندوحة
فمن المعاريض قول إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم في امرأته إنها أختي يريد أن
المؤمنين إخوة وقوله بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون
أراد بل فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون فجعل النطق شرطا للفعل وهو
لا ينطق ولا يفعل
وقوله إني سقيم يريد سأسقم لان من كتب عليه الموت والفناء
فلا بد من أن يسقم
قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم إنك ميت وإنهم ميتون
ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ميتا في وقته ذلك وإنما أراد إنك ستموت وسيموتون
فأين كان تطلب المخرج له من وجه من هذه الوجوه وقد نبهه على أن له
مخرجا بقوله أشتري ديني بعضب بعض
فإن أحببت أن تعلم كيف يكون طلب المخرج خبرناك بأمثال ذلك
فمنها أن رجلا من الخوارج لقي رجلا من الروافض فقال له والله لا
أفارقك حتى تبرأ من عثمان وعلي أو أقتلك
فقال أنا والله من علي ومن عثمان برئ فتخلص منه
وإنما أراد أنا من علي يريد أنه يتولاه ومن عثمان برئ فكانت براءته
من عثمان وحده
ومن ذلك أن رجلا من أصحاب السلطان سأل رجلا كان يتهمه ببغض
السلطان والقدح فيه عن السواد الذي يلبسه أصحاب السلطان
39

فقال له النور والله في السواد فرضي بذلك
وإنما أراد أن نور العين في سواد الحدقة فلم يكن في يمينه آثما ولا حانثا
ومنها أن عليا رضي الله عنه خطب فقال لئن لم يدخل الجنة إلا من قتل
عثمان لا أدخلها ولئن لم يدخل النار إلا من قتل عثمان لا أدخلها
فقيل له ما صنعت يا أمير المؤمنين فرقت الناس فخطبهم وقال
إنكم قد أكثرتم علي في قتل عثمان ألا إن الله تعالى قتله وأنا معه فأوهمهم
أنه قتله مع قتل الله تعالى له وإنما أراد أن الله تعالى قتله وسيقتلني معه
ومنها أن شريحا دخل على زياد في مرضه الذي مات فيه فلما خرج بعث
إليه مسروق يسأله كيف تركت الأمير
قال تركته يأمر وينهى
فقال إن شريحا صاحب عويص فاسألوه
فقال تركته يأمر بالوصية وينهى عن البكاء
وسئل شريح عن بن له وقد مات فقالوا كيف أصبح مريضك يا أبا أمية
فقال الآن سكن علزه ورجاه أهله يعني رجوا ثوابه
وهذا أكثر من أن يحيط به
وليس يخلو حذيفة في قوله لعثمان رضي الله عنه ما قال من تورية إلى شئ في
يمينه وقوله ولم يحك لنا الكلام فنتأوله وإنما جاء مجملا
وسنضرب له مثلا كأن حذيفة قال والناس يقولون عند الغضب أقبح ما
يعلمون وعند الرضا أحسن ما يعلمون
40

إن عثمان خالف صاحبيه ووضع الأمور غير مواضعها ولم يشأ وأصحابه في
أموره ودفع المال إلى غير أهله هذا وأشباهه فوشى به إلى عثمان رضي الله عنه
واش فغلظ القول وقال ذكر أنك تقول إني ظالم خائن هذا وما أشبهه فحلف
حذيفة بالله تعالى ما قال ذلك وصدق حذيفة أنه لم يقل إن عثمان خائن ظالم
وأراد بيمينه استلال سخيمته وإطفاء سورة غضبه وكره أن ينطوي على
سخطه عليه
وسخط الامام على رعيته كسخط الوالد على ولده والسيد على عبده والبعل
على زوجه
بل سخط الامام أعظم من ذلك حوبا فاشترى الأعظم من ذلك بالأصغر
وقال اشتري بعض ديني ببعض
وأما طعنه على أبي هريرة بتكذيب عمر وعثمان وعلي وعائشة له فإن أبا
هريرة صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوا من ثلاث سنين وأكثر الرواية عنه وعمر
بعده نحوا من خمسين سنة وكانت وفاته سنة تسع وخمسين وفيها توفيت أم
سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وتوفيت عائشة رضي الله عنها قبلهما بسنة
فلما أتى من الرواية عنه ملم يأت بمثله من صحبه من جلة أصحابه والسابقين
الأولين إليه اتهموه وأنكروا عليه وقالوا كيف سمعت هذا وحدك ومن
سمعه معك
وكانت عائشة رضي الله عنها أشدهم إنكارا عليه لتطاول الأيام بها وبه
وكان عمر أيضا شديدا على من أكثر الرواية أو أتى بخبر في الحكم لا
شاهد له عليه
وكان يأمرهم بأن يقلوا الرواية يزيد بذلك أن لا يتسع الناس فيها ويدخلها
الشوب ويقع التدليس والكذب من المنافق والفاجر والأعرابي
41

وكان كثير من جلة الصحابة وأهل الخاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم كأبي بكر
والزبير وأبي عبيدة والعباس بن عبد المطلب يقلون الرواية عنه
بل كان بعضهم لا يكاد يروي شيئا كسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وهو
أحد العشرة المشهور لهم بالجنة
وقال علي رضي الله عنه كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا نفعني
الله بما شاء منه وإذا حدثني عنه محدث استحلفته فإن حلف لي صدقته وأن أبا
بكر حدثني وصدق أبو بكر ثم ذكر الحديث
أفما ترى تشديد القوم في الحديث وتوقي من أمسك كراهية التحريف أو
الزيادة في الرواية أو النقصان لأنهم سمعوه عليه السلام يقول من كذب علي
فليتبوأ مقعده من النار
وهكذا روى عن الزبير أنه رواه وقال أراهم يزيدون فيه متعمدا والله
ما سمعته قال متعمدا
وروى مطرف بن عبد الله أن عمران بن حصين قال والله إن كنت لأرى
أني لو شئت لحدثت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومين متتابعين ولكن بطأني عن ذلك
أن رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعوا كما سمعت وشهدوا كما شهدت
ويحدثون أحاديث ما هي كما يقولون وأخاف أن يشبه لي كما شبه لهم فأعلمك
أنهم كانوا يغلطون لا أنهم كانوا يتعمدون
فلما أخبرهم أبو هريرة بأنه كان ألزمهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم لخدمته وشبع بطنه
وكان فقيرا معدما وأنه لم يكن ليشغله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غرس الودي ولا
42

الصفق بالأسواق يعرض أنهم كانوا يتصرفون في التجارات ويلزمون الضياع في
أكثر الأوقات وهو ملازم له لا يفارقه فعرف ما لم يعرفوا وحفظ ما لم يحفظا
أمسكوا عنه وكان مع هذا يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وإنما سمعه من
الثقة عنده فحكاه
وكذلك كان بن عباس يفعل وغيره من الصحابة وليس في هذا كذب
بحمد الله ولا على قائله إن لم يفهمه السامع جناح إن شاء الله
وأما قوله قال خليلي وسمعت خليلي يعني النبي صلى الله عليه وسلم
وأن عليا رضي الله عنه قال له متى كان خليلك
فإن الخلة بمعنى الصداقة والمصافاة وهي درجتان إحداهما ألطف من الأخرى
كما أن الصحبة درجتان إحداهما ألطف من الأخرى
ألا ترى أن القائل أبو بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يريد بهذا القول
معنى صحبة أصحابه له لأنهم جميعا صحابة فأية فضيلة لأبي بكر رضي الله عنه
في هذا القول وإنما يريد أنه أخص الناس به
وكذلك الاخوة التي جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه هي الطف من
الاخوة التي جعلها الله بين المؤمنين فقال إنما المؤمنون إخوة وهكذا
الخلة
فمن الخلة التي هي أخص قول الله تعالى واتخذ الله إبراهيم خليلا
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كنت متخذا من هذه الأمة خليلا لاتخذت أبا
بكر خليلا
43

يريد لاتخذته خليلا كما اتخذ الله إبراهيم خليلا
وأما الخلة التي تعم فهي الخلة التي جعلها الله تعالى بين المؤمنين فقال
الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين
فلما سمع علي أبا هريرة يقول خليلي وسمعت قال خليلي وكان سئ الرأي
فيه قال متى كان خليلك
يذهب إلى الخلة التي لم يتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهتها خليلا وأنه لو
فعل ذلك بأحد لفعله بأبي بكر رضي الله عنه
وذهب أبو هريرة إلى الخلة التي جعلها الله تعالى بين المؤمنين والولاية فإن
رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الجهة خليل كل مؤمن وولي كل مسلم
وإلى مثل هذا يذهب في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم من كنت مولاه فعلي مولاه
يريد أن الولاية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المؤمنين ألطف من الولاية التي
بين المؤمنين بعضهم مع بعض فجعلها لعلي رضي الله عنه ولو لم يرد ذلك ما
كان لعلي في هذا القول فضل ولا كان في القول دليل على شئ لان المؤمنين
بعضهم أولياء بعض ولان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولي كل مسلم ولا فرق بين ولي ومولى
وكذلك قول الله تعالى ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وقول النبي
صلى الله عليه وسلم أية امرأة نكحت بغير أمر مولاها فنكاحها باطل باطل
فهذه أقاويل النظام قد بيناها وأجبناه عنها
وله أقاويل في أحاديث يدعى عليها أنها مناقضة للكتاب وأحاديث
يستبشعها من جهة حجة العقل
44

وذكر أن جهة حجة العقل قد تنسخ الاخبار وأحاديث ينقض بعضها بعضا
وسنذكرها فيما بعد إن شاء الله
قال أبو محمد ثم نصير إلى قول أبي الهذيل العلاف فنجده كذابا أفاكا
وقد حكى عنه رجل من أهل مقالته أنه حضر عن محمد بن الجهم وهو يقول
له يا أبا جعفر إن يدي صناع في الكسب ولكنها في الانفاق خرقاء كم من
مائة ألف درهم قسمتها على الاخوان أبو فلان يعلم ذلك سألتك بالله يا أبا
فلان هل تعلم ذلك
قلت يا أبا الهذيل ما أشك فيما تقول
قال فلم يرض أن حضرت حتى استشهدني ولم يرض إذ استشهدني حتى
استحلفني
قال وكان أبو الهذيل أهدى دجاجة إلى مويس بن عمران فجعلها مثلا لكل
شئ وتاريخا لكل شئ
فكان يقول فعلت كذا وكذا قبل أن أهدي إليك تلك الدجاجة وكان كذا
بعد أن أهديت إليك تلك الدجاجة
وإذا رأى جملا سمينا قال لا والله ولا تلك الدجاجة التي أهديتها إليك
وهذا نظر من لا يقسم على الاخوان عشرة أفلس فضلا عن مائتي ألف
وحكى من خطئه في الاستطاعة أنه كان يقول إن الفاعل في وقت الفعل
غير مستطيع لفعل آخر وذلك أنهم ألزموه الاستطاعة مع الفعل بالاجماع فقالوا
قد أجمع الناس على أن كل فاعل مستطيع في حال فعله فالاستطاعة مع الفعل ثابتة
واختلفوا في أنها قبله
45

فنحن على ما أجمعوا عليه وعلى من ادعى أنها قبل الفعل الدليل فلجأ إلى
هذا القول
وسئل عن عدم صحة البصر في حال وجود الادراك وعن عدم الحياة إن
كانت عرضا في حال وجود العلم فلا هو فرق ولا هو رجع
وزعم أنه يستحيل أن يفعل في حال بلوغه بالاستطاعة التي أعطيها في حال
البلوغ وإنما يفعل بها في الحال الثانية
فإذا قيل له فمتى فعل بها في الحال التي سلبها أم في حال البلوغ والفعل
فيها عندك محال وقد فعل بها ولا حال إلا حال البلوغ
والحالة الثانية قال قولا مرغوبا عنه مع أقاويل كثيرة في فناء نعيم أهل الجنة
وفناء عذاب أهل النار
ثم نصير إلى عبيد الله بن الحسن وقد كان ولي قضاء البصرة فتهجم من
قبيح مذاهبه وشدة تناقض قوله على ما هو أولى بأن يكون تناقضا مما
أنكروه
وذلك أنه كان يقول إن القرآن يدل على الاختلاف
فالقول بالقدر صحيح وله أصل في الكتاب والقول بالاجبار صحيح وله
أصل في الكتاب ومن قال بهذا فهو مصيب ومن قال بهذا فهو مصيب
لان الآية الواحدة ربما دلت على وجهين مختلفين واحتملت معنيين متضادين
وسئل يوما عن أهل القدر وأهل الاجبار فقال كل مصيب هؤلاء قوم
عظموا الله وهؤلاء قوم نزهوا الله
قال وكذلك القول في الأسماء
46

فكل من سمى الزاني مؤمنا فقد أصاب ومن سماه كافرا فقد أصاب ومن
قال هو فاسق وليس
بمؤمن ولا كافر فقد أصاب ومن قال هو منافق ليس بمؤمن ولا كافر فقد أصاب
ومن قال هو كافر وليس بمشرك فقد أصاب لان القرآن قد دل على كل هذه المعاني
قال وكذلك السنن المختلفة كالقول بالقرعة وخلافه والقول بالسعاية
وخلافه وقتل المؤمن بالكافر ولا يقتل مؤمن بكافر وبأي ذلك أخذ الفقيه فهو
مصيب
قال ولو قال قائل إن القاتل في النار كان مصيبا ولو قال هو في الجنة
كان مصيبا
ولو وقف فيه وأرجأ أمره كان مصيبا إذ كان إنما يريد بقوله إن الله تعالى
تعبده بذلك وليس عليه علم المغيب
وكان يقول في قتال علي لطلحة والزبى وقتالهما له إن ذلك كله طاعة لله تعالى
وفي هذا القول من التناقض والخلل ما ترى وهو رجل من أهل الكلام
والقياس وأهل النظر
قال أبو محمد ثم نصير إلى بكر صاحب البكرية وهو من أحسنهم حالا في
التوقي
فنجده يقول من سرق حبة من خردل ثم مات غير تائب من ذلك فهو خالد
في النار مخلد أبدا مع اليهود والنصارى
وقد وسع الله تعالى للمسلم أن يأكل من مال صديقه وهو لا يعلم
ووسع لداخل الحائط أن يأكل من ثمره ولا يحمل
47

ووسع لابن السبيل إذا مر في سفره بغنم وهو عطشان أن يصيب من
رسلها
فكيف يعذب من أخذ حبة من خردل لا قدر لها ويخلده في النار أبدا
وأذنب هو أخذ حبة من خردل حتى يكون منه توبة أو يقع فيه
إصرار
وقد يأخذ الرجل الخلال من حطب أخيه والمدر من مدره ويشرب الماء من
حوضه وهذا أعظم قدرا من الحبة
وكان يقول إن الأطفال لا تألم
فإذا سئل فقيل له فما باله يبكي إذا قرص أو وقعت عليه شرارة
قال إنما ذلك عقوبة لأبويه والله تعالى أعدل من أن يؤلم طفلا لا ذنب له
فإذا سئل عن البهيمة وألمها وهي لا ذنب لها قال إنما ألمها الله تعالى لمنفعة
بن آدم لتنساق ولتقف ولتجري إذا احتاج إلى ذلك منها
وكان من العدل عنده أن يؤلمها لنفع غيرها وربما قال بغير ذلك وقد
خلطوا في الرواية عنه
وكان يقول شرب نبيذ السقاء الشديد من السنة وكذلك أكل الجدي
والمسح على الخفين
والسنة إنما تكون في الدين لا في المأكول والمشروب
ولو أن رجلا لم يأكل البطيخ بالرطب دهره وقد أكله رسول الله صلى الله عليه وسلم أو
لم يأكل القرع وقد كان يعجب النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل إنه ترك السنة
48

قال أبو محمد ثم نصير إلى هشام بن الحكم فنجده رافضيا غاليا ويقول في
الله تعالى بالأقطار والحدود والأشبار وأشياء يتحرج من حكايتها وذكرها
لاخفاء على أهل الكلام بها ويقول بالاجبار الشديد الذي لا يبلغه القائلون بالسنة
وسأله سائل فقال أترى الله تعالى مع رأفته ورحمته وحكمته وعدله
يكلفنا شيئا ثم يحول بيننا وبينه ويعذبنا
فقال قد والله فعل ولكنا لا نستطيع أن نتكلم
وقال له رجل يا أبا محمد هل تعلم أن عليا خاصم العباس في فدك إلى أبي
بكر
قال نعم
قال فأيهما كان الظالم
قال لم يكن فيهما ظالم
قال سبحان الله وكيف يكون هذا
قال هما كالملكين المختصمين إلى داود عليه السلام لم يكن فيهما ظالم إنما أرادا
أن يعرفاه خطأه وظلمه كذلك أراد هذان أن يعرفا أبا بكر خطأه وظلمه
ومما يعده أصحاب الكلام من خطئه قوله إن حصاة يقلبها الله جبلا في
رزانته وطوله وعرضه وعمقه فتطبق من الأرض فرسخا بعد أن كانت تطبق
أصبعا من غير أن يزيد فيها عرضا أو جسما أو ينقص منها عرضا أو جسما
قال أبو محمد ثم نصير إلى ثمامة فنجده من رقة الدين وتنقص الاسلام
والاستهزاء به وإرساله لسانه على ما لا يكون على مثله رجل يعرف الله تعالى
ويؤمن به
49

ومن المحفوظ عنه المشهور أنه رأى قوما يتعادون يوم الجمعة إلى المسجد
لخوفهم فوت الصلاة فقال انظروا إلى البقر انظروا إلى الحمير ثم قال لرجل
من إخوانه ما صنع هذا العربي بالناس
ثم نصير إلى محمد بن الجهم البرمكي فنجد مصحفه كتب أرسطاطاليس في
الكون والفساد والكيان وحدود المنطق بها يقطع دهره ولا يصوم شهر رمضان
لأنه فيما ذكر لا يقدر على الصوم
وكان يقول لا يستحق أحد من أحد شكرا على شئ فعله به أو خير أسداه
إليه لأنه لا يخلو أن يكون فعل ذلك طلبا للثواب من الله تعالى فإنما إلى نفسه
قصد
أو يكون فعله للمكافأة فإنه إلى الربح ذاهب أو يكون فعله للذكر والثناء
ففي حظه سعي وفي حبله حطب أو فعله رحمة له ورقة وضعت في قلبه فإنما
سكن بتلك العطية علته وداوي بها من دائه
وهذا خلاف قول النبي صلى الله عليه وسلم لا يشكر الله من لا يشكر الناس
وذكر رجل من أصحاب الكلام عنه أنه أوصى عند وفاته فقال إن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال الثلث والثلث كثير
وأنا أقول إن ثلث الثلث كثير والمساكين حقوقهم في بيت المال إن طلبوه
طلب الرجال أخذوه وإن قعدوا عنه قعود النساء حرموه فلا رحم الله من
يرحمهم
قال أبو محمد وحدثني رجل سايره فنفر ت به دابته فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال اضربوها على العثار ولا تضربوها على النفار
50

وأنا أقول لا تضربوها على العثار ولا على النفار
قال أبو محمد ولست أدري أيصح هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا يصح
وإنما هو شئ حكي عنه وقد أخطأ
والصواب في القول الأول لان الدابة تنفر من البئر أو من الشئ تراه
ولا يراه الراكب فتتقحم وفي تقحمها الهلكة
فنهى عن ضربها على النفار وأمر بضربها على العثار لتجد فلا تعثر لان العثرة
لا تكاد تكون إلا عن توان
قال أبو محمد ثم نصير إلى أصحاب الرأي فنجدهم أيضا يختلفون ويقيسون
ثم يدعون القياس ويستحسنون ويقولون بالشئ ويحكمون به ثم يرجعون
حدثني سهل بن محمد قال حدثنا الأصمعي عن حماد بن زيد قال سمعت يحيى
بن مخنف قال جاء رجل من أهل المشرق إلى أبي حنيفة بكتاب منه بمكة عاما
أول فعرضه عليه مما كان يسأل عنه فرجع عن ذلك كله
فوضع الرجل التراب على رأسه ثم قال يا معشر الناس أتيت هذا الرجل عاما
أولا فأفتاني بهذا الكتاب فأهرقت به الدماء وأنكحت به الفروج ثم رجع عنه
العام
حدثني سهل بن محمد قال أنا المختار بن عمرو أن الرجل قال له كيف
هذا
قال كان رأيا رأيته فرأيت العام غيره
قال فتأمنني أن لا ترى من قابل شيئا آخر
قال لا أدر كيف يكون ذلك
51

فقال له الرجل لكني أدري أن عليك لعنة الله
وكان الأوزاعي يقول إنا لا ننقم على أبي حنيفة أنه رأى كلنا يرى ولكننا
ننقم عليه أنه يجيئه الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيخالفه إلى غيره
حدثني سهل بن محمد قال نا الأصمعي عن حماد بن زيد قال شهدت أبا حنيفة
سئل عن محرم لم يجد إزارا فلبس سراويل فقال عليه الفدية
فقلت سبحان الله حدثنا عمرو بن دينار عن جابر بن زيد عن بن عباس
قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في المحرم
إذا لم يجد إزارا لبس سراويل وإذا لم يجد نعلين لبس خفين
فقال دعنا من هذا حدثنا حماد عن إبراهيم أنه قال عليه الكفارة
وروى أبو عاصم عن أبي عوانة قال كنت عند أبي حنيفة فسئل عن رجل
سرق وديا فقال عليه القطع
فقلت له حدثنا يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبا عن رافع بن خديج
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا قطع في ثمر ولا كثر
فقال ما بلغني هذا
قلت له فالرجل الذي أفتيته رده
قال دعه فقد جرت به البغال الشهب
قال أبو عاصم أخاف أن تكون إنما جرت بلحمه ودمه
وقال علي بن عاصم حدثت أبا حنيفة بحديث عبد الله في الذي قال من
يذبح للقوم شاة أزوجه أول بنت تولد لي ففعل ذلك الرجل فقضى بن مسعود
أنها امرأته وأن لها مهر نسائها
52

فقال أبو حنيفة هذا قضاء الشيطان
ولم أر أحدا ألهج بذكر أصحاب الرأي وتنقصهم والبعث على قبيح
أقاويلهم والتنبيه عليها من إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهويه
وكان يقول نبذوا كتاب الله تعالى وسنن رسوله صلى الله عليه وسلم ولزموا القياس
وكان يعدد من ذلك أشياء منها قولهم إن الرجل إذا نام جالسا واستثقل في
نومه لم يجب عليه الوضوء
ثم أجمعوا على أن كل من أغمي عليه منتقض الطهارة قال وليس بينهما فرق
على أنه ليس في المغمى عليه أصل فيحتج به في انتقاض وضوئه
وفي النوم غير حديث منها قول النبي صلى الله عليه وسلم العين وكاء السه فإذا نامت
العين انفتح الوكاء وفي حديث آخر من نام فليتوضأ
قال فأوجبوا في الضجعة الوضوء إذا غلبه النوم وأسقطوه عن النائم
المستثقل راكعا أو ساجدا
قال وهاتان الحالان في خشية الحدث أقرب من الضجعة
فلا هم اتبعوا أثرا ولا لزموا قياسا
قال وقالوا من تقهقه بعد التشهد أجزأته صلاته وعليه الوضوء لصلاة أخرى
قال فأي غلط أبين من غلط من يحتاط لصلاة لم تحضر ولا يحتاط لصلاة هو
فيها
53

قال وقالوا في رجل توفي وترك جده أبا أمه وبنت بنته المال للجد دون
بنت البنت وكذلك هو عندهم مع جميع ذوي الأرحام
قال فأي خطأ أفحش من هذا لان الجد يدلي بالام فكيف يفضل على بنت
البنت وهي تدلي بالبنت إلا أن يكون شبهوا أبا الام بأبي الأب إذ اتفق
أسماؤهم
قال أبو محمد وحدثنا إسحاق وهو بن راهويه قال نا وكيع أن أبا حنيفة
قال ما باله يرفع يديه عند كل رفع وخفض أيريد أن يطير
فقال له عبد الله بن المبارك إن كان يريد أن يطير إذا افتتح فإنه يريد أن
يطير إذا خفض ورفع
قال هذا مع تحكمه في الدين كقوله أقطع في الساج والقنا ولا أقطع في
الخشب والحطب وأقطع في النورة ولا أقطع في الفخار والزجاج
فكأن الفخار والزجاج ليسا مالا وكأن الآبنوس ليس خشبا
وقال إسحاق بن راهويه وسئل يعني أبا حنيفة عن الشرب في الاناء
المفضض فقال لا بأس به إنما هو بمنزلة الخاتم في إصبعك فتدخل يدك الماء
فتشربه بها وكان يعدد من هذا أشياء يطول الكتاب بها وأعظم منها مخالفة كتاب الله
كأنهم لم يقرءوه
وكان أبو حنيفة لا يدي لولي المقتول عمدا إلا أن يعفو أو يقتص وليس له
أن يأخذ الدية والله تبارك وتعالى يقول كتب عليكم القصاص في القتلى الحر
بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شئ فاتباع
بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة
54

يريد فمن عفا عن الدم فليتبع بالدية اتباعا بالمعروف أي يطالب مطالبة
جميلة لا يرهق المطلوب وليؤد المطالب المطلوب أداء بإحسان لا مطل فيه ولا
دفاع عن الوقت
ثم قال ذلك تخفيف من ربكم ورحمة يعني تخفيفا عن المسلمين مما
كان بنو إسرائيل ألزموه فإنه لم يكن لولي إلا أن يقتص أو يعفو
ثم قال فمن اعتدى بعد ذلك أي بعد أخذ الدية فقتل فله عذاب
أليم
قالوا يقتل ولا تؤخذ منه الدية
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أعافي أحدا قتل بعد أخذ الدية
وهذا وأشباهه من مخالفة القرآن لا عذر فيه ولا عذر في مخالفة رسول الله
صلى الله عليه وسلم بعد العلم بقوله
فأما الرأي في الفروع فأخف أمرا وإن كان مخارج أصول الاحكام ومخارج
الفرائض والسنن على خلاف القياس وتقدير العقول
حدثني الزيادي قال نا عيسى بن يونس عن الأعمش عن أبي إسحاق عن عبد
خير قال قال علي بن أبي طالب ما كنت أرى أن أعلى القدم أحق بالمسح من
باطنها حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على أعلى قدميه
وحدثني أبو حاتم عن الأصمعي قال سمعت زفر بن هذيل يقول في رجل
أوصى لرجل بما بين العشرة إلى العشرين
قال يعطي تسعة ليس له ذلك العقد ولا هذا العقد
كما تقول له ما بين الأسطوانتين فله ما بينهما ليست له الأسطوانتان
55

فقلنا له فرجل معه بن له محظوظ قيل له كم لابنك
قال ما بين الستين إلى اثنين وستين فهذا في قياسكم بن سنة
قال استحسن في هذا الموضع
وحدثنا عن مالك في الموطأ عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال سألت سعيد بن
المسيب كم في إصبع المرأة
قال عشر من الإبل
قلت فكم في إصبعين
قال عشرون من الإبل
قلت فكم في ثلاث أصابع
قال ثلاثون من الإبل
قلت فكم في أربع أصابع
قال عشرون من الإبل
قلت حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها
قال هي السنة يا بن أخي
قال أبو محمد وكان أشد أهل العراق في الرأي والقياس الشعبي وأسهلهم
فيه مجاهد
حدثني أبو الخطاب قال حدثني مالك بن سعيد قال نا الأعمش عن مجاهد
أنه قال أفضل العبادة الرأي الحسن
وحدثني محمد بن خالد محمد بن خداش قال حدثني مسلم بن قتيبة قال نا
مالك بن مغول قال قال لي الشعبي ونظر إلى أصحاب الرأي ما حدثك
56

هؤلاء عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فاقبله وما خبروك به عن رأيهم فارم به في
الحش
وكان يقول إياكم والقياس فإنكم إن أخذتم به حرمتم الحلال وأحللتم
الحرام
قال أبو محمد حدثني الرياش قال نا الأصمعي عن عمر بن أبي زائدة قال
قيل للشعبي هذا لا يجئ في القياس فقال أير في القياس
وحدثني الرياشي عن أبي يعقوب الخطابي عن عمه عن الزهري أنه قال
الحديث ذكر يحبه ذكور الرجال ويكرهه مؤنثوهم
قال أبو محمد وكيف يطرد لك القياس في فروع لا يتفق أصولها والفرع تابع
للأصل
وكيف يقع في القياس أن يقطع سارق عشر دراهم ويمسك عن غاصب مائة
ألف درهم ويجلد قاذف الحر الفاجر ويعفي عن قاذف العبد العفيف وتستبرأ
أرحام الإماء بحيضة ورحم الحرة بثلاث حيض ويحصن الرجل بالعجوز الشوهاء
السوداء ولا يحصن بمائة أمة حسناء ويوجب على الحائض قضاء الصوم ولا يوجب
عليها قضاء الصلاة ويجلد في القذف بالزنا أكثر من الجلد في القذف بالكفر
ويقطع في القتل بشاهدين ولا يقطع في الزنا بأقل من أربعة
قال أبو محمد ثم نصير إلى الجاحظ وهو آخر المتكلمين والمعاير على المتقدمين
وأحسنهم للحجة استثارة وأشدهم تلطفا لتعظيم الصغير حتى يعظم وتصغير العظيم
حتى يصغر ويبلغ به الاقتدار إلى أن يعمل الشئ ونقيضه ويحتج لفضل السودان على
البيضان
57

وتجده يحتج مرة للعثمانية على الرافضة ومرة للزيدية على العثمانية وأهل السنة
ومرة يفضل عليا رضي الله عنه ومرة يؤخره ويقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتبعه
قال الجماز وقال إسماعيل بن غزوان كذا وكذا من الفواحش
ويجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يذكر في كتاب ذكرا فيه فكيف في ورقة أو
بعد سطر وسطرين
ويعمل كتاب يذكر فيه حجج النصارى على المسلمين
فإذا صار إلى الرد عليهم تجوز في الحجة كأنه إنما أراد تنبيههم على مالا
يعرفون وتشكيك الضعفة من المسلمين
وتجده يقصد في كتبه للمضاحيك والعبث يريد بذلك استمالة الاحداث وشراب
النبيذ
ويستهزئ من الحديث استهزاء لا يخفى على أهل العلم
كذكره كبد الحوت وقرن الشيطان وذكر الحجر الأسود وأنه كان أبيض
فسوده المشركون وقد كان يجب أن يبيضه المسلمون حين أسلموا
ويذكر الصحيفة التي كان فيها المنزل في الرضاع تحت سرير عائشة فأكلتها
الشاة
وأشياء من أحاديث أهل الكتاب في تنادم الديك والغراب ودفن الهدهد أمه في
رأسه وتسبيح الضفدع وطوق الحمامة وأشباه هذا مما سنذكره فيما بعد إن شاء
الله
وهو مع هذا من أكذب الأمة وأوضعهم لحديث وأنصرهم لباطل
ومن علم رحمك الله أن كلامه من عمله قل إلا فيما ينفعه
ومن أيقن أنه مسؤول عما ألف وعما كتب لم يعمل الشئ وضده ولم يستفرغ
مجهوده في تثبيت الباطل عنده وأنشدني الرياشي
58

ولا تكتب بخطك غير شئ يسرك في القيامة أن تراه
قال أبو محمد وبلغني أن من أصحاب الكلام من يرى الخمر غير محرمة وأن الله
تعالى إنما نهى عنها على جهة التأديب كما قال ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك
ولا تبسطها كل البسط
وكما قال واهجروهن في المضاجع واضربوهن
ومنهم من يرى نكاح تسع من الحرائر جائز لقول الله تعالى فانكحوا ما طاب
لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع قالوا فهذا تسع قالوا والدليل على ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات عن تسع ولم
يطلق الله لرسوله في القرآن إلا ما أطلق لنا
ومنهم من يرى شحم الخنزير وجلده حلالا لان الله تعالى إنما حرم لحمه في
القرآن فقال حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يحرم شيئا غير
لحمه
ومنهم من يقول إن الله تعالى لا يعلم شيئا حتى يكون ولا يخلق شيئا حتى
يتحرى
فبمن يتعلق من هؤلاء ومن يتبع وهذه مذاهبهم وهذه نحلهم وهكذا
اختلافهم
وكيف يطمع في تخلص الحق من بينهم وهم مع تطاول الأيام بهم ومر
الدهور على المقايسات والمناظرات لا يزدادون إلا اختلافا ومن الحق إلا
بعدا؟
59

وكان أبو يوسف يقول من طلب الدين بالكلام تزندق ومن طلب المال
بالكيمياء أفلس ومن طلب غرائب الحديث كذب
قال أبو محمد وقد كنت في عنفوان الشباب وتطلب الآداب أحب أن أتعلق من
كل علم بسبب وأن أضرب فيه بسهم
فربما حضرت بعض مجالسهم وأنا مغتر بهم طامع أن أصدر عنه بفائدة أو
كلمة تدل على خير أو تهدي لرشد
فأرى من جرأتهم على الله تبارك وتعالى وقلة توقيهم وحملهم أنفسهم على العظائم
لطرد القياس أو لئلا يقع انقطاع ما أرجع معه خاسرا نادما
وقد ذكرهم محمد بن بشير الشاعر وقد أصاب في وصفهم حين يقول
دع من يقول الكلام ناحية * فما يقول الكلام ذو ورع
كل فريق بدوهم حسن * ثم يصيرون بعد للشنع
أكثر ما فيه أن يقال له * لم يك في قوله بمنقطع
وقال عبد الله بن مصعب
ترى المرء بعجبه أن يقولا * وأسلم للمرء أن لا يقولا
فأمسك عليك فضول الكلام * فإن لكل كلام فضولا
ولا تصحبن أخا بدعة * ولا تسمعن له الدهر قيلا
فإن مقالتهم كالظلال * يوشك أفياؤها أن تزولا
وقد أحكم الله آياته * وكان الرسول عليها دليلا
وأوضح للمسلمين السبيل * فلا تتبعن سواها سبيلا
أناس بهم ريبة في الصدور * ويخفون في الجوف منها غليلا
60

إذا أحدثوا بدعة في القران * تعادوا عليها فكانوا عدولا
فخلهم والتي يهضبون * وولهم منك صمتا طويلا
قال أبو محمد وقد كنت سمعت بقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله من جعل
دينه غرضا للخصومات أكثر التنقل
وكنت أسمعهم يقولون إن الحق يدرك بالمقايسات والنظر ويلزم من لزمته الحجة
أن ينقاد لها
ثم رأيتهم في طول تناظرهم وإلزام بعضهم بعضا الحجة في كل مجلس مرات
لا يزولون عنها ولا ينتقلون
وسأل رجل من أصحاب هشام بن الحكم رجلا من المعتزلة فقال له أخبرني عن
العالم هل له نهاية وحد
فقال المعتزلي النهاية عندي على ضربين أحدهما نهاية الزمان من وقت كذا
إلى وقت كذا والآخر نهاية الأطراف والجوانب وهو متناه بهاتين الصفتين
ثم قال له فأخبرني علن الصانع عز وجل هل هو متناه
فقال محال
قال فتزعم أنه يجوز أن يخلق المتناهي من ليس بمتناه
فقال نعم قال فلم لا يجوز أن يخلق الشئ من ليس بشئ كما جاز أن يخلق
المتناهي من ليس بمتناه
قال لان ما ليس بشئ هو عدم وإبطال
قال له وما ليس بمتناه عدم وإبطال
قال لا شئ هو نفي
61

قال له وما ليس بمتناه نفي
قال قد أجمع الناس على أنه شئ إلا جهما وأصحابه
قال قد أجمع الناس أنه متناه
قال وجدت كل شئ متناه محدثا مصنوعا عاجزا
قال ووجدت كل شئ محدثا مصنوعا عاجزا
قال لما أن وجدت هذه الأشياء مصنوعة علمت أن صانعها شئ
قال ولما أن وجدت هذه الأشياء متناهية علمت أن صانعها متناه
قال لو كان متناهيا كان محدثا إذ وجدت كل متناه محدثا
قال ولو كان شيئا كان محدثا عاجزا إذ وجدت كل شئ محدثا عاجزا وإلا
فما الفرق فأمسك
قال وسأل آخر آخر عن العلم فقال له أتقول أن سميعا في معنى عليم
قال نعم
قال لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير هل سمعه حين
قالوه
قال نعم
قال فهل سمعه قبل أن يقولوا قال لا
قال فهل علمه قبل أن يقولوه
قال نعم
قال له فأرى في سميع معنى غير معنى عليم فلم يجب
قال أبو محمد قلت له وللأول قد لزمتكما الحجة فلم لا تنتقلان عما تعتقدان إلى
ما ألزمتكماه الحجة
فقال أحدهما لو فعلنا ذلك لانتقلنا في كل يوم مرات
62

وكفى بذلك حيرة
قلت فإذا كان الحق إنما يعرف بالقياس والحجة وكنت لا تنقاد لهما بالاتباع كما
تنقاد بالانقطاع فما تصنع بهما التقليد أربح لك والمقام على أثر الرسول صلى الله عليه وسلم
أولى بك
قال واختلفوا في ثبوت الخبر فقال بعضهم يثبت الخبر بالواحد الصادق
وقال آخر يثبت باثنين لان الله تعالى أمر بإشهاد اثنين عدلين
وقال آخر يثبت بثلاثة لان الله عز وجل قال فلولا نفر من كل فرقة منهم
طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم
قالوا وأقل ما تكون الطائفة ثلاثة
وغلطوا في هذا القول لان
الطائفة تكون واحدا واثنين وثلاثة وأكثر لان الطائفة بمعنى القطعة والواحد قد يكون قطعة من القوم
وقال الله تعالى وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين يريد الواحد
والاثنين
وقال آخر يثبت بأربعة لقول الله تعالى لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء
وقال آخر يثبت باثني عشر لقول الله تعالى وبعثنا منهم اثني عشر
نقيبا
وقال آخر يثبت بعشرين رجلا لقول الله تعالى إن يكن منكم عشرون
صابرون يغلبوا مائتين
وقال آخر يثبت بسبعين رجلا لقول الله عز وجل واختار موسى قومه
سبعين رجلا لميقاتنا
63

فجعلوا كل عدد ذكر في القرآن حجة في صحة الخبر
ولو قال قائل إن الخبر لا يثبت إلا بثمانية لقول الله تعالى في أصحاب الكهف
وهم الحجة على أهل ذلك الزمان سبعة وثامنهم كلبهم ولا يجوز أن يكونوا
ثمانية حتى يكون الكلب ثامنهم أو قال لا يثبت الخبر إلا بتسعة عشر لقول الله
تعالى في خزنة جهنم حين ذكرها فقال عليها تسعة عشر لكان أيضا قولا
وعددا مستخرجا من القرآن
وهذه الاختيارات إنما اختلفت هذا الاختلاف لاختلاف عقول الناس وكل
يختار على قدر عقله
ولو رجعوا إلى أن الله تعالى إنما أرسل إلى الخلق كافة رسولا واحدا وأمرهم
باتباعه وقبول قوله وأنه لم يرسل اثنين ولا أربعة ولا عشرين ولا سبعين في وقت
واحد لدلهم ذلك على أن الصادق العد صادق الخبر كما أن الرسول الواحد المبلغ
عن الله تعالى صادق الخبر ولم يكن قصدنا لهذا الباب فنطيل فيه
قال أبو محمد وفسروا القرآن بأعجب تفسير يريدون أن يردوه إلى مذاهبهم
ويحملوا التأويل على نحلهم
فقال فريق منهم في قوله تعالى وسع كرسيه السماوات والأرض أي علمه
وجاءوا على ذلك بشاهد لا يعرف وهو قول الشاعر
ولا يكرسي علم الله مخلوق
كأنه عندهم ولا يعلم علم الله مخلوق
والكرسي غير مهموز ويكرسئ مهموز يستوحشون أن يجعلوا لله
تعالى كرسيا أو سريرا ويجعلون العرش شيئا آخر
64

والعرب لا تعرف العرش إلا السرير وما عرش من السقوف والآبار يقول الله
تعالى ورفع أبويه على العرش أي على السرير
وأمية بن أبي الصلت يقول
مجدوا الله وهو للمجد أهل * ربنا في السماء أمسى كبيرا
بالبناء الاعلى الذي سبق الناس * وسوى فوق السماء سريرا
شرجعا ما ينله بصر العين ترى دونه الملائك صورا
وقال فريق منهم في قول الله تعالى ولقد همت به وهم بها إنها همت
بالفاحشة وهم هو بالفرار منها أو الضرب لها والله تعالى يقول لولا أن رأى
برهان ربه أفتراه أراد الفرار منها أو الضرب لها فلما رأى البرهان أقام عندها
وليس يجوز في اللغة أن تقول هممت بفلان وهم بي وأنت تريد اختلاف
الهمين حتى تكون أنت تهم بإهانته ويهم هو بإكرامك وإنما يجوز هذا الكلام إذا
اتفق الهمان
وقال فريق منهم في قول الله تعالى وعصى آدم ربه فغوى إنه أتخم من
أكل الشجرة
فذهبوا إلى قول العرب غوى الفصيل يغوى غوى إذا أكثر من شرب اللبن
حتى يبشم وذلك غوى يغوي غيا
وهو من البشم غوي يغوى غوى
وقال فريق منهم في قول الله تعالى ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس
أي ألقينا فيها
65

يذهب إلى قول الناس ذرته الريح
ولا يجوز أن يكون ذرأنا من ذرته الريح لان ذرأنا مهموز وذرته الريح
تذروه غير مهموز
ولا يجوز أيضا أن نجعله من أذرته الدابة عن ظهرها أي ألقته لان ذلك من
ذرأت تقدير فعلت بالهمز
وهذا من أذريت تقدير أفعلت بلا همز
واحتج بقول المثقب العبدي
تقول إذا ذرأت لها وضيني * أهذا دينه أبدا وديني
وهذا تصحيف لأنه قال تقول إذا درأت أي دفعت بالدال غير معجمة
وقالوا في قوله عز وجل وذا النون إذا ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر
عليه أنه ذهب مغاضبا لقومه استيحاشا من أن يجعلوه مغاضبا لربه مع
عصمة الله
فجعلوه خرج مغاضبا لقومه حين آمنوا ففروا إلى مثل ما استقبحوا
وكيف يجوز أن يغضب نبي الله صلى الله عليه وسلم على قومه حين آمنوا وبذلك بعث وبه
أمر
وما الفرق بينه وبين عدو الله إن كان يغضب من إيمان مائة ألف أو يزيدون ولم
يخرج مغاضبا لربه ولا لقومه وهذا مبين في كتابي المؤلف في مشكل القرآن
66

ولم يكن قصدي في هذا الكتاب الاخبار عن هذه الحروف وأشباهها وإنما كان
القصد به الاخبار عن جهلهم وجرأتهم على الله تعالى بصرف الكتاب إلى ما
يستحسنون وحمل التأويل على ما ينتحلون
وقالوا في قوله تعالى واتخذ الله إبراهيم خليلا أي فقيرا إلى رحمته
وجعلوا من الخلة بفتح الخاء استيحاشا من أن يكون الله تعالى خليلا لاحد
من خلقه واحتجوا بقول زهير
وإن أتاه خليل يوم مسألة * يقول لا غائب مالي ولا حرم
أي إن أتاه فقير
فأية فضيلة في هذا القول لإبراهيم صلى الله عليه وسلم
أما تعلمون أن الناس جميعا فقراء إلى الله تعالى
وهل إبراهيم في خليل الله إلا كما قيل موسى كليم الله
وعيسى روح الله
وقالوا في قوله تعالى وقالت اليهود يد الله مغلولة إن اليد ههنا النعمة
لقول العرب لي عند فلان يد أي نعمة ومعروف
وليس يجوز أن تكون اليد ههنا النعمة لأنه قال غلت أيديهم معارضة عما
قالوه فيها ثم قال بل يداه مبسوطتان
67

ولا يجوز أن يكون أراد غلت نعمهم بل نعمتاه مبسوطتان لان النعم لا تغل
ولان المعروف لا يكنى عنه باليدين كما يكنى عنه باليد إلا أن يريد جنسين من
المعروف فيقول لي عنده يدان
ونعم الله تعالى أكثر من أن يحاط بها
قال أبو محمد وأعجب من هذه التفسير تفسير الروافض للقرآن وما يدعونه من
علم باطنه بموقع إليهم من الجفر الذي ذكره هارون بن سعد العجلي وكان رأس
الزيدية فقال
ألم تر أن الرافضين تفرقوا * فكلهم في جعفر قال منكرا
فطائفة قالوا إمام ومنهم * صوائف سمته النبي المطهرا
ومن عجب لم أقضه جلد جفرهم * برئت إلى الرحمن ممن تجفرا
برئت إلى الرحمن من كل رافض * بصير بباب الكفر في الدين أعورا
إذا كف أهل الحق عن بدعة مضى * عليها وإن يمضوا على الحق قصرا
ولو قال إن الفيل ضب لصدقوا * ولو قال زنجي تحول أحمرا
وأخلف من بول البعير فإنه * إذا هو للاقبال وجه أدبرا
فقبح أقوام رموه بفرية * كما قال في عيسى الفرى من تنصرا
قال أبو محمد وهو جلد جفر ادعوا أنه كتب فيه لهم الامام كل ما يحتاجون
إلى علمه وكل ما يكون إلى يوم القيامة
فمن ذلك قولهم في قول الله عز وجل وورث سليمان داود أنه الامام
68

وورث النبي صلى الله عليه وسلم علمه
وقولهم في قول الله عز وجل إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة أنها عائشة
رضي الله عنها
وفي قوله تعالى فقلنا اضربوه ببعضها أنه طلحة والزبير
وقولهم في الخمر والميسر إنهما أبو بكر وعمر رضي الله عنهما والجبت
والطاغوت إنهما معاوية وعمرو بن العاص مع عجائب أرغب عن ذكرها ويرغب
من بلغه كتابنا هذا عن استماعه
وكان بعض أهل الأدب يقول ما أشبه تفسير الرافضة للقرآن إلا بتأويل رجل من
أهل مكة للشعر فإنه قال ذات يوم ما سمعت بأكذب من بني تميم زعموا أن قول
القائل
بيت زرارة محتب بفنائه * ومجاشع وأبو الفوارس نهشل
أنه في رجال منهم قيل له فما تقول أنت فيهم قال البيت بيت الله وزرارة
الحجر قيل فمجاشع قال زمزم جشعت بالماء قيل فأبو الفوارس قال أبو قبيس
قيل له فنهشل قال نهشل أشده وفكر ساعة ثم قال نهشل مصباح الكعبة
لأنه طويل أسود فذلك نهشل
وهم أكثر أهل البدع افتراقا ونحلا
69

فمنهم قول يقال لهم البيانية ينسبون إلى رجل يقال له بيان قال لهم إلي أشار
الله تعالى إذ قال هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين وهم أول من قال
بخلق القرآن
ومنهم المنصورية أصحاب أبي منصور الكسف وكان قال لأصحابه في نزل قوله
وإن يروا كسفا من السماء ساقطا
ومنهم الخناقون والشداخون
ومنهم الغرابية وهم الذين ذكروا أن عليا رضي الله عنه كان أشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم من
الغراب بالغراب
فغلط جبريل عليه السلام حين بعث إلى علي لشبهه به
قال أبو محمد ولا نعلم في أهل البدع والأهواء أحدا ادعى الربوبية لبشر غيرهم
فإن عبد الله بن سبأ ادعى الربوبية لعلي فأحرق علي أصحابه بالنار وقال في
ذلك
لما رأيت الامر أمرا منكرا * أججت ناري ودعوت قنبرا
ولا نعلم أحدا ادعى النبوة لنفسه غيرهم
فإن المختار بن أبي عبيد ادعى النبوة لنفسه وقال إن جبريل وميكاءيل يأتيان إلى
جهته فصدقه قوم واتبعوه وهم الكيسانية
70

ذكر أصحاب الحديث
قال أبو محمد فأما أصحاب الحديث فإنهم التمسوا الحق من وجهته وتتبعوه من
مظانه وتقربوا من الله تعالى باتباعهم سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلبهم لآثاره
وأخباره برا وبحرا وشرقا وغربا
يرحل الواحد منهم راجلا مقويا في طلب الخبر الواحد أو السنة الواحدة
حتى يأخذها من الناقل لها مشافهة
ثم لم يزالوا في التنقير عن الاخبار والبحث لها حتى فهموا صحيحها وسقيمها
وناسخها ومنسوخها وعرفوا من خالفها من الفقهاء إلى الرأي
فنبهوا على ذلك حتى نجم الحق بعد أن كان عافيا وبسق بعد أن كان دارسا
واجتمع بعد أن كان متفرقا وانقاد للسنن من كان عنها معرضا وتنبه عليها من
كان عنها غافلا وحكم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن كان يحكم بقول فلان وفلان
وإن كان فيه خلاف على رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقد يعيبهم الطاعنون بحملهم الضعيف وطلبهم الغرائب في الغريب الداء
71

ولم يحملوا الضعيف والغريب لأنهم رأوهما حقا بل جمعوا الغث والسمين
والصحيح والسقيم ليميزوا بينهما ويدلوا عليهما وقد فعلوا ذلك فقالوا في الحديث
المرفوع شرب الماء على الريق يعقد الشحم هو موضوع وضعه عاصم الكوزي
وفي حديث بن عباس أنه كان يبصق في الدواة ويكتب منها
وضعه عاصم الكوزي
قالوا وحديث الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجز طلاق المريض موضوع
وضعه سهل السراج
قالوا وسهل كان يروى أنه رأى الحسن يصلي بين سطور القبور
وهذا باطل لان الحسن روى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بين القبور
قالوا وحديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يزال الرجل راكبا ما دام
منتعلا باطل وضعه أيوب بن خوط
وحديث عمرو بن حريث رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يشار بين يديه يوم العيد بالحراب
هو باطل وضعه المنذر بن زياد
وحديث بن أبي أوفى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمس لحيته في الصلاة وضعه
المنذر بن زياد
وحديث يونس عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن عشر كنى موضوع
وضعه أبو عصمة قاضي مرو
وقالوا في أحاديث موجودة على ألسنة الناس ليس لها أصل
72

منها من سعادة المرء خفة عارضيه ومنها سموهم بأحب الأسماء إليهم
وكنوهم بأحب الكنى إليهم ومنها خير تجارتكم البز وخير أعمالكم الخرز
ومنها لو صدق السائل ما ح أفلح من رده ومنها الناس أكفاء إلا حائكا أو
حجاما مع حديث كثير لا يحاط به قد رووه وأبطلوه
وقال بن المبارك في أحاديث أبي بن كعب من قرأ سورة كذا فله كذا
ومن قرأ سورة كذا فله كذا أظن الزنادقة وضعته
وكذلك هذه الأحاديث التي يشنع بها عليهم من عرق الخيل وزغب الصدر
وقفص الذهب وعيادة الملائكة هي كلها باطل لا طرق لها ولا رواة ولا نشك
في وضع الزنادقة لها
قال أبو محمد وقد جاءت أحاديث صحاح مثل قلب المؤمن بين إصبعين من
أصابع الرحمن
وإن الله تعالى خلق آدم على صورته وكلتا يديه يمين ويحمل الله
الأرض على أصبع ويجعل كذا على أصبع ولا تسبوا الريح فإنها من نفس
الرحمن وكثافة جلد الكافر في النار أربعون ذراعا بذراع الجبار
قال أبو محمد ولهذه الأحاديث مخارج سنخبر بها في مواضعها من هذا الكتاب
إن شاء الله
وربما نسي الرجل منهم الحديث قد حدث به وحفظ عنه ويذاكر به فلا يعرفه
ويخبر بأنه قد حدث به فيرويه عمن سمعه منه ضنا بالحديث الجيد ورغبة في
السنة كرواية ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي
هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد
73

