الكتاب: شرح اللمعة
المؤلف: الشهيد الثاني
الجزء: ١
الوفاة: ٩٦٦
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق: السيد محمد كلانتر
الطبعة: الأولى - الثانية
سنة الطبع: ١٣٨٦ - ١٣٩٨
المطبعة:
الناشر: منشورات جامعة النجف الدينية
ردمك:
ملاحظات: منشورات مكتبة الداوري - قم / مطبعة أمير - قم / الطبعة الأولى ١٤١٠ (نسخة أفست)

منشورات
جامعة النجف الدينية
- 32 -
اللمعة الدمشقية
للشهيد السعيد: محمد بن جمال الدين مكي العاملي
(الشهيد الأول)
قدس سره
734 - 786
الجزء الأول
القسم الأول
الطبعة الثانية
منقحة ومزيدة بتحقيقات واسعة
بتحقيق وتعليق
السيد محمد كلانتر
1

نام كتاب: اللمعة الدمشقية 1 - 10
مؤلف: شهيد أول
ناشر: انتشارات داوري - قم
چاپ: چاپخانه أمير
نوبت چاپ: چاپ أول
تيراژ: 2000 دوره
تاريخ انتشار: 1410 ه‍ ق
2

الروضة البهية
في شرح
اللمعة الدمشقية
3

الروضة البهية
في شرح
اللمعة الدمشقية
للشهيد السعيد: زين الدين الجبعي العاملي
(الشهيد الثاني)
قدس سره
911 - 965
5

الطبعة الأولى - 1386
الطبعة الثانية - 1398
حقوق طبع هذا الكتاب الشريف
المزدان بهذه التعاليق
والتصحيحات والأشكال محفوظة ل‍
(جامعة النجف الدينية)
6

الإهداء
إن كان الناس يتقربون إلى الأكابر بتقديم مجهوداتهم فليس لنا أن
نتقرب إلى أحد سوى سيدنا ومولانا إمام زماننا و حجة عصرنا (الإمام المنتظر)
عجل الله تعالى فرجه الشريف.
فإليك يا حافظ الشريعة بألطافك الجلية، وإليك يا صاحب الأمر
وناموس الحقيقة أقدم مجهودي المتواضع في سبيل إعلاء كلمة الدين
وشريعة جدك المصطفى، وبقية آثار آبائك الأنجبين، دينا قيما لا عوج
فيه، ولا أمتا،
ورجائي القبول والشفاعة في يوم لا ترجى إلا شفاعتكم أهل البيت.
عبدك الراجي
السيد محمد كلانتر
7

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى: محمد وآله الطيبين
الطاهرين المعصومين، الهداة المهديين الذين أذهب الله عنهم الرجس
وطهرهم تطهيرا.
وبعد؟
فقد كان يراودني باستمرار منذ أمد طويل أن الكتب الدراسية
في أوساطنا العلمية بحاجة ملحة إلى تجديد في التنسيق، وعناية.
في الطباعة، واهتمام في الإخراج.
ولأن قدر لبعض هذه الكتب، وغيرها: من أمهات كتب الفقه
والحديث، والأصول والرجال أن تطبع فمما يبعث الأسف في النفوس
أنها طبعت طبعات تجارية، دون اهتمام كاف في التعليق، ومن غير عناية
لائقة في الإخراج.
مع أنا نرى في الآونة الأخيرة كثيرا من الجامعات العلمية، قامت
بتجديد طبعات الكتب الدراسية التي يتناولها طلابها بالدرس، فأعانتهم
على الإقبال على مطالعتها بلا ملل، ولا سأم، لما أضفت عليها من أناقة
الإخراج، وبقية الجوانب الفنية الأخرى.
فكان يحز في نفسي أكثر من ذي قبل - غبطة لا حسدا - أن
كتبنا الدراسية لم يقدر لها مثل هذا الاهتمام، ومثل تلك العناية
من قبل ذوي الاختصاص في هذا المضمار.
ومن بين هذه الكتب، بل وأكثرها أهمية في نفسي من أي كتاب
آخر كتاب:
9

(الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية)
ففي ذلك الكتاب الجليل يلتقي الباحث بمصدر خصب من مصادر
الفقه الإسلامي: بتعبير واف، وأدب رفيع 5
فقد جمع " الشهيدان " عليهما رحمة الله ورضوانه في هذا الكتاب
الضخم عمق الفكرة إلى جزالة البحث، ودقة النظر إلى سلامة الذوق
وغزارة المادة إلى اعتدال الأسلوب، وإحكام الوضع إلى جمال التعبير.
ولذلك كله اهتم به رواد العلم أساتذة وطلابا، تعليقا عليه
ودراسة له، حتى تجاوزت شروحه العشرات.
أجل... لقد اهتم به طلاب المعرفة منذ شروقه، وتزايد اهتمامهم
حتى الوقت الحاضر، وسيبقى هذا الإكبار له متزايدا ما دام في الوجود
من يدرك الحقيقة، ويميز بين الشمس، وسائر الكواكب.
نعم سيظل منارا يهتدى به حتى ظهور (من تحيا البلاد بمحياه)
عجل الله تعالى فرجه الشريف، وملأ به الأرض قسطا وعدلا كما ملئت
ظلما وجورا.
ومنذ عهد غير قريب - عندما كنت أدرس هذا الكتاب العظيم
في حلقات طلابية متناوبة - كنت ألمس ضرورة القيام بمهمة طبع هذا
الكتاب النفيس، وإخراجه بشكل بديع يلائم مستواه الرفيع، ويليق بمكانته
العلمية السامية، بعد تحقيقه، والتعليق عليه بما يوضح ما يشكل فهمه
على دارسيه، وتفسير مشكلاته. وحل معضلاته: من تحقيق معانيه
10

وتوضيح ألفاظه، وإعلال كلماته الغامضة، وإعراب جمله المعقدة، كما
سيرى ذلك كله القارئ الكريم.
ففي هذا الكتاب الجليل رغم جلالة شأنه، وعلو قدره بعض
العبارات المغلقة التي لا يتسنى فهمها بسهولة لكثير من الطلاب في مراحلهم
الدراسية الأولى، دون بسط في الشرح، ومهارة في التوضيح.
لذا كنت ولا أزال عندما أمر خلال ساعات التدريس بهذا النوع
من العبارات الغامضة يحز في نفسي ما يلاقيه بعض الطلبة من جراء
ذلك الغموض.
ومما يزيد الأسف: أن الطالب لا يجد ما يلجأ إليه في تذليل هذه
المصاعب بيسر سوى ما يتلقاه من أستاذه، فيضطر إلى تسجيله، ليرجع
إليه عند الحاجة.
ولأن وجدت بعض التعاليق الموضحة لما أبهم من عباراته فهي
تستنزف من مطالعها الكثير من وقته، حيث إنها مبعثرة هنا وهناك
على جوانب الصحيفة، ولربما وجد بعضها في صحيفة أخرى دون ترقيم
يرشد إلى ربط الهامش بالعبارة التي يحوم المطالع حول حلها. بل إن
الكثير من التعاليق غير متصلة، فأولها في مكان، وآخرها في آخر.
أو أنها أصعب فهما على الطالب من نفس العبارة.
أو يحتاج فهمها إلى وقت أكثر مما يحتاجه الأصل.
أو أنها تغمض الطرف عن توضيح المقصود، وتذهب إلى الإطناب
في ذكر الأقوال في المسألة، مع عدم توضيحها لأصل المسألة.
وأمثال هذا وذاك مما لا يناسب المقام استيعابه، فترك التعرض له أجدر
11

كل هذا وذاك مما يلجئ المطالع إلى استيعاب جميع هوامش تلك
الصحيفة من أجل العثور على بغيته، إلا إذا شاءت الصدفة أن يقع
بصره لأول نظرة، أو في وسط الطريق على ضالته المنشودة.
وما أقل هذه المصادفة، وما أشد تعب من هكذا دأبه.
أضف إلى ذلك كله نوعية حروف الهوامش: من حيث صغر
حجمها مما يضطر البعض إلى استعمال المكبرات، ولربما بعد أن يقوم
بكل ذلك لا يعثر على مراده فيرجع (بخفي حنين).
وأقدم بين يديك الآن نموذجا من عبارات هذا الكتاب، لترى معي
ضرورة القيام بالتعليق عليها بالأسلوب المناسب لمستوى طلابه، ولتصدق
بما حدثتك به سابقا، أو ليطمئن به قلبك إن كنت مصدقا:
قال الشارح عليه رحمة الله ورضوانه - مبينا لقول (المصنف)
(قدس سره):
(والشاك في الحدث متطهر وفيهما محدث): إن لم يستفد
من الاتحاد والتعاقب حكما آخر.
وهي كما ترى عبارة يتعب تفهيمها، وتفهمها.
وستري في ج 1 من طبعتنا الأولى. ص 81. هامش 4 كيف أوضحناها -
بحمد الله ومنه بأسلوب يتجاوب وحاجة الطالب.
وكذلك ما يقوله الشارح قدس سره في بحث تعدد الجنائز على التعاقب
أثناء الصلاة على أولاها:
نعم يمكن فرضه نادرا بالخوف على الثانية.
ج 1 من طبعتنا الأولى ص 145. هامش رقم 1، فإن تصوير هذا
الفرض بمكان من الصعوبة على الطالب، مع التشويش الكثير في تعاليق المحشين
12

على هذه العبارة.
وعلى غرار هاتين ما تجده في قوله رحمه الله:
ولا فرق في المال المخوف ذهابه، والواجب بذله.. إلى قوله:
لا أن الحاصل بالأول العوض على الغاصب وهو منقطع، وفي الثاني
الثواب وهو دائم، لتحقق الثواب فيهما مع بذلهما اختيارا، طلبا للعبادة
لو أبيح ذلك، بل قد يجتمع في الأول العوض والثواب، بخلاف الثاني.
ج 1 من طبعتنا الأولى. ص 152. هامش رقم 2.
وقوله رحمه الله: إلا أن يؤخذ كون مطلق الوقت شرطا، وما بعد
ذكره مجملا من التفصيل حكم آخر لليومية.
ج 1 من طبعتنا الأولى. ص 172. هامش 4.
وقوله رحمه الله: ولو جاهلا بحكمه الشرعي، أو الوضعي، لا بأصله
أو ناسيا له، أو لأصله.
ج 1 من طبعتنا الأولى. ص 210. هامش 2 - 3 - 4 - 5 - 6.
وقوله رحمه الله: والأولى تقديم الأجزاء على السجود لها، كتقديمها
عليه بسبب غيرها وإن تقدم.
وتقديم سجودها على غيره وإن تقدم سببه أيضا.
ج 1 من طبعتنا الأولى ص 326. هامش رقم 5.
وقوله رحمه الله: ولا فرق في الخوف الموجب لقصر الكمية، وتغيير
الكيفية بين كونه: من عدو، ولص، وسبع، لا من وحل، وغرق
بالنسبة إلى الكمية.
وأما الكيفية فجائزة، حيث لا يمكن غيرها مطلقا.
ج 1 من طبعتنا الأولى. ص 368. هامش رقم 3.
كما أن بعض عباراته موجزة جدا، محتاجة إلى زيادة البسط والتوضيح
13

ولقد أوضحناها بالمقدار اللازم، والكيفية المناسبة.
وذلك مثل قوله قدس سره: وحجة مشترط السفر بظاهر الآية
حيث اقتضت الجمع: مندفعة بالقصر للسفر المجرد عن الخوف، والنص
محكم فيهما.
ج 1 من طبعتنا الأولى. ص 326. هامش رقم 5.
وقوله رحمه الله: أو يمضي عليه أربعون مترددا في الإقامة، أو
جازما بالسفر من دونه.
ج 1 من طبعتنا الأولى. ص 373. هامش رقم 5.
وقوله رحمة الله عليه: لو اعتبرت المطابقة محضا لم يسلم احتياط
ذكر فاعله الاحتياج إليه.
ج 1 من طبعتنا الأولى ص 333 هامش رقم 6.
وقوله - رحمه الله -: ولا ترتيب بينهما، لأنهما فيه عضو واحد
ولا ترتيب في نفس أعضاء الغسل، بل بينها كأعضاء مسح الوضوء بخلاف
أعضاء غسله، فإنه فيها، وبينها.
ج 1. ص 94. هامش رقم 1.
وكثيرا ما توجد أمثال هذه الموجزات في فضيلة صلاة المرأة في بيتها
وفي فضيلة الصلاة جماعة مع العالم، وغيره.
وكذلك في كتاب المتاجر، كالمسألة الرابعة من مسائل بيع الحيوان
وهي صعبة الفهم جدا.
وكذلك في أبواب النكاح والرضاع، ومسألة خيار العيب ذات
الشجون التي تأخذ من الوقت الشئ الكثير حتى يخرج الدارس منها بسلام.
ومسألة توزيع الإرث، وتقسيمه.
14

وقد أفردنا للإرث جزء مستقلا
وكذلك ذكرنا حول (اللباء) شرحا وافيا لم يذكر في الكتب الفقهية.
وغير هذا مما هو معروف لدى من عرف هذا الكتاب.
وقد وفقنا بحمد الله تعالى لإزاحة كل هذه العقبات عن طريق
طالب العلم، ولم ندع له ما يصعب عليه فهمه إلا وأوضحناه، حتى شرح
غريب الكلمات، وبيان أصل اشتقاقها، كالميضاة، والمهاباة، والاعتياض
والتقاص في الأجزاء المطبوعة.
وغيرها مما يقف عندها من كان من أهل اللغة فضلا عن غيرهم.
وكذلك تصدينا لإعراب بعض الجمل التي يختل المعنى بدونه.
كما أننا تصدينا لشرح (الحيض) ووصفه عن طريق الأطباء بما
يناسب المقام في هذه الطباعة الجديدة التي قام بها الأخ في الدين الحاج موسى
البغدادي حفظه الله تعالى بجاه محمد وآله الطاهرين.
كما عمدنا إلى تخطيط أشكال تقريبية تعين على تطبيق العبارة
على الخارج المحسوس في أبواب متفرقة، كالقبلة، والوقت، والقضاء
من كتاب الصلاة.
وكذلك فيما يتعلق ببعض أبواب الصوم، والحج والإرث، وغيرها.
كما أننا وضعنا في هذه الطباعة الجديدة صور الحيوانات التي يحل
أكل لحمها، أو يحرم، ليسهل على رواد العلم وأبنائه معرفة أعيانها.
ومما شحذ همتي، وزاد في شوقي وتحمسي لطبع هذا الكتاب الجليل
بالإضافة لما تقدم من أسباب تعريف (الفقه الجعفري) إلى ذوي المذاهب
الإسلامية الأخرى، حيث إن كتبنا الفقهية - مع شديد الأسف - لم تنشر
ذلك الانتشار المناسب لأهميتها العلمية، بل ولا تصلح لأن تنشر وهي
15

على شكلها الحالي: من رداءة الطبع، وكثرة الأخطاء الإملائية والمطبعية
وغير ذلك مما يشوه محتوياتها القيمة.
لذلك تجد أكثر أصحاب المذاهب، ومنهم الكثير من علمائهم - كما
لمست ذلك بنفسي - لم يطلعوا على محتويات (الفقه الجعفري).
بل ويجهل الكثير من متفقهيهم حقيقة وجود هذا المذهب.
ولأن عرفوا منه شيئا فبصورة مشوهة، رغم ما يمتاز به هذا المذهب:
من خصوبة المادة، وعمق الفكرة، وأصالة المباني، بصورة تتجلى.
بوضوح ناصع لكل باحث منصف، اطلع بنفسه على مصادر التشريع
عندهم!.
فلهذا سوف أقوم إن شاء الله تعالى بتوزيع قسط وافر: من نسخ
كتاب (الروضة البهية) على كثير من أصحاب المذاهب الأخرى، خدمة
للدين وإعلاء لكلمة الحق حيث اعتقد أن خير كتاب يمثل (الفقه الجعفري)
من حيث الشمول والإيجاز هو هذا الكتاب الجليل المقدم له.
نعم... كل ذا وذاك عوامل دعتني بإلحاح متواصل إلى طبع
هذا الكتاب الشريف بالشكل الذي رسمته مخيلتي منذ حين بعيد.
بيد أن تأسيس (جامعة النجف الدينية) لم يكن بالأمر الهين لمن
أراد إتقانه، ووضع مناهجها الدراسية الملائمة للوقت لم يكن بأسهل
من تأسيسها لمن أراد إحكامها.
لذا فقد استوعب هذا وذاك جل أوقاتي، واستهلكا أكثر طاقاتي
حتى لم أعد أملك المجال الكافي الصالح للقيام بمهمة طبع هذا الكتاب
العظيم بالصورة المرضية، والشكل المرسوم.
16

أما الآن ولله الحمد والشكر على نعمه وبعد أن من - علي المولى
الجليل بلطفه الجزيل، وذلل لي كل صعوبة في طريق الجهاد الإسلامي
والمشروع الحيوي فأعانني على إتمام التشييد الفخم - بناية.
(جامعة النجف الدينية) - ووضع النظام الأساسي لها، وتطبيقه
بشكل برهن على إتقانه، وصلاحه للاستمرار، وتحويل منتسبيه
إلى ما لا يقاس عليه حالهم السابق.. بعد كل هذا، لم يبق لي عذر عن تحقيق
تلك الأمنية الغالية.
(طبع هذا الكتاب الجليل).
ولأن كانت إدارة شؤون (جامعة النجف الدينية) والعمل من أجل
توسعة ميادينها الحيوية، والقيام بتدريس بعض الحصص فيها يتطلب مني
ما يتطلبه أي مشروع ضخم فلا يمنعني ذلك من القيام بتعهد مسؤوليه
التعليق على هذا الكتاب وطبعه، بعد أن كانت هذه المهمة وأمثالها من جمله
الأهداف التي أسست من أجلها هذه الجامعة:
17

" جامعة النجف الدينية "
وبعد الاتكال على الله العلي القدير شمرت عن ساعد الجد لأقوم
بالتنفيذ فاخترت من أثق بفضله ودينه وجدارته الكاملة لمثل هذا العمل
بما يتطلبه هذا الموضوع من جميع جوانبه، ودرس هذا الكتاب الجليل
وأدرك جيدا وبوضوح ما يحتاجه الأستاذ خلال تدريسه من مصادر
تخص البحث: من كتب لغة، وحديث ورجال، وغيرها مما لا بد منه
لتحضير الدرس.
كما وقف معي على مقدار ما يحتاجه الطالب: من شرح وتوضيح
ونوعية ذلك حسبما يلائم مستواه، ويتمشى مع لياقته:
سماحة سيدنا السيد محمد صادق الصدر، وسماحة شيخنا الشيخ
غلام رضا الباقري الأصفهاني حفظهما الله تعالى.
فهذان العلمان الجليلان اللذان تتمثل بهما الإنسانية بأعلى مراتبها
قد بذلا من جهدهما أكثره في هذا المضمار، وضحيا بوقتهما العزيز في خدمة
هذا المشروع الديني العظيم.
فماذا أقول في حقهما وكل ما أقوله قليل فعلى الله العزيز أجرهما؟
18

ومن الإخوان الذين استجابوا وشاركوا أيضا معي:
فضيلة الشيخ محمد هادي معرفة:
كما أو عزت إلى بعض الأفاضل من الإخوان أن يكتب في بعض جوانب
حياة العلمين الجليلين: (المصنف والشارح).
(الشهيد الأول، والشهيد الثاني) قدس الله تعالى روحيهما الطاهرتين
وأفاض عليهما من رحمته شآبيبها.
ففي حياتهما تتجلى الإنسانية الكاملة، والحياة النابضة بالفكر والثقافة
والجهاد الإسلامي النبيل.
فمهدت له السبيل، ور - سمت له الخطوط، ليتفضل ببحث موجز
عن تاريخ الحركة العلمية، متضمنا تعريف (الفقه الجعفري)، وبيان
جذوره الأصيلة، وتاريخ تطوره منذ بزوغه حتى عصرنا الحاضر، وكيفية
انتقال مركزه من (المدينة المنورة) على مشرفها آلاف التحية والسلام
إلى (الري)، ومنها إلى (قم)، ثم إلى (بغداد)، وبعدها
إلى (النجف الأشرف)، ثم إلى (الحلة)، ثم إلى (النجف الأشرف)
ثانية، ثم إلى (كربلاء) ثم إلى (النجف الأشرف) ثالثة كما هي الآن
تضم الحوزة العلمية (للشيعة الإمامية).
ولا تزال عامرة إن شاء الله تعالى حتى ظهور (الحجة المنتظر)
عجل الله تعالى فرجه الشريف، وملأ الدنيا ببهجة نوره.
فتفضل بهذه الخدمة الإنسانية، مجيبا لطلبي بقلب طاهر، وأتى
بمقدمة ممتعة حاوية لجميع ما رغبت فيه إليه.
فجزاه الله خير جزاء المحسنين.
وهكذا تظافرت جهود هؤلاء الإخوان الأعزاء، فآزروني خير مؤازرة
في إنجاز هذا العمل، وشاطروني في سهراتي الطويلة، التي قمت فيها
19

في استخراج هذه التعاليق بما فيها من تعيين مواضع الحاجة، ومقدار ما يلزم
بيانه فلم يفتني شئ فيما أعلم.
فأكرر شكري لهم مقدرا مساعيهم الجليلة، وأبتهل إلى العلي القدير
أن يتفضل على الجميع بما هو أهله، إنه قريب مجيب.
ولا يفوتني بهذه المناسبة تقديم شكري الجزيل إلى فضيلة الأخ المكرم
النبيل الشيخ شريف نجل المرحوم آية الله الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء
طلب ثراه، حيث وافانا بنسخ مخطوطة من هذا الكتاب تمتاز بقدم
تاريخ خطها من مكتبة والده الشيخ المرحوم قدس سره.
كما أشكر فضيلة حجة الإسلام والمسلمين السيد محمد علي نجل المرحوم
آية الله أستاذنا السيد يحيى المدرسي الطباطبائي طاب ثراه على تزويدنا
بنسخة خطية نفيسة من نفس اللمعة أفادتنا كثيرا.
وكيف كان فقد بدأنا بالعمل في جمادى الثانية سنة 1385 ملتزمين
بتحقيق محتويات الكتاب بمراجعة عدة نسخ مطبوعة وخطية، حذرا
من الوقوع في الخطأ الواقع في كثير منها، كما هو المشاهد في كثير
من تلك النسخ 5
وقد أشرنا لبعض الاختلافات الواقعية فيها كي يبقى للغير رأيه.
كما التزمنا بإرجاع الأخبار إلى مصادرها بترقيم دقيق في هذه الطبعة
الجديدة الثانية. ليتسنى لمن أراد مراجعتها العثور عليها بسرعة وسهولة.
كما أننا ذكرنا نص الحديث الوارد في المقام، والمستشهد به من قبل
(الشهيدين) قدس سرهما، لتعم الفائدة.
وكذلك فصلنا الأقوال التي يرمز إليها الشارح قدس سره، وأرجعناها
20

إلى مصادرها: من كتب الفقه، والأصول، وغيرهما.
وهكذا استمر العمل فكانت به الكفاية للأستاذ والطالب.
فكانت إرادة الله جل اسمه، وعظم شأنه أن يمن علينا بلطفه
العميم وفضله الجسيم، فتتجسم تلك الأمنية، ويبرز الجزء الأول
من كتاب.
(الروضة البهية) في الوجود.
وكلنا أمل بالله القدير أن يوفقنا عاجلا لطبع الباقي من الأجزاء
التي تمت مسوداتها إن شاء الله.
فحمدا له على ما هيأ لنا كلما نريد، وذلل أمام طريقنا كل الصعاب
ووفر علينا كل جوانب العمل، وما يتوقف عليه المقصود، حتى شاء
الله تعالى أن ينجز عملنا بأحسن الوجوه، ويكون هذا أثرا فقهيا خالدا.
فنسألك اللهم وندعوك أن تتقبله منا بأحسن قبولك، وتجعله خالصا
لوجهك الكريم، عاريا عن كل ما يبعدنا من ساحة لطفك.
كما نسألك أن تأخذ بأيدينا لما فيه رضاك، وتوفقنا لخدمة دينك
الحنيف، إنك أنت العزيز الوهاب.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.
حررت في (النجف الأشرف) في (جامعة النجف الدينية)
في اليوم الثاني من جمادى الثانية سنة 1386.
السيد محمد كلانتر
21

تاريخ الفقه الشيعي
مما يؤسف له أن (الفقه الشيعي) لم يؤرخ من قبل الباحثين
إلى حد اليوم بصورة منهجية كاملة، ومن تحدث عن تاريخ تكامل
(الفقه الشيعي) وتطور الكتابة الفقهية لم يتجاوز ترجمة الفقهاء، وتصنيف
طبقات المحدثين. ولم يظهر لحد الآن تصنيف لعصور الفقه الشيعي، ومراكز
تطور الدراسات الفقهية لدى (الشيعة)، وظهور المدارس الفقهية الشيعية
على امتداد خط (التاريخ الإسلامي)، وبيان ملامح هذه المدارس
وما تمتاز به كل مدرسة على سابقتها، مما نجعلها مدارس متعاقبة ومتوالية
في التكامل والنمو.
ولم يبحث أحد من الدارسين كيف (تطور الفقه الشيعي) من مستوى
المجموعات الحديثية، والأصول الأربعمائة إلى مستوى (الحدائق الناضرة)
و (جواهر الكلام).
وهذه مسألة مهمة تحتاج إلى كثير من العناية، والدرس قد نتوفر
عليها بصورة سريعة في هذه الدراسة، لعلنا نتوفق أن نفتح الطريق لمن يأتي
من بعد: من الباحثين، والدارسين، ليدرسوا الموضوع بشئ أكثر
من الدقة والعناية والإحاطة.
ولتطور (المدرسة الفقهية) عند الشيعة تاريخ طويل، كما يكون
ذلك لأية ظاهرة اجتماعية أخرى، وكما يكون ذلك لأي كائن حي.
ولدراسة تاريخ (تطور الدراسة الفقهية لدى الشيعة) يجب أن
نضم حلقات هذا التطور بعضها إلى بعض، وتربط الظاهرة الفقهية بالظواهر
المحيطية الأخرى التي تتصل بها، والتي تتفاعل معها على امتداد التاريخ.
22

فلا يمكن من وجهة منهجية فصل الدراسة الفقهية عن العوامل
المحيطية والزمنية على صعيد البحث التاريخي.
فلا تنمو الدراسة الفقهية كظاهرة مفصولة عن الحياة الاجتماعية
والمحيط والعوامل المحيطية، ولا يمكن عزل الفقه عن المؤثرات التي تتدخل
في تكوين (التاريخ البشري). وإنما يجب ربط هذه الظاهرة بغيرها
من الظواهر والعوامل المحيطية والزمنية، ليتاح لنا أن نتعرف على عوامل
النمو والرشد فيها، وتأثرها بها.
و (العوامل) التي يجب أن تلحظ في (تطوير المدرسة الفقهية)
والتي تتدخل في تكوين الدراسة الفقهية، والبحث الفقهي ثلاثة:
1 - (الزمان:
ولا نعني بالزمان ما يعني به عادة من مرور الدقائق والساعات
فذاك شئ لا يهمنا، وإنما نعني به العمل الناجز إلى حد زمني خاص
فلا شك أن مستوى (الدراسة الفقهية) الناجزة عصر (الشهيد) يختلف
عنه في عصر (شيخ الطائفة الطوسي)، وذلك يعني أن شيخ الطائفة
الطوسي شرع العمل من مستوى أهبط من المستوى الذي شرعه الشهيد
وأن الشهيد ابتدأ العمل ابتداء من المستوى الذي انتهى إليه الشيخ الطوسي
والمحققون من بعده، وهذا العامل إذا له أهميته في دراسة (تطور البحث
الفقهي).
2 - (المحيط):
ولا شك في تأثر البحث الفقهي ب‍ (المراكز الثقافية) التي كان
ينتقل إليها، فكل واحد من المراكز الفقهية التي ينقل فيها ويحول إليها
(الفقه الشيعي) كان له طابع الثقافة الخاص، وكان له تأثير بالغ
في تكوين (الدراسة الفقهية) وتطويرها.
23

فحينما انتقلت الدراسة الفقهية الشيعية من المدينة إلى (الكوفة)
أصبحت (الكوفة) مركز الإشعاع في (البحث الفقهي الشيعي).
تأثر البحث الفقهي كثيرا بهذا المحيط الجديد المزدحم
ب‍ (فقهاء الشيعة).
كما نأثر (الفقه الشيعي) بدون ريب حينما انتقل من (قم)
إلى (بغداد) وكون هذا الإطار الحضاري، والفكري الجديد الذي كانت
تزدحم جوانبه بمختلف المدارس الثقافية، والعلماء والفقهاء: من مختلف
المذاهب الإسلامية.
3 - (شخصية الفقهاء):
وهذا عامل ثالث في تطوير (الفقه) لا نستطيع أن نغضي عنه
مهما كان موقف علماء الاجتماع منا، فلمؤهلات الفقيه الفكرية، وبعد
نظره، وعمق تفكيره، وإصابة آرائه، وطموحه الفكري للتجديد أثر
كبير في تطوير الفقه.
فما جدده (شيخ الطائفة) مثلا في البحث الفقهي لا يرتبط كليا
بتأثير المحيط والعصر، وإنما كان يرتبط أيضا بمؤهلات (الشيخ الطوسي)
الشخصية وقابلياته، ونبوغه الذاتي.
ولا يستطيع الباحث مهما حاول أن يعزل هذا العامل عن تطور
الدراسة الفقهية.
وعلى ضوء هذه (العوامل الثلاثة) سنحاول أن نقوم بدراسة سريعة
لتاريخ (الفقه الشيعي) وتطور البحث الفقهي عند الشيعة، وتعاقب
المدارس الفقهية، مع الإشارة إلى الملامح الكلية لكل من هذه المدارس.
ولكن نسير في هذه الدراسة التاريخية على ضوء ما قدمناه بغض الطرف
عن التقسيمات التي يأخذ بها (مؤرخو الفقه، والحديث الشيعي)
24

على غير هذا المنهج، ونصنف (عصور الفقه الشيعي) حسب العوامل
الثلاثة ضمن المدارس التالية على امتداد العصور المتعاقبة.
وحينما نضيف المدرسة الفقهية إلى قطر خاص كالكوفة، أو بغداد
أو المدينة لا نعني أن المدارس تمركزت كليا في هذا الأقطار، وأن رواد
هذه المدرسة لم يتجاوزوا هذه النواحي قط، ولم يؤثروا في تكوين المدرسة
من أقطار أخرى.
وإنما نعني أن المدرسة بلغت نضجها الخاص، وكمالها المرحلي في هذا
القطر بالخصوص، وكان لها الأثر الكبير في تكوينها وبلورتها، وإن دخلت
أقطار أخرى في البين، وتركت آثارا في تكامل المدرسة.
وأهم (مدارس الفقه الشيعي) حسب توالي عصور (الفقه الشيعي)
هي:
1 - (مدرسة المدينة المنورة).
واستمرت إلى أواسط القرن الثاني (حياة الإمام الصادق عليه السلام)
2 - (مدرسة الكوفة):.
ظهرت من أواسط القرن الثاني (حياة الإمام الصادق عليه السلام)
واستمرت إلى الربع الأول من القرن الرابع (الغيبة الكبرى).
3 - (مدرسة قم والري):
ظهرت في الربع الأول من القرن الرابع واستمرت إلى النصف الأول
من القرن الخامس (أيام المرتضى والطوسي).
4 - (مدرسة بغداد):
ظهرت من النصف الأول للقرن الخامس إلى احتلال بغداد (1).
.

(1) أي احتلال بغداد وسقوطها على يد السفاك (الوحشي هولاكو التتار)
25

5 - (مدرسة النجف الأشرف).
أسست هذه المدرسة عندما حل في الغري (شيخ الطائفة) في أواسط
القرن الخامس الهجري بعد وقوع حادثة كبرى بين (السنة والشيعة).
(والنجف الأشرف) أعظم جامعة دينية علمية للطائفة الإمامية
ولا تزال باقية يقصدها رواد العلم وأبناؤه من أقاصي البلاد الإسلامية.
وقد أنجبت إلى يومنا هذا عشرات الآلاف من فطاحل أعلام الطائفة:
6 - (مدرسة الحلة).
ظهرت من احتلال بغداد، استمرت إلى حياة (الشهيد الثاني).
7 - (مدرسة كربلا).
أسست هذه المدرسة عندما حل فيها أستاذ البشر مجدد المذهب
في القرن الثالث عشر وحيد عصره، وفريد دهره (الأستاذ وحيد البهبهاني)
وقد أنجبت هذه المدرسة بدورها نوابغ يضن الدهر أن يأتي بمثلهم
كالشيخ الكبير كاشف الغطاء والسيد بحر العلوم والسيد ميرزا مهدي الشهرستاني
وسعيد العلماء والأستاذ شريف العلماء والسيد صاحب الرياض والشيخ البحراني
صاحب (الحدائق الناضرة)، وغيرهم: من أساطين العلم، وأعلام الطائفة.
العصر الأول:
(والعصر الأول) هو (عصر الصحابة والتابعين) لهم بإحسان ظهرت
من حين ظهور المجتمع الإسلامي في (المدينة المنورة)، واستمرت
إن حياة (الإمام الصادق) عليه السلام.
والمدينة المنورة كانت هي المنطلق الأول للرسالة الإسلامية، فلا غرو
إذا كانت (المدرسة الأولى للفقه الإسلامي).
وكانت المدينة المنورة الوطن الأول (لفقهاء الشيعة) من الصحابة
26

والتابعين لهم بإحسان، فكان من فقهاء الصحابة بعد الإمام) أمير المؤمنين
والزهراء والحسنين) عليهم الصلاة والسلام وهم الذين تولى رسول الله
صلى الله عليه وآله تربيتهم وتعليمهم..
ابن عباس حبر الأمة وفقيهها، وسلمان الفارسي، وأبو ذر الغفاري
وأبو رافع إبراهيم مولى رسول الله.
قال النجاشي: " أسلم أبو رافع قديما بمكة وهاجر إلى المدينة
وشهد مع النبي مشاهده، ولزم أمير المؤمنين من بعده، وكان من خيار
الشيعة، ولأبي رافع (كتاب السنن والأحكام والقضاء) (1).
وكان من التابعين جمع كثير من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام
حفظوا (السنة النبوية)، وتداولوها فيما بينهم، ونقلوها إلى الأجيال
التي تليهم بأمانة، حتى قال (الذهبي) في ميزان الاعتدال:
فهذا - أي التشيع - كثر في التابعين وتابعيهم مع الدين، والورع
والصدق،، فلو رد حديث هؤلاء - أي الشيعة - لذهبت جملة الآثار
النبوية " (2).
ولعوامل لا نعرفها منع (عمر بن الخطاب) من تدوين السنة النبوية
فبقيت السنة النبوية في صدور الصحابة والتابعين يتناقلونها حتى خلافة
(عمر بن عبد العزيز)، حيث أمر بتدوينه (محمد بن مسلم بن شهاب الزهري)
بذلك، فلم يتفق لمحدثي غير الشيعة من الصحابة والتابعين تدوين السنة
النبوية قبل هذا الوقت..
ولكن (فقهاء الشيعة) - فيما يحدثنا التاريخ - دونوا عدة مدونات حديثية مهمة.
.

(1) أعيان الشيعة. ج 1 القسم. الثاني: ص 34 - 35.
(2) ميزان الاعتدال. ج 1. ص 5
27

كان (أمير المؤمنين) عليه السلام أول من صنف في الفقه، ودون
الحديث النبوي، ولم يوافق (عمر بن الخطاب) على رأيه.
قال السيوطي: كان بين السلف من الصحابة والتابعين اختلاف كثير
في كتابة العلم، فكرهها كثير منهم، وإباحتها طائفة وفعلوها:
منهم: (علي وابنه الحسن) (1).
فكتب (الجامعة) وهي من إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وخط علي عليه السلام، كان يبلغ سبعين ذراعا، وقد تواتر نقله
في أحاديث الأئمة من أهل البيت عليهم السلام (2).
وكان لسلمان مدونة في الحديث كما يقول ابن شهرآشوب.
وعلي بن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان
من (فقهاء الشيعة) وخواص أمير المؤمنين.
قال النجاشي: وهو تابعي من خيار الشيعة، كانت له صحبة
من أمير المؤمنين، وكان كاتبا له، وحفظ كثيرا، وجمع كتابا في فنون
الفقه كالوضوء والصلاة، وسائر الأبواب وكانوا يعظمون هذا الكتاب " (3).
ومنهم: (سعيد بن المسيب) أحد الفقهاء الستة، والقاسم بن محمد بن
أبي بكر.
قال أبو أيوب.: ما رأيت أفضل منه.
وفي كتاب الكافي عن يحيى بن جرير قال: قال (أبو عبد الله الصادق)
عليه السلام:
كان سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وأبو خالد الكابلي
.

(1) أعيان الشيعة. ج 1. ص 274.
(2) راجع تفصيل ذلك في أعيان الشيعة. ج 1. ص 290.
(3) رجال النجاشي ص 5
28

من ثقات (علي بن الحسين) عليه السلام (1).
ومهما يكن من أمر فقد كان (فقهاء الشيعة) وعلى رأسهم
أئمة المسلمين من (أهل البيت) صلوات الله عليهم يقودون (الحركة الفكرية)
في (العالم الإسلامي)، وتنطلق هذه الحركة من المدينة المنورة
بشكل خاص.
وبلغ هذا الازدهار الفكري غايته في عهد (الإمام الصادق) عليه السلام
ازدهرت (المدينة المنورة) في عصر الإمام، وزخرت بطلاب العلوم
ووفود الأقطار الإسلامية، وانتظمت فيها حلقات الدرس، وكان بيته
جامعة إسلامية يزدحم فيه رجال العلم، وحملة الحديث: من مختلف
الطبقات ينتهلون موارد علمه.
وقال ابن حجر عن (الإمام الصادق) عليه السلام:
نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر صيته
في جميع البلدان، وروى عنه الأئمة الأكابر كيحيى بن سعيد
وابن جريح، ومالك والسفيانيين، وأبي حنيفة وشعبة وأيوب السختياني (2).
إذا كانت (المدينة المنورة) في عهد (الإمام الباقر والصادق) عليهما السلام
(مدرسة للفقه الشيعي)، ومركزا كبيرا من مراكز الإشعاع العقلي
في العالم الإسلامي.
ويطول بنا الحديث لو أردنا أن نحصي عدد الفقهاء من الشيعة
في هذه الفترة، وما تركوا من آثار، ويكفي الباحث أن يرجع إلى كتب
أعيان الشيعة، ورجال النجاشي، والكشي، وتأسيس الشيعة لعلوم الإسلام
ليعرف مدى الأثر الذي تركه (فقهاء الشيعة) في هذه الفترة التي تكاد
.

(1) تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام: 299.
(2) الصواعق المحرقة 199 والصحيح السجستاني
29

تبلغ قرنا ونصف قرن من تاريخ الإسلام في الدراسة الفقهية، والمحافظة
على السنة النبوية.
والشئ الذي نحب أن نشير إليه: أن ملامح (المدرسة الفقهية)
في هذه الفترة في (المدينة المنورة) كانت أولية إلى حد ما، ولم تتبلور
المسائل الخلافية في الفقه بين (الشيعة والسنة) كما تبلورت بعد في (الكوفة)
على يد تلامذة (الإمام الصادق) عليه السلام واستمرت إلى أيام
(أبي الحسن الرضا) عليه السلام، فالاختلاف في القياس والاستحسان
والرأي والاجتهاد، ومسائل الصلاة والوضوء، والحج الخلافية لم تظهر
واضحة في هذه الفترة، وفي هذه المدرسة بالذات، وإن كانت المدينة
منطلق (الفقه الشيعي) والمركز الأول للبحث الفقهي عند الشيعة، وعنها
انتقلت المدرسة إلى الكوفة، وتبلورت المفاهيم، واتضحت نقاط الالتقاء
والاختلاف بين المذاهب الفقهية الإسلامية.
ومدونات الحديث كانت مقتصرة على عدد معدود من المدونات
المعروفة التي تم تدوينها في المدينة المنورة والتي ضاع أكثرها.
ولم تكن هذه المدونات فيها عدى (مدونة أمير المؤمنين عليه السلام)
دورات كاملة للحديث النبوي، وإنما كانت تجمع لقطات من السنة النبوية
والأحكام الفقهية.
ولم تكن هناك كتب فقهية تعني بالفتاوى خارج نطاق المدونات
الحديثية.
كما تتبلور بعد لدى فقهاء الشيعة صياغة المقاييس الخاصة للاجتهاد
والفتيا بصورة كاملة، والمقاييس الخاصة لمعالجة الأخبار المتعارضة، فلم يكثر
الحديث بعد عن (أهل آل بيت عليهم السلام)، ولم يدرس في حديثهم
بعد الشئ الكثير من الحديث المدسوس، ولم يشق على الفقهاء الرجوع
30

إلى (الأئمة عليهم السلام) للسؤال فيما يعرضهم من حاجة، أو ما يعرض
الناس فلم تظهر حاجة ملحة إلى اتخاذ مقاييس للرأي والاجتهاد، ومقاييس
لمعالجة الأحاديث المتعارضة، ومعرفة السقيم منها عن الصحيح، ولم يراجعوا
الأئمة في شئ من ذلك، ولذلك كان (البحث الفقهي) في هذا الدور
يقطع مراحل حياته الأولى.
وبما تقدم يمكننا أن نحدد ملامح هذا العصر في الخطوط الثلاثة
التالية:
1 - قلة المدونات الحديثية واضطرابها في الجمع والتبويب فيما عدى
(مدونة أمير المؤمنين) عليه الصلاة والسلام.
2 - عدم تبلور المسائل الخلافية بين المذاهب الفقهية الإسلامية
بصورة واضحة.
3 - عدم اتخاذ مقاييس للاجتهاد والفتيا فيما لا نص في مورده ومعالجة
الأحاديث الفقهية المتعارضة.
العصر الثاني:
وفي أخريات حياة (الإمام الصادق عليه السلام) انتقلت مدرسة
الفقه الشيعي من (المدينة) إلى (الكوفة)، وبذلك بدأت حياة فقهية
جديدة في الكوفة.
وكانت الكوفة حين ذاك مركزا صناعيا، وفكريا كبيرا تقصده
البعثات العلمية، والتجارية.
ذكر البلاذري أن أربعة آلاف من رعايا الفرس وفدوا إلى الكوفة (1).
.

(1) راجع تاريخ الكوفة. 282 - 395
31

وقد أثر وفود العناصر المختلفة إلى الكوفة طلبا للعلم، أو التجارة
في التلاقح العقلي والذهني في هذه المدرسة، كما كان لها الأثر البالغ
في تطوير الدراسات العقلية فيها.
وقد هاجر إليها فوق ذلك وفود: من الصحابة والتابعين، والفقهاء
وأعيان المسلمين: من مختلف الأمصار وبذلك كانت (الكوفة) حين انتقل
إليها (الإمام الصادق) عليه السلام وانتقلت إليها (مدرسة الفقه الشيعي)
من أكبر العواصم الإسلامية.
وقد عد البراقي في تاريخ الكوفة 148 صحابيا من الذين هاجروا
إلى الكوفة واستقروا فيها، ما عدا التابعين والفقهاء الذين انتقلوا إلى هذه
المدينة، والذين كان يبلغ عددهم الآلاف، وما عدا الأسر العلمية
التي كانت تسكن هذا القطر.
وقد أورد ابن سعد في الطبقات ترجمة ل‍ (850) تابعيا ممن سكن
الكوفة (1).
في مثل هذا الوقت انتقل (الإمام الصادق) عليه السلام إلى الكوفة
أيام (أبي العباس السفاح) واستمر بقاء (الإمام الصادق) عليه السلام
في الكوفة مدة سنتين.
وقد اشتغل (الإمام الصادق) عليه السلام هذه الفترة بالخصوص في نشر
(المذهب الشيعي)، لعدم وجود معارضة سياسية قوية في البين فقد سقطت
في هذه الفترة (الحكومة الأموية) وظهرت (الحكومة العباسية) وبين
هذا السقوط، وهذا الظهور اغتنم (الإمام الصادق) عليه السلام الفرصة
للدعوة إلى المذهب، ونشر أصول هذه المدرسة، فازدلفت إليه الشيعة
من كل فج زرافات ووحدانا تتقي منه العلم، وترتوي من منهله العذب
.

(1) طبقات ابن سعد: 6
32

وتروي عنه الأحاديث في مختلف العلوم، وكان منزله عليه السلام
في (بني عبد القيس من الكوفة) (1).
قال محمد بن معروف الهلالي: مضيت إلى الحيرة إلى (جعفر بن محمد)
عليه السلام فما كان لي فيه حيلة من كثرة الناس، فلما كان اليوم
الرابع رآني فأدناني وتفرق الناس عنه ومضى يريد قبر (أمير المؤمنين)
عليه السلام فتبعته وكنت أسمع كلامه وأنا معه أمشي.
وقال الحسن بن علي بن زياد الوشاء لابن عيسى القمي:
إني أدركت في هذا المسجد: يعني مسجد الكوفة تسعمائة شيخ كل
يقول: حدثني جعفر بن محمد عليه السلام (2).
وكان من بين أصحاب (الإمام الصادق) عليه السلام من فقهاء
الكوفة: (أبان بن تغلب بن رباح الكوفي) نزيل كندة روى عنه
عليه السلام (30000) حديثا.
ومنهم: (محمد بن مسلم الكوفي) روى عن (الباقرين) عليهما السلام
(40000) حديثا)
وقد صنف الحافظ أبو العباس بن عقدة الهمداني الكوفي المتوفى
سنة 333 كتابا في أسماء الرجال الذين رووا الحديث عن (الإمام الصادق)
عليه السلام فذكر ترجمة (4000) رجل (3).
كل ذلك بالإضافة إلى البيوتات العلمية الكوفية التي عرفت بانتسابها
إلى (الإمام الصادق) عليه السلام، واشتهرت بالفقه والحديث كبيت
(آل أعين)، وبيت (آل حيان التغلبي، وبيت (بني عطية)
.

(1) تاريخ الكوفة للبراقي: ص 408.
(2) رجال النجاشي ترجمة (الوشا). ص 31.
(3) تاريخ الكوفة للبراقي ص 408
33

وبيت (بني دراج)، وغيرهم من البيوتات العلمية الكوفية التي عرفت
بالتشيع، واشتهرت بالفقه والحديث (1).
وقد أدى كل هذا الالتقاء بشخصية (الإمام الصادق) عليه السلام
في الكوفة، والاحتفاء به إلى أن يأخذ (الجهاز العباسي) الحاكم
حذره منه.
وقد خاف (المنصور الدوانيقي) أن يفتتن به الناس (على حد تعبيره)
لما رأى من إقبال الفقهاء والناس عامة عليه، واحتفائهم به، وإكرامهم له
فطلبه إلى (بغداد) في قصة طويلة لا يهمنا نقلها.
ومهما يكن من أمر فقد ازدهرت (مدرسة الكوفة) على يد
(الإمام الصادق) عليه السلام وتلاميذه، وبتأثير من الحركة العلمية
القوية التي أوجدها (الإمام الصادق) عليه السلام في هذا الوسط الفكري.
ولم تبق الكوفة إلى حين (الغيبة الكبرى) مقاما للأئمة عليهم السلام
ولم يتمركز (فقهاء الشيعة) كلهم بعد ذلك في الكوفة، ولم تستمر
طول هذه المدة المدرسة التي أنشأها (الإمام الصادق) في الكوفة
إلا أن الكوفة كانت هي منطلق (الحركة العقلية) في (العصر الثاني)
من عصور تأريخ (الفقه الشيعي) ومبعث هذه الحركة، ومركز الإشعاع
وظلت مع ذلك بعد من أهم مراكز (الفقه الشيعي)، وظلت
(البعثات الفقهية الشيعية) تقصد هذه المدينة بالذات، ويتعاقب فيها
(فقهاء الشيعة) مركز الصدارة في التدريس، والفتيا، والبحث الفقهي.
ورغم العقبات الكبرى التي اصطدم بها (أئمة الشيعة) من أهل البيت
عليهم السلام، وفقهاء الشيعة ورواة الحديث: من ضغط الجهاز الحاكم
حتى كان بعضهم يعرض إذا رأى الإمام في الطريق، لئلا يتهم بالتشيع
.

(1) تاريخ الكوفة للبراقي ص 396 - 407
34

وبعضهم يلتقي بالإمام ليلا. خوفا من عيون الرقابة المسلطة على بيوت
(أئمة أهل البيت) عليهم السلام.
رغم ذلك كله، ورغم المعارضات، والتهم والافتراءات، والتهريج
الذي كان يقوم به الجهاز تقدمت الدراسة الفقهية الشيعية، وتدوين الحديث
شوطا كبيرا في هذه الفترة، وتركت لنا هذا التراث التشريعي الضخم
الذي تمتلئ به المكاتب، وتحتفل به الدورات الضخمة: كدورات
(بحار الأنوار، والجواهر، والحدائق، ووسائل الشيعة) الكبيرة.
وصنف قدماء (الشيعة الاثني عشرية) المعاصرون للأئمة في الأحاديث
المروية من طرق أهل البيت ما يزيد على (ستة آلاف وستمائة كتاب)
مذكورة في كتب الرجال، على ما ضبطه (الشيخ محمد بن الحسن بن الحر العاملي)
في آخر الفائدة الرابعة من الوسائل (1).
ومن بين هذا العدد من الكتب الذي يعتبر وحده مكتبة ضخمة
في الحديث والفقه والتفسير من آفاق (الفكر الإسلامي) امتازت
أربعمائة كتاب اشتهرت بعد ذلك ب‍: (الأصول الأربعمائة).
وقد بقي شئ كثير من هذه الأصول الأربعمائة، فكان شئ كثير
منها محفوظا عند (الشيخ الحر العاملي)، وبعضها عند (العلامة المجلسي)
وبعضها عند (العلامة النوري)، وفقد مع ذلك كثير منها (2).
ومهما يكن من أمر فقد توسعت في هذه الفترة رواية الحديث
وتدوينه وازدهرت بما لا مثيل له في أي عصر آخر، وفي أي مذهب
من المذاهب الإسلامية عامة.
فلهشام الكلبي أكثر من مائتي كتاب.
.

(1) وسائل الشيعة. ج 3. ص 523.
(2) أعيان الشيعة. ج 1 - القسم 2. ص 37
35

ولابن شاذان مائة وثمانون كتابا.
ولابن دؤل مائة كتاب.
ولابن أبي عمير أربعة وتسعون كتابا (1).
وقد ترجم (الشيخ آغا بزرك) في الذريعة لمائتي رجل من مصنفي
تلامذة (الإمام الصادق) عليه السلام عدا غيرهم من المؤلفين من أصحاب
سائر الأئمة عليهم السلام، وذكر لهم من كتب الأصول 739 كتابا (2).
فقد روى (أبان بن تغلب) - كما يقول الشيخ في الفهرست -
ثلاثين ألف حديث عن (الإمام الصادق) عليه السلام.
وروى (آل أعين) وحدهم أضعاف هذا المقدار.
و (يونس بن عبد الرحمن) و (البزنطي) ومئات من أمثالهم
كانوا من كبار المؤلفين والمكثرين في التأليف والتدوين، وقد جمع كل واحد
منهم عشرات المدونات في الحديث والتفسير والفقه.
ولم تزدهر (المدرسة الحديثية) في مذهب من المذاهب الإسلامية
كما ازدهرت عند (الشيعة)، حتى رأينا أن الذهبي يقول في ميزان الاعتدال:
لو أردنا أن نسقط رجال الشيعة من إسناد الروايات لم تسلم لنا من السنة
إلا القليل النادر.
ولا نطيل في تفصيل شرح هذه الحركة الفكرية التي انطلقت
من بيت النبوة، ورعاها فقهاء الشيعة ومحدثوها بعناية فائقة، واهتمام كبير.
.

(1) الذريعة إلى تصانيف الشيعة. ج 1. ص 17.
(2) الذريعة إلى تصانيف الشيعة. ج 6. ص 301 - 374
36

ملامح المدرسة:
ولننتقل إلى تخطيط ملامح هذه المدرسة وجدنا فيما تقدم من حديث
عن العصر الأول من عصور (الفقه الشيعي).
أن تدوين الحديث لم يكن أمرا شائعا بين المحدثين الشيعة، فلم تصلنا
من (ابن عباس) مثلا رغم كثرة رواياته مدونة في الحديث إلا ما جمعه
الفيروزآبادي من رواياته في التفسير والتأويل.
وظاهرة التدوين ظهرت من أيام (الإمام الباقر) عليه السلام
ونمت أيام (الإمام الصادق) عليه السلام، ولا سيما فقد أخذ
(الإمام الصادق) عليه السلام - لما رأى من ضياع الأحاديث والسنن -
يحث الرواة والعلماء على تدوين السنة وكتابتها.
قال عاصم: سمعت أبا بصير يقول: قال (أبو عبد الله الصادق)
عليه السلام:
اكتبوا، فإنكم لا تحفظون إلا بالكتابة (1).
وعن أبي بصير قال: دخلت على (أبي عبد الله) عليه السلام
فقال:
ما يمنعكم من الكتاب؟! إنكم لن تحفظوا حتى تكتبوا، إنه خرج
من عندي رهط من أهل البصرة يسألون عن أشياء فكتبوها.
وعن أبي بصير قال: سمعت (أبا عبد الله) عليه السلام يقول:
اكتبوا، فإنكم لا تحفظون حتى تكتبوا.
وكذلك نجد أن (الإمام الصادق) عليه السلام كان يدفع أصحابه
.

(1) وسائل الشيعة الجزء 18. ص 236. الباب 2. الحديث 6
37

وتلامذته إلى التدوين، وكتابة الحديث، خوفا عليه من الضياع
والاضطراب.
هذه ظاهرة أولى على ملامح هذا العصر.
والظاهرة الثانية من ملامح هذا العصر: أن حاجات المسلمين توسعت
في هذا الوقت، وازدحم الناس على أبواب الفقهاء يطلبون منهم الرأي
فيما تجدد عليهم: من وجوه الحاجات الجديدة، ولم يكن ما بيد
(فقهاء السنة) ومحدثيها من الحديث يكفي لسد هذه الحاجة، ولم يجدوا
في الكتاب الكريم جوابا على ذلك، ولم يكن الجهاز القائم بالحكم يمسح
لهم بمراجعة (أئمة أهل البيت) عليهم السلام الذين اعتبرهم صاحب الرسالة
صلى الله عليه وآله عدلا للكتاب في حديث الثقلين المعروف.
فاضطروا إلى اتخاذ القياس والاستحسان، والأخذ بالظن والرأي.
يقول الدكتور محمد يوسف موسى:
بعد أن لحق الرسول صلى الله عليه وآله بالرفيق الأعلى، وحدث
من الوقائع والأحداث ما لم تشتمل نصوص القرآن والسنة على أحكامه
كان لا بد من الوصول إلى هذه الأحكام بطريق آخر، فكان من ذلك
هذان الأصلان: (الإجماع، والقياس) (1).
والقياس والاستحسان - مهما قيل فيهما - معرضان للانحراف والزلل
فوقف (الإمام الصادق) عليه السلام حين رأى شيوع الأخذ بالقياس
والرأي موقف المعارض منهما، ودعى أصحابه إلى عدم الأخذ بهما
وعارض المذاهب الفقهية التي كانت تأخذ بالقياس أشد المعارضة.
قال ابن تغلب: قلت (لأبي عبد الله) عليه السلام: ما تقول
في رجل قطع إصبعا من أصابع المرأة كم فيها.
.

(1) محاضرات في تاريخ الفقه الإسلامي: 17
38

قال: عشرة من الإبل.
قلت: قطع اثنين؟
قال: عشرون.
قلت: قطع ثلاثا؟
قال: ثلاثون.
قلت: قطع أربعا؟
قال: عشرون.
قلت: سبحان الله يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون، ويقطع أربعا
فيكون عليه عشرون؟
إن هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ ممن قاله ونقول
إن الذي جاء به شيطان.
فقال عليه السلام: مهلا يا أبان لعلك أخذتني بالقياس، و (السنة
إذا قيست محق الدين، هذا حكم رسول الله صلى الله عليه وآله
إن المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية، فإذا بلغت الثلث رجعت المرأة
إلى النصف (1).
هذه ظاهرة ثانية على ملامح هذا العصر.
والظاهرة الثالثة في هذه المدرسة هو حدوث الاختلاف بين نقل الرواة
فقد شاع نقل الحديث عن (أئمة أهل البيت) عليهم السلام في هذه
الفترة، وكثر الدرس وظهر الاختلاف في متون الروايات، فكان يبلغ
البعض من الشيعة حديثان مختلفان في مسألة واحدة، فكان الرواة يطلبون
من (أئمة أهل البيت) عليهم السلام أن يدلوهم على مقياس لاختيار
.

(1) راجع قوانين الأصول، وكتاب من لا يحضره الفقيه
الجزء 4. ص 88 الباب 27. الحديث 1
39

الحديث الصحيح بين الأحاديث المتضاربة التي تردهم في مسألة واحدة.
وقد ورد عنهم عليهم السلام أحاديث في معالجة الأخبار المتعارضة
تسمى (الأخبار العلاجية) في الأصول.
قال زرارة: سألت (أبا جعفر) عليه السلام فقلت: جعلت فداك
يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان فبأيهما آخذ؟
فقال عليه السلام: يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك، ودع
الشاذ النادر.
فقلت: يا سيدي إنهما معا مشهوران مأثوران عنكم؟
فقال: خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك.
فقلت: إنهما معا عدلان مرضيان موثقان؟
فقال: أنظر ما وافق منهما العامة فاتركه، وخذ بما خالف، فإن
الحق فيما خالفهم (1).
قلت: ربما كانوا موافقين لهم، أو مخالفين فكيف أصنع؟.
قال: إذا فخذ بما فيه الحائطة لدينك، واترك الآخر.

(1) يقصد من العامة علماء البلاط، والفقهاء الذين كانوا يحفون
بلاط الخلفاء (الأمويين والعباسيين) ويرتزقون عن هذا الطريق، فقد
كان الخلفاء يصطنعون هؤلاء العلماء في تدعيم حكمهم، وتبرير أفعالهم
ويطلبون إليهم كلما أحسوا بحاجة، أو أقدموا على أمر يثير مشاعر الجماهير
أن يجدوا ويخلقوا لهم مبررا في الفقه، ويرغمون الناس على الاعتراف
بهم في الفتيا والقضاء.
وقد كان أثر هذه الفئة من مرتزقة الفقهاء كبيرا في ضياع وارتباك
معالم الفقه الإسلامي، ولذلك نجد (أئمة أهل البيت) عليهم السلام
يحذرون شيعتهم عن مسايرة هؤلاء، والاغترار بمكانتهم.
40

قلت: إنهما معا موافقان للاحتياط، أو مخالفان له فكيف أصنع؟
فقال: إذا فتخير أحدهما فتأخذ به، ودع الآخر (1).
والأخبار العلاجية كثيرة لا نريد أن نحصيها هنا، ويكفينا أن نقول:
إن ظهور الأخبار العلاجية في هذا الفترة تنزل على توسع
(مدرسة أهل البيت) عليهم السلام في الفقه، وكثرة النقل، وشياع
الحديث عنهم، وانتشار فقه (أهل البيت) في الإفطار.
فقد فرضت مدرسة أهل البيت عليهم السلام وجودها على المسلمين
في كثير من أقطار العراق، وخراسان. والري، والحجاز، واليمن بشكل
ملحوظ مما أدى إلى كثرة النقل والحديث عنهم، وتداول فقههم
عليهم السلام.
وهذه هي الظروف الطبيعية لظهور الدس والاختلاق والتزييف
في الحديث.
وهذه ظاهرة أخرى من ملامح هذا العصر.
وفي هذه الفترة اتسعت شقة الخلاف بين (المذاهب الفقهية الإسلامية)
وفي كثير من المسائل الخلافية.
وكان موقف (أئمة أهل البيت) عليهم السلام مما يثار الخلافات
- موقفا حازما حكيما، فقد كانوا يعلمون أن الغرض من إثارة الخلاف
تعكير الجو الفكري في (الوطن الإسلامي) ليتاح للجهاز أن يصيد في الماء
العكر، فكان كثيرا ما يتغاضى (أئمة أهل البيت) عليهم السلام عن وجود
خلاف أو اشتقاق في المسألة الفقهية، ويجارون الفقه، فإذا خلوا
إلى أصحابهم ذكروا لهم الوجه الحق وأمروهم بالكتمان والسر ما وسعهم
ذلك، وحتى أن يقضي الله بما هو قاض، وينقذ الأمة من هؤلاء
.