قال ربيعة ثم ذاكرت سهيلا بهذا الحديث فلم يحفظه وكان بعد ذلك يرويه
عن نفسه عن أبيه عن أبي هريرة
وكرواية وكيع وأبي معاوية عن بن عيينة حديثين
أحدهما عن بن أبي نجيح عن مجاهد قال حدثناه محمد بن هارون قال نا
إبراهيم بن بشار قال نا بن عيينة عن أبي معاوية عن بن أبي نجيح عن مجاهد في
قول الله يوم تمور السماء مورا قال تدور
دورا وعن عمرو عن عكرمة في قول الله تعالى من صياصيهم قال الحصون
فسئل بن عيينة عنهما فلم يعرفهما وحدث بن عيينة بهما عنهما عن نفسه
وروى بن علية عن بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عمر بن عبد العزيز أنه
كان لا يرى طلاق المكره شيئا فسأل عنه بن عيينة فلم يعرفه ثم حدث به بعد عن
بن علية عن نفسه
قال أبو محمد وكان معتمر بن سليمان يقول حدثني منقذ عني عن أيوب عن
الحسن قال ويح كلمة رحمة
وقد نبهوا على الطرق الضعاف كحديث عمرو بن سعيد عن أبيه عن جده لأنها
مأخوذة عندهم من كتاب
وكان مغيرة لا يعبأ بحديث سالم بن أبي الجعد ولا بحديث خلاس ولا بصحيفة
عبد الله بن عمرو
74

وقال مغيرة كانت لعبد الله بن عمرو صحيفة تسمى الصادقة ما تسرني أنها لي
بفلسين
وقال حديث أصحاب عبد الله بن مسعود عن علي أصح من حديث أصحاب
علي عنه
وقال شعبة لان أزني كذا وكذا زنية أحب إلي من أن أحدث عن أبان بن أبي
عياش
وأما طعنهم عليهم بقلة المعرفة لما يحملون وكثرة اللحن والتصحيف فإن الناس
لا يتساوون جميعا في المعرفة والفضل وليس صنف من الناس إلا وله حشو
وشوب
فأين هذا الغائب لهم عن الزهري أعلم الناس بكل فن وحماد بن سلمة ومالك بن
أنس وابن عون وأيوب ويونس بن عبيد وسليمان التيمي وسفيان الثوري ويحيى
بن سعيد وابن جريج والأوزاعي وشعبة وعبد الله بن المبارك وأمثال هؤلاء من
المتقنين
على أن المنفرد بفن من الفنون لا يعاب بالزلل في غيره
وليس على المحدث عيب أن يزل في الاعراب ولا على الفقيه أن يزل في الشعر
وإنما يجب على كل ذي علم أن يتقن فنه إذا احتاج الناس إليه فيه وانعقدت له
الرئاسة به
وقد يجتمع للواحد علوم كثيرة والله يؤتى الفضل من يشاء
وقد قيل لأبي حنيفة وكان في الفتيا ولطف النظر واحد زمانه ما تقول في
رجل تناول صخرة فضرب به رأس رجل فقتله أتقيده به
75

فقال لا ولو رماه بأبا قبيس
وكان بشر المريسي يقول لجلسائه قضى الله لكم الحوائج على أحسن الأمور
وأهنؤها
فنظر قاسم التمار قوما يضحكون من قول بشر
فقال هذا كما قال الشاعر
إن سليمى والله يكلؤها * ضنت بشئ ما كان يرزؤها
وبشر رأس في الرأي وقاسم التمار متقدم في أصحاب الكلام واحتجاجه
لبشر أعجب من لحن بشر
وقال بلال لشبيب بن شيبة وهو يستعدي على عبد الاعلى بن عبد الله بن
عامر أحضرنيه فقال قد دعوته فكل ذلك يأبى علي قال بلال فالذنب لكل
ولا أعلم أحدا من أهل العلم والأدب إلا وقد أسقط في علمه كالأصمعي وأبي
زيد وأبي عبيدة وسيبويه والأخفش والكسائي والفراء وأبي عمرو الشيباني
وكالأئمة من قراء القرآن والأئمة من المفسرين
وقد أخذ الناس على الشعراء في الجاهلية والاسلام الخطأ في المعاني وفي
الاعراب وهم أهل اللغة وبهم يقع الاحتجاج
فهل أصحاب الحديث في سقطهم إلا كصنف من الناس
على أنا لا نخلي أكثرهم من العذل في كتبنا في تركهم الاشتغال بعلم ما قد
كتبوا والتفقه بما جمعوا وتهافتهم على طلب الحديث من عشرة أوجه وعشرين وجها
76

وقد كان في الوجه الواحد الصحيح والوجهين مقنع لمن أراد الله عز وجل بعلمه
حتى تنقضي أعمارهم ولم يحلوا من ذلك إلا بأسفار أتعبت الطالب ولم تنفع
الوارث
فمن كان من هذه الطبقة فهو عندنا مضيع لحظه مقبل على ما كان غيره أنفع له
منه
وقد لقبوهم بالحشوية والنابتة والمجبرة وربما قالوا الجبرية
وسموهم الغثاء والغثر
وهذه كلها أنباز لم يأت بها خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أتى عنه في القدرية
أنهم مجوس هذه الأمة فإن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوا
جنائزهم
وفي الرافضة برواية ميمون بن مهران عن بن عباس قال سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول يكون قوم في آخر الزمان يسمون الرافضة يرفضون الاسلام
ويلفظونه فاقتلوهم فإنهم مشركون
وفي المرجئة صنفان من أمتي لا تنالهم شفاعتي لعنوا على لسان سبعين نبيا
المرجئة والقدرية
وفي الخوارج يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية وهم كلاب أهل
النار
فهذه أسماء من رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلك أسماء مصنوعة
77

وقد يحمل بعضهم الحمية على أن يقول الجبرية هم القدرية
ولو كان هذا الاسم يلزمهم لاستغنوا به عن الجبرية
ولو ساغ هذا لأهل القدر لساغ مثله للرافضة والخوارج والمرجئة وقال كل
فريق منهم لأهل الحديث مثل الذي قالته القدرية
والأسماء لا تقع غير مواقعها ولا تلزم إلا أهلها
ويستحيل أن تكون الصياقلة هم الأساكفة والنجار هو الحداد
والفطرة التي فطر الناس عليها والنظر يبطل ما قذفوهم به
أما الفطر فإن رجلا لو دخل المصر واستدل على القدرية فيه أو المرجئة
لدله الصبي والكبير والمرأة والعجوز والعامي والخاصي والحشوة والرعاع على
المسمين بهذا الاسم
ولو استدل على أهل السنة لدلوه على أصحاب الحديث
ولو مرت جماعة فيهم القدري والسني والرافضي والمرجئ والخارجي فقذف
رجل القدرية أو لعنهم لم يكن المراد بالشتم أو اللعن عندهم أصحاب الحديث
هذا أمر لا يدفعه دافع ولا ينكره منكر
وأما النظر فإنهم أضافوا القدر إلى أنفسهم وغيرهم يجعله لله تعالى دون نفسه
ومدعي الشئ لنفسه أولى بأن ينسب إليه ممن جعله لغيره
ولان الحديث جاءنا بأنهم مجوس هذه الأمة وهم أشبه قوم بالمجوس لان
المجوس تقول بإلهين وإياهم أراد الله بقوله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما
هو إله واحد
وقالت القدرية نحن نفعل مالا يريد الله تعالى ونقدر على ما يقدر
78

وبلغني أن رجلا من أصحاب الكلام قال لرجل من أهل الذمة ألا تسلم يا
فلان
فقال حتى يريد الله تعالى
فقال له قد أراد الله ولكن إبليس لا يدعك
فقال له الذمي فأنا مع أقواهما
وحدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال حدثنا قريش بن أنس
قال سمعت عمرو بن عبيد يقول يؤتى بي يوم القيامة فأقام بين يدي الله فيقول
لي لم قلت إن القاتل في النار
فأقول أنت قلته ثم تلا هذه الآية ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم
خالدا فيها
قلت له وما في البيت أصغر مني أرأيت إن قالك قد قلت إن الله لا
يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء من أين علمت أني لا أشاء أن
أغفر
قال فما استطاع أن يرد علي شيئا
حدثني أبو الخطاب قانا داود بن المفضل عن محمد بن المفضل عن محمد بن
سليمان عن الأصبغ بن جامع عن أبيه قال كنت أطوف مع عمر بن الخطاب رضي
الله عنه بالبيت فأتى الملتزم بين الباب والحجر فألصق به بطنه وقال اللهم اغفر
لي ما قضيته علي ولا تغفر لي ما لم تقضه علي
وحدثني سهل بن محمد قال نا الأصمعي عن معاذ بن معاذ قال سمع الفضل
الرقاشي رجلا يقول اللهم اجعلني مسلما
فقال هذا محال فقال الرجل ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة
مسلمة لك
79

وحدثني سهل قال أنا الأصمعي عن أبي معشر المدني قال قال محمد بن كعب
القرظي العباد أذل من أن يكون لاحد منهم في ملك الله تعالى شئ هو كاره أن
يكون
وحدثني سهل قال حدثنا الأصمعي قال قال أبو عمرو أشهد أن الله يضل من يشاء ويهدي من
يشاء ولله علينا الحجة ومن قال تعال أخاصمك قلت له أغن
عنا نفسك
وحدثني أبو الخطاب قال أنا أبو داود عن الحسن بن أبي الحسن قال سمعت
الحجاج يخطب وهو بواسط وهو يقول اللهم أرني الهدى هدى فأتبعه
وأرني الضلالة ضلالة فأجتنبها ولا تلبس علي هداي فأضل ضلالا بعيدا
قال أبو محمد وهذا نحو قول الله تعالى وللبسنا عليهم ما يلبسون
وقال عمرو بن عون القيسي وكان من البكائين حتى ذهب بصره سمعت سعيد
بن أبي عروبة يقول ما في القرآن آية هي أشد علي من قول موسى إن هي إلا
فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء
فقلت له فالقرآن يشتد عليك والله لا أكلمك كلمة أبدا فما كلمته حتى
مات
وحدثني إسحاق بن إبراهيم الشهيدي عن يحيى بن حميد الطويل عن عمرو بن
النضر قال مررت بعمرو بن عبيد فجلست إليه فذكر شيئا فقلت ما هكذا يقول
أصحابنا
قال ومن أصحابك
80

قلت
أيوب وابن عون ويونس والتيمي
فقال أولئك أرجاس أنجاس أموات غير أحياء
قال أبو محمد وهؤلاء الأربعة الذين ذكرهم غرة أهل زمانهم في العلم والفقه
والاجتهاد في العبادة وطيب المطعم وقد درجوا على ما كان عليه من قبلهم من
الصحابة والتابعين
وهذا يدل على أن أولئك أيضا عند أرجاس أنجاس
فإن ادعوا أن الذين درجوا من الصحابة والتابعين لم يكونوا على ما كان عليه
هؤلاء وأنهم يقولون بمثل مقالتهم في القدر
قلنا لهم فلم تعلقتم بالحسن وعمرو بن عبيد وغيلان
ألا تعلقتم بعلي وابن مسعود وأبي عبيدة ومعاذ وسعيد بن المسيب وأشباه
هؤلاء فإنهم كانوا أعظم في القدوة وأثبت في الحجة من قتادة والحسن وابن أبي
عروبة
وأما قولهم إنهم يكتبون الحديث عن رجال من مخالفيهم كقتادة وابن أبي
نجيح وابن أبي ذئب ويمتنعون عن الكتاب عن مثلهم مثل عمرو بن عبيد
وعمرو بن فائد ومعبد الجهني فإن هؤلاء الذين كتبوا عنهم أهل علم وأهل
صدق في الرواية
ومن كان بهذه المنزلة فلا بأس بالكتاب عنه والعمل بروايته إلا فيما اعتقده من
الهوى فإنه لا يكتب عنه ولا يعمل به
كما أن الثقة العدل تقبل شهادته على غيره ولا تقبل شهادته لنفسه ولا لابنه ولا
لأبيه ولا فيما جر إليه نفعا أو دفع عنه ضرر
81

وإنما منع من قبول قول الصادق فيما وافق نحلته وشاكل هواه لان نفسه تريه
أن الحق فيما اعتقده وأن القربة إلى الله عز وجل في تثبيته بكل وجه ولا يؤمن مع
ذلك التحريف والزيادة والنقصان
فإن قالوا فإن أهل المقالات المختلفة يرى كل فريق منهم أن الحق فيما اعتقده
وأن مخالفه على ضلال وهوى وكذلك أصحاب الحديث فيما انتحلوا
فمن أين علموا علما يقينا أنهم على الحق
قيل لهم إن أهل المقالات وإن اختلفوا ورأي كل صنف منهم أن الحق فيما دعا
إليه فإنهم مجمعون لا يختلفون
على أن من اعتصم بكتاب الله عز وجل وتمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد
استضاء بالنور واستفتح باب الرشد وطلب الحق من مظانه
وليس يدفع أصحاب الحديث عن ذلك إلا ظالم لأنهم لا يردون شيئا من أمر
الدين إلى استحسان ولا إلى قياس ونظر ولا إلى كتب الفلاسفة المتقدمين ولا إلى
أصحاب الكلام المتأخرين
فإن ادعوا عليهم الخطأ بحملهم الكذب والمتناقض قيل لهم
أما الكذب والغلط والضعيف فقد نبهوا عليه على ما أعلمتك وأما المتناقض
فنحن مخبروك بالمخارج منه ومنبهوك على ما تأخر عنه علمك وقصر عنه نظرك
وبالله الثقة وهو المستعان
82

ذكر الأحاديث التي ادعوا عليها التناقض
والأحاديث التي تخالف عندهم كتاب الله تعالى
والأحاديث التي يدفعها النظر وحجة العقل
فمن ذلك حديث ذكروا أنه يخالف كتاب الله تعالى
قالوا رويتم أن الله تعالى مسح على ظهر آدم عليه السلام وأخرج منه ذريته إلى
يوم القيامة أمثال الذر وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى
وهذا خلاف قول الله تعالى وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم
وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى لان الحديث يخبر أنه أخذ من ظهر
آدم والكتاب يخبر أنه أخذ من ظهور بني آدم.
قال أبو محمد ونحن نقول إن ذلك ليس كما توهموا بل المعنيان متفقان بحمد الله
ومنه صحيحان لان الكتاب يأتي بجمل يكشفها الحديث واختصار تدل عليه السنة
ألا ترى أن الله تعالى حين مسح ظهر آدم عليه السلام على ما جاء في الحديث
فأخرج منه ذريته أمثال الذر إلى يوم القيامة أن في تلك الذرية الأبناء وأبناء الأبناء
وأبناءهم إلى يوم القيامة
فإذا أخذ من جميع أولئك العهد وأشهدهم على أنفسهم فقد أخذ من بني آدم
جميعا من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم
83

ونحو هذا قول الله تعالى في كتابه ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا
للملائكة اسجدوا لآدم فجعل قوله للملائكة اسجدوا لآدم بعد
خلقناكم وصورناكم
وإنما أراد بقوله تعالى خلقناكم وصورناكم خلقنا آدم وصورناه ثم قلنا
للملائكة اسجدوا لآدم
وجاز ذلك لأنه حين خلق آدم خلقنا في صلبه وهيأنا كيف شاء فجعل خلقه
لآدم خلقه لنا إذ كنا منه
ومثل هذا مثل رجل أعطيته من الشاء ذكرا وأنثى وقلت له قد وهبت لك
شاء كثيرا تريد أني وهبت لك بهبتي هذين الاثنين من النتاج شاء كثيرا
وكان عمر بن عبد العزيز وهب لدكين الراجز ألف درهم فاشترى به دكين
عدة من الإبل فرمى الله تعالى في أذنابها بالبركة فنمت وكثرت
فكان دكين يقول هذه منائح عمر بن عبد العزيز
ولم تكن كلها عطاءه وإنما أعطاه الآباء والأمهات فنسبها إليه إذ كانت نتائج
ما وهب له
ومما يشبه هذا قول العباس بن عبد المطلب في رسول الله صلى الله عليه وسلم
من قبلها طبت في الظلال وفي * مستودع حيث يخصف الورق
يريد طبت في ظلال الجنة وفي مستودع يعني الموضع الذي استودعه من الجنة
حيث يخصف الورق أي حيث خصف آدم وحواء عليهما من ورق الجنة
وإنما أراد أنه كان إذ ذاك طيبا في صلب آدم ثم قال
ثم هبطت البلاد لا بشر * أنت ولا مضغة ولا علق
84

يريد أن آدم هبط البلاد فهبطت في صلبه وأنت إذ ذاك لا بشر ولا مضغة ولا
دم ثم قال
بل نطفة تركب السفين وقد * ألجم نسرا وأهله الغر
يريد أنك نطفة في صلب نوح صلى الله عليه وسلم حين ركب الفلك ثم قال
تنقل من صالب إلى رحم * إذا مضى عالم بدا طبق
يريد أنه ينتقل في الأصلاب والأرحام
فجعله طيبا وهابطا للبلاد وراكبا للسفن من قبل أن يخلق
وإنما يريد بذلك آباءه الذين اشتملت أصلابهم عليه
قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول
ورويتم عن عيسى بن يونس عن أبي عوانة عن خالد الحذاء عن عراك بن
مالك عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن قوما يكرهون
أن يستقبلوا القبلة بغائط أو بول فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بخلائه فاستقبل به القبلة
قالوا وهذا خلاف ذاك
قال أبو محمد ونحن نقول إن هذا الحديث يجوز عليه النسخ لأنه من الأمر والنهي
فكيف لم يذهبوا إلى أن أحدهما ناسخ والآخر منسوخ إذ كان قد ذهب
عليهم المعنى فيهما
وليسا عندنا من الناسخ والمنسوخ ولكن لكل واحد منهما موضع يستعمل فيه
فالموضع الذي لا يجوز أن تستقبل القبلة فيه بالغائط والبول هي الصحاري والبراحات
85

وكانوا إذا نزلوا في أسفارهم لهيئة الصلاة استقبل بعضهم القبلة بالصلاة
واستقبلها بعضهم بالغائط فأمرهم أن لا يستقبلوا القبلة بغائط ولا بول إكراما للقبلة
وتنزيها للصلاة
فظن قوم أن هذا أيضا يكره في البيوت والكنف المحتفرة
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بخلائه فاستقبل به القبلة
يريد أن يعلمهم أنه لا يكره ذلك في البيوت والآبار المحتفرة التي تستر
الحدث وفي الخلوات في المواضع التي لا يجوز فيها الصلاة
قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم عن وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا انقطع شسع نعل أحدكم فيمش في نعل واحدة
ورويتم عن مندل عن ليث عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة رضي
الله عنها قالت ربما انقطع شسع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمشى في النعل الواحدة حتى
يصلح الأخرى
قالوا وهذا خلاف ذلك
قال أبو محمد ونحن نقول ليس ههنا خلاف بحمد الله تعالى لان الرجل كان
ينقطع شسع نعله فينبذها أو يعلقها بيده ويمشي في نعل واحدة إلى أن يجد
شسعا
وهذا يفحش ويقبح في النعلين والخفين وكل زوجين من اللباس يستعمل في
اثنين فيستعمل في واحد ويترك الآخر
وكذلك الرداء يلقى على أحد المنكبين ويترك الآخر
86

فأما أن ينقطع شسع الرجل فيمشي خطوة أو خطوتين أو ثلاثا إلى أن يصلح
الآخر فإن هذا ليس بمنكر ولا قبيح
وحكم القليل يخالف حكم الكثير في كثير من المواضع
ألا ترى أنه يجوز للمصلي أن يمشي خطوة وخطوتين وخطوات وهو راكع إلى
الصف الذي بين يديه
ولا يجوز له أن يمشي وهو راكع مائة ذراع ومائتي ذراع
ويجوز له أن يردي الرداء على منكبيه إذا سقط عنه
ولا يجوز له أن يطوي ثوبه في الصلاة ولا أن يعمل عملا يتطاول
ويبتسم فلا تنقطع صلاته ويقهقه فتنقطع قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم عن عائشة أنها قالت ما بال رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما قط
ثم رويتم عن حذيفة أنه بال قائما وهذا خلاف ذاك
قال أبو محمد ونحن نقول ليس ههنا بحمد الله اختلاف ولم يبل قائما قط في
منزله والموضع الذي كانت تحضره فيه عائشة رضي الله عنها
وبال قائما في المواضع التي لا يمكن أن يطمئن فيها إما للثق في الأرض وطين
أو قذر
وكذلك الموضع الذي رأى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة يبول قائما كان مزبلة
لقوم فلم يمكنه القعود فيه ولا الطمأنينة
وحكم الضرورة خلاف حكم الاختيار
87

قال أبو محمد حدثني محمد بن زياد الزيادي قال أنا عيسى بن يونس قال أنا
الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قو
فبال قائما فذهبت أتنحى فقال أدن مني فدنوت منه حتى قمت عند عقبه
فتوضأ ومسح على خفيه
والسباطبة المزبلة وكذلك الكساحة والقمامة
قالوا حديث يخالف كتاب الله تعالى
قالوا رويتم عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة
عن أبي هريرة وزيد بن خالد وشبل أن رجلا قام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول
الله نشدتك بالله إلا قضيت بيننا بكتاب الله تعالى
فقام خصمه وكان أفقه منه فقال صدق اقض بيننا بكتاب الله و ح ائذن لي
فقال قل
قال إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته فافتديت منه بمائة شاة وخادم
ثم سألت رجالا من أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام وعلى
امرأة هذا الرجم
فقال والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله المائة شاة والخادم رد
عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام وعلى امرأة هذا الرجم واغد يا
أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها
فغدا عليها فاعترفت فرجمها
قال أبو محمد هكذا حدثنيه محمد بن عبيد عن بن عيينة
قالوا وهذا خلاف كتاب الله عز وجل لأنه سأله أن يقضي بينهما بكتاب الله
تعالى فقال له والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله
ثم قضى بالرجم والتغريب وليس للرجم والتغريب ذكر في كتاب الله تعالى
وليس يخلو هذا الحديث من أن يكون باطلا أو يكون حقا
88

وقد نقص من كتاب تعالى ذكر الرجم والتغريب
قال أبو محمد ونحن نقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرد بقوله لأقضين بينكما
بكتاب الله ههنا القرآن وإنما أراد لأقضين بينكما بحكم الله تعالى والكتاب
يتصرف على وجوه
منها الحكم والفرض كقول الله عز وجل كتاب الله عليكم وأحل لكم ما
وراء ذلكم أي فرض عليكم وقال كتب عليكم القصاص أي فرض عليكم
وقال وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال أي فرضت
وقال تعالى وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس أي حكمنا
وفرضنا
وقال النابغة الجعدي
ومال الولاء بالبلاء فملتم وما ذاك قال الله إذ هو يكتب
أراد مالت القرابة بأحسابنا إليكم وما ذاك أوجب الله إذ هو يحكم
قالوا حديث يبطله الاجماع قالوا رويتم عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة كانت
تستعير حليا من أقوام فتبيعه فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فأمر بقطع يدها
89

قالوا وقد أجمع الناس على أنه لا قطع على المستعير لأنه مؤتمن
قال أبو محمد ونحن نقول إن هذا الحديث صحيح غير أنه لا يوجب حكما لأنه
لم يقل فيه إنه قطعها وإنما قيل أمر بقطعها
وقد يجوز أن يأمر ولا يفعل وهذا قد يكون من الأئمة على وجه التحذير
والترهيب ولا يراد به إيقاع الفعل
ومثله الحديث الذي يرويه الحسن عن سمرة بن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
من قتل عبده قتلناه ومن جدع عبده جدعناه
والناس جميعا على أنه لا يقتل رجل بعبده ولا يقتص منه لعبده وإنما يختلفون في
عبد غيره
90

وأراد صلى الله عليه وسلم ترهيب السيد وتحذيره أن يقتل عبده أو يمثل به ولم يرد إيقاع
الفعل
وكان الحكم يجب بأن يقال إنه قتل رجلا بعبده أو اقتص منه لعبده
فأما قوله من فعل فعلنا به فإن ذلك تحذير وترهيب
وكذلك قوله من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه
فإن عاد فاقتلوه إنما هو ترهيب لئلا يعاوده
ويدلك على ذلك أنه أتي به في المرة الرابعة فجلده ولم يقتله
وهكذا نقول في الوعيد كله أنه جائز أن يقع وأن لا يقع على حديث أبي
هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم من وعده الله على عمل ثوابا فهو منجزه له ومن أوعده
عقابا فهو فيه بالخيار
قالوا حديث يدفعه النظر وحجة العقل
قالوا رويتم عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
أنا أحق بالشك من أبي إبراهيم ورحم الله لوطا إن كان ليأوي إلى ركن
شديد ولو دعيت إلى ما دعي إليه يوسف لأجبت
قالوا وهذا طعن على إبراهيم وطعن على لوط وطعن على نفسه عليهم
السلام
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس فيه شئ مما ذكروا بحمد الله تعالى ونعمته
فأما قوله أنا أحق بالشك من أبي إبراهيم عليه السلام فإنه لما نزل عليه وإذا
قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن
قلبي قال قوم سمعوا الآية شك إبراهيم صلى الله عليه وسلم ولم يشك نبينا صلى الله عليه وسلم
91

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أحق بالشك من أبي إبراهيم عليه السلام تواضعا منه
وتقديما لإبراهيم على نفسه يريد أنا لم نشك ونحن دونه فكيف يشك هو
وتأويل قول إبراهيم عليه السلام ولكن ليطمئن قلبي
أي يطمئن بيقين النظر واليقين جنسان
أحدهما يقين السمع والاخر يقين البصر
ويقين البصر أعلى اليقينين ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس المخبر كالمعاين
حين ذكر قوم موسى وعكوفهم على العجل
قال أعلمه الله تعالى أن قومه عبدوا العجل فلم يلق الألواح فلما عاينهم
عاكفين غضب وألقى الألواح حتى انكسرت
وكذلك المؤمنون بالقيامة والبعث والجنة والنار مستيقنون أن ذلك كله حق
وهم في القيامة عند النظر والعيان أعلى يقينا
فأراد إبراهيم عليه السلام أن يطمئن قلبه بالنظر الذي هو أعلى اليقينين
وأما قوله رحم الله لوطا إن كان ليأوي إلى ركن شديد فإنه أراد قوله لقومه
لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد يريد سهوه في هذا الوقت
الذي ضاق فيه صدره واشتد جزعه بما دهمه من قومه حتى قال أو آوي إلى
ركن شديد وهو يأوي إلى الله تعالى أشد الأركان
قالوا فما بعث الله نبيا بعد لو إلا في ثروة من قومه
92

وأما قوله لو دعيت إلى ما دعي إليه يوسف لأجبت يعني حين دعى للاطلاق من
الحبس بعد الغم الطويل فقال للرسول ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة
اللاتي قطعن أيديهن ولم يخرج من الحبس في وقته يصفه بالأناة والصبر
وقال لو كنت مكانه ثم دعيت إلى ما دعي إليه من الخروج إلى الحبس
لأجبت ولم أتلبث
وهذا أيضا جنس من تواضعه لا أنه كان عليه لو كان مكان يوسف فبادر
وخرج أو على يوسف لو خرج من الحبس مع الرسول نقص ولا إثم
وإنما أراد أنه لم يكن يستثقل محنة الله عز وجل له فيبادر ويتعجل ولكنه كان
صابرا محتسبا
قالوا حديث يكذبه العيان
قالوا رويتم عن أبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال وذكر سنة مائة إنه لا يبقى على ظهرها يومئذ نفس منفوسة
قالوا وهذا باطل بين للعيان ونحن طاعنون في سني ثلاثمائة والناس أكثر
كانوا
قال أبو محمد ونحن نقول إن هذا حديث قد أسقط الرواة منه حرفا
إما لأنهم نسوه أو لان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخفاه فلم يسمعوه ونراه بل لا
نشك أنه قال لا يبقى على الأرض منكم يومئذ نفس منفوسة
يعني ممن حضره في ذلك المجلس أو يعني الصحابة فأسقط الراوي منكم
وهذا مثل قول بن مسعود في ليلة الجن ما شهدها أحد منا غيري فأسقط
الراوي غيري
93

ومما يشهد على ما أقول أن أبا كدينة روى عن مطرف عن المنهال بن عمرو
أن عليا رضي الله عنه قال لأبي مسعود إنك تفتي الناس
قال أجل وأخبرهم أن الآخر شر
قال فأخبرني هل سمعت منه
قال سمعته يقول لا يأتي على الناس سنة مائة وعلى الأرض عين تطرف
فقال علي أخطأت استك الحفرة إنما قال ذلك يومئذ لمن حضره وهل الرجا
إلا بعد المائة
ونحو من هذا الحديث مما وقع فيه الغلط حديث حدثنيه محمد بن خالد بن خداش
قال أنا أبي عن حماد بن زيد عن أيوب عن الحسن عن صخر بن قدامة العقيلي
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يولد بعد سنة مائة مولود لله فيه حاجة
قال أيوب فلقيت صخر بن قدامة فسألته عن الحديث فقال لا أعرفه
قال أبو محمد وهذا هو ذاك الحديث وقع فيه الغلط واختلفت فيه الروايات
قالوا حديث يدفعه النظر وحجة النظر
قالوا رويتم عن عبد العزيز بن المختار الأنصاري عن عبد الله الداناج قال
شهدت أبا سلمة بن عبد الرحمن في مسجد البصرة وجاء الحسن فجلس إليه فحدث
94

عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الشمس والقمر ثوران مكوران في النار
يوم القيامة
فقال الحسن وما ذنبهما
قال إني أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسكت
قالوا قد صدق الحسن ما ذنبهما
وهذا من قول الحسن رد عليه أو على أبي هريرة
قال أبو محمد ونحن نقول إن الشمس والقمر لم يعذبا بالنار حين أدخلاها فيقال
ما ذنبهما ولكنهما خلقا منها ثم ردا إليها
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشمس حين غربت في نار الله الحامية
لولا ما يزعها من أمر الله تعالى لأهلكت ما على الأرض
وقال ما ترتفع في السماء قصمة إلا فتح لها باب من أبواب النار فإذا
قامت الظهيرة فتحت الأبواب كلها وهذا يدلك
على أن شدة حرها من فوح جهنم ولذلك قال
أبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فوح جهنم
فما كان من النار ثم رد إلى النار لم يقل إنه يعذب
وما كان من المسخر المقصور على فعل واحد كالنار والفلك المسخر الدوار
والبحر المسجور وأشباه ذلك لا يقع به تعذيب ولا يكون له ثواب
95

وما مثل هذا إلا مثل رجل سمع بقول الله تعالى فاتقوا النار التي وقودها
الناس والحجارة فقال ما ذنب الحجارة
قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لا عدوى ولا طيرة
وأنه قيل له إن النقبة تقع بمشفر البعير فتجرب لذلك الإبل
فقال فما أعدى الأول قال هذا أو معناه
ثم رويتم في خلاف ذلك لا يوردن ذو عاهة على مصح
وفر من المجذوم فرارك من الأسد
وأتاه رجل مجذوم ليبايعه بيعة الاسلام فأرسل إليه بالبيعة وأمره بالانصراف
ولم يأذن له عليه
وقال الشؤم في المرأة والدار والدابة
قالوا وهذا كله مختلف لا يشبه بعضه بعضا.
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس في هذا اختلاف ولكل معنى منها وقت
وموضع فإذا وضع بموضعه زال الاختلاف
والعدوي جنسان
أحدهما عدوى الجذام فإن المجذوم تشتد رائحته حتى يسقم من أطال مجالسته
ومؤاكلته
وكذلك المرأة تكون تحت المجذوم فتضاجعه في شعار واحد فيوصل إليها
الأذى وربما جذمت وكذلك ولده ينزعون في الكثير إليه وكذلك من كان
96

به سل ودق ونقب والأطباء تأمر بأن لا يجالس المسلول ولا المجذوم لا يريدون
بذلك معنى العدوي إنما يريدون به تغير الرائحة وأنها قد تسقم من أطال اشتمامها
والأطباء أبعد الناس من الايمان بيمن أو شؤم
وكذلك النقبة تكون بالبعير وهي جرب رطب فإذا خالطها الإبل وحاكها
وأوى في مباركها أوصل إليها بالماء الذي يسيل منه والنطف نحوا مما به
وهذا هو المعنى الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يوردن ذو عاهة على مصح
كره أن يخالط المعيوه الصحيح فيناله من نطفه وحكته نحو مما به
وقد ذهب قوم إلى أنه أراد بذلك أن لا يظن أن الذي نال إبله من ذوات العاهة
فيأثم
قال وليس لهذا عندي وجه لأنا نجد الذي أخبرتك به عيانا
وأما الجنس الآخر من العدوي فهو الطاعون ينزل ببلد فيخرج منه خوفا من
العدوي
قال أبو محمد حدثني سهل بن محمد قال نا الأصمعي عن بعض البصريين أنه
هرب من الطاعون فركب حمارا ومضى بأهله نحو سفوان فسمع حاديا يحدو
خلفه وهو يقول
لن يسبق الله على حمار * ولا على ذي ميعة مطار
97

أو يأتي الحتف على مقدار * قد يصبح الله أمام الساري
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان بالبلد الذي أنتم به فلا تخرجوا منه
وقال أيضا إذا كان ببلد فلا تدخلوه
يريد بقوله لا تخرجوا من البلد إذا كان فيه كأنكم تظنون أن الفرار من قدر الله
تعالى ينجيكم من الله
ويريد بقوله وإذا كان ببلد فلا تدخلوه أن مقامكم بالموضع الذي لا طاعون
فيه أسكن لأنفسكم وأطيب لعيشكم
ومن ذلك تعرف المرأة بالشؤم أو الدار فينال الرجل مكروه أو جائحة
فيقول أعدتني بشؤمها فهذا هو العدوي الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا
عدوى
وأما الحديث الذي رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الشؤم في المرأة والدار
والدابة
فإن هذا حديث يتوهم فيه الغلط على أبي هريرة وأنه سمع فيه شيئا من رسول
الله صلى الله عليه وسلم فلم يعه
قال أبو محمد حدثني محمد بن يحيى القطعي قال نا عبد الاعلى عن سعيد عن
قتادة عن أبي حسان الأعرج أن رجلين دخلا على عائشة رضي الله عنها فقالا إن
أبا هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إنما الطيرة في المرأة والدابة
والدار
فطارت شفقا ثم قالت كذب والذي أنزل القرآن على أبي القاسم من
حدث بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أهل الجاهلية يقولون إن الطيرة في الدابة
والمرأة والدار ثم قرأت ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في
98

كتاب من قبل أن نبرأها
وحدثني أحمد بن الخليل قال نا موسى بن مسعود النهدي عن عكرمة بن عمار
عن إسحاق عن بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال جاء رجل منا
إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنا نزلنا دارا فكثر فيها عددنا وكثرت فيها
أموالنا ثم تحولنا عنها إلى أخرى فقلت فيها أموالنا وقل فيها عددنا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ارحلوا عنها وذروها وهي ذميمة
قال أبو محمد وليس هذا بنقض للحديث الأول ولا الحديث الأول بنقض لهذا
وإنما أمرهم بالتحول منها لأنهم كانوا مقيمين فيها على استثقال لظلها واستيحاش
بما نالهم فيها فأمرهم بالتحول
وقد جعل الله تعالى في غرائز الناس وتركيبهم استثقال ما نالهم السوء فيه وإن
كان لا سبب له في ذلك وحب من جرى على يده الخير لهم وإن لم يردهم به وبغض
من جرى على يده الشر لهم وإن لم يردهم به
وكيف يتطير صلى الله عليه وسلم والطيرة من الجبت
وكان كثير من أهل الجاهلية لا يرونها شيئا ويمدحون من كذب بها
قال الشاعر يمدح رجلا
وليس بهياب إذا شد رحله * يقول عداني اليوم واق وحاتم
ولكنه يمضي على ذاك مقدما * إذا صد عن تلك الهنات الخثارم
99

قال أبو محمد الخثارم هو الذي يتطير والواق الصرد والحاتم الغراب
وقال المرقش
ولقد غدوت وكنت لا * أغدو على واق وحاتم
فإذا الأشائم كالأيامن * والأيامن كالأشائم
وكذاك لا خير ولا * شر على أحد بدائم
وحدثنا إسحاق بن راهويه قال أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن
أمية قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة لا يسلم منهن أحد الطيرة والظن
والحسد
قيل فما المخرج منهن
قال إذا تطيرت فلا ترجع وإذا ظننت فلا تحقق وإذا حسدت فلا تبغ
هذه الألفاظ أو نحوها
وحدثني أبو حاتم قال نا الأصمعي عن سعيد بن مسلم عن أبيه أنه كان
يعجب ممن يصدق بالطيرة ويعيبها أشد العيب
وقال فرقت لنا ناقة وأنا بالطف فركبت في أثرها فلقيني هانئ بن عبيد
من بني وائل وهو مسرع يقول
100

والشر يلفى مطالع الأكم
ثم لقيني رجل آخر من الحي فقال
ولئن بغيت لنا بغاة * ما البغاة بواجدينا
ثم دفعنا إلى غلام قد وقع في صغره في نار فأحرقته فقبح وجهه وفسد فقلت
له هل ذكرت من ناقة فارق
قال ههنا أهل بيت من الاعراب فانظر فنظرت فإذا هي عندهم وقد
أنتجت فأخذتها وولدها
قال أبو محمد الفارق التي قد حملت ففارقت صواحبها
وقال عكرمة كنا جلوسا عند بن عباس فمر طائر يصيح فقال رجل من القوم
خير خير
فقال بن عباس لا خير ولا شر وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحب الاسم الحسن
والفأل الصالح
وحدثني الرقاش قال نا الأصمعي قال سألت بن عون عن الفأل فقال هو
أن يكون مريضا فيسمع يا سالم أو يكون باغيا فيسمع يا واجد
قال أبو محمد وهذا أيضا مما جعل في غرائز الناس استحبابه والانس به كما
جعل على ألسنتهم من التحية بالسلام والمد في الأمنية والتبشير بالخير
101

وكما يقال أنعم واسلم وأنعم صباحا وكما تقول الفرس عش ألف
نوروز
والسامع لهذا يعلم أنه لا يقدم ولا يؤخر ولا يزيد ولا ينقص ولكن جعل في
الطباع محبة الخير والارتياح للبشرى والمنظر الأنيق والوجه الحسن والاسم
الخفيف
وقد يمر الرجل بالروضة المنورة فتسره وهي لا تنفعه وبالماء الصافي فيعجب
به وهو لا يشربه ولا يورده
وفي بعض الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعجب بالأترج ويعجبه الحمام
الأحمر
وتعجبه الفاغية وهي نور الحناء
وهذا مثل إعجابه بالاسم الحسن والفأل الحسن
وعلى مثل هذا كانت كراهته للاسم القبيح كبني النار وبني حراق وبني زنية
وبني حزن وأشباه هذا قالوا
102

حديثان متناقضان
قالوا رويتم أن خباب بن الأرت قال شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرمضاء فلم
يشكنا
يعني أنهم شكوا إليه شدة الحر وما ينالهم من الرمضاء وسألوه الابراد بالصلاة فلم
يشكهم أي لم يجبهم إلى تأخيرها
ثم رويتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فوح
جهنم
قالوا وهذا اختلاف خفاء به وتناقض
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس ههنا بنعمة الله تعالى اختلاف ولا
تناقض
لان أول الأوقات رضوان الله وآخر الأوقات عفو الله والعفو لا يكون
إلا عن تقصير
فأول الأوقات أوكد أمرا وآخرها رخصة
وليس يجوز لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ في نفسه إلا بأعلى الأمور وأقربها إلى الله
تعالى
وإنما يعمل في نفسه بالرخصة مرة أو مرتين ليدل بذلك الناس على جوازها
فأما أن يدوم على الامر الأخس ويترك الأوكد والأفضل فذلك مالا يجوز
فلما شكا إليه أصحابه الذين يصلون معه الرمضاء وأرادوا منه التأخير إلى أن
يسكن الحر لم يجبهم إلى ذلك إذ كانوا معه
ثم أمر بالابراد من لم يحضره توسعة على أمته وتسهيلا عليهم
وكذلك تغليسه بالفجر وقوله أسفروا بالفجر
103

ومما يدل على أنه كان يصلي الظهر للزوال ولا يؤخرها حديث إسماعيل بن علية
عن عوف عن المنهال عن أبي برزة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي الهجير التي
يسمونها الأولى حين تدحض الشمس يعني حين تزول
قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما كفر بالله نبي قط وأنه بعث إليه
ملكان فاستخرجا من قلبه وهو صغير علقة ثم غسلا قلبه ثم رداه إلى
مكانه
ثم رويتم أنه كان على دين قومه أربعين سنة وأنه زوج ابنتيه عتبة بن أبي لهب
وأبا العاص بن الربيع وهما كافران
قالوا وفي هذا تناقض واختلاف وتنقص لرسول الله صلى الله عليه وسلم
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس لأحد فيه بنعمة الله متعلق ولا مقال إذا
عرف معناه لان العرب جميعا من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام خلا
اليمن
ولم يزالوا على بقايا من دين أبيهم إبراهيم صلى الله عليه وسلم
ومن ذلك حج البيت وزيارته والختام والنكاح وإيقاع الطلاق إذا كان ثلاثا
وللزوج الرجعة في الواحدة والاثنتين ودية النفس مائة من الإبل والغسل من
الجنابة واتباع الحكم في المبال في الخنثى وتحريم ذوات المحارم بالقرابة والصهر
والنسب وهذه أمور مشهورة عنهم
وكانوا مع ذلك يؤمنون بالملكين الكاتبين
قال الأعشى وهو جاهلي
104

فلا تحسبني كافرا لك نعمة * على شاهدي يا شاهد الله فاشهد
يريد على لساني يا ملك الله فاشهد بما أقول
ويؤمن بعضهم بالبعث والحساب قال زهير بن أبي سلمى وهو جاهلي لم يلحق
الاسلام في قصيدته المشهورة التي تعد من السبع
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر * ليوم الحساب أو يعجل فينقم
وكانوا يقولون في البلية وهي الناقة تعقل عند قبر صاحبها فلا تعلف ولا تسقى
حتى تموت إن صاحبها يجئ يوم القيامة راكبها وإن لم يفعل أولياؤه ذلك بعده
جاء حافيا راجلا
وقد ذكرها أبو زبيد فقال
كالبلايا رؤوسها في الولايا * مانحات السموم حر الخدود
والولايا البراذع
وكانوا يقورون البرذعة ويدخلونها في عنق تلك الناقة فقال النابغة
محلتهم ذات الاله ودينهم * قويم فما يرجون غير العواقب
يريد الجزاء بأعمالهم ومحلتهم الشام
105

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على دين قومه يراد على ما كانوا عليه من الايمان
بالله والعمل بشرائعهم في الختان والغسل والحج والمعرفة بالبعث والقيامة
والجزاء وكان مع هذا لا يقرب الأوثان ولا يعيبها وقال بغضت إلي غير
أنه كان لا يعرف فرائض الله تعالى والشرائع التي شرعها لعباده على لسانه حتى
أوحي إليه
وكذلك قال الله تعالى ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى
يريد ضالا عن تفاصيل الايمان والاسلام وشرائعه فهداك الله عز وجل
وكذلك قوله تعالى ما كنت
تدري ما الكتاب ولا الايمان يريد ما كنت تدري ما القرآن ولا شرائع الايمان
ولم يرد الايمان الذي هو الاقرار لان آباءه الذين ماتوا على الكفر والشرك
كانوا يعرفون الله تعالى ويؤمنون به ويحجون له ويتخذون آلهة من دونه يتقربون
بها إليه تعالى وتقربه فيما ذكروا منه ويتوقون الظلم ويحذرون عواقبه ويتحالفون
على أن لا نبغي على أحد ولا نظلم
وقال عبد المطلب لملك الحبشة حين سأله حاجته فقال إبل ذهبت لي
فعجبه منه كيف لم يسأله الانصراف عن البيت
فقال إن لهذا البيت من يمنع منه أو كما قال
فهؤلاء كانوا يقرون بالله تعالى ويؤمنون به فكيف لا يكون الطيب المطهر قبل
الوحي يؤمن به وهذا لا يخفى على أحد ولا يذهب عليه أن مراد الله تعالى في قوله
ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان أن الايمان شرائع الايمان
قال أبو محمد ومعنى هذا الحديث أنه كان على دين إبراهيم وإسماعيل عليهما
السلام
106

وقومه هؤلاء لا أبو جهل وغيره من الكفار لان الله تعالى حكى عن إبراهيم
فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم
وقال لنوح إنه ليس من أهلك يعني ابنه لما كان على غير دينه
وأما تزويجه ابنتيه كافرين فهذا أيضا من الشرائع التي كان لا يعلمها
وإنما تقبح الأشياء بالتحريم وتحسن بالاطلاق والتحليل
وليس في تزويجهما كافرين قبل أن يحرم الله تعالى عليه إنكاح الكافرين وقيل أن
ينزل عليه الوحي ما يلحق به كفرا بالله تعالى
قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير
أم آخره
ثم رويتم إن الاسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا
وأنه قال خير أمتي القرن الذي بعثت فيه
قالوا وهذا تناقض واختلاف
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس في ذلك تناقض ولا اختلاف لأنه أراد
بقوله إن الاسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا أن أهل الاسلام حين بد قليل وهم
في آخر الزمان قليل إلا أنهم خيار
ومما يشهد لهذا ما رواه معاوية بن عمرو عن أبي إسحاق عن الأوزاعي عن
يحيى أو عروة بن رويم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال خيار أمتي أولها وآخرها وبين
ذلك ثبج أعوج ليس منك ولست منه والثبج الوسط
وقد جاءت في هذا آثار
منها أنه ذكر آخر الزمان فقال المتمسك منهم يومئذ بدينه كالقابض على
الجمر
107

ومنها حديث آخر ذكر فيه أن الشهيد منهم يومئذ كشهيد بدر
وفي حديث آخر أنه سئل عن الغرباء فقال الذين يحيون ما أمات الناس من
سنتي
وأما قوله خير أمتي القرن الذي بعثت فيه فلسنا نشك في أن صحابته خير ممن
يكون في آخر الزمان وأنه لا يكون لاحد من الناس مثل الفضل الذي أوتوه
وإنما قال مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره على التقريب لهم
من صحابته كما يقال ما أدري أوجه هذا الثوب أحسن أم مؤخره
ووجهه أفضل إلا أنك أردت تقريب منه
وكما تقول ما أدري أوجه هذه المرأة أحسن أم قفاها
ووجهها أحسن إلا أنك أردت تقريب ما بينهما في الحسن
ومثل هذا قوله في تهامة إنها كبديع العسل لا يدرى أوله خير أم آخره
والبديع الزق
وإذا كان العسل في زق ولم يختلف اختلاف اللبن في الوطب فيكون أوله خيرا
من آخره ولكنه يتقارب فلا يكون لأوله كبير فضل على آخره
قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تفضلوني على يونس بن متى ولا
تخايروا بين الأنبياء
ثم رويتم أنه قال أنا سيد ولد آدم ولا فخر وأنا أول من تنشق عنه الأرض
ولا فخر
قالوا وهذا اختلاف وتناقض
108

قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس ههنا اختلاف ولا تناقض
وإنما أراد أنه سيد ولد آدم يوم القيامة لأنه الشافع يومئذ والشهيد وله لواء
الحمد والحوض وهو أول من تنشق عنه الأرض
وأراد بقوله لا تفضلوني على يونس طريق التواضع
وكذلك قول أبي بكر رضي الله عنه وليتكم ولست بخيركم
وخص يونس لأنه دون غيره من الأنبياء مثل إبراهيم وموسى وعيسى صلى الله
عليهم وسلم أجمعين
يريد فإذا كنت لا أحب أن أفضل على يونس فكيف غيره ممن هو فوقه
وقد قال الله تعالى فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت أراد أن
يونس لم يكن له صبر كصبر غيره من الأنبياء
وفي هذه الآية ما دلك على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل منه لان الله تعالى يقول
له لا تكن مثله
وذلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد بقوله لا تفضلوني عليه طريق التواضع
ويجوز أن يريد لا تفضلوني عليه في العمل فلعله أكثر عملا مني ولا في
البلوى والامتحان فإنه أعظم مني محنة
وليس ما أعطى الله تعالى نبينا صلى الله عليه وسلم يوم القيامة من السؤدد والفضل على جميع
الأنبياء والرسل بعمله بل بتفضيل الله تعالى إياه واختصاصه له وكذلك أمته أسهل
الأمم محنة
بعثه الله تعالى إليها بالحنيفية السهلة ووضع عنها الإصر والاغلال التي كانت
على بني إسرائيل في فرائضهم
وهي مع هذا خير أمة أخرجت للناس بفضل الله تعالى
109

قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة من
خردل من كبر ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان
ثم رويتم من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق
والزنا والسرق أعظم عند الله من مثقال حبة من خردل من كبر
قالوا وهذا اختلاف
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس ههنا اختلاف وهذا الكلام خرج مخرج
الحكم يريد
ليس حكم من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان أن يدخل النار
ولا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر أن يدخل الجنة لان الكبرياء لله
تعالى ولا تكون لغيره
فإذا نازعها الله تعالى لم يكن حكمه أن يدخل الجنة والله تعالى يفعل بعد ذلك
ما يشاء
ومثل هذا من الكلام قولك في دار رأيتها صغيرة لا ينزل في هذا الدار
أمير
تريد حكمها وحكم أمثالها أن لا ينزلها الامراء وقد يجوز أن ينزلوها
وقولك هذا بلد لا ينزله حر تريد ليس حكمه أن ينزله الأحرار وقد يجوز
أن ينزلوه
وكذلك قوله من صام الدهر ضيقت عليه جهنم لأنه رغب عن هدية الله تعالى
وصدقته ولم يعمل برخصته ويسره
والراغب عن الرخصة كالراغب عن العزم وكلاهما مستحق للعقوبة إن عاقبه
الله عز وجل
110

وكذلك قوله ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم
أي حكمه أن يجزيه بذلك والله يفعل ما يشاء وهو على حديث أبي هريرة من
وعده الله تعالى على عمل ثوابا فهو منجزه له ومن أوعده على عمل عقابا فهو فيه
بالخيار
وحدثني إسحاق بن إبراهيم الشهيدي قال نا قريش بن أنس قال سمعت عمرو
بن عبيد يقول يؤتى بي يوم القيامة فأقام بين يدي الله عز وجل فيقول لي لم
قلت إن القاتل في النار
فأقول أنت قلته يا رب ثم تلا هذه الآية ومن يقتل مؤمنا متعمدا
فجزاؤه جهنم خالدا فيها
فقلت له وما في البيت أصغر مني أرأيت إن قال لك فإني قد قلت إن
الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء من أين علمت أني لا
أشاء أن أغفر له
قال فما استطاع أن يرد علي شيئا
قالوا حديث يبطله القرآن
قال ورويتم أن رجلا قال لبنيه إذا أنا مت فأحرقوني ثم اذروني في اليم لعلي
أضل الله ففعلوا ذلك فجمعه الله ثم قال له ما حملك أو كلاما هذا معناه
على ما فعلت قال مخافتك يا رب فغفر الله له
قالوا وهذا كافر والله لا يغفر للكافر وبذلك جاء القرآن
قال أبو محمد ونحن نقول في أضل الله إنه بمعنى أفوت الله تقول ضللت
كذا وكذا وأضللته ومنه قول الله تعالى في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى
أي لا يفوت ربي
111