(1) فرائد الأصول باب التعادل والترجيح
41

الغاصبين المهرجين.
وهذا هو ما يعنى (بالتقية) في (الفقه الإسلامي).
وظاهرة أخرى في هذا الدور من ملامح المدرسة: تعيين موازين
ومقاييس خاصة للاجتهاد والاستنباط من قبل (أئمة أهل البيت)
عليهم السلام.
كان الرواة ينتقلون إلى مناطق بعيدة، وتمس بهم حاجة إلى معرفة
حكم من الأحكام الشرعية، ولا يجدون وسيلة للسؤال عن الإمام عليهم السلام
ولا يجدون نصا في المورد، فوضع لهم (أئمة أهل البيت) عليهم السلام
قواعد خاصة للاستنباط والاجتهاد يستعرضها بتفصيل: كالاستصحاب
والبراءة، والاحتياط، والتخيير، وغيرها من القواعد الفقهية، كقاعدة
الطهارة، واليد، والإباحة، والحلية، وما شاكل ذلك مما يعين الفقيه
على الاجتهاد والاستنباط.
وقد أسهب الفقهاء والأصوليون في شرح هذه القواعد والأصول
بصورة وافية في كتب الفقه والأصول.
ورغم ما تقدم فلم يكن هناك اجتهاد بالمعنى الذي نتعارف عليه
اليوم وإنما كان الناس يطلبون إلى الإمام أن يعين لهم مرجعا فيما يعرضهم
من المسائل الشرعية، فيعين لهم بعض أصحابه ممن يطمئن إليهم، وممن
سمع إلى حديثه ووعاه، ولم تمس الحاجة إلى الاجتهاد لمعاصرة الإمام
وإمكان الاتصال به ولو على رأس كل سنة في موسم الحج.
فلم يتجاوز أصحاب الأئمة عدا موارد قليلة ونادرة: من نقل
الحديث، والمجاميع الحديثية في غالب الأحوال لم تكن تجمع أبواب الفقه
عامة، أو تجمع كلما صح عن الإمام في هذا الباب، أو في هذه
المسألة.
42

وربما يجوز لنا أن نقول: إن شيئا من المجاميع الحديثية التي دونت
في هذا العصر لم يكن على هذا الغرار من استيعاب أبواب الفقه، وما صح
عن الإمام في كل باب، فكانت الكتب والمدونات، والأصول أشبه
بمجموعات شخصية يجمع فيها كل راو ما سمعه عن مشائخه، أو ما سمعه
عن الإمام مباشرة بصورة مبعثرة، أو منظمة غير مستوعبة.
وقد يلتقي الباحث بكتاب، أو كتابين يخرج عن هذا الأطار
إلا أن الطابع العام للتدوين في هذا العصر كان الصورة التي قدمناها
للقارئ. هذه هي أهم ملامح هذا العصر.
وإذا صح أن المدرسة انتقلت من الكوفة إلى المدينة، أو إلى بغداد
أو إلى طوس في هذا الفترة فقد كان لفترة قصيرة، وبصورة غير كاملة
وبقيت الكوفة محتفظة بمكانتها حينا طويلا من هذا العصر.
العصر الثالث:
مدرسة (قم والري):
يبتدئ هذا العصر من الغيبة الكبرى، والربع الأول من القرن الرابع
إلى النصف الأول من القرن الخامس.
في هذا الفترة انتقلت حركة التدريس والكتابة، والبحث إلى مدينتي
(قم والري) وظهر في هذه الفترة شيوخ كبار من (أساتذة الفقه الشيعي)
في مدينتي (قم والري) كان لهم أكبر الأثر في تطوير (الفقه الشيعي)
فقد كانت (قم) منذ أيام (الأئمة) عليهم السلام بلدة شيعية، ومدينة
كبيرة من أمهات المدن الشيعية، وكانت خصنا من (حصون الشيعة)
43

وعشا لآن محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وموضع عناية خاصة
من (أهل البيت) عليهم السلام.
إن البلايا مدفوعة عن قم وأهلها.
وسيأتي زمان تكون بلدة (قم) وأهلها حجة على الخلائق، وذلك
في زمان غيبة (قائمنا) إلى ظهوره عجل الله تعالى فرجه، ولولا ذلك
لساخت الأرض بأهلها (1).
روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: أنه قال " سلام الله على أهل (قم)
ورحمة الله على أهل قم، سقى الله بلادهم الغيث، وتنزل عليهم البركات
فيبدل سيئاتهم حسنات، هم أهل ركوع وخشوع وسجود، وقيام
وصيام، هم الفقهاء العلماء، هم أهل الدين والولاية والعبادة، وحسن
العبادة " (2).
وكانت (الري) في هذا التاريخ بلدة عامرة بالمدارس والمكاتب.
وحافلة بالعلماء والفقهاء والمحدثين (3).
وقد كان أحد أسباب انتقال (مدرسة أهل البيت) من العراق
إلى (إيران) هو الضغط الشديد الذي كان يلاقيه (فقهاء الشيعة)
وعلماؤهم من (العباسيين)، فقد كانوا يطاردون من يظهر باسم الشيعة
بمختلف ألوان الأذى والتهمة. فالتجأ (فقهاء الشيعة) وعلماؤها
إلى (قم والري)، ووجدوا في هاتين البلدتين ركنا آمنا يطمئنون إليه
لنشر فقه (أهل البيت) عليهم السلام وحديثهم.
ويظهر أن (قم) أوان عصر الغيبة، وعهد نيابة (النواب الأربعة)
.

(1) سفينة البحار. ج 2. ص 445.
(2) مجالس المؤمنين. ص 84.
(3) مجالس المؤمنين. ص 92 - 93
44

كانت حافلة بعلماء (الشيعة) وفقهائها، ومركزا فقهيا كبيرا
من (مراكز البحث الفقهي).
فعن (الشيخ في كتاب الغيبة: " أنفذ (الشيخ حسين بن روح)
- رضي الله تعالى عنه - كتاب التأديب إلى (قم)، وكتب إلى جماعة
الفقهاء بها وقال لهم:
انظروا ما في هذا الكتاب، وانظروا فيه شئ يخالفكم " (1).
وهذه الرواية التاريخية تدل على أن (قم) كانت في عهد
(حسين بن روح) مركزا فقهيا لها وزنها، حافلة بالفقهاء بحيث يراجعها
(الشيخ حسين بن روح) نائب (الإمام الخاص) عجل الله تعالى فرجه
ويعرض عليهم رسالة التأديب، لينظروا فيها.
وكانت (قم والري) تحت حكومة (سلاطين آل بويه) وعرف
(آل بويه) في التاريخ بنزعتهم الشيعية وولائهم.
ويكفي للدلالة على ضخامة (مدرسة قم) في هذا العصر أن تذكر
ما نقله (العلامة الحلي) رحمه الله في شرحه على (من لا يحضره الفقيه).
حيث قال:
إن في زمان (علي بن الحسين بن موسى بن بابويه) المتوفى
سنة 329 كان في (قم) من المحدثين مائتا ألف رجل) (2).
ووصفها (الحسن بن محمد بن الحسن القمي) المتوفى سنة 378
- وهي من الفترة التي نتحدث عنها - في كتاب خاص ننقل عناوين
أبواب منه ليلمس القارئ سعة هذه المدرسة وضخامتها في القرن الرابع
.

(1) الكنى والألقاب. ج 3. ص 76.
(2) مقدمة السيد حسن الخرسان على من لا يحضره الفقيه ص.
(د)
45

وهو العصر الذي نتحدث عنه.
قال: الباب السادس عشر في ذكر أسماء بعض علماء قم، وشئ
من تراجمهم)، وعدد الشيعة منهم 266 شخصا (ممن يترجم هو دون
الذين لا يترجمهم.
وعدد العامة 14 شخصا مع ذكر مصنفات كل واحد منهم ومروياته
وما يتعلق بذلك (1).
وهذه الكلمات تدل على أن (مدرسة قم) كانت في هذه الفترة
من أوسع المدارس الشيعية في الفقه والحديث وأضخمها، وكانت تضم
مئات المدارس والمساجد والمكاتب، وندوات البحث والمناقشة، ومجالس
الدرس والمذاكرة.
دولة آل بويه:
وربما نستطيع أن نعد سبب ذلك في بعض الحدود (حكومة آل بويه)
على هذه المنطقة: منطقة (قم والري) في هذه الفترة.
فقد عرف (آل بويه) في التاريخ بنزعتهم الشيعية، وولائهم
(لأهل البيت) عليهم السلام، مما بعث فقهاء الشيعة وعلماءها أن يقصدوا
هذه المنطقة ويجتمعوا فيها.
ومهما يكن من أمر فقد حفلت (قم والري) في هذه الفترة
(القرن الرابع الهجري) بشيوخ كبار في الفقه والحديث: أمثال
(الشيخ الكليني) المتوفى سنة 329 ه‍، و (ابن بابويه والد الصدوق)
.

(1) مقدمة السيد حسن الخرسان على من لا يحضره الفقيه ص.
(د)
46

المتوفى سنة 329 ه‍ و (ابن قولويه) أستاذ (الشيخ المفيد) المتوفى
سنة 369 هجرية، و (ابن الجنيد) المتوفى سنة 381 هجرية بالري
و (الشيخ الصدوق) المتوفى سنة 381 ه‍ والمدفون بالري، وغيرهم
من كبار مشايخ الشيعة في الفقه والحديث.
ونشطت في هذه الفترة حركة التأليف والبحث الفقهي، وتدوين
المجاميع الحديثية الموسعة (كالكافي ومن لا يحضره الفقيه)، وغيرهما
من المجاميع الحديثية، والكتب الفقهية:
النشاط الفكري في هذه المدرسة:
وقد بلغ النشاط الفكري في التأليف والبحث الفقهي، وتدوين
الأحاديث وجمعها، وتنسيقها غايته في هذه الفترة، فقد خلفت لنا هذه
الفترة ثروة فكرية ضخمة من أهم ما أنتجته (مدارس الفقه والحديث الشيعي)
في تاريخها.
ولكي يلمس القارئ حدود هذه المدرسة وضخامتها نشير إلى أسماء
بعض الفقهاء المحدثين اللامعين من هذه المدرسة: من الذين عاشوا خلال
هذه الفترة، ثم يمعن النظر بعد ذلك في كتب التراجم والرجال والتاريخ
من أراد أن يستقصي البحث عن ذلك:
1 - علي بن إبراهيم:
وعلي بن إبراهيم القمي شيخ الكليني في الحديث، كان ثقة
في الحديث ثبتا معتمدا صحيح المذهب، سمع فأكثر، وصنف كتبا،
منها: (قرب الإسناد، وكتاب الشرايع، وكتاب الحيض) (1).
.

(1) الرجال للنجاشي. ص 197
47

2 - (الكليني)،
كان (الكليني) معاصرا (لعلي بن الحسين بن بابويه) والد
(الشيخ الصدوق) وتوفيا في سنة واحدة، وهي المعروفة عند الفقهاء
بسنة (موت الفقهاء).
أكبر أثر تركه (محمد بن يعقوب الكليني) من بعده هو موسوعته
الحديثية الكبرى (الكافي) في الأصول والفروع، وكان تأليف الكافي
أولى محاولة من نوعه لجمع الحديث وتبويبه، وتنظيم أبواب الفقه والأصول.
يقول هو رحمه الله في مطلع كتابه:
كتاب كاف يجمع من جميع فنون علم الدين ما يكتفي به المتعلم
ويرجع إليه المستر شد، ويأخذ منه من يريد علم الدين، والعمل به بالآثار
الصحيحة عن (الصادقين) عليهم السلام (1).
فكانت هذه المحاولة لتهيئة المراجعة للفقهاء، وجمع وتنظيم أبواب
الفقه والأصول، وقد جمع رحمه الله في موسوعته هذه ما صح لديه
من أحاديث (الصادقين) عليهم السلام.
ولذلك كله كان هذا الكتاب فتحا كبيرا في عالم تدوين الحديث
وموضع عناية فائقة من قبل الفقهاء من بعده.
يقول عنه الشيخ المفيد: من أجل كتب الشيعة، وأكثرها فائدة (2).
ويقول عنه الشهيد كما في إجازته لابن الخازن:
كتاب الكافي في الحديث الذي لم يعمل مثله (3).
.

(1) أصول الكافي. ج 1. ص 1 - 8.
(2) تصحيح الإعتقاد. ص 27.
(3) بحار الأنوار. ج 25. ص 67
48

3 - (ابن قولويه):
أبو القاسم جعفر بن محمد بن جعفر بن موسى بن قولويه (285 - 368 ه‍)
كان من تلامذة الكليني والراوين عنه (1) وأستاذ (أبي عبد الله المفيد) (2).
قال عنه النجاشي: كان من ثقات أصحابنا وأجلائهم في الحديث
والفقه، وكل ما يوصف (3) به الناس من جميل وفقه فهو فوقه، له كتب
حسان (4) عد منها جملة كبيرة.
4 - (آل ابن بابويه):
من بيوتات الفقه والحديث في (قم)، وموضع عناية خاصة
من (الحجة القائم) عجل الله تعالى فرجه ونوابه، ومن (فقهاء الشيعة)
ومحدثيهم، فكان والد الشيخ الصدوق (علي بن بابويه القمي) من رؤساء
المذهب وفقهائهم الكبار.
يقول عنه العلامة في الخلاصة: " الشيخ القميين في عصره وفقيههم
وثقتهم " (5).
وذكر ابن النديم في الفهرست أن الصدوق ذكر مائتي كتاب لوالده
علي بن الحسين (6).
وهذا رقم كبير يشير إلى وجود حركة فكرية قوية، ونشاط ملموس
.

(1) راجع مقدمة الدكتور حسين علي محفوظ على الكافي: 24.
(2) الكنى والألقاب ج 1: 379.
(3) المراد أن كلما يوصف به الناس المبرزون من علم وفضل وتقى
وشجاعة فهو فوقهم جميعا في هذه الخصال.
(4) الرجال للنجاشي: ص 95 -
(5) نامه دانشوران 1: 2.
(6) فهرست ابن النديم: ص 291
49

في هذا الفترة في التأليف والتدوين في (مدرسة قم والري).
كان ولداه (أبو جعفر محمد المشتهر بالصدوق) و (أبو عبد الله حسين)
أخو الصدوق من كبار فقهاء الشيعة ومحدثيهم.
قال عنهما (الشيخ) في الغيبة: فقيهان ماهران يحفظان ما لا يحفظ
غيرهما من أهل قم.
وقد وجد هذان الإخوان من عناية (آل بويه) وبصورة خاصة
(ركن الدين) والوزير (الصاحب بن عباد) - ما كان يبعثها على التأليف
والكتابة والبحث الفقهي، فقد كتب (أبو عبد الله الحسين للصاحب بن عباد)
كثيرا من مؤلفاته، ودون الصدوق له مجموعته الحديثية الكبيرة
(عيون أخبار الرضا).
وكان (للصدوق) كما يذكر (العلامة) نحو من ثلاثمائة مؤلف (1)
ذكر اسم كثير منها في كتابه الكبير.
ولو ضم هذا العدد الضخم إلى مؤلفات والده في الفقه والحديث
لدل على وجود نشاط فكري وفقهي كبير في هذه المدرسة، وفي هذا
البيت بالخصوص بيت (ابن بابويه).
وكتاب (من لا يحضره الفقيه) هي الموسوعة الحديثية الجامعة الثانية
التي ألفت في الفقه في هذه الفترة بمدرسة (قم والري).
وقد حاول (الصدوق) في موسوعته هذه أن يجمع أبعاد الفقه وينظمه
في كتاب، ويجمع ما صح لديه من أحاديث فيه، ويجعله في متناول الفقيه
أو في متناول من لا يحضره الفقيه من العامة حينما تعرضه مسألة من المسائل
قبال كتاب (من لا يحضره الطبيب لمحمد بن زكريا) (2).
.

(1) الكنى والألقاب. ج 1. ص 212.
(2) راجع من لا يحضره الفقيه. ج 1. ص 3
50

وأحصيت أحاديث الكتاب، فكانت خمسة آلاف وتسعمائة وثلاث
وستون حديثا.
ومهما يكن من أمر فقد كان الكتاب فتحا ثانيا في تدوين الحديث
وجمعه بعد تأليف الكافي، ولا نريد أن نستقصي أسماء فقهاء ومحدثي هذه
المدرسة، فإن ذلك يؤدي بنا إلى أن نخرج عن حدود الدراسة التي نحاول
أن نقول بها.
ويكفي القارئ أن يراجع كتاب (مجالس المؤمنين) للقاضي
(نور الله التستري)، ليلمس سعة هذه المدرسة وضخامتها، وما أنشأت
هذه المدرسة من كبار الفقهاء والمحدثين، وما خلفته من موسوعات فقهية
وحديثية وتراث فكري ضخم.
ملامح المدرسة:
وبعد أن لمس القارئ في حدود ما تقدم حديث حدود هذه
المدرسة وضخامتها وسعتها، وجوانب منها، وبعض فقهائها البارزين،
وبعض التراث الفقهي والحديثي الذي خلقته لنا هذه الفترة ننتقل به
إلى استخلاص ملامح هذه المدرسة، ودراسة الميزات التي تميز هذه
المدرسة عن المدارس السابقة عليها، وما قدمته هذه المدرسة من أثر
في تطوير البحث الفقهي:
وأولى هذه الملامح وأهمها التوسعة في تدوين الحديث وجمعه.
فقد كان تدوين الحديث قبل هذه الفترة كما أشرنا إليه في الحديث
عن العصر الثاني لا يتجاوز عن التدوين الشخصي لما سمعه الراوي
من الإمام مباشرة أو بصورة غير مباشرة... مبعثرة حينا، ومنتظمة
51

في بعض الأحيان.
ولم يتفق لأحد من المحدثين والفقهاء في العصر الثاني أن يجمع
ما صح في الأحكام من الأحاديث عن (أهل البيت) عليهم السلام
وينظم ذلك، كما لوحظ في المجموعتين الحديثيتين اللتين خلفتهما هذه
المدرسة وهما:
(الكافي، ومن لا يحضره الفقيه).
وهذه الخطوة - خطوة جمع الأحاديث وتنظيمها - تعد من حسنات
هذه المدرسة، فقد كثرت حاجة الفقهاء إلى مراجعة الروايات والأحاديث
حين الحاجة، وكانت لأحاديث منتشرة بصورة غير منظمة: من حيث
التبويب والجمع في آلاف الكتب والأصول والرسائل التي خلفها
(أصحاب الأئمة) و (محدثو الشيعة)، ولم يكن من اليسير بالطبع
الإلمام بما ورد من أحاديث في مسألة لكل أحد.
فكانت محاولة الجمع والتبويب في هذه الفترة لسد هذه الحاجة
وظهر في هذه الفترة لون جديد من الكتابة الفقهية، وهي الرسائل الجوابية
فقد كانت (الشيعة) تسأل الفقهاء من أطراف العالم الإسلامي ما يعرضها
من المسائل بشكل استفسار، فكان الفقهاء يجيبون على هذه الأسئلة..
وقد يطول الجواب، ويستعرض المجيب الأحاديث الواردة في الباب.
فيكون من ذلك رسالة جوابية صغيرة في مسألة فقهية.
وفي (فهارس كتب الشيعة) كالذريعة ورجال النجاشي، وغيرهما
يجد الباحث آلاف الرسائل الفقهية من هذا القبيل.
وقد كان شيوع هذا اللون من الكتب الفقهية في تطوير البحث
الفقهي في هذه الفترة، فكان الفقيه يدرس المسألة، وقد يلقيها على طلابه
في مجلس الدرس، ويستعرض ما ورد فيها من أحاديث، فكانت نقطة
52

بداية للرأي والنظر إن صح هذا الاعتبار.
ومع ذلك فقد كان البحث الفقهي في هذه الفترة يقضي مراحل
نموه الأولية.
ولم يقدر له بعد أن يبلغ حد المراهقة، فكانت الرسائل الفقهية
في هذه المدرسة لا تتجاوز عرض الأحاديث من غير تعرض للمناقشة
والاحتجاج ونقد الآراء وبحثها، وتفريع فروع جديدة عليها.
ولم يتجاوز البحث الفقهي في الغالب عن حدود الفروع الفقهية
المذكورة في حديث (أهل البيت) عليهم السلام، ولم يفرغ الفقهاء بصورة
كاملة لتفريغ فروع جديدة للمناقشة والرأي.
وكانت الفتاوى في الغالب نصوص الأحاديث مع إسقاط الإسناد
وبعض الألفاظ في بعض الحالات؟
ومن لاحظ ما كتبه (علي بن بابويه القمي والد الصدوق) وكانت
له رسالة إلى ولده يذكر فيها فتاواه.
وما كتبه (الصدوق) كالمقنع والهداية.
وما كتبه (أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين) الفقيه الرازي
المتوفى سنة 381.
و (جعفر بن محمد بن قولويه) وغيرهم من هذه الطبقة يطمئن
إلى أن النهج العام في (البحث الفقهي) في هذه الفترة، لم يتجاوز حدود
عرض ما صح من الروايات والأحاديث، رغم توسع المدرسة في هذه
الفترة، وتلك هو أهم ملامح (مدرسة قم والري) في هذه الفترة.
53

العصر الرابع:
مدرسة بغداد:
في القرن الخامس الهجري انتقلت المدرسة من (قم والري)
إلى (بغداد) حاضرة العالم الإسلامي عامة.
وكان لهذا الانتقال أسباب عديدة:
(الأول) ضعف جهاز الحكم العباسي، حيث ضعفت سيطرتهم
في هذه القترة، ودب الانحلال في كيان الجهاز، فلم يجد الجهاز
القوة الكافية لملاحقة (الشيعة) والضغط عليهم، كما كان.
(المنصور والرشيد والمتوكل والمعتصم) وأضرابهم من الخلفاء العباسيين
فوجد (فقهاء الشيعة) مجالا للظهور ونشر (الفقه الشيعي)، وممارسة
البحث الفقهي بصورة علنية.
(الثاني): ظهور شخصيات فقهية من بيوتات كبيرة.
(كالشيخ المفيد والسيد المرتضى) فقد كان هؤلاء يستغلون مكانة
بيوتهم الاجتماعية، ومكاناتهم السياسية في نشر (الفقه الشيعي)
وتطوير (دراسة الفقه).
(الثالث): توسع المدرسة وتضخمها مما أدى إلى احتلال
(بغداد حاضرة العالم الإسلامي) في ذلك الوقت، وقد كانت هذه
البيئة الجديدة صالحة لتقبل هذه المدرسة، وتطويرها وخدمتها.
فهي مركز ثقافي كبير من مراكز الحركة العقلية في العالم الإسلامي
يقطنها الآلاف من الفقهاء والمحدثين، وتنشر في آلاف المدارس والمكاتب
54

والمساجد التي كان يحتشد فيها جماهير الطلاب والمدرسين والعلماء كل يوم
للدرس والمطالعة، والبحث والمناقشة، فكان لانتقال المدرسة إلى هذا
الجو الفكري على يد علماء كبار أمثال (المفيد والمرتضى والطوسي)
أثر كبير في الحركة الفكرية القائمة في حينه، فقد تكاملت (مدرسة الفقه الشيعي)
في (قم والري) وتأصلت، وظهرت ملامح الاستقلال عليها وتبلورت
أصولها وقواعدها في (بغداد).
ورغم كثرة مدارس البحث الفقهي في (بغداد) في ذلك الحين
فقد كانت (مدرسة أهل البيت) عليهم السلام أوسعها وأضخمها وأعمقها
جذورا وأصولا وأكثرها تأصلا واستعدادا، وأقومها في الاستدلال
والاحتجاج.
وكل ذلك كان يبعث طلاب الفقه على الالتفاف حول هذه المدرسة
أكثر من غيرها.
فقد كان يحضر درس (الشيخ الطوسي) حوالي ثلاثمائة مجتهد
من (الشيعة). ومن (العامة) ما لا يحصى (1).
ومن المستحسن بنا - ونحن بصدد دراسة (الفقه الشيعي) في هذا
العصر - أن نمر سريعا على تراجم ألمع فقهاء هذه الدورة:
1 - (المفيد):
أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان المفيد البغدادي، ولد
في (عكبرا) وانتقل منها في أيام صباه إلى بغداد بصحبة والده، ونشأ
في بغداد، وتفرغ منذ نعومة أظفاره لطلب العلم، فعرف وهو بعد صغير
يرتاد حلقات الدراسة بالفضل والنبوغ.
.

(1) راجع مقدمة الشيخ آغا بزرك الطهراني على التبيان. ص
(د)
55

ومما يذكر من نبوغه أنه حضر في مفتتح حياته الدراسية في بغداد
عند (الشيخ أبي ياسر) بباب خراسان من مشايخ السنة فأفحم الشيخ
في الدرس، فأرجعه الشيخ أبو ياسر إلى الشيخ الرماني وهو كان في يومه
من كبار علماء السنة في بغداد، وجلس التلميذ الصغير في زاوية من المجلس
يستمع إلى درس الشيخ، وحين ختم الشيخ الرماني درسه سأل رجل
من البصرة عن حديثي الغدير، والغار، فقال الرماني له:
حديث الغدير رواية، وحديث الغار دراية، ولا تقدم الرواية
على الدراية.. فسكت السائل ولم يحر جوابا.
فتقدم التلميذ الناشئ وهو في آخر المجلس إلى الشيخ واخترق إليه
الصفوف وقال له:
ماذا تقول في الذي يخرج على إمام زمانه؟
فقال له الشيخ: كافر، ثم استدرك فقال: فاسق.
فقال المفيد: فماذا تقول في إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب؟
قال له الشيخ: لا شك في إمامته.
فقال: فماذا تقول في خروج طلحة والزبير عليه؟
فقال له الرماني - وهو مأخوذ بنباهة هذا الطالب الناشئ الذي
لم يلتق به من قبل في مجلس الدرس -: أنهما تابا بعد ذلك.
فقال المفيد - وقد تمكن من أستاذه -: إن توبتهما رواية، وحربهما
للإمام دراية، ولا ترفع اليد بالرواية عن الدراية.
فتضايق الشيخ الرماني أمام تلاميذه وأفحم، ولم يحر جوابا أمام
التلميذ الناشئ، فاستبقاه في المجلس وسأله عن شيوخه ودرسه، وكتب
رقعة إلى أستاذه أبي ياسر يعرفه بقيمة تلميذه الناشئ ولقبه ب‍ (المفيد)
56

وعرف من ذلك الوقت بالمفيد (1).
ومهما يكن من أمر، فقد ظهر (الشيخ المفيد) في مدة قليلة
على أقرانه، وحفه شيوخه وأساتذته - كالشيخ الصدوق وغيره - بعنايتهم
لما لمسوا فيه من مؤهلات وقابليات تندر وجودها في غيره.
واستقل (الشيخ المفيد) بالتدريس في بغداد وهو بعد لم يتجاوز
سني الشباب، وتفرغ للفقه والكلام، وكان يحضر مجلس درسه آلاف
الطلاب: من الشيعة والسنة، وبرز من تلاميذه رجال كبار: أمثال
(السيد المرتضى، والشيخ الطوسي) تابعوا أستاذهم المفيد في توسعة
المدرسة وتطويرها، وإدخال تغييرات جديدة عليها.
وقد قدر (للشيخ المفيد) أن يكون رائدا فكريا لهذا العصر
من عصور الفقه الإسلامي، وأن يدخل تغييرات وتحسينات كثيرة
على (الفقه) ويطور من مناهجه وقواعده.
ومن بعده كان تلاميذه وتلاميذ تلاميذه يعترفون له بهذا الحق
يقول (العلامة الحلي) في شأنه: من أجل مشائخ الشيعة ورئيسهم
وأستاذهم، وكل من تأخر عنه استفاد منه، وفضله أشهر من أن يوصف
في الفقه والكلام والرواية (2).
وقد أحصى له السيد الأمين قريبا من مائتي كتاب ورسالة في الفقه
والكلام والحديث.
ومن استعراض (حياة المفيد) يستظهر الباحث أن الشيخ المفيد
استطاع أن يغير الجو الفكري في بغداد (حاضرة العالم الإسلامي) يومذاك
.

(1) راجع مجالس المؤمنين ج 1. ص 464.
(2) أعيان الشيعة ج 6: ص 20
57

وأن يكهرب ندوات الفقه والكلام، ويجذب إلى نفسه طلاب العلم
حتى كاد أن يغطي المدارس الفقهية والكلامية الأخرى، والفقهاء والمتكلمين
من أتباع سائر المذاهب.
وقد كان الفقهاء والمتكلمون يقصدونه من أقطار بعيدة، وكان بيته
ندوة عامرة بحديث الفقه والكلام، والنقاش والأخذ والرد.
ويبدو أن ذلك كله جعل ظله ثقيلا على المذاهب الكلامية والفقهية
الأخرى، وعلى جهاز الحكم الذي كان يدعو إلى مقاطعة (مدرسة أهل البيت)
بصورة خاصة.
ويلمح الباحث هذا الشعور من عبارة الخطيب الجافية في تعريف
الشيخ.
قال الخطيب في تاريخ بغداد: محمد بن محمد بن النعمان أبو عبد الله
المعروف بابن المعلم شيخ الرافضة والتعلم على مذاهبهم، صنف كتبا كثيرة
في إضلالهم، والذب عن اعتقاداتهم ومقالاتهم، والطعن على السلف
الماضين من الصحابة والتابعين، وعامة الفقهاء والمجتهدين، وكان أحد
أئمة الضلال هلك به خلق من الناس إلى أن أراح الله المسلمين منه (1).
وقال عنه اليافعي في مرآة الجنان: عالم الشيعة وإمام الرافضة
صاحب التصانيف الكثيرة، المعروف بالمفيد وبابن المعلم أيضا، البارع
في الكلام والجدل والفقه، وكان ينازع كل عقيدة بالجلالة والعظمة
ومقدما في (الدولة البويهية).
وكان كثير الصدقات، عظيم الخشوع، كثير الصلاة والصوم
حسن اللباس.
وكان (عضد الدولة) ربما زار (الشيخ المفيد)، وكان شيخا ربعة
.

(1) تاريخ بغداد ج 3. ص 231
58

نحيفا أسمر، عاش ستا وسبعين سنة، وله أكثر من مائتي مصنف، كان
يوم وفاته يوما مشهورا، وشيعه ثمانون ألفا من الرافضة والشيعة، وأراح
الله منه) أهل السنة والجماعة (1).
ومهما كانت عبارات الإطراء والجرح، فقد أتيح (للشيخ المفيد)
أن يكون مجددا في الفقه والكلام في هذه الدورة، وأن يصبغ مدرسة
(أهل البيت) في الفقه بطابع الجلالة والاحترام، وأن يفرض وجودها
على (أجواء بغداد) الفكرية، وهي يومذاك من أهم مراكز الحركة
العقلية في العالم الإسلامي وأن يكون رائدا للمدرسة، ومربيا لأساتذتها
وعلمائها.
2 - (المرتضى):
تلمذ (المرتضى علم الهدى وأخوه الرضي) على (الشيخ المفيد)
وعنى بهما الشيخ عناية فائقة، وتفرغ المرتضى في الفقه بجانب تخصصه
في الأدب، حتى كان (عز الدين أحمد بن مقبل) يقول:
لو حلف إنسان أن (السيد المرتضى) كان أعلم بالعربية من العرب
لم يكن عندي آثما (2).
وإلى جانب مؤهلات (المرتضى) الفكرية، وجهده الكبير في طلب
العلم وعناية (الشيخ المفيد) أستاذه به، ومكانة أسرته الاجتماعية
تفرض شخصيته في الآداب الاجتماعية، والثقافية ببغداد.
ولم يتوقف أستاذه الأكبر (المفيد) حتى خلفه، وتولى بنفسه مهمة
التدريس، وزعامة الطائفة، واحتشد حوله الطلاب.
وكان يجري عليهم حقوقا تختلف حسب مكانة الطالب منه ومؤهلاته.
.

(1) مجالس المؤمنين ج 1. ص 466
(2) أعيان الشيعة ج 41. ص 190
59

وحاول (السيد المرتضى) أن يتابع خطوات أستاذه المفيد
في (تطوير مناهج الفقه) ودراسة الأصول، فأوتي حظا وافرا في هذا
المجال، وتابع خطوات المفيد، وطور كثيرا من مناهج الفقه، وكتب
الأصول ودرسها.
وربما يصح اعتباره من أسبق من ارتاد هذا الحقل: من حقول
الفكر الإسلامي: وفتح كثيرا من مسائل الأصول، وبنى الفروع
على الأصول.
وكتابه (الذريعة) خبر شاهد على ما نقول، فمن يقرأ الذريعة
يجد فيه الملامح الأولية لنشوء الأصول.
وقد عد له (السيد الأمين) قدس سره في الأعيان ما يقرب
من تسعين مجلدا من مؤلفاته مما عثر على اسمه.
ومما يدل على جلالة مكانة السيد العلمية ما حكاه القاضي التنوخي
صاحب السيد، فقال:
إن مولد السيد سنة 355، وخلف بعد وفاته ثمانين ألف مجلد
من مقروآته، ومصنفاته، ومخطوطاته (1).
3 - (الشيخ الطوسي):
ولد (شيخ الطائفة) في (طوس) في شهر رمضان سنة 385 بعد
أربع سنين من وفاة (الشيخ الصدوق)، وهاجر إلى العراق فهبط بغداد
سنة 408 وهو ابن ثلاث وعشرين سنة، وكانت زعامة (المذهب الجعفري)
يومذاك لشيخ الأمة وعلم الشيعة (محمد بن محمد بن النعمان) الشهير
بالشيخ المفيد فلازمه ملازمة الظل، وعكف على الاستفادة منه، وأدرك
.

(1) المؤرخ الجليل الشيخ آغا بزرك الطهراني في مقدمته على التبيان
ص 1 (ج - د)
60

شيخه (الحسين بن عبيد الله ابن الغضائري) المتوفى سنة 411، وشارك
النجاشي في جملة من مشائخه.
وبقي على اتصاله بشيخه حتى اختار الله لأستاذه دار بقائه في سنة 413
فانتقلت زعامة الدين، ورئاسة المذهب إلى علامة تلاميذه علم الهدى
(السيد المرتضى) فانحاز (شيخ الطائفة) إليه، ولازم الحضور تحت
منبره، وعنى به المرتضى، وبالغ في توجيهه وتلقينه، واهتم له أكثر
من سائر تلاميذه، وعين له كل شهر اثني عشر دينارا، وبقي ملازما له
طيلة ثلاث وعشرين سنة حتى توفي السيد المعظم سنة 436، فاستقل
(شيخ الطائفة) بالإمامة، وظهر على منصة الزعامة، وأصبح علما للشيعة
وناشرا للشريعة، وكانت داره في الكرخ مأوى الأمة، ومقصد الوفاد
يأتونها لحل المشاكل، وإيضاح المسائل، وقد تقاطر عليه العلماء والفضلاء
للتلمذة عليه، والحضور تحت منبره، وقصدوه من كل بلد ومكان
وبلغت عدة تلاميذه ثلاثمائة من مجتهدي الشيعة، ومن العامة ما لا يحصى
كثرة (1).
وقد نشأ (الشيخ الطوسي) على يد علماء كبار، وشيوخ أجلاء
في الفقه، فحضر درس (ابن الغضائري)، ولازم (الشيخ المفيد)
خمس سنوات، ولازم (المرتضى) ثلاث وعشرين سنة.
وكان (للمفيد والمرتضى) أثر كبير في تكوين ذهنية (الشيخ الطوسي)
وثقافته.
وكان في هذه الفترة يعيش تجربة تطوير البحث الفقهي والأصولي
في ظل أستاذيه الكبيرين، وكانت فترة مخاض تمخضت عنها المدرسة
.

(1) المؤرخ الجليل الشيخ آغا بزرك الطهراني مقدمته على التبيان
ص 1 (ج - د)
61

الفقهية الجديدة.
وفترة المخاض عادة تقترن دائما بكثير من الاضطراب والقلق الفكري
وعدم الاستقرار.
عاش (الشيخ) مخاض هذه المدرسة في حياة أستاذيه الكبيرين
وعانى ما تتطلب هذه الفترة من جهد وتعب.
واستمر بعد أستاذيه في تطوير المدرسة بعد أن بلغت في حياة
(المرتضى) دور المراهقة، وتسلم الشيخ المدرسة عن أستاذه المرتضى
في هذا الدور، ولا يختلف هذا الدور فيما يصيب القائمين بها: من تعب
وجهد، واضطراب فكري، دائم، وعدم استقرار عن دور المخاض.
وكذلك كانت حياة (الشيخ الطوسي) في مرحلتي التلمذة والتدريس
سلسلة طويلة من المحاولات التجديدية، لتطوير الفقه وصياغته من جديد
وتجديد أصول الصناعة والصياغة والاستدلال فيه.
ولاقى (الشيخ الطوسي) في سبيل ذلك كثيرا من التعب والجهد
وأعانه على ذلك صبره على العمل، ومواصلته للتأليف والتدريس والتفكير
ومؤهلاته الفكرية الخاصة، ونبوغه الذهني، وعناية أستاذيه به، وتوفر
الكتب لديه.
وقد أنعم الله على (شيخنا الطوسي) بهذه النعم كلها، فقد كانت
في متناول الشيخ مكتبتان كبيرتان يستعين بهما في التأليف، والمطالعة
والإلمام بأمهات الكتب الفقهية:
(إحداهما مكتبة الشيعة) التي أنشأها أبو نصر (سابور بن أردشير)
وزير (بهاء الدولة البويهي) جمع فيها ما تفرق من كتب فارس والهند
واستكتب تآليف أهل الهند والصين والروم، وأهدى إليها العلماء كتبهم
فكانت من أغنى مكاتب بغداد، وقد أمر بإحراقها (طغرل بيك)
62

فيما أحرق من (مؤسسات الشيعة) وبيوتهم، ومدارسهم في الكرخ.
(ثانيتهما مكتبة أستاذه السيد المرتضى) التي كانت تحتوي على ثمانين ألف
كتاب، والتي لازمها ثماني وعشرين سنة
كل هذه العوامل، وعوامل أخرى أدت إلى نشوء (الشيخ الطوسي)
وتكوين ذهنيته، وثقافته الواسعة).
وقد انتقل (الشيخ الطوسي) إلى (النجف الأشرف) سنة 448
حينما كبس على داره وأخذ ما وجد من دفاتره وكرسي كان يجلس عليه
للكلام كما يقول ابن الجوزي.
وظل بالنجف يمارس مهمته في (زعامة الشيعة) والتدريس والتأليف
وتطوير مناهج الدراسة الفقهية اثني عشر سنة حتى أن آثره الله لدار لقائه
في محرم سنة 460 عن خمس وسبعين سنة.
ومهما كان من أمر فقد أتيح (للشيخ الطوسي) أن يبلغ بالمدرسة
التي فتح أبوابها أستاذه (المفيد والمرتضى) إلى القمة، ويفرض وجودها
على الأجواء الثقافية في بغداد وفي العراق عامة.
حتى أن الخليفة القائم بأمر الله بن القادر بالله جعل له كرسي الإفادة
والبحث، ونصبه لهذا المكان الرفيع، وكان لكرسي الإفادة والكلام
مقام كبير يومذاك ب‍ (بغداد).
وهذا يعني أن (الشيخ) فرض وجود المدرسة رغم ميول الجهاز
المعادية، ورغم معارضات المذاهب الكلامية والفقهية الأخرى على أجواء
العراق الثقافية.
وقدر له لأول مرة أن يفتح باب الاجتهاد المطلق، والنظر والرأي
على مصراعيه واسعا، وأن ينظم مناهج الاستنباط والاجتهاد، ويأصل
الأصول، ويضع مناهج البحث للأصول، ويفرع المسائل، ويضع
63

أصول الدراسة والخلافية في الفقه، وعشرات من أمثالها مما أسدى
(الشيخ الطوسي) إلى المدرسة الفقهية من الخدمات.
وقد ذكر العلامة الجليل الشيخ آغا بزرك اسم (سبع وأربعين مؤلفا)
للشيخ مما وصل إليه من أسماء مصنفاته.
ملامح المدرسة:
ومما تقدم تبين للباحث أن (مدرسة بغداد) كانت فتحا جديدا
في عالم البحث الفقهي بصورة عامة، فقد كان البحث الفقهي - كما
استعرضنا ملامحه بإجمال - في مدارس (المدينة والكوفة وقم) لا يخرج
عن حدود استعراض السنة، ونقل الحديث، ولم يبلغ رغم تطور المدرسة
في عهودها الثلاثة مرحلة الرأي والاجتهاد.
ولم نلمس في هذه العهود الثلاثة ملامح عن الصياغة الفقهية والصناعة
فيما بين أيدينا من آثار عصور الفقه الثلاثة الأولى بشكل ملموس واضح
الملامح.
ولأول مرة يلمس الباحث آثار الصناعة والصياغة الفنية، والاجتهاد
والرأي والتفريغ في كتابات هذا العصر، ولا سيما كتب (المرتضى)
الأصولية وكتب (الشيخ) الفقهية والأصولية.
ولو حاول الباحث أن يدمج العصور الأولى بعضها في بعض، ويعتبر
هذه الفترة فاتحة عصر ثان، ومدرسة جديدة في الفقه لم يبتعد كثيرا
عن الصواب.
ومهما يكن من أمر فلنحاول أن ندرس ملامح هذه المدرسة مرة
أخرى، ليتاح لنا أن نقيس بدقة أبعاد هذه المدرسة، ونضع لها حدودا
64

تفضلها عن المدارس السابقة عليها، واللاحقة لها:
1 - وأولى هذه الملامح: أن (الفقه) خرج في هذا الدور
عن الاقتصار على استعراض نصوص الكتاب، وما صح من السنة إلى معالجة
النصوص، واستخدام الأصول والقواعد، فقد كانت مهمة البحث الفقهي
في الأدوار السابقة عرض النصوص، وفهمها وتذوقها.
ولأمر ما يطلق على هذا العلم اسم (الفقه)، فالفقه هو الفهم
ومهمة الفقيه قبل هذه المرحلة ما كانت تتجاوز في الأعم الأغلب فهم
النصوص الصحيحة وتذوقها.
وفي هذه المرحلة انقلبت عملية (الاستنباط) إلى صناعة عملية لها
أصولها وقواعدها، وانفصل البحث (الأصولي) عن البحث الفقهي
وأفرد بدراسات ومطالعات خاصة، وقام البحث الفقهي على نتائج هذه
الدراسات والمطالعات،
ولأول مرة في (تاريخ الفقه الجعفري) يلمح الباحث ملامح
الصناعة في كتابات (الشيخ الطوسي) الفقهية، وطبيعي أن الصناعة الفقهية
في هذه الفترة كانت تطوي مراحلها البدائية، ولكنه مع ذلك كانت بداية
لعهد جديد، وخاتمة لعهد مضى.
ولأول مرة في هذا الدور قام (السيد المرتضى) بمحاولة دراسة
المسائل الأصولية مفصولة عن الفقه بصورة موضوعية، وتنقيح المسائل
الأصولية في كتب ودراسات مستقلة، إلا أنها كانت مع ذلك بدائية
ولم تتجاوز في غالب الأحوال مباحث الألفاظ: من الأوامر والنواهي
ودلالات هيئات الألفاظ وموادها.
2 - وظاهرة أخرى من ملامح هذا العصر هو تفريع المسائل الفقهية
واستحداث فروع جديدة لم تتعرض لها نصوص الروايات، وكان البحث
65

الفقهي فيما سبق هذا الدور - لا يتجاوز حدود بيان الحكم الشرعي
باستعراض الروايات الواردة في الباب.
ولم نعهد من أحد من الفقهاء المتقدمين على هذا العصر محاولة معالجة
فروع جديدة لم تتعرض لها الروايات.
والسر واضح، فلم يقدر للفقه الجعفري أن يدخل قبل هذا العصر
دور المعالجة والصناعة، وتفريع فرع على فرع آخر، أو حكم شرعي
أو قاعدة شرعية تحتاج إلى شئ أكثر من استعراض خصوص الأحكام
والقواعد، فلا يتم ذلك عادة من غير المعالجة والصناعة.
وهذا لم يتوفر للبحث الفقهي قبل هذا العهد:
وربما يصح أن نقول: إن (الشيخ الطوسي) كان أول من قام
بهذه التجربة في كتابه المبسوط، فقد ذكر في أول الكتاب أن الذي دعاه
إلى تصنيفه أن (الإمامية) لم يكونوا يفرعون الفروع إلى زمانه، وكانوا
يقفون عند النصوص التي وصلت إليهم عن المتقدمين من المحدثين، وكان
ذلك من دوافع الطعن على (الفقه الجعفري)، فقام بهذه المحاولة لسد
هذا الفراغ في البحث الفقهي.
3 - والظاهرة الثالثة من ملامح هذا العصر: هو ظهور (الفقه المقارن).
أو (الخلافي). فحينما تمركزت (المدرسة الشيعية) في الفقه في (بغداد)
وفرضت وجودها على الأجواء العلمية في حاضرة العالم الإسلامي أثار ذلك
أصحاب المذاهب الفقهية الأخرى، وأعلنوا المعارضة بوجه المدرسة
بصورة صريحة، وأثاروا المسائل الخلافية بصورة حادة، وأدى ذلك
إلى اصطدام فقهاء الشيعة بفقهاء المذاهب الأخرى في الندوات والمجالس
العامة في المسائل الفقهية الخلافية،
ومهما يكن من أمر، ومهما كانت الدوافع السياسية التي كانت تثير
66

هذه المسائل، فقد أدى ذلك إلى خصوبة البحث الفقهي، فالخلاف
والانشقاق دائما يؤدي إلى الخصوبة، لا العقم، ويدل على خصوبة
الذهنية لا عمقها.
وكان من آثار ظهور الخلاف بين (الفقه الإمامي) والمذاهب الفقهية
الأخرى، واتساع رقعة الخلاف بينها: أن تفرغ (فقهاء الشيعة) لبحث
المسائل الخلافية بصورة موضوعية، وبشكل مسهب.
وظهر هذا النوع من البحث الفقهي لأول مرة في هذا العصر على يد
(المفيد والمرتضى والطوسي).
وتوسع (الشيخ الطوسي) بشكل خاص لدراسة هذا الجانب
من البحث الفقهي في كتابه الكبير (الخلاف) بشكل موسع تناول فيه
المسائل الفقهية (الشيعة والسنة) في مختلف أبواب الفقه، وتعرض في كل
مسألة لما يسند الجانبين من الأدلة، وناقش آراء المذاهب الأخرى في كثير
من المسائل. والكتاب - رغم قدمه - قيم لا يستغني عنه باحث فقيه.
وكان من هذا القبيل استعراض المسائل التي تنفرد فيها الشيعة برأي
والاستدلال له وانتصاره.
وفي هذا الفن من فنون الفقه كتب (السيد المرتضى) كتاب
(الإنتصار) ويقال له (متفردات الإمامية) صنفه للوزير (عميد الدين)
في بيان الفروع التي شنع على الشيعة بأنهم خالفوا فيها الإجماع.
ومن هذا القبيل أيضا كتاب (الأعلام فيها اتفقت الإمامية عليه
من الأحكام مما اتفقت العامة على خلافهم فيه) للمفيد، ألفه بطلب
تلميذه المرتضى.
4 - وظاهرة أخرى من ملامح هذا العصر ظهور (الإجماعات)
والاستدلال بها، ولا يعنينا هنا أن نتحدث عن (حجية الإجماع)
67

وما قيل، أو يقال فيه، فذلك كله خارج عن مهمتنا في هذا البحث.
وما يهمنا أن نشير إليه: أن توسع البحث الفقهي وتكامله دفع الفقهاء
إلى استكشاف أدلة جديدة للاستنباط، فيما إذا لم يجدوا في المورد نصا
أو لم يقتنعوا بسلامة النص من حيث السند، أو الدلالة.
فوجدوا في إجماع فقهاء المذاهب عامة، أو فقهاء الطائفة في عصر
واحد دليلا على وجود نص شرعي يجوز الاعتماد عليه، إذ لا يمكن
أن يجمع فقهاء المذاهب على حكم من دون وجود نص على ذلك
أو دليل على سلامة الحكم، إذ لا يمكن أن يخطأ فقهاء الأمة جميعا دون
أن يحصل منهم من ينشق عليهم، ويصيب الواقع.
وظهر الاحتجاج بالإجماع بصورة واضحة في هذا العصر وعند
(الشيخ الطوسي) بصورة خاصة.
ومؤلفات الفقهاء المتقدمين على هذا العصر - وإن كانت لا تخلو
عن التمسك بالإجماع - إلا أن هذه الظاهرة تبدو في كتب الشيخ بصورة
خاصة، وفي آثار هذه المدرسة بصورة عامة أكثر من أي وقت سابق.
ولا يخلو هذه الظاهرة على أي حال من دلالة على توسع البحث
الفقهي وتكامله، والحاجة إلى أدلة جديدة يسندها الكتاب والسنة والعقل.
ويتضح مما تقدم أن البحث الفقهي خطأ خطوة كبيرة في هذه المرحلة
من حياته، وأشرف على أعتاب مرحلة جديدة بعد أن خلف وراءه
مرحلة طويلة، ودخل دور المراهقة حاملا تجارب ثلاثة قرون حافلة
بالجهود المثمرة، والتجارب الخصبة.
وبلغت التجربة الجديدة قمتها في حياة (الشيخ الطوسي) حيث
قام بمحاولات تجديدية جريئة في تطوير عملية الاستنباط على الصعيد الفقهي
والأصولي.
68

ولكي يلمس القارئ التراث الضخم الذي خلفة (الشيخ)
والتجربة الجريئة التي خاضها في تطوير منهج البحث الفقهي ننقل
إلى القارئ النص التالي من مقدمة كتابه (المبسوط):
قال في مقدمة الكتاب:
إني لا أزال أسمع معاشر مخالفينا من المتفقهة، والمنتسبين إلى علم
الفروع يستخفون بفقه أصحابنا (الإمامية)، وينسبونهم إلى قلة الفروع
وقلة المسائل، ويقولون: إنهم أهل حشو ومناقضة، وإن من ينفي
القياس والاجتهاد لا طريق له إلى كثرة المسائل، ولا التفريع، ولا الأصول
لأن جل ذلك وجمهوره مأخوذ من هذين الطريقين.
وهذا جهل منهم بمذاهبنا، وقلة تأمل لأصولنا، ولو نظروا
في أخبارنا وفقهنا لعلموا أن جل ما ذكروه من المسائل موجود في أخبارنا
ومنصوص عليه عن أئمتنا الذين قولهم في الحجة يجري مجرى قول
النبي صلى الله عليه وآله إما خصوصا، أو عموما، أو تصريحا، أو تلويحا.
وأما ما كثروا به كتبهم من مسائل الفروع فلا فرع من ذلك إلا وله
مدخل في أصولنا، ومخرج على مذاهبنا، لا على وجه (القياس) بل
على طريقة توجب علما يجب العمل عليها، ويسوغ المسير إليها: من البناء
على الأصل، وبراءة الذمة، وغير ذلك.
مع أن أكثر الفروع لها مدخل فيما نص عليه أصحابنا، وإنما كثر
عددها عند الفقهاء بتركيبهم المسائل بعضها على بعض، وتعليقها، والتدقيق
فيها، حتى أن كثيرا من المسائل الواضحة دق لضرب من الصناعة
وإن كانت المسألة معلومة واضحة.
وكنت على قديم الوقت وحديثه متشوق النفس إلى عمل كتاب يشتمل
على ذلك تتوق نفسي إليه، فيقطعني عن ذلك القواطع، وتشغلني الشواغل
69

وتضعف نيتي أيضا فيه قلة رغبة هذه الطائفة فيه، وترك عنايتهم به لأنهم
ألفوا الأخبار، وما رووه من صريح الألفاظ، حتى أن مسألة لو غير لفظها
وعبر عن معناها بغير اللفظ المعتاد لهم لعجبوا منه، وقصر فهمهم عنها.
وكنت عملت على قديم الوقت كتاب (النهاية)، وذكرت جميع
ما رواها أصحابنا في مصنفاتهم، وأصلوها من المسائل، وفرقوه في كتبهم
ورتبته ترتيب الفقه، وجمعت بين النظائر، ورتبت فيه الكتب على ما رتبت
للعلة التي بينتها هناك، ولم أتعرض للتفريع على المسائل، ولا لتعقيد الأبواب
وترتيب المسائل، وتعليقها، والجمع بين نظائرها، بل أوردت جميع
ذلك، أو أكثره بالألفاظ المنقولة حتى لا يستوحشوا من ذلك، وعملت
بآخره مختصرا جمل العقود في العبادات سلكت فيه طريق الإيجاز والاختصار
وعقود الأبواب فيما يتعلق بالعبادات، ووعدت فيه أن أعمل كتابا في الفروع
خاصة يضاف إلى كتاب (النهاية) ويجتمع معه، فيكون كاملا كافيا
في جميع ما يحتاج إليه.
ثم رأيت أن ذلك يكون مبتورا يصعب فهمه على الناظر فيه، لأن
الفرع إنما يفهمه إذا ضبط الأصل معه فعدلت إلى عمل كتاب يشتمل
على عدد يجمع كتب الفقه التي فصلها الفقهاء: وهي نحو من ثلاثين كتابا
أذكر كل كتاب منه على غاية ما يمكن تلخيصه من الألفاظ، واقتصرت
على مجرد الفقه، دون الأدعية والآداب، وأعقد فيه الأبواب، وأقسم
فيه المسائل، وأجمع بين النظائر، وأستوفيه غاية الاستيفاء، وأذكر أكثر
الفروع التي ذكرها المخالفون، وأقول ما عندي على ما تقتضيه مذاهبنا
وتوجيه أصولنا، بعد أن أذكر أصول جميع المسائل (1).
.

(1) كتاب المبسوط للشيخ الطوسي الطبعة الحروفية الثانية. الجزء 1
ص 2 - 3
70

وهذا الحديث يشعرنا بضخامة العمل الذي قام به الشيخ في مجال
البحث الفقهي والأصولي، فقد كان المتقدمون من الفقهاء يقتصرون
على الفروع المذكورة في نصوص الأحاديث، ويعرضون عن تفريع فروع
جديدة على هذه الفروع، واستنتاج أحكام جديدة لم يتعرض لها النص
بدلالة المطابقة.
وكان فقهاء المذاهب الأخرى يجدون في هذا الإعراض والاقتصار
مجالا للمؤاخذة والتنقيص، ويعتبرون ذلك من آثار الإعراض عن الأخذ
بالقياس والرأي، فحاول الشيخ أن يثبت تفاهة هذا الرأي، ويعلن خصوبة
البحث الفقهي عند (الشيعة)، وعدم عجزه عن تناول فروع، ومسائل
جديدة مستحدثة، وأن مدارك (الفقه الإمامي) لا تقصر عن استيعاب
فرع من الفروع مهما كان. ولا يجد الباحث الفقيه فرعا لا يجد له
في (أصول الفقه الإمامي وأحكامه) علاجا.
ووجد ثانيا جمود الفقهاء المتقدمين على ألفاظ ومباني وأصول خاصة
حتى أن أحدهم يستوحش لو بدل لفظ مكان لفظ آخر، فحاول أن
يقضي على هذا الجمود، ويعيد صياغة الفقه والاستنباط من جديد بما يراه
من موازين، وأصول وقواعد تلائم مصادر التشريع.
ووجد ثالثا أن الفروع الفقهية مبعثرة خلال الكتب الفقهية بصورة
مشوشة لا يجمعها جامع، ولا يضم بعضها إلى بعض بتبويب خاص
فحاول أن يجمع بين النظائر، وينظمها في أبواب خاصة، ويضم المسائل
بعضها إلى بعض وينسقها.
ووجد رابعا أن نصوص الحديث تعرض للاحتجاج بها على الحكم
عرضا من غير أن يعالج، والحكم الشرعي يؤخذ من مدلول النص أخذا
مباشرا من دون أن يتوسط بين العرض والعطاء صناعة ومعالجة، وكان
71

من أثر ذلك أن الفقه ظل مقتصرا على استعراض فروع فقهية محدودة
تحددها مداليل النصوص المطابقية.
وحاول الشيخ لتلافي هذا النقص أن يبني الفروع على الأصول، وأن
يصيغ عملية الاستنباط في قالب الصناعة والفن، وأن يؤسس الأصول
ويستخرج القواعد التي يبني عليها الفقيه في الاستنباط، حتى يوسع من أبعاد
البحث الفقهي، ويمسح عنها سمات العجز والقصر عن تناول المسائل الجديدة
والفروع المستحدثة.
ويظهر للباحثين أن هذا العجز لم يكن لقصور في أداة الاستنباط عند
(الشيعة) وإنما كان لبساطة المحاولات والتجارب التي قام بها السلف
في الاستنباط، وبداية شكل عملية الاجتهاد لديهم لطبيعة المرحلة التي كان
يمر بها الفقه في تلك العصور.
العصر الخامس:
مدرسة الحلة:
برزت (مدرسة الحلة الفقهية) بعد احتلال (بغداد) على يد
هولاكو التتار، فقد كانت (مدرسة بغداد) قبل الاحتلال حافلة بالفقهاء
والباحثين وحلقات الدراسة الواسعة، وكان النشاط الفكري فيما قبل الاحتلال
على قدم وساق.
وحينما احتلت بغداد من قبل المغول أو فد أهل الحلة وفدا إلى قيادة
الجيش المغولي يلتمسون الأمان لبلدهم، فاستجاب لهم (هولاكو) وآمنهم
على بلدهم بعد أن اختبر صدقهم.
72

وبذلك ظلت (الحلة) مأمونة من النكبة التي حلت بسائر البلاد
في محنة الاحتلال المغولي، وأخذت تستقطب الشاردين من (بغداد)
من الطلاب والأساتذة والفقهاء.
واجتمع في الحلة عدد كبير من الطلاب والعلماء، وانتقل معهم
النشاط العلمي من (بغداد) إلى (الحلة)، واحتفلت هذه البلدة وهي
يومئذ من الحواضر الإسلامية الكبرى بما كانت تحتفل به (بغداد)
من وجوه النشاط الفكري: ندوات البحث والجدل، وحلقات الدراسة
والمكاتب والمدارس، وغيرها.
واستقرت المدرسة في الحلة. وظهر في هذا الدور في الحلة فقهاء
كبار كان لهم الأثر الكبير في تطوير مناهج الفقه والأصول الإمامي، وتجديد
صياغة عملية الاجتهاد، وتنظيم أبواب الفقه ك‍ (المحقق الحلي والعلامة
الحلي وولده فخر المحققين وابن أبي الفوارس والشهيد الأول وابن طاوس
وابن ورام)، وغيرهم من فطاحل الأعلام ورجال الفكر.
ولكي نلمس أثر هذا العصر وفقهائه في تطوير مناهج البحث الفقهي
نستعرض بإيجاز تراجم بعض رجال هذه المدرسة:
1 - (المحقق الحلي):
نجم الدين أبو القاسم جعفر بن سعيد الحلي رائد (مدرسة الحلة الفقهية)
ومن كبار فقهاء الشيعة.
قال عنه تلميذه ابن داود: الإمام العلامة واحد عصره.
كان ألسن أهل زمانه، وأقومهم بالحجة وأسرعهم استحضارا (1)
" كان مجلسه يزدحم " بالعلماء والفضلاء ممن كانوا يقصدونه للاستفادة
.

(1) الكنى والألقاب الجزء 3. ص 134
73

من حديثه، والاستزادة من علمه " (1).
وحضر (المحقق الطوسي) يوما مجلس درسه من (بغداد)، فأراد
(المحقق الحلي) أن يقف عن التدريس، احتراما لورود (المحقق الطوسي)
فالتمس منه الطوسي أن يستمر في درسه.
وكان بحث (المحقق) في القبلة، فجرى الحديث عن مسألة استحباب
التياسر في قبلة أهل (العراق)، فاعترض (الطوسي) على (المحقق)
بأن الاستحباب لا معنى له، إذ التياسر إن كان من القبلة فحرام، وإن
كان إلى القبلة فواجب.
فأجاب (المحقق): من القبلة إلى القبلة. فسكت (المحقق الطوسي).
فلما رجع إلى (بغداد) كتب له (المحقق الحلي) رسالة لطيفة
في تحقيق المسألة استحسنها (المحقق الطوسي).
وقد أورد الرسالة الشيخ (أحمد بن فهد) في (المهذب) بتمامها.
وقد قدر (للمحقق الحلي) أن يجدد كثيرا في مناهج البحث
الفقهي والأصولي، وأن يكون رائد هذه المدرسة، ويكفي في فضله
على المدرسة الفقهية أنه ربي تلميذا بمستوى (العلامة الحلي)، وأنه
خلف كتبا قيمة في الفقه لا يزال الفقهاء يتناولونها، ويتعاطونها باعتزاز
ك (شرايع الإسلام) في مجلدين، وكتاب (النافع)، وكتاب (المعتبر)
في شرح المختصر، وكتاب (نكت النهاية)، وكتاب (المعارج)
في أصول الفقه وغيرها.
توفي سنة 676 هجرية، وكان سبب وفاته أنه سقط من أعلى درج
في داره فخر ميتا لوقته، فتفجع الناس لموته، واجتمع لتشييعه خلق
كثير، ودفن في الحلة، وقبره هناك يزار ويتبرك به، وأخيرا عمر
وجدد بناؤه على يد أهل الخير من أهالي الحلة.
.

(1) مجالس المؤمنين الجزء 1. ص 57 مترجم عن الفارسية
74

2 - (العلامة الحلي):
جمال الدين حسن بن يوسف بن علي بن المطهر، ولد في الحلة
سنة 648 ه‍ ونشأ فيها، وتوفي سنة 726 ه‍.
تتلمذ في الفقه على خاله (المحقق الحلي) وفي الفلسفة والرياضيات
على (المحقق الطوسي)، فنشأ كما أراد أستاذاه، وظهر على أترابه وزملائه
وعرف بالنبوغ وهو بعد لم يتجاوز سن المراهقة، وانتقلت الزعامة
في التدريس والفتيا إليه بعد وفاة أستاذه (المحقق الحلي).
وقد قدر للعلامة الحلي بفضل ما أوتي من نبوغ، وبفضل أستاذه
الكبير (المحقق الحلي)، وجهوده الخاصة أن يساهم مساهمة فعالة في تطوير
مناهج الفقه والأصول، وأن يوسع دراسة الفقه.
وتعتبر موسوعة (العلامة الحلي) الفقهية الجليلة (التذكرة) أول
موسوعة فقهية من نوعها في تاريخ تطوير (الفقه الشيعي) من حيث السعة
والمقارنة والشمول، وتطور مناهج البحث، وطبع أخيرا بأحسن أسلوب
مع التصحيح والتعليق عليها.
وبلغت (مدرسة الحلة) في حياة العلامة بفضل جهوده القيمة
كما قدر له لأول مرة أن يتفرغ لدراسة المسائل الخلافية بين (فقهاء الشيعة)
بصورة مستقلة في كتابه الكبير (المختلف).
3 - (فخر المحققين):
أبو طالب محمد بن الحسن بن يوسف بن المطهر من وجوه الطائفة
وأعيانها، تلمذ على أبيه (العلامة الحلي)، ونشأ برعايته وعنايته، وقرأ
عليه مختلف العلوم النقلية والعقلية، وبرز في ذلك كله.
أكمل بعض تآليف والده العلامة (كالألفين) وغيره، وشرح
البعض الآخر ك‍ (القواعد).
75

قال فيه الشيخ الحر العاملي قدس سره:
كان فاضلا محققا فقيها ثقة جليلا.
قام بتربية تلامذة كبار في الفقه كان منهم الشهيد الأول رحمه الله.
4 - (الشهيد الأول):
أبو عبد الله محمد بن الشيخ جمال الدين مكي بن شمس الدين
محمد الدمشقي الجزيني، ولد سنة 734، واستشهد سنة 786 بدمشق.
ولد في جزين من بلدان جبل عامل، وهاجر إلى الحلة لطلب العلم.
تتلمذ على فخر المحققين بالحلة ولازمه، وتتلمذ على آخرين من تلاميذ
(العلامة الحلي) في الفقه والفلسفة.
زار كثيرا من حواضر العالم الإسلامي في وقته، ك‍ (مكة المكرمة)
و (المدينة المنورة) و (بغداد) و (مصر) و (دمشق) و (بيت المقدس)
و (مقام الخليل إبراهيم)، واجتمع فيها بمشايخ العامة، وتاحت له
هذه الأسفار نوعا من التلاقح الفكري بين مناهج البحث الفقهي والأصولي
عند (الشيعة والسنة).
وقرأ كثيرا من كتب السنة في الفقه والحديث، وروى عنهم
حتى قال في إجازته لابن الخازن:
إني أروي عن نحو أربعين شيخا من علمائهم بمكة والمدينة ودار السلام
بغداد ومصر ودمشق وبيت المقدس ومقام الخليل إبراهيم.
وهذا النص يدل على أن الشهيد الأول جمع بين ثقافتي الشيعة
والسنة في الفقه والحديث، ولاقح بين المنهجين في حدود ما تسمح به
طبيعة المنهجين.
خلف كتبا كثيرة تمتاز بروعة البيان، ودقة الملاحظة، وعمق الفكرة
وسعة الأفق: منها (الذكرى) و (الدروس الشرعية في فقه الإمامية)
76

و (غاية المراد في شرح نكت الإرشاد) وكتاب (البيان) و (الباقيات الصالحات)
و (اللمعة الدمشقية) و (الألفية) و (النفلية) و (الأربعون حديثا)
وكتاب (المزار) و (خلاصة الاعتبار في الفقه والاعتمار) و (والقواعد)
وغير ذلك.
كانت وفاته بدمشق. حيث قتل فيها بالسيف، ثم صلب، ثم رجم
ثم أحرق بفتوى القاضي برهان الدين المالكي، وعباد بن جماعة الشافعي
بعد ما حبس سنة كاملة في قلعة الشام في محنة أليمة نعرض عنها هنا.
ملامح المدرسة:
ومما تقدم نستطيع أن نتبين الملامح الأولية للمدرسة، فقد كانت
(مدرسة الحلة) استمرارا لمدرسة بغداد، ولم يقدر للمدرسة رغم ضخامة
العمل الذي قامت بأعبائه في مجال تطوير مناهج الدراسة الفقهية أن تهز
مرة أخرى مناهج الاستنباط كما فعل (الشيخ الطوسي) من قبل.
ومن ينظر في تراث هذا العصر الفقهي يلحظ بوضوح جهود (الشيخ)
الفقهية من خلاله.
ولكن ذلك لا يعني - على أي حال - إنكار المكاسب التي حققتها
هذه المدرسة في (تطوير البحث الفقهي) بعد (مدرسة بغداد).
ويمكننا أن نلخص أهم الملامح التي تميز هذه المدرسة عن مدرسة
بغداد ما يلي:
1 - (تنظيم أبواب الفقه):
قدر (للشيخ الطوسي) - كما وجدناه يتحدث بذلك في مفتتح
كتابه الكبير (المبسوط) - أن يجمع شتات الأشباه والنظائر في الفقه
77

ويبوب كل ذلك في أبواب خاصة بعد ما أكثر الفروع، واستحدث
فروعا جديدة.
إلا أن الباحث يلحظ في كتب الشيخ - مع توفر الشيخ على تنظيم
الفقه وتبويبه، وجمع النظائر والأشباه من فروعه - شيئا من التشويش
في تبويب أبواب الفقه وكتبه.
وهذا التشويش لا يختص بكتب الشيخ وحده، وإنما يظهر على كتب
المتقدمين عامة.
وفي هذه المدرسة لأول مرة نلتقي بكتاب (الشرايع) للمحقق
الحلي رحمه الله بتنظيم رائع لأبواب الفقه استمر عليه فقهاء الشيعة بعد
ذلك إلى العصر الحاضر. فقد قسم (المحقق الحلي) كتابه (شرايع الإسلام)
إلى أقسام أربعة:
الأول العبادات، الثاني العقود، الثالث الإيقاعات، الرابع
الأحكام.
وينطلق إلى هذا التقسيم الرباعي بالشكل الثاني:
الحكم الشرعي إما أن يتقوم بقصد القربة أم لا، والأول العبادات.
والثاني إما أن يحتاج إلى اللفظ من الجانبين الموجب والقابل
أو من جانب واحد، أو لا يحتاج إلى اللفظ فالأول العقود، والثاني
الإيقاعات، والثالث الأحكام، وبذلك تندرج أبواب الفقه في أقسام
أربعة كما تقدم.
وهذا تقسيم رائع يجمع مختلف أبواب الفقه، وهي من حصيلة هذه
المدرسة، وتمت على يد (المحقق الحلي) بالذات.
2 - وظهرت في هذه الدورة الكتابة الفقهية الموسوعية، فألف
(العلامة الحلي) موسوعته القيمة (تذكرة الفقهاء) في الفقه المقارن
78

وهو عمل فقهي جليل لم يؤلف مثله بعده في الفقه المقارن في السعة
والاستيعاب.
ومن يطلع على كتاب (التذكرة) يلمس فيه بوضوح ضخامة
العمل الفقهي التي قدمها (العلامة الحلي) رحمه الله للفقه الإسلامي بصورة
عامة وبمختلف مذاهبه.
فقد حاول (العلامة) في كتابه هذا أن يجمع آراء مختلف
المذاهب الإسلامية، ويناقش ذلك كله بموضوعية وهدوء يعز مثله
في الدراسات المقارنة الأخرى.
3 - وكثر الاختلاف في هذا العصر بين فقهاء الإمامية أنفسهم نتيجة
لابتعادهم عن عصر الإمام، واختلافهم في سلامة الروايات من حيث السند
والدلالة. وكان لا بد للفقيه نتيجة لتشعب الآراء والمذاهب في استنباط
الأحكام، وتذوق المسائل أن يلم بمختلف وجوه الرأي في المسألة
حتى يستطيع أن يحكم في المسألة برأيه.
وهذه الحاجة دعت العلماء في هذا العصر إلى أن يجمعوا المسائل المختلف
فيها بين علماء الشيعة، واستعراض وجوه الاختلاف عندهم، كي يتاح
للفقيه أولا أن يحيط علما بوجوه الاختلاف في المسألة، ويعرف المسألة
المتفق عليها بين علماء الإمامية ثانيا.
وأول من كتب في هذا الموضوع شيخ الطائفة (الشيخ الطوسي)
ألف كتاب (الخلاف) وهو موسوعة كبيرة تحتوي على فقه المذاهب
الخمسة.
ثم اقتدى به (العلامة الحلي)، حيث جمع المسائل المختلف فيها
بين علماء الطائفة في كتابه الكبير الضخم (المختلف) ولا تزال هذه
الكتب موضع دراسة ومراجعة الفقهاء والدارسين:
79

ومهما يكن من أمر فقد كانت (مدرسة الحلة) امتدادا لمدرسة
بغداد، وتطويرا لمناهجها، أساليبها، فبالرغم من الفتح الفقهي الكبير
الذي قدر لمدرسة بغداد على يد (الشيخ الطوسي) كانت المدرسة بداية
لفتح جديد، ومرحلة جديدة الاستنباط لم تخل من بدائية.
فقدر لمدرسة الحلة - نتيجة لممارسة هذا اللون الجديد من التفكير
والاستنباط - أن تمسح عنها مظاهر البدائية، وأن تسوي من مسالكها
وأن توسع الطريق للسالكين وتمهدها لهم.
ولئن كان (الشيخ الطوسي) بلغ قمة الفكر الفقهي لمدرسة بغداد
فقد بلغ (العلامة الحلي) قمة الفكر الفقهي لمدرسة الحلة.
ولولا جهود علماء هذا العصر لظلت (مدرسة بغداد) على المستوى
التي خلفها الشيخ من ورائه، ولما قطعت هذه المراحل الطويلة التي قطعتها
فيما بعد على أيدي علماء كبار، أمثال (المحقق) و (العلامة)
و (الشهيد) وغيرهم.
80

حياة الشهيد الأول
تمهيد:
حياة الشهيد الأول الفقيه الأعظم (محمد بن مكي) العاملي الجزيني
متشعبة الأطراف، بعيدة الغور، لا يكفي لدراستها واستعراضها هذا
العرض السريع، واللمسات الخفيفة التي لا تمس من حياة الرجال غير
ظواهر سطحية من حياتهم، يعرضها التاريخ بتفصيل، أو يلمح إليها
بإجمال.
فقد جدد الفقيه الأعظم الشهيد الأول مدرسة في الفقه لها
أبعادها وحدودها وسماتها الخاصة التي تميزها عن المدارس الفقهية
السابقة عليها.
وخاض غمار السياسة، واشتبك مع الاتجاهات السياسية المعارضة
في وقته، فأيده ناس من المؤمنين، وعارضه آخرون من المخالفين
وحاربته فئة، واعترضت سبيله طائفة أخرى، واستدعاه حاكم خراسان
واعتقله حاكم دمشق، وقتله في النهاية في حديث مشجي.
فقد كان له أثر كبير إذا على الحياة الثقافية والفكرية، وعلى الحياة
السياسية في وقته.
ويزيد في أهمية ذلك كله أنه كان يمثل في الجانبين معا: الجانب
الفكري، والجانب السياسي اتجاها فكريا خاصا.
كان يلقى المعارضة كل المعارضة من قبل الواجهات السياسية والفكرية
في وقته، باعتباره مذهبا فكريا وسياسيا خطرا على الكيان الاجتماعي
81

القائم في وقته، وعلى الجهاز الحاكم بصورة خاصة.
فكان دائما في مجالسه ومحافله واتصالاته وما يجري بينه وبين الآخرين
من حديث محفوفا برقابة قاسية من قبل السلطة، كما كان هو قدس الله نفسه
على حذر دائم، وحيطة مستمرة من أن تأخذ عليه السلطة فلتة سياسية
تحتج بها عليه في إثبات المعارضة للجهاز الحاكم.
ومن ذلك تعرف الصعوبات التي واجهها (الشهيد الأول) في تثبيت
ودعم (الكيان المذهبي) الذي كان يؤمن به فكريا وسياسيا، وما كان
يلقى من عنت وأذى وجهد متواصل مرير في سبيل ذلك، إلى أن امتحن
في ذات نفسه فقتل شهيدا، وصلب بعد القتل، وأحرق بعد الصلب.
فحياة الشهيد الأول إذا أعمق من هذه السطحية، والظواهر
التي يتناول مترجموه حياته بها.
ولا يتيسر للباحث أن يدرس شخصية الفقيه المترجم له وأثره في الحركة
الفكرية، والسياسية المعارضة من دون أن يدرس عصر الشهيد الأول
وبيئته، والبلاد التي كان ينتقل فيها، طالبا للعلم، وحاملا له، وباحثا
عن الحق، وداعيا إليه، ومستوى الثقافة والفكر في عصر الشهيد الأول
ولدي شيوخ الشهيد الذي كان يتصل بهم بدء حياته الدراسية، ويأخذ
عنهم العلم.
ومن دون ذلك لا يتيسر للباحث أن يلمس بوضوح أبعاد الأثر
الذي تركه الفقيه الأعظم (الشهيد الأول) من الدراسات الفقهية، كما
لا يستغني الباحث أن يدرس الاتجاهات السياسية في عصره، وحدودها
ومعارضتها ليستطيع أن يدرس موقف الفقيه الأعظم (الشهيد الأول)
من هذه الحركات والأثر الذي تركه من تكوين الواجهة المعارضة للسلطة
والجهد الذي تحمله في سبيل ذلك.
82

إذا فحديثنا عن حياة (الشهيد الأول) ينقسم إلى جانبين: ندرس
في الجانب الأول شخصية الشهيد الفكرية، وأثره في تطور الفقه الإسلامي.
وفي الجانب الثاني نبحث عن حياة الشهيد السياسية، وموقفه
من الحركات المعارضة، وأثره في تكوين الكيان السياسي الذي كان يدعو إليه
كفقيه شيعي كبير.
أما الحديث عن ولادة الفقيه الشهيد ونسبه وأولاده وحياته الخاصة
مما لا يتصل بهذين الجانبين فنتركه إلى كتب التاريخ والتراجم، والرسائل
المستقلة التي تناولت حياة الشهيد الأول.
1 - نشأته الفكرية
موطنه:
للبيئة التي يفتح عليها الإنسان عينيه، وينشأ فيها، ويتلقى فيها
مبادئ الثقافة والتفكير أثر كبير في صياغة الشخصية وتكوينها، ومهما
كانت قابلية الشخص ومؤهلاته فلا بد أن يتأثر بالبيئة التي ينشأ فيها، ويندمج
بها فكريا وعاطفيا.
ولذلك فلا يمكن للباحث أن يفصل الشخصية التي يريد أن يدرسها
عن البيئة التي نشأ فيها، والمؤثرات البيئية التي تدخلت في تكوينها وصياغتها
وقد فتح فقيهنا المترجم له ناظريه لأول مرة على (جزين) (1)
.

(1) جزين بفتح الجيم: قرية من جيل عامل تقع في الجنوب
من جبل لبنان
83

من (جبل عامل) (1). في بيت من بيوت العلم والدين (2) في هذا
القطر وتلقى فيها مبادئ العلوم العربية والفقه.
وقد كان لبيئة جبل عامل وجزين بنحو خاص أثر في تكوين شخصية
الشهيد الأول: فقد كان (جبل عامل) منذ ولادة فقيهنا المترجم له
إلى الوقت الحاضر مركزا من مراكز الإشعاع في مجال الفكر الإسلامي
ولا سيما في الدراسات الفقهية والأدبية.
ورغم أن المنطقة صغيرة في حد ذاتها، فقد قدمت للعالم الإسلامي
على مدى تاريخها المشرق رجالا من ذوي الكفاءة والثقافة الراقية
في مجالات الفكر الإسلامي.
ويكفي أن يتصفح الإنسان كتاب (أمل الآمل) وما ألحق به
من مستدركات وتكملات، ليلمس أهمية هذا القطر من الناحية الفكرية
والفقهية بصورة خاصة.
ومجتمع عاملة بشكل عام مجتمع فكري، يطبع حياتها طابع الحياة
الجامعية: فهناك في عاملة تكثر الندوات العلمية، والحلقات الدراسية
ومجالس البحث والمناقشة. وحتى في المجالس العامة يطغى حديث العلم
والأدب على أي لون آخر من ألوان الحديث، وتكثر المساجد بينهم
وتعاطي الشعر المرتجل الذي يخلو من أي تكلف وصنعة.
وقد تكون الصورة التقريبية التي يعطيها الشيخ (الحر العاملي)
.

(1) جبل عامل: جزء من بلاد سوريا الكبرى يقع في جنوب لبنان
ويسمى بعاملة نسبة إلى عاملة بن سبأ الذي رحل من اليمن وسكن جبالا
من لبنان فأطلق عليها اسم العاملة فيما بعد.
(2) كان جد الشهيد الأول الشيخ (أحمد بن طي) الجزيني والده
الشيخ (مكي بن محمد) الجزيني من علماء وأعيان هذه المنطقة
84

في كتابه (أمل الآمل) لموقعية هذا القطر من الناحية الثقافية أقرب
من غيرها في إعطاء فكرة مجملة عن هذا القطر.
يقول (الشيخ الحر العاملي) رحمه الله: " إن علماء الشيعة
في جبل عامل يبلغون نحو الخمس من علماء الشيعة في جميع الأقطار
مع أن بلادهم أقل من عشر عشر بلاد الشيعة.
في مثل هذه البيئة نشأ الشهيد الأول، وفتح عينيه على الحياة
فخالط العلماء، وارتاد المجالس والندوات العلمية التي كانت تعقد
في أطراف هذا القطر: واشترك في حلقات الدراسة التي كانت تعقد
في المساجد والمدارس والبيوت، وتعاطى فيها طرفا من العلم، وساهم فيما
كان يدور بين الأساتذة والطلاب، أو بين الطلاب أنفسهم: من خلاف
وشجار يحتد حينا، ويلين آخر وكون لنفسه بمرور الزمن آراء خاصة
في مسائل الفقه والأدب، وأعانته على ذلك ثقافته الشخصية، ومؤهلاته
الفكرية، وقريحته الوقادة.
ولا نعلم شيئا صحيحا عن بداية أمر هذا القطر، وظهور الحركة الفكرية
الشيعية فيها، إلا أنا نعلم أن الصحابي الجليل (أبا ذر) رضي الله عنه
لما نفي إلى (الشام) في عهد (عثمان بن عفان) نزل هذا القطر، واتخذ
لنفسه فيه مقامين في قريتي (الصرفند) على ساحل البحر الأبيض
و (مخاليس الجبل) في الجهة الجنوبية الشرقية من جبل عامل على رابية
تطل على الأردن ولا يزال هناك مسجدان في هاتين القريتين تعرفان باسمه.
وفي غالب الظن أن التشيع انبثق من هذين المقامين، ومن أيام نزول
(أبي ذر) بجبل عامل بالذات (1).
فأصبح وهو لم يتجاوز بعد المراحل الأولى من دراسته يشار إليه
.

(1) لاحظ تاريخ جبل عامل. محمد جابر آل صفا. ص 233
85

بالفضل والعلم، وينبأ له بمستقبل رفيع في مجالات الثقافة والفكر.
وفي البيت كان يجد من والده الشيخ (مكي جمال الدين) دافعا قويا
لممارسة الدراسة، وباعثا على التفكير والدرس، كما كان يجد من المجالس
التي كانت تعقد في بيتهم بين حين وآخر، وخضرها نفر من العلماء
المرموقين في المنطقة مجالا خصبا للتفكير والمناقشة وإبداء الرأي.
كذلك نشأ شيخنا الفقيه المترجم له في بيئة (عاملة)، يجلس
إلى حلقاتها، ويرتاد مجالسها، ويشترك فيما يجري فيها من نقاش وجدال
ويستمع إلى العلماء من مدرسيه.
وبهذا الشكل استطاع وهو يقطع المرحلة الأولى من نشأته الفكرية
أن برز بشكل ملحوظ في مجال العلم والأدب بين أقرانه وأترابه.
رحلاته وشيوخه:
لم يقتصر الشهيد الأول على الثقافة التي تلقاها في مسقط رأسه (جزين)
وإنما تجاوزها إلى أقطار بعيدة وقريبة أخرى من (مراكز الفكر الإسلامي)
في ذلك العهد.
وأهم هذه الأقطار التي شد إليها الشهيد الأول الرحال لتلقي العلم
أو الإفادة هي (الحلة وكربلاء وبغداد ومكة المكرمة والمدينة المنورة
والشام والقدس).
وكانت هذه الأقطار في القرن الثامن الهجري من أهم مراكز الثقافة
الإسلامية، ولا سيما الحلة، فقد كانت يومذاك مركزا فكريا كبيرا
من مراكز الثقافة الإسلامية الشيعية، ومنطلقا للحركة العقلية في أوساط
العالم الإسلامي.
86

وقد تكرر سفر الشهيد الأول إلى (الحلة) وتلقى العلم فيها على يد
شيوخ كبار، وأساتذة مرموقين من أمثال (فخر المحققين) ابن
(العلامة الحلي)، وغيرهم.
وإذا كانت (الحلة وكربلا المقدسة وبغداد) تعتبر ذلك اليوم مراكز
للفقه الشيعي، والدراسات الشيعية فقد تكررت زيارات الشهيد للحرمين
الشريفين، حيث كان طابع الفكر فيها جميعا طابعا سنيا.
وأتيح (للشهيد الأول) عن طريق هذه الأسفار أن يندمج في أطر
ثقافية مختلفة، و يعيش وجوها مختلفة من الفكر، ويتفاعل مع الاتجاهات
الفكرية المتضاربة.
فكان على صلة وثيقة بالاتجاهات الفكرية السنية، وعلى معرفة
تامة بآرائها و أفكارها، كما كان على صلة وثيقة، ومعرفة تامة بمشيخة
الرواية والفقه والكلام من أعلام السنة، مما يدل على أنه في أسفاره كان
يخالط كثيرا من (أقطاب المذاهب الإسلامية) الأخرى، ولم يكن ممن
ينطوي فكريا على نفسه.
ويدل على ذلك قوله في إجازته لابن الخازن:
وأما مصنفات العامة ومروياتهم فإني أروي عن نحو أربعين شيخا من علمائهم
بمكة والمدينة، ودار السلام بغداد، ومصر ودمشق وبيت المقدس، ومقام
إبراهيم الخليل.
فرويت صحيح البخاري عن جماعة كثيرة بسندهم إلى البخاري.
وكذا صحيح مسلم، ومسند أبي داود، وجامع الترمذي، ومسند
أحمد، وموطأ مالك، ومسند الدارقطني، ومسند ابن ماجة، والمستدرك
على الصحيحين للحاكم ابن عبد الله النيسابوري، إلى غير ذلك.
وهذا النص يعيننا كثيرا على معرفة شخصية الشهيد العلمية.
87

فقد يظهر أنه سافر إلى كثير من (مراكز الفكر الإسلامي السني)
كبغداد ومصر والقدس والحرمين، وغيرها، ولم يمنعه اختلافه الفكري
مع المدرسة السنية أن يحشر نفسه فيهم، ويتلقى منهم، ويلقي إليهم
ويتفاعل معهم.
ولم تكن رحلاته المتكررة والطويلة إلى هذه الأقطار لغرض السياحة
أو التجارة، أو الترويج عن النفس، وإنما كان لغرض فكري خالص
فكان كثير التردد على مجالس السنة وحلقاتهم، وكثير المطالعة لكتبهم
ووثيق الاتصال بشيوخهم.
ويشعرنا النص ثانيا أنه تلقى من (مشايخ السنة) أمهات الكتب
الحديثية والفقهية التي يتعاطاها أئمة السنة: من الصحاح، والمسانيد
والسنن، وغيرها
وهذا يدل على أن (الشهيد الأول) رحمه الله كان يملك عقلية
ناضجة متفتحة لا تنطوي على إطار فكري خاص، ولا يقتصر على لون
من التفكير، مما يندر وجود مثله عند عامة العلماء والمفكرين.
ونحن نستطيع أن نعتبر هذه الظاهرة: ظاهرة رحلات الشيخ
واتصاله بعلماء السنة مفيدا ومستفيدا: مفتاحا لدراسة شخصية الإمام
الشهيد الأول.
شيوخه وأساتذته:
يستطيع الباحث أن يلمس شخصية (الشهيد الأول) الفكري
من استعراض شيوخ الفكر والعلم الذين اتصل بهم، وأخذ عنهم، وحضر
مجالسهم منذ نعومة أظفاره إلى أن انتقل إلى جزين، وأسس فيها مدرسته
88

الشهيرة التي تعتبر الأولى من نوعها في هذه المنطقة.
ولم يقتصر اتصال الشهيد بشيوخ الفكر في عصره على شخص خاص
أو على قطر خاص، أو على نمط خاص من التفكير.
فسوف نجد أن (الشهيد الأول) اتصل بألوان مختلفة من الفكر
وارتاد مختلف مراكز الحركة العقلية في (الوطن الإسلامي) في وقته
واتصل بمختلف العلماء والمفكرين:
وعن طريق هذا التفاعل الفكري التلاقح قدر لشيخنا الشهيد أن
يكون لنفسه شخصية ثقافية مرموقة.
شيوخه في جزين:
في (جزين) مسقط رأس الشهيد، تلقى شيخنا الشهيد ومبادئ
العلم والتفكير، وأنس بحديث العلم والعلماء، ولازم مجالسهم، واعتنى
بكل ما يتصل بشؤون الفكر والأدب، فدرس على والده الشيخ
(جمال الدين مكي) بن الشيخ محمد شمس الدين، وتلقى عنه مبادئ
العربية والفقه.
وكان والد الشهيد تلمذ على الشيخ (طوقان العاملي) وروى عنه
وكان يعرف بالفضل والعلم في المنطقة.
وتلمذ الشهيد كذلك في جزين على الشيخ (أسد الدين الصائغ)
الجزيني أبو زوجته وعم أبيه، وكان هذا عالما كبيرا يتقن ثلاثة عشر علما
من العلوم الرياضية (1).
.

(1) أعيان الشيعة. ج 11. ص 129
89

وفي غالب الظن أنه تلقى من أستاذه الصائغ مبادئ في الرياضيات
والعلوم العقلية، كما تلقى من أبيه مبادئ في العربية والفقه.
شيوخه في الحلة:
هاجر الشهيد الأول إلى (الحلة) من (جزين) بجبل عامل
وهو بعد لم يتجاوز السابع عشرة من عمره، فقد أجازه (فخر المحققين)
بداره بالحلة أن يروي عنه بتاريخ 20 شعبان سنة 751 ه‍، وإذا علمنا
أن ولادة الشهيد كانت في سنة 734 ه‍، علمنا أن بداية اتصال الشهيد به
كانت قبل أن يبلغ السابع عشرة من عمره
و (الحلة) كانت يومها مركزا كبيرا من مراكز الحركة العقلية
في الأوساط الإسلامية الشيعية، تؤمها البعثات العلمية من مختلف أجزاء
(الوطن الإسلامي) ولا سيما (البلدان الشيعية).
وكانت تحفل في وقته برجال كبار من علماء الشيعة أمثال (العلامة الحلي)
وولده (فخر المحققين) و (ابن نما) و (ابن أبي الفوارس) وغيرهم
ممن تعرف قسما منهم في مشيخة الشهيد فيما يأتي من حديث.
وتوسعت (الحلة) وزادت أهميتها واتجهت الأنظار إليها أكثر
من ذي قبل بعد ما أصيبت (بغداد) بنكبة (المغول) وشردوا أهلها
وأمعنوا في التدمير والخراب (1)، فهاجر العلماء من بغداد إلى الحلة
.

(1) قال مؤلف تاريخ العراق بين احتلالين:
وأثناء حصار بغداد كان قد أتى نفر من العلويين وأعاظم أهل الحلة
وعلمائها فالتمسوا أمانا من هولاكو فأرسل إليهم (بوكله) وأمير نجلى
النخجواني، وأرسل في أثرهم بوقاتيمور وهو أخ أولجاي خاتون
لمتحنوا إخلاص أهل الحلة والكوفة، فاستقبلوهم وجيوشهم استقبالا
باهرا، ونصبوا جسرا على الفرات لعبورهم، وفرحوا بوصولهم، وأظهروا
مزيد السرور، رأى بوقاتيمور إخلاصهم وثباتهم فرحل. تاريخ العراق
بين احتلالين الجزء 1 ص 205 - 206.
90

وانتقلوا إليها وألقوا فيها رحالهم، فكثرت فيها المدارس والمكاتب
وحفلت العلماء، وأصبحت مركزا مرموقا من مراكز الحركة العقلية
في الأوساط الإسلامية.
ولولا وجود (الحلة) بجوار (بغداد) وانتقال بقايا الحركة العقلية
من بغداد إلى الحلة وعناية (المحقق الطوسي) وتلميذه (العلامة الحلي)
وولده (فخر المحققين) بشؤون الفكر الإسلامي: والمحافظة على ما تبقى
من الثقافة الإسلامية: لما بقي لنا شئ من هذا التراث الفكري الضخم
الذي نتداوله اليوم فيما بين أيدينا: من كتب الفقه والحديث والتفسير
والعلوم العقلية والأدبية.
1 - فخر المحققين:
وفي هذه الفترة من ازدهار الحركة العقلية، والنشاط الثقافي بالحلة
انتقل الشيخ الشهيد، وهو بعد شاب لم يتجاوز دور المراهقة إلى هذه
المدينة، واتصل بالعلامة فخر المحققين (1) ابن العلامة الحلي، وحضر
.

(1) فخر المحققين أبو طالب محمد بن حسن بن يوسف بن المطهر
من وجوه الطائفة وأعيانها، رزق حظا وافرا من العلوم العقلية والنقلية
ونشأ على يد أبيه (العلامة الحلي)، وقرأ عليه مختلف العلوم العقلية
والنقلية، وبلغ مرتبة الاجتهاد أو ما يقرب منه وهو لم يتجاوز بعد العاشرة
من عمره، أكمل بعض كتب والده العلامة الحلي كالألفين وغيره، وشرح
البعض الآخر كالقواعد
وقد أثنى عليه علماء الطائفة ثناءا بالغا مما يدل على علو مقامه
وسمو مكانته.
قال عنه الشيخ الحر العاملي: كان فاضلا محققا فقيها ثقة جليلا.
وقال عنه مؤلف روضات الجنات
زين المجتهدين شيخنا الغالب أبو طالب محمد بن العلامة جمال الدين
حسن بن يوسف بن المطهر الحلي الملقب عند والده بفخر الدين، وفي سائر
مراصيده وموارده بفخر المحققين، ورأس المدققين، وحسب الدلالة
على مكانته في العلوم الحقة، ونهاية جلالته في هذه الطائفة المحقة شدة
عناية والده المسلم عند جميع علماء الإسلام وقيامه به، مع أنه أبوه بحق
احترامه وثنائه به، ودعائه له في كثير من مؤهلاته ومصنفاته، والتماسه
الدعاء منه.
وقال المحقق القمي في حقه في الكنى والألقاب. الجز. 3.
وجه من وجوه هذه الطائفة وثقاتها، جليل القدر عظيم المنزلة
رفيع الشأن، كثير العلم، وحيد عصره، وفريد دهره، جيد التصانيف
حاله في علو قدره، وسمو مرتبته وكثرة علومه أشهر من أن يذكر
وكفى في ذلك أنه فاز بدرجة الاجتهاد في السنة العاشرة من عمره الشريف.
ولد ليلة 20 ج 1. سنة 682 ه‍ وتوفي ليلة 25 ج 2 سنة 771
91

دروسه وأبحاثه، ودرس عليه كتاب (إيضاح الفوائد في شرح إشكالات
القواعد) وغيره.
ولمس فخر المحققين في تلميذه الشاب بين مئات الطلاب الذين كانوا
يحضرون دروسه نبوغا وألمعية لا تتوفر في غيره فأدناه من نفسه وقربه
من مجلسه، وصحبه في مجالسه ودروسه، وحفه برعايته وعنايته، وأخذ
يثني عليه كلما جرى ذكره في مجلس، أو كلما رأى فرصة مناسبة
92

بشكل لا يعهد من أستاذ كبير كفخر المحققين بالنسبة إلى تلميذ شاب
في هذا الدور من العمر.
ففي الإجازة التي كتبها له بخطه على ظهر كتاب القواعد عند
قراءته عليه:
قرأ علي مولانا الإمام العلامة الأعظم أفضل علماء العالم سيد فضلاء
بني آدم، مولانا شمس الحق والدين، (محمد بن مكي بن محمد بن حامد)
أدام الله أيامه، من هذا الكتاب مشكلاته، وأجزت له رواية جميع
كتب والدي قدس سره، وجميع ما صنفه أصحابنا المتقدمون رضي الله عنهم
عن والدي عنهم بالطرق المذكورة لها (1).
وقال عنه كذلك فيما يروى عنه: لقد استفدت من تلميذي محمد
ابن مكي أكثر مما استفاد مني (2).
وليس (فخر المحققين) ممن يلقي الكلام على عواهنه، ولا يحسب
حسابا لما يقول، ولما يقال عنه بعد، فقد لمح في تلميذه من النبوغ
والألمعية ما دعاه إلى كل هذا الثناء والاحتفاء،
وقد عرف التلميذ الشاب مكانته من قلب أستاذه الكبير وإيثاره له
بكل شئ، وحفاوته البالغة به، فلازمه في دروسه وأبحاثه ومجالسه وهو
بعد شاب لم يتجاوز الثامنة عشرة، ودرس عليه أبوابا كثيرة.
يقول مؤلف الروضات: وقد كان معظم اشتغاله في العلوم عند
فخر المحققين ابن العلامة (3).
ومن ذلك يعلم أن التلميذ الشاب لم يفارق أستاذه الكبير حتى لمس
.

(1) روضات الجنات. الطبعة الحجرية ج 2. ص 590
(2) حياة الإمام الشهيد الأول: ص 38.
(3) روضات الجنات. الطبعة الحجرية. ج 2 ص 590
93

فيه أستاذه النضج الفكري الكافي، وحتى لمح في نظراته وآرائه ملامح
الاستقلال بالرأي والاجتهاد.
وقد استجاز أستاذه الكبير في رواية الحديث، وكتب المتقدمين
فأجازه أكثر من مرة:
أجازه مرة بداره بالحلة سنة 751، وفي هذا التاريخ كان عمر الشهيد
17 سنة فقط.
وأجازه مرة أخرى بداره بالحلة سنة 758.
وأجازه مرة ثالثة بالمكان المتقدم
وكان التلميذ الشاب يقدر بدوره أستاذه الكبير ويجله كلما أتته
مناسبة للتقدير والتجليل، ينوه بشأنه وجلالة مكانته وحقه عليه.
فقال في إجازته للشيخ شمس الدين (ابن نجدة) الذي تلمذ عليه
في كثير من المعلوم:
وأما مصنفات الإمام ابن المطهر رضي الله عنه فإني أرويها عن غيره
من أصحابنا:
منهم الشيخ الإمام سلطان العلماء، ومنتهى الفضلاء والنبلاء، خاتمة
المجتهدين، فخر الملة والدين أبو طالب محمد بن الشيخ الإمام السعيد
جمال الدين بن المطهر، مد الله في عمره، وجعل بينه وبين الحادثات
سدا (1).
وهنا يلمس القارئ روعة الوفاء بين الأستاذ والتلميذ، وتقدير
الأستاذ لتلميذه الشاب، وحفاوته به، وهو لم يتجاوز بعد سني المراهقة
ووفاء التلميذ لأستاذه وتجليله له، واحترامه إياه، وقد انتقل من دور
التلمذة إلى دور المرجعية والتأليف والتدريس.
.

(1) روضات الجنات الطبعة الحجرية. ج 3. ص 587
94

وفي غالب الظن أن الشهيد بقي على صلة روحية مع أستاذه
حتى حينما انتقل إلى (جزين) وأسس مدرسته الكبيرة، وكان بينهما
ما يشبه المراسلة والمكاتبة.
(ابن معية):
من علماء الحلة الكبار، ومن أعاظم تلامذة العلامة الحلي، وأفاخم
مشائخ شيخنا الشهيد.
قال عنه تلميذه النسابة السيد أحمد بن علي الحسيني في كتابه
(عمدة الطالب):
شيخي المولى السيد العالم الفاضل الفقيه الحاسب النسابة المصنف، إليه
انتهى علم النسب في زمانه، وله الأسناد العالية، والسماعات الشريفة أدركته
قدس الله روحه شيخا، وخدمته قريبا من اثنتي عشرة سنة.
قرأت عليه ما أمكن حديثا ونسبا، وفقها وحسابا، وأدبا وتاريخا
وشعرا إلى غير ذلك.
من تصانيفه كتاب في معرفة الرجال خرج في مجلدين ضخمين.
وكتاب نهاية الطالب في نسب آل أبي طالب في اثني عشر مجلدا
ضخما قرأت عليه أكثره.
وكتاب الثمرة الظاهرة من الشجرة الطاهرة أربع مجلدات في أنساب
الطالبيين مشجرا.
ومنها: كتاب الفلك المشحون في أنساب القبائل والبطون.
ومنها: كتاب أخبار الأمم خرج منه أحد وعشرون مجلدا، وكان
يقدر إتمامه في مائة مجلد، كل مجلد أربعمائة ورقة.
95

ومنها: كتاب سبائك الذهب في شبك النسب ومنها: كتاب الحدود
الزينية، وتذييل الأعقاب، وكشف الإلباس في نسب بني عباس.
ومنها: رسالة الابتهاج في علم الحساب، وكتاب منهاج العمال
في ضبط الأعمال، إلى غير ذلك من كتب الفقه والحساب والعروض.
ومن أشعاره ملكت زمام الفضل حتى أطاعني (1).
ونقلنا النص بكامله حتى نستطيع أن نعرف بوضوح مكانة هذه
الشخصية العلمية في الحلة وأثرها في تكوين الجانب الفكري.
ومما تقدم يظهر أنه كان إنسانا موسوعيا، تلقى العلم عن العلامة
وولده فخر الدين وغير هما، وتوسع هو بعد ذلك واشتغل بالتدريس والكتابة
والتقى به الشهيد في الحلة فوجده عالما موسوعيا، خبيرا واسع المعرفة فاغتنم
مجالسه، واستفاد منه واستجازه.
ولا نجد هنا نصا تاريخيا يدل على شكل الصلة القائمة بين
(الشهيد) و (ابن معية)، هل كانت صلة التلمذة والتدريس، أم شئ آخر
من الصلة؟
إلا أن الباحث يستبعد أن يفوت الشهيد في المراحل الأولية من حياته
الدراسية في الحلة الاستفادة من شخصية علمية موسوعية كابن معية وما نعرف
من تعطش الشهيد إلى العلم، وتهالكه عليه أنه يكتفي للدلالة على وجود
صلة بين الشهيد وابن معية تشبه صلة التلمذة والتدرس.
ويشعر بذلك الوصف الذي وصفه به الشهيد، حيث قال عنه
في بعض إجازاته:
أعجوبة الزمان في جميع الفضائل والمآثر.
ومهما يكن من أمر فقد استجاز هذا السيد مرارا فأجازه - كما يقول
.

(1) روضات الجنات. الطبعة الحجرية. ج 2 ص 585
96

الشهيد في مجموعته:
وأجاز ولديه (أبا طالب محمد) و (أبا القاسم علي) في سنة 776
قبل موته.
(عميد الدين) و (ضياء الدين):
من شيوخ الشهيد الأول، ومن فقهاء الحلة وعلمائها الكبار وهما:
السيد عبد المطلب بن السيد مجد الدين بن أبي الفوارس، والسيد
ضياء الدين عبد الله بن السيد مجد الدين بن الفوارس أخو السيد عميد الدين
ينتهي نسبهما إلى الإمام زين العابدين عليه السلام، وهما ابنا أخت العلامة
الحلي، رحمه الله.
أثنى العلماء على الأخوين جميعا.
يقول المحدث القمي عن السيد عميد الدين:
كان سيدا جليل القدر رفيع المنزلة، عظيم الشأن، كريم الأخلاق
زكي الأعراق، عمدة السادة الأشراف بالعراق، عالما فاضلا كاملا
فقيها محدثا مدرسا بتحقيق وتدقيق، فصيحا بليغا أديبا مهذبا:
كذا قال السيد الضامن (1).
وقال مؤلف الروضات عن أخيه: " إنه كان من أجل فقهاء
الأصحاب " (2).
ولم نجد فيما بين أيدينا من المصادر شرحا وافيا عن حياة الأخوين
الجليلين، إلا أن الذي يستطيع أن يستخرجه الباحث بشئ من التحليل
.

(1) الكنى والألقاب ج 2. ص 446.
(2) روضات الجنات. الطبعة الحجرية. الجزء 1 ص 368
97

والدقة خلال كتب التراجم أن الأخوين عميد الدين وضياء الدين درسا الفقه
والفلسفة على خالهما العلامة الحلي، ونشئا على يديه، وذلك لصلة الأخوين
بالعلامة النسبية أولا، واتصالهما الوثيق به وتناولهما كتب العلامة خالهما
بالشرح والتوضيح كالقواعد، وتهذيب الأصول، ونهج المسترشدين
وغير ذلك بانفراده، أو باجتماع الأخوين معا، فقد شرح عميد الدين
قواعد العلامة شرحا وافيا سماه ب‍: (كنز الفوائد في حل مشكلات القواعد)
ذكر فيه جملة محاوراته مع خاله المبرور، وأورد نبذة من مذكراته معه
في مجلس الدرس.
وله أيضا شرح كتاب (أنوار الملكوت) للعلامة في شرح كتاب
الياقوت في أصول الكلام لابن نوبخت يجري مجري المحاكمات بين المصنف
والشارح (1).
وله أيضا كتاب (تبصرة الطالبين في شرح نهج المسترشدين) وشرح
على مبادئ الأصول لخاله العلامة (2).
ولأخيه ضياء الدين كذلك شرح على كتاب تهذيب خاله العلامة (3)
وما ذكره في (كنز الفوائد) من محاوراته مع خاله ومذكراته معه
مجلس الدرس دليل آخر أنه تلمذ عنه (العلامة الحلي) وأخذ
عنه الفقه).
ومن شرحه لكتاب (أنوار الملكوت) لخاله العلامة في أصول الكلام
ومحاكمة ابن نوبخت من قبل خاله العلامة يستطيع الباحث أن يستظهر
أن (عميد الدين) بشكل خاص لم يقتصر في التلمذة على خاله العلامة
.

(1) روضات الجناب. الطبعة الحجرية. الجزء 1: 368:
(2) راجع المصدر السابق.
(3) روضات الجنات. الطبعة الحجرية الجزء 1 ص 368 والجزء 2 ص 590
98

على الفقه فقط، وإنما حضر عليه في الفلسفة والكلام أيضا.
وقد استجازهما الشهيد فأجازاه كما في الروضات، وحضر عليهما ودرس
عندهما الفقه والكلام، أو على أقل تقدير درسهما على عميد الدين.
قال مؤلف الروضات في ترجمة الشهيد:
ومن جملة أساتذته الكرام أيضا المجيزين له في الاجتهاد والرواية
هما الأخوان المعظمان المسلمان المقدمان السيد عميد الدين عبد المطلب
والسيد ضياء الدين عبد الله الحليان الحسينيان (1):
وقد أثني الشهيد على (عميد الدين) بصورة خاصة في إجازته
لابن نجدة، حيث قال:
المولى السيد الإمام المرتضى علم الهدى، شيخ أهل البيت في زمانه
عميد الحق والدين أبو عبد الله عبد المطلب بن الأعرج الحسيني طاب الله ثراه
وجعل الجنة مثواه.
وقد كتب الشهيد في مقام الجمع بين شرحي أستاذيه عميد الدين
وضياء الدين لتهذيب خالهما العلامة.. كتابه المعروف
ب‍ (الجمع بين الشرحين).
شيوخه بالشام:
وفي الشام سنة 776 اجتمع الشهيد الأول لأول مرة بالحكيم المتأله الفقيه
المحقق (قلب الدين الرازي) البويهي تلميذ (العلامة الحلي)، ومؤلف
(شرح المطالع) و (شرح القواعد) و (المحاكمتين) و (حاشيتي الكشاف)
وغيرها: من كتب الحكمة والتفسير والفقه.
.

(1) روضات الجنات. الطبعة الحجرية: الجزء 2 ص 590
99

وقد استأنس الشهيد بالشيخ (قطب الدين)، وأعجب به، وحضر
مجالسه واستفاد منه كثيرا من العلوم العقلية، وتوسع على يديه في دراسة
الحكمة الإلهية والفلسفة.
يقول الشهيد عن اجتماعه به واستفادته منه وإعجابه به.
اتفق اجتماعي به في دمشق أخريات شعبان سنة 776 فإذا هو بحر
لا ينزف، وأجازني جميع ما تجوز عنه روايته (1).
وقال عنه في إجازته لابن الخازن.
ومنهم الإمام العلامة، سلطان العلماء، وملك الفضلاء، الحبر
البحر قطب الدين محمد بن محمد الرازي البويهي، فإني حضرت في خدمته
- قدس الله سره - بدمشق عام ثمانية وستين وسبعمائة، واستفدت من أنفاسه
وأجاز لي جميع مصنفاته في المعقول والمنقول أن أرويها عنه، وجميع
مروياته، وكان تلميذا خاصا للشيخ الإمام جمال الدين.
وقد تلمذ الشيخ قطب الدين على (العلامة الحلي) واستنسخ كتاب
(قواعد الأحكام) للعلامة بخطه، وقرأه عنده وأجازه العلامة في ظهر
كتابه بخطه، وعبر عنه: الفقيه العالم الفاضل المحقق المدقق زبدة العلماء
والأفاضل قطب الملة والدين محمد بن محمد الرازي، وأرخ الإجازة بثالث
شعبان سنة 713 (2).
ونكتفي بما تقدم من ذكر أساتذة الشهيد رحمه الله، على أنه
رحمه الله درس على غيرهم من الشيوخ من (الشيعة والسنة) كالسيد
جلال الدين (عبد الحميد بن فخار الموسوي كما في المستدرك، والسيد
(علاء الدين علي بن زهرة الحلي) كما في الروضات من الشيعة.
.

(1) الكنى والألقاب ج 3. ص 61.
(2) كما ينقل عن كتاب محبوب القلوب
100

والشيخ (إبراهيم بن عمر) الملقب ببرهان الدين الجعبري شيخ
مشيخة مقام الخليل بفلسطين، قرأ عليه الألفية والشاطبية بمقام الخليل كما
في إجازات البحار.
والشيخ (إبراهيم بن عبد الرحيم بن محمد بن سعد الله بن جماعة) الملقب
ببرهان الدين قرأ عليه الشاطبية كما صرح به الشهيد في إجازته لابن الخازن (1).
لم نكن عابثين حين استعرضنا بشئ من التفصيل دراسته في (الحلة
على (فخر المحققين) ابن العلامة والأخوين (عميد الدين وضياء الدين)
و (ابن معية) وعلى (قطب الدين الرازي) في الشام، فشئ يسير
من التأمل يظهر للباحث أن أهم أساتذة الشهيد في الحلة، وأكثرهم تأثيرا
في تكوين ذهنيته الخاصة من أعلام الحلة لا يتجاوز هؤلاء الأربعة، وفي الشام
لم يدرس الشهيد في حدود ما نعلم على أحد غير قطب الدين، فهؤلاء
الخمسة كان لهم الأثر البالغ في تكوين ذهنية الشهيد، وسوف يكون منطلقنا
إلى دراسة ثقافة الشهيد: الفقهية، والكلامية، واستعراض ملامح مدرسته
في الفقه ومنهجه في الاجتهاد هو الأثر الذي تركه الشيوخ الخمسة
في نفس الشهيد.
فليس من شك أن (الشهيد) قد تأثر فكريا بهؤلاء، وجرى
على مذهبهم بعد ما أحدث بالطبع بعض التجديدات على مذهبهم في الفقه
والكلام:
ولو عدنا إلى الشيوخ الخمسة، واستعرضنا مذاهبهم في الفقه والكلام
لالتقينا بظاهرة واحدة في حياتهم الفكرية ينطلقون عنها، ويلتقون فيها جميعا
.

(1) الإمام الشهيد الأول. ص 460
101

ونقطة الانطلاق هذه في حياتهم الفكرية تفيدنا كثيرا في اكتشاف الملامح
الأولى لمدرسة (الشهيد) في الفقه والكلام.
فلو رجعنا خطوة واحدة في حياة هؤلاء الفكرية إلى الوراء نجد أنهم
- كما استعرضنا ذلك في حياتهم - قد تلمذوا جميعا على آية الله (العلامة الحلي)
وكانوا من أخص تلامذته، وأبرز من حضر عليه في الفقه والكلام
ولا شك أنهم أحدثوا بعض التغيير في المدرسة، وفي المذهب الذي كان
يتبعه (العلامة) في الفقه والكلام.
إلا أن أصول المدرسة هي لم تتغير ونقلها تلامذته جميعا إلى تلميذهم
الشهيد، وتأثر بها الشهيد تأثرا بالغا يبدو في كتاباته ومنهجه، كما سنرى
فيما بعد.
فقد كان (العلامة الحلي) ذا عقلية ضخمة تمتاز بمؤهلات فكرية
كثيرة يندر أن تحصل لأحد من العلماء، وبنسبة ضخامة عقليته يكون
تأثيره عميقا في نفوس التلاميذ.
فقد بقي تلاميذ (الشيخ الطوسي)، وتلاميذ تلاميذه يتناقلون مدرسته
في الفقه والحديث والتفسير قرونا متطاولة، حتى كثر فيها التجديد والتغيير
وظهرت مدارس أخرى فيها.
وتلاميذ (العلامة) لم يقلوا عن تلاميذ (الشيخ الطوسي) تأثرا
بمدرسة أستاذهم العلامة، فظلوا يتناقلون المدرسة بأصولها رغم ظهور
تغييرات فيها قرنا من زمان.
فمدرسة الشهيد إذا في الفقه والكلام تعود في أصولها وجذورها
إلى مدرسة العلامة الحلي.
ونعني بذلك أن الشهيد لم يحدث تغييرا في المدرسة، فقد أتيح للشهيد
بفضل نبوغه الخاص ومؤهلاته الفكرية أن يضيف إلى المنهج أشياء ويطور
102

المدرسة ويحدد المفاهيم بما لم يقدر من قبل لأساتيذه وشيوخه.
إذا فأصول المدرسة تعود إلى (العلامة الحلي) في المجالين:
الفقه والكلام.
وقد درس الشهيد كما أسلفنا الفقه على (فخر المحققين ابن العلامة الحلي)
والأخوين (عميد الدين وضياء الدين)، وهما من أخص تلاميذ العلامة.
ودرس الكلام على (قطب الدين الرازي) بالشام وهو من تلاميذ
العلامة في الفلسفة فجمع ثقافة العلامة الحلي في المنقول والمعقول، وأصبح
بالحق وارثا له وإن كان لم يقدر له أن يقرأ عليه شيئا، أو يراه
على أقل تقدير.
ونعود إلى الوراء خطوة أخرى، لنفحص جذور هذه المدرسة بدقة
أكثر، فقد قرأ (العلامة الحلي) الفقه على خاله (المحقق الحلي)
رحمه الله، ودرس الفلسفة والكلام على (المحقق الطوسي)، وجمع بين
ثقافتي المحققين (الحلي والطوسي) في الفقه والكلام، وهما أكبر
شخصين علميين في تاريخ الفكر الإسلامي على الإطلاق في حقل الفقه
والفلسفة.
وأتيح (للعلامة الحلي) أن يجمع ثقافتيهما وهو الشاب الطموح النابغ
الذي كان يلمس فيه أستاذاه ملامح النبوغ واضحة.
كما قدر لتلميذه الشهيد أن يجمع بين ثقافتي أستاذه في الفلسفة
والكلام.
وهكذا قدر لهذا التلميذ أن يكون نسخة ثانية لأستاذه في ثقافته
الواسعة، وذهنيته الخصبة.
وهنا تنقطع جذور المسألة ولا نجد في مدرستي (المحقق الحلي)
و (المحقق الطوسي) تأثرا بالغا بالمدارس السابقة عليهما في الفقه
103

والكلام فمن هذه النقطة بالذات تبدأ الدراسة، واكتشاف شخصية
الشهيد بصورة منهجية.
كلمات العلماء فيه:
وبإمكان القارئ أن يلمس مكانة الشهيد العلمية في نفوس الفقهاء
من أساتذته وتلاميذه والمتأخرين عنه مما ذكروا في شأنه في الإجازات
والتراجم عند التعرض لذكر الشهيد.
وأهم ما يلفت نظرنا مما قيل في مدح الشهيد ما كتبه أستاذه
(فخر المحققين) في حق الشهيد.
قال: الإمام الأعظم، أفضل علماء العالم، وسيد فضلاء بني آدم
مولانا شمس الحق والدين محمد بن مكي بن حامد أدام الله أيامه (1):
وإن كان هذا التعبير متعارفا من الطلاب بالنسبة إلى شيوخهم، فمن
الغريب أن يمدح أستاذ تلميذه بمثل ذلك، ولئن كان هذا المدح بمثل هذا
التعبير من فخر المحققين يدل على شئ فإنما يدل على سمو مكانة التلميذ
الذي استأثر بقلب أستاذه وعقله معا، وبعثه على أن يعترف بأن ما استفاده
تلميذه الشاب منه لم يزد على ما استفاده هو من تلميذه.
ويقول عنه الشيخ محمد بن يوسف الكرماني القرشي الشافعي
في إجازته للشهيد:
المولى الأعظم الأعلم، إمام الأئمة، صاحب الفضلين مجمع المناقب
والكمالات الفاخرة، جامع علوم الدنيا والآخرة (2).
.

(1) إجازات البحار.
(2) نفس المصدر
104

ويقول الشهيد الثاني فيه: شيخنا وإمامنا المحقق البدل النحرير
المدقق، الجامع بين منقبة العلم والسعادة، ومرتبة العمل والشهادة الإمام
السعيد أبي عبد الله الشهيد محمد بن مكي أعلى الله درجته كما شرف
خاتمته (1):
وقال عنه المحق الكركي في إجازته للشيخ علي بن عبد العالي:
الإمام شيخ الإسلام، فقيه أهل البيت في زمانه، ملك العلماء
علم الفقهاء، قدوة المحققين والمدققين، أفضل المتقدمين والمتأخرين (2).
وقال شيخنا الحر العاملي في كتابه (أمل الآمل):
كان عالما ماهرا، فقيها محدثا، محققا متبحرا، كاملا جامعا لفنون
العقليات والنقليات، زاهدا عابدا، شاعرا أديبا منشئا، فريد دهره، عديم
النظير في زمانه (3).
وقال عنه (العلامة النوري) في مستدرك الوسائل.
تاج الشريعة، وفخر الشيعة، شمس الملة والدين أبو عبد الله محمد
ابن الشيخ جمال الدين مكي أفقه الفقهاء عند جماعة من الأساتيذ، جامع
فنون الفضائل، وحاوي صنوف المعالي، وصاحب النفس الزكية
القوية (4).
.