وهذا رجل مؤمن بالله مقر به خائف له إلا أنه جهل صفة من صفاته فظن
أنه إذ أحرق وذري الريح أنه يفوت الله تعالى فغفر الله تعالى له بمعرفته تأنيبه
وبمخافته من عذابه جهله بهذه الصفة من صفاته
وقد يغلط في صفات الله تعالى قوم من المسلمين ولا يحكم عليهم بالنار بل
ترجأ أمورهم إلى من هو أعلم بهم وبنياتهم
قالوا حديث يبطله القرآن
قالوا رويتم أنه قال عليه السلام من ترك قتل الحيات مخافة الثأر فقد كفر
والله تعالى يقول إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم
وهذا إن كان ذنبا فهو من الصغائر فكيف نكفره وأنتم تروون من زنى
ومن سرق إذا قال لا إله إلا الله فهو مؤمن وهو في الجنة ثم تكفرون بترك قتل
الحيات وفي هذا اختلاف وتناقض
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس ههنا اختلاف ولا تناقض
ولم يكن القصد لترك قتل الحيات ولا أن ذلك يكون عظيما من الذنوب يخرج به
الرجل إلى الكفر
وإنما العظيم أن يتركها خشية الثأر وكان هذا أمرا من أمور الجاهلية
وكانوا يقولون إن الجن تطلب بثأر الجان إذا قتل
فربما قتلت قاتله وربما أصابته بخبل وربما قتلت ولده
112

فأعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذا باطل وقال من صدق بهذا فقد كفر
يريد بما أتينا به من بطلانه
والكفر عندنا صنفان
أحدهما الكفر بالأصل كالكفر بالله تعالى أو برسله أو ملائكته أو كتبه أو
بالبعث
وهذا هو الأصل الذي من كفر بشئ منه فقد خرج عن جملة المسلمين فإن
مات لم يرثه ذو قرابته المسلم ولم يصل عليه
والآخر الكفر بفرع من الفروع على تأويل الكفر بالقدر والانكار للمسح على
الخفين وترك إيقاع الطلاق الثلاث وأشباه هذا
وهذا لا يخرج به عن الاسلام ولا يقال لمن كفر بشئ منه كافر كما أنه يقال
للمنافق آمن ولا يقال مؤمن
قالوا حديث يكذبه النظر والعيان والخبر والقرآن
قالوا رويتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال منبري هذا على ترعة من ترع الجنة وما بين
قبري ومنبري روضة من رياض الجنة
والله عز وجل يقول عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى
ويقول تعالى وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين
ورويتم في غير حديث أن الجنة في السماء السابعة
قالوا وهذا اختلاف وتناقض
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس ههنا اختلاف ولا تناقض فإنه لم يرد بقوله
ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة أن ذلك بعينه روضة وإنما أراد أن
113

الصلاة في هذا الموضع والذكر فيه يؤدي إلى الجنة فهو قطعة منها ومنبري هذا
هو على ترعة من ترع الجنة والترعة باب المشرعة إلى الماء أي إنما هو باب إلى
الجنة
قال أبو محمد وحدثنا أبو الخطاب قال نا بشر بن المفضل قال نا عمر بن عبد
الله مولى غفرة عن أيوب بن خالد الأنصاري قال قال جابر بن عبد الله
الأنصاري خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ارتعوا في
رياض الجنة قالوا وأين رياض الجنة يا رسول الله قال مجالس الذكر
وهذا كما قال في حديث آخر عائد المريض على مخارف الجنة والمخارف
الطرق واحدها مخرفة
ومنه قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه تركتكم على مثل مخرفة النعم أي
طريقها
وإنما أراد أن عيادة المريض تؤدي إلى الجنة فكأنه طريق إليها وكذلك مجالس
الذكر تؤدي إلى رياض الجنة فهي منها وكذلك قول عمار بن يأس الجنة تحت
البارقة يعني السيوف والجنة تحت ظلال السيوف
يريد أن الجهاد يؤدي إلى الجنة فكأن الجنة تحته
وقد يذهب قوم إلى أن ما بين قبره ومنبره حذاء روضة من رياض الجنة وأن
منبره حذاء ترعة من ترع الجنة
فجعلهما من الجنة إذا كانا في الأرض حذاء ذينك في السماء
والأول أحسن عندي والله أعلم
قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الأئمة من قريش ورويتم أن أبا بكر الصديق
احتج بذلك على الأنصار يوم سقيفة بني ساعدة
114

ثم رويتم عن عمر رضي الله عنه أنه قال عند موته لو كان سالم مولى أبي حذيفة
حيا ما تخالجني فيه الشك
وسالم ليس مولى لأبي حذيفة وإنما هو مولى لامرأة من الأنصار وهي أعتقته
وربته ونسب إلى أبي حذيفة بحلف
فجعلتم الإمامة تصلح لموالي الأنصار ولو كان مولى لقريش لأمكن أن
تحتجوا بأن مولى القوم منهم ومن أنفسهم
قالوا وهذا تناقض واختلاف
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس في هذا القول تناقض وإنما كان يكون
تناقضا لو قال عمر لو كان سالم حيا ما تخالجني الشك في توليته عليكم أو في
تأميره
فأما قوله ما تخالجني الشك فيه فقد يحتمل غير ما ذهبوا إليه
وكيف يظن بعمر رضي الله عنه أنه يقف في خيار المهاجرين والذين شهد لهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة فلا يختار منهم ويجعل الامر شورى بينهم ولا يتخالجه الشك
في توليته سالما عليهم رضي الله عنه
هذا خطأ من القول وضعف في الرأي
ولكن عمر لما جعل الامر شورى بين هؤلاء ارتاد للصلاة من يقوم بها أن يختاروا
الامام منهم وأجلهم في الاختيار ثلاثا وأمر عبد الله ابنه أن يأمرهم بذلك فذكر
سالما فقال لو كان حيا ما تخالجني فيه الشك
وذكر الجارود العبدي فقال لو كان أعيمش بني عبد القيس حيا لقدمته
115

وقوله لقدمته دليل على أنه أراد في سالم مثل ذلك من تقديمه للصلاة بهم
ثم أجمع على صهيب الرومي فأمره بالصلاة إلى أن يتفق القوم على اختيار
رجل منهم
قالوا حديث يكذبه النظر والخبر
قالوا رويتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الشمس تطلع من بين قرني شيطان فلا
تصلوا لطلوعها
قالوا فجعلتم للشيطان قرونا تبلغ السماء وجعلتم الشمس التي هي مثل الأرض
مرات تجري بين قرنيه
وأنتم مع هذا تزعمون أن الشيطان يجري من بن آدم مجرى الدم فهو في
هذه الحال ألطف من كل شئ وهو في تلك الحال أعظم من كل شئ
وجعلتم علة ترك الصلاة في وقت طلوع الشمس طلوعها من بين قرنيه
وما على المصلي لله تعالى إذا جرت الشمس بين قرني الشيطان
وما في هذا مما يمنع من الصلاة لله تعالى
قال أبو محمد ونحن نقول إن إنكارهم لهذا الحديث إن كان من أجل أنهم لا
يؤمنون بخلق الشياطين والجن وبأن الله تعالى جعل في تركيبها أن تتحول محال إلى
حال فتتمثل مرة في صورة شيخ ومرة في صورة شاب ومرة في مثال نار ومرة في مثال كلب ومرة في
مثال جان ومرة تصل إلى السماء ومرة تصل إلى القلب ومرة
تجري مجرى الدم
فهؤلاء مكذبون بالقرآن وبما تواطأت عليه الاخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
والأنبياء المتقدمين وكتب الله تعالى المتقدمة والأمم الخالية لان الله تعالى قد أخبرنا
في كتابه أن الشياطين يقعدون من السماء مقاعد للسمع وأنهم يرمون بالنجوم
116

وأخبرنا الله تعالى عن الشيطان أنه قال ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم
فليبتكن آذان الانعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله وهو لا يظهر لنا
فكيف يأمرنا بهذه الأشياء لولا أنه يصل إلى القلوب بالسلطان الذي جعله الله
تعالى له فيوسوس بذلك ويزين ويمني كما قال الله عز وجل
وكما روي في الحديث أنه رئي مرة في صورة شيخ نجدي ومرة في صورة
ضفدع ومرة في صورة جان
وقد سمى الله تعالى الجن رجالا كما سمانا رجالا فقال تعالى
وأنه كان رجال من الانس يعوذون برجال من الجن
وقال في الحور العين لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان
فدل ذلك على أن الجن تطمث كما يطمث ث الانس والطمث الوطئ بالتدمية
قال أبو محمد ونحن لم نرد في هذا الكتاب أن نرد على الزنادقة ولا المكذبين بآيات
الله عز وجل ورسله
وإنما كان غرضنا الرد على من ادعى على الحديث التناقض والاختلاف
واستحالة المعنى من المنتسبين إلى المسلمين
وإن كان إنكاره لهذا الحديث لأنه رآه لا يقوم في وهمه ولأنه لا معنى لترك
الصلاة من أجل أن الشمس تطلع بين قرني شيطان فنحن نريه المعنى حتى يتصور
في وهمه له بإذن الله تعالى ويحسن عنده ولا يمتنع على نظره
117

وإنما أمرنا بترك الصلاة مع طلوع الشمس لأنه الوقت الذي كانت فيه عبدة
الشمس يسجدون فيه للشمس
وقد درج كثير من الأمم السالفة على عبادة الشمس والسجود لها
فمن ذلك ما قص الله تبارك وتعالى علينا في نبأ ملكة سبأ أن الهدهد قال
لسليمان عليه السلام إني وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين
لهم الشيطان أعمالهم
وكان في العرب قوم يعبدون الشمس ويعظمونها ويسمونها الآلهة قال
الأعشى
فلم أذكر الرهب حتى انفتلت * قبيل الالاهة منها قريبا
يعني الشمس
وكان بعض القراء يقرأ أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك
وآلهتك يريد ويذرك والشمس التي تعبد
فكره لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي في الوقت الذي يسجد فيه عبدة الشمس
للشمس
وأعلمنا أن الشياطين حينئذ أو أن إبليس في ذلك الوقت في جهة مطلع
الشمس فهم يسجدون له بسجودهم للشمس ويؤمونه
ولم يرد بالقرن ما تصوروا في أنفسهم من قرون البقر وقرون الشاء
وإنما القرن ههنا حرف الرأس وللرأس قرنان أي حرفان وجانبان
ولا أرى القرن الذي يطلع في ذلك الموضع سمي قرنا إلا باسم موضعه كما
تسمي العر ب الشئ باسم ما كان له موضعا أو سببا
فيقولون رفع عقيرته يريدون صوته لان رجلا قطعت رجله فرفعها
واستغاث من أجلها فقيل لمن رفع صوته رفع عقيرته
118

ومثل هذا كثير فكلام العرب
وكذلك قوله في المشرق من ههنا يطلع قرن الشيطان
لا يريد به ما يسبق إلى وهم السامع من قرون البقر وإنما يريد من ههنا يطلع
رأس الشيطان
وكان وهب بن منبه يقول في ذي القرنين إنه رجل من أهل الإسكندرية
واسمه الاسكندروس وأنه كان حلم حلما رأى فيه أنه دنا من الشمس حتى أخذ
بقرنيها في شرقها وغربها
فقص رؤياه على قومه فسموه ذي القرنين
وأراد بأخذه بقرنيها أنه أخذ بجانبيها
والقرون أيضا خصل الشعر كل خصلة قرن ولذلك قيل للروم ذات القرون
يراد أنهم يطولون الشعور
فأراد صلى الله عليه وسلم أن يعلمنا أن الشيطان في وقت طلوع الشمس وعند سجود عبدتها
لها مائل مع الشمس فالشمس تجري من قبل رأسه فأمرنا أن لا نصلي في هذا
الوقت الذي يكفر فيه هؤلاء ويصلون للشمس وللشيطان
وهذا أمر مغيب عنا لا نعلم منه إلا ما علمنا
والذي أخبرتك به شئ يحتمله التأويل ويباعده عن الشناعة والله أعلم
ولم يأت أهل التكذيب بهذا وأشباهه إلا لردهم الغائب عنهم إلى الحاضر
عندهم وحملهم الأشياء على ما يعرفون من أنفسهم ومن الحيوان والموات واستعمالهم
حكم ذوي الجثث في الروحانيين
فإذا سمعوا بملائكة على كواهلها العرش وأقدامها في الأرض السفلى
استوحشوا من ذلك لمخالفته ما شاهدوا وقالوا كيف تخرق جثث هؤلاء
السماوات وما بينهما والأرضين وما فوقها من غير أن نرى لذلك أثرا
119

وكيف يكون خلق له هذه العظمة وكيف تكون أرواحا ولها كواهل وأقدار
وإذا سمعوا بأن جبريل عليه السلام مرة أتى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة أعرابي ومرة
في صورة دحية الكلبي ومرة في صورة شاب ومرة سد بجناحيه ما بين المشرق
والمغرب
قالوا كيف يتحول من صورة إلى صورة
وكيف يكون مرة في غاية الصغر ومرة في غاية الكبر من غير أن يزاد في
جسمه ولا جثته وأعراضه
لأنهم لا يعاينون إلا ما كان كذلك
وإذا سمعوا بأن الشيطان يصل إلى قلب بن آدم حتى يوسوس له ويخنس
قالوا من أين يدخل وهل يجتمع روحان في جسم وكيف يجري مجرى الدم
قال أبو محمد ولو اعتبروا ما غاب عنهم بما رأوه من قدرة الله عز وجل لعلموا
أن الذي قدر على أن يفجر مياه الأرض كلها إلى البحر منذ خلق الله الأرض وما
عليها فهي تفضي إليه من غير أن يزيد فيه أو ينقص منه
ولو جعل لنهر منها مثل دجلة أو الفرات أو النيل سبيل إلى ما على وجه
الأرض من المدائن والقرى والعمارات والخراب شهرا لم يبق على ظهرها شئ إلا
هلك هو الذي قدر على ما أنكروا وأن الذي قدر أن يحرك هذه الأرض على
عظمها وكثافتها وبحارها وأطوادها وأنهارها حتى تتصدع الجبال وحتى تغيض
المياه وحتى ينتقل جبل من مكان إلى مكان هو الذي لطف لما قدر
وأن الذي وسع إنسان العين مع صغره وضعفه لادراك نصف الفلك على عظمه
حتى رأى النجم من المشرق ورقيبه من المغرب وما بينهما وحتى خرق من الجو
مسيرة خمسمائة عام هو الذي خلق ملكا ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة خمسمائة عام
120

فهل ما أنكر إلا بمنزلة ما عرف
وهل ما رأى إلا بمنزلة ما لم يره فتعالى الله أحسن الخالقين
قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم عن النبي صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه
يهودانه وينصرانه
ثم رويتم الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه
وأن النطفة إذا انعقدت بعث الله عز وجل إليها ملكا يكتب أجله ورزقه وشقي
أو سعيد
وأنه مسح على ظهر آدم فقبض قبضة
فقال إلى الجنة برحمتي وقبض أخرى
فقال إلى النار ولا أبالي
قالوا وهذا تناقض واختلاف فرق بين المسلمين واحتج به أهل القدر وأهل
الاثبات
رحمه الله قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس ههنا تناقض ولا اختلاف بنعمة الله تعالى
ولو عرفت المعتزلة ما معناه ما فارقت المثبتة إن لم يكن الاختلاف إلا لهذا
الحديث
والفطرة ههنا الابتداء والانشاء ومنه قوله تعالى الحمد لله فاطر
السماوات والأرض أي مبتدئهما
وكذلك قوله فطرة الله التي فطر الناس عليها يريد جبلته التي جبل الناس
عليها
وأراد بقوله كل مولود يولد على الفطرة أخذ الميثاق الذي أخذه عليهم في
أصلاب آبائهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى
121

فلست واجدا أحدا إلا وهو مقر بأن له صانعا ومدبرا وإن سماه بغير اسمه أو
عبد شيئا دونه ليقربه منه عند نفسه أو وصفه بغير صفته أو أضاف إليه متعالي
عنه علوا كبيرا
قال الله تعالى ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله
فكل مولود في العالم على ذلك العهد والاقرار وهي الحنيفية التي وقعت في أول
الخلق وجرت في فطر العقول
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تبارك وتعالى إني خلقت عبادي جميعا حنفاء
فاجتالتهم الشياطين عن دينهم ثم يهود اليهود أبناءهم ويمجس المجوس أبناءهم أي
يعلمونهم ذلك
وليس الاقرار الأول مما يقع به حكم أو عليه ثواب
ألا ترى أن الطفل من أطفال المشركين ما كان بين أبويه فهو محكوم عليه
بدينهما لا يصلى عليه إن مات
ثم يخرج عن كنفهما إلى مالك من المسلمين فيحكم عليه بدين مالكه ويصلى
عليه إن مات
ومن وراء ذلك علم الله تعالى فيه
وفرق ما بين أهل القدر وأهل الاثبات في هذا الحديث
أن الفطرة عند أهل القدر الاسلام فتناقض عندهم الحديثان
والفطرة عند أهل الاثبات العهد الذي أخذه عليهم حين فطروا
فاتفق الحديثان ولم يختلفا وصار لكل واحد منهما موضع
قالوا حديث يفسد أوله آخره
صلى الله عليه وسلم قالوا رويتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا قام أحدكم من منامه فلا يغمس يده
122

في الاناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده
قالوا وهذا حديث جائز لولا قوله فإنه لا يدري أين باتت يده
وما منا أحد إلا وقد درى أن يده باتت حيث بات بدنه وحيث باتت رجله
وأذنه وأنفه وسائر أعضائه وأشد الأمور أن يكون مس بها فرجه في نومه ولو أن
رجلا مس فرجه في يقظته لما نقض ذلك طهارته
فكيف بأن يمسه وهو لا يعلم والله لا يؤاخذ الناس بما لا يعلمون فإن النائم قد
يهجر في نومه فيطلق ويكفر ويفتري ويحتلم على امرأة جاره وهو عند نفسه
في نومه زان ثم لا يكون بشئ من ذلك مؤاخذا في أحكام الدنيا ولا في أحكام
الآخرة
قال أبو محمد ونحن نقول إن هذا النظار علم شيئا وغابت عنه أشياء
أما علم أن كثيرا من أهل الفقه قد ذهبوا إلى أن الوضوء يجب من مس الفرج في
المنام واليقظة بهذا الحديث وبالحديث الآخر من مس فرجه فليتوضأ
وإن كنا نحن لا نذهب إلى ذلك ونرى أن الوضوء الذي أمر به من مس فرجه
غسل اليد لان الفروج مخارج الحدث والنجاسات
وكذلك الوضوء عندنا مما مست النار إنما هو غسل اليد من الزهم والأطبخة
والشواء وقد بينا ذلك في غير موضع وأتينا بالدلائل عليه
فإذا كان الوضوء من مس الفرج هو غسل اليدين تبين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر
المستيقظ من منامه أن يغسل يده قبل أن يدخلها الاناء لأنه لا يدري أين باتت يده
يقول لعله في منامه مس بها فرجه أو دبره وليس يؤمن أن يصيب يده قاطر
123

بول أو بقية مني إن كان جامع قبل المنام فإذا أدخلها في الاناء قبل أن يغسلها
أنجس الماء وأفسده
وخص النائم بهذا لان النائم قد تقع يده على هذه المواضع وعلى دبره وهو
لا يشعر
فأما اليقظان فإنه إذا لمس شيئا من هذه المواضع فأصاب يده منه أذى علم
به ولم يذهب عليه فغسلها قبل أن يدخلها في الاناء أو يأكل أو يصافح
قالوا حديث يفسد أوله آخره
قالوا رويتم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في أعطان الإبل لأنها خلقت من
الشياطين
ونهيه عن الصلاة في أعطان الإبل لا ينكر وهو جائز في التعبد فلما وصلتم ذلك
بأنها خلقت من الشياطين علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن الإبل خلقت من الإبل كما أن
البقر خلقت من البقر والخيل من الخيل والأسد من الأسد والذباب من الذباب
قال أبو محمد ونحن نقول إن النبي صلى الله عليه وسلم وغير النبي يعلم أن البعير تلده الناقة
وأنه لا يجوز أن تكون شيطانة تلد جملا ولا أن ناقة تلد شيطانا
وإنما أعلمنا أنها في أصل الخلقة خلقت من جنس خلقت منه الشياطين
ويدلك على ذلك قوله في حديث آخر إنها خلقت من أعنان الشياطين يريد
من جوانبها ونواحيها كما يقال بلغ فلان أعنان السماء أي نواحيها وجوانبها
ولو كانت من نسلها لقال فإنها خلقت من نسلها أو بطونها أو أصلابها وأما
يشبه هذا
124

ولم تزل العرب تنسب جنسا من الإبل إلى الحوش فتقول ناقة
حوشية وإبل حوشية وهي أنفر الإبل وأصعبها
ويزعمون أن للجن نعما ببلاد الحوش وأنها ضربت في نعم الناس فنتجت
هذه الحوشية قال رؤبة
جرت رحانا من بلاد الحوش
وقد يجوز على هذا المذهب أن تكون في الأصل من نتاج نعم الجن لا من
الجن أنفسها ولذلك قال من أعنان الشياطين
أي من نواحيها
وهذا شئ لا ينكره إلا من أنكر الجن أنفسها والشياطين ولم يؤمن إلا بما رأته
عينه وأدركته حواسه وهو من عقد قوم من الزنادقة والفلاسفة يقال هم الدهرية
وليس من عقد المسلمين
قالوا حديث يفسد بعضه بعضا
قالوا رويتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت
بقتلها ولكن اقتلوا منها كل أسود بهيم
وقال الأسود شيطان
قالوا فكأنه إنما قتله لأنه أسود أو لأنه شيطان مع عفوه عن جماعة الكلاب
لأنها أمة وليس في كونها أمة علة تمنع من القتل ولا توجبه
125

قالوا ثم رويتم أنه عليه السلام أمر بقتل الكلاب حتى لم يبق بالمدينة كلب
فكيف قتلها وهي أمة أولا منعه ذلك من قتلها
قالوا وقد صارت العلة التي بها عفا عنها هي العلة التي قتلها لها
قال أبو محمد ونحن نقول إن كل جنس خلقه الله تعالى من الحيوان أمة
كالكلاب والأسد والبقر والغنم والنمل والجراد وما أشبه هذا كما أن الناس
أمة
وكذلك الجن أمة يقول الله تعالى وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير
بجناحيه إلا أمم أمثالكم يريد أنها مثلنا في طلب الغذاء والعشاء وابتغاء
الرزق وتوقي المهالك
وكذلك الجن قد خاطبهم الله تعالى كما خاطبنا إذ يقول يا معشر الجن والإنس
ألم يأتكم رسل منكم
ولو أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب على كل حال لأفنى أمة وقطع أثرها
وفي الكلاب منافع للناس في حراسة منازلهم وحفظ نعمهم وحرثهم مع
الارتفاق بصيدها فإن كثيرا من الاعراب ونازلة القفر لا غذاء لهم ولا معاش إلا بها
والله تعالى يقول فكلوا مما أمسكن عليكم وفي ذلك دليل على أنه تعالى
خلقها لمنافعنا
وقد كان أبو عبيدة يذكر أن رجلين سافرا ومع أحدهما كلب له فوقع عليهما
اللصوص فقاتل أحدهما حتى غلب وأخذ فدفن وترك رأسه بارزا وجاءت الغربان
وسباع الطير فحامت حوله تريد أن تنهشه وتقلع عينيه ورأي ذلك كلب كان معه
126

فلم يزل ينبش التراب عنه حتى استخرجه ومن قبل ذلك قد فر صاحبه وأسلمه
قال ففي ذلك يقول الشاعر
يعرد عنه جاره ورفيقه * وينبش عنه كلبه وهو ضاربه
وليس لشئ من الحيوان مثل محاماته على أهله وذبه عنهم مع الإساءة إليه والطرد
والضرب
والاخبار عن الكلاب في هذا كثيرة صحاح ونكره الإطالة بذكرها
وليس تخلو الكلاب من أن تكون أمة من أمم السباع أو تكون أمة من الجن كما
قال بن عباس الكلاب أمة من الجن وهي ضعفة الجن فإذا غشيتكم عند
طعامكم فألقوا لها فإن لها أنفسا يعني أن لها عيونا تصيب بها
والنفس العين يقال أصابت فلانا نفس أي عين وقال أيضا الجان مسيخ
الجن كما مسخت القردة من بني إسرائيل ولا يبعد أيضا أن تكون الكلاب
كذلك
وهذه الأمور لا تدرك بالنظر والقياس والعقول وإنما ينتهى فيها إلى ما قاله
الرسول صلى الله عليه وسلم أو ما قاله من سمع منه وشاهده
فإنهم لا يقضون على مثله إلا بسماع منه أو سماع ممن سمعه أو بخبر صادق من خبر
الكتب المتقدمة وليس هو من أمور الفرائض والسنن
وليس علينا وكف ولا نقص من أن تكون الكلاب من السباع أو الجن أو
الممسوخ
127

فإن كانت من السباع فإنما أمر بقتل الأسود منها وقال هو شيطان لان
الأسود البهيم منها أضرها وأعقرها والكلب إليه أسرع منه إلى جمعها وهو مع
هذا أقلها نفعا وأسوؤها حراسة وأبعدها من الصيد وأكثرها نعاسا
وقال هو شيطان يريد أنه أخبثها كما يقال فلان شيطان وما هو إلا شيطان
مارد وما هو إلا أسد عاد وما هو إلا ذئب عاد يراد أنه شبيه بذلك
وإن كانت الكلاب من الجن أو كانت ممسوخا من الجن فإنما أراد أن الأسود
منها شيطانها فاقتلوه لضره والشيطان هو مارد الجن والجن هم الضعفة
والجن أضعف من الجن
وأما قتله كلاب المدينة فليس فيه نقض لقوله لولا أن الكلاب أمة من الأمم
لأمرت بقتلها لان المدينة في وقته صلى الله عليه وسلم مهبط وحي الله تعالى مع ملائكته
والملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب ولا صورة روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
حدثني محمد بن خالد بن خداش قال حدثني مسلم بن قتيبة عن يونس بن أبي
إسحاق عن مجاهد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال قال لي جبريل عليه السلام
لم يمنعني من الدخول عليك البارحة إلا أنه كان على با ب بيتك ستر فيه تصاوير
وكان في بيتك كلب فمر به فليخرج وكان الكلب جروا للحسن والحسين تحت
نضد لهم
وهذا دليل على أنها كما تكره الكلاب في البيوت تكره أيضا في المصر فأمر
النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها أو بالتخفيف منها فيما قرب منها وأمسك عن سائرها مما بعد من
مهبط الملائكة ومنزل الوحي
قال أبو محمد النضد السرير لان الثياب تنضدد فوقه
128

قالوا حديث يفسد أوله آخره صلى الله عليه وسلم
قالوا رويتم أنه قال خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الغراب والحدأة
والكلب والحية والفأرة
قال فلو قال اقتلوا هذه الخمسة وخمسة معها لجاز ذلك في التعبد
فأما أن تقتل لأنها فواسق فهذا لا يجوز لان الفسق والهدى لا يجوز على شئ
من هذه الأشياء
والهوام والسباع والطير غير الشياطين وغير الجن والإنس الذين يكون منهم
الفسق والهداية
قال أبو محمد ونحن نقول إن المعتقد أن الهوام والسباع والطير لا يجوز عليها
عصيان ولا طاعة مخالف لكتاب الله عز وجل وأنبيائه ورسله وكتب الله المتقدمة
لان الله تعالى قد أخبرنا عن نبيه سليمان عليه السلام أنه تفقد الطير فقال مالي لا
أرى الهدهد أم كان من الغائبين لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني
بسلطان مبين أي بعذر بين وحجة في غيبته وتخلفه
ولا يجوز أن يعذبه إلا على ذنب ومعصية والذنوب والمعاصي تسمى فسوقا وما
جاز أن يسمى عاصيا جاز أن يسمى فاسقا
ثم حكى الله تعالى عن الهدهد بعد أن اعتذر إلى سليمان فقال أحطت بما لم
تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل
شئ ولها عرش عظيم وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزيه
لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ألا يسجدوا لله الذي
يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون
129

وهذا لو كان من أقاويل الحكماء بل لو كان من كلام الأنبياء لكان كلاما
حسنا وعظة بليغة وحجة بينة فكيف لا يجوز على هذا مطيع وعاص وفاسق
ومهتد
وقد حكى الله تعالى أيضا عن النمل ما حكاه في هذه السورة فقال وورث
سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير فجعلها تنطق كما ينطق
الناس
وقال حتى أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل الآية
فجعلها تنطق كما ينطق الناس
وقال وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم
وقال يا جبال أوبي معه والطير أي سبحي
قال أبو محمد وقرأت في التوراة أن نوحا صلى الله عليه وسلم لما كان بعد أربعين يوما
فتح كوة الفلك التي صنع
ثم أرسل الغراب فخرج ولم يرجع حتى يبس الماء على وجه الأرض
وأرسل الحمامة مرة بعد مرة فرجعت حين أمست وفي منقارها ورقة زيتون فعلم
أن الماء قد قل عن وجه الأرض
فدعا الله تعالى لها بالطوق في عنقها والخضاب في رجليها
قال أبو محمد وقرأت أيضا في التوراة أن الله عز وجل قال لآدم حين
خلقه كل ما شئت من شجر الفردوس وتأكل من شجرة علم الخير والشر فإنك
يوم تأكل منها تموت يريد أنك تتحول إلى حال من يموت
130

وكانت الحية أعزم دواب البر فقالت للمرأة إنكما لا تموتان أن أكلتما منها
ولكن أعينكما تنفتح وتكونان كالالاهة تعلمان الخير والشر
فأخذت المرأة من ثمرتها فأكلت وأطعمت بعلها فانفتحت أبصارهما وعلما أنهما
عريانان فوصلا من ورق التين واصطنعاه إزارا ثم سمعا صوت الله تعالى في الجنة
حين تورك النهار فاختبأ آدم وامرأته في شجر الجنة فدعاهما
فقال آدم سمعت صوتك في الفردوس ورأيتني عريانا فاختبأت منك
فقال ومن أراك أنك عريان لقد أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها
فقال إن المرأة أطعمتني
وقالت المرأة إن الحية أطغتني
فقال الله عز وجل للحية من أجل فعلك هذا فأنت ملعونة وعلى بطنك
تمشين وتأكلين التراب وسأغري بينك وبين المرأة وولدها فيكون يطأ رأسك
وتكونين أنت تلدغينه بعقبه
وقال للمرأة وأما أنت فأكثر أوجاعك وإحبالك وتلدين الأولاد بالألم وتردين
إلى بعلك حتى يكون مسلطا عليك
وقال لآدم صلى الله عليه وسلم ملعونة الأرض من اجلك وتنبت الحاج والشوك وتأكل منها
بالشقاء ورشح جبينك حتى تعود إلى التراب من أجل أنك تراب
قال أبو محمد أفما ترى أن الحية أطغت واختدعت فلعنها الله تعالى وغير
خلقها وجعل التراب رزقها
أفما يجوز أن تسمى هذه فاسقة وعاصية وكذلك الغراب بمعصيته نوحا صلى الله عليه وسلم
131

ويرى أهل النظر أنه إنما سمي غراب البين لأنه بان عن نوح عليه السلام
فذهب ولذلك تشاءموا به وزجروا في نعيقه بالفراق والاغتراب واستخرجوا من
اسمه الغربة وقالوا قذفته نوى غربة وهذا شاء مغرب وهذه عنقاء مغرب
أي جائية من بعد يعنون العقاب
وكل هذا مشتق من اسم الغراب لمفارقته نوحا صلى الله عليه وسلم ومباينته
قال أبو محمد ومن الدليل أيضا حديث محمد بن سنان العوفي عن عبد الله بن
الحارث بن أبزى المكي عن أمه رائطة بنت مسلم عن أبيها أنه قال شهدت مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا فقال لي ما اسمك قلت غراب
فقال أنت مسلم كره أن يكون اسمه غرابا لفسق الغراب ومعصيته فسلماه
مسلما ذهب إلى ضد معنى الغراب لان الغراب عاص والمسلم مطيع مأخوذ من
الاستسلام وهو الانقياد والطاعة
وكان عليه السلام يحب الاسم الحسن ويكره الاسم القبيح على ما قدمنا من القول
في هذا الكتاب
ولو أنا تركنا هذا المذهب الذي عليه المسلمون في تجويز الطاعة والمعصية على
الحية والغراب والفأرة إلى ما يجوز في كلام العرب وفي اللغة لجاز لنا أن نسمي كل
واحد من هذه فاسقا لان الفسق الخروج على الناس والايذاء عليهم
يقال فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها وكل خارج عن شئ فهو فاسق
قال الله تعالى إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أي خرج عن أمر
ربه وطاعته
فالحية تخرج على الناس من جحرها فتعبث بطعام الناس وتنهش وتكرع في
شرابهم وتمج فيه ريقها
132

والفأرة أيضا تخرج من جحرها فتفسد أطعمتهم وتقرض ثيابهم وتضرم
بالذبالة على أهل البيت بيتهم ولا شئ من حشرات الأرض أعظم منها ضررا
والغراب يقع على داء البعير الدبر فينقره حتى يقتله ولذلك تسميه العرب
بن داية وينزع عن الخير ويختلس أطعمة الناس
والكلب يعقر ويجرح وكذلك السباع العادية
وكل هذه قد يجوز أن تسمى فواسق لخروجها على الناس واعتراضها بالمضار
عليهم
فأين كانوا عن هذا المخرج إذ قبح عندهم أن ينسبوا شيئا من هذه إلى
طاعة أو معصية
قالوا حديث يكذبه النظر
قالوا رويتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي ودرعه مرهونة عند يهودي بأصواع من
شعير
فيا سبحان الله أما كان في المسلمين مواس ولا مؤثر ولا مقرض
وقد أكثر الله عز وجل الخير وفتح عليهم البلاد وجبوا ما بين أقصى اليمن إلى
أقصى البحرين وأقصى عمان ثم بياض نجد والحجاز وهذا مع أموال الصحابة
كعثمان وعبد الرحمن وفلان وفلان فأين كانوا
قالوا وهذا كذب وقائله أراد مدحة النبي صلى الله عليه وسلم بالزهد وبالفقر وليس هكذا
تمدح الرسل
وكيف يجوع من يجهز الجيوش ومن يسوق المئين من البدن وله مما أفاء الله عليه
مثل فدك وغيرها
133

وذكر مالك بن أنس عن أبي الزبير عن جابر قال نحر النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية
سبعين بدنة كل بدنة عن سبعة واستاق في عمر القضاء مكان عمرته التي صده
المشركون ستين بدنة
وكيف يجوع من وقف سبع حوائط متجاورة بالعالية
ثم لا يجد مع هذا من يقرضه أصواعا من شعير حتى يرهن درعه.
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس في هذا ما يستعظم بل ما ينكر لان النبي
صلى الله عليه وسلم كان يؤثر على نفسه بأمواله ويفرقها على المحقين من أصحابه وعلى الفقراء
والمساكين وفي النوائب التي تنوب المسلمين ولا يرد سائلا ولا يعطي إذا وجد إلا
كثيرا ولا يضع درهما فوق درهم وقالت له أم سلمة يا رسول الله أراك ساهم
الوجه أمن علة
فقال لا ولكنها السبعة الدنانير التي أتينا بها أمس نسيتها في خصم الفراس
فبت ولم أقسمها
وكانت عائشة رضي الله عنها تقول في بكائها عليه بأبي من لم ينم على الوثير
ولم يشبع من خبز الشعير
وليس يخلو قولها هذا من أحد أمرين
إما أن يكون يؤثر بما عنده حتى لا يبقى عنده ما يشبعه وهذا بعض صفاته
134

والله عز وجل يقول ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة أو يكون
لا يبلغ الشبع من الشعير ولا من غيره لأنه كان يكره إفراط الشبع وقد كره ذلك
كثير من الصالحين والمجتهدين وهو صلى الله عليه وسلم أولاهم بالفضل وأحراهم بالسبق
وحدثنا أبو الخطاب قال أنا أبو عاصم عبيد الله بن عبد الله قال أنا المحبر
بن هارون عن أبي يزيد المدني عن عبد الرحمن بن المرقع قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى لم يخلق وعاء ملئ شرا من بطن فإن كان لا بد فاجعلوا ثلثا
للطعام وثلثا للشراب وثلثا للريج
وقد قال مالك بن دينار إنما مثل المؤمن مثل المأبورة
يريد أكلت في العلف إبرة فهي لا تأكل إذا أكلت في العلف إلا قليلا ولا
ينجع فيها العلف
وقد قيل لابن عمر في الجوارشن شئ
فقال وما أصنع به وأنا لم أشبع منذ كذا
يريد أنه كان يدع الطعام وبه إليه الحاجة
وقال الحسن لرجل دخل عليه وهو يأكل كل
فقال قد أكلت فما أشتهي شيئا
قال يا سبحان الله وهل يأكل أحد حتى لا يشتهي شيئا
وقال مالك بن دينار أو غيره لوددت أن رزقي في حصاة أمصها ولقد
استحييت من الله تعالى لكثرة دخولي إلى الخلاء
135

وقال بكر بن عبد الله لم أجد طعم العيش حتى استبدلت الخمص بالكظة
وحتى لم ألبس من ثيابي ما يستخدمني وحتى لم آكل إلا ما لا أغسل يدي منه
فلما بكته صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها فقالت بأبي من يشبع من خبز الشعير
وقد كان يأكل خبز الحنطة وخبز الشعير غير أنه لا يبلغ الشبع منه إما للحال
الأولى أو للحال الأخرى
فذكرت أخس الطعامين وأرادت أنه إذا كان لا يشبع منه على خساسته
فغيره أحرى أن لا يشبع منه
وقد قال عمر رضي الله عنه لو شئت لدعوت بصلاء وصناب وكراكر
وأسنمة
وقال لو شئت لأمرت بفتية فذبحت وأمرت بدقيق فنخل وأمرت بزبيب
فجعل في سعن حتى يصير كدم الغزال هذا وأشباهه ولكني سمعت الله تعالى
يقول لقوم أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون
عذاب الهون
136

وقد يأتي على البخيل الموسى تارات لا يحضره فيها مال وله الضيعة والأثاث
والديون فيحتاج إلى أن يقترض وإلى أن يرهن
فكيف بمن لا يبقى لدرهم ولا يفضل عن مواساته ونوائبه زاد
وكيف يعلم المسلمون وأهل اليسار من صحابته بحاجته إلى الطعام وهو لا
يعلمهم ولا ينشط في وقته ذلك إليهم
وقد نجد هذا بعينه في أنفسنا وأشباهنا من الناس
ونرى الرجل يحتاج إلى الشئ فلا ينشط فيه إلى ولده ولا إلى أهله ولا إلى
جاره ويبيع العلق ويستقرض من الغريب والبعيد
وإنما رهن درعه عند يهودي لان اليهود في عصره كانوا يبيعون الطعام ولم
يكن المسلمون يبيعونه لنهيه عن الاحتكار
فما الذي أنكروه من هذا حتى أظهروا التعجب منه وحتى رمى بعض المرقة
الأعمش بالكذب من أجله
قالوا حديث يبطله القياس
قالوا رويتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر عمرو بن العاص أن يقضي بين قوم وأن عمرا
قال له أقضي يا رسول الله وأنت حاضر
فقال له اقض بينهم فإن أصبت فلك عشر حسنات وإن أخطأت فلك
حسنة واحدة
قالوا وهذا الحكم لا يجوز على الله تبارك وتعالى
137

وذلك أن الاجتهاد الذي يوافق الصواب من عمرو هو الاجتهاد الذي يوافق
الخطأ وليس عليه أن يصيب إنما عليه أن يجتهد وليس يناله في موافقة الصواب من
العمل والقصد والعناية واحتمال المشقة إلا ما يناله مثله في موافقته الخطأ
فبأي معنى يعطى في أحد الاجتهادين حسنة وفي الآخر عشرا
قال أبو محمد ونحن نقول إن الاجتهاد مع موافقة الصواب ليس كالاجتهاد مع
موافقة الخطأ
ولو كان هذا على ما أسس كان اليهود والنصارى والمجوس والمسلمون سواء
وأهل الآراء المختلفة سواء إذا اجتهدوا وآراءهم وأنفسهم فأدتهم عقولهم أنهم
على الحق وأن مخالفيهم على الخطأ
قال أبو محمد ولكنا نقول إن من وراء اجتهاد كل امرء توفيق الله تعالى
وفي هذا كلام يطول وليس هذا موضعه
ولو أن رجلا وجه رسولين في بغاء ضالة له وأمرهما بالاجتهاد والجد في طلبها
ووعدهم الثواب إن وجداها فمضى أحدها خمسين فرسخا في طلبها وأتعب نفسه
وأسهر ليله ورجع خائبا ومضى الاخر فرسخا وادعا ورجع واجدا لم يك
أحقهما بأجزل العطية وأعلى الحباء الواجد وإن كان الآخر قد احتمل من
المشقة والعناء أكثر مما احتمله الآخر فكيف بهما إذا استويا
وقد يستوي الناس في الاعمال ويفضل الله عز وجل من يشاء فإنه لا دين لاحد
عليه ولا حق له قبله
138

قال أبو محمد وقرأت في الإنجيل أن المسيح عليه السلام قال للحواريين مثل
ملكوت السماء مثل رجل خرج غلسا يستأجر عمالا لكرمه فشرط لكل عامل
دينارا في اليوم ثم أرسلهم إلى كرمه
ثم خرج في ثلاث ساعات فرأى قوما بطالين في السوق فقال اذهبوا أنتم أيضا
إلى الكرم فإني سوف أعطيكم الذي ينبغي لكم فانطلقوا
ثم خرج في ست ساعات وفي تسع ساعات وفي إحدى عشر ساعة ففعل مثل
ذلك
فلما أمسى قال لأمينه أعط العمال أجورهم ثم ابدأ بآخرهم حتى تبلغ أولهم
فأعطاهم فسوى بينهم في العطية
فلما أخذوا حقوقهم سخطوا على رب الكرم وقالوا إنما عمل هؤلاء ساعة
واحدة فجعلتهم أسوتنا في الأجرة
فقال إني لم أظلمكم أعطيتكم الشرط وجدت لهؤلاء والمال مالي أصنع به
ما أشاء
كذلك يكون الأولون الآخرين والآخرون الأولين
قالوا حديثان مختلفان
قالوا رويتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من هم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة واحدة
ومن عملها كتبت له عشرا
ثم رويتم نية المرء خير من عمله
139

فصارت النية في الحديث الأول دون
العمل وصارت في الحديث الثاني خيرا من العمل وهذا تناقض واختلاف
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس ههنا تناقض بحمد الله تعالى
والهام بالحسنة إذا لم يعملها خلاف العامل لها لان الهام لم يعمل والعامل لم
يعمل حتى هم ثم عمل
وأما قوله صلى الله عليه وسلم نية المرء خير من عمله فإن الله تعالى تخلد المؤمن في الجنة بنيته
لا بعمله
ولو جوزي بعمله لم يستوجب التخليد لأنه عمل في سنين معدودة والجزاء
عليها يقع بمثلها وبأضعافها
وإنما يخلده الله تعالى بنيته لأنه كان ناويا أن يطيع الله تعالى أبدا لو أبقاه ابدا
فلما اخترمه دون نيته جزاه عليها
وكذلك الكافر نيته شر من عمله لأنه كان ناويا أن يقيم على الكفر لو أبقاه
أبدا فلما اخترمه الله تعالى دون نيته جزاه عليها
قالوا حديث يكذبه الكتاب والنظر
قالوا رويتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على قليب بدر فقال يا عتبة بن
ربيعة ويا شيبة بن ربيعة ويا فلان ويا فلان هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا فقد
وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فقيل له في ذلك فقال والذي نفسي بيده إنهم
ليسمعون كما تسمعون وإن الله تعالى يقول وما أنت بمسمع من في
القبور ويقول إنك لا تسمع الموتى
140

ثم رويتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب اللهم رب الأجساد البالية
والأرواح الفانية
وأن بن عباس سئل عن الأرواح أين تكون إذا فارقت الأجساد وأين تذهب
الأجساد إذا بليت
فقال أين يذهب السراج إذا طفئ وأين يذهب البصر إذا عمي وأين يذهب
لحم الصحيح إذا مرض
قال لا أين قال فكذلك الأرواح إذا فارقت الأجساد
وهذا لا يشبه قوله صلى الله عليه وسلم إنهم ليسمعون كما تسمعون وما تروونه في عذاب
القبر
قال أبو محمد ونحن نقول إنه إذا جاز في المعقول وصح في النظر وبالكتاب
والخبر أن الله تعالى يبعث من في القبور بعد أن تكون الأجساد قد بليت والعظام قد
رمت جاز أيضا في المعقول وصح في النظر وبالكتاب والخبر أنهم يعذبون بعد
الممات في البرزخ
فأما الكتاب فإن الله تعالى يقول النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم
الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب
فهم يعرضون بعد مماتهم على النار غدوا وعشيا قبل يوم القيامة ويوم القيامة
يدخلون أشد العذاب
والله عز وجل يقول ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء
عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا
بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون
141

وهذا شئ خص الله تعالى به شهداء بدر رحمة الله عليهم وقد أخرجوا عند
حفر القناة رطابا يتثنون حتى قال قائل لا ننكر بعد هذا شيئا
وحدثني محمد بن عبيد عن بن عيينة عن أبي الزبير عن جابر قال لما أراد
معاوية أن يجري العين التي حفرها قال سفين تسمى عين أبي زياد بالمدينة نادوا
بالمدينة من كان له قتيل فليأت قتيله
قال جابر فأتيناهم فأخرجناهم رطابا يتثنون وأصابت المسحاة رجل رجل
منهم فانفطرت دما
فقال أبو سعيد الخدري لا ينكر بعدها منكر أبدا
ورأت عائشة بنت طلحة أباها في المنام فقال لها يا بنية حوليني من هذا
المكان فقد أضر بي الندى
فأخرجته بعد ثلاثين سنة أو نحوها فحولته من ذلك النز وهو طري لم يتغير
منه شئ فدفن بالهجريين بالبصرة
وتولى إخراجه عبد الرحمن بن سلامة التيمي
وهذه أشياء مشهورة كأنها عيان فإذا جاز أن يكون هؤلاء الشهداء أحياء عند
ربهم يرزقون وجاز أن يكونوا فرحين ومستبشرين فلم لا يجوز أن يكون أعداؤهم
الذين حاربوهم وقتلوهم أحياء في النار يعذبون
وإذا جاز أن يكونوا أحياء فلم لا يجوز أن يكونوا يسمعون وقد أخبرنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم وقوله الحق
142

وأما الخبر فقول النبي صلى الله عليه وسلم في جعفر بن أبي طالب إنه يطير مع الملائكة في
الجنة وتسميته له ذا الجناحين وكثرة الاخبار عنه في منكر ونكير وفي عذاب
القبر وفي دعائه أعوذ بك من فتنة المحيا والممات وأعوذ بك من عذاب القبر ومن
فتنة المسيح الدجال
وهذه الأخبار صحاح لا يجوز على مثلها التواطؤ
وإن لم يصح مثلها لم يصح شئ من أمور ديننا
ولا شئ أصح من أخبار نبينا صلى الله عليه وسلم
وأما قوله تعالى إنك لا تسمع الموتى وما أنت بمسمع من في
القبور فليس من هذا في شئ لأنه أراد بالموتى ههنا الجهال وهم أيضا أهل
القبور
يريد إنك لا تقدر على إفهام من جعله الله تعالى جاهلا ولا تقدر على إسماع من
جعله الله تعالى أصم عن الهدى
وفي صدر هذه الآيات دليل على ما نقول لأنه قال لا يستوي الأعمى
والبصير يريد بالأعمى الكافر وبالبصير المؤمن
ولا الظلمات ولا النور يعني بالظلمات الكفر وبالنور الايمان
ولا الظل ولا الحرور يعني بالظل الجنة وبالحرور النار
وما يستوي الاحياء ولا الأموات يعني بالأحياء العقلاء وبالأموات
الجهلاء
ثم قال إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور يعني أنك
143

لا تسمع الجهلاء الذين كأنهم موتى في القبور ومثل هذا كثير في القرآن
ولم يرد بالموتى الذين ضربهم مثلا للجهلاء شهدا بدر فيحتج بهم علينا
أولئك عنده أحياء كما قال الله عز وجل
وأما قوله اللهم رب الأجساد البالية والأرواح الفانية فإنه قاله على ما يعرف
الناس وعلى ما شاهدوا لأنهم يفقدون الشئ فيكون مبطلا عندهم وفانيا وهو عند
الله معلوم وغير فان
ألا ترى أن الرجل السمين الضخم العظيم الصحيح يعتل يوما أو يومين فيذهب
من جسمه نصفه أو ثلثاه ولا نعلم أين ذهب ذلك فهو عندنا فان مبطل والله تعالى
يعلم أين ذهب وفي أي شئ صار
وأن الاناء العظيم من الزجاج يكون فيه الماء أياما فيذهب بالحر بعضه وإن
تطاولت به المدة ذهب كله والزجاج لا يجوز عليه النشف ولا الرشح ولا ندري
أين ذهب ما فيه والله تعالى يعلمه
وأنا نطفئ بالنفخة نار المصباح فتذهب وتكون عندنا فانية ولا ندري أين
ذهبت والله تعالى يعلم كيف ذهبت وأين حلت
كذلك الأرواح عندنا فانية وهي بقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حواصل طير
خضر وفي عليين وفي سجين وتشام في الهواء وأشباه ذلك
قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليؤمكم خياركم فإنهم وفدكم إلى الجنة
144

وصلاتكم قربانكم ولا تقدموا بين أيديكم إلا خياركم
ثم رويتم صلوا خلف كل بر وفاجر ولا بد من إمام بر أو فاجر
وهذا تناقض واختلاف
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس ههنا بنعمة الله اختلاف
وللحديث الأول موضع وللثاني موضع
وإذا وضع كل واحد منها موضعه زال الاختلاف
أما قوله ليؤمكم خياركم فإنهم وفدكم إلى الجنة ولا تقدموا بين أيديكم إلا
خياركم فإنه أراد أئمة المساجد في القبائل والمحال وأن لا تقدموا منهم إلا الخير
التقي القارئ ولا تقدموا الفاجر الأمي
وأما قوله صلوا خلف كل بر وفاجر ولا بد من إمام بر أو فاجر فإنه يريد
السلطان الذي يجمع الناس ويؤمهم في الجمع والأعياد يريد لا تخرجوا عليه ولا
تشقوا العصا ولا تفارقوا جماعة المسلمين وإن كان سلطانكم فاجرا فإنه لا بد
من إمام بر أو فاجر ولا يصلح الناس إلا على ذلك ولا ينتظم أمرهم
وهو مثل قول الحسن لابد للناس من وزعة يريد سلطانا يزعهم عن التظالم
والباطل وسفك الدماء وأخذ الأموال بغير حق
قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من قتل دون ماله فهو شهيد
145