(1) مقدمة الروضة البهية من طبعتنا الحديثة. ج 1. ص 5.
(2) إجازات البحار. الجزء 1 من المجلد السادس والعشرين
من الطبعة الحجرية.
(3) أمل الآمل. الجزء 2. ص 181.
(4) مستدرك الوسائل، المجلد 3. ص 437
105

آثار الشهيد:
خلف لنا الشهيد الأول رحمه الله بعده مؤلفات قيمة أحصاها بعض
الباحثين إلى اثنين وثلاثين كتابا، رغم كثرة مشاغله، وضخامة المشاريع
التي كان يقوم بها: من نشر التشيع في سوريا ولبنان، وتعريف (الشيعة)
إلى أقطاب المذاهب الإسلامية الأخرى عن طريق إجراء اتصالات فكرية
معهم في مراكز الثقافة الإسلامية في وقته، وتأسيس معهد للفقه في (عاملة)
وتربية تلامذته وطلابه، وغير ذلك من ألوان النشاط الفكري والاجتماعي
الذي كان يقوم به (الشهيد) في حياته.
وما بين أيدينا من آثار الشهيد يكشف عن عقليته الضخمة، وذهنيته
الواعية، وذوقه السليم، وفكره المجدد.
ولئن عرف (الشهيد) بالفقه والأصول بين الفقهاء فقد كان واسع
المعرفة بحقول العلم الأخرى، ولا سيما ما يتصل بالعلوم العقلية كالفلسفة
والرياضيات.
وقد علمنا أنه تلقى الفلسفة بواسطتين عن حكيم الإسلام.
(المحقق نصير الدين الطوسي) رحمه الله ونبغ فيها.
وتلقى عن (فخر المحققين) عن (العلامة الحلي) عن (المحقق الحلي)
واستفاد من تجارب أساتذته فقهاء (مدرسة الحلة)، وبلغ أعلى مستويات
المدرسة على يد أستاذه (فخر المحققين) وهو بعد لم يتجاوز سني الشباب
فلم يجمد على المستوى نفسه. وإنما سعى لتطوير البحث الفقهي، ورفع
مستواه عن المستوى الذي بلغه المحقق والعلامة.
وتميزه عن سلفه دقة نظره في المسائل الفقهية، واستيعابه الكامل
106

لمختلف المسائل.
وحين تجتمع دقة النظر إلى استيعاب الفكرة، والتعمق إلى التوسيع
في الدراسة والبحث ينشأ لون جديد من البحث، ومستوى آخر من الدراسة
يختلف عن الألوان السابقة، والمستويات المتقدمة في جميع الأبعاد.
وهذا ما نعنيه من التجديد في الدراسة والبحث فلا يمكن إيجاد هزة
فكرية في بحث علمي ما لم يشمل التجديد والتطور أبعاد البحث جميعا.
وتوفر للشهيد رحمه الله فوق ذلك نبوغ شخصي ينبع من نفسه
وأساتذة محققين كبار بالواسطة، وأتيح له كذلك أن يتصل بكبار علماء
السنة ومحققيهم، وأن يلقح بين ثقافته الخاصة التي تلقاها في الحلة، وبين
الثقافة السنية.
ولئن كان الشهيد لم يمزج الفقه الشيعي بالفقه السني - فيما وجدنا
من آثار - لكن هذا التلاقح أفاده كثيرا في توسيع فكره وتمكينه من التجديد
والتطوير.
ومهما يكن من أمر فقد قدر للشهيد الأول رحمه الله أن يطور
من مناهج البحث الفقهي، ويزيد فيها ويوسع من إطارها، وينقح
من مبانيها ويزيدها جلالا وروعة، وينظم أبوابها ومسائلها، ويحيط
بأحكامها وفروعها، ويصوغها صياغة جديدة، وأن يرفع بكتبه إلى مستوى
المرجعية في التأليف والبحث والدراسة.
وفيما يلي نستعرض بعض آثار الشهيد رحمه الله:
107

آثاره الفقهية:
1 - (اللمعة الدمشقية):
رسالة فقهية جليلة، جمع فيها (الشهيد) أبواب الفقه، ولخص فيها
أحكامه ومسائله.
وكتبها الشهيد جوابا لرسالة حاكم خراسان (علي بن مؤيد)
التي كان يطلب إليه فيها أن يقدم عليهم بخراسان، ليكون مرجعا
(للشيعة) هناك.
ولما كانت الأجواء السياسية لا تسمح له بمغادرته (دمشق) اعتذر له
عن مجيئه وعوضه عن قدومه برسالة فقهية يجمع فيها أبواب الفقه باختصار
ليكون مرجعا (للشيعة) هناك فيما يعرض لهم من المسائل الفقهية.
وقد ألف الشهيد الرسالة مدة سبعة أيام، ولم يحضره من المراجع
الفقهية غير (المختصر النافع للمحقق الحلي) رحمه الله، وهذا يدل على إلمامه
الواسع بمسائل الفقه، وإحاطته بدقائقه وجزئياته) يندر مثله في الفقهاء،
ودفع الرسالة إلى (الشيخ محمد الآوي) وزير (علي بن مؤيد)
من ملوك (سربداران خراسان)، وأوصاه بالإسراع بها إلى الملك (علي
ابن مؤيد) والكتمان، ولشدة حرص الآوي على العناية بالنسخة لم يسمح
لأحد باستنساخها عدى بعض الطلبة الذين سمح لهم به وهي في يده محافظة
على الكتاب.
وكان الشهيد في الأيام التي تفرغ فيها لكتابة (اللمعة الدمشقية)
يعيش مراقبا في بيته من قبل السلطة، ولذلك فقد كان يتكتم في الكتابة.
108

ومن غريب ما يروى أن (مجلس الشهيد) حين كان مطلق السراح
وحين كان مراقبا في بيته كان مزدحما بعلماء العامة، ورجال السياسة
من مختلف الاتجاهات ممن كان يتكتم أمامهم، فلما شرع بكتابة اللمعة
لم يمر عليه أحد طيلة اشتغاله هذه الرسالة.
ومهما يكن من أمر فقد احتلت (اللمعة) القمة من بين المتون
الفقهية الشيعية، إذ جمعت الوجازة والاختصار، إلى روعة التعبير، وضمت
هذه الخلال جميعا إلى تنسيق الأبواب والأحكام والمسائل بشكل منظم
وتعميق النظر والفكر، فقد كان (الشهيد) أديبا كبيرا شاعرا رقيق الشعر
واسع الخيال، ولم تكن ثقافته مقصورة على الفقه والأصول.
وقد حاول (الشهيد) في رسالته هذه أن لا يجمد على التعبيرات
الفقهية المتداولة في وقته، وأن يحدث بعض التغيير في صياغة التعبير، ويجيد
في سبك العبارات وتنويعها، ويحسن في تنويع العبارة:
وإذا ضممنا إلى ذلك إيجاز التعبير، واختصار الجمل الطويلة، وتشذيب
الكلام من زوائد السجع، والاسترسال في الكتابة من غير محاولة اصطناع
شئ مما كان يصطنعه أدباء زمانه من المحسنات البديعية علمنا سر خلود
(اللمعة) وبقائها، واحتفاظها بطابعها الرسمي في معاهد (الفقه الشيعي)
على الإطلاق.
هذا بالإضافة إلى ما لو حظ في هذا الكتاب: من التنظيم الفني
والتنسيق الرائع لأبواب الفقه وأحكامه ومسائله.
فقد ساير الشهيد (المحقق الحلي) في تنظيم كتب الفقه وأبوابه، لكنه
زاد عليه بجملة من التحسينات نلمسها بوضوح حينما نراجع كلا
من (المختصر النافع) و (اللمعة الدمشقية)، مع العلم أن المختصر النافع
كان المرجع الوحيد للشهيد في تأليف هذه الرسالة.
109

ففي هذا الكتاب يقدم الشهيد أحكام كل باب قبل أي شئ آخر
ثم يبحث عما يلحق بها من الملحقات، ثم يتبعها بعرض المسائل التي تتبع
هذه الأحكام وترتبط بها، ثم يستقصي المندوبات والمكروهات فيما إذا
كان في الباب مندوب ومكروه.
والذي يلفت النظر في هذا التنظيم والتبويب أنه يجمع إلى روعة
النظام استيعاب أطراف المسألة.
وحينما نضم روعة التنسيق إلى استيعاب الفكرة إلى الإيجاز في التعبير
نحصل على مزاح فقهي وأدبي من أروع ما أنجزه الفكر الإنساني، ومن أسمى
ما تحتويه المكتبة الإسلامية.
وفي هذا الكتاب تلفت نظر الباحثين دقة فائقة في تحديد المصطلحات
الفقهية لم نعهد مثلها في المتقدمين عليه حتى من أمثال (المحقق)
و (العلامة)، وهذا شئ طبيعي لو عرفنا أن الشهيد درس الفقه
إلى المستوى الذي بلغه (المحقق والعلامة)، وتفرغ بعد ذلك لتطوير هذا
المستوى وتشذيبه، وإبعاد العوامل الغريبة عنه، وتحديد مصطلحاته بشكل
أدق من ذي قبل.
والدراسة تختلف عن الصياغة والإبداع، فدرس (الشهيد) الفقه
إلى مستوى (المحقق والعلامة)، واستقل بعد ذلك في تطوير الفقه
إلى مستوى آخر أعلى من المستويات السابقة.
ومهما يكن من أمر فقد اجتمعت عوامل كثيرة خلدت هذا الكتاب
وجعلته في القمة من المتون الفقهية، وأبقت على طابعها الرسمي
في الحوزات العلمية و (معاهد الفقه الشيعي) من حيث المراجعة والتدريس
والتعليق والشرح.
وتوسع العلماء في شرح هذا الكتاب نذكر منها.
110

(الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية) للشهيد الثاني، وهي
من أجل هذه الشروح وأسماها.
و (التحفة الغروية في ميراث اللمعة الدمشقية) للشيخ خضر بن
شلال العفكاوي.
وشرح العالمة الفقيهة ابنة المولى الأصفهاني المعاصرة لصاحب الرياض.
وشرح والد صاحب الحدائق، وغيرها: من الشروح الكثيرة
التي تناولت هذا الكتاب بالتعليق والإيضاح.
2 - (الدروس الشرعية في فقه الإمامية):
كتاب جليل يشتمل على كثير من أبواب الفقه من الطهارة حتى الرهون
أدركته الشهادة قبل إتمامه.
شرع في تأليفه سنة 780، وفرغ من الجزء الأول سنة 784 وطبع
الكتاب بإيران سنة 1269.
ونظرا لأهمية الكتاب في عالم الفقه تصدى كثير من الفقهاء لشرحه
والتعليق عليه.
منها: شرح والد صاحب الرياض، والشرح الموسوم بالعروة الوثقى
والشرح المسمى بمشارق الشموس، وغيرها.
وللكتاب تكملة (1).
.

(1) راجع الذريعة ج 8. ص 145
111

3 - (الألفية):
تشتمل على ألف واجب في الصلاة مرتبة على مقدمة وثلاثة فصول
وخاتمة، وعليها شروح كثيرة ذكر في الذريعة ما يقرب من خمسين
شرحا (1).
4 - (النفلية): رسالة تشتمل على ثلاثة آلاف نافلة في الصلاة، ألفها الشهيد بعد
الألفية،
لها شروح كثيرة منها: شرح الشهيد الثاني المسمى:
ب‍ (الفوائد الملكية) (2).
5 - (البيان):
كتاب في الفقه. خرج منه الطهارة والصلاة والزكاة والخمس
وأول الأركان الأربعة من الصوم فيما يجب الإمساك عنه.
طبع في طهران سنة 1319 (3).
.

(1) راجع الذريعة ج 2. ص 296 - 297.
(1) المصدر السابق وحياة الإمام الشهيد. ص 62.
(3) الذريعة ج 3. ص 174
112

6 - (ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة)،
خرج منه الطهارة والصلاة، وفرغ من تأليفه سنة 786.
وعليها حواشي كثيرة عد شيئا كثيرا منها الشيخ آغا بزرك
في الذريعة (1).
7
- (غاية المراد في شرح نكت الإرشاد):
المتن للعلامة الحلي، وشرحه الشهيد على نسق القدماء: من تقديم
المتن والتعقيب عليه بشكل التعليق، وهو من الطهارة إلى كتاب الأيمان.
فرغ منه سنة 757، وطبع في إيران مرارا منها: طبعة سنة 1302 (2).
8 - (القواعد والفوائد):
كتاب جليل يضم ما يقرب من 300 قاعدة فقهية ما عدى الفوائد
والتنبيهات.
وعلى الكتاب حواش وتعليقات كثيرة، ذكر جزءا منها العلامة
الجليل آغا بزرك في الذريعة (3).
.

(1) الذريعة. ج 10. ص 40. و ج 6. ص 86.
(2) حياة الإمام الشهيد. ص 63.
(3) الذريعة ج 6. ص 173. وحياة الإمام الشهيد ص 62
113

9 - (أربعون حديثا):
أكثرها في العبادات العامة. طبع في إيران مع (غيبة النعماني)
سنة 1318 (1).
10 - (خلاصة الاعتبار في الحج والاعتمار):
رسالة صغيرة في المناسك، نقلها العلامة الأمين في معادن الجواهر (2)
11 - (جواز إبداع السفر في شهر رمضان):
رسالة شريفة في تحقيق هذه المسألة بصورة مبسوطة، ذكر في أوله
الظاهر من مذاهب العلماء في سائر الأعصار والأمصار جوازه، مع
إجماعنا على كراهة ذلك، لنا عشرون طريقا: الأول - وهو العمدة -
التمسك بقوله تعالى: من كان مريضا.. (3).
12 - (جوابات الفاضل المقداد):
وهي مجموعة الأجوبة على أسئلة الفاضل المقداد بن عبد الله السيوري
تلميذ الشهيد البالغة سبعا وعشرين مسألة، توجد مع بعض رسائل الشيخ
أحمد بن فهد الحلي ضمن مجموعة في الخزانة الرضوية (4).
.

(1) راجع الذريعة ج 1. ص 427.
(2) نفس المصدر ج 7. ص 214.
(3) نفس المصدر ج 5. ص 241.
(3) نفس المصدر ج 5. ص 212
114

13 - (أحكام الأموات):
رسالة فقهية في أحكام الأموات من الوصية إلى الزيارة (1).
14 - (مجموعة الشهيد الأول):
وهي ثلاث مجلدات كبار.
قال عنها الشيخ آغا بزرك في مصفى المقال:
كتب الشهيد الأول ثلاث مجاميع ذات فوائد كثيرة.
وقال في الذريعة: إنها ثلاث مجاميع ينقل عنها في البحار في المجلد
الأول رسائل لمختلف العلماء، كتبها بالحلة سنة 776.
والمجلد الثاني اختصار الجعفريات (2).
15 - (جوابات مسائل الأطراوي):
مجموعة أجوبة الشهيد على مسائل السيد بدر الدين الحسن بن أيوب
ابن نجم الدين الأطراوي العاملي تلميذ الشهيد، سألها عنه في قرية إطراء
العاملية (3).
.

(1) راجع الذريعة ج 1. ص 295:
(2) راجع حياة الإمام الشهيد ص 67.
(3) نفس المصدر ص 68
115

116 - (مسائل ابن مكي):
مرتبة على أبواب الفقه. وألفت في السنة التي استشهد فيها، وهي
سنة 786.
وقيل: إنها آخر مؤلفاته (1).
17 - (جامع البين من فوائد الشرحين):
والشرحان للأخوين الأعرجيين: السيد عميد الدين: والسيد ضياء الدين
ابنا أخت العلامة الحلي وأستاذا الشهيد على كتاب (تهذيب طريق الوصول
إلى علم الأصول) لخالهما العلامة الحلي، وقد جمع الشهيد بين فوائد
الشرحين وزاد عليهما فوائد أخرى،
قال في كشف الحجب: إن (الجامع) هذا تأليف الشيخ السعيد
أبي عبد الله محمد بن مكي الشهيد، وبما أنه ألفه في أوائل شبابه ولم يراجع
المسودة بقيت النسخة غير منقحة فوجدها الشيخ عز الدين حسين بن
عبد الصمد تلميذ الشهيد الثاني ووالد الشيخ البهائي والمتوفى سنة 984
وأصلحها في سنة 941.
وقال بعد تمام الإصلاح: ثم إن الشيخ الشهيد ميز ما اختص به
شرح ضياء الدين بعلامة (ض) وما اختص به شرح العميد بعلامة (ع)
وأنا تابعته في ذلك (2).
.

(1) المصدر السابق،
(2) راجع الذريعة ج 5. ص 44
116

18 - (حاشيته على الذكرى):
والأصل له أيضا، ذكر في الذريعة أن له حواشي على كتابه
ذكرى الشيعة، كما يظهر من حاشية البويهي عليها، حيث صرح فيها
أنه ينقله عنها (1).
تلك جملة مما بلغنا من آثار الشهيد الفقهية.
وهذا وحده يكفي للدلالة على ضخامة العمل الفقهي الذي قام به
الشهيد، والأثر الكبير الذي تركه في تطوير البحث الفقهي، ومناهج
الدراسة الفقهية والأصولية.
وقد فتح الشهيد في كتاباته هذه أبوابا للباحثين بعده، كما سد فجوات
كثيرة في البحث الفقهي من حيث المنهج والاستدلال.
وقد كان مؤلفات الشهيد الفقهية موضع عناية الفقهاء واهتمامهم دائما
وعلى امتداد (تاريخ الفقه الجعفري)، فكثر التعليق والشرح على كتب
الشهيد من المتقدمين والمتأخرين.
ومهما يكن من أمر فقد خلف الشهيد من بعده ثروة فقهية ضخمة
كانت ولا تزال إحدى ركائز، ومقومات تراثنا الفكري.
آثاره الأخرى:
19 - (العقيدة):
رسالة صغيرة في العقيدة الإسلامية:
.

(1) راجع الذريعة ج 10. ص 40
117

20
- (اختصاص الجعفريات):
والأشعثيات، أو الجعفريات من الكتب القديمة يشتمل على نحو
ألف حديث، اختصره الشهيد بما يقرب من الثلث.
21 - (مزار الشهيد):
وتسمى ب‍: (منتخب الزيارات) ويحتوي على جملة من الزيارات
وترجمت إلى الفارسية.
22 - (المقالة التكليفية):
رسالة في العقائد والكلام، فرغ الشهيد من تأليفها سنة 769
شرحها الشيخ زين الدين يونس البياضي باسم (الرسالة اليونسية في شرح
المقالة التكليفية الشهيدية).
23 - (مجموعة الإجازات):
وهي ما جمعها الشهيد من إجازات العلماء المتقدمين.
24 - (شرح قصيدة الشفهيني):
والقصيدة في مدح (الإمام أمير المؤمنين) عليه السلام، شرحها
الشهيد، وقد وقف الشفهيني على الشرح فأعجب به، وأرسل إلى الشهيد
118

عشرة أبيات يمدحه بها، منها:
فكأنه وجواده وحسامه * وسنان مسعده دليل أسود
قمر على فلك وراءه مذنب * وأمامه والليل داج فرقد
ولعل القصيدة التي شرحها الشهيد من شعر الشفهيني - كما رجحه
الشيخ آغا بزرك في الذريعة - هي التي مطلعها:
- يا عين ما سفحت عزوب دماك * إلا بما ألهمت حسب دماك
ويبدو أن هذا الشرح كان من عمل الشهيد في أوان دراسته (1).
تلاميذه:
استقل الشهيد بالتدريس في الحلة، والتف حوله طلاب الفقه
والأصول يدرسون عليه مناهج الاستنباط والفقه، وعرف الشهيد في الحلة
بتدريسه لقواعد العلامة والتهذيب، وعلل الشرايع، وكتب أخرى في الفقه
والأصول والحديث.
ولم يقتصر الشهيد على التدريس في الحلة، أو في جزين في مدرسته
الخاصة، وإنما كان يقوم بالتدريس في رحلاته التي كان يقوم بها بين
حين وآخر إلى (الحجاز) أو (مصر) أو (سوريا) أو (فلسطين)
أو (العراق) أو غيرها من الأقطار الإسلامية.
وقد استطاع الشهيد في هذه المدة وفي خلال رحلاته وإقامته في الحلة
وفي دمشق وفي جزين أن يرى عددا كبيرا من العلماء الذين خلفوه في مكانته
العلمية والدينية.
.

(1) يراجع فيما تقدم من آثار الشهيد غير الفقهية كتاب حياة الإمام
الشهيد للشيخ محمد رضا شمس الدين
119

ولكي يلمس القارئ شيئا من جهود الشهيد في تربية تلاميذه من الذين
خلفوه بعده في الفقاهة والتدريس أعرض أسماء نفر منهم:
1 - السيد أبو طالب أحمد بن القاسم بن زهرة الحسيني، تلمذ
على الشهيد وحضر عنده (1).
2 - الشيخ جمال الدين أحمد بن النجار صاحب الحاشية
على (قواعد العلامة الحلي)، جمع فيها تحقيقات شيخه الشهيد ونظرياته
في الفقه (2).
3 - الشيخ جمال الدين أبو منصور حسن بن الشهيد الأول، أجازه
والده الشهيد مع أخويه وصورة الإجازة في البحار (3).
4 - الشيخ ضياء الدين أبو القاسم علي ابن الشهيد المتوسط، وله
عن أبيه إجازة.
5 - الشيخ رضي الدين أبو طالب محمد أكبر أبناء الشهيد، أجازه
أبوه مرتين (4).
6 - الفقيهة الفاضلة فاطمة المدعوة بست المشائخ، تروي عن أبيها
وعن السيد تاج الدين ابن معية إجازة، وكان أبوها يثني عليها ويأمر
النساء بالاقتداء بها، والرجوع إليها (5).
وقد عني الشهيد بتربية بنته هذه وتثقيفها فكانت مثال المرأة المؤمنة
المثقفة، وكانت موضع احترام وعناية الفقهاء والناس عامة، حتى أنها
.

(1) راجع روضات الجنات الجزء 2. ص 34.
(2) حياة الإمام الشهيد الأول.
(3) بحار الأنوار. الجزء 2. ص 34.
(4) الذريعة. الجزء 1. ص 248.
(5) شهداء الفضيلة. ص 91
120

لما توفيت في قرية جزين حضر تشييعها سبعون مجتهدا من (جبل عامل).
ولسنا نملك نحن أثرا فقهيا عن هذه السيدة الجليلة، لكن بين
أيدينا وثيقة كتبتها ست المشائخ لأخويها تهب بها ما يخصها من تركة
أبيها في جزين لأخويها، ابتغاء لوجه الله، وفي قبال ذلك يعوضها أخواها
بكتب في الفقه للشيخ والشهيد، وإليك نص الوثيقة،
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله الذي وهب لعباده ما شاء، وأنعم على أهل العلم والعمل
بما شاء. وجعل لهم شرفا وقدرا وكرامة، وفضلهم على الخلق
بأعمالهم العالية، وأعلى مراتبهم في دار الدنيا والآخرة، وشهد بفضلهم
الإنس والجان.
والصلاة والسلام الأتمان والأكملان على سيدنا محمد ولد عدنان
المخصوص بجوامع الكلم الحسان، وعلى آله وأصحابه أهل اللسن واللسان
والساحبين ذيول الفصاحة على سحبان، وعلى تابعيهم ومن تابعهم ما اختلف
الجديدان، وأضاء القمران.
أما بعد: فقد وهبت الست فاطمة أم الحسن أخويها: أبا طالب
محمدا، وأبا القاسم عليا سلالة السعيد الأكرم، والفقيه الأعظم، عمدة
الفخر وفريد عين الزمان ووحيده، محيي مراسم الأئمة الطاهرين
سلام الله عليهم أجمعين، مولانا شمس الملة والدين محمد بن أحمد بن
حامد بن مكي قدس سره، المنتسب لسعد بن معاذ سيد الأوس أما
قدس الله أرواحهم جميعا ما يخصها من تركة أبيها في (جزين) وغيرها
هبة شرعية، ابتغاءا لوجه الله تعالى. ورجاءا لثوابه الجزيل.
121

وقد عوضا عليها كتاب (التهذيب) للشيخ رحمه الله، وكتاب
(المصباح) له، وكتاب (الذكرى) لأبيها رحمه الله، و (القرآن)
المعروف بهدية علي بن مؤيد (1).
وقد تصرف كل منهم، والله الشاهد عليهم، وذلك في اليوم
الثالث من شهر رمضان العظيم قدره الذي هو من شهور سنة ثلاث
وعشرين وثمانمائة، والله على ما نقول وكيل، وشهد بذلك خالهم المقدام
علوان بن أحمد بن ياسر، وشهد الشيخ علي بن الحسين بن الصائغ، وشهد
بذلك الشيخ فاضل بن مصطفى البعلبكي (2).
وهذه الوثيقة وحدها تكفي للدلالة على مكانة هذه السيدة السامية
وجلالتها، وسمو أخلاقها، وعنايتها بالعلم والعلماء، والكتب الفقهية
ولهجتها الوثيقة تكشف عن نفسية كريمة، وأدب إسلامي رفيع، وتواضع
جم للعلم والعلماء.
7 - السيد بدر الدين الحسن بن أيوب الشهير بابن الأعرج الأطراوي
العاملي، كان من معاريف تلاميذ الشهيد كما في (أمل الآمل).
8 - الشيخ عبد الرحمان العتائقي صاحب المؤلفات الكثيرة تلقى
عن الشهيد كثيرا من العلوم.
9 - الشيخ شرف الدين أبو عبد الله المقداد بن عبد الله المعروف
بالفاضل السيوري الحلي صاحب (شرح الباب الحادي عشر)، يروي
عن الشهيد كما في الكنى والألقاب.
10 - الشيخ محمد بن تاج الدين عبد علي الشهير بابن نجدة، أجازه
.

(1) مر ذكره في (ملوك خراسان) سربدران عاشوا في سبزوار
إحدى مدن خراسان الكبرى.
(2) الكنى والألقاب الجزء 2 ص 342 - 344
122

الشهيد في رمضان سنة 770 وصرح فيها بأنه سمع من مؤلفاته، وسمع منه
كتاب (التحرير) و (الإرشاد) و (المناهج) و (نهج المسترشدين)
و (شرحي النظم والياقوت) للعلامة الحلي و (خلاصة المنظوم)
لابن مالك و (اللمع في النحو) لابن جني و (الشرائع) للمحقق
و (مختصر مصباح الطوسي) وغير ذلك (1).
مدرسة جزين:
كان الشيعة في (جبل عامل) و (سوريا) عامة - وهم قلة في البلد
في عهد (الأمويين والعباسيين) يعيشون تحت ضغط الإرهاب السياسي
وكان هذا الضغط والإرهاب السياسي يمنعهم من القيام بنشاط ثقافي
أو سياسي ملموس.
حتى إذا دالت (دولة العباسيين) وظهرت (دولة البويهيين)
في (العراق وفارس).
و (دولة الحمدانيين) في (الموصل وحلب).
و (دولة العلويين) في (مصر والشام والحجاز وأفريقيا) استطاع
الشيعة أن يجاهروا بنشاطهم الثقافي والسياسي، وأن يدعوا علانية
إلى التشيع.
فظهر في هذه الفترة نشاط سياسي وثقافي ملموس للشيعة في (سوريا)
عامة، وفي (جبل عامل) خاصة، مما نستعرضها قريبا عند الحديث
عن الجانب السياسي من حياة الشهيد.
.

(1) يراجع فيما تقدم من تلاميذ الشهيد حياة الإمام الشهيد والروضات
والكنى والألقاب والذريعة
123

فكان من أثر ذلك ظهور (مدرسة حلب) لبني زهرة، وظهور
نشاط ثقافي شيعي في (جبل عامل)، فقد كثرت (المدارس الفقهية الشيعية)
في جبل عامل، وقوى النشاط الثقافي في هذا القطر.
وأول مدرسة فقهية افتتحت في هذا القطر هي (مدرسة جزين)
للشهيد الأول،
ويبدو أنها كانت طليعة النشاط الثقافي والسياسي الشيعي في جبل
عامل، فحين اكتمل الشهيد دراسة في الحلة، وفرض نفسه على الأوساط
الثقافية، واحتل لنفسه مكانة رفيعة فيها رجع إلى (جزين) مسقط رأسه
وفيها ابتدأ بنشاط ثقافي وسياسي ملموس لنشر التشيع والفقه الشيعي في هذه
الأقطار، فأسس معهدا كبيرا لتدريس الفقه والأصول على مستويات مختلفة
في جزين، عرف ب‍: (مدرسة جزين).
وقدر لهذه المدرسة بفضل عناية مؤسسها الشهيد أن تربي عددا
كبيرا من الفقهاء والأصوليين، وأن تخرج جمعا كبيرا من المفكرين
الإسلاميين (1).
ذلك جانب من ثقافة الشهيد وآثاره في الفقه والأصول، وما ترك
من أثر كبير في تطوير مناهج دراسة الفقه والأصول، ونماذج من تلاميذه
من الفقهاء ومنشآته الثقافية.
ويخال إلي أن القارئ يستطيع بعد هذا العرض السريع للجانب الثقافي
من حياة الشهيد أن يلمس طرفا من شخصية الشهيد الثقافية وأثره الكبير
في (تاريخ الفقه الشيعي).
.

(1) راجع تاريخ جبل عامل. ص (234)
124

شعر الشهيد:
لم يقتصر الشهيد - كما ذكرنا طي الحديث المتقدم - على الفقه
والأصول والدراسات الكلامية، وإنما كان مع ذلك أديبا كاتبا وشاعرا
بالإضافة إلى كونه فقيها من الرعيل الأول.
ونثر الشهيد كما نلمسه نحن من خلال كتبه (كاللمعة الدمشقية
والقواعد والذكرى والدروس) يمتاز بقوة الأدلة والبساطة والوضوح
وعدم الالتواء والتعقيد، ولا يجد الباحث في نثر الشهيد شيئا من التعقيد
والالتواء، واصطناع السجع والزخرفة البديعية التي كان يتعارفها الكتاب
فيما سبق.
وشعره - وإن قل - يمتاز بالرقة، ودقة التصوير، وروعة الديباجة
والمس المباشر للنفس، وجمال التعبير، وجودة الأداء. فمن شعره:
غنينا بنا عن كل من لا يريدنا * وإن كثرت أوصافه ونعوته
ومن صد عنا حسبه الصد والقلا * ومن فاتنا يكفيه أنا نفوته (1)
ومنه قوله في المناجاة:
عظمت مصيبة عبدك المسكين * في نومه عن مهر حور العين
الأولياء تمتعوا بك في الدجى * بتهجد وتخشع وحنين
فطردتني عن قرع بابك دونهم * أترى لعظم جرائمي سبقوني
أوجدتهم لم يذنبوا فرحمتهم * أم أذنبوا فعفوت عنهم دوني
إن لم يكن للعفو عندك موضع * للمذنبين فأين حسن ظنوني (2)
.

(1) روضات الجنات. الجزء 2. ص 591.
(2) نفس المصدر
125

ومن قوله في مسايرة ابن الجوزي في قوله:
أقسمت بالله وآلائه * إليه ألقى بها ربي
إن علي بن أبي طالب * إمام أهل الشرق والغرب
من لم يكن مذهبه مذهبي * فإنه أنجس من كلب
فقال الشهيد:
لأنه صنو نبي الهدى * من سيفه القاطع في الحرب
وقد وقاه من جميع الردى * بنفسه في الخصب والجدب
والنص في الذكر وفي " إنما * وليكم " كاف لذي لب
من لم يكن مذهبه هكذا * فإنه أنجس من كلب (1)
ومنه قوله:
بالشوق والذوق نالوا عزة الشرف * لا بالدلوف ولا بالعجب والصلف
ومذهب القوم أخلاق مطهرة * بها تخلقت الأجساد في النطف
صبر وشكر وإيثار ومخمصة * وأنفس تقطع الأنفاس باللهف
والزهد في كل فاق لا بقاء له * كما مضت سنة الأخيار في السلف
قوم لتصفية الأرواح قد عملوا * وأسلموا عوض الأشباح للتلف
ما ضرهم رث أطمار ولا خلق * كالدر حاضرة مخلوق الصلف
لا بالتخلق بالمعروف تعرفهم * ولا التكلف في شئ من الكلف
يا شقوتي قد تولت أمة سلفت * حتى تخلفت في خلف من الخلف
ينحقون تزاوير الغرور لنا * بالزور والبهت والبهتان والسرف
ليس التصوف عكازا ومسبحة كلا ولا الفقر رؤيا ذلك الشرف
وإن تروح وتغدو في مرقعة * وتحتها موبقات الكبر والشرف
وتظهر الزهد في الدنيا وأنت على * عكوفها كعكوف الكلب في الجيف

(1) روضات الجنات. الجزء 3. ص 593.
126

الفقر سر وعنك النفس تحجبه * فارفع حجابك تجلو ظلة التلف
وفارق الجنس وأقر النفس في نفس * وغب عن الحس واجلب ما شئت واتصف
واخضع له وتذلل إذ دعيت له * واعرف محلك من آباك واعترف
وقف على عرفات الذل منكسرا * وحول كعبة عرفان الصفا فطف
وادخل إلى حبوة الأفكار مبتكرا * وعد إلى حانة الأذكار بالصحف
وإن سقاك مدير الراح من يده * كأس التجلي فخذ بالكأس واغترف
واشرب واسق ولا تبخل على ظمأ * فإن رجعت بلا ري فوا أسفى
وله شعر يخاطب (بيد مر) حاكم دمشق عندما حبسه في قلعة
دمشق بتهمة وجهها إليه أعداؤه في حديث طويل بأن يتظلم فيه إليه عما أسند
إليه من التهم وعن حياة السجن:
يا أيها الملك المنصور بيدمر * بكم خوارزم والأقطار تفتخر
إني أراعي لكم في كل آونة * وما جنيت لعمري كيف أعتذر
لا تسمعن في أقوال الوشاة فقد * باؤوا بزور وإفك ليس ينحصر
والله والله أيمانا مؤكدة * إني برئ من الإفك الذي ذكروا
عقيدتي مخلصا حب النبي ومن * أحبه وصحاب كلهم غرر
الفقه والنحو والتفسير يعرفني * ثم الأصولان والقرآن والأثر
وما تقدم من نماذج من شعر الشهيد يكفي ليلمس القارئ معالم
الرقة والجمال في الأداء والتعبير في (شعر الشهيد) رحمه الله تعالى.
127

ب - جهاده
عصر الشهيد:
لكي ندرس الجانب السياسي من (حياة الشهيد) ودوره في الجهاد
وإنجازاته ينبغي أن ندرس قبل ذلك الظروف الاجتماعية والسياسية التي
عاصرها الشهيد، والاتجاهات الدينية والسياسية السائدة في عصره، لنلمس
من وراء ذلك موقف الشهيد من هذه الحركات والاتجاهات وأثره
في الحياة الاجتماعية، ونوعية الدعوة التي كان يقوم بأعبائها في حقل
العمل الاجتماعي، من إصلاح وتوجيه وبناء.
أما أن نستعرض حوادث من (حياة الشهيد) ومواقفه وشهادته
مما ترددها كتب التراجم: من ميزان نحاول أن نربط بعضها ببعض، وأن
نربطها جميعا بالظروف الاجتماعية التي كان يعيشها، وأن نملأ به بعد ذلك
الفجوات والفراغات التي تلاحظ في ترجمة الشهيد، فهذا العمل
- إن صح أن يكون ترجمة لحياة الشهيد - فلا يكون دراسة وحثا عن حياة
الشهيد ولذلك كله آثرنا أن نعبد الطريق للقارئ، لنشرف معه على سير
الحياة الاجتماعية في عصر الشهيد، على أن لا نخرج عن هذا البحث
من غير طائل كبير.
انحلال الدولة الإسلامية:
اتخذ (بنو العباس) سياسة قاسية بالنسبة إلى (الشيعة والعلويين)
وغالى في هذا السلوك (المتوكل العباسي) بشكل فظيع.
128

وإذا علمنا أن (العلويين والشيعة) عامة كانوا من أهم عوامل
ظهور (الدولة العباسية) وانحلال الحكم الأموي عرفنا كم كانت
(الشيعة) تعاني من هذا السلوك في ظلال الحكم العباسي، وكم كان
يخالجهم الشعور بالندم على إسناد الحكم العباسي، وتدعيمه والاغترار
بعهودهم، ولم يجد الشيعة أي مبرر لمثل هذا الضغط والعنف في السلوك
من قبل الجهاز الحاكم.
وهذا ما حدى بهم إلى التفكير في الاستقلال عن حكومة بغداد
العباسية ولكن قوة الحكم العباسي وامتداد سيطرتهم إلى أطراف البلاد
كان يمنع (الشيعة) عن القيام بأية محاولة للانفصال والاستقلال، حتى إذا
ظهر الضعف في جهاز الحكم العباسي، وضعفت سيطرته على البلاد
ظهر الانحلال في الحكم العباسي، وانفصل كثير من البلدان عن الحكومة
(الأم) في (بغداد) وكان أصلح الأقطار الإسلامية للاستقلال
والانفصال عن الحكم العباسي هو (إيران) و (الأندلس) و (أفريقيا):
أما (الأندلس) فقد انفصلت من الحكم العباسي منذ بدء تأسيسه
حيث فر إليها (عبد الرحمن بن معاوية بن هشام)، وواليها من بعد
عبد الرحمن بن يوسف الفهري، وبقي فيها عاما يخطب للسفاح حتى إذا
استقام به الأمر ولحقه أهله من بني أمية استقل في الحكم، وألغى ذكر
بني العباس في الخطبة (1)، فكان ذلك سنة 138 ه‍.
وبقيت (الأندلس) تحت حكم الأمويين إلى سنة 422 ه‍.
أما في (إيران) و (أفريقيا) فكان طابع النشاط السياسي هو
التشيع واستطاعت (الشيعة) في هذين القطرين بشكل خاص أن يقوموا
بوجوه مختلفة من النشاط السياسي، ويظهروا انفصالهم عن بغداد، وحتى
.

(1) راجع سمط النجوم العوالي. الجزء 3 ص 405
129

أن يدخلوا (بغداد) في بعض الأحيان.
فقد عرف (الشيعة) في تاريخ الإسلام بالحركة والنشاط الدائم
ومقاومة الطغيان والاستبداد والانحراف في أجهزة الحكم.
والأمر ما كانت للسلطات تلاحقهم في كل مكان، وتراقب حركاتهم
ومكانهم أشد المراقبة، فحين أخذت (الحكومة العباسية) بالانحراف
وأمضت في الضلال خرج (الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن السبط)
مع جماعة من أهل بيته منهم (إدريس ويحيى)، واستولى على المدينة
وطرد عنها عامل (الهادي العباسي)، وكان الموسم موسم حج، فخرج
هو وأصحابه إلى الحج، حتى إذا بلغوا موقعا قريبا من مكة يقال له:
(فخ) أرسل إليهم الحاكم العباسي جيشا وضع فيهم السيف حتى قتل
جمعا كثيرا منهم، وفيهم (الحسين الفتح) نفسه، وكان ذلك في يوم
التروية (1)، ونجى منهم فيمن نجى إدريس بن عبد الله ويحيى بن
عبد الله:
أما (يحيى) ففر إلى الديلم والتف حوله الناس، فأرسل الرشيد إليه
جيشا بقيادة الفضل بن يحيى فكاتبه الفضل، وأعطاه الأمان، بآثر يحيى
السلم على الحرب وذهب إلى (بغداد) فأكرمه الرشيد ثم غدر به (2).
.

(1) راجع الطبري. الجزء 10. ص 24 - 32.
وابن كثير الجزء 10. ص 40.
وابن أثير الجزء 6. ص 32. 34.
(2) راجع مقاتل الطالبيين. ص 463 - 483
130

دولة الأدارسة (172 - 375):
أما إدريس ففر إلى مصر، ومنها إلى المغرب، واجتمعت حوله
قبائل البربر وغيرهم، واشتد أمره واستمر حكمهم قرنين وثلاث سنين
وامتدت سلطتهم في المغرب، وكانت حاضرة ملكهم مدينة فاس (1).
وقد استطاع الأدارسة في هذه الفترة أن يخدموا المغرب كثيرا، وأن
يخلفوا تراثا حضاريا ومدنيا قيما، وأن ينشروا التشيع في هذا القطر
من الأرض.
الفاطميون:
وفي سنة 286 هجرية بعد ما ضعفت (الدولة العباسية) أخذ
(أبو عبد الله الشيعي)، يدعو لعبيد بن المهدي في (إفريقيا) وأخذ البيعة
وانتزع أفريقيا من (بني الأغلب) واستولى عليها وعلى الغرب الأقصر
والشام، واقتطعوا سائر هذه الأقطار من (العباسيين)، واستمر حكمهم
إلى سنة 567 وامتد نفوذهم إلى (مصر والحجاز واليمن).
وكان (الفاطميون) شيعة إسماعيلية، سعوا كثيرا لنشر التشيع
في (مصر وأفريقيا) والأقطار الأخرى التي كانت تحت يدهم.
وربما جاز لنا أن نقول: إن ظهور (الفاطميين) واستيلاءهم
على الحكم وحرصهم على نشر (التشيع) ومعارضة المذاهب الأخرى
.

(1) راجع تاريخ الإسلام للدكتور حسن إبراهيم حسن. الجزء 3
ص (162 - 167)
131

كان رد فعل طبيعي للعنف والضغط الذي كانت (الشيعة) تنوء به
أيام الحكم العباسي.
دولة مستقلة أخرى:
استقل (الحمدانيون) في (الموصل وحلب)، وامتد حكمهم
من 317 إلى 394.
وظهر باليمن (يحيى بن الحسن بن القاسم الرسي، وهو ابن
(إبراهيم طباطبا)، وملك صعدة وصنعاء، وظهر (القرمطي) بنواحي
(البحرين وعمان) وسار إليهما سنة 279 أيام المعتضد، واستمر حكمهم
إلى القرن الرابع.
وخلال هذه الفترة استبد (بنو سامان) بما وراء النهر آخر أعوام
260، وامتد حكمهم إلى آخر القرن الرابع، ثم اتصلت دولة أخرى
في مواليهم ب‍ (قرنة) منتصف المائة السادسة.
وكانت للأغالبة بالقيروان وأفريقية دولة أخرى استقلت منذ أيام
الرشيد، واستمرت إلى أوائل المائة الثالثة، ثم أعقبتها دولة أخرى
لمواليهم (بني طنج) موالي كافور إلى الستين والثلاثمائة (1).
واستقل (بنو بويه) في الحكم من سنة 334، واستمر حكمهم
إلى سنة 447، وامتد سلطانهم على جزء كبير من الوطن الإسلامي
عن (فارس والأهواز وكرمان وبغداد) وغيرها.
خدم (البويهيون) التشيع أيام حكمهم، ونشروا المذهب
.

(1) راجع سمط النجوم. تأليف عبد الملك بن حسين العصامي المكي
الجزء 3. ص 406 و 407
132

في (إيران والعراق) وخلفوا تراثا فكريا قيما من بعدهم، ولسنا بصدد
الحديث منه.
وتأسست (الدولة الأيوبية) سنة 564، وامتد سلطانهم أيام
(صلاح الدين) من النيل إلى دجلة، وفي أيامهم وقعت الحرب الصليبية
المعروفة بين المسلمين والمسيحيين، وعرفت (الدولة الأيوبية) بطابعها
السني المجافي للشيعة.
خلف الأيوبيون في الحكم (المماليك) وهذه السلسلة غريبة
في وضعها، فقد تعاقب الحكم فيها عبيد من جنسيات مختلفة، واستمر
سلطانهم نحوا من قرنين وثلاثة أرباع قرن، وكانوا بشكل عام سفاكين
وغير مثقفين (1).
ويقسم المماليك إلى المماليك البحرية (1250 م 1390 م) والمماليك
البرجية (1382 م - 1517 م) فالبحرية سموا بذلك نسبة إلى النيل، إذ
كانت ثكناتهم تقوم على جزيرة صغيرة في نهر النيل، وكان أكثرهم
من الترك والمغول.
أما البرجية فكانوا في الغالب من الجراكسة.
الجراكسة:
استولى (ملوك الجراكسة) على الحكم بعد المماليك البحرية الذين
كانوا امتدادا لدولة الأيوبيين. وكان ابتداء ملكهم سنة أربع وثمانين وسبعمائة
واستمر حكمهم مائة وثمانية وثلاثون سنة، وكانت عاصمة حكمهم
(القاهرة) وأول ملوكهم الملك الظاهر سيف الدين (برقوق).
.

(1) راجع تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين - فليب حتى. الجزء 2
ص 267
133

برقوق:
كان (برقوق) أول عهده عبدا وأتابكا خاصا للملك الصالح الحاجي
ابن الأشرف بن شعبان، وهو الرابع عشر من ملوك الأتراك مماليك الأيوبيين
المتغلبين عليهم.
وقد تولى (الحاجي) الحكم وهو ابن عشر سنوات، ولم يكن له
من الأمر غير الاسم، فألزم (برقوق) الأمراء بخلعه، ونصب نفسه
للحكم سنة أربع وثمانين وسبعمائة.
ولكن الأمر لم يصف له، فقد انشق عليه بعد حين من الزمان
أمراء عصره فخرج عليهم (تمريغ الأفضلي) و (بليغ العمري)
ونزعا عنه الحكم وملكا مصر وأعيد حاجي إلى الحكم مرة أخرى، وحبس
(برقوق) بالكرك.
ولم يطل الأمر ببرقوق، فقد خرج من السجن وكر ثانيا على أعدائه
وجمع الجيوش وتمكن منهم وأزاحهم عن المسرح واستقل بالأمر إلى أن
توفي سنة 801 (1).
علاقة برقوق بالخليفة العباسي:
في عهد برقوق كان القائم بالخلافة هو (المتوكل) محمد بن المعتضد
العباسي، وقد خطب الخليفة قبل أن يفوض إلى برقوق الأمر خطبة بليغة
ثم قلده الأمر بحضور جمع من القضاة (2).
.

(1) راجع سمط النجوم العوالي. الجزء 4. ص 32.
(2) حسن المحاضرة للسيوطي. الجزء 2. ص 88
134

ولكن (برقوق) لم يبق وفيا بالنسبة إلى الخليفة العباسي، فقد خلعه
سنة 785 وحبسه بقلعة الجليل، وبويع بالخلافة محمد بن إبراهيم بن المستمسك
ابن الحاكم، ولقب (الواثق بالله)، فاستمر في الخلافة إلى أن مات يوم
الأربعاء سنة 788، فكلم الناس برقوقا في إعادة المتوكل إلى الخلافة فلم يقبل
وأحضر أخا محمد زكريا ولقب (المستعصم بالله)، واستمر في الخلافة
إلى سنة 791، فندم (برقوق) على ما فعل بالمتوكل، وأخرج (المتوكل)
من الحبس وأعاده إلى الخلافة وخلع زكريا، واستمر زكريا بداره إلى أن
مات مخلوعا، واستمر المتوكل في الخلافة إلى أن مات.
الوضع الاجتماعي في أيام برقوق:
انهارت الأوضاع الاجتماعية في (مصر) وفي (سوريا) أيام
الجراكسة بشكل عام، لضعف جهاز الدولة، ولتسرب الصليبيين إلى البلدان
الإسلامية فقد جاءت (الحملة الصليبية) عقيب (حملة التتر)، وكان
لهما أسوأ الأثر على الحياة الاجتماعية، وكانت الحروب الداخلية والفتن
والاختلافات قائمة على قدم وساق بين الأمراء والحكام، فقد نصب
(برقوق) مرتين وعزل بينهما، وعزل (الحاجي) ونصب مرتين. وعزل
(المتوكل) ونصب.
وذلك كله إذا دل على شئ فإنما يدل على ضعف جهاز الحكم
عهد الجراكسة وفي عهد (برقوق) بشكل خاص، وكثرة الخلافات
وكان الناس يعهدون من قبل أن تخول الإمارة إلى أشراف الأمة ورجالها
فانقلب الوضع فيما انقلب من حياة الأمة في هذه الفترة، وتحولت الإمارة
إلى طبقة جديدة من (العبيد) لم تكن الأمة تستسيغها بعد، فبينما كانوا
135

يعرضون أمس في أسواق الرقيق للبيع أصبحوا اليوم يحكمون على أمة
كبيرة من الناس.
وكان خيال السلطنة في دماغ كل واحد منهم من حين يجلب إلى السوق
إلى أن يموت، حتى أن واحدا منهم جلب وهو حقير فاحش القرعة
فاحش العرج قال للدلال الذي يبيعه:
هل اتفق تولي الأقرع الأعرج سلطانا؟ (1).
وهذا كان مما يبعث الناس على عدم الخضوع والاستسلام لهذه الدولة
الجديدة.
ولذلك كانت تظهر الفتن الداخلية بصورة هائلة بين حين وحين
من هنا وهناك، ويجد الباحث خلال الكتب التاريخية ما لا يقل عن أربع
عشرة فتنة خطيرة وقعت خلال هذه الفترة.
وزاد الطين بلة ظهور أحداث طبيعية كان لها أكبر الأثر في تردي
الحالة الاقتصادية، كفترات الجدب، والمجاعة، والزلازل، والوباء.
ويخصص المقريزي - وهو ممن أرخ هذه الفترة - كتابا لوصف
المجاعات، والكوارث الطبيعية التي وقعت في هذه الفترة.
وانشغل (برقوق) طيلة إمارته بحروب داخلية وخارجية كثيرة
فقضى على المماليك البحرية، وحارب تمريغا وبليغا، فظهرا عليه وخرج
من السجن وجمع الجيوش مرة أخرى فتغلب عليهما.
وفي أيامه أرسل (تيمور لنك) إليه رسالة قاسية اللهجة يدعوه
إلى الاستسلام له دون قيد أو شرط، ويهدده فيما إذا رفض ذلك أن ينزل
عليه عذابا شديدا:
وأجاب عليها (برقوق) برسالة مشابهة لها في قسوة اللهجة، ولم يطل
.

(1) سمط النجوم العوالي الجزء 4. ص 31
136

بعد ذلك أيام (برقوق) حتى توفي (1)
وفي الوقت نفسه كان مهددا من قبل الصليبيين الأفرنج، ومن قبل
المماليك البحرية، فكان انشغال الحكومة بإخماد الفتن الداخلية، ومقاومة
الحركات السياسية والعسكرية المعارضة سببا لضعف النشاط الفكري والثقافي
وأعمال الأعمار والبناء والهندسة والفن.
وقد تركت هذه الحروب والفتن الداخلية أثرا سيئا في حياة الناس
الاجتماعية والاقتصادية، فأشغلت الناس من وجوه النشاط التجاري والزراعي
من جانب، وحمل الناس من جانب آخر تكاليف هذه الحروب المادية
فالحروب تكلف الأمة المحاربة كثيرا من المال، ومن العتاد والزاد.
وطبيعي أن ثقل هذه الماليات كانت تقع على عاتق الأمة فقط وتجبى
عن طريق فرض الضرائب، فكان ذلك باعثا على سيل من الاحتجاجات
لا نهاية لها.
ولم تكن هذه الرسوم الثقيلة على الخيل والقوارب فحسب، بل
على ضروريات الحياة أيضا نظير الملح والسكر، وقد احتكر بعض السلاطين
سلعا معينة، وتلاعبوا بأسعارها. تبعا لمصلحتهم الخاصة (2).
على أن الحكام والأمراء أنفسهم كانوا من الناحية الأخلاقية والدينية
ساقطين مما كان يؤدي إلى عدم وثوق الجمهور بهم.
فكان عدد من السلاطين (من هذه الأسرة) عاجزين وخونة
وكان بعضهم فاسدين، بل ساقطين، وكان أكثرهم غير مثقفين.
وقد عاد نظام تسري الغلمان إلى مثل ما كان عليه من الشيوع في أيام
(العباسيين)، وأنهم عدد من المماليك أولهم (بيبرس)، ولم يكن
.

(1) راجع الفتوحات الإسلامية لزيني دحلان الجزء 2. ص 105 - 109
(2) تاريخ سوريا ولبنان: فيليب حتى الجزء 2. ص 277
137

السلاطين وحدهم فاسدين، بل إن الأمراء أيضا وسائر من في الحكم كانوا
على جانب من الفساد (1).
وفوق ذلك كانت الخلافات الطائفية بين (الشيعة والسنة) قائمة
على قدم وساق، فقد ظهرت (الدولة الفاطمية) كرد فعل لسلوك
(الدولة العباسية) المجافي مع (الشيعة)، وقد تمكنت (الشيعة)
فترة (الحكم الفاطمي) من الاستيلاء على (مصر وسوريا والعراق
والحجاز واليمن) ونشر (المذهب الشيعي) في هذه الأقطار على أوسع
مجال، فجاءت (الدولة الأيوبية) وأذيالها بعد ذلك لتعارض هذا
(الاتجاه الشيعي) بشكل قاس عنيف.
وللقارئ أن يقدر بعد ما كان يظهر في مثل هذه الأجواء من ردود
أفعال، ومن اصطدام بين (السنة والشيعة)، ومن ظهور خلافات طائفية
في تافه المسائل ورخيصها.
وهذه صورة مجملة عن الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية
(أيام المماليك الجراكسة) عامة و (برقوق) خاصة.
والآن وبعد ما استوفينا دراسة الحياة الاجتماعية في عهد برقوق نستطيع
أن نعطي صورة عن (حياة الشهيد) السياسية، وجهاده وإنجازاته، ونقدر
ظروفه وعمله.
قضى (الشهيد) الشطر الأخير من عمره في دمشق أيام حكومة
برقوق من (ملوك الجراكسة) على مصر والشام وقد تقدم الحديث
عن حكومة (برقوق) خاصة، والجراكسة عامة.
وكانت حكومة دمشق يومئذ بيد (بيدمر) مندوب برقوق، ويبدو
من كتب التاريخ أن حكومة (الشام) لم تكن مرتبطة بحكومة (مصر)
.