ثم رويتم كن حلس بيتك فإن دخل عليك فادخل مخدعك فإن دخل عليك
فقل بؤ بإثمي وإثمك وكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل فإن الله تعالى
ضرب لكم يا بني آدم مثلا فخذوا خيرهما ودعوا شرهما
قالوا وهذا خلاف الحديث الأول
قال أبو محمد ونحن نقول إن لكل حديث موضعا غير موضع الآخر فإذا
وضعا بموضعيهما زال الاختلاف
لأنه أراد بقوله من قتل دون ماله فهو شهيد من قاتل اللصوص عن ماله حتى
يقتل في منزله وفي أسفاره
ولذلك قيل في حديث آخر إذا رأيت سوادا في منزلك فلا تكن أجبن
السوادين
يريد تقدم عليه بالسلاح فهذا موضع الحديث الأول
وأراد بقوله كن حلس بيتك فإن دخل عليك فادخل مخدعك فإن دخل
عليك فقل بؤ بإثمي وإثمك وكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل أي
افعل هذا في زمن الفتنة واختلاف الناس على التأويل وتنازع سلطانين كل واحد
منهما يطلب الامر ويدعيه لنفسه بحجة
يقول فكن حلس بيتك في هذا الوقت ولا تسل سيفا ولا تقتل أحدا فإنك لا
تدري من المحق من الفريقين ومن المبطل واجعل دمك دون دينك
وفي مثل هذا الوقت قال القاتل والمقتول في النار
فأما قوله تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت
إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله فإنه أمر بذلك
الجميع منا بعد الاصلاح وبعد البغي وأمر الواحد والاثنين والثلاثة إذا لم يجتمع
146

ملؤنا على الاصلاح بينهما أن نلزم منازلنا ونقي أدياننا بأموالنا وأنفسنا
قالوا حديث يكذبه النظر والخبر
قالوا رويتم أن الأعمش روى عن عمرو بن مرة عن أبي البختري أن عليا
رضي الله عنه قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن لأقضي بينهم فقلت له إنه لا
علم لي بالقضاء فضرب بيده صدري وقال اللهم اهد قلبه وثبت لسانه فما
شككت في قضاء حتى جلست مجلسي هذا
ثم رويتم أنه اختلف قوله في أمها ت الأولاد وقال بشئ ثم رجع عنه
وقضى في الجد بقضايا مختلفة مع قوله من أحب أن يتقحم جراثيم جهنم فليقل في الجد
وندم على إحراق المرتدين بعد الذي بلغه من فتيا بن عباس
وجلد رجلا في الخمر ثمانين فمات فواده وقال وديته لان هذا شئ
جعلناه بيننا
وهو كان أشار على عمر رضي الله عنه بجلد ثمانين في الخمر
ورأي الرجم على مولاة حاطب فلما سمع قول عثمان رضي الله عنه إنما يجب
الحد على من يعرفه وهذه تعرفه وكانت أعجمية تابعه
ونازعه زيد بن ثابت في المكاتب فأفحمه
وقال في أمر الحكمين
لقد عثرت عثرة لا أجتبر * سوف أكيس بعدها وأستمر
وأجمع الرأي الشتيت المنتشر
147

قال وذكر داود بن أبي هند عن الشعبي أن عليا رضي الله عنه رجع عن قوله
في الحرام إنها ثلاث وقطع اليد من أصول الأصابع وحك أصابع الصبيان في
السرق وقبل شهادة الصبيان بعضهم على بعض والله عز وجل يقول وأشهدوا
ذوي عدل منكم وقال ممن ترضون من الشهداء
وجهر في قنوت الغداة بأسماء رجال وأخذ نصف دية الرجل من أولياء المقتول
وأخذ نصف دية العين من المقتص من الأعور
وخلف رجلا يصلي العيد بالضعفاء في المسجد الأعظم إذا خرج الامام إلى
المصلى
وقالوا هذه الأشياء خلاف على جميع الفقهاء والقضاة وجميع الامراء من
نظرائه
ولا يشبه هذا قوله ما شككت في قضاء حتى جلست مجلسي هذا
ولا يشبه دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له أن يثبت الله لسانه وقلبه بل يشبه دعاءه عليه بضد
ما قال الله تبارك وتعالى
قال أبو محمد ونحن نقول إن النبي صلى الله عليه وسلم حين دعا له بتثبيت اللسان والقلب لم
يرد أن لا يزل أبدا ولا يسهو ولا ينسى ولا يغلط في حال من الأحوال لأن هذه
الصفات لا تكون لمخلوق وإنما هي من صفات الخالق سبحانه عز وجل
والنبي صلى الله عليه وسلم أعلم بالله تعالى وبما يجوز عليه وبما لا يجوز من أن يدعو لاحد
بأن لا يموت وقد قضى الله تعالى الموت على خلقه وبأن لا يهرم إذا عمره وقد
جعل الهرم في تركيبه وفي أصل جبلته
148

وكيف يدعو له بهذه الأمور فينالها بدعائه والنبي صلى الله عليه وسلم نفسه ربما سها وكان
ينسى الشئ من القرآن حتى قال الله تعالى سنقرئك فلا تنسى وقبل الفدية في
يوم بدر فنزل لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم
وقال لو نزل عذاب ما نجا إلا عمر وذلك لأنه أشار عليه بالقتل وترك أخذ
الفداء
وأراد يوم الأحزاب أن يتقي المشركين ببعض ثمار المدينة حتى قال له بعض
الأنصار ما قال
وكاد يجيب المشركين إلى شئ مما أرادوه يتألفهم بذلك فأنزل الله عز وجل
ولولا أن ثبتناك لقد كدت لتركن إليهم شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة
وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا
وهكذا الأنبياء المتقدمون عليهم السلام في السهو والنسيان
وتعداد هذا يطول ويكثر وليس به خفاء على من علمه
وإنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم له بأن يكون الصواب أغلب عليه والقول بالحق في القضاء
أكثر منه
ومثل هذا دعاؤه لابن عباس بأن يعلمه الله التأويل ويفقهه في الدين
وكان بن عباس مع دعائه لا يعرف كل القرآن وقال لا أعرف حنانا
ولا الأواه ولا الغسلين ولا الرقيم
وله أقاويل في الفقه منبوذة مرغوب عنها كقوله في المتعة وقوله في الصرف
وقوله في الجمع بين الأختين الأمتين ومع هذا فإنه ليس كل ما دعا به الأنبياء صلى الله عليهم وسلم وسألوه أجيبوا إليه
149

فقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يدعو لأبي طالب ويستغفر له حتى نزلت عليه ما كان
للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين
لهم أنهم أصحاب الجحيم
وكان يقول اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون فأنزل الله تعالى عليه إنك لا
تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء
وبعد فإن أقاويل علي رضي الله عنه هذه كلها ليست منبوذة يقضى عليه
بالخطأ فيها
ومن أغلظها بيع أمهات الأولاد وقد كن يبعن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي
خلافة أبي بكر رضي الله عنه في الدين وعلى حال الضرورة
حتى نهى عن ذلك عمر رضي الله عنه من أجل أولادهن ولئلا تلحقهم السبة
ويرجع عليهم الشين بأسباب كثيرة من الأمهات جهة إذا ملكن
والناس مجمعون على أن الأمة لا تخرج عن ملك سيدها إلا ببيع أو هبة أو عتق
وأم الولد لم ينلها شئ من ذلك وأحكام الإماء جارية عليها إلى أن يموت سيدها
فبأي معنى يزيل الولد عنها البيع وإنما هو شئ استحسنه عمر رضي الله عنه
بما أراد النظر للأولاد
ولسنا نذهب إلى هذا ولا نعتقده ولكنا أردنا به التنبيه على حجة علي رضي
الله عنه فيه وحجة من تقدمه في إطلاق ذلك وترك النهي عنه
فأين هؤلاء عن قضايا علي رضي الله عنه اللطيفة التي تغمض وتدق وتعجز عن
150

أمثالها أجلة الصحابة كقضائه في العين إذا لطمت أو بخصت أو أصابها مصيب
بما يضعف معه البصر بالخطوط على البيضة
وكقضائه في اللسان إذا قطع فنقص من الكلام شئ فحكم فيه بالحروف
المقطعة
وكقضائه في القارصة والقامصة والواقصة وهن ثلاث جوار كن يلعبن فركبت
إحداهن صاحبتها فقرصتها الثالثة فقمصت المركوبة فوقعت الراكبة
فوقصت عنقها
فقضى علي رضي الله عنه بالدية أثلاثا وأسقط حصة الراكبة لأنها أعانت على
نفسها
وكقضائه فرجلين اختصما إليه في بن امرأة وقعا عليها في طهر واحد فادعياه
جميعا أنه ابنهما جميعا يرثهما ويرثان وهو للباقي منهما
وقد روى حماد عن إبراهيم عن عمر أنه قضى بمثل ذلك موافقا له عليه
وكان عمر رضي الله عنه ينزل القرآن بحكمه ويفرق الشيطان من حسه
والسكينة تنطق على لسانه
151

وذكرته عائشة رضي الله عنها فقالت كان والله أحوذيا
نسيج وحده قد أعد للأمور أقرانها تريد حسن السياسة
وذكر المغيرة فقال كان والله أفضل من أن يخدع وأعقل من أن يخدع
وقال فيه الأحنف بن قيس والله لهو بما يكون أعلم منا بما كان
يريد أنه يصيب بظنه فلا يخطئ
وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لكل أمة محدثين أو مروعين فإن يكن في
هذه الأمة أحد منه فهو عمر
وقال لسارية بن زنيم الدؤلي يا سارية الجبل الجبل
وسارية في وجه العدو فوقع في نفس سارية ما قال فاستند إلى الجبل فقاتل
العدو من جانب واحد
وعمر مع هذا يقول في قضية نبهه علي رضي الله عنه عليها لولا قول علي
لهلك عمر
ويقول أعوذ بالله من كل معضلة ليس لها أبو حسن
حدثنا الزيادي قال أنا عبد الوارث عن يونس عن الحسن أن عمر رضي الله
عنه أتي بامرأة وقد ولدت لستة أشهر فهم بها
فقال له علي قد يكون هذا قال الله تعالى وحمله وفصاله ثلاثون شهرا
وقال تعالى والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين
152

قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في المسافر وحده شيطان وفي الاثنين
شيطانان وفي الثلاثة ركب
ثم رويتم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبرد البريد وحده وأنه خرج وأبو بكر مهاجرين
قالوا كيف يكون الواحد شيطانا إذا سافر ولا يخلو أن يكون أراد بمنزلة
الشيطان أو يتحول شيطانا وهذا لا يجوز
قال أبو محمد ونحن نقول إنه أراد بقوله المسافر وحده شيطان معنى الوحشة
بالانفراد وبالوحدة لان الشيطان يطمع فيه كما يطمع فيه اللصوص ويطمع فيه
السبع فإذا خرج وحده فقد تعرض للشيطان وتعرض لكل عاد عليه من السباع أو
اللصوص كأنه شيطان
ثم قال والاثنان شيطانان لان كل واح منهما متعرض لذلك فهما شيطانان
فإذا تناموا ثلاثة زالت الوحشة ووقع الانس وانقطع طمع كل طامع فيهم
وكلام العرب إيماء وإشارة وتشبيه
يقولون فلان طويل النجاد والنجاد حمائل السيف وهو لم يتقلد سيفا قط وإنما
يريدون أنه طويل القامة فيدلون بطول نجاده على طوله لان النجاد القصير لا
يصلح على الرجل الطويل
ويقولون فلان عظيم الرماد ولا رماد في بيته ولا على بابه
وإنما يريدون أنه كثير الضيافة فناره وارية أبدا وإذا كثر وقود النار كثر
الرماد
والله تعالى يقول في كتابه ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله
الرسل وأمه صديقة كنا يأكلان الطعام
153

فدلنا بأكلهما الطعام على معنى الحدث لان من أكل الطعام فلا بد له من أن
يحدث
وقال تعالى حكاية عن المشركين في النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا ما لهذا الرسول يأكل
الطعام ويمشي في الأسواق
فكنى بمشيه في الأسواق عن الحوائج التي تعرض للناس فيدخلون لها الأسواق
كأنهم رأوا أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعثه الله تعالى أغناه عن الناس وعن الحوائج إليهم
وأما قولهم كان يبرد البريد وحده والبريد الرسول يبعث به من بلد إلى بلد
ويكتب معه وهو الفيج فإنه كان يبعث به من بلد إلى بلد وحده ويأمره أن ينضم
في الطريق إلى الرفيق يكون معهم ويأنس بهم
وهذا شئ يفعله الناس في كل زمان
ومن أراد أن يكتب كتابا وينفذه مع رسول إلى بلد شاسع فإنه لا يجب عليه أن
يكتري ثلاثة لقول النبي صلى الله عليه وسلم الواحد شيطان والاثنان شيطانان والثلاثة ركب
وإنما يجب هذا على الرسول إذا هو خرج أيلتمس الصحبة ويتوقى
الوحدة
وأما خروج النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر حين هاجر فإنهما كانا في ذلك الوقت
خائفين على أنفسهما من المشركين فلم يجدا بدا من الخروج
154

ولعلهما أملا أن يوافقا ركبا كما أن الرجل يخرج من منزله وحده على تأميل
وجدان الصحابة في الطريق
فلما أمكنهما أن يستزيدا في العدد استأجر أبو بكر رضي الله عنه هاديا من بني
الديل واستصحب عامر بن فهيرة مولاه فدخلوا المدينة وهم أربعة أو خمسة
قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده
ويسرق الحبل فتقطع يده
ورويتم أنه قال لا قطع إلا في ربع دينار
هذا والحديث الأول حجة للخوارج لأنها تقول إن القطع على السارق في
القليل والكثير
قال أبو محمد ونحن نقول إن الله عز وجل لما أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم والسارق
والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده على ظاهر ما أنزل الله تعالى عليه في
ذلك الوقت
ثم أعلمه الله تعالى أن القطع لا يكون إلا في ربع دينار فما فوقه
ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم من حكم الله تعالى إلا ما علمه الله عز وجل
ولا كان الله تبارك وتعالى يعرفه ذلك جملة بل ينزله شيئا بعد شئ
ويأتيه جبريل عليه السلام بالسنن كما كان يأتيه بالقرآن ولذلك قال أوتيت
الكتاب ومثله معه يعني من السنن
155

ألا ترى أنه في صدر الاسلام قطع أيدي العرنيين وأرجلهم وسمل
أعينهم وتركهم بالحرة حتى ماتوا ثم نهى بعد ذلك عن المثلة لان الحدود في ذلك
الوقت لم تكن نزلت عليه فاقتص منهم بأشد القصاص لغدرهم وسوء مكافأتهم
بالاحسان إليهم وقتلهم رعاءه وسوقهم الإبل ثم نزلت الحدود ونهى عن المثلة
ومن الفقهاء من يذهب إلى أن البيضة في هذا الحديث بيضة الحديث التي تغفر
الرأس في الحرب وأن الحبل من حبال السفن
قال وكل واحد من هذين يبلغ دنانير كثيرة
وهذا التأويل لا يجوز عند من يعرف اللغة ومخارج كلام العرب لان هذا ليس
موضع تكثير لما يسرق السارق فيصر ف إلى بيضة تساوي دنانير وحبل عظيم لا
يقدر على حمله السارق
ولا من عادة العرب والعجم أن يقولوا قبح الله فلانا فإنه عرض نفسه للضرب
في عقد جوهر وتعرض لعقوبة الغلول في جراب مسك
وإنما العادة في مثل هذا أن يقال لعنه الله تعرض لقطع اليد في حبل رث أو
كبة شعر أو إداوة خلق وكلما كان من هذا أحقر كان أبلغ
قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تعوذ بالله من الفقر وقال أسألك غناي وغنى
مولاي
ثم رويتم أنه قال اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة
المساكين
156

وقال الفقر بالمؤمن أحسن من العذار الحسن على خد الفرس
وقالوا وهذا تناقض واختلاف
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس ههنا اختلاف بحمد الله تعالى
وقد غلطوا في التأويل وظلموا في المعارضة لأنهم عارضوا الفقر بالمسكنة وهما
مختلفان ولو كان قال اللهم أحيني فقيرا وأمتني فقيرا واحشرني في زمرة الفقراء
كان ذلك تناقضا كما ذكروا
ومعنى المسكنة في قوله احشرني مسكينا التواضع والاخبات
كأنه سأل الله تعالى أن لا يجعله من الجبارين والمتكبرين ولا يحشره في زمرتهم
والمسكنة حرف مأخود من السكون يقال تمسكن الرجل إذا لان وتواضع
وخشع وخضع
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم للمصلي تبأس وتمسكن وتقنع رأسك
يريد تخشع وتواضع لله عز وجل
والعرب تقول بي المسكين نزل الامر يريدون معنى الفقر إنما يريدون
معنى الذلة والضعف
وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لقيلة يا مسكينة لم يرد يا فقيرة وإنما أراد معنى
الضعف
ومن الدليل على ما أقول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان سأل الله عز وجل
المسكنة التي هي الفقر لكان الله تعالى قد منعه ما سأله لأنه قبضه غنيا موسرا بما
أفاء الله عز وجل عليه وإن كان لم يضع درهما على درهم
157

ولا يقال لمن ترك مثل بساتينه بالمدينة وأمواله ومثل فدك إنه مات فقيرا والله
عز وجل يقول ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا
فأغنى
والعائل الفقير كان له عيال أو لم يكن والمعيل ذو العيال كان له مال أو لم
يكن
فحال النبي صلى الله عليه وسلم عند مبعثه وحاله عند مماته يدلان على ما قال الله عز
وجل لأنه بعث فقيرا وقبض غنيا
ويدل على أن المسكنة التي كان يسألها ربه عز وجل ليست بالفقر
وأما قوله إن الفقر بالمؤمن أحسن من العذار الحسن على خد الفرس فإن الفقر
مصيبة من مصائب الدنيا عظيمة وآفة من آفاتها أليمة فمن صبر على
المصيبة لله تعالى ورضي بقسمه زانه الله تعالى بذلك في الدنيا وأعظم له الثواب
في الآخرة
وإنما مثل الفقر والغنى مثل للسقم والعافية
فمن ابتلاه الله تعالى بالسقم فصبر كان كمن ابتلي بالفقر فصبر
وليس ما جعل الله تعالى في ذلك من الثواب بمانعنا من أن نسأل الله العافية
ونرغب إليه في السلامة
وقد ذهب قوم يفضلون الفقر على الغنى إلى أنه كان يتعوذ بالله تعالى من فقر
النفس
واحتجوا بقول الناس فلان فقير النفس وإن كان حسن الحال وغني النفس
وإن كان سئ الحال وهذا غلط
158

ولا نعلم أن أحدا من الأنبياء ولا من صحابتهم ولا العباد ولا المجتهدين كان
يقول اللهم أفقرني ولا أزمني ولا بذلك استعبدهم الله عز وجل بل
استعبدهم بأن يقولوا اللهم ارزقني اللهم عافني
وكانوا يقولون اللهم لا تبلنا إلا بالتي هي أحسن
يريدون لا تختبرنا إلا بالخير ولا تختبرنا بالشر لان الله تعالى يختبر عباده بهما
ليعلم كيف شكرهم وصبرهم
وقال ونبلوكم بالشر والخير فتنة أي اختبارا
وكان مطرف يقول لان أعافي فأشكر أحب إلي من أن أبتلى فأصبر
قال أبو محمد وقد ذكرت هذا في كتاب غريب الحديث بأكثر من هذا
الشرح ولم أجد بدا من إيداعه في هذا الكتاب أيضا ليكون جامعا للفن الذي
قصدنا له
قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق
السارق حين يسرق وهو مؤمن
ثم رويتم أنه قال من قال لا إله إلا الله فهو في الجنة وإن زنى وإن سرق
وفي هذا تناقض واختلاف رحمه الله قال
أبو محمد ونحن نقول إنه ليس ههنا بنعمة الله تناقض ولا اختلاف لان
الايمان في اللغة التصديق
159

يقول الله تعالى وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين أي بمصدق لنا
ومنه قول الناس ما أو من بشئ مما تقول أي ما أصدق به
والموصوفون بالايمان ثلاثة نفر
رجل صدق بلسانه دون قلبه كالمنافقين فيقول قد آمن كما قال الله تعالى
عن المنافقين ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا وقال إن الذين آمنوا والذين هادوا
والصابئين والنصارى
ثم قال من آمن منهم بالله واليوم الآخر لأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر
ولو كان أراد بالذين آمنوا ههنا المسلمون لم يقل من آمن منهم بالله
واليوم الآخر لأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر
وإنما أراد المنافقين الذين آمنوا بألسنتهم والذين هادوا والنصارى
ولا نقول له مؤمن كما أنا لا نقول للمنافقين مؤمنون وإن قلنا قد آمنوا لان
إيمانهم لم يكن عن عقد ولا نية
وكذلك نقول لعاصي الأنبياء صلى الله عليهم وسلم عصى وغوى ولا نقول
عاص ولا غاو لان ذنبه لم يكن عن إرهاص ولا عقد كذنوب أعداء الله عز وجل
ورجل صدق بلسانه وقلبه متدنس بالذنوب وتقصير في الطاعات من غير
إصرار فنقول قد آمن وهو مؤمن ما تناهى عن الكبائر فإذا لابسها لم يكن في
حال الملابسة مؤمنا يريد مستكمل الايمان
ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم قال لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن يريد في وقته
ذلك
لأنه قيل ذلك الوقت غير مصر فهو مؤمن وبعد ذلك الوقت غير مصر فهو مؤمن
تائب
160

ومما يزيد في وضوح هذا الحديث الآخر إذا زنى الزاني سلب الايمان فإن
تاب ألبسه
ورجل صدق بلسانه وقلبه وأدى الفرائض واجتنب الكبائر فذلك المؤمن حقا
المستكمل شرائط الايمان
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤمن من لم يأمن جاره بوائقه يزيد ليس
بمستكمل الايمان
وقال لم يؤمن من لم يأمن المسلمون من لسانه ويده أي ليس بمستكمل الايمان
وقال لم يؤمن من بات شبعان وبات جاره طاويا أي لم يستكمل الايمان
وهذا شبيه بقوله لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله تعالى عليه
يريد لاكمال وضوء ولا فضيلة وضوء
وكذلك قول عمر رضي الله عنه لا إيمان لمن لم يحج يريد لاكمال إيمان
والناس يقولون فلان لا عقل له يريدون ليس هو مستكمل العقل
ولا دين له أي ليس بمستكمل الدين
وأما قوله صلى الله عليه وسلم من قال لا إله إلا الله فهو في الجنة وإن زنى وإن سرق
فإنه لا يخلو من وجهين
أحدهما أن يكون قاله على العاقبة يريد أن عاقبة أمره إلى الجنة وإن عذب
بالزنا والسرقة
والآخر أن تلحقه رحمة الله تعالى وشفاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فيصير إلى الجنة بشهادة
أن لا إله لا الله
حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد عن أبيه عن جده عن الحسن
أنه قال لا إله إلا الله ثمن الجنة
161

وحدثني محمد بن يحيى القطعي قال أنا عمر بن علي عن موسى بن المسيب الثقفي
قال سمعت سالم بن أبي الجعد يحدث عن المعرور بن سويد عن أبي ذر عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال يقول ربكم بن آدم إنك إن تأتني بقراب الأرض خطيئة بعد أن
لا تشرك بي شيئا جعلت لك قرابها مغفرة ولا أبالي
وحدثني أبو مسعود الدارمي هو من ولد خراش قال حدثني جدي عن أنس
بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرت بين الشفاعة وبين أن يدخل شطر أمتي
الجنة فاخترت الشفاعة لأنها أعم وأكثر لعلكم ترون أن شفاعتي للمتقين لا
ولكنها للمتلطخين بالذنوب
قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم عن حماد عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها أنها
قالت كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصلي فيه
فاستجاز بروايتكم هذه قوم فرك المني من الثوب والصلاة فيه وجعلوه سنة
ثم رويتم عن عمرو بن ميمون بن مهران عن سليمان بن يسار قال سمعت عائشة
رضي الله عنها تقول إنها كانت تغسل أثر المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت
ثم أراه فيه بقعة أو بقعا
فأبى قوم فرك المني بروايتكم هذه ولم يستجيزوا إلا غسله من الثوب إذا أرادوا
الصلاة فيه وهذا تناقض واختلاف
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس ههنا تناقض ولا اختلاف لان عائشة رضي
الله عنها كانت تفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يابسا والفرك لا يقع إلا
على يابس وكان ربما بقي في شعاره حتى ييبس وهو ييبس في مدة يسيرة لا سيما في
الصيف
وكانت تغسله إذا رأته رطبا والرطب لا يجوز أن يفرك ولا بأس على من تركه
إلى أن يجف ثم فركه
162

أخبرني إسحاق بن إبراهيم المعروف بابن راهويه أن السنة مضت بفرك المني
قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أيما إهاب دبغ فقد طهر
وأنه مر بشاة ميتة فقال ألا انتفعوا بإهابها فأخذ قوم من الفقهاء بذلك
وأفتوا به
ثم رويتم أنه قال لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب
فأخذ قوم من الفقهاء بهذا وأفتوا به
وهذا تناقض واختلاف
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس ههنا بحمد الله تناقض ولا اختلاف
لان الاهاب في اللغة الجلد الذي لم يدبغ فإذا دبغ زال عنه هذا الاسم
وفي الحديث أن عمر رضي الله عنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت أهب
عطنة يريد جلود منتنة لم تدبغ
وقالت عائشة رضي الله عنها في أبيها رضي الله عنه قرر الرؤوس على كواهلها
وحقن الدماء في أهبها يعني في الأجساد
فكنت عن الجسد بالإهاب ولو كان الاهاب مدبوغا لم يجز أن تكني به عن
الجسد
وقال النابغة الجعدي يذكر بقرة وحشية أكل الذئب ولدها وهي غائبة عنه ثم
أتته
فلاقت بيانا عند أول معهد * إهابا ومعبوطا من الجوف أحمرا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيما إهاب دبغ فقد طهر
163

ثم مر بشاة ميتة فقال ألا انتفع أهلها بإهابها يريد ألا دبغوه فانتفعوا به
ثم كتب لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب
يريد لا تنتفعوا به وهو إهاب حتى يدبغ
ويدلك على ذلك قوله ولا عصب لان العصب لا يقبل الدباغ فقرنه بالإهاب
قبل أن يدبغ وقد جاء هذا مبينا في الحديث
روى بن عيينة عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن بن عباس أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بشاة لمولاة ميمونة فقال ألا أخذوا إهابها فدبغوه وانتفوا
به
قالوا حديثان متناقضان صلى الله عليه وسلم
قالوا رويتم عن الأشعث عن محمد بن سيرين عن عبد الله بن شقيق عن عائشة
رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلي في شعرنا أو لحفنا
ثم رويتم عن وكيع عن طلحة بن يحيى عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن
عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل وأنا إلى جانبه وأنا
حائض وعلي مرط لي وعليه بعضه
وهذا تناقض واختلاف
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس في هذين الحديثين اختلاف ولا تناقض
لأنه قيل في الحديث الأول كان لا يصلي في شعرنا وهو جمع شعار والشعار
ما ولي الجسد من الثياب ولا يسمى شعارا حتى على الجسد
ويدلك على ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار أنتم لي شعار والناس دثار
يريد أنكم أقرب الناس إلي كالشعار الذي يلي الجسد والناس دثار أي أبعد
منكم كما أن الدثار فوق الشعار
164

والشعار يصيبه المني والعرق والندى إذا كان بالمرء قاطر بول أو بدرت منه
بادرة
فكان لا يصلي في شعر نسائه لما لا يؤمن أن ينالها إذا هو جامع أو إذا
استثقلت المرأة أو إذا حاضت من الدم
وقيل في الحديث الثاني أنه كان يصلي بالليل وأنا إلى جانبه وعلي مرط لي
وعليه بعضه
والمرط لا يكون شعارا كما يكون الإزار شعارا لأنه كساء من صوف وربما
كان من شعر وربما كان من خز وإنما يلقى فوق الإزار
قال أبو محمد ومما يوضح لك هذا حديث حدثنيه عبدة بن عبد الله قال
محمد بن بشر العبدي قال نا زكريا بن أبي زائدة عن مصعب بن شيبة عن صفية
بنت شيبة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات غداة وعليه
مرط مرحل من شعر أسود
والمرحل الموشى ويقال لذلك العمل الترحيل
قال امرؤ القيس وذكر امرأته
فقمت بها أمشي تجر وراءنا على أثرينا ذيل مرط مرحل
ومما يوضح لك أن المرط لم يكن شعارا لعائشة رضي الله عنها أنها قالت كان
يصلي وعليه بعض المرط وعليها بعضه
ولو كان شعارا لانكشفت منه لان الشعار لطيف لا يصلح لان يصلى فيه
وتكون هي مستورة به
قالوا حديث تكذبه حجة العقل والنظر
قالوا رويتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر وجعل سحره في بئر ذي أروان وأن
165

عليا كرم الله وجهه استخرجه وكلما حل منه عقدة وجد النبي
صلى الله عليه وسلم خفة فقام النبي صلى الله عليه وسلم كأنما أنشط من عقال
وهذا لا يجوز على نبي الله صلى الله عليه وسلم لان السحر كفر وعمل من أعمال الشيطان فيما
يذكرون
فكيف يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع حياطة الله تعالى له وتسديده إياه بملائكته
وصونه الوحي عن الشيطان والله تعالى يقول في القرآن لا يأتيه الباطل من بين
يديه ولا من خلفه
وأنتم تزعمون أن الباطل ههنا هو الشيطان
وقال عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه
يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا أي يجعل بين يديه وخلفه رصدا من
الملائكة يحفظونه ويصونون الوحي عن أن يدخل فيه الشيطان ما ليس منه
وذهبوا في السحر إلى أنه حيلة يصرف بها وجه المرء عن أخيه ويفرق بها بين
المرء وزوجه كالتمائم والكذب وقالوا هذه رقى ومنه السم يسقاه الرجل
فيقطعه عن النساء ويغير خلقه وينثر شعره ولحيته
وإلى أن سحرة فرعون خيلوا لموسى صلى الله عليه وسلم ما أروه
قالوا ومثل ذلك أنا نأخذ الزئبق فنفرغه في وعاء كالحية ثم نرسله في موضع
حار فينساب انسياب الحية
166

قالوا ومن الدليل على ذلك قول الله تعالى فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه
من سحرهم أنها تسعى إنما هو تخييل وليس ثم شئ على حقيقته
وقالوا في قول الله تعالى واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر
سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل
هاروت وماروت هو بمعنى النفي
أي لم ينزل ذلك
وقالوا الملكين بكسر اللام
وذكروا عن الحسن أنه كان يقرؤها كذلك ويقول علجان من أهل بابل
قال أبو محمد ونحن نقول إن الذي يذهب إلى هذا مخالف للمسلمين واليهود
والنصارى وجميع أهل الكتب ومخالف للأمم كلها الهند وهي أشدها إيمانا
بالرقى والروم والعرب في الجاهلية وفي الاسلام ومخالف للقرآن معاند له بغير
تأويل لان الله عز وجل قال لرسوله صلى الله عليه وسلم قل أعوذ برب الفلق من شر ما
خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر النفاثات في العقد فأعلمنا أن
السواحر ينفثن في عقد يعقدنها كما يتفل الراقي والمعوذ
وكانت قريش تسمي السحر العضه
ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم العاضهة والمستعضهة
يعني بالعاضهة الساحرة وبالمستعضهة التي تسألها أن تسحر لها وقال الشاعر
أعوذ بربي من النافثات في عقد العاضه المعضه
167

يعني السواحر
وقد روى بن نمير عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها
وهذا طريق مرضي صحيح أنه قال حين سحر جاءني رجلان فجلس أحدهما
عند رأسي والآخر عند رجلي
فقال أحدهما ما وجع الرجل قال مطبوب
فقال من طبه قال لبيد بن الأعصم
قال في أي شئ قال في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر
قال وأين هو قال في بئر ذي أروان
وليس هذا مما يجتر الناس به إلى أنفسهم نفعا ولا يصرفون عنها ضرا ولا
يكسبون به رسول الله صلى الله عليه وسلم ثناء ومدحا ولا حملة هذا الحديث كذا بين ولا
متهمي
ولا معادين لرسول الله صلى الله عليه وسلم
وما ينكر أن يكون لبيد بن الأعصم هذا ليهودي سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد
قتلت اليهود قبله زكريا بن آذن في جوف شجرة قطعته قطعا بالمناشير
وذكر وهب بن منبه أو غيره أنه عليه السلام لما وصل المنشار إلى أضلاعه أن
فأوحى الله تعالى إليه إما أن تكف عن أنينك وإما أن أهلك الأرض ومن
عليها
وقتلت بعده ابنه يحيى بقول بغي واحتيالها في ذلك
وادعت يعني اليهود أنها قتلت المسيح وصلبته
168

ولو لم يقل الله تعالى وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم لم نعلم نحن
أن ذلك شبهه لان اليهود أعداؤه وهم يدعون ذلك والنصارى أولياؤه وهم يقرون
لهم به
وقتلت الأنبياء وطبختهم وعذبتهم أنواع العذاب ولو شاء الله عز وجل
لعصمهم منهم
وقد سم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذراع شاة مشوية سمته يهودية فلم يزل السم
يعاده حتى مات
وقال صلى الله عليه وسلم ما زالت أكلة خيبر تعادني فهذا أوان انقطاع أبهري فجعل
الله تعالى لليهودية عليه السبيل حتى قتلته
ومن قبل ذلك ما جعل الله لهم السبيل على النبيين
والسحر أيسر خطبا من القتل والطبخ والتعذيب
فإن كانوا إنما أنكروا ذلك لان الله تعالى لا يجعل للشيطان على النبي صلى الله عليه وسلم
سبيلا ولا على الأنبياء فقد قرؤوا في كتاب الله تعالى وما أرسلنا من قبلك من
رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته
يريد إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته يعزيه عما ألقاه الشيطان على لسانه
حين قرأ في الصلاة تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن ترتجى
غير أنه لا يقدر أن يزيد فيه أو ينقص منه
أما تسمعه يقول فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته
أي يبطل ما ألقاه الشيطان
169

ثم قال ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض
وكذلك قوله في القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا مخلفه أي
لا يقدر الشيطان أن يزيد فيه أولا ولا آخرا
قال أبو محمد حدثني أبو الخطاب قال نا بشر بن المفضل عن يونس عن
الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن جبريل عليه السلام أتاني فقال إن عفريتا من
الجن يكيدك فإذا أويت إلى فراشك فقل الله لا إله إلا هو الحي القيوم
حتى تختم آية الكرسي
وقد حكى الله تعالى عن أيوب صلى الله عليه وسلم فقال إني مسني الشيطان بنصب
وعذاب
قال أبو محمد وأما قولهم في السحر الذي رآه موسى صلى الله عليه وسلم إنه تخييل إليه
وليس على حقيقته فما ننكر هذا ولا ندفعه وإنا لنعلم أن الخلائق كلها لو
اجتمعوا على خلق بعوضة لما استطاعوا
غير أنا لا ندري أهو بالزئبق الذي ادعوا أنهم جعلوه في سلوخ الحيات حتى
جرت أم بغيره
ولا يعلم هذا إلا من كان ساحرا أو من سمع فيه شيئا من السحرة
وأما قولهم في قول الله تبارك وتعالى واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك
سليمان ثم قال يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين إن تأويله
ولم ينزل على الملكين ببابل فليس هذا بمنكر من تأويلاتهم المستحيلة المنكوسة
170

فإذا كان لم ينزل على الملكين ببابل هاروت وماروت صار الكلام فضلا لا
معنى له
وإنما يجوز بأن يدعى مدع أن السحر أنزل على الملكين ويكون فيما تقدم ذكر
ذلك أو دليل عليه فيقول الله تعالى اتبعوا ذلك ولم ينزل على الملكين كما
ذكروا
ومثال هذا أن يقول مبتدئا علمت هذا الرجل القرآن وما أنزل على موسى
عليه السلام
فلا يتوهم سامع هذا أنك أردت أن القرآن لم ينزل على موسى عليه السلام لأنه
لم يتقدمه قول أحد أنه أنزل على موسى عليه السلام وإنما يتوهم السامع أنك علمته
القرآن والتوراة
وتأويل هذا عندنا مبين بمعرفة الخبر المروي فيه
وجملته على ما ذكر بن عباس أن سليمان صلى الله عليه وسلم لما عوقب وخلفه الشيطان
في ملكه دفنت الشياطين في خزانته وموضع مصلاه سحرا وأخذا
ونيرنجات
فما مات سليمان صلى الله عليه وسلم جاءت الشياطين إلى الناس فقالوا ألا ندلكم على الامر
الذي سخرت به لسليمان الريح والجن ودانت له به الانس قالوا بلى
فأتوا مصلاه وموضع كرسيه فاستخرجوا ذلك منه
فقال العلماء من بني إسرائيل ما هذا من دين الله وما كان سليمان ساحرا
وقال سفلة الناس سليمان كان أعلم منا فسنعمل بهذا كما عمل
171

فقال الله تعالى واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان أي اتبعت
اليهود ما ترويه الشياطين
والتلاوة والرواية شئ واحد
ثم قال وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون السحر وما
أنزل على الملكين وهما ملكان أهبطا إلى الأرض حين عمل بنو آدم بالمعاصي
ليقضيا بين الناس وألقي في قلوبهما شهوة النساء وأمرا أن لا يزنيا ولا يقتلا ولا
يشربا خمرا فجاءتهما الزهرة تخاصم إليهما فأعجبتهما فأراداها فأبت عليهما حتى
يعلماها الاسم الذي يصعدان به إلى السماء فعلماها ثم أراداها فأبت حتى يشربا
الخمر فشرباها وقضيا حاجتهما ثم خرجا فرأيا رجلا فظنا أنه قد ظهر
عليهما فقتلاه
وتكلمت الزهرة بذلك الاسم فصعدت فخنست وجعلها الله شهابا
وغضب الله تعالى على الملكين فسماهما هاروت وماروت وخيرهما بين عذاب
الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا
فهما يعلمان الناس ما يفرقون به بين المرء وزوجه
والذي أنزل الله عز وجل على الملكين فيما يرى أهل النظر والله أعلم هو
الاسم الأعظم الذي صعدت به الزهرة
وكانا به قبلها وقبل السخط عليهما يصعدان إلى السماء
فعلمته الشياطين فهي تعلمه أولياءها وتعلمهم السحر
172

وقد يقال إن الساحر يتكلم بكلام فيطير بين السماء والأرض ويطفو على الماء
قال أبو محمد حدثني زيد بن أخز الطائي قال نا عبد الصمد قال نا همام
عن يحيى بن كثير أن عامل عمان كتب إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إنا
أتينا بساحرة فألقيناها في الماء فطفت
فكتب إليه عمر بن عبد العزيز لسنا من الماء في شئ إن قامت البينة وإلا
فخل سبيلها
وحدثني زيد بن أخزم الطائي قال نا عبد الصمد قال نا زيد بن أبي ليلى قال نا
عميرة بن شكير قال كنا مع سنان بن سلمة بالبحرين فأتي بساحرة فأمر بها
فألقيت في الماء فطفت فأمر بصلبها فنحتنا جذعا
فجاء زوجها كأنه سفود محترق فقال مرها فلتطلق عني فقال لها أطلقي
عنه
فقالت نعم ائتوني بباب وغزل فقعدت على البا ب وجعلت ترقى في الغزل وتعقد
فارتفع الباب فأخذا يمينا وشمالا فلم يقدر عليهما
وحدثنا أبو حاتم عن الأصمعي قال أخبرني محمد بن سليم الطائي في حديث
ذكره إن الشياطين لا تستطيع أن تغير خلقها ولكنها تسحره
وحدثني أبو حاتم قال قال الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء إن الغول ساحرة
الجن
173

وحدثنا أبو الخطاب قال نا المعتمر بن سليمان قال سمعت منصورا يذكر عن
ربعي بن خراش عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأنا أعلم بما مع الدجال إن معه
نارا تحرق ونهر ماء بارد فمن أدركه منكم فلا يهلكن به وليغمض عينه
وليقع في التي يراها نارا فإنها نهر ماء بارد
وحدثني أبو حاتم عن الأصمعي عن أبي الزناد قال جاءت امرأة تستفتي
فوجدت النبي صلى الله عليه وسلم قد توفي ولم تجد إلا امرأة من نسائه يقال إنها عائشة رضي الله
عنها فقالت لها يا أم المؤمنين قالت لي امرأة هل لك أن أعمل لك شيئا يصرف
وجه زوجك إليك وأظنه قال فأتت بكلبين فركبت واحدا وركبت الآخر
فسرنا ما شاء الله
ثم قالت أتدرين أنك ببابل ودخلت على رجل أو قالت رجلين فقالا لها
بولي على ذلك الرماد قالت فذهبت فلم أبل ورجعت إليهما فقالا لي ما
رأيت قالت ما رأيت شيئا
قالا أنت على رأس أمرك
قالت فرجعت فتشددت ثم بلت فخرج مني مثل الفارس المقنع فصعد في
السماء فرجعت إليهما فقالا لي ما رأيت فأخبرتهما
فقالا ذلك إيمانك قد فارقك
فخرجت إلي المرأة فقلت والله ما علماني شيئا ولا قالا لي كيف أصنع
قالت فما رأيت قلت كذا قالت أنت أسحر العرب عملي وتمني
قالت فقطعت جداول وقالت أحقل فإذا هو زرع يهتز
174

فقالت أفرك فإذا هو قد يبس قالت فأخذته ففركته وأعطتنيه فقالت
جشي هذا واجعليه سويقا واسقيه زوجك فلم أفعل شيئا من ذلك وانتهى الشأن
إلى هذا فهل لي من توبة
قالت ورأت رجلا من خزاعة كان يسكن أمج فقالت يا أم المؤمنين هذا
أشبه الناس بها روت وما روت
قال أبو محمد وقد روى هذا بن جريج عن بن أبي مليكة عن عائشة رضي
الله عنها
قال أبو محمد وهذا شئ لم نؤمن به من جهة القياس ولا من جهة حجة العقل
وإنما آمنا به من جهة الكتب وأخبار الأنبياء صلى الله عليهم وسلم وتواطؤ الأمم في
كل زمان عليه خلا هذه العصابة التي لا تؤمن إلا بما أوجبه النظر ودل عليه
القياس فيما شاهدوا ورأوا
وأما قول الحسن إنهما علجان من أهل بابل وقراءته الملكين بالكسر فهذا
شئ لم يوافقه أحد من القراء ولا المتأولين فيما أعلم وهو أشد استكراها وأبعد
مخرجا
وكيف يجوز أن ينز على علجين شئ يفرقان به بين المرء وزوجه
قالوا حديثان متدافعان متناقضان
قالوا رويتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا نبي بعدي ولا أمة بعد أمتي فالحلال ما
أحله الله تبارك وتعالى على لساني إلى يوم القيامة والحرام ما حرمه الله تعالى على
لساني إلى يوم القيامة
175

ثم رويتم أن المسيح عليه السلام ينزل فيقتل الخنزير ويكسر الصليب ويزيد في
الحلال
وعن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول قولوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم
الأنبياء ولا تقولوا لا نبي بعده وهذا تناقض
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس في هذا تناقض ولا اختلاف لان المسيح
صلى الله عليه وسلم نبي متقدم رفعه الله تعالى ثم ينزله في آخر الزمان علما للساعة قال الله تعالى
وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها وقرأ بعض القراء وإنه لعلم للساعة
وإذا نزل المسيح عليه السلام لم ينسخ شيئا مما أتى به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم
يتقدم الامام من أمته بل يقدمه ويصلي خلفه
وأما قوله ويزيد في الحلال فإن رجلا قال لأبي هريرة ما يزيد في الحلال إلا
النساء فقال وذاك ثم ضحك أبو هريرة
قال أبو محمد وليس قوله يزيد في الحلال أنه يحل للرجل أن يتزوج خمسا
ولا ستا وإنما أراد أن المسيح عليه السلام لم ينكح النساء حتى رفعه الله تعالى إليه
فإذا أهبطه تزوج امرأة فزاد فيما أحل الله له أي ازداد منه
فحينئذ لا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا علم أنه عبد الله عز وجل وأيقن أنه
بشر
وأما قول عائشة رضي الله عنها قولوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء ولا تقولوا
نبي بعده فإنها تذهب إلى نزول عيسى عليه السلام وليس هذا من قولها ناقضا
لقول النبي صلى الله عليه وسلم لا نبي بعدي لأنه أراد لا نبي بعدي ينسخ ما جئت به كم
كانت الأنبياء صلى الله عليهم وسلم تبعث بالنسخ وأرادت هي لا تقولوا إن
المسيح لا ينزل بعده
176

قالوا حديثان متدافعان متناقضان
قالوا رويتم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي على المدين إذا لم يترك وفاء بدينه
ثم رويتم أنه قال من ترك مالا فلأهله ومن ترك دينا فعلي
وفي حديث آخر من ترك كلا فإلى الله ورسوله
يعني عيالا فقراء وأطفالا لا كافل لهم
فكيف يترك الصلاة على من ألزم نفسه قضاء الدين عنه والقيام بأمر ولده وعياله
بعده وهذا تناقض
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس في هذا بحمد الله تعالى تناقض لان
تركه الصلاة على المدين إذا لم يترك وفاء بدينه كان ذلك في صدر الاسلام قبل أن
يفتح عليه الفتوح ويأتيه المال
وأراد أن لا يستخف الناس بالدين ولا يأخذوا مالا يقدرون على قضائه
فلما أفاء الله عز وجل عليه وفتح له الفتوح وأتته الأموال جعل للفقراء
والذرية نصيبا في الفئ وقضى منه دين المسلم
قالوا حديثان متدافعان متناقضان
قالوا رويتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرجم ماعزا حتى أقر عنده بالزنا أربع
مرات كل ذلك يعرض عنه ثم رجمه في الرابعة
فأخذ بهذا قوم من فقهائكم وقالوا لا نرجم حتى يكون إقراره في عدد الشهود
عليه وبذلك كان يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه
ثم رويتم أن رجلين تقدما إلى النبي صلى الله عليه وسلم
177

فقال أحدهما إن ابني كان عسيفا على هذا وأنه زنى بامرأته فافتديت منه
بمائة شاة وخادم
ثم إنا سألنا رجالا من أهل العلم فقالوا على ابني جلد مائة وتغريب عام وعلى
امرأة هذا الرجم
فقال النبي صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله المائة شاة والخادم
رد عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام وعلى امرأة هذا الرج
فقضى بينهما بذلك وقال أغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها
فاعترفت فرجمها
ولم يقل أحد إنه قال أربع مرات في مجلس ولا في مجالس
وهذا مخالف لحديث ماعز
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس ههنا بحمد الله تعالى اختلاف ولا
تناقض لان إعراض النبي صلى الله عليه وسلم عن ماعز أربع مرات إنما كان كراهية منه
لاقراره على نفسه بالزنا وهتكه ستر الله تعالى عليه لا لأنه أراد أن يقر عنده أربع
مرات
وأراد أيضا أن يستبرئ أمره ويعلم أصحيح هو أم به جنة
فوافق ما أراد من استبرائه أربع مرات ولو وافق
ذلك مرتين أو ثلاثا أو خمسا أو ستا ما كان فيه بينة تلزم
ويدل على كراهته لاقرار الزاني عنده بالزنا رواية مالك عن زيد بن أسلم في
رجل اعترف بالزنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر به فجلد ثم قال يا أيها
الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله تعالى فمن أتى من هذه القاذورات شيئا
178

فليستتر بستر الله عز وجل فإنه من أبدى لنا صفحته نقم عليه كتاب الله عز
وجل
ويدل على أن الاعتراف قد يكون أكثر من الأربع وأقل إذا زالت الشبهة في
أمر المقر حديث يحيى بن سعيد عن هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن
أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتته
امرأة من جهينة وهي حامل من زنا فقالت يا رسول الله إني أصبت حدا فأقمه
علي
فدعا النبي صلى الله عليه وسلم وليها فأمره أن يحسن إليها فإذا وضعت حملها أتاه
بها فأتاه بها وقد وضعت فأمرها أن ترضع ولدها فإذا فطمته أتته ففعلت فأتاه
بها فأمر بها فشق عليها ثيابها ثم رجمت ثم صلى عليها
ولم يذكر في هذا الحديث أنها اعترفت أربع مرات وهذا شاهد للحديث الذي
ذكر فيه أنه قال أغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها
ومن الدليل أيضا أن ماعز بن مالك لما رجم جزع ففر فرجموه وأعلموا
رسول الله صلى الله عليه وسلم جزعه فقال هلا رددتموه ح حتى أنظر في أمره
ولو كان إقراره أربع مرات هو الذي ألزمه الحد لما كان لقول النبي صلى الله عليه وسلم
هلا رددتموه معنى لأنه قد أمضى فيه حكم الله تعالى
ولا يجوز بعد إقراره أربع مرات أن يقبل منه رجوعه إن رجع
وإذا كان الاقرار بغير توقيت جاز له أن يرجع متى شاء وأن يقبل ذلك منه
قالوا أحكام قد أجمع عليها يبطلها القرآن ويحتج بها الخوارج
قالوا حكم في الرجم يدفعه الكتاب
قالوا رويتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم ورجمت الأئمة بعده والله تعالى يقول في
الإماء فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب
179

والرجم إتلاف للنفس لا يتبعض فكيف يكون على الإماء نصفه
وذهبوا إلى أن المحصنات ذوات الأزواج
قالوا وفي هذا دليل على أن المحصنة حدها الجلد
قال أبو محمد ونحن نقول إن المحصنات لو كن في هذا الموضع ذوات
الأزواج لكان ما ذهبوا إليه صحيحا ولزمت به هذه الحجة وليس المحصنات
ههنا إلا الحرائر
وسمين محصنات وإن كن أبكارا لان الاحصان يكون لهن وبهن ولا يكون
بالإماء
فكأنه قال فعليهن نصف ما على الحرائر من العذاب يعني الابكار
وقد تسمي العرب البقرة المثيرة وهي لم تثر من الأرض شيئا
لان إثارة الأرض تكون بها دون غيرها من الانعام
وتسمي الإبل في مراعيها هديا لان الهدي إلى الكعبة يكون منها فتسمى بهذا
الاسم وإن لم تهد
ومما يشهد لهذا التأويل الذي تأولناه في المحصنات وأنهن في هذا الموضع
الحرائر الابكار قوله تعالى في موضع آخر ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح
المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم والمحصنات ههنا الحرائر
ولا يجوز أن يكن ذوات الأزواج لان ذوات الأزواج لا ينكحن
قالوا حكم في الوصية يدفعه الكتاب
قالوا رويتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا وصية لوارث
والله تعالى يقول كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا
الوصية للوالدين والأقربين
180

والوالدان وارثان على كل حال لا يحجبهما أحد عن الميراث
وهذه الرواية خلاف كتاب الله عز وجل
قال أبو محمد ونحن نقول إن هذه الآية منسوخة نسختها آية المواريث
فإن قال وما في آية المواريث من نسخها فإنه قد يجوز أن يعطى الأبوان حظهما
من الميراث ويعطيا أيضا الوصية التي يوصى بها لهما
قلنا له لا يجوز ذلك لان الله تعالى جعل حظهما من ذلك الميراث المقدار الذي
نالهما بالوراثة
وقال عز وجل بعد آية المواريث تلك حدود الله ومن يطع الله وسوله
يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ومن
يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين
فوعد على طاعته فيما حد من المواريث أعظم الثواب وأوعد على معصيته
فيما حد من المواريث بأشد العقاب
فليس لأحد أن يوصل إلى وارث من المال أكثر مما حد الله تعالى وفرض
وقد يقال إنها منسوخة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا وصية لوارث
وسنبين نسخ السنة للقرآن كيف يكون إن شاء الله تعالى
قالوا حكم في النكاح يدفعه الكتاب
قالوا رويتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها
وأنه قال يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب
والله عز وجل يقول حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم إلى آخر الآية
ولم يذكر الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها ولم يحرم من الرضاع إلا الام
المرضعة والأخت بالرضاع
181

ثم قال وأحل لكم ما وراء ذلكم فدخلت المرأة على عمتها وخالتها
وكل رضاع سوى الام والأخت فيما أحله الله تعالى
قال أبو محمد ونحن نقول إن الله عز وجل يختبر عباده بالفرائض ليعلم كيف
طاعتهم أو معصيتهم وليجازي المحسن والمسئ منهم من غير أن يكون فيما أحله
أو حرمه علة توجب التحليل أو التحريم
وإنما يقبح كل قبيح بنهي الله تعالى عنه ويحسن الحسن بأمر الله عز وجل به
خلا أشياء جعل الله في الفطر استقباحها كالكذب والسعاية والغيبة والبخل
والظلم وأشباه ذلك
فإذا جاز أن يبعث الله عز وجل رسولا بشريعة فتستعمل حقبا من الدهر
ويكون المستعملون لها مطيعين لله تعالى ثم يبعث رسولا ثانيا بشريعة ثانية تنسخ
تلك الأولى ويكون المستعملون لها مطيعين لله تعالى كبعثه موسى عليه السلام
بالسبت ونسخ السبت بالمسيح عليه السلام وبعثه إياه بالختان في اليوم السابع ونسخ
ذلك أيضا بالمسيح عليه السلام جاز أيضا أن يفرض شيئا على عباده في وقت ثم
ينسخه في وقت آخر والرسول واحد
وقد قال عز وجل ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها
يريد بخير منها أسهل منها
وإذا جاز أن ينسخ الكتاب بالكتاب جاز أن ينسخ الكتاب بالسنة لان السنة
يأتيه بها جبريل عليه السلام عن الله تبارك وتعالى فيكون المنسوخ من كلام الله
تعالى الذي هو قرآن بناسخ من وحي الله عز وجل الذي ليس بقرآن
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أوتيت الكتاب ومثله معه
يريد أنه أوتي الكتاب ومثل الكتاب من السنة ولذلك قال الله عز وجل وما
آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا
182

وقد علم الله عز وجل أنا نقبل منه ما بلغنا عنه من كلام الله تعالى
ولكنه علم أنه سينسخ بعض القرآن بالوحي إليه
فإذا وقع ذلك قدح في بعض القلوب وأثر في بعض البصائر فقال لنا وما
آتاكم الرسول فخذوه أي ما آتاكم به الرسول مما ليس في القرآن أو مما ينسخ
القرآن فاقبلوه
قال أبو محمد والسنن عندنا ثلاث سنة أتاه بها جبريل عليه السلام عن
الله تعالى كقوله لا تنكح المرأة على عمتها وخالتها ويحرم من الرضاع ما يحرم
من النسب
ولا تحرم المصة ولا المصتان والدية على العاقلة وأشباه هذه من الأصول
والسنة الثانية سنة أباح الله له أن يسنها وأمره باستعمال رأيه فيها فله أن
يترخص فيها لمن شاء على حسب العلة والعذر كتحريمه الحرير على الرجال وإذنه
لعبد الرحمن بن عوف فيه لعلة كانت به
وكقوله في مكة لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها
فقال العباس بن عبد المطلب يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقيوننا فقال
إلا الإذخر
ولو كان الله تعالى حرم جميع شجرها لم يكن يتابع العباس على ما أراد من
إطلاق الإذخر ولكن الله تعالى جعل له أن يطلق من ذلك ما رآه صلاحا فأطلق
الإذخر لمنافعهم
ونادى مناديه لا هجرة بعد الفتح ثم أتاه العباس شفيعا في أخي مجاشع بن
مسعود ليجعله مهاجرا بعد الفتح فقال أشفع عمي ولا هجرة
183

ولو كان هذا الحكم نزل لم تجز فيه الشفاعات وقال عادي الأرض لله
ولرسوله ثم هي لكم مني فمن أحيا مواتا فهو له
وقال في العمرة ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لأهللت بعمرة
وقال في صلاة العشاء لولا أن أشق على أمتي لجعلت وقت هذه الصلاة هذا
الحين
ونهى عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث وعن زيارة القبور وعن النبيذ في الظروف
ثم قال إني نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ثم بدا لي أن الناس
يتحفون ضيفهم ويحتبسون لغائبهم فكلوا وأمسكوا ما شئتم
ونهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ولا تقولوا هجرا فإنه بدا لي أنه يرق
القلوب ونهيتكم عن النبيذ في الظروف فاشربوا ولا تشربوا مسكرا
قال أبو محمد ومما يزيد في وضوح هذا حديث حدثنيه محمد بن خالد بن
خداش قال حدثني مسلم بن قتيبة قال نا يونس عن مدرك بن عمارة قال دخل
النبي صلى الله عليه وسلم حائط رجل من الأنصار فرأى رجلا معه نبيذ في نقير فقال أهرقه
فقال الرجل أو تأذن لي أن أشربه ثم لا أعود
فقال النبي صلى الله عليه وسلم اشربه ولا تعد
فهذه الأشياء تدلك على أن الله عز وجل أطلق له صلى الله عليه وسلم أن يحظر وأن يطلق بعد
أن حظر لمن شاء
184

ولو كان ذلك لا يجوز له في هذه الأمور لتوقف عنها كما توقف حين سئل عن
الكلالة وقال للسائل هذا ما أوتيت ولست أزيدك حتى أزاد
وكما توقف حين أتته المجادلة في زوجها تسأله عن الظهار فلم يرجع إليها قولا
وقال يقضي الله عز وجل في ذلك
وأتاه أعرابي وهو محرم وعليه جبة صوف وبه أثر طيب فاستفتاه فما رجع إليه
قولا حتى تغشى ثوبه وغط غطيط الفحل ثم أفاق فأفتاه
والسنة الثالثة ما سنه لنا تأديبا فإن نحن فعلناه كانت الفضيلة في ذلك وإن
نحن تركناه فلا جناح علينا إن شاء الله كأمره في العمة بالتلحي وكنهيه عن لحوم
الجلالة وكسب الحجام
وكذلك نقول في تحريمه لحوم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع وذي مخلب
من الطير مع قول الله عز وجل قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم
يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل
لغير الله به
أراد أنه لا يجد في وقت نزول هذه السورة أكثر من هذا في التحريم
ثم نزلت المائدة ونزل فيها تحريم المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما
أكل السبع إلا ما ذكيتم
فزادنا الله تعالى فيما حرم بالكتاب وزادنا في ذلك على لسان رسول الله
صلى الله عليه وسلم تحريم سباع الوحش والطير والحمر الأهلية
وكذلك نقول في قصر الصلاة في الامن مع قول الله تبارك وتعالى فليس
عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا
أعلمنا أنه لا جناح علينا في قصرنا مع الخوف
185

وأعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا بأس بالقصر في الامن أيضا عن الله عز وجل
وكذلك المسح على الخفين مع قول الله تعالى فاغسلوا وجوهكم وأيديكم
إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم
وقد روى عيسى بن يونس عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير أنه قال السنة
قاضية على الكتاب وليس الكتاب بقاض على السنة
أراد أنها مبينة للكتاب منبئة عما أراد الله تعالى فيه
قالوا حكم في الغسل يوم الجمعة مختلف
قال ورويتم عن مالك عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد
الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم
ثم رويتم عن همام عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فهو أفضل
قالوا وهذا مخالف للأول
قال أبو محمد ونحن نقول إن قوله غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم لم
يرد به أنه فرض وإنما هو شئ أوجبه على المسلمين كما يجب غسل العيدين على
الفضيلة والاختيار ليشهدوا المجمع بأبدان نقية من الدرن سليمة من التفل
وقد أمر مع ذلك بالتطيب وتنظيف الثوب وأن يلبس ثوبين لجمعته سوى ثوبي
مهنته
وهذا كله اختيار منه وإيجاب على الفضيلة لا على جهة الفرض
186

ثم علم عليه السلام أنه قد يكون في الناس العليل والمشغول ويكون في البلد
الشديد البرد الذي لا يستطاع فيه الغسل إلا بالمشقة الشديدة فقال من توضأ فبها
ونعمت أي فجائز
ثم بين بعد ذلك أن الغسل لمن قدر عليه أفضل
كما نهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ثم قال بدا لي أن الناس كانوا
يتحفون ضيفهم ويخبئون لغائبهم فكلوا وأمسكوا ما شئتم
ونهى عن زيارة القبور ثم قال بدا لي أن ذلك يرق القلوب فزوروها ولا تقولوا هجرا
قالوا حديث يكذبه العيان
قالوا رويتم عن بن لهيعة عن مشرح بن عاهان عن عقبة بن عامر قال سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لو جعل القرآن في إهاب ثم ألقي في النار ما احترق
قالوا وهذا خبر لا نشك في بطلانه لأنا قد نرى المصاحف تحترق وينالها ما
ينال غيرها من العروض والكتب
قال أبو محمد ونحن نقول إن لهذا تأويلا ذهب عليهم ولم يعرفوه وأنا مبينه إن
شاء الله تعالى
حدثني يزيد بن عمر قال سألت الأصمعي عن هذا الحديث فقال يعني لو
جعل القرآن في إنسان ثم ألقي في النار ما احترق
وأراد الأصمعي أن من علمه الله تعالى القرآن من المسلمين وحفظه إياه لم تحرقه
النار يوم القيامة إن ألقي فيها بالذنوب كما قال أبو أمامة احفظوا القرآن أو
187

اقرءوا القرآن ولا تغرنكم هذه المصاحف فإن الله تعالى لا يعذب بالنار قلبا وعى
القرآن وجعل الجسم ظرفا للقرآن كالإهاب
والإهاب الجلد الذي لم يدبغ
ولو كان الاهاب يجوز أن يكون مدبوغا ما جاز أن يجعله كناية عن الجسم
ومثله قول عائشة رضي الله عنها حين خطبت ووصفت أباها فقالت قرر
الرؤوس على كواهلها وحقن الدماء في أهبها تعني في الأجساد
وفيه قول آخر قال بعضهم كان هذا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم علما للنبوة ودليلا
على أن القرآن كلام الله تعالى ومن عند نزل أبانه الله تعالى بهذه الآية في وقت من
تلك الأوقات وعند طعن المشركين فيه ثم زال ذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم كما تكون الآيات
في عصور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من ميت يحيا وذئب يتكلم وبعير يشكو
ومقبور تلفظه الأرض ثم يعدم ذلك بعدهم
وفيه قول آخر وهو أن يرد المعنى في قوله ما احترق إلى القرآن لا إلى
الاهاب
يريد أنه إن كتب القرآن في جلد ثم ألقي في النار احترق الجلد والمداد ولم
يحترق القرآن كأن الله عز وجل يرفعه منه ويصونه عن النار ولسنا نشك في أن
القرآن في المصاحف على الحقيقة لا على المجاز كما يقول أصحاب الكلام إن الذي
في المصحف دليل على القرآن وليس به
والله تبارك وتعالى يقول إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا
المطهرون
188

والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو يريد المصحف
قالوا حديث ينقضه القرآن
قالوا رويتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال صلة الرحم تزيد في العمر
والله تبارك وتعالى يقول فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا
يستقدمون
قالوا فكيف تزيد صلة الرحم في أجل لا يتأخر عنه ولا يتقدم
قال أبو محمد ونحن نقول إن الزيادة في العمر تكون بمعنيين
أحدهما السعة والزيادة في الرزق وعافية البدن وقد قيل الفقر هو الموت
الأكبر
وجاء في بعض الحديث إن الله تعالى أعلم موسى صلى الله عليه وسلم أنه يميت عدوه ثم رآه بعد
يسف الخوص
فقال يا رب وعدتني أن تميته
قال قد فعلت قد أفقرته وقال الشاعر
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الاحياء
يعني الفقير
فلما جاز أن يسمى الفقر موتا ويجعل نقصا من الحياة جاز أن يسمى الغنى حياة
ويجعل زيادة في العمر
والمعنى الآخر أن الله تعالى يكتب أجل عبده عنده مائة سنة ويجعل بنيته
وتركيبه وهيئته لتعمير ثمانين سنة فإذا وصل رحمه زاد الله تعالى في ذلك التركيب
وفي تلك البنية ووصل ذلك النقص فعاش عشرين أخرى حتى يبلغ المائة وهي
الأجل الذي لا مستأخر عنه ولا متقدم
189

قالوا حديث يبطله القرآن والاجماع
قالوا رويتم أن الصدقة تدفع القضاء المبرم والله عز وجل يقول إنما قولنا
لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون
وأجمع الناس على أنه لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه
قال أبو محمد ونحن نقول في تأويل ذلك إن المرء قد يستحق بالذنوب قضاء من
العقوبة فإذا هو تصدق دفع عن نفسه ما قد استحق من ذلك
يدلك عليه قوله صدقة السر تطفئ غضب الرب أفلا ترى أن من غضب الله عز
وجل عليه تعرض عقابه فإذا أزال ذلك الغضب بصدقته أزال العقاب
ومثل هذا رجل أجرمت عليه جرما عظيما فخفت بوائقه وعاجل جزائه
فأهديت له هدية كففته بها وقلت الهدية تدفع العقاب المستحق
قالوا حديث يبطل أوله آخره
قالوا رويتم أنه سيكون عليكم أئمة إن أطعتموهم غويتم وإن عصيتموهم
ضللتم
وهذا لا يجوز في المعقول وكيف يكونون بمعصيتهم ضالين وبطاعتهم
غاوين
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس في هذا الحديث تناقض مع التأويل
ومعناه فيما يرى أنهم إن أطيعوا في الذي يأمرون به من معصية الله تعالى وظلم
الرعية وسفك الدما بغير حقها غوى مطيعهم
190

وإن عصوا فخرج عليهم وشقت عصا المسلمين كما فعل الخوارج ضل
عاصيهم
والذي يؤول إليه معنى الحديث أنه لا يعمل لهم ولا يخرج عليهم
ويجوز أن يكون أراد ما يأمرون به على المنابر من الخير إن عصوا فيه ضل
عاصيهم وما يأمرون به من المعاصي في غير ذلك المقام إن أطيعوا فيه غوى
مطيعهم
قالوا حديث يكذبه القرآن وحجة العقل
قالوا رويتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة
البدر لا تضامون في رؤيته
والله تعالى يقول لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار ويقول
ليس كمثله شئ
قالوا وليس يجوز في حجج العقل أن يكون الخالق يشبه المخلوق في شئ من
الصفات وقد قال موسى عليه السلا رب أرني أنظر إليك قال لن تراني
قالوا فإن كان هذا الحديث صحيحا فالرؤية فيه بمعنى العلم كما قال تعالى
ألم تر إلى ربك كيف مد الظل وقال ألم تر أن الله على كل شئ
قدير
قال أبو محمد ونحن نقول إن هذا الحديث صحيح لا يجوز على مثله الكذب
لتتابع الروايات عن الثقات به من وجوه كثيرة
191

ولو كان يجوز أن يكون مثله كذبا جاز أن يكون كل ما نحن عليه من أمور
ديننا في التشهد الذي لم نعلمه إلا بالخبر وفي صدقة النعم وزكاة الناض من
الأموال والطلاق والعتاق وأشباه ذلك من الأمور التي وصل إلينا علمها بالخبر ولم
يأت لها بيان في الكتاب باطلا
وأما قوله تعالى لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار وقول موسى
عليه السلام رب أرني أنظر إليك قال لن تراني فليس ناقضا لقول رسول الله
صلى الله عليه وسلم ترون ربكم يوم القيامة لأنه أراد عز وجل بقوله لا تدركه الابصار
في الدنيا
وقال لموسى عليه السلام لن تراني يريد في الدنيا لأنه عز وجل احتجب
عن جميع خلقه في الدنيا ويتجلي لهم يوم الحساب ويوم الجزاء والقصاص فيراه
المؤمنون كما يرون القمر في ليلة البدر ولا يختلفون فيه كما لا يختلفون في القمر
ولم يقع التشبيه بها على كل حالات القمر في التدوير والمسير والحدود وغير
ذلك
وإنما وقع التشبيه بها على أنا ننظر إليه عز وجل كما ننظر إلى القمر ليلة
البدر لا يختلف في ذلك كما لا يختلف في القمر
والعرب تضرب المثل بالقمر في الشهرة والظهور فيقولون هذا أبين من
الشمس ومن فلق الصبح وأشهر من القمر قال ذو الرمة
وقد بهرت فما تخفى على أحد * إلا على أحد لا يعرف القمرا
وقوله في الحديث لا تضامون في رؤيته دليل لان التضام من الناس يكون في
أول الشهر عند طلبهم الهلال فيجتمعون ويقول واحد هو ذاك هو ذاك ويقول
192

آخر ليس به وليس القمر كذلك لان كل واحد يراه بمكانه ولا يحتاج إلى أن
ينضم إلى غيره لطلبه
وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قاض على الكتاب ومبين له
فلما قال الله تعالى لا تدركه الابصار وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصحيح
من الخبر ترون ربكم تعالى في القيامة لم يخف على ذي فهم ونظر ولب وتمييز
أنه في وقت دون وقت
وفي قول موسى عليه السلام رب أرني أنظر إليك أبين الدلالة على أنه
يرى في القيامة
ولو كان الله تعالى لا يرى في حال من الأحوال ولا يجوز عليه النظر لكان
موسى عليه السلام قد خفي عليه من وصف الله تعالى ما علموه
ومن قال بأن الله تعالى يدرك بالبصر يوم القيامة فقد حده عندهم ومن كان
الله تعالى عنده محدودا فقد شبهه بالمخلوقين ومن شبهه عندهم بالخلق فقد كفر
فما يقولون في موسى عليه السلام فيما بين أن الله تعالى نبأه وكلمه من الشجرة إلى
الوقت الذي قال له فيه رب أرني أنظر إليك أيقضون عليه بأنه كان مشبها لله
محددا
193

لا لعمر الله لا يجوز أن يجهل موسى عليه السلام من الله عز وجل مثل هذا
لو كان على تقديرهم
ولكن موسى عليه السلام علم أن الله تعالى يرى يوم القيامة فسأل الله عز وجل
أن يجعل له في الدنيا ما أجله لأنبيائه وأوليائه يوم القيامة
فقال له لن تراني يعني في الدنيا ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر
مكانه فسوف تراني
أعلمه أن الجبل لا يقوم لتجليه حتى يصير دكا وأن الجبال إذا ضعفت عن احتمال
ذلك فابن آدم أحرى أن يكون أضعف إلى أن يعطيه الله تعالى يوم القيامة ما يقوى
به على النظر ويكشف عن بصره الغطاء الذي كان في الدنيا
والتجلي هو الظهور ومنه يقال جلوت العروس إذا أبرزتها وجلوت المرآة
والسيف إذا أظهرتهما من الصدأ
وأما قولهم إن الرؤية في قوله ترون ربكم يوم القيامة بمعنى العلم كما قال تعالى
ألم تر أن الله على كل شئ قدير يريد ألم تعلم فإنه يستحيل لأنا نعلمه
في الدنيا أيضا فأي فائدة في هذا الخبر إذا كان الامر في يوم القيامة وفي الدنيا
واحدا
وقرأت في الإنجيل أن المسيح عليه السلام حين فتح فاه بالوحي قال طوبى للذين
يرحمون فعليهم تكون الرحمن طوبى للمخلصة قلوبهم فإنهم الذين يرون الله تبارك
وتعالى والله تبارك وتعالى يقول وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة
ويقول في قوم سخط عليهم كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم
لصالوا الجحيم
194

أفما في هذا القول دليل على أن الوجوه الناضرة التي هي إلى ربها ناظرة هي
التي لا تحجب إذا حجبت هذه الوجوه
فإن قالوا لنا كيف ذلك النظر والمنظور إليه
قلنا نحن لا ننتهي في صفاته جل جلاله إلا إلى حيث انتهى إليه رسول الله
صلى الله عليه وسلم ولا ندفع ما صح عنه لأنه لا يقوم في أوهامنا ولا يستقيم على نظرنا بل
نؤمن بذلك من غير أن نقول فيه بكيفية أو حد أو أن نقيس على ما جاء ما لم
يأت ونرجو أن يكون في ذلك من القول والعقد سبيل النجاة والتخلص من
الأهواء كلها غدا إن شاء الله تعالى
قالوا حديث في التشبيه يكذبه القرآن وحجة العقل
قالوا رويتم أن قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الله عز وجل
فإن كنت أردتم بالأصابع ههنا النعم وكان الحديث صحيحا فهو مذهب
وإن كنتم أردتم الأصابع بعينها فإن ذلك يستحيل لان الله تعالى لا يوصف
بالأعضاء ولا يشبه بالمخلوقين
وذهبوا في تأويل الأصابع إلى أنه النعم لقول العرب ما أحسن إصبع فلان على
ماله يريدون أثره وقال الراعي في وصف إبله
ضعيف العصا بادي العروق ترى له * عليها إذا ما أمحل الناس أصبعا
أي ترى له عليها أثرا حسنا
قال أبو محمد ونحن نقول إن هذا الحديث صحيح وإن الذي ذهبوا إليه في
تأويل الإصبع لا يشبه الحديث لأنه عليه السلام قال في دعائه يا مقلب القلوب
ثبت قلبي على دينك
فقالت له إحدى أزواجه أو تخاف يا رسول الله على نفسك
195

فقال إن قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الله عز وجل
فإن كان القلب عندهم بين نعمتين من نعم الله تعالى فهو محفوظ بتينك النعمتين
فلأي شئ دعا بالتثبيت ولم احتج على المرأة التي قالت له أتخاف على نفسك بما
يؤكد قولها وكان ينبغي أن لا يخاف إذا كان القلب محروسا بنعمتين
فإن قال لنا ما الإصبع عندك ههنا
قلنا هو مثل قوله في الحديث الآخر يحمل الأرض على أصبع وكذا على
إصبعين
ولا يجوز أن تكون الإصبع ههنا نعمة
وكقوله تعالى وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة
والسماوات مطويات بيمينه ولم يجز ذلك
ولا نقول أصبع كأصابعنا ولا يد كأيدينا ولا قبضة كقبضاتنا لان كل شئ
منه عز وجل لا يشبه شيئا منا
قالوا حديث في التشبيه
قالوا رويتم أن كلتا يديه يمين وهذا يستحيل إن كنتم أردتم باليدين العضوين
وكيف تعقل يدان كلتاهما يمين
قال أبو محمد ونحن نقول إن هذا الحديث صحيح وليس هو مستحيلا وإنما أراد
بذلك معنى التمام والكمال لان كل شئ فمياسره تنقص عن ميامنه في القوة والبطش
والتمام
وكانت العرب تحب التيامن وتكره التياسر لما في اليمين من التمام وفي اليسار من
النقص ولذلك قالوا اليمن والشؤم
196

فاليمن من اليد اليمنى والشؤم من اليد الشؤمى وهي اليد اليسرى وهذا وجه
بين
ويجوز أن يريد العطاء باليدين جميعا لان اليمنى هي المعطية
فإذا كانت اليدان يمينين كان العطاء بهما
وقد روي في حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يمين الله سحاء لا يغيضها شئ
الليل والنهار
أي تصب العطاء ولا ينقصها ذلك وإلى هذا ذهب المرار حين قال
وإن على الاوانة من عقيل * فتى كلتا اليدين له يمين
قالوا حديث في التشبيه
قالوا رويتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عجب ربكم من إلكم وقنوطكم وسرعة
إجابته إياكم وضحك من كذا وإنما يعجب ويضحك من لا يعلم ثم
يعلم فيعجب ويضحك
197

قال أبو محمد ونحن نقول إن العجب والضحك ليس على ما ظنوا وإنما هو
على حل عنده كذا بمحل ما يعجب منه وبمحل ما يضحك منه
لان الضاحك إنما يضحك لامر معجب له ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
للأنصاري الذي ضافه ضيف وليس في طعامه فضل عن كفايته فأمر امرأته بإطفاء
السراج ليأكل الضيف وهو لا يشعر أن المضيف له لا يأكل
لقد عجب الله تعالى من صنيعكما البارحة أي حل عنده محل ما يعجب الناس
منه
وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وإن تعجب فعجب قولهم
لم يرد أنه عندي عجب وإنما أراد أنه عجيب عند من سمعه
قالوا حديث في التشبيه
قالوا رويتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تسبوا الريح فإنها من نفس الرحمن
وينبغي أن تكون الريح عندكم غير مخلوقة لأنه لا يكون من الرحمن عز وجل
شئ مخلوق
قال أبو محمد ونحن نقول إنه لم يرد بالنفس ما ذهبوا إليه وإنما أراد أن الريح
من فرج الرحمن عز وجل وروحه
يقال اللهم نفس عني الأذى وقد فرج الله عن نبيه صلى الله عليه وسلم بالريح يوم الأحزاب
وقال تعالى فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها
وكذلك قوله إني لأجد نفس ربكم من قبل اليمن
قال أبو محمد وهذا من الكناية لان معنى هذا أنه قال كنت في شدة وكرب
وغم من أهل مكة ففرج الله عني بالأنصار
يعني أنه يجد الفرج من قبل الأنصار وهم من اليمن
فالريح من فرج الله تعالى وروحه كما كان الأنصار من فرج الله تعالى
198

قال أبو محمد وقد بينت هذا في كتاب غريب الحديث بأكثر من هذا البيان
ولم أجد بد من ذكره ههنا ليكون الكتاب جامعا للفن الذي قصدوا له
قالوا حديث في التشبيه
قالوا رويتم أنه قال لاحد ابني ابنته
والله إنكم لتجبنون وتبخلون وإنكم من ريحان الله وإن آخر وطأة وطئها الله
بوج
قال أبو محمد ونحن نقول إن لهذا الحديث مخرجا حسنا قد ذهب إليه بعض أهل
النظر وبعض أهل الحديث
قالوا إن آخر ما أوقع الله عز وجل بالمشركين بالطائف وكانت آخر غزاة
غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بوج ووج واد قبل الطائف
وكان سفيان بن عيينة يذهب إلى هذا قال وهو مثل قوله في دعائه اللهم
اشدد وطأتك على مضر وابعث عليهم سنين كسني يوسف
فتتابع القحط عليهم سبع سنين حتى أكلوا القد والعظام
وتقول في الكلام اشتدت وطأة السلطان على رعيته وقد وطئهم وطئا ثقيلا
ووطئ المقيد قال الشاعر
ووطئتنا وطأ على حنق وطئ المقيد ثابت الهرم
والمقيد أثقل شئ وطئا لأنه يرسف في قيده فيضع رجلين معا والهرم نبت
ضعيف فإذا وطئه كسره وفته
وهذا المذهب بعيد من الاستكراه قريب من القلوب غير أني لا أقضي به على
مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأني قرأت في الإنجيل الصحيح أن المسيح عليه السلام قال
199

للحواريين ألم تسمعوا أنه قيل للأولين لا تكذبوا إذا حلفتم بالله تعالى ولكن
اصدقوا
وأنا أقول لكم لا تحلفوا بشئ لا بالسماء فإنها كرسي الله تعالى ولا
بالأرض فإنها موطئ قدميه ولا بأورشليم بيت المقدس فإنها مدينة الملك
الأكبر ولا تحلف برأسك فإنك لا تستطيع أن تزيد فيه شعرة سوداء ولا بيضاء
ولكن ليكن قولكم نعم نعم ولا لا وما كان سوى ذلك فإنه من
الشيطان
قال أبو محمد هذا مع حديث حدثنيه يزيد بن عمرو قال حدثنا عبد الله بن
الزبير المكي قال حدثنا عبد الله بن الحارث عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن
كعب قال إن وجا مقدس منه عرج الرب إلى السماء يوم قضاء خلق الأرض
قالوا حديث في التشبيه
قالوا رويتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ضرس الكافر في النار مثل أحد وكثافة جلده
أربعون ذراعا بباع الجبار
قال أبو محمد ونحن نقول إن لهذا الحديث مخرجا حسنا إن كان النبي صلى الله عليه وسلم
أراده وهو أن يكون الجبار ههنا الملك قال الله تبارك وتعالى وما أنت
عليهم بجبار أي بملك مسلط والجبابرة الملوك
وهذا كما يقول الناس هو كذا وكذا ذراعا بذراع الملك
يريدون بالذراع الأكبر وأحسبه ملكا من ملوك العجم كان تام الذراع فنسب
إليه
قالوا حديث في التشبيه
200

قالوا رويتم أن بن عباس قال الحجر الأسود يمين الله تعالى في الأرض يصافح
بها من شاء من خلقه
قال أبو محمد ونحن نقول إن هذا تمثيل وتشبيه
وأصله أن الملك كان إذا صافح رجلا قبل الرجل يده فكأن الحجر لله تعالى
بمنزلة اليمين للملك تستلم وتلثم
وبلغني عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت إن الله تبارك وتعالى حين أخذ
الميثاق من بني آدم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى جعل ذلك في
الحجر الأسود
وقال أما سمعتم إذا استلموه يقولون إيمانا بك ووفاء بعهدك أي قد
وفينا بعهدك أنك أنت ربنا وذلك أن الجاهلية قد استلموه وكانوا مشركين لم
يستلموه بحقه لأنهم كانوا كفارا قالوا حديث في التشبيه
قالوا رويتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال رأيت ربي في أحسن صورة ووضع كفه بين
كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثندوتي
قال أبو محمد ونحن نقول إن الله لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار يعني
في الدنيا
فإذا كان يوم القيامة رآه المؤمنون كما يرون القمر ليلة البدر
وقد سأله موسى صلى الله عليه وسلم فقال رب أرني أنظر إليك
201

يريد أن يتعجل من الرؤية ما أجله الله تعالى له ولأمثاله من أوليائه
فقال لن تراني ولذلك يقول قوم إن نبينا صلى الله عليه وسلم لم يره إلا في المنام وعند
تغشي الوحي له وأن الاسراء ليلة الاسراء كان بروحه دون جسمه إلا تسمع إلى
قول الله عز وجل وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة
الملعونة في القرآن
يعني بالرؤيا ما رآه ليلة أسري به فأخبر بذلك فارتد به قوم وقالوا كيف
يذهب إلى بيت المقدس ثم يصعد إلى السماء ثم يهبط إلى الأرض في ليلة وتوهموا أنه
ادعى الاسراء بجسمه وكان أبو بكر رضي الله عنه ممن صدق بذلك وحاج فيه
فسمي الصديق
قالوا وقد قالت إحدى أزواجه في ليلة الاسراء إنا ما فقدنا جسمه
وحدثنا أبو الخطاب قال نا مالك بن سعيد قال نا الأعمش قال سمعت الوليد
بن العيزار يذكر عن أبي الأحوص في قوله تعالى ولقد رآه بالأفق المبين
قال رأى جبريل عليه السلام في صورته وله سبعمائة جناح
قالوا ومما يدل على ذلك أيضا حديث رواه عبد الله بن وهب عن عمرو بن
الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن مروان بن عثمان عن عمارة بن عامر عن أم
الطفيل امرأة أبي بن كعب أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكر أنه رأى ربه في المنام في
صورة شاب موفر في خضرة على فراشه فراش من ذهب في رجليه نعلان من
ذهب
202

قال أبو محمد ونحن لم نذكر قول من تأول هذا التأويل في هذا لحديث أننا
رأيناه صوابا وإنما ذكرناه ليعلم أن الحديث قد تأوله قوم واحتجوا له بهذين
الحديثين اللذين ذكرناهما
وكيف يكون ذلك كما تأولوا والله عز وجل يقول سبحان الذي أسرى بعبده
ليلا الآية
وهذا لا يجوز أن يتأول فيه هذا التأويل ولا يدفع بمثل هذه الأحاديث ونحن
نعوذ بالله أن نتعسف فنتأول فيما جعله الله فضيلة لمحمد ونحن نسلم للحديث ونحمل
الكتاب على ظاهره
قالوا حديث في التشبيه
قالوا رويتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل خلق آدم على صورته والله
تبارك وتعالى يجل عن أن يكون له صورة أو مثال
قال أبو محمد ونحن نقول كما قالوا إن الله تعالى وله الحمد يجل عن أن يكون
له صورة أو مثال غير أن الناس ألفوا الشئ وأنسوا به فسكتوا عنده
وأنكروا مثله
ألا ترى أن الله تعالى يقول في وصفه نفسه ليس كمثله شئ وهو السميع
البصير
وظاهر هذا يدل على أن مثله لا يشبهه شئ ومثل الشئ غير الشئ فقد
صار على هذا الظاهر لله تعالى مثل ومعنى ذلك في اللغة أنه يقام المثل مقام
203

الشئ نفسه فيقول القائل مثلي لا يقال له هذا الكلام ومثلي لا يفتات عليه
لا يريد أن نظيري لا يقال له ولا يفتات عليه وإنما يريد أنا نفسي لا يقال لي
كذا وكذا
وكذلك قوله وتعالى ليس كمثله شئ يريد ليس كهو شئ فخرج هذا
مخرج كلام العرب ويجوز أن تكون الكاف زائدة كما تقول في الكلام كلمني
بلسان كمثل السنان ولها بنان كمثل العنم
وكقول الراجز
وصاليات ككما يؤثفين
فأدخل الكاف على الكاف وهي بمعنى مثل
وقد اضطرب الناس في تأويل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه خلق آدم عليه السلام
على صورته
فقال قوم من أصحاب الكلام أراد خلق آدم على صورة آدم لم يزد على ذلك
ولو كان المراد هذا ما كان في الكلام فائدة ومن يشك في أن الله تعالى خلق
الانسان على صورته والسباع على صورها والانعام على صورها
204

وقال قوم إن الله تعالى خلق آدم على صورة عنده وهذا لا يجوز لان الله عز
وجل لا يخلق شيئا من خلقه على مثال
وقال قوم في الحديث لا تقبحوا الوجه فإن الله تعالى خلق آدم على صورته
يريد أن الله عز وجل خلق آدم على صورة الوجه هذا أيضا بمنزلة التأويل
الأول لا فائدة فيه
والناس يعلمون أن الله تبارك وتعالى خلق آدم على خلق ولده ووجهه على
وجوههم
وزاد قوم في الحديث إنه عليه السلام مر برجل يضرب وجه رجل آخر
فقال لا تضربه فإن الله تعالى خلق آدم عليه السلام على صورته أي صورة
المضروب وفي هذا القول من الخلل ما في الأول
ولما وقعت هذه التأويلات المستكرهة وكثر التنازع فيها حمل قوما اللجاج على
أن زادوا في الحديث فقالوا روى بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا إن الله عز
وجل خلق آدم على صورة الرحمن
يريدون أن تكون الهاء في صورته لله عز وجل وأن ذلك يتبين بأن يجعلوا
الرحمن مكان الهاء كما تقول إن الرحمن خلق آدم على صورته فركبوا قبيحا من
الخطأ وذلك أنه لا يجوز أن نقول إن الله تعالى خلق السماء بمشيئة الرحمن ولا على
إرادة الرحمن وإنما يجوز هذا إذا كان الاسم الثاني غير الاسم الأول أو لو كانت
الرواية لا تقبحوا الوجه فإنه خلق على صورة الرحمن فكان الرحمن غير الله أو
الله غير الرحمن
فإن صحت رواية بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فهو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
فلا تأويل ولا تنازع فيه
205

قال أبو محمد ولم أر في التأويلات شيئا أقرب من الاطراد ولا أبعد من
الاستكراه من تأويل بعض أهل النظر فإنه قال فيه أراد أن الله تعالى خلق آدم في
الجنة على صورته في الأرض
كأن قوما قالوا إن آدم كان من طوله في الجنة
كذا ومن حليته كذا ومن نوره كذا ومن طيب رائحته كذا لمخالفة ما يكون في الجنة ما يكون في الدنيا
فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله خلق آدم يريد في الجنة على صورته يعني في الدنيا
ولست أحتم بهذا التأويل على هذا الحديث ولا أقضي بأنه مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم
فيه لأني قرأت في التوراة أن الله عز وجل لما خلق السماء والأرض قال نخلق
بشرا بصورتنا فخلق آدم من أدمة الأرض ونفخ في وجهه نسمة الحياة وهذا لا
يصلح له ذلك التأويل
وكذلك حديث بن عباس أن موسى صلى الله تعالى عليه وسلم ضرب الحجر
لبني إسرائيل فتفجر وقال اشربوا يا حمير
فأوحى الله تبارك وتعالى إليه عمدت إلى خلق من خلقي خلقتهم على
صورتي فشبهتهم بالحمير فما برح حتى عوقب هذا معنى الحديث
قال أبو محمد والذي عندي والله تعالى أعلم أن الصورة ليست بأعجب من
اليدين والأصابع والعين وإنما وقع الألف لتلك لمجيئها في القرآن ووقعت
الوحشة من هذه لأنها لم تأت في القرآن ونحن نؤمن بالجميع ولا نقول في شئ منه
بكيفية ولا حد
قالوا حديث في التشبيه
قالوا رويتم في حديث أبي رزين العقيلي من رواية حماد بن سلمة أنه قال للنبي
206

صلى الله عليه وسلم أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض
فقال كان في عماء فوقه هواء وتحته هواء
قالوا وهذا تحديد وتشبيه
قال أبو محمد ونحن نقول إن حديث أبي رزين هذا مختلف فيه وقد جاء من غير
هذا الوجه بألفاظ تستشنع أيضا والنقلة له أعراب ووكيع بن حدس الذروى
عنه حديث حماد بن سلمة أيضا لا يعرف
غير أنه قد تكلم في تفسير هذا الحديث أبو عبيد القاسم بن سلام حدثنا عنه أحمد
بن سعيد اللحياني أنه قال العماء السحاب وهو كما ذكر في كلام العرب إن كان
الحرف ممدودا
وإن كان مقصورا كأنه كان في عمى فإنه أراد كان في عمى عن معرفة الناس
كما تقول عميت عن هذا الامر فأنا أعمى عنه عمى إذا أشكل عليك فلم تعرفه ولم
تعرف جهته وكل شئ خفي عليك فهو في عمى عنك
وأما قوله فوقه هواء وتحته هواء فإن قوما زادوا فيه ما فقالوا ما فوقه
هواء ومتحته هواء استيحاشا من أن يكون فوقه هواء وتحته هواء ويكون
بينهما والرواية هي الأولى
والوحشة لا تزول بزيادة ما لان فوق وتحت باقيان والله أعلم
قالوا حديث في التشبيه
قالوا رويتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تسبوا الدهر فإن الله تعالى هو الدهر
فوافقتم في هذه الرواية الدهرية
قال أبو محمد ونحن نقول إن العرب في الجاهلية كانت تقول أصابني الدهر في
مالي بكذا ونالتني قوارع الدهر وبوائقه ومصايبه
207

ويقول الهرم حناني الدهر فينسبون كل شئ تجري به أقدار الله عز وجل
عليهم من موت أو سقم أو ثكل أو هرم إلى الدهر
ويقولون لعن الله هذا الدهر ويسمونه المنون لأنه جالب المنون عليهم عندهم
والمنون المنية قال أبو ذؤيب
أمن المنون وريبه تتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع
قال أبو محمد هكذا أنشدنيه الرياشي عن الأصمعي عن بن أبي طرفة الهذلي
عن أبي ذؤيب
والناس يروونه وريبها تتوجع ويجعلون المنون المنية وهذا غلط ويدلك على
ذلك قوله والدهر ليس بمعتب من يجزع كأنه قال
أمن الدهر وريبه تتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع
وقال الله عز وجل تتربص به ريب المنون أي ريب الدهر وحوادثه
وكانت العرب تقول لا ألقا ك آخر المنون أي آخر الدهر
وقد حكى الله عز وجل عن أهل الجاهلية ما كانوا عليه من نسب أقدار الله عز
وجل وأفعاله إلى الدهر فقال وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما
يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسبوا الدهر إذا أصابتكم المصايب ولا تنسبوها إليه
فإن الله عز وجل هو الذي أصابكم بذلك لا الدهر فإذا سببتم الفاعل وقع السب
بالله عز وجل
208

ألا ترى أن الرجل منهم إذا أصابته نائبة أو جائحة في مال أو ولد أو بدن
فسب فاعل ذلك به وهو ينوي الدهر أن المسبوب هو الله عز وجل
وسأمثل لهذا الكلأ مثالا أقرب به عليك ما تأولت وإن كان بحمد الله تعالى
قريبا كأن رجلا يسمى زيدا أمر عبدا له يسمى فتحا أن يقتل رجلا
فقتله فسب الناس فتحا ولعنوه
فقال هم قائل لا تسبوا فتحا فإن زيدا هو فتح
يريد أن زيدا هو القاتل لأنه هو الذي أمره كأنه قال إن القاتل زيد لا فتح
وكذلك الدهر تكون فيه المصايب والنوازل وهي بأقدار الله عز وجل فيسب
الناس الدهر لكون تلك المصايب والنوازل فيه وليس له صنع
فيقول قائل لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر
قالوا حديث في التشبيه
قالوا رويتم عن أبي ذر وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يقول الله عز وجل
من تقرب إلي شبرا تقربت منه ذراعا ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا
ومن أتاني يمشي أتيته هرولة
قال أبو محمد ونحن نقول إن هذا تمثيل وتشبيه وإنما أراد من أتاني مسرعا
بالطاعة أتيته بالثواب أسرع من إتيانه فكنى عن ذلك بالمشي وبالهرولة
كما يقال فلان موضع في الضلال والايضاع سير سريع لا يراد به أنه يسير
ذلك السير وإنما يراد أنه يسرع إلى الضلال فكنى بالوضع عن الاسراع
وكذلك قوله والذين سعوا في آياتنا معاجزين والسعي الاسراع في
المشي وليس يراد أنهم مشوا دائما وإنما يراد أنهم أسرعوا بنياتهم وأعمالهم والله
أعلم
209

قالوا حديث يبطله الاجماع والكتاب
قالوا رويتم أن بن أم مكتوم استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده امرأتان من
أزواجه فأمرهما بالاحتجاب فقالتا يا رسول الله إنه أعمى فقال أفعمياوان
أنتما والناس مجمعون على أنه لا يحرم على النساء أن ينظرن إلى الرجال إذا استترن وقد
كن يخرجن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد ويصلين مع الرجال
وقلتم في تفسير قول الله عز وجل ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها إنه
الكحل والخاتم
عز وجل قال أبو محمد ونحن نقول إن الله عز وجل أمر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالاحتجاب إذا أمرنا أن لا نكلمهن إلا من وراء حجاب فقال وإذا سألتموهن
متاعا فاسألوهن من وراء حجاب
وسواء دخل عليهن الأعمى والبصير من غير حجاب بينه وبينهن لأنهما جميعا
يكونان عاصيات لله عز وجل ويكن أيضا عاصيات لله تعالى إذا أذن لهما في الدخول
عليهن
وهذه خاصة لأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم كما خصصن بتحريم النكاح على جميع
المسلمين
فإذا خرجن عن منازلهن لحج أو غير ذلك من الفروض أو الحوائج التي لا بد من
الخروج لها زال فرض الحجاب لأنه لا يدخل عليهن حينئذ داخل فيحجب أن
يحتجبن منه إذا كن في السفر بارزات وكان الفرض إنما وقع في المنازل التي هن
بها نازلات
210

قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن الخراج بالضمان
يريد العبد يشتريه مشتريه فيستغله حينا ثم يظهر على عيب به فيرده بالعيب إنه
لا يرد ما صار إليه من غلته وهو الخراج لأنه كان ضامنا له ولو مات مات من
ماله
ثم رويتم أنه قال من اشترى مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام إن شاء ردها ورد
معها صاعا من طعام
قالوا وهذا مخالف للحكم الأول لان الذي أخذه من لبنها غلة ولأنه كانا
ضامنا لو ماتت الشاة ماتت من ماله فهو والخراج بالضمان سواء لا فرق
بينهما
قال أبو محمد ونحن نقول إن بينهما فرقا بينا لان المصراة من الشاة والمحفلة
شئ واحد وهي التي جمع اللبن في ضرعها فلم تحلب أياما حتى عظم الضرع
لاجتماع اللبن فيه
فإذا اشتراها مشتر واحتلب ما في ضرعها استوعبه في حلبة أو حلبتين
فإذا انقطع اللبن بعد ذلك وظهر على أنها كانت محفلة ردها ورد معها صاعا من
طعام لان اللبن الذي اجتمع في ضرعها كان في ملك البائع لا في ملكه فرد عليه
قيمته
والعبد إذا بيع وبه عيب ولم يظهر على ذلك العيب لا يباع ومعه غلة وإنما
تكون الغلة في ملك المشتري فلا يجب أن يرد عليه منها شيئا
قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم أن عمرو بن الشريد سمع أبا رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الجار
أحق بصقبه
211

وعن قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال جار الدار أحق بدار
الجار أو الأرض
ثم رويتم عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر قال إنما جعل
رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفعة في كل مال لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق
فلا شفعة
قالوا وهذا خلاف الأول
قال أبو محمد ونحن نقول في هذا الحديث الثاني إنه لا يدل على أن جابرا سمع
ما قال من رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تراه يقول إنما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفعة في كل مال لم يقسم فهو حكم
منه وظن منه أو سماع من رجل عنه
والحديثان الأولان متصلان وعلى أنهما جميعا يرجعان إلى تأويل واحد
أما الأول فمعناه الجار أحق بملاصقة من دار جاره
والصقب الدنو بالملاصقة قال الشاعر
كوفية نازح محلتها * لا أمم دارها ولا صقب
يريد بقوله لا أمم دارها أي لا قريب ولا صقب لا ملاصقة
والحديث الثاني إنما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفعة في كل مال لم يقسم فإذا وقعت
الحدود فلا شفعة
كأن ربعا فيه منازل وهو لأقوام عشرة مشتركين فيه فإن باع واحد منهم حصة
من تلك المنازل كانت الشفعة لجميعهم في الحصة وصار لكل واحد منهم تسعها
212

فإن قسمت تلك المنازل قبل أن يبيع واحد منهم شيئا فصار لكل واحد منهم منزل
بعينه فإذا أراد أحدهم أن يبيع منزله لم يكن للقوم شفعة وإنما تجب الشفعة لجاره
الملاصق له
فدلنا بهذا الحديث على أن القسمة إذا وقعت زال حكم المشاع
قالوا حديث يكذبه النظر
قالوا رويتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه فإن في
أحد جناحيه سما وفي الآخر شفاء وأنه يقدم السم ويؤخر الشفاء
قالوا كيف يكون في شئ واحد سم وشفاء
وكيف يعلم الذباب بموضع السم فيقدمه وبموضع الشفاء فيؤخره
قال أبو محمد ونحن نقول إن هذا الحديث صحيح وقد روي أيضا بغير هذه
الألفاظ
حدثنا أبو الخطاب قال نا أبو عتاب قال نا عبد الله بن المثنى قال حدثني
ثمامة قال وقع ذباب في إناء فقال أنس بأصبعه فغمزه في الماء وقال بسم
الله فعل ذلك ثلاثا وقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يفعلوا ذلك وقال في أحد
جناحيه سم وفي الآخر شفاء
قال أبو محمد ونقول إن من حمل أمر الدين على ما شاهد فجعل البهيمة لا
تقول والطائر لا يسبح والبقعة من بقاع الأرض لا تشكو إلى أختها والذباب لا يعلم
موضع السم وموضع الشفاء واعترض على ما جاء في الحديث مما لا يفهمه فقال
كيف يكون قيراط مثل أحد وكيف يتكلم بيت المقدس وكيف يأكل
الشيطان بشماله ويشرب بشماله وأي شمال له وكيف لقي آدم موسى صلى الله
213

تعالى عليهما وسلم حتى تنازعا في القدر وبينهما أحقاب وأين تنازعا فإنه
منسلخ من الاسلام معطل غير أنه يستعد بمثل هذا وشبهه من القول واللغو
والجدال ودفع الاخبار والآثار مخالف لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولما درج عليه
الخيار من صحابته والتابعون
ومن كذب ببعض ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كمن كذب به كله
ولو أراد أن ينتقل عن الاسلام إلى دين لا يؤمن فيه بهذا وأشباهه لم يجد
منتقلا لان اليهود والنصارى والمجوس والصابئين والوثنية يؤمنون بمثل ذلك
ويجدونه مكتوبا عندهم
وما علمت أحدا ينكر هذا إلا قوما من الدهرية وقد اتبعهم على ذلك قوم من
أهل الكلام والجهمية
وبعد فما ينكر من أن يكون في الذباب سم وشفاء إذا نحن تركنا طريق
الديانة ورجعنا إلى الفلسفة
وهل الذباب في ذلك إلا بمنزلة الحية فإن الأطباء يذكرون أن لحمها شفاء من
سمها إذا عمل منه الترياق الأكبر ونافع من لدغ العقارب وعض الكلاب الكلبة
والحمى الربع والفالج واللقوة والارتعاش والصرع
وكذلك قالوا في العقرب إنها إذا شق بطنها ثم شدت على موضع اللسعة
نفعت
214

وإذا أحرقت فصارت رمادا ثم سقي منها من به الحصاة نفعته
وربما لسعت المفلوج فأفاق
وتلقى في الدهن حينا فيكون ذلك الدهن مفرقا للأورام الغليظة
والأطباء القدماء يزعمون أن الذباب إذا ألقي في الإثمد وسحق معه ثم اكتحل
به زاد ذلك في نور البصر وشد مراكز الشعر من الأجفان في حافات الجفون
وحكوا عن صاحب المنطق أن قوما من الأمم كانوا يأكلون الذباب فلا
يرمدون
وقالوا في الذباب إذا شدخ ووضع على موضع لسعة العقرب سكن الوجع
وقالوا من عضه الكلب احتاج إلى أن يستر وجهه من سقوط الذباب عليه لئلا
يقتله
وهذا يدل على طبيعة فيه شفاء أو سم
قال أبو محمد وكيف تكون البهائم والحشرات لا تفهم إذا نحن تركنا طريق
الديانة وقلنا بالفلسفة وبما يلحقه العيان ونحن نرى الذرة تدخر في الصيف للشتاء
فإذا خافت العفن على ما ادخرت من الحب أخرجته إلى ظاهر الأرض فنشرته ليلا
في القمر وإذا خافت نبا ت الحب نقرت وسط الحبة لئلا تنبت
وقال بن عيينة ليس شئ يدخر إلا الانسان والنملة والفأرة
وهذه الغربان لا تقرب نخلة موقرة فإذا صرمت النخلة سقطت عليها فلقطت
ما في القلبة يعني الكرب
215