(1) تاريخ سوريا ولبنان: فيليب حتى الجزء 4. ص 274
138

إلا إسميا، فقد كان حاكم دمشق يستقل في الحكم والإدارة من غير أن
يراجع المركز في شئ من شؤون الإدارة والحكم.
ومهما يكن من شئ فقد قضى الشهيد) جزءا كبيرا من عمره
في دمشق إحدى (حواضر العالم الإسلامي) في وقته.
وقدر للشهيد أن يكون لنفسه في الشام مكانة اجتماعية، وفكرية
كبيرة، ويفرض نفسه على مجتمع (دمشق) بشكل خاص، ومجتمع
سوريا بشكل عام، وأن ينفذ إلى جهاز الحكم كما سنجد ويستغله لغاياته
الإصلاحية.
كان الشهيد في دمشق على اتصال دائم بالحكام والأمراء والشخصيات
السياسية البارزة في وقته، ونعرف ذلك من إقناع (الشهيد) الحكومة
لمحاربة (اليالوش) المتنبي الذي سنبحث عنه فيما يأتي من هذه الرسالة
وكان بيته ندوة عامرة لأصحاب الفضل والعلم، وطلاب المعرفة، وعلماء
دمشق والأقطار المجاورة الذين كانوا يزورون دمشق بين حين وحين
أو يمرون عليها، فكان لا يخلو بيته على الدوام من الزوار: من أصحاب
الفضل، وأصحاب الحاجة الذين كانوا يقصدون (الشهيد) للتوسط لتيسير.
حاجاتهم لدى المراجع الحكومية.
وعلى الرغم من توتر العلاقات بين (الشيعة والسنة) فقد كان
(الشهيد) يحتل مكانة عملية مرموقة بين (علماء السنة)، فكانوا
يحضرون مجلسه في بيته للاستفادة، وللمناقشة، ولحل مشكلات الفقه
والكلام في كثير من الأحيان.
ومن حرص (الشهيد) على توحيد الكلمة كان يتجنب في مجلسه
الخوص في مسائل الخلاف بين (الشيعة والسنة) وإثارة الخلافات الكلامية
فيما بينهم على صعيد الجدل يخفي ما كان بيده من كتابه حين كان
139

يزوره أعلام السنة في مجلسه، حتى أنه عد من كراماته أنه حينما ابتدأ
بكتابه (اللمعة الدمشقية) لم يمر عليه زائر من علماء السنة ووجهاء دمشق
إلى أن تمت كتابة هذه الرسالة في سبعة أيام.
وهذه الرواية تدل على حرص (الشهيد) أولا على عدم إثارة المسائل
الخلافية، والمحافظة على وحدة الكلمة بين المسلمين في ظروف اجتماعية
مضطربة التي لمحنا منها بعض الملامح فيما تقدم من هذا الحديث.
وتدل ثانيا على أن بيت (الشهيد) كان آهلا بمختلف الطبقات
من علماء، ووجهاء من شيعة وسنة من دمشق وخارجها.
ولم يبق (الشهيد) هذه الفترة الطويلة في (دمشق) عاطلا عن العمل
والنشاط، ولم ينتقل من (جزين) إلى (دمشق) لغير سبب ولم يكن
الشهيد بالشخص العاطل المهمل في الحياة، فقد حاول أولا أن يكون
لنفسه مكانة مرموقة في الأوساط الاجتماعية والفكرية، وهو عمل جبار
إذا لاحظنا الظروف التي عاشها (الشهيد)، والفجوات الكبيرة التي كانت
بين (السنة والشيعة) في ذلك الوقت.
وحاول ثانيا أن يستغل نفوذه في الأوساط السياسية، ومكانته الفكرية
في الإصلاح، والتوجيه، وتوحيد الكلمة، والضرب على أيدي العابثين
والمغرضين، فأخمد ثورة (اليالوش) المتنبي، ملأ الفجوات التي كانت
تفصل (الشيعة عن السنة) وقلص حدود الخلافات المذهبية والطائفية.
وقد كان الخلاف في وقته قائما على قدم وساق بين (السنة والشيعة)
ومن ورائها كانت الصليبية تغذيها وتلهمها بمختلف الوسائل وكانت الحكومات
تجد في ذلك كله إلهاءا لذهنية المسلمين وتخديرا لنفوسهم.
140

صلات الشهيد مع حكومات عصره:
ولسنا نعلم هل كان بين (برقوق) والخليفة العباسي، وبين الشهيد
صلات قائمة، وعلاقات شخصية أم لا، وإنما نعلم أن (الشهيد) كان
في وقته شخصية اجتماعية، وفكرية مرموقة في دمشق، وليس في دمشق
فقط، فقدر له أن يزور أكثر حواضر العالم الإسلامي في وقته، وأن
يتصل بطبقات العلماء والوجهاء، وأن يسمعهم ويستمع إليهم، ويكون
معهم روابط اجتماعية.
وفيما بين أيدينا من كتب التاريخ لا نجد في معاصري (الشهيد)
شخصية علمية واجتماعية تبلغ مستوى الشهيد من الشهرة والثقافة.
فكان ذائع الصيت معروفا في أكثر الحواضر الإسلامية في وقته وله
صلات بكثير من علماء عصره وأمرائهم، ولم يحفظ لنا التاريخ مع الأسف
شيئا كثيرا من ذلك، إلا أن ما بين أيدينا من رسائل العلماء والملوك إليه
وزيارة الشخصيات العلمية والسياسية له إلى دمشق يكفي للدلالة على ما نقول.
وكان (الشهيد) على اتصال وثيق بحكومات الشيعة في وقته، وله
معهم اتصالات وعلاقات سرية وعلنية كحكومة خراسان،
وفيهما بقي لدينا من رسائل ملوك، وعلماء الشيعة إلى (الشهيد
نلمس بوضوح مكانة الشهيد بين (الشيعة) حكومة ورعية ورجوع
الطائفة إليه في شؤونهم العامة، فلا نعرف فقيها شيعيا بمستوى
(الشهيد) في الفقاهة والمرجعية في هذه الفترة، وكانت (الشيعة)
حكومة ورعية في (خراسان) وفي (فارس) وفي (الري) مشوقين
إلى زيارته، يلتمسون من بين حين وآخر أن يزورهم، ويقدم عليهم
141

ولو إلى حين.
وبين أيدينا رسالة (لعلي بن مؤيد) حاكم خراسان من ملوك (السربدارية).
وقبل أن نعرض صورة الرسالة أحب أن أعطي صورة عن حكومة
(السربدارية) في خراسان، وعلاقة الشهيد بهم
حكومة السربدارية:
حكومة (السربداران) حكومة شيعية استولت على الحكم في خراسان
بعد وفاة محمد خدابنده من ملوك المغول بعد معارك دامت وذلك
في سنة 738 واستمرت إلى سنة 783، فاندمجت في حكومة (التتر)
وانقرضت بعد ذلك بسنوات قليلة.
وتولى الحكم فيها عدد من الملوك كان آخرهم (علي بن مؤيد)
تولى الحكم سنة 766. وعرف (علي بن مؤيد) بالعدل والإحسان
إلى الضعفاء، وبالعناية بالشؤون الفكرية والعمرانية، والاهتمام بنشر (التشيع)
وتعريفه وولائه لأهل البيت، وتفانيه في سبيل الدين.
وكان من أفضل ملوك (السربدارية) وأعدلهم، وفي أيامه
تحسنت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية.
ورغم هجوم (التتر) في أيامه إلى البلدان الإسلامية فقد استطاع
أن يصون (خراسان) عن هجوم التتر، ويصون دماء المسلمين.
توفي سنة 795، أي بعد تسع سنوات من شهادة (الشهيد) وكان
للشهيد علاقات وثيقة، ومراسلات مع (علي بن مؤيد) (أيام كان في العراق
واستمرت هذه العلاقات والمراسلات حين استقر في جزين ودمشق.
142

كان الملك (علي بن مؤيد) يتحف الشهيد بين حين وحين بهدية
رمزا لولائه وإخلاصه
منها: نسخة من القرآن الكريم عرفت بعد ذلك بهدية (علي بن مؤيد
كما في وثيقة (بنت الشهيد) المتقدمة،
ومنها: (الصحيفة السجادية).
وفي أواخر حياة الشهيد - حين كان الشهيد مراقبا من قبل السلطة
لتهم وجهها إليه المغرضون، لشل حركته الإصلاحية، وتحطيم شخصيته
الاجتماعية أوفد (علي بن مؤيد) إلى الشهيد رسولا يلتمس منه باسم
(علي بن مؤيد) وأهالي خراسان أن يقبل عليهم، ليعرضوا عليه ما يشكل
عليهم من المسائل الفقهية، وليرجعوا إليه فيما يهمهم من شؤون الحياة.
رفض (الشهيد) الذهاب إليه، نظرا لمراقبة السلطة له، ولأمور
أخرى لا نعلمها الآن، وكتب له رسالة (اللمعة الدمشقية)، لتكون
مرجعا فقهيا للخراسانيين فيما يعرض لهم من مسائل الفقه، وأودعه عند
(الآوي) ليأخذها معه إلى خراسان.
وإلى القارئ نص الرسالة التي أرسلها للسلطان (علي بن مؤيد)
إلى الشهيد من (خراسان):
بسم الله الرحمن الرحيم
سلام كنشر العنبر المتضوع * يخلف ريح المسك في كل موضع
سلام يباهي البدر في كل منزل * سلام يضاهي الشمس في كل مطلع
على شمس دين الحق دام ظله * بجد سعيد في نعيم ممتع
أدام الله تعالى مجلس المولى الهمام، العالم العامل، الفاضل الكامل
143

السالك الناسك، رضي الأخلاق، وفي الأعراق، علامة العالم، مرشد
الأمم، قدوة العلماء الراسخين، أسوة الفضلاء المحققين، مفتي الفرق
الفارق بالحق، حاوي الفضائل والمعالي، حائز قصب السبق في حلبة
الأعاظم والأعالي، وارث علوم الأنبياء والمرسلين، محيي مراسم الأئمة
الطاهرين، سر الله في الأرضين، مولانا شمس الملة والدين، مد الله
أطناب ظلاله بمحمد وآله من دولة راسية الأوتاد ونعمة متصلة الأمداد
إلى يوم التناد.
وبعد: فالمحب المشتاق مشتاق إلى كريم لقائه غاية الاشتياق، وأن
يمن بعد البعد بقرب التلاق:
حرم الطرف من محياك لكن * حظي القلب من محياك ريا
ينهي إلى ذلك الجناب - لا زال مرجعا لأولي الألباب - إن
(شيعة خراسان) صانها الله عن الأحداث، متعطشون إلى زلال وصاله
والاغتراف من بحر فضائله وإفاضاته، وأفاضل هذه الديار قد مزقت
شملهم أيدي الأدوار، وفرقت جلهم، أو كلهم صنوف صروف
الليل والنهار.
قال (أمير المؤمنين) عليه سلام رب العالمين: ثلمة الدين موت
العلماء وإنا لا نجد فينا من يوثق بعلمه في فتياه، ويهتدي الناس برشده
وهداه، فهم يسألون الله تعالى شرف حضوره، والاستضاءة بأشعة نوره
والاقتداء بعلومه الشريفة، والاهتداء برسومه المنيفة، واليقين بكرمه العميم
وفضله الجسيم أن لا يخيب رجاءهم، ولا يرد دعاءهم، بل يسعف
مسؤولهم، وينجح مأمولهم.
قال الله تعالى: والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل.
ولا شك أن أولي الأرحام أولى بصلة الرحم الإسلامية الروحانية
144

وأحرى القرابات بالرعاية القرابة الإيمانية ثم الجسمانية، فهما عقدتان
لا تحلهما الأدوار والأطوار، بل شعبتان لا يهدمهما إعصار الإعصار.
ونحن نخاف غضب الله على هذه البلاد، لفقدان الرشد، وعدم
الإرشاد والمأمول من إنعامه العام، وإكرامه التام أن يتفضل علينا، ويتوجه
إلينا متوكلا على الله القدير، غير متعلل بنوع من المعاذير إن شاء
الله تعالى.
والمتوقع من مكارم صفاته، ومحاسن ذاته إسبال ذيل العفو على هذا
الهفو، والسلام على أهل الإسلام.
المحب المشتاق (1)
علي بن مؤيد
فتنة اليالوش:
كان اضطراب الوضع السياسي والاجتماعي في البلدان الإسلامية
(عصر الشهيد) يحمل نواة ظهور بدع في التفكير والعقيدة، وألوانا
جديدة من الفتن والمحن.
ومثل هذه الحياة المضطربة فكريا وسياسيا يعتبر مجالا خصبا للاستثمار
والاستغلال غير المشروعين من قبل ذوي الأغراض في كل مكان.
واجه (الشهيد) في حياته أيام كان يسكن (دمشق) مثل هذه
الظروف العقائدية، والسياسية المرتبكة.
وكان أكثر ما يخشاه (الشهيد) أن يكون هذا الاضطراب مبعثا لظهور
بدع جديدة في الدين، واتساع فجوة الخلاف بين (السنة والشيعة) فظهور
الانشقاق في الطائفة عن طريق تسرب عناصر غريبة على كيان الطائفة
.

(1) روضات الجنات الطبعة الحجرية. الجزء 3. ص 2
145

لأحداث البلبلة والانشقاق داخل الكيان الشيعي.
وربما كان ذلك من أسباب اختيار (الشهيد) لدمشق موطنا لنفسه
ليكون قريبا من الحركات الفكرية والسياسية، وليشرف على الوضع
من قريب، فارتبط بكثير من أقطاب العلم والسياسة في وقته، وفسح
من مجلس درسه وندوته اليومية في البيت، ليحضره أكبر عدد من العلماء
والساسة.
ففي هذه الظروف، ورغم احتياطات (الشهيد) ظهر في جبل
عامل شخص يسمى بمحمد الجالوش، أو (اليالوش)، ويقال: إنه
كان من تلامذة الشهيد. ومن الشيعة من قبل، يدعو إلى مذهب جديد
ويستغل الوضع في توسيع فجوة الخلاف بين (السنة والشيعة) وإيجاد
فجوة في الطائفة ذاتها.
ولا تحدثنا كتب التاريخ عن شكل هذه الدعوة الجديدة ومحتواها
وعن الشخص المدعو بالجالوش، أو اليالوش غير ما سمعت، ومع كثرة
ما فحصنا في كتب التاريخ والتراجم التي تترجم رجال القرن الثامن الهجري
لم نعثر على شخص بهذا الاسم، ولم نعثر على شرح أكثر عن هذه
الدعوة
إلا أن الذي يغلب على الظن أن الدعوة كانت مطبوعة بطابع
(التصوف) والإيمان بوحدة الوجود، ويبدو أن (الجالوش) كان
خطيبا متكلما لذقا، حلو البيان مشعوذا، استطاع أن يشد إلى دعوته
الجديدة ناسا من السذج من (الشيعة والسنة)، فأربك الوضع (الشهيد)
وخاف أن تشيع هذه البدعة الجديدة، ويتسع إطارها، ويكون خطرا
جديدا على كيان الأمة، وفجوة جديدة في جسم الأمة، فاتصل بالبلاط
وأقنع الجهاز بضرورة تلافي الأمر قبل أن يستفحل، فجهزت
146

(حكومة دمشق) جيشا، واصطدموا بمعسكر (اليالوش) بمقربة
من النبطية النوقا، فقتل (اليالوش) وتمزق شملهم.
إلا أن هذه الهزيمة لم تكن كافية للقضاء على هذه البدعة الجديدة
فقد أتيح (لليالوش) أن يشق طريقا لنفسه بين المبتدعين والمشعوذين
وأن يجمع حوله نفرا من السذج البسطاء، ونفرا من المشعوذين المحتالين
الذين كانوا يترقبون الزعامة من بعده.
وكان كذلك، فقد انتقلت زعامة الدعوة الجديدة بعد مقتل (اليالوش)
إلى تقي الدين الجبلي أو (الخيامي) من أهالي الجبل، ومن بعد وفاته
تولى الزعامة بعده شخص آخر يدعى ب‍ (يوسف بن يحيى) وكان لهذين
الرجلين الجبلي، ويوسف بن يحيى إصبع في شهادة (الشهيد) بالوشاية
عليه عند (بيدمر) حاكم دمشق، وقضاة (بيروت وحلب ودمشق)
في قصته التي سنلم بأطرافها قريبا (1).
مقتل الشهيد:
العاملون قلة من الناس في كل زمان، ولكنهم رغم قلتهم أقوياء
وعلى أيديهم يتم بناء التاريخ، وتقرير مصير البشرية.
والعامة من البشر (الدهماء) ليس لهم رأي في هذه الحياة، وليس
لهم هدف، وتأثير فيها.
وليس المقياس قلة العدد وكثرته وإنما المقياس (الهدف).
.

(1) راجع دراسة هذه الفتنة: روضات الجنات - مجلة العرفان،
الكنى والألقاب، وبعض حواش اللمعة في المكاسب - وحياة الإمام
الشهيد الأول
147

فكلما كان الإنسان فارغا لم يتسع فكره لأكثر من هم بطنه وشهوته
كان جزءا مهملا على وجه الأرض.
وكلما كان الإنسان هادفا في حياته إنسانيا في سلوكه، حركيا عمليا
يتوسع فكره لأكثر من نفسه، ويتسع صدره لغير (الأنا) و (الذات):
كان أكثر تأثيرا في مصير الناس، وبناء التاريخ، وكانت النتيجة بجانبهم
ولصالحهم، وذلك لسبب بسيط، فالذي يملك هدفا في الحياة لا بد أن يترك
أثرا فيها ويطبع الحياة بطابع من هدفه بعكس الذي لا يملك هدفا، فإنه
لا يهمه أن يتحقق هذا الهدف، أو لا يتحقق ويطبع الحياة هذا الطابع
أو لا يطبعها، وإنما الذي يهمه هو أن يرتع ويلعب ويخوض مع الخائضين
ويعبث مع العابثين.
وطبيعة هذه الحياة غير الهادفة تنتهي بالشخص إلى الضياع بعكس
الذين يملكون هدفا في الحياة فلا يمكن أن يضيعوا، ولا يمكن أن تغطيهم
الاتجاهات الأخرى، ولا يمكن أن يقضي التاريخ على معالمها وملامحها.
وبهذا الشكل نجد أن لا تعارض هناك بين الإنسان الهادف، والإنسان
غير الهادف، وأن الإنسان الهادف، يشق طريقه من بين صنوف غير
الهادفين، ولذلك فالعاقبة دائما لصالح العاملين الصالحين، والنتيجة لهم
ومهما تحملوا من عناء، ومهما وجدوا أذى، ومهما لاقوا من محن، ولأمر ما
قال الله تعالى:
إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة
للمتقين (1).
وهذا ما يدفع العاملين أن يخوضوا ميادين الكفاح والجهاد، ولا
يفكروا في راحة وسكون، فالراحة والنعيم والسكون والهدوء لم تخلق لهم
.

(1) الأعراف: الآية 127
148

ولم يخلقوا لها، وإنما خلقوا للون آخر من الحياة يملؤها النشاط والحركة
والثورة، وكفاهم أن تكون النتيجة بعد ذلك بجانبهم والعاقبة لهم، وأن
العمل لله.
وليس المهم بعد ذلك أن يلاقوا ألوانا من العنت والتعب، والمحنة
والأذى، وأن يضحوا في سبيل ذلك بكل شئ: بأموالهم، وأولادهم
ونفوسهم، وأن يريقوا في سبيل الله دماءهم.
وليس المهم لديهم أن تراق دماؤهم، وإنما المهم لديهم أن تروى
جذور هذه الشجرة، وليس المهم أن يجتث العدو رؤوسهم من أجسامهم
وإنما المهم لديهم أن تترسخ أصول هذا الدين في قلوب الناس، وليس
المهم أن لا يفتحوا بعد عيونهم على الشمس وإنما المهم لديهم أن يستمر
إشعاع هذه الرسالة على وجه الأرض، وليس المهم أن تتقطع حياتهم
على ظهر هذا الكوكب، وإنما المهم أن يعيش هذا الدين.
فحياتهم حياة الرسالة، واستمرارهم على وجه الأرض استمرار هذا
الدين، وسكونهم وحركتهم وسعيهم وقف لهذا الدين.
قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين (1)
تلك لمحة عن حياة العاملين، وعن تأثيرهم في الحياة.
وكان (الشهيد) من هؤلاء العاملين، وعلى القمة من العمل
الإسلامي.
كانت حياته سلسلة طويلة من الجهاد والكفاح والعمل والحركة
ولم يعرف في حياته يوم كان يعيش مع الناس، ويضطرب معهم في مسالك
الحياة معنى لما يسمى بالراحة والسكون والاطمئنان.
كان اطمئنانه في الاضطراب، وسكونه في الحركة، وراحته
.

(1) الأنعام: الآية 163
149

في تحمل الأذى والعذاب.
فيوم يقطع المسافة الشاسعة بين (جزين) و (الحلة) وهو بعد
طفل لم يتجاوز سني المراهقة بطلب العلم.
وتارة أخرى يقطع المسافات الشاسعة، ليتصل بأقطاب العلم والسياسة
في الحواضر الإسلامية، وليمهد الظروف لتكوين (وحدة إسلامية)
شاملة، وتعريف (الشيعة) إلى المذاهب الأخرى، ومسح مظاهر التشويه
عنها لتقريب المذاهب، وملء الفجوات التي خلفتها الأيادي الدخيلة.
وثالثة يعود إلى (جزين) ليبني فيها مدرسة.
ورابعة يعود إلى (دمشق) ليشرف على الوضع من قريب، وليوجه
الملوك ويتصل بهم. ويؤثر في سلوكهم وسيرهم.
وكذلك حياته حلقات متصلة من الجهاد، وسلسلة طويلة من الكفاح
وأروع ما في هذه الحياة، وأجمل ما في هذه الصورة هذه الخاتمة
المشرفة التي ختمت حياة شيخنا الشهيد بها، والتي تطبعها بطابع البقاء
والخلود وتدرجه في سجل الخالدين.
فلم يكن ينقص هذه الحلقات المتصلة من الجهاد والكفاح غير أن
يصبغها في نهاية حياته بجمرة قانية من دمه، ويسمها بشارة الجهاد والعمل
حياة بدايتها سعي، وأوسطها جهاد، وخاتمتها شهادة.
وكذلك حياة العاملين المجاهدين في سبيل الله.
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند
ربهم يرزقون (1).
(صدق الله العلي العظيم)
.

(1) الأعراف: الآية 169
150

ومن جناية التاريخ على أبطال الإنسانية أنه يحاول دائما أن يغطي
سير المصلحين والعاملين بغطاء كثيف من الإبهام والغموض.
وليس بأيدينا عن شهادة (الشهيد) إلا فلتات من أقلام المؤرخين
فلتت عن أقلامهم من غير اختيار، أو من دون أن يشعروا، وإلا الشئ
اليسير الذي سجله لنا المنصفون من المؤرخين مطويا بالإبهام والغموض:
وليست حياة (الشهيد) وشهادته بدعا من حياة الشهداء من المجاهدين
والعاملين، فقد كان المؤرخون يسيرون في الغالب في ركب الملوك وبلاط
الملوك، وطغمة الجبابرة والمفسدين لقاء أجور زهيدة يلقونها إليهم، ولذات
رخيصة من العيش يتيحونها لهم.
وكان نتيجة ذلك كله أن كان (للتاريخ الإسلامي) تاريخا مشوها
مشوش المعالم لا يعبر إلا عن اتجاهات البلاط، ولا يدافع إلا عن تبذير
الملوك والخلفاء وإسرافهم.
فكل شئ يحصل في البلاد من وجوه الفساد والتبذير محاط بهالة
من التقديس، وكل حركة ترمي إلى إحاطة كيان هؤلاء الطغاة والفاسدين
توسم بسمة الفساد والطغيان والإجرام:
وليس يتعجب القارئ بعد ذلك إذا وجد مؤرخا من هؤلاء الساقطين
الذين يتبعون ركب الجبابرة بذلة وهوان، ليتلقوا لقمة ذليلة من العيشة
ويلاحظ رخيصة في الحياة.
يقول الحنبلي بصدد الحديث عن أحداث سنة 886:
وفيها قتل محمد بن مكي العراقي الرافضي، كان عارفا بالأصول
والعربية فشهد عليه بدمشق بانحلال العقيدة، واعتقاد مذهب النصيرية
واستحلال الخمر الصرف، وغير ذلك من القبائح، فضربت عنقه
بدمشق في جمادى الأولى، وضربت عنق رفيقه عرفة بطرابلس، وكان
151

على معتقده (1).
ولا نريد نحن أن نعلق على هذا الحديث، وقد لا يدل هذا التهريج
أن نعلق عليه، وأن نتحدث عنه، وإنما المحاسبة إلى يوم عسير.
ومهما يكن من أمر فلا زالت بين أيدينا ملامح من قصة شهادة
(الشهيد) رحمه الله، نستطيع عن طريقها أن نستكشف أسباب هذا
الحادث وعلله.
احتل (الشهيد) في المدة التي عاش فيها بدمشق مكانة اجتماعية راقية
فكان موضع حفاوة الطبقات المختلفة، واكتسب شعبية كبيرة، وأصبح
ملجأ للناس في حاجاتهم، وللعلماء في التدريس (سنة وشيعة)، كما
التف حوله كثير من أقطاب السياسة والحكم في دمشق، وخارج دمشق.
واستطاع أن يتجاوز بنفوذه الروحي والإسلامي حدود (سوريا والعراق)
ويشد الملوك والحكام من الأطراف إليه، كان منهم (علي بن مؤيد)
ملك (خراسان) فيما يحدثنا به التاريخ.
ولا يستطيع الباحث أن يقول: إن اتصالات (الشهيد) السياسية
كانت مقتصرة على الزعماء السياسين في (دمشق والعراق وإيران) وإنما
كان ذلك نموذجا من اتصالات الشهيد بزعماء الدول الإسلامية في وقته
احتفظ لنا التاريخ، ولم يضع معالمه.
ذلك كله يدلنا على أن (الشهيد) استطاع أن يحقق لنفسه في هذه
المدة مكانة سياسية واجتماعية خطيرة جعلت حكومة (بيدمر) بدمشق
تخشاه وتحسب له ألف حساب.
فقد كانت الحكومة يومذاك ضعيفة تخاف كل حركة داخل البلاد
.

(1) شذرات الذهب في أخبار من ذهب - لعبد الحي بن العماد
الحنبلي الجزء 6. ص 294
152

وخارجها، به خافت على نفسها منه فحاولت أن تقضي عليه لتأمن جانبه.
هذا من الجانب السياسي، ومن الجانب العلمي كان علماء البلاط
(القضاة) يومذاك قبل هجرة الشهيد إلى دمشق وتمركزه فيها لهم مكانة
اجتماعية ودينية بين الناس، فحين عرف الناس مكانة الشهيد، وألفوا سعة
صدره التفوا حوله وانحسروا عنهم، فضعفت مكانتهم الاجتماعية، ووجدوا
في بقاء (الشهيد) خطرا على مصالحهم ومكانتهم.
وكان من هؤلاء العلماء (برهان الدين ابن جماعة) (1) كان رجلا
من المتفقهين الذين استخدموا لخدمة البلاط في (مصر ودمشق) ويجري
لعابهم لمظاهر الفخفخة من القضاء والفتيا والخطابة والإمامة التي كانت
تتيحها لهم الحكومة في وقته، فقد كتب خطابة القدس باسمه، واستنيب
له مدة ثم باشر بنفسه وهو صغير. تم أضيف إليه تدريس الصالحية بعد
وفاة الحافظ (صلاح الدين العلاني)، ثم ولي نظر (القدس والخليل)
.

(1) ذكر العلامة الأميني في شهداء الفضيلة ص 87 أنه قتل بفتوى
برهان الدين المالكي، وعباد بن جماعة الشافعي.
وفي غالب الظن أنه اعتمد في ذلك على نقل صاحب الروضات
حيث ذكر ص 592: " بفتوى المالكي يسمى برهان الدين وعباد بن
جماعة الشافعي ".
وفيما أظن أن برهان الدين، وابن جماعة شخص واحد وليسا باثنين
واسمه الصحيح برهان الدين بن إبراهيم بن جماعة الكناني، فلم أعثر فيما بين
يدي من المصادر على قاضيين في هذا العهد بدمشق بهذا الاسم، والموجود
في كتاب قضاة دمشق لشمس الدين ابن طولون هو (برهان الدين إبراهيم
ابن جماعة) وكان قاضي دمشق سنة شهادة الشهيد. فيغلب على الظن
أن يكون هذان الشخصان شخصا واحدا وليسا بشخصين
153

ثم خطب إلى قضاء الديار المصرية بعد عزل (ناصر الدين بن أبي البقاء).
وبلغه أن بعض فقهاء البلد يعيبه بأنه قليل العلم، ولا سيما بالنسبة
إلى الذين عزل به، فأحضر بعض من قال ذلك، ونكل به، ثم أوقع
بآخر ثم بآخر، فهابه الناس.
ثم إن القاضي (محب الدين) ناظر الجيش عارضه في حكاية فعزل
نفسه.
ثم سأل العود إلى القضاء فأعيد في صفر سنة أربع وثمانين، ثم عاد
إلى القدس، ثم خطب إلى قضاء دمشق والخطابة بعد موت (القاضي ولي الدين)
في ذي القعدة سنة 885 من ولايته، وقام في أمور كبار فتحت له
ففي سنة تسع وثمانين وقع بينه وبين (الشيخ زين الدين القرشي)
وأخذ منه الناصرية وأهانه هو والشيخ (شهاب الدين الحسباني) ومنعهما
من الإفتاء ونودي عليهما، ثم هربا منه إلى مصر فردا من الطريق ورفعا
إلى القلعة (1).
ويلقي هذه النص التاريخي ظلا على شخصية (ابن جماعة) فيبدو
مما تقدم أنه كان من متفقهة بلاط الجراكسة في (مصر وسوريا وفلسطين)
وممن تروقه ضخامة العناوين، والتقلب في المناصب الحكومية، وإن كان
على حساب الآخرين وإهانتهم وتعذيبهم.
فهو يتحول من خطابة إلى تدريس، إلى إمامة، إلى قضاء، إلى تولية
إلى مشيخة، ويضم في وقت واحد المشيخة إلى القضاء، إلى الخطابة
وتستدعيه الحكومة من بلد إلى بلد.
وتعزل الحكومة (ناصر الدين بن أبي البقاء) لأمر ما من قضاء
مصر، فيستدعي لها (ابن جماعة) من القدس، ثم يتحدث ناس
.

(1) قضاة دمشق تأليف شمس الدين بن طولون. ص 113 - 114
154

من الفقهاء في ذلك، ويقيسون بينه وبين القاضي السابق في العلم والدين
فيحضرهم وينكل بهم فيهابه (الناس) ثم يصطدم في دمشق بالشيخ
(زين الدين القرشي) والشيخ (شهاب الدين الحسباني) فيأخذ منهما
الفتيا والقضاء ويمنعهما من الفتيا، وينادي عليهما فيهربان منه، فتعثر
عليهما الحكومة فتردهما إلى القلعة محبوسين.
كل ذلك يثير في نفوسنا الشك، ويسم (ابن جماعة) بعلامات
استفهام كبيرة: ممن يكون هذا الرجل الذي تعني به الحكومة بهذا الشكل
وتقدم له مناصب كبيرة في القضاء والخطابة والفتيا والتولية بسخاء
وتقضي علي أعدائه، ويصطدم هو بمشائخ الفقه والقضاء. ويمنعهم بقوة
عن الفتيا فيهربون منه، وينقده ناس بقلة العلم والدين؟؟
ولا نريد أن نتحدث عنه، وإنما أردنا أن نسلط على هذا الشخص
الذي اصطدم في دمشق بشيخنا (الشهيد) بعض الأضواء، لنعرف ملامح
من شخصيته، فقد وجد (برهان الدين بن جماعة) - وهو الشخص
الذي تروقه الألقاب الضخمة، والمكانة المحترمة، والمناصب الكبيرة -
أن (الشهيد) استطاع في مدة يسيرة من بقائه بدمشق أن يستولي على قلوب
الناس، وأن يحتل مكانة رفيعة، ويكون له علاقات مع أقطاب العلم
والسياسة في وقته، وأن يستقطب حوله طلبة، العلم والفضلاء، والساسة من
دمشق وخارجه، فحاول أن يغض منه ويهينه، ويحط من مكانته.
فاجتمع به ذات يوم، وفي غالب الظن أن الاجتماع كان ببيت
(الشهيد) حيث كان أمامه دواة يكتب بها، وهذه الوضعية لا تخلو
عن ابن جماعة.
كان في بيته وتحدثا في مسألة واختلفا فيها، وكان يحضر المجلس
جمع كبير من الفقهاء والأعيان، فعز على (ابن جماعة) أن يرد عليه
155

(الشهيد) ويفحمه بمحضر من الناس، فأراد أن يهينه، وكان الشهيد
ذا جثة نحيفة بعكس (ابن جماعة) الذي يملك جثة ضخمة.
فقال للشهيد: إني أجد حسا من وراء الدواة ولا أفهم ما يكون
معناه؟ تعريضا بنحافة جسمه، وتحقيرا لرأيه.
فأجابه الشهيد على الفور: " نعم ابن الواحد لا يكون أعظم
من هذه " (1).
فخجل (ابن جماعة) وسكت عن الكلام، وازداد غيظا على غيظ
وحقدا على حقد.
هذا بالإضافة إلى دسائس أتباع (اليالوش) فلم يقدر للشهيد أن
يجتث هذه الفرقة من الجذور كما ذكرنا فيما تقدم من هذا الحديث، فبقي
من الفرقة فروع تزعمها (تقي الدين الجبلي) فالتف حوله ما بقي
من أتباع (اليالوش).
وكان (الشهيد) يحاول الكرة على ما تبقى من أتباع (اليالوش)
حينما تتاح له الفرصة، ليجتث جذور هذه الطائفة الجديدة من الأعماق
فكان (الجبلي) يحاول أن يقضي على (الشهيد) بشكل من الأشكال قبل
أن يستطيع أن يقوم بشئ تجاه هذه الفرقة، فوشى به إلى (بيدمر).
هذه كانت أهم العوامل في التفكير في القضاء على شيخنا (الشهيد)
ولم يكن طبعا القضاء على (الشهيد) - وهو الشخصية الإسلامية
والعلمية الفذة في وقته - بالأمر اليسير، فكان لا بد من التدريج ولا بد
من تزييف تهم عليه.
فكانت الخطوة الأولى في العمل هي محاولة حبسه، وإخفائه عن الناس
حتى تقل اتصالاته بالناس، ويتيح لهم ذلك التدرج إلى قتله، والقضاء

(1) لاحظ روضات الجنات الطبعة الحجرية الجزء 3. ص 593
156

عليه، فسجن سنة كاملة بقلعة دمشق.
ويقال: إنه كتب (اللمعة الدمشقية) في هذه السنة في الحبس.
وطال الحبس على (الشهيد) وانقطعت صلاته بالناس، وضج
الناس، ورفعوا أصواتهم بالاحتجاج، فخاف (بيدمر) حاكم دمشق
من ثورة الناس، ومن أن يهجم الناس على السجن وينقذوا الشهيد ويستولوا
على الحكم، فحاول أن يقضي على (الشهيد) ويريح نفسه منه.
ولكن ذلك كان يؤدي إثارة مشاعر الناس من محبي الشهيد
ومريديه، فكان لا بد من وضع منهج مخطط للعمل، فقدم أتباع
(اليالوش) وكانت الزعامة يومذاك لرجل يدعى (يوسف بن يحيى)
فكتب محضرا يشنع فيه على (الشهيد) بأقاويل نسبها إلى الشهيد، وشهد
عليه سبعون نفسا من أتباع (اليالوش)، وأضيف إلى هذه الشهادات
شهادة ألف من المتسننين من أتباع (ابن جماعة) ونظائره، فحصلت
من ذلك ملفة كبيرة.
فقدمت إلى قاضي بيروت.
وقيل: قاضي صيدا، وأتوا بالمحضر إلى (ابن جماعة) فنفذه
إلى القاضي المالكي، وقال له: " تحكم برأيك " وهدده بالعزل، فعقد
مجلسا للقضاة حضرة الملك والقضاة وجمع كبير من الناس، و (الشهيد)
رحمه الله، فوجهت إليه التهم فأنكر ذلك، فلم يقبل منه الإنكار.
وقيل له: فقد ثبت ذلك عليك شرعا ولا ينتقض حكم الحاكم.
فقال الشهيد رحمه الله: الغائب على حجته، فإن أتى بما يناقض
الحكم جاز نقضه، وإلا فلا، وها أنا أبطل شهادات من شهد بالجرح
ولي على كل واحد حجة بينة.
157

وهو كلام معقول، إلا أن ذلك لم يسمع منه، وعاد الحكم
إلى المالكي فقام وتوضأ وصلى ركعتين، ثم قال: قد حكمت
بإهراق دمه.
وإذا كنا نحن نفهم أن الأغراض والمصالح الشخصية قد تبرز لابن
جماعة ولبيدمر، وغيرهما أن يقضوا على (الشهيد) ويقتلوه فلا نفهم
مغزى هذه المعاملة التي عومل بها الشهيد بعد وفاته.
فلم يكن الغرض هو القضاء على (الشهيد) فقط، وإلا كان الشهيد
قد لقي حتفه بالضربة الأولى من السيف، وإنما كان الغرض هو إهانة
(الشهيد) بعد وفاته، والحط من مكانته حتى بعد موته، ويجب أن يبلغ
الإنسان الغاية من الوضاعة، والانحطاط الخلقي، والاسفاف والحقد
حتى يستشفي بإهانة قتيل قد أزيح عن ميدان المعارضة.
فقد قتل (الشهيد) بدمشق، ثم أمر بصلبه وهو مقتول بمرأى
من الناس، ويحيطه جماعات من الجلاوزة للمحافظة على جثته من أن
يستولي عليه مخلصوه ومريدوه لدفنه، ثم لم يجد هؤلاء الحاقدون الوضيعون
في ذلك شفاءا لغليلهم فأمروا برجم الجسد بالحجر، فرجمه جلاوزة
(بيدمر) و (ابن جماعة).
ويظهر أن ذلك كله لم يطفئ الحقد الموغل في نفوسهم القذرة
فأمروا بحرق الجسد.
ومهما قال عبد الحي الحنبلي عن (الشهيد) ومهما قالوا عن
(ابن جماعة) فلا يدعو ذلك لأكثر من القتل، وما قام به (بيدمر)
و (ابن جماعة) وجلاوزتهما من إهانة جسد (الشهيد) بعد قتله يدل
على حقد دفين ومرض متأصل في نفوسهما بالنسبة إلى الشهيد، وأن ذلك
لا يرتبط أصلا بقصة التهم والمحاضر، وإنما يمس مصالحهم الشخصية
158

أكثر من من أي شئ آخر.
ومهما يكن فقد مضى (الشهيد) بمآثر كبيرة، وأعمال جليلة
وأيادي بيضاء على الفقه والشريعة خلدته ودرجت اسمه في سجل الخالدين
من المجاهدين والعاملين في سبيل الإسلام، وأبقى هذه ذكرا جميلا وخلقا
صالحا.
فرحمه الله يوم ولد، ورحمه الله يوم استشهد في سبيل الله، ورحمه
الله يوم يحشر (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا
بل أحياء عند ربهم يرزقون).
159

حياة الشهيد الثاني
(الشهيد الثاني) نجم لامع في سماء (الفقه الإسلامي)، وكانت
حياته حياة طيبة مثمرة آتت ثمرات طيبة في الفقه وعلوم الشريعة، فقد قدر
للشهيد الثاني أن يخلف بعده تراثا فقهيا، وثروة فكرية ضخمة تداولها
من بعده الفقهاء بالتدريس والتحقيق والبحث.
كما أتيح له أن يرتبط ارتباطا وثيقا بسائر المذاهب الإسلامية الفقهية
ويقرأ الفقه والدراسات العقائدية على مختلف المذاهب الإسلامية.
فكان يدرس الفقه في (بعلبك) على المذاهب الخمسة، ويستعرض
رأي كل مذهب من المذاهب الخمسة، ويشفعه بما يستدل له، ثم يقارن
فيما بينها
وثقافة (الشهيد الثاني) الفقهية كانت نتيجة لتلاقح المدارس الفقهية
الإسلامية في ذهنه مع المحافظة على استقلال أصول (الفقه الشيعي)
في الاجتهاد والاستنباط.
وهذه ظاهرة فذة في (ثقافة الشهيد) الفقهية، تجتمع فيه سعة
الذهنية الفقهية التي تتسع لأكثر من مذهب ومدرسة، وطابع الاستقلال
في الاستدلال، والاجتهاد عن المذاهب الأخرى.
ولم تقتصر (ثقافة الشهيد) من جانب آخر على الفقه، فقد درس
(الهيئة) و (الطب) و (الرياضيات) و (الأدب) و (الفلسفة)
وفنونا أخرى من العلم دراسة واعية مستوعبة، ودرس منها كما كتب
في جملة منها.
160

وفي جميع هذه الحقول يظهر للباحث آثار النضج الذهني، وسعة
الفكر في دراسات الشهيد وكتاباته.
ومما يثير العجب في نفس الإنسان أكثر من أي شئ آخر أن حياة
(الشهيد) كانت مجموعة من الرحلات والأسفار الطويلة والشاقة، ومع
ذلك فقد استطاع الشهيد أن ينمي ثقافته الفقهية، والعامة خلال هذه
الرحلات، وما كان يتخللها من أيام الدراسة في (الحواضر العلمية)
في وقته إلى هذا المستوى.
وهذه ظاهرة غريبة لا نملك تعليلا لها غير توفيق من الله، ونبوغ
ذاتي أتاح له أن يجمع شتات العلوم والآداب في حياته هذه القصيرة
المضطربة بين الرحلات والخوف.
وليست الثقافة الواسعة، والذهنية المتفتحة الواعية هي ميزة (الشهيد)
الوحيد، فقد كان (الشهيد) من المعدودين من أولياء الله المقربين
وممن وفق لتهذيب نفسه وتكميلها، والتغلب على عوامل الشهوة والهوى
والطاغوت في نفسه، والإخلاص لله تعالى حق الإخلاص في كل جزء
من سلوكه.
وكانت لياليه عامرة لله، واستغفاره والصلاة له وتسبيحه، ونهاره
عامر بالدراسة ولتأليف، والتعرض لحاجات الناس، وتوجيه الناس
وإرشادهم، فكانت حياته كلها حلقات متصلة من العمل والدراسة والعبادة
والجهاد في سبيل الله.
وأروع ما في هذه الحياة الخاتمة الناصعة التي ختمت حياة (الشهيد)
وألحقته بركب الشهداء والصالحين.
فكانت حياته حياة نموذجية، وكان هو مثلا أعلى للتقوى والعمل
وكان التراث الفكري الذي خلفه من بعده، والذرية الطاهرة التي أعقبها
161

استمرارا لهذه الحياة الصالحة الخيرة.
وسوف نحاول نحن في حدود ما تقدم: من حديث ترجمة الفقيه
(الشهيد الثاني)، واستعراض جوانب من ثقافته، ورحلاته وآثاره
الفكرية وشهادته، وملامح عن كماله النفسي، وكراماته، وفضائله الخلقية
عسى أن تبرز لنا هذه الدراسة بعض ملامح هذه الشخصية، وتترك
في نفوسنا أثرا:
صفاته وملامحه:
قال ابن العودي في رسالته:
كان ربعة من الرجال، معتدل القامة، وفي آخر عمره كان إلى السمن
أميل، بوجه صبيح مدور، وشعر سبط يميل إلى الشقرة، أسود العينين
والحاجبين، أبيض اللون، عبل الذراعين والساقين. كان أصابع يديه
أقلام فضة، إذا نظر الناظر في وجهه، وسمع لفظه العذب لم تسمح
نفسه بمفارقته، وتسلى عن كل شئ بمخاطبته، تملى العيون من مهابته
وتبتهج القلوب لجلالته، وأيم الله إنه فوق ما وصفت، وقد اشتمل
على خصال حميدة أكثر مما ذكرت،
نشأته الفكرية:
وأكثر ما يعنينا من دراسة حياة (الشهيد) نشأته الفكرية ودراسته
ولا شك أن لنشأة الإنسان أثرا في تكوينه الذهني والنفسي، وكيفما يتهيأ
للإنسان أن ينشأ تصاغ شخصيته وتتبلور ذهنيته.
162

وكانت (نشأة الشهيد الفكرية) والنفسية نشأة فكرية وإسلامية
كان له التأثير الكبير في صياغة ذهنيته الخاصة، وتكامله النفسي.
بيته:
وقد نشأ الشهيد في بيت عريق معروف بالفضل، ذا جذور
وسوابق علمية: فكان (أبوه) من كبار أفاضل عصره، وكذلك
جداه (جمال الدين) و (التقي) وجده الأعلى (الشيخ صالح)
من تلاميذ العلامة.
فكان ستة من آبائه من الفضلاء المرموقين في (جبل عامل) كما
استمر أبناء الشهيد على هذا النهج
قال مؤلف الروضات:
ومن العجب أنه كان بمنزلة النقطة المتوسطة المحاطة بدائرة المعارف
والعلوم، أو مركز تؤول نسبة واحدة من فضائل أرباب الفواضل على النهج
المنظوم، حيث إن من آبائه الستة المذكورين كانوا من الفضلاء المشهورين
وكذلك أبناؤه النبلاء الذين لم ينقضوا هذه العدة إلى هذا الحين.
وكان البيت يعرف بسلسلة الذهب.
ومهما يكن فقد نشأ (الشهيد) في مثل هذا البيت، وتبلورت ذهنيته
وتكاملت نفسه، وكان له الأثر الكبير في تكوينه الذهني والنفسي.
وليس من الصحيح إغفال عامل محيطي مهم كالبيت في نشأة (الشهيد)
فقد فتح الشهيد عينيه في هذا البيت على مظاهر العلم والفقه، ونمى
في أحضان هذا البيت يسمع حديث العلم، ويصغي إلى حوار الفقهاء
ويأنس بمجالس العلم والفقه، ويحشر نفسه فيها.
163

ثم يتدرج في تذوق العلم والفقه، ويكثر من الدراسة والمراجعة بتلهف
واشتياق، ويقطع مراحل الدراسة واحدة واحدة، ويملأ أهابه الشوق
إلى المراحل العالية من الدراسة.
ويحدث نفسه كلما جلس إلى مجلس من مجالس العلم والفقه في بيتهم
أو غير بيتهم عن اليوم الذي يتاح له أن يخوض غمار هذا الميدان، وأن
يكون فارسه السباق، وأن يشترك معهم في الحديث والحوار، ويبدي
رأيه فيمن يبدي رأيه من الفقهاء.
وكذلك كان لبيت (الشهيد) الأثر الأكبر في صقل مواهبه الذاتية
وتكوينه الذهني والنفسي.
نشاة الشهيد في حياة والده:
ولد (الشهيد) في 13 شوال سنة 911 حسب نقل تلميذه ابن العودي
واستشهد يوم الجمعة في شهر رجب سنة 966 كما ذكر في نقد الرجال
أو 965 كما عن خط ولده الشيخ حسن.
ومنذ أيام صباه ظهرت ملامح النبوغ والدكاء عليه.
فختم قراءة الكتاب العزيز - كما ينقل عنه تلميذه ابن العودي -
وهو لم يتجاوز بعد التسع سنوات، واشتغل بعد ذلك بقراءة فنون الأدب
العربي والفقه على والده إلى أن توفي سنة 915، وكان والده عالما جليلا
فاضلا من علماء (جبل عامل).
ويكفي في فضله أنه ربى نجله (الشهيد) وبلغ إلى هذا المستوى
من الفقاهة والفكر، وكان من جملة ما قرأه عليه (المختصر النافع)
و (اللمعة الدمشقية) بالإضافة إلى كتب الأدب، وجعل له راتبا شهريا
164

إزاء اشتغاله بالدراسة.
وعز على الطالب الناشئ أن يفقد والده الذي كان يحنو عليه
ويحفه بعنايته ورعايته أيام الدراسة، إلا أنه كان أجلد وأقوى من أن
يغير سيره في الدراسة والبحث لمثل هذه الحوادث التي تعرض الإنسان
في الحياة.
ولم يشأ (الشهيد) أن يبقى ثابتا على المستوى الفقهي الذي بلغه
حتى هذا الوقت، ويحتل مكان والده، فقد كان يرنو إلى مستوى
أسمى من ذلك.
والذي يميز الرجال البارزين في التاريخ عن غيرهم ليس الكفاءة
والنبوغ وحده، وإنما هو قبل ذلك الثبات والصمود أمام المشاكل
التي تعترضهم في الطريق، والهمم العالية التي تدفعهم دائما إلى الأمام
وكان (الشهيد) من أولئك الأفذاذ من الرجال الذين لم يركنوا
إلى الراحة والهدوء والاستقرار، ولم تتقاعس بهم هممهم عند حد
من الفضل والمكانة.
فرأى (الشهيد) في (ميس) (1) وهو بعد لم يتجاوز سني
المراهقة بهجر وطنه، ويذهب إلى (ميس) لتكميل دراسته، فحضر فيها
على الشيخ الجليل (علي بن عبد العالي الكركي) قدس الله سره من سنة
925 حتى سنة 933، وقرأ عليه (شرايع الإسلام) و (الإرشاد) وأكثر
(القواعد).
وفي غالب الظن أن دراسة (الشهيد) في هذا الدور للشرائع والإرشاد
والقواعد لم تكن دراسة سطحية، وإنما كانت شيئا بين البحث النظري
والاجتهاد، وبين دراسة السطح.
.

(1) بفتح الميم قرية من قرى جبل عامل من بلاد لبنان
165

وأنس (الشهيد) بمجالس الشيخ (علي بن عبد العالي) وأنس
الشيخ به، فكان لا تفوته مجالس الشيخ، ودراساته العامة والخاصة.
وكان الشيخ يجد في (الشهيد) الطالب الناشئ ملامح النبوغ والكفاءة
وتوقد الذهنية والذكاء، فكان ذلك يبعث الشيخ على الاهتمام بتلميذه
أكثر من أي شخص آخر.
واستمر (الشهيد) كذلك يحضر مجالس الشيخ ودروسه من دون
انقطاع إلى ثماني سنوات وثلاثة أشهر، وكان عمره في هذا الوقت يبلغ
اثنتين وعشرين سنة.
وقد أخذ الطالب الشاب نصيبا وافرا من العلم والفقه، وأوتي حظا
من القدرة على المناقشة، وتفتح الذهن.
في كرك نوح:
وفي هذا التاريخ بدا (للشهيد) أن يترك (ميس) إلى (كرك نوح)
حيث يقيم الشيخ (علي الميسي)، وكان الشيخ علي زوج خالة الشهيد
وتزوج (الشهيد) بعد ذلك ابنة الشيخ علي، وكانت هي كبرى
زوجتيه.
وفي (كرك نوح) حضر أبحاث (السيد حسن بن السيد جعفر)
مؤلف كتاب (المحجة البيضاء)، وانشرح الشهيد لأستاذه الجديد، واتصل
به اتصالا وثيقا، وحضر عليه مختلف البحوث والدراسات العالية:
من أدب وفقه وفلسفة وكلام وأصول، وغيره من العلوم: قرأ (الشهيد)
عليه قواعد (ابن ميثم البحراني) في الكلام، و (التهذيب) في أصول
الفقه، و (العمدة الجلية) في الأصول الفقهية من مؤلفات السيد المذكور
166

و (الكافية) في النحو،
واندمج (الشهيد) بمحيطه هذا الجديد، وما أنس إليه من حديث
السيد والشيخ، ومجالس العلم، وما كان يتلقاه من فقه ويلقيه من درس.
ولكنه لم يمر عليه سبعة أشهر في محيطه الجديد حتى عاده الحنين
إلى وطنه الأول، وذكرياته الأولى فيه أيام حياة أبيه، فقرر أن يعود
إلى وطنه.
العودة إلى الوطن:
ففي شهر جمادى الآخرة سنة 934 غادر (كرك نوح) إلى (جبع)
مسقط رأسه ووطنه الأول، وبقي فيها إلى سنة 937، واشتغل هذه
المدة بالمذاكرة والمطالعة، والتوجيه الديني والإرشاد، وقضاء حوائج
الناس مما يتعاطاه العلماء في أطراف البلاد، فكان في هذه المدة مثال
الرجل الرسالي والموجه المدير، والمشفق على أبناء بلده، واحتف حوله
الناس، وأكثروا التردد عليه.
في دمشق:
ولكن (الشهيد) - وهو الشاب الطموح المتطلع دائما إلى الأعلى
لم يشأ أن يقنع بهذا المستوى، وبهذا القدر الذي أوتي من الفضل والعلم
والمكانة الاجتماعية، ولم يغره احتفاء الناس به، وإكبارهم له، فقرر
أن يغادر (جبع) إلى (دمشق)، فارتحل إليها سنة 937، وظل
فيها سنة واحدة حضر فيها درس المحقق الفيلسوف شمس الدين
(محمد بن مكي).
167

فقرأ عليه من كتب الطب (شرح الموجز) و (غاية القصد
في معرفة القصد) من مصنفات الشيخ المذكور.
ومن كتب الهيئة (فصول الفرغاني).
ومن الفلسفة بعض (حكمة الإشراق) للسهروردي.
كما قرأ علم القراءة على الشيخ (أحمد بن جابر) في كتاب (الشاطبية)
وقرأ عليه قراءة نافع وابن كثير، وابن عمرو وعاصم.
عودة ثانية إلى جبع:
وفي سنة 938 عاد به الحنين إلى وطنه، وأقام فيها إلى سنة 941
وعاد فيها إلى أشغاله ودراساته ومهامه الفكرية والاجتماعية من تدريس
وتوجيه للناس، وما يتصل بذلك:
عودته إلى دمشق:
وفي أوائل سنة 942 رجع (الشهيد) مرة أخرى إلى (دمشق)
وفيها حاول هذه المرة أن يتصل بشخصيات (دمشق) العلمية من مختلف
المذاهب، ويدرس (المذاهب الإسلامية) فيها دراسة واعية مستوعبة
في الحديث والفقه، فاجتمع بالشيخ (شمس الدين بن طولون الدمشقي)
الحنفي، وقرأ عليه جملة من الصحيحين، وأجازه روايتهما معا، كما
اتصل بآخرين من علماء (دمشق) في وقته.
وكان (ابن العودي) معه في هذه الفترة، كما ينقل هو في رسالته
عن (حياة الشهيد).
168

في مصر:
ولم تقف به همته عند هذا الحد، فقد شاء أن يحشر نفسه في بيئات
فكرية مختلفة، ويتلقى نماذج مختلفة من الفكر والثقافة، ولا تظل ثقافته
قاصرة على هذا اللون من الفكر الفقهي والفلسفي والأدبي الذي يتعاطاه
العلماء والطلاب في سوريا.
فصمم سنة 943 أو 944 أن يغادر (دمشق) إلى (مصر)، حيث
يلتقي بأجواء فكرية جديدة عليه، وحيث يمكنه أن يتصل بوجوه جديدة
من الشخصيات الفكرية والاجتماعية، وتبرع له بنفقات سفره
(الحاج شمس الدين محمد بن هلال)، وكان هذا الرجل الكريم قد
أسدى من قبل إلى (الشهيد) أيادي بيضاء، فكان يجري عليه راتبا
خاصا أيام دراسته، ويتحمل نفقاته ونفقات عياله، ولم نعرف نحن
شيئا عن هذا الرجل الكريم غير أنه كان ينهض بنفقات (الشهيد)
ولم يعرض لنا التاريخ غير هذا الجزء من حياته.
ويحدثنا مترجمو (حياة الشهيد) أنه وجد قتيلا بعد ذلك في سنة
952، أو 956 في بيته مع زوجته وولدين له أحدهما رضيع في السرير.
وكان (ابن العودي) وهو التلميذ الملازم للشهيد يرغب أن يلازم
أستاذه الكبير في سفرته هذه ويكون بركبه، إلا أن والدته التمست
من (الشهيد) أن يمنعه عن الالتحاق به، فاستجاب لها وطلب إلى تلميذه
أن يرجع عن رأيه، فنزل التلميذ عند رأي أستاذه آسفا لذلك، وبلغ
(مصر) يوم الجمعة منتصف شهر ربيع الآخر من سنة 942.
وكانت (مصر) يومذاك مركزا كبيرا من مراكز الحركة العقلية
169

في (البلدان الإسلامية).
والتقى (الشهيد) في مصر بكبار الفقهاء والمحدثين والمفسرين من أصحاب
مختلف (المذاهب الإسلامية)، وحاول أن يلتقي بهم جميعا، ويندمج
في حلقاتهم، ويحشر نفسه في مجالسهم الخاصة حتى يستطيع أن يلم إلمامة
واسعة عميقة بجميع هذه المذاهب، وينفذ إلى مغزى هذه المذاهب، ليعي
ما فيها من حق وباطل، وخطأ وصواب.
فحضر كثيرا من الحلقات الموزعة في أطراف المساجد والمدارس
وقرأ على كثير من شيوخ الفقه والحديث والتفسير ذكر منها كما نقل
(ابن العودي) ستة عشر شخصا كما يلي،
قال الشهيد: منهم الشيخ شهاب الدين أحمد الرملي الشافعي قرأت
عليه (منهاج النوري) في الفقه وأكثر (مختصر الأصول) لابن الحاجب
و (شرح العضدي) مع مطالعة حواشيه (السعدية) و (الشريفية)
وسمعت عليه كتبا كثيرة في الفنون العربية والعقلية، وغيرها.
فمنها: (شرح التلخيص) للمختصر في المعاني والبيان لملا
سعد الدين.
ومنها: (شرح التصريف الغربي).
ومنها: (شرح الشيخ المذكور إمام الحرمين الجويني في أصول الفقه)
ومنها: (شرح جمع الجوامع) و (المحلى) في أصول الفقه
و (توضيح) ابن هشام في النحو، وغير ذلك مما يطول ذكره، وأجازني
إجازة عامة بما يجوز له روايته سنة 943.
ومنهم: الملا حسين الجرجاني قرأنا عليه جملة من (شرح التجريد)
للملا علي القوشجي مع (حاشية ملا جلال الدين الدواني)
و (شرح أشكال التأسس) في الهندسة لقاضي زاده الرومي
170

و (شرح الچغميني) في الهيئة له.
ومنهم: (الملا محمد الاسترآبادي) قرأنا عليه جملة من (المطول)
مع حاشية السيد شريف، و (شرح الكافية).
ومنهم: (الملا محمد على الكيلاني) سمعنا عليه جملة من المعاني
والمنطق.
ومنهم: (الشيخ شهاب الدين ابن النجار الحنبلي) قرأت عليه
جميع (شرح الشافية) للجاربردي، وجميع (شرح الخزرجية) في العروض
والقافية للشيخ زكريا الأنصاري، وسمعت عليه كتبا كثيرة في الفنون
والحديث.
منها: الصحيحان، وأجازوني جميع ما سمعت وقرأت، وجميع
ما يجوز له روايته في السنة المذكورة.
ومنهم: (الشيخ أبو الحسن البكري) سمعت عليه جملة من الكتب
في الفقه والتفسير، وبعض شرحه على المنهاج.
ومنهم: (الشيخ زين الدين الجرمي المالكي)، قرأت عليه
(ألفية ابن مالك).
ومنهم: الشيخ المحقق ناصر الدين اللقاني (الملقاني) المالكي محقق
الوقت وفاضل تلك البلدة، لم أر في الديار المصرية الفضل منه في العلوم
العقلية والعربية سمعت عليه (البيضاوي في التفسير)، وغيره من الفنون.
ومنهم: الشيخ ناصر الدين الطبلاوي الشافعي، قرأت عليه القرآن
(بقراءة ابن عمرو) ورسالة في القراءة من تأليفاته.
ومنهم: (الشيخ شمس الدين محمد بن أبي النحاس)، قرأت عليه
(الشاطبية) في القراءة، والقرآن العزيز للأئمة السبعة، وشرعت ثانيا
أقرأ عليه العشرة ولم أكمل الختم بها.
171

قال ابن العودي: كثيرا ما كان ينعت هذا الشيخ بالصلاح، وحسن
الأخلاق والتواضع، وكان فضلاء مصر يترددون إليه للقراءة في فنون
القرآن العزيز، لبروزه فيها، وكان هذا الفن نصب عينيه، حتى أن
الناس كانوا يقرأون عليه وهو مشتغل بالصنعة لا يرمي المطرقة من يده
إلا إذا جاء أحد من الفضلاء الكبار فيفرش له شيئا، ويجلس هو
على الحصير.
ومنهم: الشيخ الفاضل الكامل (عبد الحميد السنهوري) قرأت
عليه جملة صالحة من الفنون، وأجازني إجازة عامة.
قال ابن العودي: وهذا الشيخ أيضا كان شيخنا قدس سره كثير
الثناء عليه بالجمع بين فضيلتي العلم والكرم، وأنه كان في شهر رمضان
لا يدعهم يفطرون إلا عنده، حتى أنهم غابوا عنه ليلة فلما جاؤوا بعده
تلطف بهم كثيرا وقال:
كل من في البيت استوحش لكم البارحة حتى لطيفة - اسم بنت
صغيرة كانت له - وكان له جارية إذا جاء أحد يطلبهم للضيافة يقول:
أعلمي سيدك بالخبر أن فلانا يطلب الجماعة، ليكونوا عنده الليلة. تقول:
هذا الخبر لا أعلمه به، ولا أقول له عن ذلك.
ومنهم: الشيخ (شمس الدين محمد بن عبد القادر الفرض الشافعي)
قرأت عليه كتبا كثيرة في الحساب الهوائي.
(والمرشد) في حساب الهند الغباري.
و (الياسمينية) وشرحها في علم الجبر والمقابلة، وسمعت عليه
(شرح الوسيلة) وأجازني إجازة عامة.
وسمعت بالبلد المذكور من جملة متكثرة من المشائخ يطول الخطب
بتفصيلهم: منهم الشيخ عميرة، والشيخ شهاب الدين بن عبد الحق
172

والشيخ شهاب الدين البلقيني، والشيخ شمس الدين الديروطي وغيرهم (1).
وكذلك تفرغ (الشهيد) في هذه الفترة التي قضاها في (مصر)
بالدراسة والمطالعة، وحضور مجالس الدرس والمناقشة، والالتقاء بشيوخ
الفقه والحديث، والتفسير والأدب والقراءة، وظل يتنقل من شيخ إلى شيخ
ويتحول من حلقة إلى حلقة، ويغادر مدرسة ليدخل أخرى.
وقد ألم الشهيد في هذه الفترة - على قصرها - بجملة وافية
من العلوم والمعارف الإسلامية، وقرأ عددا كبيرا من الكتب الدرسية
وأنس بمجالس العلم في (مصر)، وألف به شيوخ العلم فيها، كما ألفته
حلقات التدريس، ومجالس العلم في (مصر).
ولم يكن غرض (الشهيد) من الحضور في مجالس الدرس خلال
هذه الفترة الدراسية الاستفادة من علمائها فحسب، فقد كان الشهيد
درس كثيرا من هذه العلوم من قبل في (جبع)، وفي (ميس)
وفي (كرك نوح)، وفي (دمشق) فلم تكن البلاغة والنحو والقراءات
والحديث بالشئ الجديد عليه، وإنما كان الشهيد يهدف من وراء ذلك
إلى الاطلاع على المناهج المختلفة في الدراسة، والإلمام بالمذاهب والمدارس
الفكرية المختلفة، والتصرفات إلى مختلف ألوان التفكر.
وهذا بالذات ما بعثه إلى السفر إلى (مصر) ومغادرة (دمشق)
ولذلك نرى أنه قد أتيح له أن يلم في فترة قصيرة بجملة وافرة من العلوم
والكتب لا يتيسر عادة لطلبة العلم في مدة أقل من ربع قرن.
.