وقالت الفلاسفة إذا نهشت الإبل حية أكلت السراطين
وقال بن ماسويه فلذلك نظن السراطين صالحة للمنهوشين
قالوا والسلحفاة إذا أكلت أفعى أكلت سعترا جبليا
وابن عرس إذا قاتل الحية أكل السذاب
والكلاب إذا كان في أجوافها دود أكلت سنبل القمح
قال أبو محمد فأرى هذه على مذاهب الفلاسفة تفهم وتحسن الطب أيضا وهذا
أعجب من معرفة الذباب بالسم والشفاء في جناحيه
وكيف يعجبون من حجر يجذب الحديد من بعد ويطيعه حتى يذهب به يمينا
وشمالا بذهابه وهذا حجر المغناطيس
وكيف صدقوا بقول أرسطاطاليس في حجر السنفيل إنه إذا ربط على بطن
صاحب الاستسقاء نشف منه الماء وإن الدليل على ذلك أنه يوزن بعد أن يشد على
بطنه فيوجد قد زاد في وزنه
وذاكرت أيوب المتطبب بهذا أو حنينا فعرفه وقال هذا لحجر مذكور في
التوراة أو قال في غيرها من كتب الله عز وجل
وبقوله في حجر يسبح في الخل كأنه سمكة وخرزة تصير في حقو المرأة فلا
تحبل وحجر يوضع على حرف التنور فيتساقط خبز التنور كله وحجر يقبض
عليه القابض بكفيه فيلقي كل شئ في جوفه وبالصعيد من أرض مصر شجرة
تعرف بالسنطة يشهر عليها السيف وتتوعد بالقطع فتذبل
وحدثني شيخ لنا عن علي بن عاصم عن خالد الحذاء عن محمد بن سيرين قال
اختصم رجلان إلى شريح
فقال أحدهما إني استودعت هذا وديعة فأبى أن يردها علي
فقال له شريح رد على الرجل وديعته
216

فقال يا أبا أمية إنه حجر إذا رأته الحبلى ألقت ولدها وإذا وقع في الحل
غلي وإذا وضع في التنور برد
فسكت شريح ولم يقل شيئا حتى قاما
وهذه الأشياء رحمك الله لا يضبطها وهم ولا يعرف أكثرها بقياس
ولو تتبعنا مثل هذا من عجائب الخلق لكثر وطال
قالوا حديث يحتج به الروافض في إكفار أصحاب محد صلى الله عليه وسلم تسليما
قالوا رويتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليردن علي الحوض أقوام ثم ليختلجن
دوني فأقول يا رب أصيحابي أصيحابي
فيقال لي إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ
فارقتهم
قالوا وهذه حجة للروافض في إكفارهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عليا وأبا
ذر والمقداد وسلمان وعمار بن ياسر وحذيفة الله عز وجل
قال أبو محمد ونحن نقول إنهم لو تدبروا الحديث وفهموا ألفاظه لاستدلوا
على أنه لم يرد بذلك إلا القليل
يدلك على ذلك قوله ليردن علي الحوض أقوام
ولو كان أرادهم جميعا إلا من ذكروا لقال لتردن علي الحوض ثم لتختلجن
دوني
ألا ترى أن القائل إذا قال أتاني اليوم أقوام من بني تميم وأقوام من أهل
الكوفة فإنما يريد قليلا من كثير ولو أراد أنهم اتوه إلا نفرا يسيرا قال أتاني بنو
تميم وأتاني أهل الكوفة ولم يجز أن يقول قوم لان القوم هم الذين تخلفوا
217

ويدلك أيضا قوله يا رب أصيحابي بالتصغير وإنما يريد بذلك تقليل العدد
كما تقول مررت بأبيات متفرقة ومررت بجميعه
ونحن نعلم أنقد كان يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد ويحضر معه المغازي
المنافق لطلب المغنم والرقيق الدين والمرتاب والشاك
وقد ارتد بعده أقوام منهم عيينة بن حصن ارتد ولحق بطليحة بن خويلد
حين تنبأ وآمن به فلما هزم طليحة هرب فأسره خالد بن الوليد وبعث به إلى أبي
بكر رضي الله عنه في وثاق فقدم به المدينة فجعل غلمان المدينة ينخسونه بالجريد
ويضربونه ويقولون أي عدو الله كفرت بالله بعد إيمانك
فيقول عدو الله والله ما كنت آمنت
فلما كلمه أبو بكر رضي الله عنه رجع إلى الاسلام فقبل منه وكتب له أمانا
ولم يزل بعد ذلك رقيق الدين حتى مات
وهو الذي كان أغار على لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغابة فقال له الحارث بن
عوف ما جزيت محمدا صلى الله عليه وسلم أسمنت في بلاده ثم غزوته فقال هو ما ترى
وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأحمق المطاع
ولعيينة بن حصن أشباه ارتدوا حين ارتدت العرب فمنهم من رجع وحسن
إسلامه ومنهم من ثبت على النفاق وقد قال الله تبارك وتعالى وممن حولكم من
الاعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن
نعلمهم الآية فهؤلاء هم الذين يختلجون دونه
وأما جميع أصحابه إلا الستة الذين ذكروا فكيف يختلجون
218

وقد تقدم قول الله تبارك وتعالى فيهم محمد رسول الله والذين معه أشداء على
الكفار رحماء بينهم إلى آخر السورة
وقوله تعالى لقد رضي الله عن المؤمنين إذا يبايعونك تحت الشجرة
قال أبو محمد وحدثني زيد بن أخزم الطائي قال أنا أبو داود قال نا قرة بن
خالد عن قتادة قال قلت لسعيد بن المسيب كم كانوا في بيعة الرضوان قال خمس
عشرة مائة
قال قلت فإن جابر بن عبد الله قال كانوا أربع عشرة مائة
قال أوهم رحمه الله هو الذي حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة
فكيف يجوز أن يرضى الله عز وجل عن أقوام ويحمدهم ويضرب لهم مثلا في
التوراة والإنجيل وهو يعلم أنهم يرتدون على أعقابهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن
يقولوا إنه لم يعلم وهذا هو شر الكافرين
قالوا حديث في القدر
قالوا رويتم أن موسى عليه السلام كان قدريا وحاج آدم عليه السلام فحجه
وأن أبا بكر كان قدريا وحاج عمر فحجه عمر
قال أبو محمد ونحن نقول إن هذا تخرص وكذب على الخبر ولا نعلم أنه جاء في
شئ من الحديث أن موسى عليه السلام كان قدريا ولا أن أبا بكر رضي الله عنه
كان قدريا
219

حدثنا أبو الخطاب قال نا بشر بن المفضل قال نا داود بن أبي هند عن عامر
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقي موسى
آدم صلى الله عليهما وسلم
فقال أنت آدم أبو البشر الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة قال نعم
فقال ألست موسى الذي اصطفاك الله على الناس برسالاته وبكلامه
قال بلى قال أفليس تجد فيما أنزل عليك أنه سيخرجني منها قبل أن يدخلنيها
قال بلى قال فخصم آدم موسى صلى الله عليهما وسلم
قال أبو محمد فأي شئ في هذا القول يدل على أن موسى عليه السلام كان قدريا
ونحن نعلم أن كل شئ بقدر الله وقضائه غير أنا ننسب الافعال إلى فاعليها ونحمد
المحسن على إحسانه ونلوم المسئ بإساءته ونعتد على المذنب بذنوبه
وأما قولهم إن أبا بكر رضي الله عنه كان قدريا فهو أيضا تحريف وزيادة في
الحديث
وإنما تنازعا في القدر وهما لا يعلمان فلما علما كيف ذلك اجتمعا فيه على أمر
واحد كما كانا لا يعلمان أمورا كثيرة من أمر الدين وأمر التوحيد حتى أعلمهما
رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل الكتاب وحدت السنن فعلما بعد ذلك
على أن الحديث عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما عند أهل الحديث
ضعيف يرويه إسماعيل بن عبد السلام عن زيد بن عبد الرحمن عن عمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده ويرويه رجل من أهل خراسان عن مقاتل بن حيان
عن عمرو بن شعيب وهؤلاء لا يعرف أكثرهم
قالوا حديث يكذبه النظر
قالوا رويتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الحياء شعبة من الايمان
قالوا والايمان اكتساب والحياء غريزة مركبة في المرء فكيف تكون الغريزة اكتسابا
220

قال أبو محمد ونحن نقول إن المستحيي ينقطع بالحياء عن المعاصي كما ينقطع
بالايمان عنها فكأنه شعبة منه والعرب تقيم الشئ مقام الشئ إذ كان مثله أو شبيها
به أو كان سببا له
ألا تراهم سموا الركوع والسجود صلاة وأصل الصلاة الدعاء
وسموا الدعاء صلاة كما قال الله تعالى وصل عليهم أي ادع لهم وقال
تعالى لولا دعاؤكم أي لولا صلاتكم
وقال بن عمر إنه كان إذا دعي عليه السلام إلى وليمة فإن كان مفطرا أكل
وإن كان صائما صلى أي دعا
وأصل الصلاة الدعاء قال الله تعالى وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم
أي ادع لهم
وقال الله عز وجل إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا
صلوا عليه وسلموا تسليما أي ادعوا له وما جاء في هذا كثير
فلما كان الدعاء يكون في الصلاة سميت الصلاة به
وكذلك الزكاة وهي تطهير المال ونماؤه فلما كان النماء يقع بإخراج الصدقة عن
المال سمي زكاة ومثل هذا كثير
حدثني أبو الخطاب قال نا المعتمر بن سليمان قال سمعت الليث بن أبي سليم
يحدث عن واصل بن حيان عن أبي وائل عن بن مسعود قال كان آخر ما حفظ من
كلام النبوة إذا لم تستحي فاصنع ما شئت
يراد به أنه من لم يستحي وكان فاسقا ركب كل فاحشة وقارف كل قبيح
لأنه لا يحجزه عن ذلك دين ولا حياء
221

أفما ترى أن الحياء قصار والايمان يعملان عملا واحدا فكأنهما شئ واحد
قالوا أحاديث في الصلاة متناقضة
قالوا رويتم عن شعبة عن يعلى بن عطاء عن جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه
أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا رجلان لم يصليا في ناحية المسجد فدعا بها فجاءا
ترعد فرائصهما
فقال عليه السلام ما منعكما أن تصليا معنا قالا قد صلينا في رحالنا
قال عليه السلام فلا تفعلوا إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الامام ولم يصل
فليصل معه فإنها له نافلة
ثم رويتم عن معن بن عيسى عن سعيد بن السائب الطائفي عن نوح بن صعصعة
عن يزيد بن عامر قال جئت والنبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة فجلست ولم أدخل معهم
فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ألم تسليا يزيد قلت بلى يا رسول الله
قال فما منعك أن تدخل مع الناس في صلاتهم
قلت إني كنت صليت في منزلي وأنا أحسب أن قد صليتم
فقال إذا جئت للصلاة فوجد ت الناس يصلون فصل معهم وإن كنت قد
صليت تكن لك نافلة وهذه مكتوبة
ثم رويتم عن يزيد بن زريع عن حسين عن عمرو بن شعيب عن سليمان مولى
ميمونة قال أتيت بن عمر وهو على البلاط وهم يصلون فقلت ألا تصلي معهم
قال قد صليت أوما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تصلوا صلاة في يوم
مرتين
222

قالوا وهذا تناقض واختلاف وكل حديث منها يوجب غير ما يوجبه الآخر
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس في هذه الأحاديث تناقض ولا اختلاف
أما الحديث الأول فإنه قال إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الامام ولم
يصل فليصل معه فإنها له نافلة
يريد أن الصلاة التي صلى مع الامام نافلة والأولى هي الفريضة لأن النية قد
تقدمت بأدائها حتى كملت وتقضت والاعمال بالنيات
وأما الحديث الثاني فقال إذا جئت للصلاة فوجدت الناس يصلون فصل
معهم وإن كنت قد صليت تكن لك نافلة وهذه مكتوبة
كأنه قال تكن لك هذه الصلاة التي صليت مع الامام نافلة وهذه الأخرى التي
صليتها في بيتك مكتوبة
ولو جعل مكان قوله هذه وتلك مكتوبة كان أوضح للمعنى ولا فرق
بينهما وإنما يشكل بقوله وهذه فأغفل بعض الرواة هذه في الموضع الأول
وذكره في الموضع الثاني وجعله مكان تلك
وقد ذكرت لك مثل هذا من إغفال النقلة للحرف والشئ اليسير يتغير به المعنى
وأما الحديث الثالث الذي ذكر فيه بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تصلوا
صلاة في يوم مرتين فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تصلوا فريضة في يوم مرتين
كأنك صليت في منزلك الظهر مرة ثم صليتها مرة أخرى أو صليتها مع إمام ثم
أعدتها مع إمام آخر
فاستعمل ما سمع من هذا الحديث في الموضع الذي أطلق فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يصلي الرجل ويجعله نافلة ولعله لم يكن سمع هذا ولم يبلغه
223

ومن صلى في منزله الفريضة وصلى مع الامام تلك الصلاة وجعلها نافلة لم يصل
صلاة في يوم مرتين لان هاتين صلاتان مختلفتان إحداهما فريضة والأخرى نافلة
قالوا أحاديث في الوضوء متناقضة
قالوا رويتم عن سفيان عن الزهري عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة
ثم رويتم عن شعبة عن الحكم عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يأكل أو ينام توضأ تعني وهو جنب
ثم رويتم عن سفيان عن أبي إسحاق عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام وهو جنب من غير أن يمس ماء
قال أبو محمد ونحن نقول إن هذا كله جائز فمن شاء أن يتوضأ وضوءه للصلاة
بعد الجماع ثم ينام
ومن شاء غسل يده وذكره ونام
ومن شاء نام من غير أن يمس ماء غير أن الوضوء أفضل
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل هذا مرة ليدل على الفضيلة وهذا مرة ليدل على
الرخصة ويستعمل الناس ذلك
فمن أحب أن يأخذ بالأفضل أخذ ومن أحب أن يأخذ بالرخصة أخذ
قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم عن سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن
الاعرابي بال في المسجد فقال النبي صلى الله عليه وسلم صبوا عليه سجلا من ماء أو قال ذنوبا
من ماء
ثم رويتم عن جرير بن حازم قال سمعت عبد الملك بن عمير يحدث عن عبد الله
بن معقل بن مقرن أنه قال في هذه القصة خذوا ما بال عليه من التراب فألقوه
224

وأهريقوا على مكانه ماء
قالوا وهذا خلاف الأول
قال أبو محمد ونحن نقول إن الخلاف وقع في هذا من قبل الراوي
وحديث أبي هريرة أصح لأنه حضر الامر ورآه
وعبد الله بن معقل بن مقرن ليس من الصحابة ولا ممن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم فلا
نجعل قوله مكافئا لقول من حضر ورأي
وكان أبوه معقل بن مقرن أبو عمرة المزني يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم
فأما عبد الله ابنه فلا نعلمه
قالوا حديثان في الصوم متناقضان
قالوا رويتم في غير حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الصوم في السفر فقال
إن شئت فصم وإن شئت فأفطر
ثم رويتم عن عبيد الله بن موسى عن أسامة بن زيد عن بن شهاب عن أبي
سلمة عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صيام رمضان في السفر كفطره في
الحضر
قال أبو محمد ونحن نقول إن هذا من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لقوم رغبوا عن
رخصة الله تعالى وما وهب لهم من الرفاهة في السفر وتجشموا المشقة والشدة
فأعلمهم أن إثمهم في الصيام في السفر كإثمهم في الفطر في الحضر
وسماهم في حديث آخر عصاة لتركهم قبول ما أنعم الله تعالى به ويسر فيه
ومن رغب عن يسر الله تعالى كان كمن قصر في عزائمه
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في صائم الدهر لا صام ولا أفطر
وقال من صام الدهر ضيقت عليه جهنم
وأما من سافر في الزمن البارد والأيام القصار أو كان في كن وسعة
225

وكان مخدوما فالصوم عليه سهل فذلك الذي خيره النبي صلى الله عليه وسلم بين الصوم
والفطر فقال إن شئت فصم وإن شئت فأفطر
قالوا حديثان في الصوم متناقضان
قالوا رويتم في غير حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم
ثم رويتم عن أبي نعيم عن إسرائيل عن زيد بن جبير عن أبي يزيد الضبي عن
ميمونة بنت سعد مولاة النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن رجل قبل امرأته وهو
صائم فقال قد أفطر
قال أبو محمد ونحن نقول إن القبلة للصائم تفسد الصوم لأنها تبعث الشهوة
وتستدعي المذي وكذلك نقول في المباشرة
فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه معصوم وتقبيله في الصوم أهله كتقبيل الوالد ولده
والأخ أخاه
ويدلك على ذلك قول عائشة رضي الله عنها وأيكم يملك إربه كما كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك إربه
وكذلك نقول في نوم رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه لا يوجب الوضوء لقوله إن عيني
تنام ولا ينام قلبي
ولذلك كان ينام حتى يسمع فخيخه ثم يصلي من غير أن يتوضأ
وأحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم تخالف أحكام أمته في غير موضع
226

قالوا حديث يبطله النظر
قالوا رويتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال استوصوا بالمعزى خيرا فإنه مال رقيق وهو في
الجنة
قالوا كيف يكون من الجنة وهو عندنا يولد
وإن كان في الجنة معزى فينبغي أن يكون فيها بقر وإبل وحمير وخيل
قال أبو محمد ونحن نقول إنه لم يرد أن هذه المعزى بأعيانها في الجنة وكيف
تكون في الجنة وهي عندنا
وإنما أراد في الجنة معزى وقد خلق الله تعالى هذه في الدنيا لها مثالا
وكذلك أيضا الضأن والإبل والخيل ليس منها شئ إلا ولها في الجنة مثال
وإنما تخلو الجنة من الخبائث كالقرود والخنازير والعقارب والحيات
وإذا جاز أن يكون في الجنة لحم جاز أن يكون فيها معزى وضأن
وإذا جاز أن يكون فيها طير يؤكل جاز أن يكون فيها نعم يؤكل قال الله
تعالى ولحم طير مما يشتهون
قال أبو محمد وحدثني أحمد بن الخليل قال نا الأصمعي قال نا أبو هلال
الراسبي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه بريدة الأسلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سيد
إدام أهل الدنيا والآخرة اللحم وسيد ريحان أهل الدنيا وأهل الجنة الفاغية
ومما يدل على ما قلت أنه قال في حديث آخر امسحوا الرغام عن أنوفها فإنها
من دواب الجنة
يريد أنها من الدواب التي خلقت في الجنة
قالوا حديث يكذبه القرآن من جهتين
قالوا رويتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الميت يعذب ببكاء الحي عليه
227

وهذا يبطل من وجهين
أحدهما بقول الله عز وجل ولا تزر وازرة وزر أخرى
والآخر بقول الله تعالى قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم اليوم
القيامة
ثم قال تعالى يذكر أحوال المخلوق منذ كان طينا إلى أن يبعثه ولقد خلقنا
الانسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة
علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا
آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم
القيامة تبعثون
قالوا ولم يذكر الله تعالى أنه يحييه فيما بين الموت والبعث ولا أنه يعذبه ولا أنه
يثيبه حين أجمل ولا حين فصل
قال أبو محمد ونحن نقول إن كتاب الله تعالى يأتي بالايجاز والاختصار
وبالإشارة والايماء ويأتي بالصفة في موضع ولا يأتي بها فموضع آخر فيستدل
على حذفها من أحد المكانين بظهورها في المكان الاخر
وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مبين للكتاب ودال على ما أريد فيه
فمن المحذوف في كتاب الله عز وجل قوله تعالى فمن كان منكم
مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر
وظاهر هذا يدل على أن من كان مريضا أو على سفر صام عدة من أيام أخر
وإن صام في السفر وعلى حال المرض
وإنما أراد فمن كان منكم مريضا أو على سفر فأفطر فعليه عدة من أيام
أخر
228

فحذف فأفطر
وكذلك قوله عز وجل فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من
صيام أو صدقة أو نسك
وظاهر هذا الكلام يدل على أن المريض أو القمل في رأسه تجب عليه الفدية
وإنما أراد فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه فحلق فعليه فدية من
صيام أو صدقة أو نسك وأشباه هذا كثير
ومما أتت فيه الصفة ولم تأت في مثله فاستدل بأحدهما على الآخر قوله تعالى
وأشهدوا ذوي عدل منكم
وقال تعالى في موضع آخر واستشهدوا شهيدين من رجالكم
ولم يقل عدلين اقتصارا على ما وصف في المكان الآخر
وقال في موضع فتحرير رقبة مؤمنة وفي موضع آخر فتحرير رقبة من
قبل أن يتماسا ولم يقل مؤمنة
وأما ما استدل عليه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فصفات الصلوات وكيف الركوع
والسجود والتشهد وكم العدد وما في المال من الصدقات والزكوات ومقدار ما يقطع
فيه السارق وما يحرم من الرضاع وأشباه هذا كثير
وقد أعلمنا الله تعالى في كتابه أنه يعذب قوما قبل يوم القيامة إذ يقول النار
يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد
العذاب
229

ولا يجوز أن يعرض هؤلاء على النار غدوا وعشيا في الدنيا ولا في يوم القيامة
لقوله تعالى ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب
ولان يوم القيامة ليس فيها غدو ولا عشي إلا على مجاز في قوله عز وجل
ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا يجوز في ذلك الموضع ولا يجوز في هذا
الموضع
وقد أخبرت به في كتابي المؤلف في تأويل مشكل القرآن
وقال في موضع آخر بعد أن ذكر عذاب يوم القيامة وإن للذين ظلموا
عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون
وقد تتابعت الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم من جهات كثيرة بنقل الثقات أنه كان
يتعوذ بالله من عذاب القبر
ومن ذلك حديث مالك عن أبي الزبير عن طاوس عن بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان يقول اللهم إني أعوذ بك من فتنة الدجال وأعوذ بك مفتنة المحيا والممات
وعذاب القبر
ومن ذلك حديث شعبة عن بديل بن ميسرة عن عبد الله بن شقيق عن أبي
هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول اللهم إني أعوذ بك من فتنة القبر وعذابه وفتنة
الدجال
ومن ذلك حديث هشام عن قتادة عن أنس ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول اللهم إني
أعوذ بك من فتنة المحيا ومن فتنة الممات وعذاب القبر هذا مع أخبار كثيرة في
منكر ونكير ومسألتهما
منها حديث حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله بن عباس قال إن
أحدكم ليجلس فقبره إجلاسا فيقال له من أنت فيقول أنا عبد الله حيا وميتا
230

وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فيقال له صدقت فيفسح
له في قبره ما شاء الله ويرى مكانه من الجنة
وأما الاخر فيقال له من أنت فيقول لا أدري فيقال له لا دريت
فيضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه
وهذا مما لا يعمله إلا نبي ولم يكن عبد الله ليحكيه إلا وقد سمعه من رسول
الله صلى الله عليه وسلم
وروى عباد بن راشد عن داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد
الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر أن الملك يأتي العبد إذا وضع في قبره
قال فإن كان كافرا أو منافقا فيقال له متقول في هذا الرجل يعني محمدا صلى الله عليه وسلم
فيقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته
فيقول دريت ولا ائتليت ولا اهتديت
وهذه الأخبار تدل على أن عذاب القبر للكافر
وأما قولهم كيف يعذب الميت ببكاء الحي والله تعالى يقول ولا تزر وازرة
وزر أخرى فإنا أيضا نظن أن التعذيب للكافر ببكاء أهله عليه
وكذلك قال بن عباس إنه مر بقبر يهودي فقال إنه يعذب وإن أهله ليبكون
عليه
فإن كان كذلك فهذا مالا يوحش لان الكافر يعذب على كل حال
وإن كان أراد المسلم المقصر كما قال في المعذب بالغيبة والبول فإن قول الله عز
وجل ولا تزر وازرة وزر أخرى إنما هو في أحكام الدنيا
231

وكان أهل الجاهلية يطلبون بثأر القتيل فيقتل أحدهم أخاه أو أباه أو ذا رحم
به
فإذا لم يقدر على أحد من عصبته ولا ذوي الرحم به قتل رجلا من عشيرته فأنزل
الله تبارك وتعالى ولا تزر وازرة وزر أخرى
وأخبرنا أيضا أنه مما أنزل على إبراهيم صلى الله عليه وسلم
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل رأى معه ابنه لا تجني عليه ولا يجني
عليك
فأما عقاب الله تعالى إذا هو أتى فيعم وينال المسئ والمحسن
قال الله تعالى واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة
يريد أنها تعم فتصيب الظالم وغيره
وقال عز وجل ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم
بعض الذي عملوا
وقالت أم سلمة يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون
فقال نعم إذا كثر الخبث
وقد تبين لهم أن الله تعالى غرق أمة نوح عليه السلام كلها وفيهم الأطفال
والبهائم بذنوب البالغين
وأهلك قوم عاد بالريح العقيم وثمود بالصاعقة وقوم لوط بالحجارة ومسخ
أصحاب السبت قردة وخنازير وعذب بعذابهم الأطفال
وأخبرني رجل من الكوفيين قرأ في الكتب المتقدمة من كتب الله تعالى فوجد في
كتاب منها أنا الله الحقود آخذ الأبناء بذنوب الآباء
232

وروى بن عباس أن دانيال عليه السلام قال يحق لكم يا بني إسرائيل أني
بذنوبكم أعذب
وقال أنس بن مالك إن الضب في جحره ليموت هزلا بذنب بن آدم
وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مضر فقال اللهم اشدد وطأتك على مضر وابعث
عليهم سنين كسني يوسف
فتتابعت عليهم الجدوبة والقحط سبع سنين حتى أكلوا القد والعظام والعلهز فنال
ذلك الجدب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وبدعائه عوقبوا حتى شد وشد المسلمون
على بطونهم الحجارة من الجوع
قال أبو محمد وقد رأينا بعيوننا ما أغنى عن الاخبار فكم من بلد فيه الصالحون
والأبرار والأطفال والصغار أصابته الرجفة فهلك به البر والفاجر والمسئ
والمحسن والطفل والكبير كقومس ومهرجان وقذق والري ومدن
كثيرة من مدن الشام واليمن
وهذا شئ يعرفه كل من عرف الله عز وجل من أهل الديانات وإن اختلفوا
قال أبو محمد وحدثني رجل من أصحاب الاخبار أن المنصور سمر ذات ليلة
فذكر خلفاء بني أمية وسيرتهم وأنهم لم يزالوا على استقامة حتى أفضى أمرهم إلى
233

أبنائهم المترفين فكان همهم من عظيم شأن الملك ك وجلالة قدره قصد الشهوات
وإيثار اللذات والدخول في معاصي الله عز وجل ومساخطه جهلا منهم باستدراج
الله تعالى وأمنا من مكره تعالى فسلبهم الله تعالى الملك والعز ونقل عنهم النعمة
فقال له صالح بن علي يا أمير المؤمنين إن عبيد الله بن مروان لما دخل أرض
النوبة هاربا فيمن اتبعه سأل ملك النوبة عنهم فأخبر فركب إلى عبيد الله فكلمه
بكلام عجيب في هذا النحو لا أحفظه وأزعجه عن بلده
فإن رأى أمير المؤمنين أن يدعو به من الحبس بحضرتنا في هذه الليلة ويسأله عن
ذلك
فأمر المنصور بإحضاره وسأله عن القصة فقال يا أمير المؤمنين قدمت أرض
النوبة بأثاث سلم لي فافترشته بها وأقمت ثلاثا فأتاني ملك النوبة وقد خبر
أمرنا فدخل علي رجل طوال أقنى حسن الوجه فقعد على الأرض ولم يقرب
الثياب
فقلت ما يمنعك أن تقعد على ثيابنا
فقال إني ملك وحق على كل ملك أن يتواضع لعظمة الله عز وجل إذ رفعه
الله
ثم أقبل علي فقال لي لم تشربون الخمور وهي محرمة عليكم في كتابكم
فقلت اجترأ على ذلك عبيدنا وسفهاؤنا
قال فلم تطؤون الزرع بدوابكم والفساد محرم عليكم في كتابكم
قلت يفعل ذلك جهالنا
قال فلم تلبسون الديباج والحرير وتستعملون الذهب والفضة وهو محرم عليكم
فقلت زال عنا الملك وقل أنصارنا فانتصرنا بقوم من العجم دخلوا في ديننا
فلبسوا ذلك على الكره منا
234

فأطرق مليا وجعل يقلب يده وينكت في الأرض
ثم قال ليس ذلك كما ذكرت بل أنتم قوم استحللتم ما حرم عليكم وركبتم ما
عنه نهيتم وظلمتم فيما ملكتم فسلبكم الله تعالى العز وألبسكم الذل بذنوبكم ولله
تعالى فيكم نقمة لم تبلغ نهايتها وأخاف أن يحل بكم العذاب وأنتم ببلدي فيصيبني
معكم وإنما الضيافة ثلاث فتزودوا ما احتجتم إليه وارتحلوا عن بلدي ففعلت
ذلك
وقد أخبرنا الله تعالى في كتابه أنه يحفظ الأبناء في الآباء فقال عز وجل وأما
الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا
فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك
وقال عمر رضي الله عنه في خطبته يوم استسقى بالعباس اللهم إنا نتقرب
إليك بعم نبيك صلى الله عليه وسلم وبقية آبائه وكبراء رجاله فإنك تقول وقولك الحق وأما
الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما
صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما فحفظتهما لصلاح
أبيهما فاحفظ اللهم نبيك في عمه فقد دلونا به إليك مستشفعين ومستغفرين
وقد يجوز كما حفظ أبناء أوليائه لآبائهم أن لا يحفظ أبناء أعدائه لآبائهم وهو
الفعال لما يشاء
وقد كانت عائشة رضي الله عنها تنكر هذا الحديث وتقول من قال به فقد
فجر
وهذا ظن من عائشة وتأويل ولا يجوز حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لظنها ولو
كانت حكت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا في مخالفته كان قولها مقبولا ولو كان عبد
الله بن عمر نقله وحده توهم عليه كما قالت الغلط
235

ولكن قد نقله جماعة من الصحابة فيهم عمر وعمران بن حصين وابن عمر
وأبو موسى الأشعري
فإن قالوا فإن هذا ظلم وقد تبرأ الله عز وجل من الظلم إذ يقول وما أنا
بظلام للعبيد
أجبناهم بقول إياس بن معاوية فإنه قال قلت لبعضهم ما الظلم في كلام
العرب
فقال أن يأخذ الرجل ما ليس
قلت فإن الله تعالى له كل شئ
قالوا حديث يبطله النظر
قالوا رويتم أن أبا ذر قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مباضعة الرجل أهله يلذ يا
رسول الله ويؤجر
قال أرأيت لو وضعته في حرام ألست تأثم قال نعم
قال فكذلك تؤجر في وضعك إياه في الحلال
قالوا والوضع في الحرام معصية والوضع في الحلال إباحة فكيف يجوز أن
يؤجر في الإباحة ولو جاز هذا لجاز أن يؤجر على أكل الطعام إذا جاع وعلى
شرب الماء إذا عطش
وكيف يقول هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعلم الخلق بالكلام وبما
يجوز وبما لا
يجوز
رضي الله تعالى عنها قال أبو محمد ونحن نقول إن الرجل قد تكون له المرأة العجوز أو القبيحة
فتطمح نفسه إلى غيرها من الحرام وهو له معترض وممكن فيدعه طاعة لله عز
236

وجل فيكون في إتيان الحلال وهو له غير مشته مأجورا
وتكون له المرأتان إحداهما سوداء شوهاء والأخرى بيضاء حسناء فيسوي
بينهما وهو في الواحدة منهما راغب ولما يأتيه إلى الأخرى متجشم فيؤجر في ذلك
ولو أن رجلا أكل خبز الشعير الحلال وترك النقي الحرام وهو يقدر عليه كان عند
الناس مأجورا على أكل خبز الشعير
بل لو قال قائل إن المؤمن مأجور على أكله وشربه وجماعه مع قول رسول الله
صلى الله عليه وسلم إن المؤمن ليؤجر في كل شئ حتى في رفع اللقمة إلى فيه ما كان فيما
أرى إلا مصيبا
قالوا حديث يكذبه النظر
قالوا رويتم أن قرودا رجمت قردة في زنا فإن كانت القرود إنما رجمتها في
الاحصان فذلك أظرف للحديث وعلى هذا القياس فإنكم لا تدرون لعل القرود
تقيم من أحكام التوراة أمورا كثيرة ولعل دينها اليهودية بعد وإن كانت القرود
يهودا فلعل الخنازير نصارى
قال أبو محمد ونحن نقول في جواب هذا الاستهزاء إن حديث القرود ليس عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه وإنما هو شئ ذكر عن عمرو بن ميمون
حدثني محمد بن خالد بن خداش قال نا مسلم بن قتيبة عن هشيم عن حصين عن
عمرو بن ميمون قال زنت قردة في الجاهلية فرجمتها القرود ورجمتها معهم
قال أبو محمد وقد يمكن أن يكون رأي القرود ترجم قردة فظن أنها ترجمها لأنها
زنت وهذا لا يعلمه أحد إلا ظنا لان القرود لا تنبئ عن أنفسها والذي يراها تتسافد
لا يعلم أزنت أم لم تزن هذا ظن
ولعل الشيخ عرف أنها زنت بوجه من الدلائل لا نعلمه فإن القرود أزنى البهائم
والعرب تضرب بها المثل فتقول أزنى من قرد
237

ولولا أن الزنا منه معروف ما ضربت به المثل وليس شئ أشبه بالانسان في
الزواج والغيرة منه
والبهائم قد تتعادى ويثب بعضها على بعض ويعاقب بعضها بعضا فمنها ما
يعض ومنها ما يخدش ومنها ما يكسر ويحطم والقرود ترجم بالأكف التي جعلها
الله لها كما يرجم الانسان
فإن كان إنما رجم بعضها بعضا لغير زنا فتوهمه الشيخ لزنا فليس هذا ببعيد
وإن كان الشيخ استدل على الزنا منها بدليل وعلى أن الرجم كان من أجله فليس
ذلك أيضا ببعيد لأنها على ما أعلمتك أشد البهائم غيرة وأقربها من بني آدم
أفهاما
قال أبو محمد وأنا أظن أنها الممسوخ بأعيانها توالدت
واستدللت على ذلك بقول الله عز وجل قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة
عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير
فدخول الألف واللام في القردة والخنازير يدل على المعرفة وعلى أنها هي
القردة التي نعاين
ولو كان أراد شيئا انقرض ومضى لقال وجعل منهم قردة وخنازير
إلا أن يصح حديث أم حبيبة في الممسوخ فيكون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم
ولسنا نقول إنها فعلت ذلك لأنها علمت بحكم التوراة كما يقول المستهزئ
ولكنا نقول إنها عاقبت بالرجم إما على الزنا أو على غير ذلك من أجل أكفها
كما يخدش غيرها ويعض ويكسر إذا كانت أكفها كأكف بني آدام وكان بن آدم لا
ينال ما يريد أذاه إذا بعد عنه إلا بالرجم
238

ومما يزيد في الدلالة على أن القرود هي الممسوخ بأعيانها إجماع الناس على تحريمها
بغير كتاب ولا أثر كما أجمعوا على تحريم لحوم الناس بغير كتاب ولا أثر
قالوا أحاديث تدل على خلق القرآن
قالوا رويتم قلب القرآن يس وسنام القرآن البقرة وتجئ البقرة وآل
عمران يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو خرقان من طير صواف
ويأتي القرآن الرجل في قبره فيقول له كيت وكيت
وهذا كله يدل على أن القرآن مخلوق
ولا يجوز أن يكون ماله قلب وسنام وما كان غمامة أو غياية غير مخلوق
قال أبو محمد ونحن نقول إنه قد كان ينبغي لهؤلاء إذا كانوا أصحاب كلام
وقياس أن يعلموا أن القرآن لا يكون حسما ولا ذا حدود وأقطار
وإنما أراد بقوله سنام القرآن البقرة أعلاه كما أن السنام من البعير أعلاه
وأراد بقوله قلب القرآن يس أنها من القرآن كمحل القلب من البدن
وأراد بقوله تجئ البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أن ثوابهما يأتي قارئهما
حتى يظله يوم القيامة ويأتي ثوابه الرجل في قبره ويأتي الرجل يوم القيامة حتى يجادل
عنه
ويجوز أن يكون الله تعالى يجعل له مثالا يحاج عنه ويستنقذه
239

قال أبو محمد حدثنا أبو الخطاب بن زياد يحيى قال حدثنا عبد الاعلى قال
حدثنا محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم يمثل القرآن يوم القيامة برجل ويؤتى بالرجل قد كان يضيع فرائضه
ويتعدى حدوده ويخالف طاعته ويركب معصيته
قال فينتتل خصما له فيقول أي رب حملت إياي شر حامل تعدى
حدودي وضيع فرائضي وترك طاعتي وركب معصيتي
فما يزال يقذف بالحجج عليه حتى يقال له فشأنك به قال
فيأخذ بيده فلا يفارقه حتى يكبه على منخره في النار
ويؤتى بالرجل قد كان يحفظ حدوده ويعمل بفرائضه ويأخذ بطاعته ويجتنب
معصيته فينتتل خصما له فيقول أي رب حملت إياي خير حامل اتقى حدودي
وعمل بفرائضي واتبع طاعتي وترك معصيتي
فما يزال يقذف له بالحجج عليه حتى يقال فشأنك به
قال فيأخذ بيده فما يرسله حتى يكسوه حلة الإستبرق ويعقد على رأسه تاج
الملك ويسقيه بكأس الخلد
أفما في قوله يمثل القرآن دليل على أنه يجعل له مثال ليعلم صاحبه التالي له
والعامل به أن القرآن هو المستنقذ له
والقرآن نفسه لا يكون رجلا ولا جسما ولا يتكلم لأنه كلام
ولو أمعن هؤلاء النظر وأوتوا طرفا من التوفيق لعلموا أنه لا يجوز أن يكون
القرآن مخلوقا لأنه كلام الله تعالى وكلام الله من الله وليس من الله عز وجل شئ
مخلوق
240

ويعتبر ذلك برد الامر إلى ما يفهمون من كلامنا لان كلامنا ليس عملا لنا
إنما هو صوت وحروف مقطعة وكلاهما لا يجوز أن يكون لنا فعلا لأنهما جميعا
خلق الله
وإنما لنا من العمل فيهما الأداء والثواب من الله تعالى يقع عليه
ومثل ذلك مثل رجل أودعته مالا ثم استرجعته منه فأداه إليك بيده فليس له
في المال ولا في اليد ثواب وإنما الثواب في تأدية المال
وكذلك الثواب لك في تأدية القرآن بالصوت والحروف المقطعة
والقرآن بهذا النظم وهذا التأليف كلام الله تعالى ومنه بدا
وكل من أداه فهو مؤد لكلام الله تعالى لا يزيل ذلك عنه أن يكون هو القارئ
له
ولو أن رجلا ألف خطبة أو عمل قصيدة ثم نقل ذلك عنه لم يكن الكلام ولا الشعر عملا للناقل
وإنما يكون الشعر للمؤلف وليس للناقل منه إلا الأداء
قالوا أحاديث يخالفها الاجماع
قالوا رويتم عن أيوب عن بن سيرين عن عمرو بن وهب الثقفي عن المغيرة
بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم تبرز لحاجته فأتبعته بماء فتوضأ ومسح على عمامته ثم صلى
الغداة
ورويتم عن أبي معاوية عن الأعمش عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى
عن كعب بن عجرة عن بلال أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخمار
ورويتم عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن
عبد الرحمن عن عمرو بن أمية الضمري قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح
على العمامة
241

قالوا وهذه طرق جياد عندكم وقد تركتم العمل بها من غير أن ترووا لذلك
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسخا
قال أبو محمد ونحن نقول إن الحق يثبت عندنا بالاجماع أكثر من ثبوته
بالرواية لان الحديث قد تعترض فيه عوارض من السهو والاغفال وتدخل عليه الشبه
والتأويلات والنسخ ويأخذه الثقة عن غير الثقة
وقد يأتي بأمرين مختلفين وهما جميعا جائزان كالتسليمة الواحدة
والتسليمتين
وقد يحضر الامر يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم رجل ثم يأمر بخلافه ولا يحضره هو
فينقل إلينا الأمر الأول ولا ينقل إلينا الثاني لأنه لم يعلمه
والاجماع سليم من هذه الأسباب كلها ولذلك كان مالك رحمه الله يروي عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث ثم يقول والعمل ببلدنا على كذا لامر يخالف ذلك
الحديث لان بلده بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وإذا كان العمل في عصره على أمر من الأمور صار العمل في العصر الثاني عليه
وكذلك في العصر الثالث والرابع وما بعده
ولا يجوز أن يكون الناس جميعا ينتقلون عن شئ كانوا عليه في بلده وعصره
إلى غيره
فقرن عن قرن أكثر من واحد عن واحد
وقد روى الناس أحاديث متصلة وتركوا العمل بها
منها حديث سفيان وحماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن جابر عن بن
عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة آمنا لا
يخاف
والفقهاء جميعا على ترك العمل بهذا إما لأنه منسوخ أو لأنه فعله في حال
ضرورة إما لمطر أو شغل
242

ومنها حديث سفيان عن عمرو بن دينار عن عوسجة عن بن عباس أن
رجلا توفي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يدع وارثا إلا مولى هو أعتقه فأعطاه
رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراثه
والفقهاء على خلاف ذلك إما لاتهامهم عوسجة بهذا وأنه ممن لا يثبت به فرض
أو سنة
وإما لتحريف في التأويل كأن تأويله لم يدع وارثا إلا مولى هو أعتق الميت
فيجوز على هذا التأويل أن يكون وارثا لأنه مولى المتوفى
وإما النسخ
ومنها حديث شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن
البراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقنت في صلاة الصبح والمغرب
والناس يتنازعون في القنوت في الصبح ولا يختلفون في تركه في المغرب
ومثل هذا كثير
وكذلك المسح على العمامة والخمار وقد أجمع الفقهاء على تركه ولم يجمعوا على
ذلك مع مجيئه من الطريق المرتضى عندهم إلا لنسخ أو لأنه رئي يمسح على
العمامة وعلى الرأس تحت العمامة
فنقل الناقل أغر ب الخبرين لان المسح على الرأس لا ينكر ولا يستغرب إذ كان
الناس جميعا عليه وإنما يستغرب الخمار
واستشهدوا على ذلك بحديث آخر للمغيرة رواه الوليد بن مسلم عن ثور عن
رجاء بن حياة عن وراد عن المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته وعمامته
والمسح بالناصية فرض في الكتاب فلا يزول بحديث مختلف في لفظه
243

ونحو هذا رواية بعضهم أنه مسح على النعلين ورواية آخر أنه مسح على
الجوربين
وإنما مسح على الجوربين في النعلين
فنقل كل واحد أحد الامرين
قالوا حديثان مختلفان في ذراري المشركين
قالوا رويتم أن الصعب بن جثامة قال يا رسول الله ذراري المشركين تطؤهم
خيلنا في ظلم الليل عند الغارة قال هم من آبائهم
قالوا ثم رويتم أنه بعث سرية فقتلوا النساء والصبيان فأنكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم
إنكارا شديدا
فقالوا يا رسول الله إنهم ذراري المشركين
قال أوليس خياركم ذراري المشركين
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس بين الحديثين اختلاف
لان الصعب بن جثامة أعلمه أن خيل المسلمين تطؤهم في ظلم الليل عند الغارة
فقال هم من آبائهم
يريد أن حكمهم في الدنيا حكم آبائهم فإذا كان الليل وكانت الغارة
ووقعت الفرصة في المشركين فلا تكفوا من أجل الأطفال لان حكمهم حكم آبائهم
من غير أن تتعمدوا قتلهم
ثم أنكر في الحديث الثاني على السرية قتلهم النساء والصبيان لأنهم تعمدوا ذلك
لشرك آبائهم فقال أوليس خياركم ذراري المشركين
يريد فلعل فيهم من يسلم إذا بلغ ويحسن إسلامه
244

قالوا حديث ينقض بعضه بعضا
قال رويتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سعد بن معاذ لقد اهتز لموته العرش ولقد
تبادر إلى غسله سبعون ألف ملك وما كدت أصل إلى جنازته
ثم رويتم أنه قال لو نجا أحد من عذاب القبر لنجا سعد بن معاذ ولقد ضغط
ضغطة اختلفت لها أضلاعه
قالوا كيف يتحرك عرش الله تعالى لموت أحد وإن كان هذا جائزا فالأنبياء
أولى به
وقد رويتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته
وإذا كانت الشمس وكان القمر وهما على ما رويتم ثوران مكوران في
النار فكيف بالعرش المجيد وعلى أن العرش لو تحرك لتحرك بحركته السماوات
والأرض وكيف يتحرك العرش لموت من يعذبه الله تعالى ويضم عليه قبره حتى
تختلف فيه أضلاعه
وكيف يعذب من يغسله سبعون ألف ملك ولا يصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنازته
لازدحام الملائكة عليها
قال أبو محمد ونحن نقول إنه قد تأول هذا الحديث قوم
فذهبوا فيه إلى أن الاهتزاز من العرش إنما هو الحركة كما يهتز الرمح وكما
تهتز الشجرة إذا حركتها الريح
وإذا كان التأويل على هذا وقعت الشناعة ووجبت الحجة التي احتج بها هؤلاء
وقال قوم العرش ههنا السرير الذي حمل عليه سعد بن معاذ تحرك
245

وإذا كان التأويل على هذا لم يكن لسعد في هذا القول فضيلة ولم يكن في
الكلام فائدة لان كل سرير من سرر الموتى لا بد من أن يتحرك لتجاذب الناس
إياه
وبعد فكيف يجوز أن يكون العرش السرير الذي حمل عليه سعد بن معاذ وقد
روي في حديث آخر اهتز عرش الرحمن لموته
وليس الاهتزاز ما ذهبوا إليه من الحركة ولا العرش ما ذهب إليه الآخرون
بل الاهتزاز الاستبشار والسرور يقال إن فلانا ليهتز للمعروف أي
يستبشر ويسر
وإن فلانا لتأخذه للثناء هزة أي ارتياح وطلاقة
ومنه قيل في المثل إن فلانا إذا دعي اهتز وإذا سئل ارتز
والكلام لأبي الأسود الدؤلي يري أنه إذا دعي إلى طعام يأكله اهتز أي ارتاح
وسر
وإذا سئل الحاجة ارتز أي ثبت على حاله ولم يطلق
فهذا معنى الاهتزاز في هذا الحديث
وأما العر ش فعرش الرحمن عز وجل على ما جاء في الحديث
وإنما أراد باهتزازه استبشار الملائكة الذين يحملونه ويحفون حوله بروح سعد بن
معاذ
فأقام العرش مقام من يحمله ويحيط به من الملائكة كما قال الله عز وجل فما
بكت عليهم السماء والأرض
يريد ما بكى عليهم أهل السماء ولا أهل الأرض
فأقام السماء والأرض مقام أهلهما
246

وكما قال واسأل القرية أي سل أهلها
وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم في أحد هذا جبل يحبنا ونحبه
يريد يحبنا أهله يعني الأنصار ونحبه أي نحب أهله
كذلك أقام العرش مقام حملته والحافين من حوله
وقد جاء في الحديث أن الملائكة تستبشر بروح المؤمن وأن لكل مؤمن بابا في
السماء يصعد فيه عمله وينزل منه رزقه ويعرج فيه بروحه إذا مات ثم يرد
ويدل على هذا التأويل أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم لقد تبادر إلى غسله سبعون ألف
ملك
وهذا التأويل بحمد الله تعالى سهل قريب
كأنه قال لقد استبشر حملة العرش والملائكة حوله بروح سعد
وأما قولهم كيف يعذب من تبادر إلى غسله سبعون ألف ملك
فإن للموت وللبعث والقيامة زلازل شداد وأهوالا لا يسلم منها نبي ولا ولي
يدلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بالله من عذاب القبر
ولو كان يستحيل ما تعوذ منه ولكنه خاف ما قضى الله عز وجل من ذلك على
جميع عباده وأخفاه عنهم فلم يجعل منهم أحدا على أمن ولا طمأنينة
ويدلك قول الأنبياء صلوات الله عليهم يوم القيامة يا رب نفسي نفسي
وقول نبينا صلى الله عليه وسلم يا رب أمتي أمتي
ويدلك قول الله عز وجل وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما
مقضيا
أعلمنا أنه ليس من أحد إلا يرد النار ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها
جثيا
247

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لو كان لي طلاع الأرض ذهبا
لافتديت به من هول المطلع
وقال بن عباس في قول الله عز وجل يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا
أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب تدخلهم دهشة من أهوال يوم
القيامة
قالوا حديث يكذبه النظر
قالوا رويتم عن عبد الله بن نمير عن عبيد الله عن نافع عن بن عمر عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال في الضب لا آكله ولا أنهى عنه ولا أحله ولا أحرمه
وقالوا إذا كان هو عليه السلام لا يأكل ولا ينهى ولا يحلل ولا يحرم
فإلى من المفزع في التحليل والتحريم والاعراب تأكل الضباب وتعجب بها
قال أبو وائل ضبة مكون أحب إلي من دجاجة سمينة
وقد أكله خالد بن الوليد معه وأكله عمر ولا يجوز أن يكون هؤلاء أقدموا
على الشبهة
قال أبو محمد ونحن نقول إن هذا الحديث قد وقع فيه سهو من بعض النقلة
وكان لا آكله ولا أنهى عنه حسب
248

فظن أنه لا يحله ولا يحرمه كما أنه لا يأكله ولا ينهى عنه وبين الامرين فرق لأنه
لم يتركه من جهة التحريم وإنما تركه لأنه عافه
وكذلك قال عمر رضي الله عنه حين أتي بضب فوضع يده في كشيته وقال
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحرمه ولكنه قذره
ويوضح لك هذا أيضا أن وهب بن جرير روى عن شعبة عن توبة العنبري عن
الشعبي عن بن عمر قال كان ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يأكلون شيئا وفيهم
سعد بن مالك فنادتهم امرأة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إنه ضب فأمسكوا
فقال النبي صلى الله عليه وسلم كلوا فإنه حلال لا بأس به ولكنه ليس من طعام قومي
وهذا الحديث يدل على غلط الناقل عن بن عمر لأنه لا يجوز أن يروي
الحديثين جميعا وهما متنافيان
وأما تركه أكله وهو حلال عنده فليس كل الحلال تطيب النفوس به ولا يحسن
بالمرء أن يفعله
فقد أحل الله تعالى لنا الشاء ولم يحرم علينا منها إلا الدم المسفوح
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره منها المثانة والغدة والمصران والأنثيين والطحال
وقد روي في الخبر ذكاة الجنين ذكاة أمه والنفوس لا تطيب بأكله
ومن المحرم شئ لم ينزل بتحريمه تنزيل ولا سنة وكل الناس فيه إلى فطرهم
وما جبلوا عليه كلحم الانسان ولحم القرد ولحوم الحيات والأبارص والعظاء
249

والفأر وأشباه ذلك
وليس من هذا شئ إلا والنفوس تعافه
وقد أعلمنا الله تبارك وتعالى في كتابه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرم علينا الخبائث
وهذه كلها خبيثة في الفطر
وأما ما لا يحسن بالمرء أن يفعله من الحلال فعدو الكهل في الطريق من غير أن
يحفزه أمر والخصومة في مهر الام وإلقاء الرداء عن المنكبين وغزل القطن
على الطريق والتحلي بالشئ من حلي المرأة والاكل في الأسواق
قال أبو محمد حدثني أبو الخطاب قال نا أبو عتاب عن محمد بن الفرات عن
سعيد بن لقمان عن عبد الرحمن الأنصاري عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول الاكل في السوق دناءة
وفي بعض الحديث إن الله تعالى يحب معالي الأمور ويكره سفسافها
قالوا حديث في التشبيه يكذبه القرآن والاجماع
قالوا رويتم أن الله تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل
فيقول هل من داع فأستجيب له أو مستغفر فأغفر له وينزل عشية عرفة إلى أهل عرفة
وينزل في ليلة النصف من شعبان
وهذا خلاف لقوله تعالى ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة
إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا
250