(1) من رسالة ابن العودي في ترجمة الشهيد الثاني
173

عودته إلى وطنه:
وفي هذه الفترة أحس (الشهيد) وهو الشاب الطموح أنه لم يعد
بحاجة إلى غيره في الدراسة والتفكير، وأن البقاء في (مصر)
أو في (دمشق) لا يزيده شيئا على ما عنده، وأنه قد تجاوز مرحلة
الإعداد الفكري، وأحاط بما لدى المذاهب الإسلامية من ثقافة وفكر
وألم بطرف من فنون العلم، وانتقل من مرحلة التلقي إلى مرحلة التأمل
الذاتي والاستيطان، فغادر (مصر) إلى (الحجاز) في 17 شوال سنة
934، فكانت مدة إقامته في (مصر) ثمانية عشر شهرا.
وبعد قضاء الحج والعمرة رجع إلى مسقط رأسه ووطنه الأول
(جبع) حيث كانت تسبقه شهرته وصيته وفضله، ويتلهف الناس لقدومه.
قال ابن العودي: " وكان قدومه إلى البلاد كرحمة نازلة، أو غيوث
هاطلة، أحيى بعلومه نفوسا أماتها الجهل، وازدحم عليه أولو العلم
والفضل، كأن أبواب العلم كانت مقفلة ففتحت، وسوقه كانت كاسدة
فربحت، وأشرقت أنواره على ظلمة الجهالة فاستنارت، وابتهجت قلوب
أهل المعارف وأضاءت، أشهر ما اجتهد في تحصيله منه وأشاع، وظهر
من فوائده ما لم يطرق الأسماع، رتب الطلاب ترتيب الرجال، وأوضح
السبيل لمن طلب ".
وكذلك كانت عودة (الشهيد) إلى وطنه مبعث حياة جديدة
في هذا القطر، فازدحم عليه الناس " وتوجه إليه طلاب المعرفة من مختلف
الأقطار المجاورة، والتف حوله الفضلاء والعلماء، وأخذ بالتدريس
174

والتوجيه والإرشاد وإدارة شؤون القطر الديني، وبنى فيها مسجدا كما قام
بغيره من المشاريع العامة.
اجتهاده:
وأخذ (الشهيد) في هذا الوقت سنة 944 يلمس من نفسه القدرة
على الاجتهاد والاستنباط، إلا أنه لم يظهر ذلك حتى عام 948، حيث
شاع ذلك عنه ورجع الناس إليه في التقليد.
قال ابن العودي: " أخبرني قدس الله نفسه - وكان في منزلي بجزين
متخفيا من الأعداء ليلة الاثنين 11 صفر سنة 956 - أن ابتداء أمره
في الاجتهاد كان سنة 944، وأن ظهور اجتهاده وانتشاره كان في سنة 948
فيكون عمره لما اجتهد 33 سنة ".
وشرع الشهيد في هذا الوقت (بشرح الإرشاد)، إلا أنه لم يكن
يطلع أحدا على ذلك حتى على تلميذه الملازم له ابن العودي.
يقول ابن العودي وشرع في شرح الإرشاد ولم يبده لأحد، وكتب
منه قطعة ولم يره أحد، فرأيت في منامي ذات ليلة أن (الشيخ) على منبر
عال وهو يخطب خطبة ما سمعت مثلها في البلاغة والفصاحة فقصصت
عليه الرؤيا، فدخل إلى البيت وخرج وبيده جزء فناولني إياه، فنظرته
فإذا هو (شرح الإرشاد) قد اشتمل على خطبته المعروفة التي أخذت
بمجامع الفصاحة والبلاغة.
وكذلك استمر الشهيد في (جبع) يزاول مهامه في التدريس والكتابة
والتوجيه والإرشاد والتأمل حتى حيث بدا له أن يزور العتبات المقدسة
فقصد العراق.
175

ثقافته ومشائخه.
كان (الشهيد) رحمه الله كثير الاتصال بشيوخ عصره من الفقهاء
والأصوليين والمتكلمين والفلاسفة والرياضيين والأدباء، وكان كثير الرغبة
في الاطلاع، فكان يتبع الشيوخ والعلماء، وهو بعد لم يتجاوز حدود
المراهقة - من قطر إلى قطر، ومن بلا إلى بلد.
ومع ما كان يتصف (الشهيد) في دور الدراسة من التعمق، ودقة
النظر والملاحظة، كان موسوعيا في دراسته، استوعب كثيرا من فنون
الثقافة في وقته، واتصل بكثير من الحركات العلمية المعاصرة له، واندمج
بها ذهنيا، وخالط العلماء، وحضر حلقات الدراسة، ومجالس العلماء
في أكثر حقول المعرفة والعلم من ثقافة عصره.
فكان يحضر في وقت واحد دراسة الفلسفة والفقه، والأدب والتفسير
والقراءة والطب، والرياضيات، وغيرها.
وكان لهذه التوسعة في الدراسة والشمولية أثر كبير في تنمية ذهنية
(الشهيد)، وتوسعته في دور التلمذة.
ومن خلال (آثار الشهيد) ودراساته يلمح الباحث هذا الشمول
والسعة في ثقافة الشهيد بصورة واضحة.
وفيما يلي نعرض على القارئ صورة سريعة عن ثقافة الشهيد ومشائخه
العلوم الأدبية:
ونعني بالعلوم الأدبية عادة: اللغة، والنحو، والصرف والبلاغة
والشعر.
176

وكانت (المدارس الأدبية) في (عصر الشهيد) واسعة كثيرة
والصراع بينها قائم على قدم وساق، فكان هذا يذهب إلى مدرسة الكوفة
في النحو، والآخر يتبع مدرسة بغداد، وثالث يميل إلى مدرسة البصرة
فكانت الدراسات الأدبية في ذلك الوقت تمتاز بالدقة والعمق والأصالة
والتوسعة.
وقد درس الشهيد الأدب بمختلف فنونه التي كان يتعاطاها الأدباء
في وقته، واتصل بمختلف المدارس الأدبية في عصره من (دمشق)
و (القاهرة) و (جبل عامل) و (القدس)، وغيرها من البلدان.
فدرس النحو وجزءا من مبادئ الأدب على والده الشيخ
(نور الدين علي بن أحمد)، وكان والده من مشجعيه على مواصلة الدراسة
ومتابعته، وقد عين له راتبا شهريا، ليتفرغ للدراسة.
ودرس (الكافية) في النحو على السيد (حسن بن السيد جعفر)
صاحب كتاب (المحجة البيضاء) و (شرح التلخيص) في البلاغة
على الشيخ (شهاب الدين أحمد الرملي الشافعي) في مصر و (المطول)
وحواشي الملا شريف وشرح الكافية للجامي على (الملا حسين الجرجاني)
ودرس شرح الشافية للجار بردي، وجميع شروح الخزرجية في العروض
والقوافي على الشيخ شهاب الدين بن النجار الحنبلي، و (ألفية ابن مالك)
على الشيخ زين الدين الجرمي المالكي.
العلوم الشرعية:
ونعني بالعلوم الشرعية (علم الفقه) و (الأصول) و (القراءة)
و (الحديث)، وقد استوعب الشهيد دراسة مختلف حقول العلوم
177

الشرعية ودرسها على مختلف المذاهب الإسلامية.
فحضر (الفقه) على والده الشيخ نور الدين علي وعلى الشيخ
(علي بن عبد العالي) في ميس، حيث درس عليه (شرائع الإسلام)
و (الإرشاد) و (أكثر القواعد).
ودرس أصول الفقه على السيد حسن بن السيد جعفر، حيث درس عليه
(التهذيب) في أصول الفقه و (العمدة الجلية في الأصول الفقهية)
ودرس الفقه وأصوله على المذاهب السنية بصورة مفصلة ومستوعبة
في (دمشق) و (مصر) على أئمة الفقه من المذاهب الأربعة:
فقرأ على الشيخ شهاب الدين أحمد الرملي الشافعي (منهاج) النووي
في الفقه، كما درس عليه جملة من أصول الفقه كالمحلى وغيره، وقرأ
على الشيخ أبو الحسن البكري جملة من الكتب الفقهية والأصولية وشرحه
على المنهاج.
ودرس الحديث وأصوله على عدد من مشائخ الحديث عند
(الشيعة) و (السنة)، واستجازهم في الرواية، وكان منهم الشيخ
(شمس الدين بن طولون) الدمشقي الحنفي، حيث درس عليه
الصحيحين.
ودرس (التفسير) على أئمة التفسير في عصره من (شيعة وسنة)
كان منهم الشيخ أبو الحسن البكري في مصر، والشيخ ناصر الدين الملقاني
حيث درس عليه تفسير البيضاوي، وغيره.
وكان (الشهيد) يعني عناية خاصة بعلم القراءات والتجويد.
ويقال: أن السبب في ذلك أن الشيخ (داود الأنطاكي) الطبيب
صلى خلفه، فقال:
أنا أقرأ منه، فبلغ ذلك الشهيد فعنى بدراسة علم القراءة وللتجويد.
178

فدرس في دمشق (الشاطبية) في علم القراءات على الشيخ
(أحمد بن جابر) كما قرأ عليه القرآن بقراءة نافع وابن عمرو وعاصم.
وفي (مصر) أعاد قراءة (الشاطبية) على الشيخ (شمس الدين
محمد بن أبي النحاس)، وقرأ القرآن بقراءة أبي عمرو على الشيخ
(ناصر الدين الطبلاوي) كما قرأ عليه رسالة في القراءة من تآليفه.
العلوم العقلية:
وألم (الشهيد) إلمامة واسعة بالعلوم العقلية في وقته من (منطق)
و (فلسفة) و (كلام) و (عرفان)، فقرأ المنطق على كثيرين
من مشائخه كالشيخ محمد علي الكيلاني في (مصر).
وقرأ من الكتب الكلامية (القواعد) لابن ميثم البحراني على السيد حسن
ابن السيد جعفر في جبل عامل، كما قرأ (شرح التجريد) للقوشجي مع
حواشي جلال الدين الدواني على الشيخ حسين الجرجاني في مصر، وقرأ
من الكتب الفلسفية (حكمة الإشراق) للسهروردي على الشيخ شمس الدين
محمد بن مكي في مصر، كما قرأ بعض الفنون العقلية على الشيخ شهاب الدين
أحمد الرملي فيها.
الرياضيات والطبيعيات:
ولم يغفل (الشهيد) وهو الشاب المثقف المتطلع للثقافات الرياضية
والطبيعية في وقته، فدرس جملة وافية منها على أساتذة الرياضة والطبيعة
فدرس (شرح أشكال التأسيس) في الهندسة لقاضي زاده الرومي
179

على الملا حسين الجرجاني في مصر، وأبوابا من الحساب وكتاب (الياسمينية)
وشرحها في علم الجبر والمقابلة على الشيخ شمس الدين محمد بن عبد القادر
الفرضي في مصر.
وقرأ من الطب (شرح الموجز النفيسي) و (غاية القصد في معرفة الفصد)
من مؤلفات الفيلسوف شمس الدين محمد بن مكي عليه في دمشق.
وقرأ من الهيئة (فصول الفرغاني) على شمس الدين محمد بن
مكي في دمشق، و (شرح الچغميني) على الملا حسين الجرجاني
في مصر.. هذه صورة مصغرة عن ثقافة (الشهيد) وسعة معارفه.
ومن هذا الاستعراض السريع لثقافة الشهيد ومشائخه يستطيع الباحث
أن يتبين ملامح من (شخصية الشهيد الثقافية). فقد ألم في دور شبابه
إلمامة واسعة بمختلف علوم عصره، وتعاطاها واستوعبها، فكان في عصره
مثال المثقف المتفتح الذهن على الثقافات والمعارف البشرية، وتنعكس هذه
الشمولية والتوسعة على (آثار الشهيد)، فيلمح الباحث عن الشهيد
من خلال آثاره أنه يخوض مجالات ثقافة عصره باطمئنان وقوة واعتداد
بالنفس، وهذه الميزة تعتبر من أهم مميزات شخصية شيخنا (الشهيد).
إحاطته بالمذاهب الإسلامية وثقافة عصره:
قليل أولئك الذين يجمعون بين دقة الملاحظة، وعمق النظر، والاختصاص
في حقل من حقول العلم، وبين الإحاطة بحقول المعرفة البشرية.
وقد أتيح لشيخنا (الشهيد) وهو من تلك القلة الفذة في تاريخ
الإنسانية أن يجمع بين الإحاطة بثقافة عصره، والمذاهب الإسلامية، وبين
180

دقة الملاحظة والتعمق في الفقه.
وليست هذه الندرة في الجمع بين هذين الجانبين في تاريخ العلماء
لقصور الوقت فحسب عن الإلمام بأطراف الثقافات الإنسانية، والتعمق
في حقل الاختصاص فحسب، وإنما لشئ آخر أيضا لا يقل أهمية
عن سابقته فالذهنية التي تمارس الإلمام والإحاطة تختلف عن الذهنية
التي تمارس الدقة والملاحظة، وقلما يتفق أن تجتمع هاتان الخاصتان
في ذهن واحد.
ومنذ أول يوم حاول (الشهيد) أن يجمع بين هذين الجانبين في نشأته
الفكرية. وقد وجدنا فيما تقدم من حديث عن نشأته الفكرية أنه مارس
الدراسة منذ بداية حياته الدراسية في مختلف حقول المعرقة، وألم بمختلف
المذاهب الإسلامية: فكان يقصد (دمشق ومصر)، وهما يومذاك حاضرتا
العالم الإسلامي وجامعتا الدراسات الإسلامية الكبرى.
وكان يلم فيهما بمختلف الحلقات، ويجلس إلى مختلف الشيوخ
وينصت إليهم بعناية، وبذلك استطاع أن يحيط إحاطة واسعة بمختلف
(المذاهب الإسلامية) في الفقه والحديث والتفسير، وبمختلف ألوان
ثقافة عصره.
وكانت هذه القابلية الفذة تبعث في نفسه اعتدادا بالنفس، فلما
حاول أن يسافر إلى (القسطنطينية) ليلتقي ببعض المسؤولين الكبار هناك
ويطلب التدريس في بعض المدارس عرض عليه أن يأخذ تعريفا
من قاضي جهته.
فقد كان المتعارف عند الأتراك أن يصحب المراجع معه إلى العاصمة
تعريفا به عن قاضي جهته. فأبى الشهيد أن يجيب هذا الطلب، وبطلب
من القاضي تعريفا به.
181

وكان القاضي يومذاك (معروف الشامي) بصيدا، وكانت بينه
وبين القاضي صحبة ومعرفة سابقة، فأرسل (الشهيد) إليه تلميذه ابن
العودي ليعلمه بالأمر فحسب، من غير أن يطلب منه تعريفا به، فذهب
ابن العودي إلى (معروف وأعلمه بسفر (الشهيد).
فقال له ابن العودي: نكتب له إذا تعريفا - عرضا - فلم أستجب له.
فقال لي: إذا لا يتيسر له شئ من دون تعريف (لأن من عادة
هؤلاء الروم وقانونهم أنه لو مضى إمام مذهبهم (أبو حنيفة) وطلب
غرضا من الأغراض يقولون:
أين عرض القاضي؟
فيقول لهم: أنا إمامكم ولا أحتاج عرض القاضي.
فيقولون له: لا بد من ذلك، (نحن لا نعرف إلا القانون).
وسافر الشهيد إلى (القسطنطينية). قال: " وكان وصولنا إلى مدينة
(القسطنطينية) يوم الاثنين 17 شهر ربيع الأول سنة 952، ووفق الله تعالى
لنا منزلا حسنا رفقا من أحسن مساكن البلد قريبا إلى جميع أغراضنا
وبقيت بعد وصولي 18 يوما لا أجتمع بأحد من الأعيان، ثم اقتضى
الحال أن كتبت في هذا الأيام رسالة جيدة تشتمل على عشرة مباحث جليلة
كل بحث في فن من الفنون: العقلية، والفقهية، والتفسير، وغيرها
فأوصلتها إلى قاضي العسكر، وهو محمد بن قطب الدين بن محمد بن محمد
ابن قاضي زاده الرومي، وهو رجل فاضل أديب عاقل لبيب من أحسن
الناس خلقا وتهذيبا وأدبا، فوقعت منه موقعا حسنا، وحصل لي بسبب
ذلك حظ عظيم، وأكثر من تعريفي والثناء علي للأفاضل، واتفق
في هذه المدة بيني وبينه مباحثة في مسائل كثيرة من الحدائق ".
قال: ففي اليوم الثاني عشر من اجتماعي به أرسل إلي الدفتر المشتمل
182

على الوظائف والمدارس، وبذل لي ما اختاره، وأكد في كون ذلك
في الشام أو حلب، فاقتضى الحال أن اخترت منه المدرسة النورية ببعلبك
لمصالح وجدتها، ولظهور أمر الله تعالى بها على الخصوص، فأعرض لي
بها إلى (السلطان سليمان) وكتب لي بها براءة، وجعل لي في كل شهر
ما شرطه واقفها (السلطان نور الدين الشهيد) (1).
وبعد بقاء (الشهيد) في القسطنطينية مدة ثلاثة أشهر ونصف عزم
على التجول في ربوع البلاد الرومية، والاستزادة من تجارب الحياة
التي كان الشهيد لا يدع فرصة للحصول عليها، فسافر إلى مدينة تسمى
(اسكدار) وهي مقابلة لمدينة القسطنطينية يفصل بينهما البحر، واجتمع
في هذه المدينة برجالات علمية كبيرة كعادته، ومن بين هؤلاء رجل هندي
له فضل ومعرفة بفنون كثيرة منها الرمل والنجوم (2).
زيارة العتبات المقدسة في العراق:
دام سفر شيخنا الشهيد في البلاد الرومية ما يقرب من تسعة أشهر
تجول خلالها في كثير من مدنها، واتصل بكثير من علمائها وأعيانها
ووجهائها، وأخذ بغيته من العلوم والمعارف المتنوعة، وكتب كتابات
دقيقة جدا عن المدن التي زارها مما يدل على حبه الشديد للاستطلاع أينما
حل حتى أنه لم ينس أن يذكر مناخ المدينة، وأنواع أثمارها، وبعض
عادات أهلها... وما إلى ذلك من الأمور التي اعتاد استقصاءها أولئك
الرجال الأفذاذ الذين ينظرون إلى كل شئ بنظر دقيق عميق.

(1) رسالة ابن العودي (مخطوطة).
(2) المصدر السابق.
183

ولم يشأ أن ينهي سفرته هذه ويعود إلى وطنه قبل أن يذهب
إلى (العراق) ويزور (المراقد المطهرة، والمشاهدة المقدسة) هناك
ويتصل بالأعلام القاطنين في تلك الديار، فيمم صوب العراق وورد
(سامراء) يوم الأربعاء رابع شهر شوال سنة 952 ه‍، وتنقل في البلدان
العراقية واحدا بعد واحد، وزار (المشاهد المشرفة) وقبور الصالحين
المشيدة في (بغداد والحلة وكربلا والكوفة والنجف الأشرف)، وغيرها.
وكانت الحفاوة بمقدم (الشهيد) بالغة جدا، فلم ينزل في مدينة
إلا وكان يتدفق عليه سيل الزائرين من العلماء والأفاضل، وسائر الطبقات
المحترمة، يسلمون عليه ويرحبون به، ويستبشرون بلقياه، ويسرون
بمقدمه المبارك.
وإن دلت هذه الحفاوة البالغة على شئ فإنما تدل على المكانة العلمية
الكبيرة التي كان يحتلها (الشهيد) في العالم الإسلامي آنذاك، وعظيم
الاحترام في نفوس المسلمين كافة حتى البعيدين عن وطنه، ومسقط رأسه
وتدل كذلك على أنه كان يتمتع بشهرة واسعة جدا في الأوساط العلمية
في مختلف البلدان القريبة والنائية.
وهذه الحفاوة والزيارات لم تشغل (الشهيد) عن الرسالة العلمية
التي كان يسعى إلى تحقيقها أينما حل، فسعى سعيا مشكورا في التحقيق
من (قبلة العراق) بصورة عامة، وقبلة (مسجد الكوفة)
و (حرم أمير المؤمنين) عليه السلام بصورة خاصة، إذ وجد القبلة
في هذه الأمكنة منحرفة عما يجب أن تكون عليه، فحقق مقدار
انحرافها وصلى طبق ما أدى إليه اجتهاده، مخالفا لما كان عليه الأهالي
من ذي قبل.
ولقي هذا العمل العظيم ارتياحا كبيرا في النفوس، ولم يتخلف
184

عن العمل بما رآه الشهيد في (القبلة) إلا شخص واحد ساءه هذا التغيير
فانقطع عن زيارة الشهيد مع الزائرين، ولكنه بعد أيام زار (الشهيد)
وبالغ في الاعتذار عما بدر منه من البادرة السيئة..
يقال: إن هذا الرجل رأى النبي صلى الله عليه وآله في منامه
وأنه دخل إلى الحضرة العلوية المشرفة وصلى بالجماعة على السمت الذي
صلى عليه الشهيد منحرفا كانحرافه، فانحرف معه أناس وتخلف عنه
آخرون فلما فرغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الصلاة التفت
إلى الجماعة وقال:
كل من صلى ولم ينحرف كما انحرفت فصلاته باطلة (1).
ونقل هذه الرؤيا وشيوعها تدل دلالة واضحة على ما لقيت
(نظرية الشهيد) في (قبلة العراق) من الرواج عند الناس، ومن اعتقادهم
بلزوم العمل على حسب ما أفتى به (الشهيد) ليس إلا.
السفر إلى بعلبك:
وبعد أن أنهى (الشهيد) زيارته للأعتاب المقدسة توجه إلى (بعلبك)
حيث تنتظره النفوس المشتاقة إلى الارتشاف من مناهله العذبة، والاستفادة
من علومه الجمة، ومحاضره المليئة بأنواع الكمالات النفسية، والأخلاق
المرضية.
وكان وصوله إلى (بعلبك) في منتصف شهر صفر من سنة 953
ولم يحل (الشهيد) بعلبك إلا وأتاه الناس زرافات ووحدانا للسلام
عليه وزيارته، وكان البشر والسرور يحيطان بوجوههم، والثناء الطيب

(1) روضات الجنات الطبعة الحجرية. الجزء 2. ص 293.
185

يتردد على ألسنتهم.
ولم يدع (الشهيد) هذه الفرصة السانحة له أن تفوته فاشتغل
بالتدريس والإفتاء على (المذاهب السنية) ومذهب الشيعة)، وأخذ
بإرشاد الناس، والقيام بشؤونهم الدينية، وقضاء حوائجهم.
وطبيعي أن موقعا يتهيأ فيه مثل (الشهيد) علما ودراية وذكاء تصبح
مركزا مهما لبث العلوم، وتربية العلماء والأفاضل، وكذلك كان
(بعلبك) أيام الشهيد مركزا علميا كبيرا يقصده الناس من أنحاء مختلفة
ويأتيه العلماء من القريب والبعيد، وكان (الشهيد) مشجعا كبيرا لهذه
الحركة العلمية التي حدثت في (بعلبك).
يقول (ابن العودي) بهذا الصدد:
كنت في خدمته في تلك الأيام - ويقصد أيام وجود الشهيد
في بعلبك - ولا أنسى وهو في أعلى سنام، ومرجع الأنام، وملاذ الخاص
والعام يفتي كل فرقة بما يوافق مذهبها، ويدرس في المذاهب كتبها
وكان له في المسجد الأعظم درس مضافا إلى ما ذكر، وصار أهل البلد
كلهم في انقياده، وهم وراء مراده، بقلوب مخلصة في الوداد، وحسن
الإقبال والاعتقاد، وقام سوق العلم بها على طبق المراد، ورجع إليه
الفضلاء من أقاصي البلاد، ورقى ناموس السيادة والأصحاب في الازدياد
وكانت عليهم تلك الأيام مثل الأعياد (1).
رجوعه إلى بلده:
بقي (الشهيد) في بعلبك إلى سنة 955 مواصلا في أعماله التي ذكرنا

(1) رسالة ابن العودي المخطوطة
186

جانبا منها، ولكن حنينه إلى وطنه، ومسقط رأسه، وشوقه إلى لقاء
أقاربه وأصدقائه وسائر معاريفه الذين فارقهم منذ خمس سنوات.، كل
هذا سبب رجوعه إلى بلده وبقائه فيه، ولكن الذي يظهر مما كتبه ابن
العودي في رسالته أن مجيئه هذا إلى وطنه كان بداية ما لقيه (الشهيد)
من الضغط الشديد، والمراقبة عليه، وإحاطته بالعيون والجواسيس.
يقول ابن العودي:
وهذا التاريخ - أي تاريخ عودته إلى بلده - كان خاتمة أوقات
الأمان والسلامة من الحدثان.. أخبرني قدس الله لطيفة وكان في منزلي
بجزين متخفيا من الأعداء.
وربما يكون السبب في هذا الضغط الشديد الإقبال الهائل الذي لقيه
(الشهيد) حين وجوده ببعلبك، إذ كانت النفوس المريضة لا تروق لها
أن يكون لهذا الإنسان العظيم مثل هذه المكانة السامية، والسمعة الطيبة
التي غطت شهرة الآخرين في (بعلبك).
ويعتقد بعض المؤرخين أن القاضي (معروف الشامي) - الذي سبق
أن ذكرنا قصته مع الشهيد في إرساله تلميذه ابن العودي إليه كان له يد
في هذه المراقبة والضغط والعنت التي لقيها (الشهيد) وهو الذي سعى
أخيرا في قتله.
آثار الشهيد الثاني:
قضى (الشهيد الثاني) شطرا طويلا من عمره في الأسفار، والحضور
عند العلماء في كافة الأقطار كما رأينا طرفا من هذا فيما مضى، وكانت
أوقاته مستغرقة بالفتيا، والقيام بالمهام الشرعية والاجتماعية كلما نزل بمكان
187

وكان يقضي نهاره في بلده بالتدريس، وقضاء حاجات المحتاجين، ويمضي
ليلة بالاحتطاب، وحفظ الكرم كما يحدثنا به تلميذه ابن العودي.
لكن مع هذا كله جاء كثير التأليف، خصب الكتابة، مع ضبط
للمواضيع ودقة في النقل، وترو في الآراء، وعمق في النظريات، ونضج
في الفتاوى..
كون (الشهيد) مدرسة قائمة بذاتها لها خصائصها وميزاتها
ووجهاتها الخاصة بما ألف وأنتج في عالم التصنيف.
وأسفاره الكثيرة، وحضوره على أساتذة مختلفين، وقراءته عند
علماء المذاهب الإسلامية، ومطالعاته الطويلة في شتى الكتب من سائر
ألوان الثقافات الدارجة في ذلك العصر، وصبره الزائد على الفحص
في المصادر والمراجع العلمية..
كل هذه العوامل طبعت (مؤلفات الشهيد) بطابع الموضوعية
في الدراسة، والعمق في الفكرة، والوضوح في التعبير والسلاسة
في صياغة الألفاظ، والانسجام في الترتيب، والأناقة في العرض وحسن
السليقة في التبويب، والطرافة في التنظيم.
والذي يجلب النظر فيما كتبه الشهيد أنه لم يخصص كتاباته بطبقة
خاصة من الناس، فبينما نرى أنه يكتب موضوعا علميا بحتا للعلماء
المتخصصين يكتب موضوعا أخلاقيا بسيطا للسوقة، والذين ليس لديهم
حظ وافر من العلم.
وبينما يصنف في الفقه الاستدلالي بمستوى كبار الفقهاء يؤلف
في المواضيع الإسلامية وغيرها لأبسط الناس.
وكان الشهيد كذلك يستوحي في بعض الأحيان من الظروف التي
تكتنفه: فكتب كتابا في الغيبة، لأنه يرى بعض الناس يصرفون كثيرا
188

من أوقاتهم، ويتفكهون في مجالسهم ومحاوراتهم، ويغذون نفوسهم بتناول
أعراض إخوانهم من المؤمنين، ونظرائهم من المسلمين، ولا يعدونه
من السيئات، ولا يحذرون معه من مؤاخذة جبار السماوات (1).
ويكتب كتابا آخر حينما يتوفى طفل له عزيز في نفسه ثم يلخصه
بعد حين، ليستفيد منه أكثر عدد ممكن من القراء (2).
وإليك ثبتا لبعض آثاره:
1 - (الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية):
وهو شرح مزجي استدلالي مختصر خطا فيه (الشهيد الثاني) خطى
(الشهيد الأول) في الاختصار والشمول والاستيعاب.
والتزم (الشهيد الثاني) في كتابه هذا اختصار العبارة، وقوتها
وسلاستها: حسن التعبير، والإشارة في أكثر الأحيان إلى الدليل، وبعض
الآراء الفقهية التي لها أهميتها، والرد على بعض آراء (الشهيد الأول) إذا
كان لا يراها صوابا، وإبداء آرائه الشخصية في الموضوع إذا كان له
رأي خاص فيه.
واحتل هذا الكتاب مكانة مرموقة بين الكتب الفقهية، فأقبل
على درسه والاعتناء بشأنه العلماء منذ حين تأليفه، ولم يزل حتى الآن
من الكتب الدراسية ذات الشأن في الجامعات الشيعية.
ويكفي في أهمية هذا الكتاب أنه أكب على شرحه، والتعليق عليه
وتوضيح ما أبهم من عباراته، وكشف غوامضه جماعة كبيرة من العلماء
وقد ذكر الشيخ آغا بزرك الطهراني في كتابه (الذريعة) ما يقرب من تسعين

(1) أنظر مقدمة كتاب كشف الريبة عن أحكام الغيبة.
(2) أنظر كتاب مسكن الفؤاد عند فقد الأحبة والأولاد.
189

حاشية وشرح (1).
وقد طبع هذا الكتاب مكررا في (إيران ومصر).
2 - (روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان):
وهو شرح مزجي خرج منه مجلد في الطهارة والصلاة، وطبع
في (إيران) مع كتاب منية المريد للشهيد أيضا سنة 1307 ه‍ (2).
والذي يظهر من رسالة ابن العودي أن هذا الكتاب هو أول كتاب
كتبه الشهيد في الفقه الاستدلالي، ولم يكن يظهره لأحد حتى اطلع عليه
تلميذه ابن العودي في قصة طويلة ذكرها في رسالته -
3 - (مسالك الأفهام في شرح شرائع الإسلام):
وهو شرح مزجي، كانت طريقته الاختصار في الشرح في أوائل
هذا الكتاب، ثم أخذ في التوسع حتى أصبح كتابا ضخما في سبع مجلدات
كبار (3).
4 - (تمهيد القواعد الأصولية والعربية):
هذا الكتاب ينقسم إلى قسمين:
(القسم الأول) فيه مائة قاعدة أصولية وما يتفرع عليها من الأحكام
(القسم الثاني) مائة قاعدة من القواعد العربية، ويليهما فهرس
مبسوط، لتسهيل استخراج المطالب من الكتاب.
طبع مع الذكرى سنة 1272 في (إيران) (4).

(1) أنظر الذريعة الجزء 6، ص / 90 - 98. والجزء 13
ص 292 - 296.
(2) الذريعة الجزء 11. ص 275.
(3) رسالة ابن العودي المخطوطة.
(4) الذريعة الجزء 4. ص 434.
190

5 - (حاشية الإرشاد):
وهذه الحاشية على قطعة من عقود الإرشاد فقط، وهي مشتملة
على تحقيقات مهمة (1).
6 - (حاشية على الشرائع):
وهي حاشية مختصرة في مجلدين، قال ابن العودي: خرج منها
قطعة صالحة.
7 - (التنبيهات العلية على وظائف الصلاة القلبية):
وهي رسالة صغيرة في أسرار الصلاة، ذكر فيها وظائف كل
باب باعتبار ملاحظة القلب للأسرار الباطنية حسب ترتيب الواجبات
الظاهرة.
طبعت في (إيران) مكررا.
8 - (منية المريد في آداب المفيد والمستفيد).
كتاب صغير يذكر فيه ما يلزم على العالم والمتعلم المواظبة
من الأخلاق الفاضلة، والخصال الحميدة، وما يجب على القاضي وا
حين القضاء والإفتاء، وقد اختصره فيما بعد في رسالة صغيرة لطيفة.
طبع الأصل مكررا في (إيران، والنجف الأشرف).
9 - (مسكن الفؤاد عند فقد الأحبة والأولاد).
رسالة مختصرة يذكر فيها ما يجب على الإنسان من الصبر والسلوان
عندما يواجه المصائب والشدائد: من فقد الأحبة، والأقارب، واختصره
وسماه ب‍: مبرد الأكباد في مختصر مسكن الفؤاد.
طبع الأصل عدة طبعات في (إيران).

(1) رسالة ابن العودي المخطوطة.
191

10 - (أجوبة المسائل).
وقد أجاب الشهيد على كثير من المسائل التي كانت ترد عليه من مختلف
الأشخاص والبلدان، ويجيب عليها إجابات مطولة، ونلاحظ في قائمة
مؤلفاته ذكر كثير من هذه الأجوبة ك‍ (جواب المسائل الخراسانية)
و (جواب المباحث النجفية) و (جواب المسائل الهندية) و (جواب
المسائل الشامية) و (أجوبة الشيخ زين الدين) و (أجوبة الشيخ أحمد)
و (أجوبة على ثلاث مسائل لبعض الأفاضل) (1).
11 - (نتائج الأفكار في حكم المقيمين في الأسفار).
وهذا كتاب صغير في بيان حكم المسافر إذا نوى إقامة عشرة أيام
في غير بلده، وتقسيم المسألة إلى أقسامها المشهورة (2).
12 - (شروح الألفية).
" الألفية " كتاب صغير فيه ألف واجب في الصلاة من مؤلفات
(الشهيد الأول) محمد بن مكي - قدس الله سره -، وقد شرح
(الشهيد الثاني) هذا الكتاب ثلاث مرات:
فالشرح الكبير اسمه (المقاصد العلية في شرح الألفية) وهو شرح
كبير استدلالي كتب الشهيد أيضا عليه بعض الحواشي فيما بعد.
و (الشرح الوسيط) واقتصر فيه على أهم المسائل ولم يتوسع فيه
كثيرا.
و (الشرح الصغير) وهو تعليقات وشروح وحواشي فتوائية لعمل
المقلدين الذين يرجعون إليه في المسائل الشرعية (3).

(1) روضات الجنات الطبعة الحجرية. الجزء 2. ص 295 - 296
(2) رسالة ابن العودي المخطوطة.
(3) الذريعة الجزء 6 / 23.
192

13 - (الفوائد الملية في شرح النفلية).
" النفلية " من مؤلفات (الشهيد الأول) يذكر فيه مستحبات الصلاة
وشرحه (الشهيد الثاني) شرحا مزجيا مختصرا، وبما تطرق إلى ذكر
بعض الأدلة (1).
14 - (كتاب الإجازات)
جمع الشهيد في هذا الكتاب الإجازات الصادرة عن المشائخ، ولا
نعلم أن هذا الكتاب يجمع بين دفتيه الإجازات التي صدرت عن مشائخ
الشهيد له أم مطلق ما صدر من إجازات المشائخ للأشخاص ولو لم تكن له.
15 - (إجازاته لتلاميذه)
أجاز شيخنا الشهيد لجماعة من تلاميذه إجازات كبيرة ومختصرة عد
منها الشيخ آغا بزرك: إجازته للشيخ ظهير الدين الميسي بتاريخ 957.
وللشيخ محيي الدين الميسي العاملي بتاريخ 954.
وللشيخ تاج الدين الجزائري بتاريخ 994.
وللشيخ عز الدين بن زمعة المدني بتاريخ 948.
وللشيخ حسين ابن عبد الصمد والد البهائي بتاريخ 941.
وللشيخ سلمان الجبعي العاملي بتاريخ 954.
وللسيد عطاء الله الحسيني الموسوي بتاريخ 990.
ولابن الصائغ الحسيني الموسوي بتاريخ 958.
وللشيخ محمود بن محمد اللاهجي بتاريخ 953 (2).
16 - (حقائق الإيمان).
ويسمى في بعض المصادر (تحقيق الإيمان والإسلام)

(1) روضات الجنات الطبعة الحجرية. الجزء 2. ص 290.
(2) الذريعة: الجزء 1 / ص 193 - 194.
193

أو (حقيقة الإيمان والإسلام): وهو بحوث مستفيضة في معنى الإيمان
والإسلام، ورد بعض الشبه، وفي آخره مبحث في أصول الدين مع
تفصيل أكثر في الإمامة طبع في (إيران) سنة 1305 في مجموعة فيها
مختلف الكتب.
17 - (حاشية قواعد الأحكام)
حقق فيها المهم من المباحث، ومشى فيها مشي الحاشية المشهورة
بالنجارية، برز منها مجلد لطيف إلى كتاب التجارة (1).
18 - (منظومة في النحو)
وقد شرح هذه المنظومة الشهيد بنفسه بعد إكمال نظمه.
وفي رسالة ابن العودي المخطوطة: رأيت بعضها بخطه.
19 - (الدراية وشرحها)
ألف الشهيد رسالة صغيرة في علم الدراية وسماها (بداية الدراية)
ثم شرحها شرحا مزجيا اشتهر باسم (الدراية)، وطبع الأصل مع الشرح
في (إيران وفي النجف الأشرف).
20 - (البداية في سبيل الهداية)
الظاهر أن هذا الكتاب يبحث عن العقائد، إلا أن بعض المؤلفين ظن
أنه بداية الدراية.
ويقول الشيخ آغا بزرك: ذكرها الشيخ الحر في (أمل الآمل)
بعد ذكره بداية الدراية، فيظهر منه تعددهما، ويعطى اسمه أنه
في العقائد (2).
21 - (جواهر الكلمات في صيغ العقود والإيقاعات).

(1) روضات الجنات: الجزء 1. 294.
(2) الذريعة. الجزء 3. ص 58.
194

قال الشيخ آغا بزرك بعد ذكر هذا الكتاب:
قد رأيت في مكتبة السيد محمد علي هبة الدين الشهرستاني نسخة
صيغ العقود للشهيد أوله (الحمد لله حمدا كثيرا كما هو أهله) وهي بخط
مقصود علي بن شاه محمد الدامغاني في سنة 996 ولكن ليس فيه التسمية
ب‍ (جواهر الكلمات) (1).
22 - (رسالة في عشرة علوم).
وهي الرسالة التي كتبها في القسطنطينية وقدمها إلى بعض الأفاضل
واستحصل على تصريح في (المدرسة النورية) ببعلبك - كما مضى سابقا.
23 - (غنية القاصدين في معرفة اصطلاحات المحدثين).
قال عنه ابن العودي: وهذا العلم لم يسبقه أحد من علمائنا
إلى التصنيف فيه (2).
24 - (منسك الحج والعمرة)
للشهيد رسالتان في أحكام الحج كبيرة وصغيرة، بالإضافة إلى رسالته
في نياتهما.
25 - (كتاب الرجال والنسب)
والظاهر أن هذا الكتاب خاص في الرجال، وهو غير كتاب
(فوائد خلاصة الرجال).
أو الذي يعبر عنه في بعض المؤلفات ب‍ (التعليقات على كتب الرجال)
26 - (كشف الريبة عن أحكام الغيبة)
وهو كتاب بارع تحدث فيه عن الغيبة، ودلالة الكتاب والسنة
على حرمتها، والأعذار المرخصة فيها، وكيفية تجنبها، وغير ذلك.
طبع في (إيران والنجف الأشرف) مكررا.

(1) الذريعة. الجزء 5 ص 278.
(2) رسالة ابن العودي المخطوطة.
195

27 - (وجوب صلاة الجمعة):
كان الشهيد يرى عينية وجوب صلاة الجمعة فألف في هذه المسألة
رسالة نقل عنها كثير من العلماء في كتبهم الاستدلالية، وهذا بالإضافة
إلى رسالة له في " أعمال يوم الجمعة " ورسالة أخرى له في " آداب الجمعة "
28 - (منار القاصدين في أسرار معالم الدين):
ويبدو من اسم هذا الكتاب أنه يبحث عن أسرار الأحكام الشرعية
الموضوعة على المكلفين، والعلل المسببة لوضع الواجبات والمحرمات
وغيرهما.
29 - (الإقتصاد والإرشاد):
واسمه المشهور " الإقتصاد في معرفة المبدأ والمعاد، وأحكام أفعال
العباد، والإرشاد إلى طريق الاجتهاد " وهو مرتب على قسمين:
(الأول): في الأصول العقائدية.
(الثاني) في الفروع والواجبات الفقهية. وقد سلك الشهيد فيه سبيل الاختصار (1).
30 - (تفصيل ما خالف الشيخ الطوسي إجماعات نفسه):
قال في الروضات: في الحقيقة رد على مطلق الإجماعات المنقولة
وإنكار على المتكلين عليها (2).
هذه بعض (مؤلفات الشهيد) المهمة اكتفينا بذكرها عن ذكر
كلها والتي تقرب من ثمانين كتابا ورسالة ولا يسعنا الآن ذكرها بكل
تفاصيلها.

(1) الذريعة الجزء 2 ص 267.
(2) روضات الجنات. الجزء 1. ص 295.
196

وقد أشار كل من ترجم الشهيد إلى صبره العجيب في التأليف
والتصنيف والنسخ مع كثرة المراجعين له، وأسفاره المتواصلة، وجهوده
الجبارة المبذولة في سبيل نشر المبدأ.. وعدوا هذا التوفيق هبة ربانية
خصه الله تعالى به.
يقول صاحب الروضات بهذا الصدد بعد ذكره لكتاب مسالك الأفهام:
" ويقال: إنه صنف ذلك الكتاب أيضا في مدة تسعة أشهر، والله
يعلم أن الكاتب المؤجر نفسه لمحض الكتابة يصعب عليه مثل ذلك غالبا
إلا أن التأييد من عند الله تعالى شئ آخر.
ويؤيد صحة هذه النسبة - مضافا إلى ما عرفته - ما نقله صاحب
حدائق المقربين عن جماعة من العلماء أنه ألفه في زمان قليل، وما تقدم
من حكاية شرح اللمعة أيضا في عدة أشهر مع كونه كتاب تصنع وتجويد
وإن صاحب الأمل ينقل عن بعض ثقاته أنه خلف ألفي كتاب منها
مائتا كتاب كانت بخطه الشريف مؤلفاته وغيرها.
وأن الشيخ أسد الله الفقيه التستري الكاظمي قد عد في مقدمات
كتاب مقابيسه من جملة مشاهير كرامات هذا الشيخ الجليل كتابته بغمسة
واحدة في الدواة عشرين، أو ثلاثين سطرا، بل قال: وربما قيل:
أربعين أو ثمانين..، " (1).
كلمات العلماء في الشهيد:
ملأت شهرة شيخنا (الشهيد الثاني) الآفاق منذ أيامه الأولى حينما

(1) روضات الجنات الجزء 1 ص 296.
197

كان يتجول في البلدان الإسلامية للحضور على الأساتذة والعلماء، والاستفادة
من مجالس درسهم، ومحافل بحثهم، وأخذ نجمه يزداد إضاءة وإنارة
كلما ازداد في تلقي العلوم من كبار الشيوخ في حينه، وهكذا تلألأ هذا
النجم الوضاء حتى طبق الآفاق شهرته، وأقر له القريب والبعيد بسعة
العلم والاجتهاد وهو بعد لم يتجاوز سنه الثلاثين ونتيجة لهذه الشهرة الواسعة أخذت ألسنة الثناء تحيطه بهالة من القدسية
والرفعة وتمدحه بشتى العبارات، وألوان الكلمات، ومختلف الجمل.
ولنكن بضع دقائق مع بعض من كتب عن الشهيد لنرى كيف يثنون
عليه الثناء العطر ويذكرونه بكل احترام وتجلة:
يقول ابن العودي: " حاز من خصال الكمال محاسنها ومآثرها، وتردى من أصنافها
بأنواع مفاخرها، كانت له نفس عليه تزهو بها الجوانح والضلوع
وسجية سنية يفوح منها الفضل ويضوع، كان شيخ الأمة وفتاها، ومبدأ
الفضائل ومنتهاها.. لم يصرف لحظة من عمره إلا في اكتساب فضيلة
ووزع أوقاته على ما يعود نفعه في اليوم والليلة " (1).
وقال صاحب المقابيس:
" أفضل المتأخرين، وأكمل المتبحرين، نادرة الخلف، وبقية
السلف مفتي طوائف الأمم، والمرشد إلى التي هي أقوم، قدوة الشيعة
ونور الشريعة، الذي قصرت الأكارم عن استقصاء مزاياه وفضائله السنية
وحازت الأعاظم الألباء في مناقبه، وفواضله العلية، الجامع في معارج
الفضل والكمال، والسعادة بين مراتب العلم والعمل، والجلالة والكرامة

(1) رسالة ابن العودي المخطوطة.
198

والشهادة المؤيد المسدد بلطف الله الخفي والجلي.. " (1).
وقال الشيخ الحر العاملي:
أمره في الفقه والعلم والفضل، والزهد والعبادة والورع، والتحقيق
والتبحر، وجلالة القدر، وعظم الشأن، وجمع الفضائل والكمالات أشهر
من أن يذكر، ومحاسنه وأوصافه الحميدة أكثر من أن تحصى وتحصر
ومصنفاته مشهورة.
كان فقيها مجتهدا نحويا حكيما متكلما قارئا جامعا لفنون العلوم
وهو أول من صنف من الإمامية في دراية الحديث.. (2).
وقال الشيخ يوسف البحراني صاحب (الحدائق):
كان هذا الشيخ من أعيان هذه الطائفة ورؤسائها، وأعاظم فضلائها
وثقاتها، عالم عامل، محقق مدقق، زاهد مجاهد، ومحاسنه أكثر من أن
تحصى، وفضائله أزيد من أن تستقصى (3).
وقال التفريشي في رجاله:
وجه من وجوه هذه الطائفة وثقاتها، كثير الحفظ، نقي الكلام
له تلاميذ أجلاء، وله كتب نفيسة جيدة، قتل رحمه الله لأجل التشيع
في (القسطنطينية) (4).
وقال السيد الخوانساري في روضاته:
إني لم ألف إلى هذا الزمان - الذي هو حدود سنة 1260 -
من العلماء الأجلة من يكون بجلالة قدره، وعظم شأنه، وارتفاع مكانه

(1) أنظر مقدمة المقابيس. ص 19
(2) أمل الآمل. الجزء 1 ص 85.
(3) لؤلؤة البحرين. ص 25،
(4) نقد الرجال. ص 145.
199

وجودة فهمه، ومتانة عزمه، وحسن سليقته، واستواء طريقته، ونظام
تحصيله، وكثرة أساتيذه، وطرافة طبعه، ولطافة صنعه، ومعنوية كلامه
وتمامية تصنيفاته وتأليفاته، بل كاد أن يكون في التخلق بأخلاق الله تعالى
تاليا للمعصوم (1).
وقال العلامة النوري في مستدركه:
أفضل المتأخرين، وأكمل المتبحرين، نادرة الخلف، وبقية السلف
مضي طوائف الأمم، والمرشد إلى التي هي أحق وأقوم، قدوة الشيعة
ونور الشريعة، الجامع في معارج الفضل والكمال والسعادة بين مراتب
العلم والعمل، والجلالة والكرامة والشهادة (2).
وقال العلامة المامقاني:
وكان كثير الحفظ، نقي الكلام، ووضع كتابنا وإن لم يكن لشرح
تراجم العلماء بل تراجم الرجال خاصة، إلا أن أمثال هذا الشيخ نذكر
شطرا من حالهم تيمنا (3).
وقال العلامة الأميني:
من أكبر حسنات الدهر، وأغزر عيالم العلم، زين الدين والملة
وشيخ الفقهاء الأجلة، مشارك في علوم مبهمة: من حكمة وكلام، وفقه
وأصول، وشعر وأدب، وطبيعي ورياضي، وقد كفانا مؤنة التعريف به
شهرته الطائلة في ذلك كله، فقد تركته أجلى من أي تعريف، فما عسى
أن يقول فيه المتشدق ببيانه، وكل ما يقوله دون أشواطه البعيدة وصيته

(1) روضات الجنات. الجزء 1. ص 287 - 288.
(2) مستدرك وسائل الشيعة. الجزء 3 ص 425.
(3) تنقيح المقال في أحوال الرجال. الجزء. ص
200

الطائر، فسلام الله عليه ما أسداه إلى أمته من أياديه الواجبة، ونشره فيها
من علوم ناجعة (1).
شعر الشهيد:
لم يصل إلينا من شعر الشهيد الشئ الكثير حتى يمكننا من دراسته
دراسة طويلة وشاملة: ولكن الأبيات القليلة التي تداولها المترجمون له تدل
على شاعريته الخصبة، وخياله الواسع، وتحلقه في الآفاق البعيدة المدى
وقدرته الواسعة على النظم بدون أن يكلف نفسه العناء.
وشعره سلس اللفظ، جميل الديباجة، حسن التعبير، جيد التنسيق
بعيد عن استعمال الكلمات الوحشية الغريبة عن الذوق السليم.
وقد نظم الشعر في أغراض مختلفة، ومنها الأغراض العلمية
وقد سبق أن ذكرنا أن له منظومة في النحو.
والذي يبدو من شعر الشهيد القليل الموجود الآن أنه كان شاعر
المناسبات، فلم يتعاطاه في كل وقت كالذين تفرغوا للشعر، وليس لهم
أي عمل آخر، ذلك لأن الشهيد كان مشغول البال بأمور هي أهم بكثير
من قرض الشعر والتفرغ له، فلم يكن ينظم إلا حين تحرك عواطفه قضية
وتثير مشاعره واقعة، فحينذاك كانت الشاعرية تطغو عليه فينظم
أبيات يسيرة إلا أنها في قمة النظم العربي.
وإليك فيما يلي نماذج من شعره ونظمه:
قال لما زار النبي صلى الله عليه وآله وسلم في (المدينة المنورة)
سنة 943.

(1) شهداء الفضيلة ص 132.
201

- صلاة وتسليم على أشرف الورى * ومن فضله ينبو عن الحد والحصر
ومن قد رقى السبع الطباق بنعله * وعوضه الله البراق عن المهر
وخاطبه الله العلي بحبه * شفاها ولم يحصل لعبد ولا حر
عدولي عن تعداد فضلك لائق * يكل لساني عنه في النظم والنثر
وماذا يقول الناس في مدح من أنت * مدائحه الغراء في محكم الذكر
سعيت إليه عاجلا سعي عاجز * بعب ء ذنوبي جمة أثقلت ظهري
ولكن ريح الشوق حرك همتي * وروح الرجا مع ضعف نفسي ومع فقري
ومن عادة العرب الكرام بوفدهم * إعادته بالخير والحبر والوفر
وجادوا بلا وعد مضى لنزيلهم * فكيف وقد أوعدتني الخير في مصر
فحقق رجائي سيدي في زيارتي بنيل مناي والشفاعة في حشري
ومن شعره أيضا قوله:
لقد جاء في القرآن آية حكمة * تدمر آيات الضلال ومن يجبر
وتخبر أن الاختيار بأيدينا (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)
وقال حينما بشر بمولود ذكر ولد له في غيبته:
وقد من مولانا الكريم بفضله * عليكم بمولود غلام من البشر
فيا رب متعنا بطول بقائه * وأحيى به قلبا له الوصل قد هجر
أسباب قتل الشهيد:
(الدعوة الشيعية) تسربت إلى (إيران) منذ فتحت في حرب
(القادسية) على يد المسلمين، وكانت هذه الدعوة تسير بخطى واسعة
في أقطار (إيران) وتجد لها أرضا خصبة لاحتضان هذه الدعوة وقبولها.
وازداد (انتشار التشيع في (إيران) ازديادا بالغا حينما أخذ بعض
202

(الشيعة) يلجأون إلى المدن والقرى الإيرانية بسبب الضغط الشديد الذي
كانوا يلاقونه من قبل الهيئة الحاكمة آنذاك، وكانت المطاردة والسجن
والتعذيب والتنكيل والتشريد والقتل بطرق شتى أمورا طبيعية لرجالات
(الشيعة) والداعين إليها، فوجد هؤلاء التخلي عن البلدان القريبة
لمركز الخلافة خير وسيلة للتحفظ على أنفسهم، والتخلص من أيدي السفاكين
الذين لا يعرفون للإسلام معنى.
وكانت (خراسان) بلا شك من الدعائم القوية للخلافة العباسية
وتقويض أركان الخلافة الأموية، ولكن (خراسان) لم تكن تدعو
إلى العباسيين وتعمل لحسابهم، بل سارت الدعوة هناك باسم
(الرضا من آل محمد) وإزاحة أعداء (أهل البيت): وطبيعي أن
لفظة (آل محمد) و (أهل البيت) كانتا تستعملان ولا تزالان
في (علي وأولاده الطاهرين) عليهم السلام فكانت صورة الدعوة
إلى إزالة سلطان بني أمية باسم هؤلاء لا غير.
ويظهر هذا جليا حينما يلاحظ (تاريخ الدعوة العباسية) وصلات
(أبو مسلم الخراساني) في حينه، إلا أن (أئمة الشيعة) الذين كانوا
يعلمون يقينا أن هذا الأمر لا يتم ابتعدوا عن الضوضاء، ورفضوا
الاشتراك في هذه المعامع، والدخول في هاتيك الميادين.
إلا أن الذي لا مراء فيه هو أن النفوس الإيرانية ازدادت ميلا
إلى (أهل البيت) عليهم السلام يوما بعد يوم، وأخذت (الدعوة الشيعية)
تلقى تشجيعا بالغا، وإقبالا هائلا مما سبب ازدياد عدد الشيعة هناك
وتمركزهم.
ووصل التشيع إلى أوج عزه في (إيران) في أيام (البويهيين)
حيث كانوا يشجعون التشيع بكل إمكاناتهم المادية والمعنوية، ويعنون
203

عناية شديدة بالدعوة إلى (مذهب أهل البيت) عليهم السلام، وتشييد
أركانه
وقد لقيت مدرسة (قم والري) الفقهية الشيعية - التي ذكرناها فيما
سبق - عناية كبيرة من قبل (البويهيين) خاصة حتى أن بعض كبار
المؤلفين كانوا يصدرون بعض مؤلفاتهم باسم هؤلاء.
وبقي التشيع كذلك في (إيران) في القمة في أدوار التاريخ
والظروف المختلفة حتى أيام (الدولة الصفوية) الملوك الذين بدورهم
ينتسبون إلى (آل الرسول) صلى الله عليه وآله وسلم، فجند هؤلاء كل
ما كان في قدرتهم، للذب عن حياض هذا المبدأ، والسعي في انتشاره
في سائر الأقطار الإسلامية القريبة منهم والبعيدة.
وكان (للصفويين) مساعي كبيرة في (العراق) و (بلاد ما وراء النهر)
وبقيت لهم آثار جليلة تدل على شدة اهتمامهم بالعمران من جهة، وبالغ
سعيهم للدعوة إلى (مذهب الشيعة) من جهة أخرى.
والسمعة الحسنة التي أحرزها هؤلاء الملوك في (العالم الإسلامي)
عامة، وفي (العراق) خاصة أقضت مضجع (الخلافة العثمانية)
في (القسطنطينية)، وأصبحت تتوجس منها خيفة، وتحسب لكل حركة
يقوم بها هؤلاء الملوك ألف حساب.
ففي الأقطار التي كانت تحت لواء العثمانيين نرى العيون منبثة
للكشف عن كل قضية ربما تنتهي إلى قلب الحكم العثماني، وتقويض عرش
الخلافة المزيفة التي كانوا يحكمون على رقاب الناس باسمها.
وطبيعي أن (الشيعة) كانوا مراقبين أكثر من كل إنسان، لما عرف
التشيع بالحركات والصمود في وجه الطغاة، وعدم الرضوخ للأوامر المخالفة
لمبادئ الإسلام.
204

ويلاحظ أن هذه المراقبة كانت على أشد ما يمكن في البلدان التي
سبق أن تشكلت فيها دولة شيعية من قبل كحلب مثلا، حيث كانت موطن
(الحمدانيين).
وإذا لاحظنا ما مضى بدقة نعرف سر الضغط الذي لقيه (الشهيد الثاني)
عندما رجع من (بعلبك) إلى موطنه، إذ كان في بعلبك في (المدرسة النورية)
شكل حلقة كبيرة يحضرها العلماء، وعشاق الفضيلة، فيلقي عليهم الشيخ
دروسه وعظاته وإرشاداته. ثم تعلو منزلته وترتفع حتى يرجع إليه الأنام
ويصبح ملاذ الخاص والعام، يفتي كل فرقة بما يوافق مذهبها، ويدرس
في المذاهب كتبها - كما يقول ابن العودي في رسالته.
نعم لا تروق لهم هذه الحركة العلمية النشيطة في هذه المنطقة
التي سبق أن كانت منطقة يحكمها (الشيعة)، وربما تتدرج حتى ترجع
إلى الرضوخ (للحكام الشيعيين).
فإذا يجب وضع الحد لهذا النشاط، وشل الحركة بالسرعة الممكنة
حتى لا تتسرب إلى نقاط أخرى، وقبل أن يستفحل الأمر فيصبح خارجا
عن قدرتهم.
ولكن كيف الطريق للوصول إلى هذا الهدف؟
ومن أين يبدأون وبماذا ينتهون؟
وكيف يتوصلون إلى تحقيق غرضهم المنشود.
ليس لحل المشكلة إلا طريق واحد.. وهو قطع الرأس، ثم كل
شئ ينتهي. لهذه السياسة المزعومة، والطائفية البغيضة، والخوف على الملك
والسلطان، وحفظ العرش الذي شيدت أركانه بإزهاق الأرواح الطاهرة
البريئة، ولهذه الدعاوى المزيفة ذهب (الشهيد الثاني) ضحية جهاده
205

وجهوده في سبيل الإسلام والتشيع.
ينقل (حسن بك روملو) في تاريخه الفارسي (أحسن التواريخ)
نصا يدل بكل وضوح أن الشهيد لم يقتل إلا لتخوف السلطة القائمة
من شخصيته الفذة، وإقبال الناس عليه، وتدريسه (الفقه الشيعي)
إلى جانب الآراء الفقهية الأخرى.. يقول:
في سنة 965 في أواسط سلطنة (الشاه طهماسب الصفوي)
استشهد إفادة مآب، حاوي المعقول والمنقول، جامع الفروع والأصول
الشيخ زين الدين العاملي.
كان السبب في شهادته أن جماعة من السنيين قالوا لرستم باشا الوزير
الأعظم للسلطان سليمان ملك الروم: إن الشيخ زين الدين يدعي الاجتهاد
ويتردد إليه كثير من علماء الشيعة، ويقرأون عليه كتب الإمامية
وغرضهم بذلك إشاعة التشيع، فأرسل رستم باشا الوزير في طلب الشيخ
زين الدين - وكان وقتئذ بمكة المعظمة فأخذه من مكة، وذهبوا به
إلى استنبول فقتلوه فيها من غير أن يعرضوه على السلطان سليمان (1).
والآن - بعد ما عرضنا على القارئ هذا النص الذي يدل دلالة
واضحة على ما قلنا - يأتي دور السؤال عن الأشخاص الذين وشوا عند
رستم باشا وقالوا له ما قالوا؟
نظن أن الجواب على هذا السؤال واضح بعد ما عرفنا قصة (الشهيد)
مع القاضي (معروف الشامي) الذي كان ينتظر بدوره أن يستحصل
(الشهيد) منه عرضا حتى تجيب الخلافة العثمانية إلى ما يطلب من التدريس
لكن الشهيد أرسل تلميذه ابن العودي إلى القاضي، ليعلمه عن عزمه
على السفر إلى بلاد الروم، وأوصاه أن لا يأخذ منه العرض.

(1) أعيان الشيعة. الجزء 33 ص 292
206

وهذا تحد سافر تحدى الشهيد به القاضي، وخدش كرامته، إذ
لا يجوز تقديم طلب إلى مركز الخلافة إلا أن يكون مرفقا بكتاب القاضي
حتى لو كان الطالب هو إمام المذهب الذي هو أعلى شخص في نظرهم.
فكيف يذهب (الشهيد) خاليا من عرض القاضي؟
أثرت هذه القصة في نفس القاضي، وأضمر الحقد على الشهيد
وازداد حقدا عندما رجع الشهيد مرفوع الرأس، مقضي الطلب.
وزاد في الطين بلة أن (الشهيد) في (القسطنطينية) لم يتشبث
بذوي الجاه والمكانة، ولم يتوسل لقضاء حاجته بأصحاب النفوذ:
من الأمراء وأمثالهم وإنما اكتفى عن كل هذا برسالة كتبها في عشرة
علوم مختلفة، ووقعت الرسالة في نفوس المسؤولين موقعا حسنا كان لها
الأثر في الحصول على ما يريد.
أضف إلى كل هذا الاتجاه العريض، والمكانة السامية، والحفاوة
البالغة التي رافقت المدة التي بقي فيها (الشهيد) في (حلب) ودرس
في (المدرسة النورية).
أليس كل هذه عوامل عداء في نفس (معروف الشامي) القاضي
الذي يرى هو أنه على الناس بعد ورود (الشهيد) إلى هذا القطر
و (الشهيد) نفسه كان يحس بالخطر المحدق به، ويتوقع الخاتمة
المشرفة التي ختم بها حياته، أنه كان يحسب للموضوع حسابه، ويؤكد
لخواص مريديه وتلامذته أنه مقتول لا محالة.
كيفية استشهاده:
اختلف المترجمون للشهيد في كيفية استشهاده بعض الاختلاف ونحن
207

تنتل فيما يلي ما ذكره الشيخ الحر العاملي في كتاب (أمل الآمل) (1).
قال: وكان سبب قتله - على ما سمعته من بعض المشائخ، ورأيته
بخط بعضهم: أنه ترافع إليه رجلان فحكم لأحدهما على الآخر، فغضب
المحكوم عليه وذهب إلى قاضي صيدا واسمه (معروف)، وكان الشيخ
مشغولا في تلك الأيام بتأليف (شرح اللمعة)، وفي كل يوم يكتب منه
غالبا كراسا، ويظهر من نسخة الأصل أنه ألفه في سته أشهر وستة أيام
لأنه كتب على ظهر النسخة تاريخ ابتداء تأليفه.
فأرسل القاضي إلى (جبع) من يطلبه، وكان مقيما في كرم له
مدة منفردا عن البلد متفرغا للتأليف، فقال له بعض أهل البلد.
قد سافر عنا مدة فخطر ببال الشيخ أن يسافر إلى الحج، وكان قد
حج مرارا لكنه قصد الاختيار، فسافر في محمل مغطى، وكتب
(قاضي صيدا) إلى (سلطان الروم) أنه قد وجد ببلاد (الشام)
رجل مبدع عن (المذاهب الأربعة)، فأرسل السلطان رجلا في طلب
الشيخ، وقال له: ائتني به حيا حتى أجمع بينه، وبين علماء بلادي
فيبحثوا معه، ويطلعوا على مذهبه فيخبروني فأحكم عليه بما يقتضيه
مذهبي.
فجاء الرجل فأخبر أن الشيخ توجه إلى (مكة) فذهب في طلبه
فاجتمع به في طريق (مكة)، فقال له: تكون معي حتى نحج بيت
الله ثم أفعل بي ما تريد، فرضي بذلك.
فلما فرغ من الحج سافر معه إلى (بلاد الروم)، فلما وصل
إليها رآه رجل فسأله عن الشيخ فقال: رجل من (علماء الشيعة الإمامية)
أريد أن أرسله إلى السلطان.

(1) راجع (أمل الآمل) الجزء 1. ص 90.
208

فقال، أو ما تخاف أن يخبر السلطان بأنك قد قصرت في خدمته
وآذيته وله هناك أصحاب يساعدونه فيكون سببا لهلاكك؟
بل الرأي أن تقتله وتأخذ برأسه إلى السلطان.
فقتله في مكانه من ساحل البحر، وكان هناك جماعة من (التركمان)
فرأوا في تلك الليلة أنوارا تنزل من السماء وتصعد، فدفنوه هناك وبنوا
عليه قبة.
وأخذ الرجل رأسه إلى السلطان، فأنكر عليه وقال:
أمرتك أن تأتيني به حيا فقتلته، وسعى السيد عبد الرحيم العباسي (1)
في قتل ذلك الرجل فقتله السلطان.
هكذا قضوا على الشهيد، ولكنه بقي حيا يذكر ما دامت آثاره
باقية وهي لم تندثر مدى الدهر.
فسلام على تلك الروح الطاهرة التي جاهدت فأنارت وخلفت تراثا
ضخما فأضاءت، وسلام عليها ما دامت السماوات والأرض، وتحيات
زاكيات ما بقي الليل والنهار.

(1) كان هذا السيد الجليل من أولاد العباس بن أمير المؤمنين
عليهما الصلاة والسلام.
209

الروضة البهية
في شرح
اللمعة الدمشقية
للشهيد السعيد: زين الدين الجبعي العاملي
(الشهيد الثاني)
قدس سره
911 - 965
211

حقوق طبع هذا الكتاب الشريف
المزدان بهذه التعاليق
والتصحيحات والأشكال محفوظة ل‍
(جامعة النجف الدينية)
212

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي شرح صدورنا (1) بلمعة (2) من شرائع الإسلام
كافية في بيان (3) الخطاب، ونور قلوبنا من لوامع دروس الأحكام
بما فيه تذكرة وذكرى لأولي الألباب، وكر منا بقبول منتهى نهاية الإرشاد
وغاية المراد في المعاش والمآب (4)

(1) أي وسعها لفهم المطالب.
(2) اللمعة - بالضم ثم السكون - جاءت على معان:
القطعة الجماعة، البلغة، البقعة، الموضع.
والذي يناسب المقام من هذه المعاني هو (البلغة) باعتبار أن البلغة
ما يكتفى به، وهذا الكتاب واف بمهمات المسائل الفقهية، إلا أن
الشهيد الثاني ذكر في وجه التسمية وجها آخر على ما يأتي
وهو: أن اللمعة هي البقعة من الأرض ذات الكلأ إذا يبست وصار لها
بياض، وأصله من اللمعان: وهو الإضاءة والبريق، لأن البقعة من الأرض
ذات الكلأ المذكور كأنها تضيئ دون سائر البقاع، وعدي ذلك
إلى محاسن الكلام وبليغه، لاستنارة الأذهان به، وتمييزه عن سائر الكلام
فكأنه في نفسه ذو ضياء ونور.
(3) البيان في اللغة هو الظهور، ولعل المقصود بالخطاب: الأحكام
الشرعية التي هي الخطابات الإلهية.
(4) المآب: اسم المكان من " الأب " بمعنى الرجوع، كمعاد
من العود، والمكان من الكون، يريد بيان نفع الكتاب في المعاش أي الحياة
الدنيا، والمآب أي الحياة الأخرى
213

والصلاة على من أرسل لتحرير قواعد الدين، وتهذيب مدارك
الصواب، محمد الكامل في مقام الفخار، الجامع من سرائر الإستبصار
للعجب العجاب (1)، وعلى آله الأئمة النجباء، وأصحابه الأجلة الأتقياء
خير آل وأصحاب.
ونسألك اللهم أن تنور قلوبنا بأنوار هدايتك، وتلحظ وجودنا
بعين عنايتك، إنك أنت الوهاب (2).

(1) العجاب بالضم: تأكيد العجب السابق عليه، وربما يقصد به
أعلى مراتب العجب.
(2) لقد جرى ديدن المؤلفين القدامى في صدر مؤلفاتهم على أن
يشيروا إلى الكتب المدونة في ذلك الفن، كما يشيروا إلى المطالب المبحوث
عنها في الكتاب إشارة رمزية يسميها علم البديع " براعة الاستهلال "
لذا ترى الشهيد الثاني - قدس سره - في خطبة شرح اللمعة يشير إلى موضوع
البحث بقوله: (شرائع) و (أحكام) كما يرمز إلى الكتب المهمة
المدونة في علم الفقه، فجاء باسم:
شرائع الإسلام للمحقق الحلي
الكافية لأبي الصلاح الحلبي
لوامع دروس الأحكام لأبي الصلاح الحلبي
بيان الخطاب لأبي الصلاح الحلبي
الدروس للشهيد الأول
الذكرى للشهيد الأول
غاية المراد للشهيد الأول
التذكرة للعلامة الحلي
المنتهى للعلامة الحلي
الإرشاد للعلامة الحلي
التحرير للعلامة الحلي
القواعد للعلامة الحلي
النهاية للعلامة الحلي
214

وبعد: فهذه تعليقة لطيفة، وفوائد خفيفة أضفتها إلى المختصر
الشريف، والمؤلف المنيف (1)، المشتعل على أمهات المطالب الشرعية
الموسوم ب‍ " اللمعة الدمشقية " من مصنفات شيخنا وإمامنا المحقق البدل (2)
النحرير (3) المدقق الجامع بين منقبة العلم والسعادة، ومرتبة العمل والشهادة
الإمام السعيد أبي عبد الله الشهيد محمد بن مكي أعلى الله درجته كما
شرف خاتمته. جعلتها جارية له مجرى الشرح الفاتح لمغلقه، والمقيد لمطلقه
والمتمم لفوائده، والمهذب لقواعده، ينتفع به المبتدي، ويستمد منه
المتوسط والمنتهي، تقربت بوضعه إلى رب الأرباب، وأجبت به ملتمس
بعض فضلاء الأصحاب أيدهم الله تعالى بمعونته، ووفقهم لطاعته.
اقتصرت فيه على بحت (4) الفوائد، وجعلتهما ككتاب واحد، وسميته:
(الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية)
سائلا من الله جل اسمه أن يكتبه في صحائف الحسنات، وأن
يجعله وسيلة إلى رفع الدرجات، ويقرنه برضاه، ويجعله خالصا
من شوب سواه، فهو حسبي ونعم الوكيل.
- التهذيب لشيخ الطائفة الطوسي
الإستبصار لشيخ الطائفة الطوسي
المدارك للسيد محمد العاملي
الجامع لابن البراج
الكامل ليحيى بن سعيد الحلي
السرائر لابن إدريس
(1) المنيف: العالي شأنا أو مكانا.
(2) البدل: الكريم الشريف،
(3) التحرير - بكسر النون -: الحاذق الماهر.
(4) البحت - بالتاء المثناة من فوق -: الخالص.
215

قال المصنف قدس الله لطيفه (1) وأجزل تشريفه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الباء للملابسة، والظرف مستقر (2) حال من ضمير ابتدئ الكتاب
كما في " دخلت عليه بثياب السفر ".
أو للاستعانة والظرف لغو كما في " كتبت بالقلم ".
216

والأول أدخل في التعظيم (1).
والثاني لتمام الانقطاع، لإشعاره بأن الفعل لا يتم بدون اسمه تعالى.
وإضافته إلى الله
تعالى، دون باقي أسمائه لأنها معان وصفات (2)
وفي التبرك بالاسم أو الاستعانة به كمال التعظيم للمسمى، فلا
يدل على اتحادهما (3)، بل دلت الإضافة على تغايرهما.
و " الرحمن " و " الرحيم " اسمان بنيا للمبالغة (4) من رحم
217

كالغضبان من " غصب " والعليم من " علم ".
والأول أبلغ، لأن زيادة اللفظ تدل على زيادة المعنى، ومختص
به تعالى، لا لأنه من الصفات الغالبة، لأنه يقتضي جواز استعماله في غيره
تعالى بحسب الوضع وليس كذلك، بل لأن معناه
المنعم الحقيقي (1)
البالغ في الرحمة غايتها.
وتعقيبه بالرحيم من قبيل التتميم، فإنه لما دل على جلائل النعم
وأصولها ذكر الرحيم ليتناول ما خرج منها (2).
(الله أحمد) جمع بين التسمية والتحميد في الابتداء جريا
على قضية الأمر في كل أمر ذي بال (3)، فإن الابتداء يعتبر في العرف
ممتدا من حين الأخذ في التصنيف إلى الشروع في المقصود، فيقارنه التسمية
والتحميد ونحوهما، ولهذا يقدر الفعل المحذوف في أوائل التصانيف
218

" أبتدئ " سواء اعتبر الظرف مستقرا أم لغوا، لأن فيه امتثالا للحديث
لفظا ومعنى، وفي تقدير غيره معنى فقط (1).
وقدم التسمية (2) اقتفاءا لما نطق به الكتاب، واتفق عليه
أولو الألباب.
وابتدأ في اللفظ باسم الله، لمناسبة مرتبته في الوجود العيني، لأنه
الأول فيه، فناسب كون اللفظي ونحوه كذلك (3)، وقدم ما هو
الأهم (4) وإن كان حقه التأخر باعتبار المعمولية، للتنبيه على إفادة
الحصر على طريقة " إياك نعبد " (5).
219

ونسب الحمد إليه تعالى باعتبار لفظ " الله " لأنه اسم للذات
المقدسة، بخلاف باقي أسمائه تعالى، لأنها صفات كما مر، ولهذا يحمل عليه
، ولا يحمل على شئ منها.
ونسبة الحمد إلى الذات
باعتبار وصف تشعر بعليته (1)، وجعل
جملة الحمد فعلية لتجدده حالا فحالا بحسب تجدد المحمود عليه،
وهي خبرية لفظا إنشائية معنى (2) للثناء على الله تعالى بصفات كماله
ونعوت جلاله، وما ذكر فرد من أفراده.
ولما كان المحمود مختارا مستحقا للحمد على الإطلاق اختار الحمد
على المدح والشكر (3) (استتماما لنعمته) نصب على المفعول له، تنبيها
220

على كونه من غايات الحمد.
والمراد به هنا الشكر، لأنه رأسه (1) وأظهر أفراده، وهو
ناظر (2) إلى قوله تعالى: " لئن شكرتم لأزيدنكم " (3)
لأن الاستتمام طلب التمام، وهو مستلزم للزيادة، وذلك باعث على رجاء
المزيد، وهذه اللفظة مأخوذة من كلام علي عليه السلام في بعض خطبه (4).
و " النعمة " هي المنفعة الواصلة إلى الغير على جهة الإحسان إليه،
وهي موجبة للشكر المستلزم للمزيد، ووحدها (5) للتنبيه على أن نعم الله
تعالى أعظم من أن تستتم على عبد، فإن فيضه غير متناه كما ولا كيفا
221

وفيها يتصور طلب تمام النعمة التي تصل إلى القوابل بحسب
استعدادهم.
(والحمد فضله)، أشار إلى العجز عن القيام بحق النعمة، لأن
الحمد إذا كان من جملة فضله فيستحق عليه حمدا وشكرا فلا ينقضي
ما يستحقه من المحامد، لعدم تناهي نعمه.
واللام في " الحمد " يجوز كونه للعهد الذكري وهو المحمود به
أولا (1).
وللذهني الصادر عنه، أو عن جميع الحامدين.
وللاستغراق (2)، لانتهائه مطلقا إليه بواسطة أو بدونها فتكون كل
قطرة من قطرات بحار فضله، ولمحة من لمحات جوده.
222

والجنس: هو راجع إلى السابق باعتبار (1).
(وإياه أشكر) على سبيل ما تقدم من التركيب المفيد لانحصار
الشكر فيه، لرجوع النعم كلها إليه، وإن قيل للعبد فعل اختياري (2)
لأن آلاته وأسبابه التي يقتدر بها على الفعل لا بد أن ينتهي إليه، فهو
الحقيقي بجميع أفراد الشكر، وأردف الحمد بالشكر مع أنه لامح (3) له
أولا، للتنبيه عليه بالخصوصية، ولمح تمام الآية
(استسلاما) أي انقيادا (لعزته) وهي غاية أخرى للشكر كما مر
فإن العبد يستعد بكمال الشكر لمعرفة المشكور، وهي مستلزمة للانقياد
لعزته، والخضوع لعظمته، وهو ناظر إلى قوله تعالى:
223

" ولئن كفرتم إن عذابي لشديد " (1)، ولما تشتمل عليه الآية
من التخويف المانع من مقابلة نعمة الله بالكفران، فقد جمع صدرها
وعجزها بين رتبتي الخوف والرجاء.
وقدم الرجاء لأنه سوط النفس الناطقة المحرك لها نحو الطماح (2)
والخوف زمامها العاطف بها عن الجماح.
224

(والشكر طوله) أي من جملة فضله الواسع، ومنه السابغ،
فإن كل ما نتعاطاه من أفعالنا مستند إلى جوارحنا وقدرتنا وإراداتنا وسائر

(1) الشمس: الآية 7 - 8 - 9 - 10.
(2) البلد: الآية 10
(3) الدهر: الآية 3
226

أسباب حركاتنا، وهي بأسرها مستندة إلى جوده، ومستفادة من نعمه.
وكذلك ما يصدر عنا من الشكر، وسائر العبادات نعمة منه، فكيف
تقابل نعمته بنعمته.
وقد روي أن هذا الخاطر (1) خطر لداوود عليه السلام، وكذا
لموسى عليه السلام فقال: " يا رب كيف أشكرك وأنا لا أستطيع أن أشكرك
إلا بنعمة ثانية من نعمك؟ " (2) وفي رواية أخرى " وشكري لك
نعمة أخرى توجب علي الشكر لك "، فأوحى الله تعالى إليه " إذا عرفت
هذا فقد شكرتني " (3) وفي خبر آخر " إذا عرفت أن النعم مني فقد
رضيت بذلك منك شكرا " (4).
(حمدا وشكرا كثيرا كما هو أهله)، يمكن كون الكاف في هذا
التركيب زائدة مثلها في " ليس كمثله شئ "، لأن الغرض حمده
بما هو أهله، لا بحمد يشابه الحمد الذي هو أهله، وما موصولة
و " هو أهله " صلتها وعائدها، والتقدير الحمد والشكر الذي هو أهله
مع منافرة تنكيرهما لجعل الموصول صفة لهما، أو نكرة موصوفة بدلا
من " حمدا وشكرا " لئلا يلزم التكرار (5).
227

وقد تجعل ما أيضا زائدة، والتقدير: حمدا وشكرا هو أهله.
ويمكن كون الكاف حرف تشبيه، اعتبارا بأن الحمد الذي هو أهله
لا يقدر عليه هذا الحامد ولا غيره، بل لا يقدر عليه إلا الله تعالى
كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وآله بقوله: " لا أحصي ثناءا عليك
أنت كما أثنيت على نفسك " (1)، وفي التشبيه حينئذ سؤال أن يلحقه
الله تعالى بذلك الفرد الكامل من الحمد، تفضلا منه تعالى، مثله في قولهم
" حمدا وشكرا ملء السماوات والأرض، وحمدا يفوق حمد الحامدين "
ونحو ذلك.
واختار الحمد بهذه الكلمة لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله
" من قال: " الحمد لله كما هو أهله " شغل كتاب السماء، فيقولون
اللهم إنا لا نعلم الغيب، فيقول تعالى: اكتبوها كما قالها عبدي، وعلي
ثوابها " (2).
228

(وأسأله تسهيل ما) أي الشئ، وهو العلم الذي (يلزم حمله
وتعليم ما لا يسع) أي لا يجوز (جهله) وهو العلم الشرعي الواجب.
(وأستعينه على القيام بما يبقي أجره) على الدوام، لأن ثوابه
في الجنة " أكلها دائم وظلها " (1)، (ويحسن في الملأ الأعلى
ذكره). أصل الملأ الأشراف والرؤساء الذين يرجع إلى قوله تعالى:
" ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل " (2).
قيل لهم ذلك لأنهم ملاء بالرأي والغنا، أو أنهم يملأون العين
والقلب، والمراد بالملأ الأعلى الملائكة، (وترجي مثوبته وذخره)
وفي كل ذلك إشارة إلى الترغيب فيما هو بصدده من تصنيف العلم الشرعي
وتحقيقه، وبذل الجهد في تعليمه.
(وأشهد أن لا إله إلا الله) تصريح بما قد دل عليه الحمد
السابق، بالالتزام من التوحيد، وخص هذه الكلمة، لأنها أعلى كلمة
وأشرف لفظة نطق بها في التوحيد، منطبقة على جميع مراتبه، و " لا "
فيها هي النافية للجنس، و " إنه " اسمها.
قيل والخبر محذوف تقديره " موجود ".
ويضعف بأنه لا ينفي إمكان إله معبود بالحق غيره تعالى، لأن
الإمكان أعم من الوجود (3).
229

وقيل: " ممكن ".
وفيه أنه لا يقتضي وجوده بالفعل.
230

وقيل: مستحق للعبادة.
وفيه أنه لا يدل على نفي التعدد مطلقا (1)
وذهب المحققون إلى عدم الاحتياج إلى الخبر وأن " إلا الله " مبتدأ
وخبره " لا إله "، إذ كان الأصل " الله إله "، فلما أريد الحصر زيد
" لا وإلا " ومعناه " الله إله "، ومعبود بالحق لا غيره " أو أنها
نقلت شرعا إلى نفي الإمكان والوجود عن إله سوى الله، مع الدلالة
على وجوده تعالى وإن لم تدل عليه لغة.
(وحده لا شريك له) تأكيد لما قد استفيد من التوحيد
الخالص، حسن ذكره في هذا المقام لمزيد الاهتمام (2).
(وأشهد أن محمدا نبي أرسله)، قرن الشهادة بالرسالة بشهادة
التوحيد، لأنها بمنزلة الباب لها، وقد شرف الله نبينا صلى الله عليه وآله
بكونه لا يذكر إلا يذكر معه، وذكر الشهادتين في الخطبة لما روي
عنه صلى الله عليه وآله: من أن " كل خطبة ليس فيها تشهد فهي
كاليد الجذماء " (3).
و " محمد " علم منقول من اسم مفعول المضعف، وسمي به
231

نبينا صلى الله عليه وآله إلهاما من الله تعالى، وتفاؤلا بأنه يكثر حمد
الخلق له لكثرة خصاله الحميدة.
وقد قيل لجده عبد المطلب - وقد سماه في يوم سابع ولادته لموت
أبيه قبلها -: لم سميت ابنك محمدا وليس من أسماء آبائك ولا قومك؟
فقال: " رجوت أن يحمد في السماء والأرض " وقد حقق الله
رجاءه (1)،
232

و " النبي " بالهمز من النبأ وهو الخبر، لأن النبي مخبر عن الله تعالى
وبلا همز وهو الأكثر إما تخفيفا من المهموز بقلب همزته ياء، أو أن
أصله من النبوة بفتح النون وسكون الباء أي الرفعة، لأن النبي مرفوع
الرتبة على غيره من الخلق، ونبه بقوله: (أرسله) على جمعه بين النبوة
والرسالة والأول أعم مطلقا، لأنه إنسان أوحي إليه بشرع وإن لم يؤمر بتبليغه
فإن أمر بذلك فرسول الله أيضا، أو أمر بتبليغه وإن لم يكن له
كتاب (1) أو نسخ لبعض شرع من قبله كيوشع عليه السلام، فإن
كان له ذلك فرسول أيضا.
وقيل هما بمعنى واحد، وهو معنى الرسول على الأول (على العالمين)
جمع " العالم "، وهو اسم لما يعلم به كالخاتم، والقالب (2) غلب
233

فيما يعلم به الصانع، وهو كل ما سواه من الجواهر والأعراض، فإنها
لإمكانها وافتقارها إلى مؤثر واجب لذاته تدل على وجوده، وجمعه
ليشمل ما تحته من الأجناس المختلفة، وغلب العقلاء منهم، فجمعه بالياء
والنون كسائر أوصافهم.
وقيل اسم وضع لذوي العلم من الملائكة والثقلين، وتناوله لغيرهم
على سبيل الاستتباع.
وقيل المراد به الناس ههنا، فإن كل واحد منهم
(عالم أصغر) من حيث إنه يشتمل على نظائر ما في (العالم الأكبر)، من الجواهر
والأعراض التي يعلم بها الصانع، كما يعلم بما أبدعه في العالم الأكبر
(اصطفاه) أي اختاره (وفضله) عليهم أجمعين.
(صلى الله عليه) من الصلاة المأمور بها في قوله تعالى:
(صلوا عليه وسلموا، تسليما) (1)، وأصلها الدعاء
، لكنها منه تعالى مجاز في الرحمة وغاية السؤال بها عائد إلى المصلي، لأن
الله تعالى قد أعطى نبيه صلى الله عليه وآله من المنزلة والزلفى لديه
ما لا تؤثر فيه صلاة مصل، كما نطقت به الأخبار (2)، وصرح به
العلماء الأخيار. وكان ينبغي اتباعها بالسلام عملا بظاهر الأمر (3)
234

وإنما تركه للتنبيه على عدم تحتم إرادته من الآية، لجواز كون المراد به
الانقياد، بخلاف الصلاة،
(وعلى آله) وهم عندنا (علي وفاطمة والحسنان) (1)، ويطلق
تغليبا على باقي الأئمة عليهم السلام، ونبه على اختصاصهم عليهم السلام
بهذا الاسم بقوله: (الذين حفظوا ما حمله) - بالتخفيف - من أحكام
الدين، (وعقلوا عنه صلى الله عليه وآله ما عن جبريل عقله)، ولا يتوهم
مساواتهم له بذلك في الفضيلة، لاختصاصه صلى الله عليه وآله عنهم بمزايا
أخر تصير بها نسبتهم إليه كنسبة غيرهم عليهم السلام من الرعية إليهم
لأنهم عليهم السلام في وقته صلى الله عليه وآله من جملة رعيته.
ثم نبه على ما أوجب فضيلتهم، وتخصيصهم بالذكر بعده صلى الله عليه وآله
بقوله: (حتى قرن) الظاهر عود الضمير المستكن إلى النبي صلى الله عليه وآله
لأنه قرن (بينهم وبين حكم الكتاب) في قوله صلى الله عليه وآله:
235

(إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي
أهل بيتي " - الحديث (1).
ويمكن عوده إلى الله تعالى، لأن إخبار النبي صلى الله عليه وآله
بذلك مستند إلى الوحي الإلهي، لأنه (لا ينطق عن الهوى إن هو
إلا وحي يوحى) (2) وهو الظاهر من قوله: (وجعلهم قدوة
لأولي الألباب) فإن الجاعل ذلك هو الله تعالى، مع جواز أن يراد به
النبي صلى الله عليه وآله أيضا، و (الألباب) العقول، وخص ذويهم
لأنهم المنتفعون بالعبر، المقتفون لسديد الأثر (صلاة دائمة بدوام الأحقاب)
جمع (حقب) بضم الحاء والقاف، وهو الدهر، ومنه قوله تعالى:
(أو أمضي حقبا) (3) أي دائمة بدوام الدهور.
وأما (الحقب) بضم الحاء وسكون القاف - وهو ثمانون سنة -
فجمعه (حقاب) بالكسر، مثل قف وقفاف (4) نص عليه
الجوهري.
(أما بعد) الحمد والصلاة، و (أما) كلمة فيها معنى الشرط
236

ولهذا كانت الفاء لازمة في جوابها، والتقدير " مهما يكن من شئ بعد
الحمد والصلاة فهو كذا "، فوقعت كلمة " أما " موقع اسم هو المبتدأ
وفعل هو الشرط، وتضمنت معناهما فلزمها لصوق الاسم (1) اللازم
للمبتدأ للأول
إبقاء له بحسب الإمكان، ولزمها الفاء للثاني (2).
و (بعد) ظرف زمان، وكثيرا ما يحذف منه المضاف إليه
وينوى معناه، فيبنى على الضم.
(فهذه) إشارة إلى العبارات الذهنية التي يريد كتابتها، إن كان
وضع الخطبة قبل التصنيف، أو كتبها إن كان بعده، نزلها منزلة الشخص
المشاهد المحسوس، فأشار إليه ب‍ (هذه) الموضوع للمشار إليه المحسوس
(اللمعة) بضم اللام، وهي لغة: البقعة من الأرض ذات الكلأ إذا
يبست وصار لها بياض، وأصله من (اللمعان) وهو الإضاءة والبريق
لأن البقعة من الأرض ذات الكلأ المذكور كأنها تضئ دون سائر البقاع
وعدي ذلك إلى محاسن الكلام وبليغه، لاستنارة الأذهان به، ولتميزه
عن سائر الكلام، فكأنه في نفسه ذو ضياء ونور (الدمشقية) بكسر
الدال وفتح الميم، نسبها إلى (دمشق) المدينة المعروفة، لأنه صنفها
بها في بعض أوقات إقامته بها (في فقه الإمامية) الاثني عشرية أيدهم
الله تعالى.
(إجابة) منصوب على المفعول لأجله، والعامل محذوف، أي
237

صنفها إجابة (لالتماس)
وهو طلب المساوي من مثله ولو بالادعاء،
كما في أبواب الخطابة (بعض الديانين) أي المطيعين لله في أمره ونهيه.
وهذا البعض هو شمس الدين محمد الآوي (1) من أصحاب السلطان
علي بن مؤيد ملك خراسان (2) وما والاها في ذلك الوقت، إلى أن استولى
238

على بلاده " تيمور لنك " فصار معه قسرا (1) إلى أن توفي في حدود
سنة خمس وتسعين وسبعمائة بعد أن استشهد المصنف (قدس سره)
بتسع سنين.
وكان بينه وبين المصنف (قدس سره) مودة ومكاتبة على البعد
إلى العراق، ثم إلى الشام. وطلب منه أخيرا التوجه إلى بلاده في مكاتبة
شريفة أكثر فيها من التلطف والتعظيم والحث للمصنف (رحمه الله)
على ذلك، فأبى واعتذر إليه، وصنف له هذا الكتاب بدمشق في سبعة
أيام لا غير، على ما نقله عنه ولده المبرور أبو طالب محمد، وأخذ
شمس الدين الآوي نسخة الأصل، ولم يتمكن أحد من نسخها منه لضنته
بها، وإنما نسخها بعض الطلبة وهي في يد الرسول تعظيما لها، وسافر بها
قبل المقابلة فوقع فيها بسبب ذلك خلل، ثم أصلحه المصنف بعد ذلك
بما يناسب المقام، وبما كان مغايرا للأصل بحسب اللفظ، وذلك في سنة
اثنين وثمانين وسبعمائة.
ونقل عن المصنف (رحمه الله) أن مجلسه بدمشق ذلك الوقت
ما كان يخلو غالبا من علماء الجمهور لخلطته بهم وصحبته لهم، قال:
" فلما شرعت في تصنيف هذا الكتاب كنت أخاف أن يدخل علي أحد
منهم فيراه، فما دخل علي أحد منذ شرعت في تصنيفه إلى أن فرغت
منه، وكان ذلك من خفي الألطاف "، وهو من جملة كراماته قدس الله روحه
ونور ضريحه.
(وحسبنا الله)، أي محسبنا وكافينا.
(ونعم المعين) عطف إما على جملة " حسبنا الله "، بتقدير

(1) أي جبرا
239

المعطوفة خبرية (1)، بتقدير المبتدأ مع ما يوجبه، أي " مقول في حقه ذلك "
أو بتقدير المعطوف عليها إنشائية (2).
أو على خبر المعطوف عليها خاصة (3) فتقع الجملة الإنشائية خبر
240

المبتدأ، فيكون عطف مفرد متعلقه جملة إنشائية.
أو يقال: أن الجملة التي لها محل من الإعراب لا حرج في عطفها
كذلك (1).
أو تجعل الواو معترضة لا عاطفة، مع أن جماعة من النحاة
أجازوا عطف الإنشائية على الخبرية، وبالعكس، واستشهدوا عليه بآيات
قرآنية، وشواهد شعرية.
(وهي مبنية) أي مرتبة، أو ما هو أعم من الترتيب (2)
(على كتب) بضم التاء وسكونها جمع كتاب، وهو فعال
من " الكتب " بالفتح وهو الجمع،
سمي به المكتوب المخصوص لجمعة
المسائل المتكثرة.

(1) الكوثر. الآية
241

والكتاب أيضا مصدر مزيد مشتق من المجرد، لموافقته له في حروفه
الأصلية ومعناه (1).
242

كتاب الطهارة
243

كتاب الطهارة
(الطهارة) مصدر " طهر " بضم العين وفتحها، والاسم الطهر
بالضم (1) (وهي لغة النظافة) والنزاهة من الأدناس.
245

(وشرعا) - بناء على ثبوت الحقائق الشرعية - (1) (استعمال
طهور مشروط بالنية).
فالاستعمال بمنزلة الجنس (2)، والطهور مبالغة في الطاهر، والمراد
منه هنا " الطاهر في نفسه المطهر لغيره " جعل بحسب الاستعمال متعديا
وإن كان بحسب الوضع اللغوي
لازما، كالأكول (3).
246

وخرج بقوله: " مشروط بالنية " إزالة النجاسة عن الثوب والبدن
وغيرهما، فإن النية ليست شرطا في تحققه، وإن اشترطت في كماله
وفي ترتب الثواب على فعله، وبقيت الطهارات الثلاث مندرجة في التعريف
واجبة ومندوبة، ومبيحة وغير مبيحة، إن أريد بالطهور مطلق الماء
والأرض كما هو الظاهر (1). وحينئذ ففيه اختيار أن المراد منها ما هو
أعم من المبيح للصلاة وهو خلاف اصطلاح الأكثرين ومنهم المصنف
في غير هذا الكتاب، أو ينتقض في طرده بالغسل المندوب (2)، والوضوء
247

غير الرافع منه (1)، والتيمم بدلا منهما أن قيل به (2).
وينتقض في طرده أيضا بأبعاض كل واحد من الثلاثة مطلقا (3)
فإنه استعمال للطهور مشروط بالنية مع أنه لا يسمى طهارة.
وبما لو نذر (4) تطهير الثوب ونحوه من النجاسة ناويا، فإن
النذر منعقد لرجحانه.
ومع ذلك فهو من أجود التعريفات، لكثرة
ما يرد عليها (5):
من النقوض في هذا الباب.
(والطهور) بفتح الطاء (هو الماء والتراب).
248

قال الله تعالى: وأنزلنا من السماء ماء طهورا (1) وهو
دليل طهورية الماء.
والمراد بالسماء هنا جهة العلو.
وقال النبي صلى الله عليه وآله: " جعلت لي الأرض مسجدا
وطهورا " (2) وهو دليل طهورية التراب.
249

وكان الأولى إبداله (1) بلفظ " الأرض " كما يقتضيه الخبر (2)
250

خصوصا على مذهبه (1): من جواز التيمم بغير التراب من أصناف
الأرض.
فالماء بقول مطلق (2) (مطهر من الحدث)، وهو الأثر الحاصل
للمكلف وشبهه عند عروض أحد أسباب الوضوء، والغسل، المانع
من الصلاة، المتوقف رفعه على النية، (والخبث) وهو النجس
- بفتح الجيم - مصدر قولك " نجس الشئ " بالكسر (3) ينجس فهو
نجس بالكسر (وينجس) الماء مطلقا (4) (بالتغير بالنجاسة في أحد
أوصافه الثلاثة: - اللون والطعم والريح - دون غيرها من الأوصاف (5)
واحترز بتغيره بالنجاسة عما لو تغير بالمتنجس خاصة، فإنه لا ينجس
بذلك، كما لو تغير طعمه بالدبس المتنجس من غير أن تؤثر نجاسته فيه.
والمعتبر من التغير الحسي لا التقديري (6) على الأقوى.
251

(ويطهر بزواله) أي زوال التغير ولو بنفسه، أو بعلاج (إن كان)
الماء (جاريا): وهو النابع من الأرض مطلقا (1) غير البئر (2) على المشهور.
واعتبر المصنف في الدروس فيه أي في الماء الجاري دوام نبعه
وجعله (3) العلامة وجماعة
كغيره في انفعاله بمجرد الملاقاة مع قلته
والدليل النقلي يعضده، (4)
252

وعدم (1) طهره بزوال التغير مطلقا، بل بما نبه عليه بقوله:
(أو لاقى كرا).
والمراد أن غير الجاري لا بد في طهره مع زوال التغير من ملاقاته
كرا طاهرا بعد زوال التغير، أو معه، وإن كان إطلاق العبارة قد
يتناول ما ليس بمراد وهو طهره مع زوال التغير، وملاقاته الكر كيف
اتفق (2)، وكذا الجاري على القول الآخر.
253

ولو تغير بعض الماء وكان الباقي كرا طهر المتغير بزواله أيضا
كالجاري عنده.
ويمكن دخوله في قوله: لاقى كرا، لصدق ملاقاته للباقي.
ونبه بقوله، لاقى كرا على أنه لا يشترط في طهره (1) به وقوعه
عليه دفعة كما هو (3) المشهور بين المتأخرين.
بل تكفي ملاقاته له مطلقا، لصيرورتهما بالملاقاة ماء واحدا (3).
ولأن الدفعة لا يتحقق لها معنى، لتعذر الحقيقة وعدم الدليل
على العرفية (5).
وكذا لا يعتبر ممازجته له، بل يكفي مطلق الملاقاة لأن ممازجة
جميع الأجزاء لا تتفق (6)، واعتبار بعضها (7) دون بعض تحكم
والاتحاد مع الملاقاة حاصل.
ويشمل إطلاق الملاقاة ما لو تساوى سطحاهما، واختلف مع علو
المطهر على النجس وعدمه، والمصنف رحمه الله لا يرى الاجتزاء بالإطلاق
في باقي كتبه، بل يعتبر الدفعة والممازجة، وعلو المطهر، أو مساواته
254

واعتبار الأخير (1) ظاهر دون الأولين إلا مع عدم صدق الوحدة عرفا.
(والكر) المعتبر في الطهارة وعدم الانفعال بالملاقاة هو
(ألف ومائتا رطل) بكسر الراء على الأصح، وفتحها على قلة
(بالعراقي)،
وقدره (2) مائة وثلاثون درهما على المشهور فيهما (3).
وبالمساحة (4) ما بلغ مكسره (5) اثنين وأربعين شبرا وسبعة
255

أثمان شبر مستو الخلقة على المشهور (1)، والمختار عند المصنف.
وفي الاكتفاء بسبعة وعشرين (2) قول قوي (3)
(وينجس) الماء (القليل) وهو ما دون الكر.
(والبئر) وهو مجمع ماء نابع من الأرض لا يتعداها غالبا، ولا يخرج
257

عن مسماها عرفا (بالملاقاة) على المشهور فيهما (1)، بل كاد يكون
إجماعا
(ويطهر القليل بما ذكر): وهو ملاقاته الكر على الوجه السابق.
وكذا يطهر بملاقاة الجاري مساويا له أو عاليا عليه، وإن لم يكن
كرا عند المصنف ومن يقول بمقالته فيه (2).
وبوقوع الغيث عليه إجماعا.
(و) يطهر (البئر) بمطهر غيره (3) مطلقا (4).
(وبنزح جميعه للبعير): وهو من الإبل بمنزلة الإنسان يشمل الذكر
والأنثى، الصغير والكبير.
258

والمراد من نجاسته المستندة إلى موته.
(و) كذا (الثور).
قيل: هو ذكر البقر.
والأولى اعتبار إطلاق اسمه (1) عرفا مع ذلك.
(والخمر (2) قليله وكثيره.
(والمسكر (3) المائع) بالأصالة.
(ودم (4) الحدث): وهو الدماء الثلاثة على المشهور
(والفقاع) (5) بضم الفاء، وألحق به المصنف في الذكرى عصير
العنب بعد اشتداده بالغليان قبل ذهاب ثلثيه، وهو بعيد (6).
ولم يذكر هنا المني مما له نفس سائلة.
259

والمشهور فيه (1) ذلك، وبه (2) قطع المصنف في المختصرين
ونسبه في الذكرى إلى المشهور، معترفا فيه بعدم النص.
ولعله السبب في تركه هنا، لكن دم الحدث كذلك، فلا وجه
لإفراده (3).
وإيجاب الجميع
لما لا نص فيه يشملهما (4).
والظاهر هنا حصر المنصوص (5) بالخصوص.
(ونزح كر للدابة): وهي الفرس (6)، (والحمار والبقرة)
وزاد في كتبه الثلاثة البغل.
والمراد من نجاستها المستندة إلى موتها.
260

هذا هو المشهور، والمنصوص منها مع ضعف طريقه " الحمار والبغل "
وغايته أن يجبر ضعفه بعمل الأصحاب. فيبقى إلحاق الدابة والبقرة
بما لا نص فيه أولى (1).
(ونزح سبعين دلوا معتادة) على تلك البئر، فإن اختلفت (2)
فالأغلب (للإنسان) أي لنجاسته المستندة إلى موته، سواء في ذلك
الذكر والأنثى والصغير والكبير، والمسلم والكافر، إن لم نوجب
الجميع (3) لما لا نص فيه، وإلا (4) اختص بالمسلم.
261

(وخمسين) دلوا (للدم الكثير) في نفسه (1) عادة كدم الشاة
المذبوحة (2)، غير الدماء الثلاثة، لما تقدم (3).
وفي إلحاق دم نجس العين بها وجه مخرج (4).
262

(والعذرة (1) الرطبة) وهي فضلة الإنسان، والمروي اعتبار
ذوبانها: وهو تفرق أجزائها، وشيوعها في الماء، أما الرطوبة فلا نص
على اعتبار ها، لكن ذكرها الشيخ وتبعه المصنف وجماعة.
واكتفى في الدروس بكل منهما (2). وكذلك تعين (3) الخمسين
والمروي أربعون، أو خمسون، وهو يقتضي التخيير (4). وإن كان
263

اعتبار الأكثر أحوط، أو أفضل (1).
(وأربعين) دلوا (للثعلب والأرنب والشاة والخنزير والكلب والهر
وشبه ذلك)،
والمراد من نجاسته المستندة إلى موته (2) كما مر، والمستند ضعيف
والشهرة جابرة على ما زعموا
(و) كذا في (بول الرجل) سندا (3) وشهرة.
وإطلاق الرجل يشمل المسلم والكافر، وتخرج المرأة والخنثى
فيلحق بولهما بما لا نص فيه، وكذا بول الصبية، أما الصبي فسيأتي.
ولو قيل فيما لا نص فيه بنزح ثلاثين أو أربعين وجب في بول
264

الخنثى أكثر الأمرين منه (1) ومن بول الرجل، مع احتمال الاجتزاء
بالأقل، للأصل.
(و) نزح (ثلاثين) دلوا (لماء المطر المخالط للبول والعذرة
وخرء الكلب) في المشهور،
والمستند رواية مجهولة الرواي (2).
وإيجاب (3) خمسين للعذرة، وأربعين لبعض الأبوال، والجميع
للبعض كالأخير منفردا لا ينافي وجوب ثلاثين له مجتمعا مخالطا للماء
265

لأن (1) مبني حكم البئر على جمع المختلف، وتفريق المتفق فجاز إضعاف
ماء المطر لحكمه وإن لم تذهب أعيان هذه الأشياء.
ولو خالط (2) أحدها كفت الثلاثون إن لم يكن له مقدر، أو كان (3)
وهو أكثر، أو مساو (4).
266

ولو كان (1) أقل اقتصر عليه.
وأطلق المصنف أن حكم بعضها (2) كالكل.
وغيره (3) بأن الحكم معلق بالجميع، فيجب لغيره (4) مقدره
أو الجميع (5)
والتفصيل (6) أجود.
(ونزح عشر) دلاء (ليابس العذرة) (7): وهو غير ذائبها
267

أو رطبها أو هما على الأقوال.
(وقليل (1) الدم) كدم الدجاجة المذبوحة في المشهور.
والمروي دلاء يسيرة (2).
وفسرت (3) بالعشر، لأنه أكثر عدد يضاف إلى هذا الجمع (4)
أو لأنه أقل جمع الكثرة، وفيهما نظر (5).
268

(و) نزح (سبع) دلاء (للطير) وهو الحمامة فما فوقها، أي
لنجاسة موته.
(والفأرة (1) مع انتفاخها) في المشهور.
والمروي، وإن ضعف اعتبار تفسخها (2).
(وبول (3) الصبي) وهو الذكر زاد سنه عن حولين ولم يبلغ
269

الحلم (1)، وفي حكمه الرضيع الذي يغلب أكله على رضاعه، أو يساويه
(وغسل (2) الجنب) الخالي بدنه من نجاسة عينية (3).
ومقتضى النص نجاسة الماء بذلك (4)، لا سلب الطهورية (5)
270

وعلى هذا (1) فإن اغتسل مرتمسا طهر بدنه من الحدث، ونجس بالخبث.
وإن اغتسل (2) مرتبا ففي نجاسة الماء بعد غسل الجزء الأول (3)
مع اتصاله (4) به، أو وصول الماء (5) إليه أو توقفه (6)
271

على إكمال الغسل وجهان (1).
ولا يلحق بالجنب غيره ممن يجب عليه الغسل (2) عملا (3) بالأصل
مع احتماله (4).
(وخروج (5) الكلب) من ماء البئر (حيا)، ولا يلحق به
272

الخنزير، بل لا نص فيه.
(ونزح خمس لذرق الدجاج) مثلث الدال في المشهور، ولا نص
عليه ظاهرا، فيجب تقييده بالجلال كما صنع المصنف في البيان ليكون
نجسا.
ويحتمل حينئذ وجوب نزح الجميع إلحاقا له بما لا نص فيه إن
لم يثبت الإجماع على خلافه، وعشر (1)، إدخالا له في العذرة، والخمس (2)
للإجماع على عدم الزائد إن تم.
وفي الدروس صرح بإرادة العموم كما هنا (3)، وجعل التخصيص بالجلال قولا.
273

(وثلاث) دلاء (للفأرة) مع عدم الوصف (1) (والحية (2))
على المشهور والمأخذ (3) فيها ضعيف.
وعلل (4): بأن لها نفسا فتكون ميتتها نجسة.
وفيه (5) مع الشك في ذلك عدم استلزامه للمدعى.
(و) ألحق بها (6) (الوزغة) بالتحريك
274

ولا شاهد له (1) كما اعترف به المصنف في غير البيان، وقطع بالحكم
فيه كما هنا.
(و) ألحقت (2) بها (العقرب).
وربما قيل بالاستحباب لعدم النجاسة، ولعله لدفع وهم السم.
(ودلو للعصفور) بضم عينه (3): وهو ما دون الحمامة
سواء أكان مأكول اللحم أو لا (4).
وألحق به المصنف في الثلاثة (5) بول الرضيع قبل اغتذائه بالطعام
في الحولين.
وقيده في البيان بابن المسلم (6) وإنما تركه هنا لعدم النص مع أنه
275

في الشهرة كغيره مما سبق.
واعلم أن أكثر مستند هذه المقدرات ضعيف لكن العمل به
مشهور (1) بل لا قائل بغيره على تقدير القول بالنجاسة، فإن اللازم
من اطراحه كونه مما لا نص فيه.
(ويجب التراوح بأربعة) رجال كل اثنين منهما يريحان الآخرين
(يوما) كاملا من أول النهار إلى الليل، سواء في ذلك الطويل
والقصير (عند) تعذر نزح الجميع بسبب (الغزارة) المانعة من نزحه.
(ووجوب نزح الجميع) لأحد الأسباب المتقدمة، ولا بد من إدخال
جزء من الليل متقدما ومتأخرا من باب المقدمة، وتهيئة الأسباب قبل
ذلك.
ولا يجزي مقدار اليوم من الليل، والملفق منهما، ويجزي ما زاد
عن الأربعة دون ما نقص وإن نهض بعملها.
ويجوز لهم الصلاة جماعة لا جميعا بدونها ولا الأكل كذلك (2).
276

ونبه بإلحاق التاء للأربعة (1) على عدم إجزاء غير الذكور (2)
ولكن لم يدل على اعتبار الرجال، وقد صرح المصنف في غير الكتاب
باعتباره وهو حسن، عملا بمفهوم القوم في النص (3) خلافا للمحقق
حيث اجتزأ بالنساء والصبيان.
(ولو تغير ماء البئر بوقوع) نجاسة لها مقدر (جمع بين
المقدر وزوال التغير): بمعنى وجوب أكثر الأمرين (4)، جمعا
بين النصوص وزوال التغير المعتبر في طهارة ما لا ينفعل كثيره فهنا أولى.
ولو لم يكن لها مقدر ففي الاكتفاء بمزيل التغير، أو وجوب نزح
الجميع، والتراوح مع تعذره قولان:
أجودهما الثاني.
277

ولو أوجبنا فيه ثلاثين، أو أربعين اعتبر أكثر الأمرين (1) فيه أيضا.
(مسائل: الأولى):
(الماء المضاف ما) أي الشئ الذي (لا يصدق عليه اسم الماء
بإطلاقه) مع صدقه عليه مع القيد كالمعتصر من الأجسام، والممتزج بها
مزجا يسلبه الإطلاق كالأمراق، دون الممتزج على وجه لا يسلبه الاسم،
وإن تغير لونه كالممتزج بالتراب، أو طعمه كالممتزج بالملح، وإن
أضيف إليهما.
(وهو) أي الماء المضاف (طاهر) في ذاته بحسب الأصل
(غير مطهر) لغيره (مطلقا) من حدث، ولا خبث اختيارا
واضطرارا (على) القول (الأصح).
ومقابله (2) قول الصدوق: بجواز الوضوء وغسل الجنابة بماء
الورد، استنادا إلى رواية مردودة (3).
278

وقول (1) المرتضى برفعه
مطلقا الخبث.
(وينجس) المضاف وإن كثر بالاتصال (بالنجس) إجماعا
(وطهره إذا صار) ماء (مطلقا) (2)، مع اتصاله بالكثير المطلق
لا مطلقا (3) (على) القول (الأصح).
ومقابله (4): طهره بأغلبية الكثير المطلق عليه وزوال أوصافه
وطهره (5) بمطلق الاتصال به وإن بقي الاسم.
279

ويدفعهما (1) مع أصالة بقاء النجاسة أن المطهر لغير الماء شرطه
وصول الماء إلى كل جزء من النجس، وما دام مضافا لا يتصور وصول
الماء إلى جميع أجزائه النجسة، وإلا لما بقي كذلك، وسيأتي له تحقيق
آخر في
باب الأطعمة.
(والسؤر (2)): وهو الماء القليل الذي باشره جسم حيوان
(تابع للحيوان الذي باشره) في الطهارة والنجاسة والكراهة (3).
280

(ويكره سؤر الجلال) وهو المتغذي بعذرة الإنسان محضا إلى أن
ينبت عليها لحمه، واشتد عظمه، أو سمي في العرف جلا لا قبل
أن يستبرأ بما يزيل الجلل (1).
(وآكل الجيف مع الخلو) أي خلو موضع الملاقاة للماء
(عن النجاسة).
وسؤر (الحائض المتهمة) بعدم التنزه عن النجاسة.
وألحق بها المصنف في البيان كل متهم بها (2) وهو حسن.
و (سؤر البغل والحمار) وهما داخلان في تبعيته للحيوان في الكراهية
وإنما خصهما لتأكد الكراهة فيهما.
(وسؤر الفأرة والحية)، وكل ما لا يؤكل لحمه إلا الهر.
(وولد الزنا) قبل بلوغه (3)
281

أو بعده مع إظهاره للإسلام (1).
(الثانية (2): (يستحب التباعد بين البئر والبالوعة) التي يرمى فيها ماء النزح
(بخمس أذرع في) الأرض (الصلبة) بضم الصاد وسكون اللام
(أو تحتية) قرار (البالوعة) عن قرار البئر.
(وإلا يكن) كذلك: بأن كانت الأرض رخوة والبالوعة مساوية
للبئر قرارا، أو مرتفعة عنه
(فسبع) أذرع.
وصور المسألة على هذا التقدير ست (3) يستحب التباعد في أربع
282

منها بخمس، وهي الصلبة مطلقا والرخوة مع تحتية البالوعة وبسبع في صورتين
وهما مساواتهما، وارتفاع البالوعة في الأرض الرخوة، وفي حكم الفوقية
المحسوسة الفوقية بالجهة: بأن يكون البئر في جهة الشمال، فيكفي الخمس
مع رخاوة الأرض وإن استوى القراران، لما ورد من أن " مجاري العيون "
مع مهب الشمال ". (1)
(ولا ينجس) البئر (بها) أي بالبالوعة وإن (تقاربتا إلا
مع العلم بالاتصال) أي اتصال ما بها من النجس بماء البئر، لأصالة
الطهارة وعدم الاتصال.
283

(الثالثة):
(النجاسة) أي جنسها (عشرة (1): البول، والغائط من غير
المأكول) لحمه (2) بالأصل، أو العارض (3) (ذي النفس) أي الدم
القوي الذي يخرج من العرق عند قطعه.
(والدم (4) والمني (5) من ذي النفس) آدميا كان أم غيره
284

بريا أم بحريا (وإن أكل لحمه، والميتة (1) منه) أي من ذي النفس
وإن أكل.
(والكلب والخنزير) البريان، وأجزاؤهما وإن لم تحلها الحياة.
وما تولد منهما وإن باينهما في الاسم (2).
أما المتولد من أحدهما
وطاهر (3)، فإنه يتبع في الحكم الاسم
285

ولو لغيرهما، فإن انتفى المماثل (1) فالأقوى طهارته وإن حرمه لحمه
للأصل فيهما (2).
(والكافر) أصليا، أو مرتدا (3) وإن انتحل (4) الإسلام
مع جحده
لبعض ضرورياته.
وضابطه (5): من أنكر الإلهية، أو الرسالة، أو بعض ما علم
ثبوته من الدين ضرورة (6).
286

(والمسكر) المائع بالأصالة (1).
(والفقاع) (2) بضم الفاء، والأصل فيه أن يتخذ من ماء
الشعير، لكن لما ورد الحكم (3) فيه معلقا على التسمية ثبت (4) لما
أطلق عليه اسمه، مع حصول خاصيته، أو اشتباه حاله (5).
287

ولم يذكر المصنف هنا من النجاسات العصير العنبي إذا غلا واشتد
ولم يذهب ثلثاه، لعدم وقوفه على دليل يقتضي نجاسته كما اعترف به
في الذكرى والبيان.
لكن سيأتي (1) أن ذهاب ثلثيه مطهر، وهو يدل على حكمه
بتنجسه فلا عذر (2) في تركه.
وكونه (3) في حكم المسكر كما ذكره في بعض كتبه.
لا يقتضي (4) دخوله فيه حيث يطلق، وإن دخل في حكمه
حيث يذكر.
288

(وهذه) النجاسات العشر (يجب إزالتها) لأجل الصلاة
(عن الثوب والبدن)، ومسجد الجبهة، وعن الأواني لاستعمالها
فيما يتوقف على طهارتها، وعن المساجد، والضرائح المقدسة، والمصاحف
المشرفة.
(وعفي) في الثوب والبدن (عن دم الجرح (1) والقرح (2)
مع السيلان) دائما أو في وقت لا يسع زمن فواته الصلاة.
أما لو انقطع وقتا يسعها فقد استقرب المصنف رحمه الله في الذكرى
وجوب الإزالة لانتفاء الضرر، والذي يستفاد من الأخبار عدم الوجوب
مطلقا حتى يبرأ، وهو قوي.
(وعن دون الدرهم (3)
289

البغلي (1)) سعة، وقدر بسعة أخمص الراحة
290



(1) الحجر: الآية 8.
296

وبعقد الإبهام العليا (1).
وبعقد السبابة (2).
ولا منافاة (3)، لأن مثل هذا الاختلاف يتفق في الدرهم بضرب
واحد.
301

وأنما يغتفر هذا المقدار (من) الدم (غير) الدماء (الثلاثة) (1).
وألحق بها (2) بعض الأصحاب دم نجس العين، لتضاعف
النجاسة ولا نص فيه.
وقضية الأصل تقتضي دخوله في العموم (3).
والعفو عن هذا المقدار مع اجتماعه موضع وفاق، ومع تفرقه
أقوال (4):
302

أجودها إلحاقه بالمجتمع.
ويكفي في الزائد عن المعفو عنه إزالة الزائد خاصة (1).
والثوب والبدن يضم بعضهما إلى بعض على أصح القولين.
ولو أصاب الدم وجهي الثوب فإن تفشى من جانب إلى آخر
فواحد وإلا فاثنان (2).
واعتبر المصنف في الذكرى في الوحدة مع التفشي رقة الثوب
وإلا تعدد.
303

ولو أصابه مائع طاهر (1) ففي بقاء العفو عنه، وعدمه قولان
للمصنف في الذكرى (2) والبيان (3).
أجودهما الأول (4).
نعم يعتبر التقدير بهما.
وبقي مما يعفى عن نجاسته شيئان:
أحدهما ثوب المربية للولد.
304

والثاني ما لا يتم صلاة الرجل فيه وحده (1) " لكونه لا يستر
عورتيه.
وسيأتي حكم الأول في لباس المصلي.
وأما الثاني (2) فلم يذكره، لأنه لا يتعلق ببدن المصلي، ولا ثوبه
الذي هو شرط في الصلاة، مع (3) مراعاة الاختصار.
(ويغسل الثوب مرتين بينهما عصر): وهو كبس الثوب
بالمعتاد لإخراج الماء المغسول به.
وكذا يعتبر العصر بعدهما (4) ولا وجه (5) لتركه والتثنية (6)
منصوصة في البول.
305

وحمل المصنف غيره (1) عليه من باب مفهوم الموافقة، لأن غيره
أشد نجاسة، وهو (2) ممنوع، بل هي إما مساوية أو أضعف حكما (3)
ومن ثم عفي عن قليل الدم دونه، فالاكتفاء بالمرة في غير البول أقوى
عملا بإطلاق الأمر، وهو اختيار المصنف في البيان جزما.
306

وفي الذكرى والدروس بضرب من التردد.
ويستثنى من ذلك (1) بول الرضيع فلا يجب عصره، ولا تعدد غسله
وهما (2) ثابتان في غيره، (إلا في الكثير والجاري)، بناء
على عدم اعتبار
كثرته فيسقطان فيهما، ويكتفى بمجرد وضعه فيهما
مع إصابة الماء لمحل النجاسة، وزوال عينها.
(ويصب على البدن مرتين في غيرهما) بناء على اعتبار التعدد
مطلقا (3).
وكذا ما أشبه البدن مما تنفصل الغسالة عنه بسهولة كالحجر والخشب.
(و) كذا (الإناء)، ويزيد أنه يكفي صب الماء فيه بحيث
يصيب النجس وإفراغه منه ولو بآلة لا تعود إليه ثانيا إلا طاهرة سواء
307

في ذلك المثبت وغيره، وما يشق قلعه وغيره.
(فإن ولغ فيه) أي في الإناء (كلب): بأن شرب مما فيه
بلسانه (قدم عليهما) أي على الغسلتين بالماء (مسحه بالتراب)
الطاهر (1) دون غيره مما أشبهه، وإن تعذر، أو خيف فساد المحل.
وألحق بالولوغ (2) لطعه الإناء دون مباشرته له بسائر أعضائه.
ولو تكرر الولوغ تداخل كغيره من النجاسات المجتمعة، وفي الأثناء
يستأنف. ولو غسله في الكثير كفت المرة بعد التعفير.
(ويستحب السبع) بالماء (فيه) في الولوغ، خروجا من خلاف
من أوجبها (3).
(وكذا) يستحب السبع (في الفأرة والخنزير) للأمر بها
308

في بعض الأخبار (1) التي لم تنهض حجة على الوجوب.
ومقتضى إطلاق العبارة الاجتزاء
فيهما بالمرتين كغيرهما.
والأقوى في ولوغ الخنزير وجوب السبع بالماء، لصحة روايته (2).
وعليه المصنف في باقي كتبه.
(و) يستحب الثلاث (في الباقي) من النجاسات، للأمر به
في بعض الأخبار (3).
309

(والغسالة) وهي الماء المنفصل عن المحل المغسول بنفسه، أو بالعصر
(كالمحل قبلها) أي قبل خروج تلك الغسالة، فإن كانت من الغسلة
الأولى وجب غسل ما أصابته تمام العدد، أو من الثانية فتنقص واحدة
وهكذا.
وهذا (1) يتم فيما يغسل مرتين لا لخصوص النجاسة.
أما المخصوص كالولوغ فلا، لأن الغسالة لا تسمى ولوغا
ومن ثم لو وقع لعابه في الإناء بغيره لم يوجب حكمه، وما ذكره
المصنف أجود الأقوال في المسألة.
وقيل: إن الغسالة كالمحل قبل الغسل مطلقا.
وقيل: بعده فتكون طاهرة مطلقا.
وقيل: بعدها (2).
310

ويستثنى من ذلك ماء الاستنجاء فغسالته طاهرة مطلقا (1) ما
لم تتغير بالنجاسة أو تصب بنجاسة خارجة عن حقيقة الحدث المستنجى منه
أو محله.
311

(الرابعة):
(المطهرات عشرة: الماء) وهو مطهر (مطلقا) من سائر (1)
النجاسات التي تقبل التطهير، (والأرض) تطهر (باطن النعل)
وهو أسفله الملاصق للأرض، (وأسفل القدم) مع زوال عين النجاسة
عنهما بها يمشي ودلك وغيرهما. والحجر والرمل من أصناف الأرض
ولو لم يكن للنجاسة جرم ولا رطوبة كفى مسمى الإمساس.
ولا فرق في الأرض بين الجافة الرطبة، ما لم تخرج عن اسم
الأرض.
وهل يشترط طهارتها (2)؟.
وجهان (3).
وإطلاق النص والفتوى يقتضي عدمه (4).
312