وقوله عز وجل وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله
وقد أجمع الناس على أنه بكل مكان ولا يشغله شأن عن شأن
قال أبو محمد ونحن نقول في قوله ما يكون من نجو ثلاثة إلا هو رابعهم
ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما
كانوا إنه معهم بالعلم بما هم عليه كما تقول للرجل وجهته إلى بلد شاسع
ووكلته بأمر من أمورك احذر التقصير والاغفال لشئ مما تقدمت فيه إليك فإني
معك تريد أنه لا يخفى علي تقصيرك أو جدك للاشراف عليك والبحث عن
أمورك
وإذا جاز هذا في المخلوق الذي لا يعلم الغيب فهو في الخالق الذي يعلم الغيب
أجوز
وكذلك هو بكل مكان يراد لا يخفى عليه شئ مما في الأماكن فهو فيها
بالعلم بها والإحاطة
وكيف يسوغ لاحد أن يقول إنه بكل مكان على الحلول مع قوله الرحمن على
العرش استوى أي استقر كما قال فإذا استويت أنت ومن معك على
الفلك أي استقررت
ومع قوله تعالى إليه يصعد الكلم الطيب والعلم الصالح يرفعه
وكيف يصعد إليه شئ هو معه أو يرفع إليه عمل وهو عنده وكيف تعرج
الملائكة والروح إليه يوم القيامة
251

وتعرج بمعنى تصعد يقال عرج إلى السماء إذا صعد والله عز وجل ذو
المعارج والمعارج الدرج
فما هذه الدرج وإلى من تؤدي الاعمال الملائكة إذا كان بالمحل الاعلى مثله
بالمحل الأدنى
ولو أن هؤلاء رجعوا إلى فطرهم وما ركبت عليه خلقتهم من معرفة الخالق
سبحانه لعلموا أن الله تعالى هو العلي وهو الاعلى وهو بالمكان الرفيع وأن
القلوب عند الذكر تسمو نحوه والأيدي ترفع بالدعاء إليه
ومن العلو يرجى الفرج ويتوقع النصر وينزل الرزق
وهنالك الكرسي والعرش والحجب والملائكة
يقول الله تبارك وتعالى إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ولا
يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون
وقال في الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون
وقيل لهم شهداء لأنه يشهدون ملكوت الله تعالى واحدهم شهيد كما يقال
عليم وعلماء وكفيل وكفلاء
وقال تعالى لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا أي لو أردنا أن
نتخذ امرأة وولد لاتخذنا ذلك عندنا لا عندكم لان زوج الرجل وولده يكونان
عنده وبحضرته لا عند غير
والأمم كلها عربيها وعجميها تقول إن الله تعالى في السماء ما تركت على
فطرها ولم تنقل عن ذلك بالتعليم
252

وفي الحديث إن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمة أعجمية للعتق فقال لها رسول
الله صلى الله عليه وسلم أين الله تعالى
فقالت في السماء قال فمن أنا قالت أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال عليه الصلاة والسلام هي مؤمنة وأمره بعتقها هذا أو نحوه
وقال أمية بن أبي الصلت
مجدوا الله وهو للمجد أهل * ربنا في السماء أمسى كبيرا
بالبناء الاعلى الذي سبق الناس * وسوى فوق السماء سريرا
شرجعا ما يناله بصر العين ترى دونه الملائك صورا
وصور جمع أصور وهو المائل العنق
وهكذا قيل في الحديث إن حملة العرش صور وكل من حمل شيئا ثقيلا على
كاهله أو على منكبه لم يجد بدا من أن يميل عنقه
وفي الإنجيل الصحيح إن المسيح عليه السلام قال لا تحلفوا بالسماء فإنها كرسي
الله تعالى
وقال للحواريين إن أنتم غفرتم للناس فإن ربكم الذي في السماء يغفر لكم
ظلمكم انظروا إلى طير السماء فإنهن لا يزرعن ولا يحصدن ولا يجمعن في الأهواء
وربكم الذي في السماء هو يرزقهن أفلستم أفضل منهن
ومثل هذا من الشواهد كثير يطول به الكتاب
وأما قوله وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله فليس في ذلك ما يدل
على الحلول بهما
253

وإنما أراد به أنه إله السماء وإله من فيها وإله الأرض وإله من فيها
ومثل هذا من الكلام قولك هو بخراسان أمير وبمصر أمير
فالامارة تجتمع له فيهما وهو حال بإحداهما أو بغيرهما وهذا واضح لا يخفى
فإن قيل لنا كيف النزول منه عز وجل
قلنا لا نحتم على النزول منه بشئ ولكنا نبين كيف النزول منا وما تحتمله اللغة
من هذا اللفظ والله أعلم بما أراد
والنزول منا يكون بمعنيين
أحدهما الانتقال عن مكان إلى مكان كنزولك من الجبل إلى الحضيض ومن
السطح إلى الدار
والمعنى الآخر إقبالك على الشئ بالإرادة والنية
وكذلك الهبوط والارتقاء والبلوغ والمصير وأشباه هذا من الكلام
ومثال ذلك أن يسألك سائل عن محال قوم من الاعراب وهو لا يريد المصير إليهم
فتقول له إذا صرت إلى جبل كذا فأنزل منه وخذ يمينا وإذا صرت إلى وادي
كذا فاهبط فيه ثم خذ شمالا وإذا صرت إلى أرض كذا فاعتل هضبة هناك
حتى تشرف عليهم
وأنت لا تريد في شئ مما تقوله افعله ببدنك إنما تريد افعله بنيتك وقصدك
وقد يقول القائل بلغت إلى الأحرار تشتمهم وصرت إلى الخلفاء تطعن عليهم
وجئت إلى العلم تزهد فيه ونزلت عن معالي الأخلاق إلى الدناءة
وليس يراد في شئ من هذا انتقال الجسم
254

وإنما يراد به القصد إلى الشئ بالإرادة والعزم والنية
وكذلك قوله عز وجل إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون
لا يريد أنه معهم بالحلول ولكن بالنصرة والتوفيق والحياطة
وكذلك قوله تعالى من تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا ومن أتاني يمشي أتيته
هرولة
قال أبو محمد وحدثنا عن عبد المنعم عن أبيه عن وهب بن منبه أن موسى
صلى الله عليه وسلم لما نودي من الشجرة اخلع نعليك أسرع الإجابة وتابع التلبية وما كان
ذلك إلا استئناسا منه بالصوت وسكونا إليه
وقال إني أسمع صوتك وأحس وجسك ولا أرى مكانك فأين أنت
فقال أنا فوقك وأمامك وخلفك ومحيط بك وأقرب إليك من نفسك
يريد أني أعلم بك منك بنفسك لأنك إذ نظرت إلى ما بين يديك خفي عنك
ما وراءك وإذا سموت بطرفك إلى ما فوقك ذهب عنك علم ما تحتك وأنا لا
تخفى علي خافية منك في جميع أحوالك
ونحو هذا قول رابعة العابدة شغلوا قلوبهم عن الله عز وجل بحب الدنيا ولو
تركوها لجالت في الملكوت ثم رجعت إليهم بطرف الفوائد
ولم ترد أن أبدانهم وقلوبهم تجول في السماء بالحلول ولكن تجول هناك بالفكرة
والقصد والاقبال
255

وكذلك قول أبي مهدية الاعرابي اطلعت في النار فرأيت الشعراء لهم كصيص
يعني التواء وأنشد
جناد بها صرعى لهن كصيص
أي التواء
ولو قال قائل في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها البله
واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء إن اطلاعه فيهما كان بالفكر والاقبال
كان تأويلا حسنا
قالوا حديث يكذبه النظر
قالوا رويتم عن حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار عن أبي هريرة عن النبي
صلى الله عليه وسلم أن موسى عليه السلام لطم عين ملك الموت فأعوره فإن كان يجوز على ملك
الموت العور جاز عليه العمى
ولعل عيسى بن مريم عليه السلام قد لطم الأخرى فأعماه لان عيسى عليه السلام
كان أشد للموت كراهية من موسى عليه السلام وكان يقول اللهم إن كنت صارفا
هذه الكأس عن أحد من الناس فاصرفها عني
قال أبو محمد ونحن نقول إن هذا الحديث حسن الطريق عند أصحاب الحديث
وأحسب له أصلا في الاخبار القديمة وله تأويل صحيح لا يدفعه النظر
والذي نذهب إليه فيه أن ملائكة الله تعالى روحانيون والروحاني منسوب إلى الروح نسبة الخلقة فكأنهم
أرواح لا جثث لهم فتلحقها الابصار ولا عيون لها
كعيوننا ولا أبشار كأبشارنا
256

ولسنا نعلم كيف هيأهم الله تعالى لأنا لا نعرف من الأشياء إلا ما شاهدنا وإلا
ما رأينا له مثالا
وكذلك الجن والشياطين والغيلان هي أرواح ولا نعلم كيفيتها
وإنما تنتهي في صفاتها إلى حيث ما وصف الله عز وجل لنا ورسوله صلى الله عليه وسلم
قال الله عز وجل جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث
ورباع
ثم قال يزيد في الخلق ما يشاء كأنه يزيد في تلك الأجنحة ما يشاء وفي
غيرها
وكانت العرب تدعو الملائكة جنا لأنهم اجتنوا عن الابصار كما اجتنت الجن
قال الأعشى يذكر سليمان بن داود عليهما السلا
وسخر من جن الملائك تسعة * قياما لديه يعملون بلا أجر
وقد جعل الله سبحانه للملائكة من الاستطاعة أن تتمثل في صور مختلفة
وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام في صورة دحية الكلبي وفي صورة
أعرابي ورآه مرة قد سد بجناحيه ما بين الأفقين
وكذلك جعل للجن أن تتمثل وتتخيل في صور مختلفة كما جعل للملائكة
قال الله عز وجل فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا
وليس ما تنتقل إليه من هذه الأمثلة على الحقائق إنما هي تمثيل وتخييل لتلحقها
الابصار
257

وحقائق خلقها أنها أرواح لطيفة تجري مجرى الدم وتصل إلى القلوب وتدخل
في الثرى وترى ولا ترى
قال الله تعالى في إبليس إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم يريد
أنا لا نراهم في حقائق هيئاتهم
وقال أيضا وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الامر ثم لا
ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا
يريد لو أنزلنا ملكا لم تدركه حواسهم لأنها لا تلحق حقائق هيئات الملائكة
فكنا نجعله رجلا مثلهم ليروه ويفهموا عنه
وقد ذكر بن عباس في قصة الزهرة أن الله تعالى لما أهبط الملكين إلى الأرض
ليحكما بين أهلها نقلهما إلى صور الناس وركب فيهما الشهوة لأنه لا يجوز أن
يقضي بين الناس إلا من يرونه ويسمعون كلامه وإلا من شاكلهم وأشبههم
ولما تمثل ملك الموت لموسى عليه السلام وهذا ملك الله وهذا نبي الله وجاذبه لطمه موسى
لطمة أذهبت العين التي هي تخييل وتمثيل وليست حقيقة وعاد ملك
الموت عليه السلام إلى حقيقة خلقته الروحانية كما كان لم ينتقص منه شئ
قالوا حديث يكذبه النظر
قالوا رويتم أن عوجا اقتلع جبلا قدره فرسخ في فرسخ على قدر عسكر
موسى فحمله على رأسه ليطبقه عليهم فصار طوقا في عنقه حتى مات
وأنه كان يخوض البحر فلا يجاوز ركبتيه
وكان يصيد الحيتان من لججه ويشويها في عين الشمس
وأنه لما مات وقع على نيل مصر فجسر للناس سنة أي صار جسرا لهم يعبرون
عليه من جانب إلى جانب
258

وأن طول موسى عليه السلام كان عشرة أذرع وطول عصاه عشرة أذرع ووثب
من الأرض عشرة ليضربه فلم يبلغ عرقوبه
قالوا وهذا كذب بين لا يخفى على عاقل ولا على جاهل
وكيف صار في زمن موسى عليه السلام من خالف أهل الزمان هذه المخالفة
وكيف يجوز أن يكون من ولد آدم من يكون بينه وبين آدم هذا التفاوت
وكيف يطيق آدمي حمل جبل على رأسه قدره فرسخ في فرسخ
قال أبو محمد ونحن نقول إن هذا حديث لم يأت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن
صحابته وإنما هو خبر من الاخبار القديمة التي يرويها أهل الكتب سمعه قوم منهم
على قديم الأيام فتحدثوا به
والحديث يدخله الشوب والفساد من وجوه ثلاثة
منها الزنادقة واجتيالهم للاسلام وتهجينه بدس الأحاديث المستشنعة والمستحيلة
كالأحاديث التي قدمنا ذكرها من عرق الخيل وعيادة الملائكة وقفص الذهب على
جمل أورق وزغب الصدر ونور الذراعين مع أشياء كثيرة ليست تخفى على أهل
الحديث
منهم بن أبي العوجاء الزنديق وصالح بن عبد القدوس الدهري
والوجه الثاني القصاص على قديم الأيام فإنهم يميلون وجوه العوام إليهم
259

ويستدرون ما عندهم بالمناكير والغريب والأكاذيب من الأحاديث
ومن شأن العوام القعود عند القاص ما كان حديثه عجيبا خارجا عن فطر
العقول أو كان رقيقا يحزن القلوب ويستغزر العيون
فإذا ذكر الجنة قال فيها الحوراء من مسك أو زعفران وعجيزتها ميل في ميل
ويبوئ الله تعالى وليه قصرا من لؤلؤة بيضاء فيه سبعون ألف مقصورة في
كل مقصورة سبعون ألف قبة في كل قبة سبعون ألف فراش على كل فراش
سبعون ألف كذا
فلا يزال في سبعين ألف كذا وسبعين ألفا كأنه يرى أنه لا يجوز أن يكون العدد
فوق السبعين ولا دونها
ويقول لأصغر من في الجنة منزلة عند الله من يعطيه الله تعالى مثل الدنيا كذا
وكذا ضعفا
وكلما كان من هذا أكثر كان العجب أكثر والقعود عنده أطول والأيدي
بالعطاء إليه أسرع
والله تبارك وتعالى يخبرنا في كتابه بما في جنته بما فيه مقنع عن أخبار القصاص
وسائر الخلق حين وصف الجنة بأن عرضها السماوات والأرض يريد سعتها
والعرب تكني عن السعة بالعرض لان الشئ إذا اتسع عرض وإذا دق
واستطال ضاق
وتقول ضاقت علي الأرض العريضة أي الواسعة
وفي الأرض العريضة مذهب أي الواسعة
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمنهزمين يوم أحد لقد ذهبتم فيها عريضة أي واسعة
260

وقال الله تعالى فذو دعاء عريض أي كثير
فكيف يكون عرضها السماوات والأرض ويعطي الله تعالى أخس من فيها منزلة
فيها مثل الدنيا أضعافا
ويقول تعالى حين شوقنا إليها فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين
وقال حين ذكر المقربين على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين
يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين لا
يصدعون عنها ولا ينزفون وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون
وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون
وقال تعالى في أصحاب اليمين في سدر مخضود وطلح منضود وظل
ممدود وماء مسكوب وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة
وقال تعالى يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير
ومثل هذا كثير في القرآن العظيم ليس منه شئ إلا وهو شبيه بما يناله الناس في
الدنيا ويتنعم به المترفون خلا ما فضل الله تعالى به ما في الجنة وخلا الخلود
ثم يذكر آدم عليه السلام ويصفه فيقول كان رأسه يبلغ السحاب أو السماء
ويحاكها فاعتراه لذلك الصلع ولما هبط إلى الأرض بكى على الجنة حتى بلغت
دموعه البحر وجرت فيها السفن
ويذكر داود عليه السلام فيقول سجد لله تعالى أربعين ليلة وبكى حتى نبت
العشب بدموع عينيه ثم زفر زفرة هاج له ذلك النبات
261

ويذكر عصا موسى عليه السلام فيقول كان نابها كنخلة سحوق وعينها كالبرق
الخاطف وعرفها كذا
والله تعالى يقول كأنها جان والجان خفيف الحيات
وذكرها في موضع آخر فقال ثعبان مبين فإذا هي ثعبان
ويذكر عبادا أتاهم يونس عليه السلام في جبل لبنان فيخبرهم عن الرجل منهم
أنه كان يركع ركعة في سنة ويسجد نحو ذلك ولا يأكل إلا في كذا وكذا من
الزمان
وقد ذكر الله تبارك وتعالى الذين قبلنا فقال كانوا أشد منكم قوة وأكثر
أموالا وأولادا
وقال تعالى وزاده بسطة في العلم والجسم وقال تعالى أتبنون بكل
ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم
جبارين
وليس في شئ مما وصف الله تعالى به من قبلنا ما يقارب هذا الافراط
وقد نعلم أنهم كانوا أعظم منا أجساما وأشد قوة غير أن المقدار فيما بيننا
وبينهم مقدار ما جعله الله بين أعمارنا وأعمارهم
فهذا آدم أبو البشر صلى الله عليه وسلم إنما عمر ألف سنة بذلك تتابعت الاخبار ووجدته
في التوراة
وهذا نوح صلى الله عليه وسلم لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما
ثم انتقصت الاعمار بعد نوح عليه السلام إلا ما جاءت به الاخبار في عمر لقمان
صاحب النسور فإنهم ذكروا أنه عاش أعمار سبعة أنسر
262

وكان مقدار ذلك ألفي سنة وأربع مائة سنة ونيفا وخمسين سنة
وهذا شئ متقادم لم يأت فيه كتاب ولا ثقة وليس له إسناد وإنما هو شئ
يحكيه عبيد بن شرية الجرهمي وأشباهه من النساب
وكذلك أعمار ملوك اليمن المتقدمين ثم ملوك العجم
وقد عمر قوم قربوا من زماننا أعمارا ليس بينها وبين ما صح من عمر آدم
ونوح صلى الله عليهما وسلم تفاوت شديد كتفاوت هذا الخلق
حدثنا أبو حاتم قال نا الأصمعي قال نا أبو عمرو بن العلاء قال مر المستوغر
بن ربيعة في سوق عكاظ ومعه بن ابنه خرفا ومستوغر يقوده فقال له قائل يا
هذا أحسن إليه فطالما أحسن إليك
قال ومن هو قال أبوك أو جدك فقال المستوغر هو والله بن ابني
فقال الرجل تالله ما رأيت كاليوم ولا مستوغر بن ربيعة
قال فأنا مستوغر
قال أبو عمرو عاش مستوغر ثلاثمائة سنة وعشرين سنة
قال أبو محمد وقد جعل الله تعالى لنا معتبرا بآثارهم على الأرض وما بنوه من
مدنهم وحصونهم ونقبوه في الجبال الصم من أبوابهم ونحتوه من درجهم
وليس في ذلك من التفاوت بيننا وبينهم إلا كما بين أعمارنا وأعمارهم وكذلك
الخلق
ولا أعلمني سمعت في التفاوت بأشد من شئ حدثنيه الرياشي عن مسلم بن
إبراهيم قال نا نوح بن قيس قال نا عبد الواحد بن نافع قال ولاني خالد بن عبد
263

الله حفر المبارك فجاءني العمال بضرس فوزنته فإذا فيه تسعة أرطال ولسنا
ندري أهو ضرس إنسان أو ضرس جمل أو فيل
وحدثني الرياشي قال نا عبد الله بن مسلمة عن أنس بن عياض عن زيد بن أسلم
قال وجد في حجاج رجل من العماليق ضبع وجراؤها
قال وهذا قد يمكن أن يكون حجاج جمل أو غيره فظنه الرائي له أنه حجاج
رجل
وعلى أنه لو كان حجاج رجل ما وقع فيه التفاوت لان الحجاج من الانسان إذا
خلا واسع ثم هو يفضي إلى القحف ولا ينكر في قدر أجسام المتقدمين أن
يكون في الحجاج والقحف ما ذكر
وأما الوجه الثالث الذي يقفيه فساد الحديث فأخبار متقادمة كان الناس في
الجاهلية يروونها تشبه أحاديث الخرافة كقولهم إن الضب كان يهوديا عاقا فمسخه
الله تعالى ضبا ولذلك قال الناس أعق من ضب
ولم تقل العرب أعق من ضب لهذه العلة وإنما قالوا ذلك لأنه يأكل حسوله
إذا جاع قال الشاعر
أكلت بنيك أكل الضب حتى * تركت بنيك ليس لهم عديد
وكقولهم في الهدهد إن أمه ماتت فدفنها في رأسه فلذلك أنتنت ريحه
264

وقد ذكر هذه أمية بن أبي الصلت فقال
غيم وظلماء وفضل سحابة * أيام كفن واستزاد الهدهد
يبغي القرار لامه ليجنها * فبنى عليها في قفاه يمهد
فيزال يدلج ما مشى بجنازة * منها وما اختلف الحديث المسند
وكقولهم في الديك والغراب إنهما كانا متنادمين فلما نفد شرابهما رهن الغراب
الديك عند الخمار ومضى فلم يرجع إليه وبقي الديك عند الخمار حارسا
قال أمية بن أبي الصلت
بآية قام ينطق كل شئ وخان أمانه الديك الغراب
وكقولهم في السنور إنها عطسة الأسد وفي الخنزير إنه عطسة الفيل وفي
الاربيانة أنها خياطة كانت تسرق الخيوط فمسخت وأن الجري كان يهوديا
فمسخ وحديث عوج عندنا من هذه الأحاديث
والعجب أن عوجا هذا كان في زمن موسى صلى الله عليه وسلم عندهم وله هذا الطول
العجيب
وفرعون في زمنه وهو ضده في القصر على ما ذكر الحسن
حدثنا أبو حاتم أو رجل عنده قال نا أبو زيد الأنصاري النحوي قال نا
عمرو بن عبيد عن الحسن قال ما كان طول فرعون إلا ذراعا وكانت لحيته ذراعا
265

قالوا أحاديث متناقضة
قالوا رويتم عن همام عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد
الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تكتبوا عني شيئا سوى القرآن فمن كتب عني
شيئا فليمحه
ثم رويتم عن بن جريج عن عطاء عن بن عمرو قال قلت يا رسول الله أقيد
العلم قال نعم قيل وما تقييده قال كتابته
ورويتم عن حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه
عن جده قال قلت يا رسول الله أكتب كل ما أسمع منك قال نعم
قلت في الرضا والغضب قال نعم فإني لا أقول في ذلك كله إلا الحق
قالوا وهذا تناقض واختلاف
قال أبو محمد ونحن نقول إن في هذا معنيين
أحداهما أن يكون من منسوخ السنة بالسنة كأنه نهى في أول الأمر عن أن يكتب
قوله ثم رأى بعد لما علم أن السنن تكثر وتفوت الحفظ أن تكتب وتقيد
والمعنى الاخر أن يكون خص بهذا عبد الله بن عمرو لأنه كان قارئا للكتب
المتقدمة ويكتب بالسريانية والعربية وكان غيره من الصحابة أميين لا يكتب منهم
إلا الواحد والاثنان وإذا كتب لم يتقن ولم يصب التهجي
فلما خشي عليهم الغلط فيما يكتبون نهاهم ولما أمن على عبد الله بن عمرو ذلك
أذن له
قال أبو محمد حدثنا إسحاق بن راهويه قال نا وهب بن جرير عن أبيه عن
يونس بن عبيد عن الحسن عن عمرو بن تغلب ب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أشراط
الساعة أن يفيض المال ويظهر القلم ويفشو التجار
266

قال عمرو إن كنا لنلتمس في الحواء العظيم الكاتب ويبيع الرجل البيع
فيقول حتى أستأمر تاح جر بني فلان
قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم عن حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن بن
عباس أنه قال الحجر الأسود من الجنة وكان أشد بياضا من الثلج حتى سودته خطايا
أهل الشرك
ثم رويتم أن بن الحنفية سئل عن الحجر الأسود فقال إنما هو من بعض هذه
الأودية
قالوا وهذا اختلاف
وبعد فكيف يجوز أن ينزل الله تعالى حجرا من الجنة وهل في الجنة حجارة
وإن كانت الخطايا سودته فقد ينبغي أن يبيض لما أسلم الناس ويعود إلى حالته
الأولى
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس بمنكر أن يخالف بن الحنفية بن عباس
ويخالف علي عمر وزيد بن ثابت بن مسعود في التفسير وفي الاحكام
وإنما المنكر أن يحكوا عن النبي صلى الله عليه وسلم خبرين مختلفين من غير تأويل
فأما اختلافهم فيما بينهم فكثير
فمنهم من يعمل على شئ سمعه ومنهم من يستعمل ظنه ومنهم من يجتهد رأيه
وذلك اختلفوا في تأويل القرآن وفي أكثر الاحكام
267

غير أن بن عبا س قال في الحجر بقول سمعه ولا يجوز غير ذلك لأنه يستحيل
أن يقول كان أبيض وهو من الجنة برأي نفسه
وإنما الظان بن الحنفية لأنه رآه بمنزلة غيره من قواعد البيت فقضى عليه بأنه
أخذ من حيث أخذت
والاخبار المقوية لقول بن عباس في الحجر وأنه من الجنة كثيرة
منها أنه يأتي يوم القيامة وله لسان وشفتان يشهد لمن استلمه بحق
ومنها أنه يمين الله عز وجل في الأرض يصافح بها من شاء من خلقه وقد تقدم
ذكر هذا
ومنها ما ذكره وهب بن منبه فإنه قال كان لؤلؤة بيضاء فسوده المشركون
وأما قولهم هل في الجنة حجارة
فما الذي أنكروه من أن يكون في الجنة حجارة وفيها الياقوت وهو حجر
والزمرد حجر والذهب والفضة من الحجارة
وما الذي أنكروه من تفضيل الله تعالى حجرا حتى لثم واستلم
والله تعالى يستعبد عباده بما شاء من العمل والفعل ويفضل بعض ما خلق على
بعض
فليلة القدر خير من ألف شهر ليست فيها ليلة القدر والسماء أفضل من الأرض
والكرسي أفضل من السماء والعرش أفضل من الكرسي والمسجد الحرام أفضل من
المسجد الأقصى والشام أفضل من العراق
وهذا كله مبتدأ بالتفضيل لا بعمل عمله ولا بطاعة كانت منه
كذلك الحجر أفضل من الركن اليماني والركن اليماني أفضل من قواعد البيت
والمسجد أفضل من الحرم والحرم أفضل من بقاع تهامة
268

وأما قولهم إن كانت الخطايا سودته فقد يجب أن يبيض لما أسلم الناس
فمن الذي أوجب أن يبيض بإسلام الناس ولو شاء الله تعالى لفعل ذلك من
غير أن يجب
وبعد فإنهم أصحاب قياس وفلسفة فكيف ذهب عليهم أن السواد يصبغ ولا ينصبغ والبياض
ينصبغ ولا يصبغ
قالوا أحاديث متناقضة
قالوا رويتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما أنا من دد ولا الدد مني
وأن عبد الله بن عمرو قال له أكتب كل ما أسمع منك في الرضا والغضب
فقال نعم إني لا أقول في ذلك كله إلا الحق
ثم رويتم أنه كان يمزح
وأنه استدبر رجلا من ورائه فأخذ بعينيه وقال من يشتري مني هذا العبد
ووقف على وفد الحبشة فنظر إليهم وهم يزفنون
وعلى أصحاب الدركلة وهم يلعبون
وسابق عائشة رضي الله عنها فسبقها تارة وسبقته أخرى
269

قال أبو محمد ونحن نقول إن الله عز وجل بعث رسوله صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة
ووضع عنه وعن أمته الإصر والاغلال التي كانت على بني إسرائيل في دينهم وجعل
ذلك نعمة من نعمه التي عددها وأوجب الشكر عليها
وليس من أحد فيه غريزة إلا ولها ضد في غيره
فمن الناس الحليم ومنهم العجول ومنهم الجبان ومنهم الشجاع ومنهم الحيي
ومنهم الوقاح ومنهم الدمث ومنهم العبوس
وفي التوراة أن الله تعالى قال إني حين خلقت آدم ركبت جسده من رطب
ويابس وسخن وبارد وذلك لأني خلقته من تراب وماء ثم جعلت فيه نفسا وروحا
فيبوسة كل جسد خلقته من التراب ورطوبته من قبل الماء وحرارته من قبل
النفس وبرودته من قبل الروح
ومن النفس حدته وخفته وشهوته ولهوه ولعبه وضحكه وسفهه وخداعه وعنفه
وخرقه
ومن الروح حلمه ووقاره وعفافه وحياؤه وفهمه وتكرمه وصدقه صبره
أفما ترى أن اللعب واللهو من غرائز الانسان والغرائز لا تملك
وإن ملكها المرء بمغالبة النفس وقمع المتطلع منها لم يلبث إلا يسيرا حتى يرجع
إلى الطبع
وكان يقال الطبع أملك وقال الشاعر
ومن يبتدع ما ليس من سوس نفسه * يدعه ويغلبه على النفس خيمها
وقال آخر
270

يا أيها المتحلي غير شيمته * ومن خليقته الاقصاد والملق
ارجع إلى خلقك المعروف ديدنه * إن التخلق يأبى دونه الخلق
وقال أخر
كل امرئ راجع يوما لشيمته * وإن تخلق أخلاقا إلى حين
وأنشد الرياشي
لا تصحبن أمرا على حسب * إني رأيت الأحساب قد دخلت
مالك من أن يقال إن له * أبا كريما في أمة سلفت
بل فأصحبنه على طبائعه * فكل نفس تجري كما طبعت
والله عز وجل يقول إن الانسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا
مسه الخير منوعا
وقال تعالى خلق الانسان من عجل
وكان الناس يأتسون برسول الله صلى الله عليه وسلم ويقتدون بهديه وشكله لقول الله تعالى
لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة
271

فلو ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم طريق الطلاقة والهشاشة والدماثة إلى القطوب والعبوس
والزماتة أخذ الناس أنفسهم بذلك على ما في مخالفة الغريزة من المشقة والعناء
فمزح صلى الله عليه وسلم ليمزحوا ووقف على أصحاب الدركلة وهم يلعبون فقال خذوا يا
بني أرفد ليعلم اليهود أن في ديننا فسحة
يريد ما يكون في العرسات لاعلان النكاح وفي المآدب لاظهار السرور
وأما قوله ما أنا من دد ولا الدد مني فإن الدد اللهو والباطل
وكان يمزح ولا يقول إلا حقا وإذا لم يقل في مزاحه إلا حقا لم يكن ذلك المزاح
ددا ولا باطلا
قال لعجوز إن الجنة لا يدخلها العجز يريد أنهن يعدن شواب
وقال صلى الله عليه وسلم لأخرى زوجك في عينيه بياض يريد ما حول الحدقة من بياض
العين فظنت هي أنه البياض الذي يغشى الحدقة
واستدبر رجلا من ورائه وقال من يشتري مني العبد
يعني أنه عبد الله
ودين الله يسر ليس فيه بحمد الله ونعمته حرج وأفضل العمل أدومه وإن
قل
قال أبو محمد حدثنا الزيادي قال نا عبد العزيز الدراوردي قال نا محمد بن
طحلا عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله
272

صلى الله عليه وسلم اكلفوا من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا وإن أفضل العمل
أدومه وإن قل
وحدثني محمد بن يحيى القطعي قال نا عمر بن علي بن مقدم عن معن الغفاري
عن المقبري عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الدين يسر ولن يشاد هذا
الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا
حدثني محمد بن عبيد قال حدثنا معاوية بن عمرو عن أبي إسحاق عن خالد
الحذاء عن أبي قلابة عن مسلم بن يسار أن رفقة من الأشعريين كانوا في سفر فلما
قدموا قالوا يا رسول الله ما رأينا أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من فلان
يصوم النهار فإذا نزلنا قام يصلي حتى نرتحل
قال من كان يمهن له ويكفيه أو يعمل له
قالوا نحن قال كلكم أفضل منه
وقد درج الصالحون والخيار على أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم في التبسم والطلاقة
والمزاح بالكلام المجانب للقدع والشتم والكذب
فكان علي رضي الله عنه يكثر الدعابة
وكان بن سيرين يضحك حتى يسيل لعابه
وقال جرير في الفرزدق
لقد أصبحت عرس الفرزدق ناشزا * ولو رضيت رمح استه لاستقرت
273

وقال الفرزدق وتمثل به بن سيرين
نبئت أن فتاة كنت أخطبها * عرقوبها مثل شهر الصوم في الطول
أسنانها مائة أو زدن واحدة * وسائر الخلق منها بعد مبطول
وسأله رجل عن هشام بن حسان فقال توفي البارحة أما شعرت
فجزع الرجل واسترجع فلما رأى جزعه قرأ الله يتوفى الأنفس حين موتها
والتي لم تمت في منامها
وكان زيد بن ثابت من أزمت ت الناس إذا خرج وأفكههم في بيته
وقال أبو الدرداء إني لاستجم نفسي ببعض الباطل كراهة أن أحمل عليها من
الحق ما يملها
وكان شريح يمزح في مجلس الحكم
وكان الشعبي من أفكه الناس وكان صهيب مزاحا وكان أبو العالية مزاحا
وكل هؤلاء إذا مزح لم يفحش ولم يشتم ولم يغتب ولم يكذب
وإنما يذم من المزاح ما خالطته هذه الخلال أو بعضها
وأما الملاعب فلا بأس بها في المآدب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلنوا النكاح
واضربوا عليه بالغربال
274

قال أبو محمد حدثنا أبو الخطاب قال نا مسلم بن قتيبة قال نا شريك عن
جابر عن عكرمة قال ختن بن عباس بنيه فأرسلني فدعوت اللعابين فلعبوا
فأعطاهم أربعة دراهم
وحدثني أبو حاتم عن الأصمعي عن بن أبي الزناد عن أبيه قال قلت لخارجة
بن زيد هل كان الغناء يكون في العرسات
قال قد كان ذاك ولا يحضر بما يحضر به اليوم من السفه
دعانا أخوالنا بنو نبيط في مدعاة لهم فشهد المدعاة حسان بن ثابت وابنه عبد
الرحمن وإذا جاريتان تغنيان
أنظر خليلي بباب جلق هل تونس دون البلقاء من أحد
فبكى حسان وهو مكفوف وجعل يومي إليهما عبد الرحمن أن زيدا فلا أدري
ماذا يعجبه من أن يبكيا أباه
حدثنا أبو حاتم عن الأصمعي قال كان طويس يتغنى في عرس فدخل
النعمان بن بشير العرس وطويس يقول
أجد بعمرة غنيانها * فتهجر أم شأننا شأنها
وعمرة أم النعمان فقيل له اسكت اسكت
فقال النعمان إنه لم يقل بأسا إنما قال
275

وعمرة من سروات النساء تنفح بالمسك أردانها
قالوا أحاديث متناقضة
قالوا رويتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله يحب الحيي العيي المتعفف وأن الله يبغض البليغ من الرجال
ثم رويتم أن العباس سأله فقال ما الجمال فقال في اللسان
وأنه قال إن من البيان لسحرا وقد قال الله عز وجل خلق الانسان علمه البيان فجعل
البيان نعمة من نعمه التي عددها
وذكر النساء بقلة البيان فقال أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير
مبين فدل على نقص النساء بقلة البيان وهذه أشياء مختلفة
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس ههنا اختلاف بنعمة الله تعالى ولكل
شئ منها موضع فإذا وضع به زال الاختلاف
أما قوله إن الله يحب الحيي العيي المتعفف فإنه يريد السليم الصدر القليل
الكلام القطيع عن الحوائج لشدة الحياء
ويدل على ذلك أنه قال بعقب هذا الكلام ويبغض الفاحش السئال الملحف وهذا
ضد الأول
والله سبحانه لا يحب عباده على فضل اللد وطول اللسان ولطف الحيلة وإن
276

كانت في ذلك منافع وفي بعضه زينة
وجاء في الحديث أكثر أهل الجنة البله يراد الذين سلمت صدورهم للناس
وغلبت عليهم الغفلة
وأنشدنا للنمر بن تولب
ولقد لهوت بطفلة ميالة بلهاء تطلعني على أسرارها
وذكر علي رضي الله عنه زمانا فقال خير أهل ذلك الزمان كل نومة
يعني الميت الداء أولئك أئمة الهدى ومصابيح العلم ليسوا بالعجل المذاييع
البذر
وقال معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله يحب الأخفياء الأتقياء الأبرياء
الذين إذا غابوا لم يفتقدوا وإذا حضروا لم يعرفوا
وقال علي رضي الله عنه في خطبة له ألا إن لله عبادا كمن رأى أهل
الجنة في الجنة مخلدين وأهل النار في النار معذبين
شرورهم مأمونة وقلوبهم محزونة وأنفسهم عفيفة وحوائجهم خفيفة صبروا
أياما يسيرة لعقبي راحة طويلة
أما الليل فصافون أقدامهم تجري دموعهم على خدودهم مما يجأرون إلى ربهم
ربنا ربنا
وأما النهار فحلماء علماء بررة أتقياء كأنهم القداح ينظر إليهم الناظر فيقول
277

مرضى وما بالقوم من مرض وخولطوا ولقد خالط القوم أمر عظيم
وذكر بن عباس أن الفتى الذي كلم أيوب عليه السلام في بلائه فقال له يا
أيوب أما علمت أن لله عبادا أسكتتهم خشية الله من غير عي بهم ولا بكم وأنهم
لهم النبلاء النطقاء الفصحاء العالمون بالله عز وجل وأيامه ولكنهم كانوا إذا ذكروا
عظمة الله تعالى تقطعت قلوبهم وكلت ألسنتهم وطاشت عقولهم فرقا من الله عزو
جل وهيبة له
فهذه الخلال هي التي يحبها الله عز وجل وهي المؤدية إلى الفوز في الآخر ولا
ينكر مع هذا أن يكون الجمال في اللسان ولا أن تكون المروءة في البيان ولا
أنه زينة من زين الدنيا وبهاء من بهائها ما صحبه الاقتصاد وساسه العقل
ولم يمل به الاقتدار على القول إلى أن يصغر عظيما عند الله تعالى أو يعظم صغيرا أو ينصر
الشئ وضده كما يفعل من لا دين له
وهذا هو البليغ الذي يبغضه الله عز وجل هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم
أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون المتشدقون وإن أبغض الناس إلى الله تعالى من اتقاه الناس للسانه
وإن من البيان لسحرا يريد أن منه ما يقرب البعيد ويباعد القريب ويزين
القبيح ويعظم الصغير فكأنه سحر وما قام مقام السحر أو أشبهه أو ضارعه فهو
مكروه كما أن السحر محرم
قال أبو محمد حدثني حسين بن الحسن المروزي قال نا عبد الله بن المبارك قال
نا معمر عن يحيى بن المختار عن الحسن قال إذا شئت لقيته أبيض بضا حديد
النظر ميت القلب والعمل أنت أبصر به من نفسه ترى أبدانا ولا قلوب وتسمع
الصوت ولا أنيس أخصب ألسنة وأجدب قلوبا
278

قالوا حديث ينقضه القرآن
قالوا رويتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا
صدة
وهذا خلاف قول الله عز وجل حكاية عن زكريا وإني خفت الموالي من
ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لمن لدنك وليا يرثني ويرث من آل
يعقوب واجعله رب رضيا يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من
قبل سميا
وخلاف قوله عز وجل وورث سليمان داود
قالوا وقد طالبت فاطمة رضي الله عنها أبا بكر رضي الله عنه بميراث أبيها
رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما لم يعطها إياه حلفت لا تكلمه أبدا وأوصت أن تدفن ليلا لئلا
يحضرها فدفنت ليلا
واختصم علي والعباس رضي الله عنهما إلى أبي بكر رضي الله عنه في ميراث رسول
الله صلى الله عليه وسلم
قال أبو محمد ونحن نقول إن قول النبي صلى الله عليه وسلم
إنا معشر الأنبياء لا نورث ليس مخالفا لقول زكريا عليه السلام
فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب لان زكريا عليه
السلام لم يرد يرثني مالي فيكون الامر على ما ذهبوا إليه
وأي مال كان لزكريا عليه السلام يضن به عن عصبته حتى يسأل الله تعالى أن
يهب له ولدا يرثه
279

لقد جل هذا المال إذا وعظم عنده قدره ونافس عليه منافسة أبناء الدنيا
الذين لها يعملون وللمال يكدحون
وإنما كان زكريا بن آذن نجارا وكان حبرا كذلك
قال وهب بن منبه وكلا هذين الامرين يدل على أنه لا مال له
وكذلك المشهور عن يحيى وعيسى عليهما السلام أنه لم يكن لهم أموال ولا
منازل يأويان إليها وإنما كانا سياحين في الأرض
ومن الدليل أيضا على أن يحيى لم يرثه مالا أن يحيى عليه السلام دخل بيت
المقدس وهو غلام صغير فكان يخدم فيه ثم اشتد خوفه فساح ولزم أطراف
الجبال وغيران الشعاب
قال أبو محمد وبلغني عن الليث بن سعد عن بن لهيعة عن أبي قبيل عن عبد الله بن
عمرو بن العاص قال دخل يحيى بن زكريا بيت المقدس وهو بن ثماني حجج فنظر
إلى عباد بيت المقدس قد لبسوا من مدارع الشعر وبرانس الصوف ونظر إلى
متهجديهم قد خرقوا التراقي وسلكوا فيها السلاسل وشدوها إلى حنايا بيت
المقدس فهاله ذلك ورجع إلى أبويه فمر بصبيان يلعبون
فقالوا يا يحيى هلم فلنلعب قال إني لم أخلق للعب فذلك قوله تعالى وآتيناه
الحكم صبيا
فأتى أبويه فسألهما أن يدرعاه الشعر ففعلا ثم رجع إلى بيت المقدس فكان يخدم
فيه نهارا ويسبح فيه ليلا حتى أتت له خمس عشرة حجة وأتاه الخوف فساح
ولزم أطراف الأرض وغيران الشعاب
280

وخرج أبواه في طلبه فوجداه حين نزلا من جبال البثنية على بحيرة
الأردن وقد قعد على شفير البحيرة وأنقع قدميه في الماء وقد كاد العطش يذبحه
وهو يقول وعزتك لا أذوق بارد الشراب حتى أعلم أين مكاني منك
فسأله أبواه أن يأكل قرصا من الشعير كان معهما ويشرب من ذلك الماء ففعل
ذلك وكفر عن يمينه فمدح بالبر قال الله تعالى وبرا بوالديه ولم يكن جبارا
عصيا ورده أبواه إلى بيت المقدس
فكان إذا قام في صلاته بكى ويبكى زكريا لبكائه حتى يغمى عليه فلم يزل
كذلك حتى خرقت دموعه لحم خديه
فقالت له أمه يا يحيى لو أذنت لي لاتخذت لك لبدا يواري هذا الخرق
قال أنت وذاك فعمدت إلى قطعتي لبود فألصقتهما على خديه فكان إذا بكى
استنقعت دموعه في القطعتين فتقوم أمه فتعصرهما فكان إذا نظر إلى دموعه تجري على
ذراعي أمه قال
اللهم هذه دموعي وهذه أمي وأنا عبدك وأنت الرحمن
فأي مال على ما تسمع ورثه يحيى وأي مال ورثه زكريا وإنما كان نجارا
وحبرا
وقد قال بن عباس في رواية أبي صالح عنه في قوله عز وجل هب لي من
لدنك وليا يرثني أي يرثني الحبورة وكان حبرا
ويرث من آل يعقوب أي يرث الملك وكان من ولد داود من سبط
يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام فأجابه الله عز وجل إلى وراثة
281

الحبورة ولم يجبه إلى وراثة الملك
وكان زكريا عليه السلام كره أن يرثه ذلك عصبته وأحب أن يهب الله تعالى له
ولدا يقوم مقامه ويرثه علمه
وقال الله عز وجل وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير
الوارثين فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه
وأما قوله وورث سليمان داود فإنه أراد ورثه الملك والنبوة والعلم
وكلاهما كان نبيا وملكا والملك السلطان والحكم والسياسة لا المال
ولو كان أراد وراثة ماله ما كان في الخبر فائدة لان الناس يعلمون أن الأبناء
يرثون الآباء أموالهم ولا يعلمون أن كل بن يقوم مقام أبيه في العلم والملك والنبوة
ومن الدليل أيضا على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يورث أنه كان لا يرث بعد أن
أوحى الله تعالى إليه وإنما كانت وراثته أبويه قبل الوحي
قال أبو محمد حدثنا زيد بن أخزم الطائي قال ثنا عبد الله بن داود أن أم أيمن
مما ورثه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمه وشقران مما ورثه عن أبيه
وكيف يأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم التراث وهو يسمع الله عز وجل يذم قوما فقال
كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضون على طعام المسكين وتأكلون
التراث أكلا لما وتحبون المال حبا جما
حدثنا إسحاق بن راهويه قال نا وكيع قال نا مسعر عن عبد الرحمن بن
الأصبهاني عن مجاهد بن وردان عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أن
282

رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي في ميراث مولى له وقع من نخلة فسأل هل ترك ولدا
قالوا لا قال
فهل ترك حميما قالوا لا
قال فأعطوه رجلا من أهل قريته
وكأنه تنزه صلى الله عليه وسلم عن أكل ميراثه فآثر به رجلا من أهل قريته
وأما منازعة فاطمة أبا بكر رضي الله عنهما في ميراث النبي صلى الله عليه وسلم فليس بمنكر
لأنها لم تعلم ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وظنت أنها ترثه كما يرث الأولاد آباءهم
فلما أخبرها بقوله كفت
وكيف يسوغ لاحد أن يظن بأبي بكر رضي الله عنه أنه منع فاطمة حقها من
ميراث أبيها وهو يعطي الأحمر والأسود حقوقهم
وما معناه في دفعها عنه وهو لم يأخذ لنفسه ولا لولده ولا لاحد من
عشيرته وإنما أجراه مجرى الصدقة وكان دفع الحق إلى أهله أولى به
وكيف يركب مثل هذا ويستحله من فاطمة رضي الله عنها وهو يرد إلى المسلمين ما بقي في يديه من أموالهم مذ ولي
وإنما أخذه على جهة الأجرة فجعل قيامه لهم صدقة عليهم
وقال لعائشة رضي الله عنها انظري يا بنية فما زاد في مال أبي بكر مذ ولي هذا
الامر فرديه على المسلمين فوالله ما نلنا من أموالهم إلا ما أكلنا في بطوننا من
جريش طعامهم ولبسنا على ظهورنا من خشن ثيابهم
فنظرت فإذ بكر وجرد قطيفة لا تساوي خمسة دراهم وحبشية
283

فلما جاء به الرسول إلى عمر رضي الله عنه قال رحم الله أبا بكر لقد كلف من
بعده تعبا ولو كان ما فعله أبو بكر من هذا الامر ظلما لفاطمة رضي الله عنها لرده
علي رضي الله عنه حين ولي على ولدها
وأما مخاصمة علي والعباس إلى أبي بكر رضي الله عنهم في ميراث رسول الله
صلى الله عليه وسلم فليس يصح لي معناه
وكيف يتخاصمان في شئ لم يدفع إليهما أو يتحاقان شيئا قد منعاه
وكلاهما لا يخفى عليه أنهما إذا ورثا كان بعد ثمن نسائه لعلي من حق فاطمة رضي
الله عنها النصف وللعباس رضي الله عنه النصف مع فاطمة ففي أي شئ اختصما
وإنما كان الوجه في هذا أن يخاصما أبي بكر وقد اختصما إلى عمر رضي الله عنه
لما ولاهما القيام بذلك وإلى عثمان بعد
وهذا تنازع له وجه وسبب رحمة الله عليهم أجمعين
قالوا أحاديث متناقضة
قالوا رويتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا رضاع بعد فصال
وقال انظرن ما إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة
يريد ما رضعه الصبي فعصمه من الجوع
ثم رويتم عن بن عيينة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة رضي الله
عنها قالت جاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت إني
أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم علي كراهة
فقال أرضعيه قالت أرضعه وهو رجل كبير فضحك ثم قال ألست
أعلم أنه رجل كبير
284

وقلتم قال مالك عن الزهري إن عائشة رضي الله عنها كانت تفتي بأن الرضاع
يحرم بعد الفصال حتى ماتت تذهب إلى حديث سالم
قالوا وهذا طريق عندكم مرتضى صحيح يجوز أن يرد ولا يدفع
قال أبو محمد ونحن نقول إن الحديث صحيح
وقد قالت أم سلمة وغيرها من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه كان لسالم خاصة
غير أنهن لم يبين من أي وجه جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا لسالم
ونحن مخبرون عن قصة أبي حذيفة وسالم والسبب بينهما إن شاء الله
أما أبو حذيفة فهو بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف وكان من
مهاجرة الحبشة في الهجرتين جميعا
وهناك ولد له محمد بن أبي حذيفة وقيل في خلافة أبي بكر رضي الله عنه يوم
اليمامة وعقب له
وأما سالم مولى أبي حذيفة فإنه بدري وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي
بكر وكان خيرا فاضلا
ولذلك قال عمر رضي الله عنه عند وفاته لو كان سالم حيا ما تخالجني فيه
الشك
يريد لقدمته للصلاة بالناس إلى أن يتفق أصحاب الشورى على تقديم رجل منهم
ثم قدم صهيبا
وكان سالم عبدا لامرأة أبي حذيفة من الأنصار
واختلفوا في اسمها
فقال بعضهم هي سلمى من بني خطمة وقال آخرون هي ثبيتة
285

وكلهم مجمع على أنها أنصارية فأعتقته فتولى أبا حذيفة وتبناه فنسب إليه
بالولاء
واستشهد سالم يوم اليمامة فورثته المعتقة له لأنه لم يكن له عقب ولا وارث
غيرها
وهذا الذي أخبرت به دليل على تقدم أبي حذيفة وسالم في الاسلام
وجلالتهما ولطف محلهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم
فلما ذكرت له سهلة بنت سهيل ما تراه في وجه أبي حذيفة من دخول سالم
عليه وكان يدخل على مولاته المعتقة له ويدخل عليها كما يدخل العبد الناشئ في
منزل سيده ثم يعتق فيدخل أيضا بالألف المتقدم والتربية
وهذا مالا ينكره الناس من مثل سالم وممن هو دون سالم لان الله عز وجل
رخص للنساء في دخول من ملكهن عليهن ودخول من لا إربة له في النساء كالشيخ
الكبير والطفل والخصي والمجبوب والمخنث وسوى بينهم في ذلك وبين ذوي
المحارم فقال تعالى
ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء
بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن يعني
286

المسلمات أوما ملكت أيمانهن يعني العبيد أو التابعين غير أولي الإربة من
الرجال يعني من يتبع الرجل ويكون في حاشيته كالأجير والمولى والحليف
وأشباه هؤلاء وليس يخلو سالم من أن يكون من التابعين غير أولي الإربة في النساء
ولعله كان كذلك لأنه لم يعقب أو يكون بما جعله الله عليه من الورع والديانة
والفضل وما خصه به حتى رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك أهلا لاخوة أبي بكر رضي
الله عنه مأمونا عنده بعيدا عن تفقد النساء وتتبع محاسنهن بالنظر
وقد رخص للنساء أن يسفرن عند الحاجة إلى معرفتهن للقاضي والشهود
وصلحاء الجيران
ورخص للقواعد من النساء وهن الطاعنات في السن أن يضعن ثيابهن غير
متبرجات بزينة
وقد كان سالم يدخل عليها وترى هي الكراهة في وجه أبي حذيفة
ولولا أن الدخول كان جائزا ما دخل ولكان أبو حذيفة ينهاه
فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمحلها عنده وما أحب من ائتلافهما ونفي الوحشة
عنهما أن يزيل عن أبي حذيفة هذه الكراهة ويطيب نفسه بدخوله فقال لها
أرضعيه
ولم يرد ضعي ثديك في فيه كما يفعل بالأطفال
ولكن أرادا حلبي له من لبنك شيئا ثم ادفعيه إليه ليشربه
ليس يجوز غير هذا لأنه لا يحل لسالم أن ينظر إلى ثدييها إلى أن يقع الرضاع
فكيف يبيح له ما لا يحل له وما لا يؤمن معه من الشهوة
ومما يدل على هذا التأويل أيضا أنها قالت يا رسول الله أرضعه وهو
كبير
287

فضحك وقال ألست أعلم أنه كبير
وضحكه في هذا الموضع دليل على أنه تلطف بهذا الرضاع لما أراد من الائتلاف
ونفي الوحشة من غير أن يكون دخول سالم كان حراما أو يكون هذا الرضاع
أحل شيئا كان محظورا أو صار سالم لها به ابنا
ومثل هذا من تلطفه صلى الله عليه وسلم ما رواه عبد الواحد بن زياد عن عاصم الأحول
عن الحسن أن رجلا أتاه برجل قد قتل حميما له فقال له أتأخذ الدية قال لا
قال أفتعفو قال لا قال فاذهب فاقتله
قال فلما جاوز به الرجل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن قتله فهو مثله
فخبر الرجل بما قال فتركه فولى وهو يجر نسعه في عنقه
ولم يرد أنه مثله في المأثم واستيجاب النار إن قتله
وكيف يريد هذا وقد أباح الله قتله بالقصاص
ولكنه كره له أن يقتص وأحب له العفو
فأوهمه أنه إن قتله كان مثله في الاثم ليعفو عنه
وكان مراده أنه يقتل نفسا كما قتل الأول نفسا فهذا قاتل وذاك قاتل فقد
استويا في قاتل وقاتل إلا أن الأول ظالم والاخر مقتص
قالوا حديث يدفعه الكتاب وحجة العقل
قالوا رويتم عن محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة
رضي الله عنها أنها قالت لقد نزلت آية الرجم ورضاع الكبير عشر فكانت في
صحيفة تحت سريري عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما توفى وشغلنا به دخلت
288

داجن للحي فأكلت تلك الصحيفة
قالوا وهذا خلا ف قول الله تبارك وتعالى وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه
الباطل من بين يديه ولا من خلفه فكيف يكون عزيزا وقد أكلته شاة
وأبطلت فرضه وأسقطت حجته
وأي أحد يعجز عن إبطاله والشاة تبطله
وكيف قال اليوم أكملت لكم دينكم وقد أرسل عليه ما يأكله
وكيف عرض الوحي لاكل شاة ولم يأمر بإحرازه وصونه
ولم أنزله وهو لا يريد العمل به
قال أبو محمد ونحن نقول إن هذا الذي عجبوا منه كله ليس فيه عجب ولا
في شئ مما استفظعوا منه فظاعة
فإن كان العجب من الصحيفة فإن الصحف في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلى ما
كتب به القرآن لأنهم كانوا يكتبونه في الجريد والحجارة والخزف وأشباه هذا
قال زيد بن ثابت أمرني أبو بكر رضي الله عنه بجمعه فجعلت أتتبعه من الرقاع
والعسب واللخاف
والعسب جمع عسيب النخل واللخاف حجارة رقاق واحدها لخفة
وقال الزهري قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن في العسب
والقضم والكرانيف والقضم جمع قضيم وهي الجلود والكرانيف أصول السعف الغلاظ
واحدها كرنافة
289

وكان القرآن متفرقا عند المسلمين ولم يكن عندهم كتاب ولا آلات
يدلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكتب إلى ملوك الأرض في أكارع الأديم
وإن كان العجب من وضعه تحت السرير فإن القوم لم يكونوا ملوكا فتكون لهم
الخزائن والأقفال وصناديق الآبنوس والساج
وكانوا إذا أرادوا إحراز شئ أو صونه وضعوه تحت السرير ليأمنوا عليه من
الوطئ وعبث الصبي والبهيمة
وكيف يحرز من لم يكن في منزله حرز ولا قفل ولا خزانة إلا بما يمكنه ويبلغه
وجده ومع النبوة التقلل والبذاذة
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرقع ثوبه ويخصف نعله ويصلح خفه ويمهن أهله
ويأكل بالأرض ويقول إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وعلى ذلك كانت
الأنبياء عليهم السلام
وكان سليمان عليه السلام وقد آتاه الله من الملك ما لم يؤت أحدا قبله ولا
بعده يلبس الصوف ويأكل خبز الشعير ويطعم الناس صنوف الطعام
وكلم الله موسى عليه السلام وعليه مدرعة من شعر أو صوف وفي رجليه نعلان
من جلد حمار ميت فقيل له إخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى
وكان يحيى عليه السلام يحتبل بحبل من ليف
وهذا أكثر من أن نحصيه وأشهر من أن نطيل الكتاب به
وإن كان العجب من الشاة فإن الشاة أفضل الانعام
وقرأت في مناجاة عزير ربه أنه قال اللهم إنك اخترت من الانعام الضائنة
290

ومن الطير الحمامة ومن النبات الحبلة ومن البيوت بكة وأيلياء ومن أيلياء
بيت المقدس
وروى وكيع عن الأسود بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم ما خلق الله دابة أكرم عليه من النعجة
فما يعجب من أكل الشاة تلك الصحيفة
وهذا الفأر شر حشرات الأرض يقرض المصاحف ويبول عليها وهذا العث
يأكلها
ولو كانت النار أحرقت الصحيفة أو ذهب بها المنافقون كان العجب منهم أقل
والله تعالى يبطل الشئ إذا أراد إبطاله بالضعيف والقوي
فقد أهلك قوما بالذر كما أهلك قوما بالطوفان
وعذب قوما بالضفادع كما عذب آخرين بالحجارة وأهلك نمروذ ببعوضة وغرق
اليمن بفأرة
وأما قولهم كيف يكمل الدين وقد أرسل عليه ما أبطله
فإن هذه الآية نزلت عليه صلى الله عليه وسلم يوم حجة الوداع حين أعز الله تعالى الاسلام
وأذل الشرك وأخرج المشركين عن مكة فلم يحج في تلك السنة إلا مؤمن وبهذا
أكمل الله تعالى الدين وأتم النعمة على المسلمين
فصار كمال الدين ههنا عزه وظهوره وذل الشرك ودروسه
لا تكامل الفرائض والسنن لأنها لم تزل تنزل إلى أن قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهكذا قال الشعبي في هذه الآية
ويجوز أن يكون الاكمال للدين برفع النسخ عنه بعد هذا الوقت
291

وأما إبطاله إياه فإنه يجوز أن يكون أنزله قرآنا ثم أبطل تلاوته وأبقى العمل
به كما قال عمر رضي الله عنه في آي الرجم وكما قال غيره في أشياء كانت من
القرآن قبل أن يجمع بين اللوحين فذهبت
وإذا جاز أن يبطل العمل به وتبقى تلاوته جاز أن تبطل تلاوته ويبقى العمل به
ويجوز أن يكون أنزله وحيا إليه كما كان تنزل عليه أشياء من أمور الدين ولا
يكون ذلك قرآنا كتحريم نكاح العمة على بنت أخيها والخالة على بنت أختها والقطع
في ربع دينار ولا قود على والد ولا على سيد ولا ميراث لقاتل
وكقوله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى إني خلقت عبادي جميعا حنفاء
وكقوله يقول الله عز وجل من تقرب إلي شبرا تقربت منه ذراعا وأشباه
هذا
وقد قال عليه السلام أوتيت الكتاب ومثله معه يريد ما كان جبريل عليه
السلام يأتيه به من السنن
وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجم الناس بعده وأخذ بذلك الفقهاء
فأما رضاع الكبير عشرا فنراه غلطا من محمد بن إسحاق
ولا نأمن أيضا أن يكون الرجم الذي ذكر أنه في هذه الصحيفة كان باطلا لان
رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجم ماعز بن مالك وغيره قبل هذا الوقت فكيف ينزل عليه
مرة أخرى
ولان مالك بن أنس روى هذا الحديث بعينه عن عبد الله بن أبي بكر عن
عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت
كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس
معلومات يحرمن فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ من القرآن
وقد أخذ بهذا الحديث قوم من الفقهاء منهم الشافعي وإسحاق وجعلوا
292

الخمس حدا بين ما يحرم وما لا يحرم كما جعلوا القلتين حدا بين ما ينجس من الماء
وما لا ينجس
وألفاظ حديث مالك خلاف ألفاظ حديث محمد بن إسحاق
ومالك أثبت عند أصحاب الحديث من محمد بن إسحاق
قال أبو محمد حدثنا أبو حاتم قال نا الأصمعي قال نا معمر قال قال لي
أبي لا تأخذن عن محمد بن إسحاق شيئا فإنه كذاب
وقد كان يروى عن فاطمة بنت المنذر بن الزبير وهي امرأة هشام بن عروة فبلغ
ذلك هشاما فأنكره وقال أهو كان يدخل على امرأتي أم أنا
وأما قول الله تبارك وتعالى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
فإنه تعالى لم يرد بالباطل أن المصاحف لا يصيبها ما يصيب سائر الأعلاق
والعروض
وإنما أراد أن الشيطان لا يستطيع أن يدخل فيه ما ليس منه قبل الوحي
وبعده
قالوا حديث يبطله القرآن وحجة العقل
قالوا رويتم أن يوسف عليه السلام أعطي نصف الحسن والله تعالى يقول
وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين
ولا يجوز أن يباع من أعطي نصف الحسن بثمن بخس وبدراهم تعد من قلتها ولا
أن يكون المشتري له مع قلة هذا الثمن أيضا زاهدا فيه
ويقول في رجوع إخوته إليه مرة بعد مرة إنه عرفهم وهم له منكرون
293

وكيف ينكر من أعطي نصف الحسن ولم يجعل له في العالم نظير وهم كانوا بأن
يعرفوه وينكرهم هو أولى
قال أبو محمد ونحن نقول إن الناس يذهبون في نصف الحسن الذي أعطيه يوسف
عليه السلام إلى أن الله سبحانه أعطاه نصف الحسن وأعطى العباد أجمعين النصف
الآخر وفرقه بينهم
وهذا غلط بين لا يخفى على من تدبره إذا فهم ما قلناه
والذي عندي في ذلك أن الله تبارك وتعالى جعل للحسن غاية وحدا وجعله لمن
شاء من خلقه إما للملائكة أو للحور العين
فجعل ليوسف عليه السلام نصف ذلك الحسن ونصف ذلك الكمال
وقد يجوز أن يكون جعل لغيره ثلثه ولآخر ربعه ولآخر عشره
ويجوز أن لا يجعل لآخر منه شيئا
وكذلك لو قال قائل إنه أعطي نصف الشجاعة لم يجز أيكون أعطي نصفها
وجعل للخلق كلهم النصف الآخر
ولو كان هذا هو المعنى لوجب أن يكون الذي أعطي نصف الشجاعة يقاوم
العباد جميعا وحده
ولكن معناه أن للشجاعة حد يعلمه الله تعالى ويجعله لمن شاء من خلقه ويعطي
غيره النصف من ذلك ويعطي لآخر الثلث أو الربع أو العشر وما أشبه ذلك
وأما قولهم كيف يشترونه بثمن بخس ويكونون أيضا فيه من الزاهدين وهو
بهذه المنزلة من الحسن
فإن الحسن إذا كان على ما ذهبنا إليه لا يتفاوت التفاوت الذي ظنوه ولكنه
يكون مقاربا لما عليه الحسان الوجوه
وقد ذكر وهب بن منبه أن يوسف عليه السلام كان نزع في الحسن إلى سارة
294

وهذا شاهد لما تأولناه في نصف الحسن
فإن احتجوا بقول الله تعالى فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت
لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخر عليهن فلما رأينه أكبرنه
وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم
وقالوا لم يقطعن أيديهن حين رأينه ولم يقلن إنه ملك كريم إلا لتفاوت حسنه
وبعده مما عليه حسن الناس
قلنا في تأويل الآية إنها لما سمعت بقول النسوة أن امرأة العزيز تراود فتاها عن
نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين أراد ت أن يرينه ليعذرنها في الفتنة
به
فاعتدت لهن متكأ أي طعاما وقد قرئ متكا وهو طعام يقطع بالسكين
وقيل في بعض التفسير إنه الأترج وفي بعضه الزماورد
وأيا ما كان فإنه لا يأكل حتى يقطع
وأصل المتك والبتك واحد وهو القطع والميم تبدل من الباء كثيرا وتبدل الباء
منها لتقارب المخرجين
ثم قالت ليوسف اخرج عليهن
فلما رأينه أكبرنه أي أعظمن أمره وأجللنه ووقع في قلوبهن مثل الذي وقع في
قلبها من محبته فبهتن وتحيرن وأدمن النظر إليه حتى حززن أيديهن بتلك
295

السكاكين التي كن يقطعن بها طعامهن وقلن ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك
كريم
ولم يردن بهذا القول أنه ليس من البشر على الحقيقة وأنه من الملائكة على
الحقيقة
وإنما قلته على التشبيه كما يقول القائل في رجل يصفه بالجمال ما هو إلا
الشمس وما هو إلا القمر
وفي آخر يصفه بالشجاعة ما هو إلا الأسد
وكيف يردن أنه ليس من الناس وأنه من الملائكة وهن يردن منه مثل الذي
أرادت امرأة العزيز ويشرن بحبسه والملائكة لا تطأ النساء ولا تحبس في
السجون
وليس بعجيب أن يقطعن أيديهن إذا رأين وجها حسنا رائعا مع المحبة
والشهوة وأن يتحيرن ويبهتن فقد يصيب الناس مثل ذلك وأكثر منه
قال عروة بن حزام
وإني لتعروني لذكراك روعة * لها بين جلدي والعظام دبيب
وما هو إلا أن أراها فجاءة * فأبهت حتى ما أكاد أجيب
وأصرف عن رأيي الذي كنت أرتئي * وأنسى الذي عددت حين تغيب
296

وقد جن قيس بن الملوح المعروف بالمجنون وذهب عقله وهام مع الوحش وكان
لا يفهم شيئا إلا أن تذكر ليلى وقال
أيا ويح من أمسى تخلس عقله * فأصبح مذهوبا به كل مذهب
إذا ذكرت ليلى عقلت وراجعت * روائع عقلي من هوى متشعب
ولما خرج به أبوه إلى مكة ليعوذ بالبيت ويستشفى له به سمع بمنى قائلا يقول
يا ليلى فخر مغشيا عليه فلما أفاق قال
وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى * فهيج أحزان الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما أطار بليلى طائرا كان في صدري
وقد مات بالوجد أقوام منهم عروة بن حزام والنهدي عبد الله بن عجلان
قال أبو محمد حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن قريب قال حدثني عمي
الأصمعي قال عبد الله بن عجلان من عشاق العرب المشهورين الذين ماتوا عشقا
وقد ذكره بعض الشعراء فقال
إن مت من الحب * فقد مات بن عجلان
وحدثنا أبو حاتم قال نا الأصمعي عن عبد العزيز بن أبي سلمة عن أيوب عن
محمد بن سيرين قال قال عبد الله بن عجلان صاحب هند
297

ألا إن هندا أصبحت منك محرما * وأصحبت من أدنى حموتها حما
وأصبحت كالمغمود جفن سلاحه * يقلب بالكفين قوسا وأسهما
قال ومد بها صوته ثم خر فمات
وفيما روى نقلة الاخبار أن الحارث بن حلزة اليشكري قام بقصيدته التي أولها
آذنتنا ببينها أسماء
بين يدي عمرو بن هند ارتجالا وكانت كالخطبة فارتزت العنزة التي كان
يتوكأ ويخطب عليه في صدره وهو لا يشعر وهذا أعجب من قطعهن أيديهن
298

والسبب الذي قطعن له أيديهن أوكد من السبب الذي ارتزت له العنزة في صدر
الحارث بن حلزة
وأما شراء السيارة له بالثمن البخس وزهدهم فيه مع ذلك فإنهم اشتروه على
الإباق وبالبراءة من العيوب واستخرجوه من جوف بئر قد ألقاه سادته فيها
بذنوب كانت منه وجنايات عظام ادعوها وشرطوا عليهم مع ذلك أن يقيدوه
ويغلوه إلى أن يأتوا به مصر وفي دون هذه الأمور ما يخسس الثمن ويزهد المشتري
وهذه القصة مذكورة في التوراة
وأما قولهم كيف تنكره إخوته مع ما أعطي من الحسن
فقد أعلمتك أن الذي أعطيه يوسف عليه السلام وإن كان فوق ما أعطيه أحد
من الناس فليس ببعيد مما عليه الحسن منهم وأنه وإن كان أعطي نصف الحسن فقد
أعطي غيره الثلث والربع وما قارب النصف وليس يقع في هذا تفاوت شديد
وكانوا فارقوه طفلا ورأوه كهلا ودفعوه أسيرا ضريرا وألفوه ملكا كبيرا
وفي أقل من هذه المدة واختلاف هذه الأحوال تتغير الحلى وتختلف المناظر
قالوا حديث يبطله النظر
قالوا رويتم عن شعبة عن محمد بن جحادة عن أبي حازم عن أبي هريرة قال
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كسب الإماء
قالوا وكسب الإماء حلال ولو أن رجلا آجر أمته أو عبده فعملا لم يكن ما
كسبا حراما بإجماع الناس فكيف ينهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم
299

قال أبو محمد ونحن نقول إن الكسب الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أجر
البغاء وكان أهل الجاهلية يأمرون إماءهم بالبغاء ويأخذون أجورهن وكان لعبد
الله بن جدعان إماء يساعين وهو في الجاهلية سيد تيم فأنزل الله عز وجل ولا
تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا
ونهى صلى الله عليه وسلم عن كسب الزمارة وهي الزانية يعني هذه الأمة التي يغتلها سيدها
قال أبو محمد حدثنا أبو الخطاب قال نا أبو بحر قال نا هشام بن حسان عن
محمد بن سيرين عن أبي هرير قال ثمن الكلب وأجر الزمارة من السحت
قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم عن مالك عن سالم أبي النضر عن بن جرهد عن أبيه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم مر عليه وهو كاشف فخذه فقال غطها فإن الفخذ من العورة
ثم رويتم عن إسماعيل بن جعفر عن محمد بن أبي حرملة وعن عطاء بن يسار
وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
مضطجعا في بيته كاشفا فخذه فاستأذن أبو بكر رضي الله عنه فأذن له وهو
300

كذلك ثم استأذن عمر رضي الله عنه فأذن له وهو كذلك ثم استأذن عثمان رضي الله
عنه فجلس وسوى ثيابه فلما خرج قالت له عائشة في ذلك فقال ألا أستحي من
رجل تستحي منه الملائكة
قالوا وهذا خلاف الحديث الأول
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس ههنا اختلاف ولكل واحد من الحديثين
موضع فإذ وضع بموضعه زال ما توهموه من الاختلاف
أما حديث جرهد فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به وهو كاشف فخذه على طريق
الناس وبين ملئهم فقال عليه السلام له وار فخذك فإنها من العورة في هذا
الموضع ولم يقل فإنها عورة لان العورة غيرها
والعورة صنفان
أحدهما فرج الرجل والمرأة والدبر منهما وهذا هو عين العورة والذي يجب
عليهما أن يستراه في كل وقت وكل موضع وعلى كل حال
والعورة الأخرى ما داناهما من الفخذ ومن مراق البطن
وسمى ذلك عورة لإحاطته بالعورة ودنوه منها
وهذه العورة هي التي يجوز للرجل أن يبديها في الحمام وفي المواضع الخالية وفي
منزله وعند نسائه ولا يحسن به أن يظهرها بين الناس وفي جماعاتهم وأسواقهم
وليس كل شئ حل للرجل يحسن به أن يظهره في المجامع
فإن الاكل على الطريق وفي السوق حلال وهو قبيح
ووطئ الرجل أمته حلال ولا يجوز ذلك بحيث تراه الناس والعيون
وكانوا يكرهون الوجس وهو أن يطأ الرجل أهله بحيث تحس أهله الأخرى
الحركة وتسمع الصوت
301

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته خاليا فأظهر فخذه لنسائه ثم دخل عليه من يأنس
به فلم يستره فلما صاروا ثلاثة كره باجتماعهم ما كرهه لجرهد من إبدائه لفخذه بين
عوام الناس واستتر منهم
قالوا حديث يبطله الاجماع والكتاب
قالوا رويتم عن الحجاج الصواف عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن حجاج
بن عمرو الأنصاري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من كسر أو عرج فقد حل
وعليه حجة أخرى
قال فحدثت بن عباس وأبا هرير بذلك فقالا صدق
قالوا والناس على خلاف هذا لأنه قال الله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله فإن
أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله
فلم يجعل له أن يحل دون أن يصل الهدي وينحر عنه
قال أبو محمد ونحن نقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذا في الرجل من أهل
مكة يهل بالحج منها ويطوف ويسعى ثم يكسر أو يعرج أو يمرض فلا
يستطيع حضور المواقف أنه يحل في وقته وعليه حج قابل والهدي
وكذلك الرجل يقدم مكة معتمرا في أشهر الحج ويقضي عمرته ثم يهل بالحج
من مكة ويكسر أو يصيبه أمر لا يقدر معه على أن يحضر مع الناس المواقف إنه
يحل وعليه حج قابل والهدي
والذين أمرهم الله تعالى إذا أحصروا بما استيسر من الهدي وأن لا يحلقوا
رؤوسهم حتى يبلغ الهدي محله هم الذين أحصروا قبل أن يدخلوا مكة
302

وحكم أولئك خلاف حكم أهل مكة والمهلين بالحج منها لان حكم الذي كسر
في الطريق أو عرج فلم يقدر على السفر أو مرض وقد أهل بالحج أن لا يحل إلا
بالبيت وعليه أن يحج في السنة الثانية
والذي كسر بمكة من أهلها أو المتمتعين مقيم بمكة وعند البيت فيحل وعليه
الحج من قابل
قالوا حديث يبطله حجة العقل
قالوا رويتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل كل بيمينك فإن الشيطان يأكل
بشماله
قالوا والشيطان روحاني كالملائكة فكيف يأكل ويشرب وكيف يكون له يد
يتناول بها
قال أبو محمد ونحن نقول إن الله عز وجل لم يخلق شيئا إلا جعل له ضدا
كالنور والظلمة والبياض والسواد والطاعة والمعصية والخير والشر والتمام
والنقصان واليمين والشمال والعدل والظلم
وكل ما كان من الخير والتمام والعد والنور فهو منسوب إليه عز وجل لأنه
أحبه وأمر به
وكل ما كان من الشر والنقص والظلام فهو منسوب إلى الشيطان لأنه الداعي
إلى ذلك والمسول له
وقد جعل الله تعالى في اليمين الكمال والتمام وجعلها للاكل والشرب والسلام
والبطش
وجعل في الشمال الضعف والنقص وجعلها للاستنجاء والاستنثار وإماطة
الأقذار
وجعل طريق الجنة ذات اليمين وأهل الجنة أصحاب اليمين
303

وطريق النار ذات الشمال وأهل النار أصحاب الشمال
وجعل اليمن من اليمين والشؤم من اليد الشؤمى وهي الشمال
وقال وفلان ميمون ومشئوم وإنما ذلك من اليمين والشمال
وليس يخلو الشيطان في أكله بشماله من أحد معنيين
إما أن يكون يأكل على حقيقة ويكون ذلك الاكل تشمما واسترواحا لا مضغا
وبلعا فقد روي ذلك في بعض الحديث وروي أن طعامها الرمة وهي العظام وشرابها
الجدف وهو الرغوة والزبد وليس ينال من ذلك إلا الروائح فتقوم لها مقام المضغ
والبلع لذوي الجثث ويكون استرواحه من جهة شماله وتكون بذلك مشاركته من لم
يسم الله على طعامه أو لم يغسل يده أو وضع طعاما مكشوفا فتذهب بركة الطعام
وخيره
وأما مشاركته في الأموال فبالانفاق في الحرام وفي الأولاد فبالزنا
أو يكون يأكل بشماله على المجاز يراد أن أكل الانسان بشماله إرادة الشيطان
له وتسويله
فيقال لمن أكل بشماله هو يأكل أكل الشيطان
لا يراد أن الشيطان يأكل وإنما يراد أنه يأكل الاكل الذي يحبه الشيطان
كما قيل في الحمرة إنها زينة الشيطان يراد أن الشيطان يلبس الحمرة ويتزين
بها
وإنما يراد أنها الزينة التي يخيل بها الشيطان
304

وكذلك روي في الاقتعاط وهو أن يلبس العمامة ولا يتلحى بها أنها عمة
الشيطان
لا يراد بذلك أن الشيطان يعتم
وإنما يراد أنها العمة التي يحبها الشيطان ويدعو إليها
وكذلك نقول في قوله للمستحاضة إنها ركضة الشيطان
والركضة الدفعة إنه لا يخلو من أحد معنيين
إما أن يكون الشيطان يدفع ذلك العرق فيسيل منه دم الاستحاضة ليفسد على
المرأة صلاتها بنقض طهورها
وليس بعجيب أن يقدر على إخراج ذلك الدم بدفعته من يجري من بن آدم مجرى
الدم
أو تكون تلك الدفعة من الطبيعة فنسبت إلى الشيطان لأنها من الأمور التي
تفسد الصلاة كما نسب إليه الاكل بالشمال والعمة على الرأس دون التلحي
والحمرة
قال أبو محمد حدثني زياد بن يحيى قال نا بشر بن المفضل عن يونس عن
الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمرة من زينة الشيطان والشيطان يحب الحمرة
ولهذا كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المعصفر للرجال
قال إبراهيم إني لألبس المعصفر وأنا أعلم أنه زينة الشيطان وأتختم الحديث وأنا
أعلم أنه حلية أهل النار
وجعل الحديد حلية أهل النار وأهل النار لا يتحلون بالحلي
305

وإنما أراد أن لهم مكان الحلية السلاسل والاغلال والقيود فالحديد حليتهم وكان
إبراهيم يفعل ذلك يريد به إخفاء نفسه وستر عمله
قالوا حديثان مختلفان
قالوا رويتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لم يتوكل من اكتوى واسترقى
ثم رويتم أنه كوى أسعد بن زرارة وقال إن كان في شئ مما تداوون به خير
ففي بزغة حجام أو لذعة بنار
قالوا وهذا خلاف الأول
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس ههنا خلاف ولكل واحد موضع
فإذا وضع به زال الاختلاف والكي جنسان
أحدهما كي الصحيح لئلا يعتل كما يفعل كثير من أمم العجم فإنهم يكوون
ولدانهم وشبانهم من غير علة بهم
يرون أن ذلك الكي يحفظ لهم الصحة ويدفع عنهم الأسقام
قال أبو محمد ورأيت بخراسان رجلا من أطباء الترك معظما عندهم يعالج بالكي
وأخبرني وترجم ذلك عنه مترجمه أنه يشفى بالكي من الحمى والبرسام
والصفار والسل والفالج وغير ذلك من الأدواء العظام وأنه يعمد إلى العليل
فيشده بالقمط شدا شديدا حتى يضطر العلة إلى موضع من الجسد ثم يضع المكوى
306

على ذلك الموضع فيلذعه به وأنه أيضا يكوي الصحيح لئلا يسقم فتطول صحته
وكان مع هذا يدعي أشياء من استنزال المطر وإنشاء السحاب في غير
وقته وإثارة الريح مع أكاذيب كثيرة وحماقات ظاهرة بينة وأصحاب يؤمنون
بذلك ويشهدون له على صدق ما يقول
وقد امتحناه في بعض ما ادعى فلم يرجع منه إلى قليل ولا كثير
وكانت العرب تذهب هذا المذهب في جاهليتها وتفعل شبيها بذلك في الإبل إذا
وقعت النقبة فيها وهو جرب أو العر وهو قروح تكون في وجوهها ومشافرها
فتعمد إلى بعير منها صحيح فتكويه ليبرأ منها ما به العر أو النقبة
وقد ذكر ذلك النابغة في قوله للنعمان
فحملتني ذنب امرئ وتركته * كذي العر يكوى غيره وهو راتع
وهذا هو الامر الذي أبطله رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال فيه لم يتوكل من اكتوى
لأنه ظن أن اكتواءه وإفزاعه الطبيعة بالنار وهو صحيح يدفع عنه قدر الله تعالى
ولو توكل عليه وعلم أن لا منجى من قضائه لم يتعالج وهو صحيح ولم يكو
موضعا لا علة به ليبرأ العليل
وأما الجنس الآخر فكي الجرح إذا نغل وإذا سأل دمه فلم ينقطع
وكي العضو إذا قطع أو حسمه وكي عروق من سقي بطنه وبدنه
307

قال بن أحمر يذكر تعالجه حين شفي
شربت الشكاعى والتددت ألدة * وأقبلت أفواه العروق المكاويا
وهذا هو الكي الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم إن فيه الشفاء
وكوى أسعد بن زرارة لعلة كان يجدها في عنقه وليس هذا بمنزلة الأمر الأول
ولا يقال لمن يعالج عند نزول العلة به لم يتوكل
فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتعالج وقال لكل داء دواء
لا على أن الدواء شاف لا محالة وإنما يشرب على رجاء العافية من الله تعالى به
308

إذ كان قد جعل لكل شئ سببا
ومثل هذا الرزق قد تضمنه الله عز وجل لعباده إذ يقول وما من دابة في
الأرض إلا على الله رزقها
ثم أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بطلبه وبالاكتساب والاحتراف
وقال الله تعالى كلوا من طيبات ما كسبتم
ومثله توقي المهالك مع العلم بأن التوقي لا يدفع ما قدره الله عز وجل
وحفظ المال في الخزائن وبالأقفال مع العلم بأنه لا ضيعة على ما حفظه الله
سبحانه ولا حفظ لما أتلفه الله تعالى
ومثل هذا كثير مما يجب علينا أن لا ننظر فيه إلى المغيب عنا ويستعمل فيه الحزم
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعقل وتوكل
وقال لرجل سمعه يقول حسبي الله أبلى عذرا فإذا أعجزك أمر فقل
حسبي الله
ومما يشبه الكي في حالتيه الترياق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أبالي ما أتيت إن
309

أنا شربت ترياقا أو تعلقت تميمة أو قلت الشعر من نفسي
وكانت العرب تسمع بالترياق الأكبر وأنه يكون في خزائن ملوك فارس والروم
وأنه من أنفع الأدوية وأصلحها العظام الأدواء فقضت عليه بأنه شفاء لا محالة فكنوا
به عن كل نفع وقضوا بأنه يدفع المنية حينا ويزيد في العمر ويقي العاهات
قال الشاعر يصف خمرا
سقتني بصهباء درياقة * متى ما تلين عظامي تلن
فكنى عن الشفاء بالدرياق كأنه قال سقتني بخمر شفاء من كل داء كأنها درياق
وشبه المتشببون ريق النساء بالدرياق يريدون أنه شفاء من الوجد كالدرياق
ومما يدل على هذا أنه قرن شرب الدرياق بتعليق التمائم والتمائم خرز رقط كانت
الجاهلية تجعلها في العنق والعضد تسترقي بها وتظن أنها تدفع عن المرء العاهات
وتمد في العمر قال الشاعر
إذا مات لم تفلح مزينة بعده * فنوطي عليه يا مزين التمائما
يقول علقي عليه هذا الخرز لتقيه المنية
وقال عروة بن حزام
جعلت لعراف اليمامة حكمة * وعراف نجد إن هما شفيان
فما تركا من رقية يعلمانها * ولا سلوة إلا بها سقياني
فقالا شفاك الله والله مالنا * بما حملت منك الضلوع يدان
والسلوة حصاة كانوا يقولون إن العاشق إذا سقي الماء الذي تكون فيه سلا
وذهب عنه ما هو به
310

فهذا هو الترياق الذي كرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نوى فيه هذه النية وذهب به
هذا المذهب
فأما من شربه وهو عنده بمنزلة غيره من الدواء يؤمل نفعه ويخاف ضره
ويستشفى الله تعالى به فلا بأس عليه إذا لم يكن في الترياق لحوم الحيات فإن بن
سيرين كان يكرهه إذا كانت فيه الحمة يعني السم الذي يكون في لحومها
ومما يشبه ذلك الرقى يكره منها ما كان بغير اللسان العربي وبغير أسماء الله تعالى
وذكره وكلامه في كتبه وأن يعتقد أنها نافعة لا محالة
وإياها أراد بقوله ما توكل من استرقى
ولا يكره ما كان من التعوذ بالقرآن وبأسماء الله عز وجل ولذلك قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم لرجل من صحابته رقى قوما بالقرآن وأخذ على ذلك أجرا من أخذ أجرا
برقية باطل فقد أخذت برقية حق
قالوا حديثان متناقضان في شرب الماء
قالوا رويتم عن بن المبارك عن معمر عن قتادة عن أنس قال نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن يشرب الرجل قائما قلت فالاكل قال الاكل أشد منه
ثم رويتم عن عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع عن بن عمر أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم كن يشرب وهو قائم
وهذا نقض لذاك
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس ههنا تناقض
لأنه في الحديث الأول نهى أن يشرب الرجل أو يأكل ماشيا
311

يريد أن يكون شربه وأكله على طمأنينة وأن لا يشرب إذا كان مستعجلا في
سفر أو حاجة وهو يمشي فيناله من ذلك شرق أو تعقد من الماء في صدره
والعرب تقول قم في حاجتنا لا يريدون أن يقوم حسب وإنما يريدون امش
في حاجتنا اسع في حاجتنا
ومن ذلك قول الأعشى
يقوم على الوغم قومه * فيعفو إذا شاء أو ينتقم
يريد بقوله يقوم على الوغم أنه يطالب بالذحل ويسعى في ذلك حتى يدركه
ولم يرد أنه يقوم من غير أن يمشي
ومنه قول الله عز وجل ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت
عليه قائما
يريد ما دمت مواظبا عليه بالاختلاف والاقتضاء والمطالبة
ولم يرد القيام وحده
وفي الحديث الثاني كان يشرب وهو قائم يراد غير ماش ولا ساع
ولا بأس بذلك لأنه يكون على طمأنينة فهو بمنزلة القاعد
قالوا حديثان متناقضان فيما ينجس من الماء
قالوا رويتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في غير حديث
الماء لا ينجسه شئ
ثم رويت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل نجسا
312

وهذا دليل على أن ما لم يبلغ قلتين حمل النجس وهذا خلاف الحديث الأول
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس بخلاف للأول
وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الماء لا ينجسه شئ على الأغلب والأكثر لان
الأغلب على الآبار والغدران أن يكثر ماؤها فأخرج الكلام مخرج الخصوص
وهذا كما يقول السيل لا يرده شئ ومنه ما يرده الجدار وإنما يريد الكثير منه
لا القليل
وكما يقول النار لا يقوم لها شئ ولا يريد بذلك نار المصباح الذي يطفئه
النفخ ولا الشرارة وإنما يريد نار الحريق
ثم بين لنا بعد هذا بالقلتين مقدار ما تقوى عليه النجاسة من الماء الكثير
الذي لا ينجسه شئ
قالوا حديثان في الحج متناقضان
قالوا رويتم عن إسماعيل بن علية عن أيوب قال قال لي عبد الله بن أبي مليكة
حدثني القاسم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت أهللت بحج
قال عبد الله وحدثني عروة أنها قالت أهللت بعمرة
قال أبو محمد ونحن نقول إن لهذين الحديثين مخرجا إن لم يكن وقع فيه غلط من
القاسم أو عروة
وذلك أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قدموا مكة وقد لبوا بالحج فأمرهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن يطوفوا ويسعوا ثم يحلوا ويجعلوها عمرة فحل القوم وتمتعوا
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لولا أن معي الهدي لحللت
313

وكان أبو ذر يقول إن هذا من فسخ الحج لهم خاصة وإليه ذهب كثير من
الفقهاء
فيجوز أن تكون عائشة رضي الله عنها أهلت أولا بالحج فقالت للقاسم إني
أهللت بالحج ثم فسخته وجعلته عمرة
وقالت لعروة إني أهللت بعمرة
وهي صادقة في الامرين لان الحج الذي أهلت به صار عمرة بأمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قالوا حديث يبطله حجة العقل
قالوا رويتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كادت العين تسبق القدر
ودخل عليه بابني جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما وهما ضارعان
فقال مالي أراهم ضارعين قالوا تسرع إليهما العين فقال استرقوا لهما
وقد نهى في غير حديث عن الرقى
قالوا وكيف تعمل العين من بعد حتى تعل وتسقم
هذا لا يقوم في وهم ولا يصح على نظر
قال أبو محمد ونحن نقول إن هذا قائم في الوهم صحيح في النظر من جهة
الديانة ومن جهة الفلسفة التي يرتضون بها ويردون الأمور إليها والناس يختلفون في
طبائعهم
فمنهم من تضر عينه إذا أصاب بها ومنهم من لا تضر عينه
ومنهم من يعض فتكون عضته كعضة الكلب الكلب في المضرة أو كنهشة
الأفعى لا يسلم جريحها
314

ومنهم من تلسعه العقرب فلا تؤذيه وتموت العقرب
وقد جئ إلى المتوكل بأسود من بعض البوادي يأكل الأفاعي وهي أحياء
ويتلقاها بالنهش من جهة رؤوسها ويأكل بن عرس وهو حي ويتلقاه بالاكل من
جهة رأسه
وأتي بآخر يأكل الجمر كما يأكله الظليم فلا يمضه ولا يحرقه
وفقراء الاعراب الذين يبعدون عن الريف يأكلون الحيات وكل ما دب ودرج
من الحشرات
ومنهم من يأكل الأبارص ولحمها أقتل من الأفاعي والتنين
وأنشد أبو زيد
والله لو كنت لهذا خالصا * لكنت عبدا يأكل الأبارصا
فأخبرك أن العبيد يأكلونها
فما الذي ينكر من أن يكون في الناس ذو طبيعة في نفسه ذات سم وضرر
فإذا نظر بعينه فأعجبه ما يراه فصل من عينه في الهواء شئ من تلك الطبيعة أو
ذلك السم حتى يصل إلى المرئي فيعله
315

وقد زعم صاحب المنطق إن رجلا ضرب حية بعصا فمات الضارب وأن من
الأفاعي ما ينظر إلى الانسان فيموت الانسان بنظره وما
يصوت فيموت السامع بصوته فهذا قول أهل الفلسفة
وقد حدثنا مع هذا عن النضر بن شميل عن أبي خيرة أنه قال الأبتر من
الحيات خفيف أزرق مقطوع الذنب يفر من كل أحد ولا يراه أحد إلا مات
ولا تنظر إليه حامل إلا ألقت ما في بطنها وهو الشيطان من الحيات وهذا
قول يوافق ما قاله صاحب المنطق
أفما
تعلم أن هذه الحية إذا قتلت من بعد فإنما تقتل بسم فصل من عينها في الهواء
حتى أصاب من رأته
وكذلك القاتلة بصوتها تقتل بسم فصل من صوتها فإذا دخل السمع قتل
وقد ذكر الأصمعي مثل هذا بعينه في الذي يعتان
وبلغني عنه أنه قال رأيت رجلا عيونا فدعي عليه فعور
وكان يقول إذا رأيت الشئ يعجبني وجدت حرارة تخرج من عيني
ومما يشبه هذا القول أن المرأة الطامث تدنو من إناء اللبن لتسوطه
وهي منظفة الكف والثوب فيفسد اللبن وهذا معروف مشهور وليس ذلك إلا
لشئ فصل عنها حتى وصل إلى اللبن
وقد تدخل البستان فتضر بكثير من الغروس فيه من غير أن تمسها
وقد يفسد العجين إذا قطع في البيت الذي فيه البطيخ
316

وناقف الحنظل تدمع عيناه وكذلك موخف الخردل وقاطع البصل
وقد ينظر الانسان إلى العين المحمرة فتدمع عينه وربما احمرت وليس ذلك إلا
لشئ وصل في الهواء إليها من العين العليلة
وقد يتثاءب الرجل فيتثاءب غيره والعرب تقول أسرع من عدوى الثؤباء
وما أكثر ما يختدع الراقون بالتثاؤب فإنهم إذا رقوا عليلا تثاءبوا فتثاءب
العليل بتثاؤبهم وأكثروا وأكثر
فيوهمون العليل أن ذلك فعل الرقية وأنه تحليل منها للعلة
وقد يكون في الدار جماعة من الصبيان ويجدر أحدهم فيجدر الباقون
وليس ذلك إلا لشئ فصل من العليل في الهواء إلى من كان مثله ممن لم يجدر قط
وليس هو من العدوي في شئ إنما هو سم ينفذ من واحد إلى آخر وهذا من
أمر العين صحيح
وأما من يدعيه قوم من الاعراب أن العائن منهم يقتل من أراد ويسقم من أراد
بعينه وأن الرجل منهم كان يقف على مخرفة النعم وهو طريقها إلى الماء فيصيب ما
أراد من تلك الإبل بعينه حتى يقتله فهذا ليس بصحيح
وقد قال الفراء في قول الله سبحانه وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم
317

لما سمعوا الذكر أراد يعتانونك
أي يصيبونك بعيونهم كما يعتان الرجل الإبل إذا صدرت عن الماء
وليس هو عندنا على ما تأول وإنما أراد أنهم ينظرون إليك بالعداوة
والبغضاء نظرا يكاد يزلقك من شدته حتى تسقط
ويدلك على ذلك قول الشاعر
يتقارضون إذا التقوا في موطن * نظرا يزيل مواطئ الاقدام
أي يكاد يزيلها عن مواطئها من شدته وصلابته وهذا نظر العدو المبغض
تقول الناس نظر إلي شزرا ونظر إلي محدقا وأريته لمحا باصرا
ونحوه قول الله تعالى ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت
لان المغشي عليه عند الموت يشخص بصره ولا يطرف
ويقول الله عز وجل فإذا برق البصر في قراءة من قرأه بفتح الراء يريد
بريقه
ولو كان ما ادعاه الاعراب من ذلك صحيحا لأمكنهم قتل من أرادوا قتله
318

وإسقام من أرادوا إسقامه ولم يجعل الله سبحانه هذا لاحد على أحد
وأحسب أن العين إذا خاف أن يصيب الآخر بعينه إذا أعجبه أردفها التبريك
والدعاء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا أعجب أحدكم أخوه فليبرك عليه
وإنما يصح من العين أن يكون العائن يصيب بعينه إذا تعجب من شئ أو
استحسنه فيكون الفعل لنفسه بعينه
ولذلك سموا العين نفسا لأنها تفعل بالنفس
وجاء في الحديث لا رقية إلا من عين أو حمة أو نملة أو نفس
فالنفس العين والحمة الحيات والعقارب وأشباهها من ذوات السموم
والنملة قروح تخرج في الجنب
وقال النبي صلى الله عليه وسلم للشفاء علمي حفصة رقية النملة والنفس والعين
وقال بن عباس في الكلاب إنها من الحن وهي ضعفة الجن فإذا غشيتكم
عند طعامكم فألقوا لها فإن لها أنفسا
319

يريد أن لها عيونا تضر بنظرها إلى من يطعم بحضرتها
قالوا حديثان في البيوع متناقضان رضي الله تعالى عنهما
قالوا رويتم عن حماد عن قتادة عن الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن
بيع الحيوان بالحيوان نسيئة
ثم رويتم عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن مسلم بن جبير عن
أبي سفيان عن عمرو بن حريش عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره
أن يجهز جيشا فنفدت إبل الصدقة فأمره أن يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة
قالوا وهذا خلاف الأول
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس بين الحديثين اختلاف بحمد الله تعالى
لان الحديث الأول نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة وليس يجوز أن يشتري
شيئا ليس عند البائع لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وهو بيع المواصفة
وإذا أنت بعت حيوانا بحيوان نسيئة فقد دفعت ثمنا لشئ ليس هو عند
صاحبك فلم يجز ذلك
والحديث الثاني أمرني أن آخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة
يريد سلفا وقد مضت السنة في السلف بأن يدفع الورق أو الذهب أو الحيوان
سلفا في طعام أو تمر أو حيوان على صفة معلومة وإلى وقت محدود
وليس ذلك عند المستسلف في الوقت الذي دفعت إليه الثمن
وعليه أن يأتيك به عند محل الأجل فصار حكم السلف خلاف حكم البيع
إذ كان البيع لا يجوز فيه أن تشتري ما ليس عند صاحبك في وقت المبايعة
وكان السلف يجوز فيه أن تسلف فيما ليس عند صاحبك في وقت الاستسلاف
320

ولما نفدت الإبل أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يستسلف البعير البازل والعظيم والقوي
من الإبل بالبعيرين من إبل الصدقة الحقاق والجذاع التي لا تصلح للغزو ولا
للسفر
وربما كان الواحد من الإبل البوازل الشداد خيرا من اثنين وثلاثة وأربعة من إبل
الصدقة
قالوا حديثان في الحيض متناقضان
قالوا رويتم عن جرير عن الشيباني عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عن
عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا في فوح حيضنا أن
نأتزر ثم يباشرنا وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملكه
ثم رويتم عن عبد العزيز بن محمد عن أبي اليمان عن أم ذرة عن عائشة رضي الله
عنها قالت كنت إذا حضت نزلت عن المثال إلى الحصير فلم نقرب رسول الله
صلى الله عليه وسلم ولم ندن منه حتى نطهر
قالوا وهذا خلاف الأول
قال أبو محمد ونحن نقول إن الحديث الأول هو الصحيح وقد رواه شعبة عن
منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يأمر إحدانا إذا كانت حائضا أن تتزر ثم يضاجعها
وهذه الطريقة خلاف أبي اليمان عن أم ذرة عن عائشة رضي الله عنها
ولا يجوز على عائشة رضي الله عنها أن تقول كنت أباشره في الحيض مرة ثم
تقول مرة أخرى كنت لا أباشره في الحيض وأنزل عن الفراش إلى الحصير فلا
أقربه حتى أطهر
321

لان أحد الخبرين يكون كذبا والكاذب لا يكذب نفسه فكيف يظن ذلك
بالصادق الطيب الطاهر
وليس في مباشرة الحائض إذا ائتزرت وكف ولا نقص ولا مخالفة لسنة
ولا كتاب وإنما يكره هذا من الحائض وأشباهه من المعاطاة المجوس
قالوا حديث يبطله حجة العقل
قالوا رويتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر فإذا عبرت
وقعت
قالوا كيف تكون الرؤيا على رجل طائر وكيف تتأخر عما تبشر به أو تنذر
منه بتأخر العبارة لها وتقع إذا عبرت
وهذا يدل على أنها إن لم تعبر لم تقع
قال أبو محمد ونحن نقول إن هذا الكلام خرج مخرج كلام العرب وهم يقولون
للشئ إذا لم يستقر هو على رجل طائر وبين مخاليب طائر وعلى قرن ظبي
يريدون أنه لا يطمئن ولا يقف
قال رجل في الحجاج بن يوسف
كأن فؤادي بين أظفار طائر من الخوف في جو السماء محلق
حذار امرئ قد كنت أعلم أنه متى ما يعد من نفسه الشر يصدق
وقال المرار يذكر فلاة تنزو من مخافتها قلوب الادلاء
كأن قلوب أدلائها معلقة بقرون الظباء
322

يريد أنها تنزو وتجب فكأنها معلقة بقرون الظباء لان الظباء لا تستقر وما
كان على قرونها فهو كذلك
وقال امرؤ القيس
ولا مثل يوم في قدار ظللته كأني وأصحابي على قرن أعفرا
يريد أنا لا نستقر ولا نطمئن فكأنا على قرن ظبي وكذلك الرؤيا على رجل طائر
ما لم تعبر يراد أنها تجول في الهواء حتى تعبر فإذا عبرت وقعت
ولم يرد أن كل من عبرها من الناس وقعت كما عبر وإنما أراد بذلك العالم بها
المصيب الموفق
وكيف يكون الجاهل المخطئ في عبارتها لها عابرا وهو لم يصب ولم يقارب
وإنما يكون عابرا لها إذا أصاب
يقول الله عز وجل إن كنتم للرؤيا تعبرون يريد إن كنتم تعلمون
عبارتها
ولا أراد أن كل رؤيا تعبر وتتأول لان أكثرها أضغاث أحلام
فمنها ما يكون عن غلبة الطبيعة ومنها ما يكون عن حديث النفس ومنها ما
يكون من الشيطان
وإنما تكون الصحيحة التي يأتي بها الملك ملك الرؤيا عن نسخة أم الكتاب في
الحين بعد الحين
323

قال أبو محمد حدثني يزيد بن عمرو بن البراء قال نا عبيد الله بن عبد المجيد
الحنفي قال نا قرة بن خالد قال سمعت محمد بسيرين يحدث عن أبي هريرة أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الرؤيا ثلاثة فرؤيا بشرى من الله تعالى ورؤيا تحزين من
الشيطان ورؤيا يحدث بها الانسان نفسه فيراها في النوم
وحدثني سهل بن محمد قال نا الأصمعي عن أبي المقدام أو قرة بن خالد قال
كنت أحضر بن سيرين يسأل عن الرؤيا فكنت أحزره يعبر من كل أربعين
واحدة أو قال أحزوه
وهذه الصحيحة هي التي تجول حتى يعبرها العالم بالقياس الحافظ للأصول الموفق
للصواب فإذا عبرها وقعت كما عبر
قالوا حديث يكذبه النظر
قالوا رويتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إكلفوا من العمل ما تطيقون فإن الله
تعالى لا يمل حتى تملوا فجعلتم الله تعالى يمل إذا ملوا والله تعالى لا يمل على كل
حال ولا يكل
قال أبو محمد ونحن نقول إن التأويل لو كان على ما ذهبوا إليه كان عظيما من
الخطأ فاحشا
ولكنه أراد فإن الله سبحانه لا يمل إذا مللتم ومثال هذا قولك في الكلام
هذا الفرس لا يفتر حتى تفتر الخيل
لا تريد بذلك أنه يفتر إذا فترت ولو كان هذا هو المراد ما كان له فضل
عليها لأنه يفتر معها فأية فضيلة له وإنما تريد أنه لا يفتر إذا افترت
324

وكذلك تقول في الرجل البليغ في كلامه والمكثار الغزير فلان لا ينقطع حتى
تنقطع خصومه
تريد أنه لا ينقطع إذا انقطعوا ولو أردت أنه ينقطع إذا انقطعوا لم يكن له في
هذا القول فضل على غيره ولا وجبت له به به مدحة وقد جاء مثل هذا بعينه في
الشعر المنسوب إلى بن أخت تأبط شرا ويقال إنه لخلف الأحمر
صليت مني هذيل بخرق لا يمل الشر حتى يملوا
لم يرد أنه يمل الشر إذا ملوه ولو أراد ذلك ما كان فيه مدح له لأنه بمنزلتهم
وإنما أراد أنهم يملون الشر وهو لا يمله.
تم طبع الكتاب
والحمد لله رب العالمين
325