والمراد بالنعل ما يجعل أسفل الرجل للمشي، وقاية من الأرض
ونحوها، ولو من خشب.
وخشبة الأقطع كالنعل (1).
(والتراب في الولوغ) فإنه جزء علة للتطهير، فهو مطهر
في الجملة
(والجسم الطاهر) غير اللزج، ولا الصقيل (2)
313

في (غير المتعدي من الغائط والشمس ما جففته) بإشراقها عليه وزالت
عين النجاسة عنه من (الحصر والبواري (1)): من المنقول
(وما لا ينقل) عادة مطلقا (2) من الأرض وأجزائها، والنبات
والأخشاب، والأبواب المثبتة، والأوتاد الداخلة، والأشجار والفواكه
الباقية عليها وإن حان أوان قطافها،
ولا يكفي تجفيف الحرارة، لأنها لا تسمى شمسا، ولا الهواء
المنفرد بطريق أولى.
314

نعم لا يضر انضمامه إليها.
ويكفي في طهر الباطن الإشراق على الظاهر مع جفاف الجميع
بخلاف المتعدد المتلاصق إذا أشرقت على بعضه.
(والنار ما أحالته رمادا، أو دخانا) لا خزفا وآجرا في أصح
القولين، وعليه المصنف في غير البيان، وفيه قوى قول الشيخ
بالطهارة فيهما.
(ونقص البئر) بنزح المقدر منه، وكما يطهر البئر بذلك فكذا
حافاته، وآلات النزح، والمباشر، وما يصحبه حالته (1).
(وذهاب ثلثي العصير) مطهر للثلث الآخر على القول بنجاسته
والآلات والمزاول.
(والاستحالة) كالميتة والعذرة تصير ترابا ودودا، والنطفة والعلقة
تصير حيوانا، غير الثلاثة (2) والماء النجس بولا لحيوان مأكول
ولبنا (3) ونحو ذلك.
(وانقلاب الخمر خلا) وكذا العصير بعد غليانه واشتداده.
(والإسلام) مطهر لبدن المسلم من نجاسة الكفر (4) وما يتصل به
من شعر ونحوه: لا لغيره كثيابه.
315

(وتطهر العين والأنف والفم باطنها (1) وكل باطن) كالأذن
والفرج (بزوال العين). ولا يطهر بذلك ما فيه: من الأجسام
الخارجة عنه، كالطعام والكحل.
أما الرطوبة الحادثة فيه كالريق والدمع فبحكمه (2).
وطهر ما يتخلف في الفم من بقايا الطعام، ونحوه بالمضمضة
مرتين على ما اختاره المصنف من العدد، ومرة في غير نجاسة البول
على ما اخترناه.
(ثم الطهارة) على ما علم من تعريفها (3) (اسم للوضوء
والغسل والتيمم) الرافع للحدث، أو المبيح للصلاة (4) على المشهور
316

أو مطلقا (1) على ظاهر التقسيم (فهنا فصول ثلاثة):
(الأول - في الوضوء)
بضم الواو: اسم للمصدر (2) فإن مصدره التوضؤ، على وزن
التعلم وأما الوضوء بالفتح، فهو الماء الذي يتوضأ به.
وأصله من الوضاءة: وهي النظافة والنضارة من ظلمة الذنوب (3).
(وموجبه البول والغائط والريح) من الموضع المعتاد، أو من غيره
مع انسداده.
وإطلاق الموجب على هذه الأسباب (4) باعتبار إيجابها الوضوء
317

عند التكليف بما هو شرط فيه.
كما يطلق عليها الناقض باعتبار عروضها للمتطهر.
والسبب أعم منهما (1) مطلقا.
كما أن بينهما (2) عموما من وجه، فكان التعبير بالسبب أولى.
318

(والنوم الغالب) غلبة مستهلكة (على السمع والبصر)، بل على مطلق
الإحساس، ولكن الغلبة على السمع تقتضي الغلبة على سائرها (1)
فلذا خصه.
أما البصر فهو أضعف من كثير منها، فلا وجه لتخصيصه.
(ومزيل العقل) من جنون، وسكر، وإغماء. (والاستحاضة)
على وجه يأتي تفصيله.
(وواجبه) أي واجب الوضوء (النية): وهي القصد إلى فعله
(مقارنة (2) لغسل الوجه) المعتبر شرعا، وهو أول جزء من أعلاه
لأن ما دونه لا يسمى غسلا شرعا، ولأن المقارنة تعتبر لأول أفعال
الوضوء والابتداء بغير الأعلى لا يعد فعلا (مشتملة) على قصد
(الوجوب) إن كان واجبا: بأن كان في وقت عبادة واجبة مشروطة به
وإلا (3) نوى الندب، ولم يذكره لأنه خارج عن الغرض.
(والتقرب) به (4) إلى الله تعالى: بأن يقصد فعله لله امتثالا
لأمره أو موافقة لطاعته (5)، أو طلبا للرفعة عنده بواسطته (6)
320

تشبيها بالقرب المكاني، أو مجردا عن ذلك (1): فإنه تعالى غاية
كل مقصد.
(والاستباحة) مطلقا، أو الرفع حيث يمكن (2)، والمراد رفع
حكم الحدث، وإلا فالحدث إذا وقع لا يرتفع (3) ولا شبهة في إجزاء
النية المشتملة على جميع ذلك. وإن كان في وجوب ما عدا القربة نظر
لعدم نهوض دليل عليه.
أما القربة فلا شبهة في اعتبارها في كل عبادة، وكذا تمييز العبادة
عن غيرها حيث يكون الفعل مشتركا، إلا أنه لا اشتراك في الوضوء
حتى في الوجوب والندب، لأنه في وقت العبادة الواجبة المشروطة به
لا يكون إلا واجبا (4)، وبدونه ينتفي.
321

(وجري الماء): بأن ينتقل كل جزء من الماء عن محله (1)
إلى غيره بنفسه أو بمعين (2) (على ما دارت (3) عليه الإبهام) بكسر
الهمزة (والوسطى) من الوجه (عرضا وما بين القصاص) مثلث
القاف: وهو منتهى منبت شعر الرأس (إلى آخر الذقن) بالذال
المعجمة والقاف المفتوحة منه (4) (طولا) مراعيا في ذلك مستوى
الخلقة في الوجه واليدين (5).
322

ويدخل في الحد مواضع التحذيف، وهي ما بين منتهى العذار
والنزعة المتصلة بشعر الرأس (1) والعذار (2) والعارض، لا النزعتان
بالتحريك، وهما البياضان المكتنفان للناصية.
(وتخليل خفيف الشعر) وهو ما ترى البشرة من خلاله في مجلس
التخاطب، دون الكثيف وهو خلافه.
323

والمراد بتخليله إدخال الماء خلاله لغسل البشرة المستورة به، أما
الظاهرة خلاله فلا بد من غسلها، كما يجب غسل جزء آخر مما جاورها
من المستورة من باب المقدمة.
والأقوى عدم وجوب تخليل الشعر مطلقا (1) وفاقا للمصنف
في الذكرى والدروس وللمعظم، ويستوي في ذلك شعر اللحية
والشارب، والخد والعذار والحاجب، والعنفقة والهدب (2).
(ثم) غسل اليد (اليمنى من المرفق) بكسر الميم وفتح الفاء
أو بالعكس وهو مجمع عظمي الذراع والعضد، لا نفس المفصل (3)
324

(إلى أطراف الأصابع ثم) غسل (اليسرى كذلك)، وغسل ما اشتملت
عليه الخدود من لحم زائد، وشعر ويد وإصبع، دون ما خرج وإن
كان يدا، إلا أن تشتبه الأصلية فتغسلان معا من باب المقدمة.
(ثم مسح مقدم الرأس)، أو شعره الذي لا يخرج بمده عن حده
واكتفى المصنف بالرأس تغليبا لا سمه على ما نبت عليه (بمسماه)
أي مسمى المسح، ولو بجزء من إصبع، ممرا له على الممسوح ليتحقق
اسمه لا بمجرد وضعه، ولا حد لأكثره (1). نعم يكره الاستيعاب
إلا أن يعتقد شرعيته فيحرم، وإن كان الفضل في مقدار ثلاث
أصابع (2).
325

(ثم مسح) بشرة ظهر الرجل (اليمنى) من رؤوس الأصابع
إلى الكعبين: وهما قبتا القدمين على الأصح (1) وقيل إلى أصل الساق،
وهو مختاره في الألفية.
(ثم) مسح ظهر (اليسرى) كذلك (بمسماه) في جانب
العرض (ببقية البلل) الكائن على أعضاء الوضوء من مائه (فيهما)
أي في المسحين، وفهم من إطلاقه المسح أنه لا ترتيب فيهما في نفس
العضو فيجوز النكس فيه دون الغسل، للدلالة عليه ب‍ " من " و " إلى "
وهو كذلك فيهما (2) على أصح القولين،
وفي الدروس رجح منع النكس في الرأس دون الرجلين وفي البيان
عكس ومثله في الألفية (مرتبا) بين أعضاء الغسل والمسح: بأن
يبتدئ بغسل الوجه، ثم باليد اليمنى، ثم اليسرى، ثم بمسح الرأس
ثم الرجل اليمنى، ثم اليسرى، فلو عكس أعاد على ما يحصل معه
326

الترتيب مع بقاء الموالاة.
وأسقط المصنف في غير الكتاب الترتيب بين الرجلين (مواليا)
في فعله (بحيث لا يجف السابق) من الأعضاء على العضو الذي هو فيه
مطلقا (1)، على أشهر الأقوال.
والمعتبر في الجفاف الحسي لا التقديري، ولا فرق فيه بين
العامد والناسي والجاهل.
(وسننه السواك) وهو دلك الأسنان بعود، وخرقة، وإصبع
ونحوها (2).
327

وأفضله (1) الغصن الأخضر، وأكمله الأراك، ومحله قبل غسل
الوضوء الواجب والندب كالمضمضة (2)، ولو أخره عنه أجزأ.
واعلم أن السواك سنة مطلقا، ولكنه يتأكد في مواضع منها:
الوضوء والصلاة، وقراءة القرآن، واصفرار الأسنان وغيره (3).
(والتسمية) وصورتها: " بسم الله وبالله ".
ويستحب إتباعها بقوله: " اللهم اجعلني من التوابين
واجعلني من المتطهرين ".
ولو اقتصر على " بسم الله " أجزأ.
ولو نسيها ابتداء تداركها حيث ذكر، قبل الفراغ كالأكل
وكذا لو تركها عمدا.
328

(وغسل اليدين) من الزندين (مرتين) من حدث النوم
والبول والغائط، لا من مطلق الحدث كالريح على المشهور.
وقيل من الأولين مرة، وبه قطع في الذكرى.
وقيل مرة في الجميع، واختاره المصنف في النفلية، ونسب
التفصيل إلى المشهور وهو الأقوى.
ولو اجتمعت الأسباب تداخلت إن تساوت، وإلا دخل الأقل
تحت الأكثر.
وليكن الغسل (قبل إدخالهما الإناء) الذي يمكن الاغتراف منه
لدفع النجاسة الوهمية، أو تعبدا (1).
ولا يعتبر كون الماء (2) قليلا، لإطلاق النص (3)، خلافا للعلامة
حيث اعتبره.
329

(والمضمضة): وهي إدخال الماء الفم، وإدارته فيه (والاستنشاق)
وهو جذبه إلى داخل الأنف (وتثليثهما): بأن يفعل كل واحد منهما
ثلاثا، ولو بغرفة واحدة، وبثلاث أفضل.
وكذا يستحب تقديم المضمضة أجمع (1) على الاستنشاق، والعطف بالواو لا يقتضيه (2).
(وتثنية الغسلات (3) الثلاث بعد تمام الغسلة الأولى (4) في المشهور
وأنكرها الصدوق.
(والدعاء عند كل فعل): من الأفعال الواجبة والمستحبة
المتقدمة بالمأمور.
(وبدأة الرجل) في غسل اليدين (بالظهر وفي) الغسلة
(الثانية بالبطن، عكس المرأة). فإن السنة لها البدأة بالبطن، والختم
330

بالظهر - كذا ذكره الشيخ وتبعه عليه المصنف هنا وجماعة، والموجود
في النصوص بدأة الرجل بظهر الذراع، والمرأة بباطنه، من غير فرق
فيهما بين الغسلتين
وعليه الأكثر، (ويتخير الخنثى) بين البدأة بالظهر
والبطن على المشهور (1)، وبين الوظيفتين على المذكور.
(والشاك فيه) أي في الوضوء (في أثنائه يستأنف).
والمراد بالشك فيه نفسه في الأثناء الشك في نيته، لأنه إذا شك
فيها فالأصل عدمها، ومع ذلك (2) لا يعتد بما وقع من الأفعال بدونها
وبهذا صدق الشك فيه في أثنائه.
وأما الشك في أنه هل توضأ أو هل شرع فيه أم لا؟ فلا يتصور
تحققه في الأثناء (3).
وقد ذكر المصنف في مختصريه (4) الشك في النية في أثناء الوضوء
331

وأنه يستأنف، ولم يعبر بالشك في الوضوء إلا هنا.
(و) الشاك فيه بالمعنى المذكور (1) (بعده) أي بعد الفراغ
(لا يلتفت) كما لو شك في غيرها (2)، من الأفعال.
(و) الشاك (في البعض يأتي به (3) (أي بذلك البعض المشكوك
فيه إذا وقع الشك (على حاله) أي حال الوضوء: بحيث لم يكن
فرغ منه، وإن كان قد تجاوز ذلك البعض (إلا مع الجفاف).
للأعضاء السابقة عليه (فيعيد)، لفوت الموالاة.
(ولو شك) في بعضه (بعد انتقاله) عنه وفراغه منه (لا يلتفت)
والحكم (4) منصوص متفق عليه.
332

(والشاك في الطهارة) مع تيقن الحدث (محدث)، لأصالة
عدم الطهارة.
(والشاك في الحدث) مع تيقن الطهارة (متطهر) أخذا
بالمتيقن (1).
(والشاك فيهما) أي في المتأخر منهما مع تيقن وقوعهما (محدث (2))
لتكافؤ الاحتمالين، إن لم يستفد من الاتحاد والتعاقب حكما آخر (3).
333

هذا هو الأقوى والمشهور.
ولا فرق (1) بين أن يعلم حاله قبلهما (2) بالطهارة، أو بالحدث
أو يشك.
وربما قيل بأنه يأخذ مع علمه بحاله (3) ضد ما علمه، لأنه إن
334

كان متطهرا فقد علم نقض تلك الحالة، وشك في ارتفاع الناقض، لجواز
تعاقب الطهارتين.
وإن كان محدثا فقد علم انتقاله عنه بالطهارة، وشك في انتقاضها
بالحدث، لجواز تعاقب الأحداث.
ويشكل (1) بأن المتيقن حينئذ ارتفاع الحدث السابق، أما اللاحق
المتيقن وقوعه فلا.
وجواز (2) تعاقبه لمثله متكافؤ، لتأخره عن الطهارة، ولا مرجح.
نعم (3) لو كان المتحقق طهارة رافعة، وقلنا بأن المجدد لا يرفع.
335

أو قطع بعدمه (1) توجه الحكم بالطهارة في الأول (2)، كما أنه لو علم
عدم تعاقب الحدثين بحسب عادته، أو في هذه الصورة (3) تحقق
الحكم بالحدث في الثاني، إلا أنه خارج عن موضع النزاع، بل ليس
من حقيقة الشك في شئ إلا بحسب ابتدائه: وبهذا (5) يظهر ضعف
القول باستصحاب الحالة السابقة بل بطلانه.
336

(مسائل):
(يجب على المتخلي ستر العورة) قبلا ودبرا عن ناظر محترم.
(وترك استقبال القبلة) بمقاديم بدنه (1)، (ودبرها) كذلك (2)
في البناء وغيره.
(وغسل البول بالماء) مرتين كما مر.
(و) كذا يجب غسل (الغائط) بالماء (مع التعدي) للمخرج
بأن تجاوز حواشيه وإن لم يبلغ الألية، (وإلا) أي وإن لم يتعد الغائط
المخرج (فثلاثة أحجار) طاهرة جافة قالعة للنجاسة (أبكار)
لم يستنج بها بحيث تنجست به.
(أو بعد طهارتها) إن لم تكن أبكارا وتنجست، ولو لم تنجس
- كالمكملة للعدد بعد نقاء المحل - كفت من غير اعتبار الطهر (فصاعدا)
عن الثلاثة إن لم ينق المحل بها (أو شبهها) من ثلاث خرق، أو
خزافات، أو أعواد ونحو ذلك من الأجسام القالعة للنجاسة غير المحترمة.
337

ويعتبر العدد في ظاهر النص (1)، وهو الذي يقتضيه إطلاق العبارة
فلا يجزي ذو الجهات الثلاث. وقطع المصنف في غير الكتاب بإجزائه
ويمكن إدخاله (2) على مذهبه في شبهها.
واعلم أن الماء مجز مطلقا، بل هو أفضل من الأحجار على تقدير
إجزائها، وليس في عبارته هنا ما يدل على إجزاء الماء في غير المتعدي (3)
نعم يمكن استفادته (4) من قوله سابقا: الماء مطلقا (5)
ولعله اجتزأ به.
(ويستحب التباعد) عن الناس بحيث لا يرى تأسيا بالنبي (صلى الله عليه وآله)
فإنه لم ير قط على بول ولا غائط.
(والجمع بين المطهرين): الماء والأحجار مقدما للأحجار في المتعدي
وغيره مبالغة في التنزيه، ولإزالة العين والأثر (6) على تقدير إجزاء
الحجر.
338

ويظهر من إطلاق المطهر استحباب عدد من الأحجار مطهر
ويمكن تأديه بدونه (1)، لحصول الغرض.
(وترك استقبال) جرم (النيرين) الشمس والقمر بالفرج
أما جهتهما فلا بأس، وترك استقبال (الريح) واستدبارها بالبول
والغائط لإطلاق الخبر (2)، ومن ثم أطلق المصنف، وإن قيد في غيره
بالبول.
339

(وتغطية الرأس) إن كان مكشوفا، حذرا من وصول الرائحة
الخبيثة إلى دماغه.
وروي التقنع معها (1).
(والدخول) بالرجل (اليسرى) إن كان ببناء، وإلا جعلها
آخر ما يقدمه (2).
(والخروج) بالرجل (اليمنى) كما وصفناه عكس المسجد.
(والدعاء في أحواله) التي ورد استحباب الدعاء فيها: وهي
عند الدخول، وعند الفعل، ورؤية الماء، والاستنجاء، وعند مسح بطنه
340

إذا قام من موضعه، وعند الخروج بالمأثور.
(والاعتماد على) الرجل (اليسرى)، وفتح اليمنى.
(والاستبراء): وهو طلب براءة المحل من البول بالاجتهاد
الذي هو مسح ما بين المقعدة، وأصل القضيب ثلاثا، ثم نتره (1) ثلاثا
ثم عصر الحشفة ثلاثا.
(والتنحنح ثلاثا) حالة الاستبراء، نسبه المصنف في الذكرى
إلى سلار (2)، لعدم وقوفه على مأخذه.
341

(والاستنجاء) لأنها موضوعة للأدنى، كما أن اليمين
للأعلى (1) كالأكل والوضوء (2). (ويكره باليمين) مع الاختيار، لأنه من الجفاء (3).
(ويكره البول قائما)، حذرا من تخبيل الشيطان (4).
(ومطمحا (5) به في الهواء للنهي عنه (6).
(وفي الماء) جاريا، وراكدا للتعليل في أخبار النهي: بأن للماء
أهلا فلا تؤذهم بذلك (7).
342

(والحدث في الشارع): وهو الطريق المسلوك.
(والمشرع): وهو طريق الماء للواردة (1).
(والفناء) بكسر الفاء: وهو ما امتد من جوانب الدار: وهو
حريمها خارج المملوك منها (2).
(والملعن): وهو مجمع الناس، أو منزلهم، أو قارعة
الطريق، أو أبواب الدور (3).
(وتحت) الشجرة (المثمرة): وهي ما من شأنها أن تكون
مثمرة وإن لم تكن كذلك بالفعل، ومحل الكراهة ما يمكن أن تبلغه الثمار عادة وإن لم يكن تحتها.
(وفئ النزال) وهو موضع الظل المعد لنزولهم، أو ما هو
343

أعم منه كالمحل الذي يرجعون إليه وينزلون به من فاء يفئ إذا رجع.
(والجحرة) بكسر الجيم ففتح الحاء والراء المهملتين جمع
" جحر " بالضم فالسكون: وهي بيوت الحشار.
(والسواك حالته)، (1) روي أنه يورث البخر (2).
(والكلام إلا بذكر الله تعالى) (3). (والأكل والشرب)
لما فيه من المهانة، وللخبر.
(ويجوز حكاية الأذان) إذا سمعه، ولا سند له ظاهرا
على المشهور (4)، وذكر الله لا يشمله أجمع، لخروج الحيعلات منه
ومن ثم حكاه المصنف في الذكرى بقوله وقيل.
(وقراءة آية الكرسي)، وكذا مطلق حمد الله وشكره وذكره
لأنه حسن على كل حال.
(وللضرورة) كالتكلم لحاجة يخاف فوتها لو أخره إلى أن يفرغ.
344

ويستثنى أيضا الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند
سماع ذكره، والحمدلة (1) عند العطاس منه ومن غيره، وهو (2)
من الذكر.
وربما قيل باستحباب التسميت منه أيضا (3).
345

ولا يخفى وجوب رد السلام
وإن كره السلام عليه، وفي كراهة
رده مع تأدي الواجب برد غيره وجهان (1).
واعلم أن المراد بالجواز في حكاية الأذان وما في معناه (2)
346

معناه الأعم (1)، لأنه مستحب لا يستوي طرفاه، والمراد منه هنا
الاستحباب لأنه عبادة لا تقع إلا راجحة وإن وقعت مكروهة، فكيف
إذا انتفت الكراهة.
(الفصل الثاني - في الغسل)
(وموجبه) ستة (الجنابة) بفتح الجيم (والحيض والاستحاضة
مع غمس القطنة)، سواء سال عنها أم لا، لأنه موجب حينئذ
في الجملة (2).
347

(والنفاس، ومس الميت النجس) في حال كونه (آدميا)
فخرج الشهيد والمعصوم، ومن تم غسله الصحيح، وإن كان متقدما
على الموت، كمن قدمه ليقتل فقتل بالسبب الذي اغتسل له (1).
وخرج بالآدمي غيره من الميتات الحيوانية، فإنها وإن كانت نجسة
إلا أن مسها لا يوجب غسلا، بل هي كغيرها من النجاسات في أصح
القولين.
وقيل: يجب غسل ما مسها وإن لم يكن برطوبة (2).
(والموت) المعهود شرعا: وهو موت المسلم، ومن بحكمه (3)
غير الشهيد.
(وموجب الجنابة) شيئان: أحدهما (الإنزال) للمني يقظة
ونوما،
348

(و) الثاني (غيبوبة الحشفة) وما في حكمها كقدرها
من مقطوعها (قبلا أو دبرا) من آدمي وغيره، حيا وميتا، فاعلا
وقابلا، (أنزل) الماء (أو لا).
ومتى حصلت الجنابة لمكلف بأحد الأمرين تعلقت به الأحكام
المذكورة (1):
(فيحرم عليه قراءة العزائم) الأربع (2) وأبعاضها حتى البسملة
وبعضها إذا قصدها (3) لأحدها، (واللبث في المساجد)
مطلقا (4).
(والجواز (5) في المسجدين) الأعظمين بمكة والمدينة.
(ووضع (6) شئ فيها) أي في المساجد مطلقا، وإن لم يستلزم
349

الوضع اللبث بل لو طرحه من خارج، ويجوز الأخذ منها.
(ومس خط المصحف): وهو كلماته وحروفه المفردة
وما قام مقامها كالشدة والهمزة، بجزء من بدنه تحله الحياة.
(أو اسم الله تعالى) مطلقا (1).
(أو اسم النبي أو أحد الأئمة عليهم السلام) المقصود بالكتابة
ولو على درهم أو دينار في المشهور (2).
(ويكره له الأكل والشرب حتى يتمضمض ويستنشق)
أو يتوضأ، فإن أكل قبل ذلك خيف عليه البرص، وروي أنه
يورث الفقر،
350

ويتعدد (1) بتعدد الأكل والشرب مع التراخي عادة، لا مع
الاتصال.
(والنوم إلا بعد الوضوء)، وغايته هنا إيقاع النوم على الوجه
الكامل (2)، وهو (3) غير مبيح، إما لأن غايته الحدث (4) أو لأن
المبيح للجنب هو الغسل خاصة.
(والخضاب) بحناء وغيره.
وكذا يكره له أن يجنب وهو مختضب.
(وقراءة ما زاد على سبع آيات) في جميع أوقات جنابته (5).
وهل يصدق العدد بالآية المكروهة سبعا؟
وجهان (6).
(والجواز في المساجد) غير المسجدين: بأن يكون للمسجد بابان
فيدخل من أحدهما ويخرج من الآخر.
351

وفي صدقه (1) بالواحدة من غير مكث وجه.
نعم ليس له التردد في جوانبه بحيث يخرج عن المجتاز (2).
(وواجبه النية) وهي القصد إلى فعله متقربا.
وفي اعتبار الوجوب والاستباحة، أو الرفع ما مر (3).
(مقارنة) لجزء من الرأس ومنه الرقبة إن كان مرتبا، ولجزء
من البدن إن كان مرتمسا: بحيث يتبعه الباقي بغير مهلة.
(وغسل الرأس والرقبة) أولا ولا ترتيب بينهما، لأنهما فيه
عضو واحد، ولا ترتيب في نفس أعضاء الغسل، بل بينها كأعضاء
مسح الوضوء، بخلاف أعضاء غسله، فإنه فيها وبينها (4).
352

(ثم) غسل الجانب
(الأيمن ثم الأيسر) كما وصفناه (1) والعورة تابعة للجانبين (2).
ويجب إدخال جزء من حدود كل عضو من باب المقدمة كالوضوء.
(وتخليل مانع وصول الماء) إلى البشرة، بأن يدخل الماء
خلاله إلى البشرة على وجه الغسل.
(ويستحب الاستبراء) للمنزل لا لمطلق الجنب بالبول (3)
ليزيل أثر المني الخارج، ثم بالاجتهاد بما تقدم من الاستبراء (4)
353

وفي استحبابه به (1) للمرأة قول، فتستبرئ عرضا، أما بالبول
فلا، لاختلاف المخرجين.
(والمضمضة والاستنشاق) كما مر (2) (بعد غسل اليدين ثلاثا) من
الزندين، وعليه المصنف في الذكرى.
وقيل من المرفقين، واختاره في النفلية، وأطلق في غيرهما
كما هنا.
وكلاهما مؤد للسنة (3) وإن كان الثاني أولى.
354

(والموالاة) بين الأعضاء: بحيث كلما فرغ من عضو شرع
في الآخر، وفي غسل نفس العضو، لما فيه من المسارعة إلى الخير
والتحفظ من طريان المفسد (1).
ولا تجب في المشهور إلا لعارض، كضيق وقت العبادة المشروطة به
وخوف فجأة الحدث للمستحاضة، ونحوها (2). وقد تجب بالنذر
لأنه راجح.
(ونقض المرأة الضفائر) جمع ضفيرة: وهي العقيصة
المجدولة من الشعر (3).
وخص المرأة، لأنها مورد النص، وإلا فالرجل كذلك، لأن
الواجب غسل البشرة دون الشعر (4)، وإنما استحب النقض
للاستظهار، والنص.
355

(وتثليث الغسل) لكل عضو من أعضاء البدن الثلاثة: بأن
يغسله ثلاث مرات.
(وفعله) أي الغسل بجميع سننه الذي من جملته تثليثه (بصاع)
لا أزيد، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال.
" الوضوء بمد، والغسل بصاع، وسيأتي أقوام بعدي
يستقلون (1) ذلك فأولئك على خلاف سنتي، والثابت على سنتي معي
في حظيرة القدس " (2).
(ولو وجد) المجنب بالإنزال (3).
356

(بللا) مشتبها (1) (بعد الاستبراء) بالبول، أو الاجتهاد مع تعذره
(لم يلتفت، وبدونه) أي بدون الاستبراء بأحد الأمرين (يغتسل).
ولو وجده بعد البول من دون الاستبراء بعده وجب الوضوء خاصة
أما الاجتهاد بدون البول مع إمكانه فلا حكم له (2).
(والصلاة السابقة) على خروج البلل المذكور (صحيحة)
لارتفاع حكم السابق، والخارج حدث جديد وإن كان قد خرج عن محله
إلى محل آخر.
وفي حكمه ما لو أحس بخروجه فأمسك عليه فصلى ثم أطلقه.
(ويسقط الترتيب) بين الأعضاء الثلاثة (بالارتماس): وهو
غسل البدن أجمع دفعة واحدة عرفية.
وكذا ما أشبهه كالوقوف تحت المجاري (المجرى)، والمطر
الغزيرين، لأن البدن يصير به عضوا واحدا (3).
(ويعاد) غسل الجنابة (بالحدث) الأصغر (في أثنائه (4)
على الأقوى) عند المصنف وجماعة.
357

وقيل: لا أثر له مطلقا.
وفي ثالث (1) يوجب الوضوء خاصة، وهو الأقرب.
وقد حققنا القول في ذلك برسالة مفردة.
أما غير غسل الجنابة من الأغسال فيكفي إتمامه مع الوضوء قطعا
وربما خرج (2) بعضهم بطلانه كالجنابة، وهو ضعيف جدا.
(وأما الحيض (3) - فهو ما) أي الدم الذي (تراه المرأة بعد)
358

إكمالها (تسع) سنين هلالية، (وقبل) إكمال (ستين) سنة (1)
(إن كانت المرأة قرشية) وهي المنتسبة بالأب إلى النضر بن كنانة
وهي أعم من الهاشمية، فمن علم انتسابها إلى قريش بالأب لزمها
حكمها، وإلا فالأصل عدم كونها منها (2).
370

(أو نبطية) منسوبة إلى النبط: وهم - على ما ذكره الجوهري -
قوم ينزلون البطائح بين العراقين (1)،
والحكم فيها مشهور، ومستنده غير معلوم، واعترف المصنف
بعدم وقوفه فيها على نص، والأصل يقتضي كونها كغيرها (2).
(وإلا) يكن كذلك (فالخمسون) سنة مطلقا (3) غاية إمكان
حيضها.
وأقله ثلاثة أيام متوالية) فلا يكفي كونها في جملة عشرة
على الأصح (4).
371

(وأكثره عشرة) أيام فما زاد عنها ليس بحيض إجماعا
(وهو أسود، أو أحمر حار له دفع) وقوة عند خروجه (1)
(غالبا) قيد بالغالب، ليندرج فيه ما أمكن كونه حيضا، فإنه يحكم به
وإن لم يكن كذلك كما نبه عليه بقوله:
(ومتى أمكن كونه) أي الدم (حيضا (2)) بحسب حال المرأة
بأن تكون بالغة غير يائسة، ومدته (3): بأن لا ينقص عن ثلاثة
ولا يزيد عن عشرة، ودوامه (4) كتوالي الثلاثة، ووصفه (5) كالقوي
مع التمييز (6)
372

ومحله (1) كالجانب إن اعتبرناه (2)،
373

ونحو ذلك (1) (حكم (2) به).
وإنما يعتبر الإمكان بعد استقراره فيما يتوقف عليه كأيام
الاستظهار، فإن الدم يمكن كونه حيضا، إلا أن الحكم به
موقوف على عدم عبور العشرة (3).
374

ومثله (1) القول في أول رؤيته مع انقطاعه قبل الثلاثة (2).
(ولو تجاوز) الدم (العشرة فذات العادة الحاصلة باستواء)
الدم (مرتين) أخذا وانقطاعا (3)، سواء أكان في وقت واحد:
بأن رأت في أول شهرين سبعة مثلا، أم في وقتين: كأن رأت السبعة
375

في أول شهر وآخره، فإن السبعة نصير عادة وقتية وعددية في الأول
وعددية في الثاني، فإذا تجاوز عشرة (تأخذها) أي العادة فتجعلها
حيضا.
والفرق بين العادتين الاتفاق على تحيض الأولى برؤية الدم، والخلاف
في الثانية.
فقيل: إنها فيه كالمضطربة لا تتحيض إلا بعد ثلاثة (1).
والأقوى أنها كالأولى.
ولو اعتادت وقتا خاصا - بأن رأت في أول شهر سبعة، وفي أول
آخر ثمانية فهي مضطربة العدد لا ترجع إليه عند التجاوز، وإن أفاد
الوقت تحيضها برؤيته فيه بعد ذلك كالأولى (2) إن لم نجز ذلك
للمضطربة.
(وذات التمييز): وهي التي ترى الدم نوعين أو أنواعا
376

(تأخذه): بأن تجعل القوي حيضا، والضعيف استحاضة
(بشرط عدم تجاوز حديه)
قلة وكثرة (1)، وعدم قصور الضعيف
وما يضاف إليه من أيام النقاء عن أقل الطهر (2).
وتعتبر القوة بثلاثة (3): " اللون " فالأسود قوي الأحمر، وهو
قوي الأشقر، وهو قوي الأصفر، وهو قوي الأكدر.
و " الرائحة " فذو الرائحة الكريهة قوي ما لا رائحة له، وماله
رائحة أضعف.
و " القوام " فالثخين قوي الرقيق، وذو الثلاث قوي
ذي الاثنين، وهو قوي ذي الواحد، وهو قوي العادم.
377

ولو استوى العدد (1) وإن كان مختلفا فلا تمييز.
(و) حكم (الرجوع)، إلى التمييز ثابت (في المبتدأة)
بكسر الدال وفتحها، وهي من لم يستقر لها عادة، إما لابتدائها، أو
بعده مع اختلافه عددا ووقتا.
(والمضطربة): وهي من نسيت عادتها وقتا، أو عددا
أو معا.
وربما أطلقت (2) على ذلك، وعلى من تكرر لها الدم مع عدم
استقرار العادة.
وتختص المبتدأة على هذا (3) بمن رأته أول مرة.
والأول أشهر (4).
378

وتظهر فائدة الاختلاف في رجوع ذات القسم الثاني من المبتدأة
إلى عادة أهلها وعدمه.
(ومع فقده) أي فقد التمييز بأن اتحد الدم المتجاوز لونا
وصفة، أو اختلف ولم تحصل شروطه (1) (تأخذ المبتدأة عادة أهلها)
وأقاربها من الطرفين، أو أحدهما كالأخت والعمة والخالة وبناتهن
(فإن اختلفن) في العادة وإن غلب بعضهن (فأقرانها) وهن
من قاربها في السن عادة.
واعتبر المصنف في كتبه الثلاثة فيهن وفي الأهل اتحاد البلد
لاختلاف الأمزجة باختلافه.
واعتبر في الذكرى أيضا الرجوع إلى الأكثر عند الاختلاف وهو
أجود.
وإنما اعتبر في الأقران الفقدان دون الأهل لإمكانه فيهن دونهن
إذ لا أقل من الأم، لكن قد يتفق الفقدان بموتهن وعدم العلم بعادتهن
فلذا عبر في غيره بالفقدان، والاختلاف فيهما.
(فإن فقدن) الأقران، (أو اختلفن فكالمضطربة في) الرجوع
إلى الروايات، وهي (أخذ عشرة) أيام (من شهر، وثلاثة من آخر)
مخيرة في الابتداء بما شاءت منهما.
379

(أو سبعة سبعة) من كل شهر، أو ستة ستة مخيرة في ذلك
وإن كان الأفضل لها اختيار ما يوافق مزاجها منها، فتأخذ ذات المزاج
الحار السبعة، والبارد الستة، والمتوسط الثلاثة والعشرة، وتتخير في وضع
ما اختارته حيث شاءت من أيام الدم، وإن كان الأولى الأول (1)
ولا اعتراض للزوج في ذلك (2).
هذا في الشهر الأول، أما ما بعده فتأخذ ما يوافقه وقتا (3).
وهذا إذا نسيت المضطربة الوقت والعدد معا، أما لو نسيت
أحدهما خاصة، فإن كان الوقت (4) أخذت العدد كالروايات، أو العدد
جعلت ما تيقن من الوقت حيضا أولا، أو آخرا، أو ما بينهما وأكملته
380

بإحدى الروايات على وجه يطابق (1)، فإن ذكرت أوله أكملته ثلاثة
متيقنة وأكملته بعدد مروي، أو آخره تحيضت بيومين قبله متيقنة
وقبلهما تمام الرواية، أو وسطه المحفوف بمتساويين، وأنه يوم حفته
بيومين واختارت رواية السبعة لتطابق الوسط (2) " أو يومان حفتهما
بمثلهما، فتيقنت أربعة واختارت رواية الستة فتجعل قبل المتيقن يوما
وبعده يوما، أو الوسط بمعنى الأثناء مطلقا حفته بيومين متيقنة، وأكملته
بإحدى الروايات متقدمة أو متأخرة أو بالتفريق.
ولا فرق هنا بين تيقن يوم وأزيد.
ولو ذكرت عددا في الجملة فهو المتيقن خاصة (3)، وأكملته
بإحدى الروايات قبله أو بعده أو بالتفريق، ولا احتياط لها بالجمع
بين التكليفات عندنا (4)، وإن جاز فعله.
381

(ويحرم عليها) أي على الحائض مطلقا (1) (الصلاة)
واجبة ومندوبة.
(والصوم وتقضيه) دونها (2)، والفارق النص، لا مشقتها (3) بتكررها ولا غير ذلك (4).
(والطواف) الواجب والمندوب، وإن لم يشترط فيه الطهارة
382

لتحريم دخول المسجد مطلقا (1).
عليها (ومس) كتابة (القرآن).
وفي معناه اسم الله تعالى، وأسماء الأنبياء والأئمة عليهم السلام
كما تقدم (2).
(ويكره حمله) ولو بالعلاقة (ولمس هامشه) وبين سطوره
(كالجنب) (3).
(ويحرم) عليها (اللبث في المساجد) غير الحرمين، وفيهما
يحرم الدخول مطلقا كما مر، وكذا يحرم عليها وضع شئ فيها
كالجنب.
(وقراءة العزائم) وأبعاضها (وطلاقها) مع حضور الزوج
383

أو حكمه (1) ودخوله بها وكونها حايلا، وإلا صح. وإنما أطلق
لتحريمه في الجملة ومحل التفصيل باب الطلاق، وإن اعتيد هنا إجمالا (2).
(ووطؤها قبلا عامدا عالما (3) فتجب الكفارة) لو فعل (احتياطا)
لا وجوبا على الأقوى (4)
384

ولا كفارة عليها مطلقا (1) -
والكفارة (بدينار) أي مثقال ذهب خالص مضروب (2)
(في الثلث الأول، ثم نصفه في الثلث الثاني، ثم ربعه
في الثلث الأخير).
يختلف ذلك (3) باختلاف العادة وما في حكمها: من التميز والروايات
فالأولان (4) أول لذات الستة، والوسطان وسط والأخيران آخر وهكذا.
ومصرفها مستحق الكفارة، ولا يعتبر فيه التعدد،
385

(ويكره لها قراءة باقي القرآن) غير العزائم من غير استثناء للسبع (1)
(وكذا) يكره له (الاستمتاع بغير القبل) مما بين السرة والركبة.
ويكره لها إعانته عليه إلا أن يطلبه فتنتفي الكراهة عنها
لوجوب الإجابة.
ويظهر من العبارة كراهة الاستمتاع بغير القبل مطلقا (2)
والمعروف ما ذكرناه.
(ويستحب) لها (الجلوس في مصلاها) إن كان لها محل
معد لها وإلا فحيث شاءت (بعد الوضوء) المنوي به التقرب، دون الاستباحة.
(وتذكر الله تعالى بقدر الصلاة)، لبقاء التمرين على العبادة
فإن الخير عادة (3).
386

(ويكره لها الخضاب) بالحناء وغيره كالجنب.
(وتترك ذات العادة) المستقرة وقتا وعددا، أو وقتا خاصا
(العبادة) المشروطة بالطهارة (برؤية الدم).
أما ذات العادة العددية خاصة فهي كالمضطربة في ذلك كما
سلف.
(وغيرها): من المبتدأة والمضطربة (بعد ثلاثة) أيام احتياطا.
والأقوى جواز تركهما برؤيته أيضا، خصوصا إذا ظنتاه حيضا
وهو اختياره في الذكرى، واقتصر في الكتابين على الجواز مع ظنه
خاصة.
(ويكره وطؤها) قبلا (بعد الانقطاع قبل الغسل
على الأظهر) خلافا للصدوق رحمه الله، حيث حرمه.
ومستند القولين الأخبار المختلفة ظاهرا، والحمل على الكراهة
طريق الجمع، والآية ظاهرة في التحريم قابلة للتأويل (1).
387

(وتقضي كل صلاة تمكنت من فعلها قبله): بأن مضى
من أول الوقت مقدار فعلها، وفعل ما يعتبر فيها مما ليس بحاصل
لها طاهرة (1).
(أو فعل ركعة مع الطهارة)، وغيرها من الشرائط المفقودة
388

(بعده) (1).
(وأما الاستحاضة - فهي ما) أي الدم الخارج من الرحم
الذي (زاد على العشرة) مطلقا (2).
(أو العادة مستمرا) إلى أن يتجاوز العشرة، فيكون تجاوزها
كاشفا عن كون السابق عليها بعد العادة استحاضة.
(أو بعد اليأس) ببلوغ الخمسين، أو الستين على التفصيل
(أو بعد النفاس) كالموجود بعد العشرة، أو فيها بعد أيام
العادة مع تجاوز العشرة، إذا لم يتخلله نقاء أقل الطهر، أو يصادف
أيام العادة في الحيض بعد مضي عشرة فصاعدا من أيام النفاس
أو يحصل فيه تمييز بشرائطه (3).
389

(ودمها) أي الاستحاضة (أصفر بارد رقيق فاتر) أي
يخرج بتثاقل وفتور، لا بدفع (غالبا)،
ومقابل الغالب ما تجده في الوقت المذكور فإنه يحكم بكونه
استحاضة، وإن كان بصفة دم الحيض، لعدم إمكانه.
ثم الاستحاضة تنقسم إلى قليلة وكثيرة ومتوسطة، لأنها
إما أن لا تغمس القطنة أجمع ظاهرا وباطنا (1)، أو تغمسها
390

كذلك (1)، ولا تسيل عنها بنفسه إلى غيرها، أو تسيل عنها
إلى الخرقة.
(فإن لم تغمس القطنة تتوضأ لكل صلاة مع تغييرها) القطنة
لعدم العفو عن هذا الدم مطلقا (2) وغسل ما ظهر من الفرج عند
الجلوس على القدمين، وإنما تركه، لأنه إزالة خبث قد علم
مما سلف.
(وما يغمسها بغير سيل تزيد) على ما ذكر في الحالة الأولى.
(الغسل للصبح) إن كان الغمس قبلها، ولو كانت صائمة
قدمته على الفجر، واجتزأت به للصلاة، ولو تأخر الغمس
391

عن الصلاة فكالأول (1).
(وما يسيل) يجب له جميع ما أوجب في الحالتين وتزيد
عليهما (2) (أنها تغتسل أيضا للظهرين) تجمع بينهما (ثم العشائين)
كذلك (وتغيير (3) الخرقة فيهما) أي في الحالتين الوسطى والأخيرة
لأن الغمس يوجب رطوبة ما لاصق الخرقة من القطنة، وإن
392

لم يسل إليها فتنجس، ومع السيلان واضح، وفي حكم تغييرها
تطهيرها.
وإنما يجب الغسل في هذه الأحوال مع وجود الدم الموجب له
قبل فعل الصلاة، وإن كان في غير وقتها إذا لم تكن قد اغتسلت له
بعده (1) كما يدل عليه خبر الصحاف.
وربما قيل باعتبار وقت الصلاة، ولا شاهد له.
(وأما النفاس) - بكسر النون (فدم ولادة معها): بأن
يقارن خروج جزء وإن كان منفصلا مما يعد آدميا، أو مبدأ نشوء
آدمي وإن كان مضغة مع اليقين (2).
أما العلقة: وهي القطعة من الدم الغليظ - فإن فرض العلم بكونها
393

مبدأ نشوء إنسان كان دمها نفاسا، إلا أنه بعيد.
(أو بعدها): بأن يخرج الدم بعد خروجه أجمع.
ولو تعدد الجزء منفصلا أو الولد فلكل نفاس وإن اتصلا
ويتداخل منه ما اتفقا فيه (1).
واحترز بالقيدين عما يخرج قبل الولادة فلا يكون نفاسا، بل
استحاضة إلا مع إمكان كونه حيضا.
(وأقله مسماه) وهو وجوده في لحظة فيجب الغسل بانقطاعه
بعدها، ولو لم تر دما فلا نفاس عندنا (2).
394

(وأكثره قدر العادة في الحيض) للمعتادة لا على تقدير تجاوز
العشرة، وإلا فالجميع نفاس، وإن تجاوزها كالحيض.
(فإن لم تكن) لها عادة (فالعشرة) أكثره (على المشهور).
وإنما يحكم به نفاسا في أيام العادة، وفي مجموع العشرة
مع وجوده فيهما أو في طرفيهما.
أما لو رأته في أحد الطرفين خاصة، أو فيه وفي الوسط
فلا نفاس لها في الخالي عنه متقدما ومتأخرا، بل في وقت الدم
أو الدمين فصاعدا وما بينهما.
فلو رأت أوله لحظة وآخر السبعة لمعتادتها فالجميع نفاس.
ولو رأته آخرها خاصة فهو النفاس.
ومثله رؤية المبتدأة والمضطربة في العشرة، بل المعتادة على تقدير
انقطاعه عليها.
ولو تجاوز فما وجد منه في العادة، وما قبله إلى زمان
الرؤية (1) نفاس خاصة. كما لو رأت رابع الولادة مثلا وسابعها
لمعتادتها واستمر إلى أن تجاوز العشرة، فنفاسها الأربعة الأخيرة
من السبعة خاصة.
ولو رأته في السابع خاصة فتجاوزها فهو النفاس خاصة.
395

ولو رأته من أوله والسابع وتجاوز العشرة، سواء أكان بعد
انقطاعه أم لا - فالعادة خاصة نفاس.
ولو رأته أولا وبعد العادة وتجاوز فالأول خاصة نفاس.
وعلى هذا القياس.
(وحكمها كالحائض) في الأحكام الواجبة والمندوبة والمحرمة
والمكروهة، وتفارقها في الأقل والأكثر (1).
والدلالة على البلوغ فإنه (2) مختص بالحائض، لسبق دلالة
النفاس بالحمل وانقضاء العدة بالحيض دون النفاس غالبا (3)
ورجوع الحائض إلى عادتها وعادة نسائها، والروايات والتمييز دونها.
ويختص النفاس بعدم اشتراط أقل الطهر بين النفاسين كالتوأمين
بخلاف الحيضتين.
(ويجب الوضوء مع غسلهن) متقدما عليه، أو متأخرا.
(ويستحب قبله) وتتخير فيه بين نية الاستباحة والرفع
مطلقا (4)
396

على أصح القولين، إذا وقع بعد الانقطاع (1).
(وأما غسل المس) للميت الآدمي (2) النجس (فبعد البرد
وقبل التطهير) بتمام الغسل، فلا غسل بمسه قبل البرد وبعد الموت.
وفي وجوب غسل العضو اللامس قولان أحدهما ذلك (3)
خلافا للمصنف، وكذا لا غسل بمسه بعد الغسل.
وفي وجوبه بمس عضو كمل غسله قولان، اختار المصنف
عدمه (4).
وفي حكم الميت جزؤه المشتمل على عظم والمبان منه
397

من حي (1)، والعظم المجرد عند المصنف، استنادا إلى دوران
الغسل معه وجودا وعدما، وهو ضعيف (2).
(ويجب فيه) أي في غسل المس (الوضوء) قبله أو بعده
كغيره من أغسال الحي غير الجنابة.
و " في " في قولة: " فيه " للمصاحبة كقوله تعالى:
" أدخلوا في أمم " و " فخرج على قومه في زينته "
إن عاد ضميره إلى الغسل، وإن عاد إلى المس فسببية (3).
398

(القول في أحكام الأموات: وهي خمسة)
الأول - (الاحتضار): وهو السوق (1) أعاننا الله عليه
وثبتنا بالقول الثابت لديه.
سمي به لحضور الموت، أو الملائكة الموكلة به، أو إخوانه
وأهله عنده.
(ويجب) كفاية (توجيهه) أي المحتضر المدلول عليه
بالمصدر (2) (إلى القبلة) في المشهور (3)، بأن يجعل على ظهره
ويجعل باطن قدميه إليها (4): (بحيث لو جلس استقبل).
ولا فرق في ذلك بين الصغير والكبير.
ولا يختص الوجوب بوليه، بل بمن علم باحتضاره وإن تأكد
فيه (5) وفي الحاضرين.
399

(ويستحب نقله إلى مصلاه): وهو ما كان أعده للصلاة
فيه، أو عليه، إن تعسر عليه الموت واشتد به النزع كما
ورد به النص (1)، وقيده به المصنف في غيره (2).
(وتلقينه الشهادتين، والإقرار بالأئمة الاثني عشر عليهم السلام)
والمراد بالتلقين التفهيم يقال: " غلام لقن " أي سريع
الفهم، فيعتبر إفهامه ذلك.
وينبغي للمريض متابعته باللسان والقلب، فإن تعذر اللسان
اقتصر على القلب.
(وكلمات الفرج) وهي، " لا إله إلا الله الحليم
الكريم " إلى قوله: وسلام على المرسلين والحمد لله
رب العالمين ".
وينبغي أن يجعل خاتمة تلقينه " لا إله إلا الله "، فمن كان
آخر كلامه " لا إله إلا الله " دخل الجنة.
(وقراءة القرآن عنده) قبل خروج روحه وبعده، للبركة
400

والاستدفاع (1) خصوصا يس والصافات قبله، لتعجيل راحته.
(والمصباح إن مات ليلا) في المشهور (2)، ولا شاهد له
بخصوصه، وروي ضعيفا دوام الإسراج.
(ولتغمض عيناه) بعد موته معجلا، لئلا يقبح منظره.
(ويطبق فوه) كذلك.
وكذا يستحب شد لحييه بعصابة، لئلا يسترخي (3).
401

(وتمد يداه إلى جنبيه) وساقاه إن كانتا منقبضتين، ليكون
أطوع للغسل وأسهل للدرج في الكفن.
(ويغطى بثوب) للتأسي، ولما فيه من الستر والصيانة.
(ويعجل تجهيزه) فإنه من إكرامه (إلا مع الاشتباه)
فلا يجوز التعجيل فضلا عن رجحانه (فيصبر عليه ثلاثة أيام)
إلا أن يعلم قبلها لتغير وغيره من إمارات الموت، كانخساف
صدغيه وميل أنفه، وامتداد جلدة وجهه، وانخلاع كفه
من ذراعه، واسترخاء قدميه، وتقلص أنثييه إلى فوق مع تدلي
الجلدة (1).
(ويكره حضور الجنب والحائض عنده) لتأذي الملائكة
بهما.
وغاية الكراهة تحقق الموت، وانصراف الملائكة (2).
402

(وطرح حديد على بطنه) في المشهور، ولا شاهد له
من الأخبار (1). ولا كراهة في وضع غيره، للأصل.
وقيل: يكره أيضا.
(الثاني - الغسل)
(ويجب تغسيل كل) ميت (مسلم أو بحكمه) كالطفل
و المجنون المتولدين من مسلم، ولقيط دار الإسلام، أو دار الكفر
وفيها مسلم يمكن تولده منه، والمسبي بيد المسلم على القول بتبعيته
في الإسلام، كما هو مختار المصنف (2) وإن كان المسبي ولد زنا (3)
وفي المتخلق من ماء الزاني المسلم نظر:
من انتفاء التبعية شرعا (4).
ومن (5) تولده منه حقيقة، وكونه ولدا لغة فيتبعه في الإسلام
403

كما يحرم نكاحه.
ويستثنى من المسلم من حكم بكفره من الفرق كالخارجي والناصبي
والمجسم، وإنما ترك استثناءه، لخروجه عن الإسلام حقيقة وإن أطلق
عليه ظاهرا.
ويدخل في حكم المسلم الطفل (ولو سقطا إذا كان له أربعة أشهر)
ولو كان دونها لف في خرقة ودفن بغير غسل.
(بالسدر) أي بماء مصاحب لشئ من السدر، وأقله
ما يطلق عليه اسمه، وأكثره أن لا يخرج به الماء عن الإطلاق
في الغسلة الأولى.
(ثم) بماء مصاحب لشئ من (الكافور) كذلك.
(ثم) يغسل ثالثا بالماء (القراح (1)) وهو المطلق الخالص
404

من الخليط: بمعنى كونه غير معتبر فيه، لا أن سلبه عنه معتبر
وإنما المعتبر كونه ماء مطلقا.
وكل واحد من هذه الأغسال (كالجنابة) يبدأ بغسل رأسه
ورقبته أولا، ثم بميامنه، ثم مياسره، أو يغمسه في الماء دفعة
واحدة عرفية.
(مقترنا) في أوله (بالنية).
وظاهر العبارة وهو الذي صرح به في غيره الاكتفاء بنية واحدة
للأغسال الثلاثة، والأجود التعدد بتعددها (1).
ثم إن اتحد الغاسل تولى هو النية، ولا تجزي من غيره، وإن
تعدد واشتركوا في الصب نووا جميعا.
ولو كان البعض يصب والآخر يقلب نوى الصاب
لأنه الغاسل حقيقة، واستحب من الآخر (2).
واكتفى المصنف في الذكرى بها منه أيضا (3). ولو ترتبوا:
بأن غسل كل واحد منهم بعضا - اعتبرت من كل واحد عند
ابتداء فعله.
405

(والأولى بميراثه أولى بأحكامه)، بمعنى أن الوارث أولى
ممن ليس بوارث وإن كان قريبا.
ثم إن اتحد الوارث اختص، وإن تعدد فالذكر أولى من الأنثى
والمكلف من غيره، والأب من الولد والجد.
(والزوج أولى) بزوجته (مطلقا (1)) في جميع أحكام الميت
ولا فرق بين الدائم والمنقطع.
(ويجب المساواة) بين الغاسل والميت (في الرجولية والأنوثية)
فإذا كان الولي مخالفا للميت أذن للمماثل لا أن ولايته تسقط، إذ
لا منافاة بين الأولوية وعدم المباشرة.
وقيد بالرجولية لئلا يخرج تغسيل كل من الرجل والمرأة
ابن ثلاث سنين وبنته، لانتفاء وصف الرجولية في المغتسل الصغير
ومع ذلك لا يخلو من القصور كما لا يخفي (2).
406

وإنما يعتبر المماثلة (في غير الزوجين) فيجوز لكل منهما
تغسيل صاحبه اختيارا، فالزوج بالولاية، والزوجة معها أو بإذن
الولي (1).
والمشهور أنه من وراء الثياب وإن جاز النظر (2).
407

ويغتفر العصر هنا في الثوب كما يغتفر في الخرقة الساترة للعورة
مطلقا (1)، إجراء لهما مجرى ما لا يمكن عصره.
ولا فرق في الزوجة بين الحرة والأمة، والمدخول بها وغيرها.
والمطلقة رجعية زوجة، بخلاف البائن.
ولا يقدح انقضاء العدة (2) في جواز التغسيل
408

عندنا (1)، بل لو تزوجت جاز لها وإن بعد الفرض، وكذا
يجوز للرجل تغسيل مملوكته غير المزوجة وإن كانت أم ولد، دون
المكاتبة وإن كانت مشروطة، دون العكس لزوال ملكه عنها.
نعم لو كانت أم ولد غير منكوحة لغيره عند الموت جاز.
(ومع التعذر) للمساوي في الذكورة والأنوثة (فالمحرم)
وهو من يحرم نكاحه مؤبدا بنسب أو رضاع أو مصاهرة
يغسل محرمة الذي يزيد سنه عن ثلاث سنين (من وراء الثوب)
(فإن تعذر) المحرم والمماثل (فالكافر) يغسل المسلم والكافرة
تغسل المسلمة (بتعليم المسلم) على المشهور (2).
والمراد هنا صورة الغسل ولا يعتبر فيه النية.
ويمكن اعتبار نية الكافر كما يعتبر نيته في العتق (3). ونفاه
409

المحقق في المعتبر لضعف المستند وكونه ليس بغسل حقيقي
لعدم النية.
وعذره (1) واضح.
(ويجوز تغسيل الرجل ابنة ثلاث سنين مجردة، وكذا المرأة)
يجوز لها تغسيل ابن ثلاث مجردا وإن وجد المماثل.
ومنتهى تحديد السن الموت فلا اعتبار بما بعده وإن طال
410

وبهذا يمكن وقوع الغسل لولد الثلاث تامة من غير زيادة. فلا يرد
ما قيل إنه يعتبر نقصانها ليقع الغسل قبل تمامها.
(والشهيد) وهو المسلم ومن بحكمه الميت في معركة قتال أمر به
النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو الإمام أو نائبهما الخاص:
وهو في حزبهما بسببه (1)، أو قتل في جهاد مأمور به حال الغيبة
كما لو دهم على المسلمين من يخاف منه على بيضة الإسلام، فاضطروا
إلى جهادهم بدون الإمام أو نائبه، على خلاف في هذا القسم (2).
سمي بذلك لأنه مشهود له بالمغفرة والجنة (لا يغسل
ولا يكفن بل يصلى عليه) ويدفن بثيابه ودمائه، وينزع عنه
411

الفرو والجلود كالخفين وإن أصابهما الدم.
ومن خرج عما ذكرناه يجب تغسيله وتكفينه وإن أطلق عليه
اسم الشهيد في بعض الأخبار، كالمطعون والمبطون والغريق، والمهدوم
عليه والنفساء والمقتول دون ماله وأهله من قطاع الطريق
وغيرهم (1).
(ويجب إزالة النجاسة) العرضية (عن بدنه أولا) قبل
الشروع في غسله.
(ويستحب فتق قميصه) من الوارث أو من يأذن له (1)
(ونزعه من تحته) لأنه مظنة النجاسة، ويجوز غسله فيه، بل
هو أفضل عند الأكثر (3)، ويطهر بطهره من غير عصر، وعلى تقدير
412

نزعه تستر عورته وجوبا به أو بخرقة، وهو أمكن للغسل (1)
إلا أن يكون الغاسل غير مبصر أو واثقا نفسه بكف البصر
فيستحب استظهارا.
(وتغسيله على ساجة) وهي لوح من خشب مخصوص (2).
والمراد وضعه عليها أو على غيرها مما يؤدي فائدتها، حفظا
لجسده من التلطخ وليكن على مرتفع ومكان الرجلين منحدرا
(مستقبل القبلة) (3).
وفي الدروس يجب الاستقبال به، ومال إليه في الذكرى
واستقرب عدمه في البيان،
(وتثليث الغسلات) بأن يغسل كل عضو من الأعضاء الثلاثة
ثلاثا ثلاثا في كل غسلة.
(وغسل يديه) أي يدي الميت إلى نصف الذراع ثلاثا
(مع كل غسلة).
413

وكذا يستحب غسل الغاسل يديه مع كل غسلة إلى المرفقين.
(ومسح بطنه (1) في) الغسلتين (الأوليين) قبلهما تحفظا
من خروج شئ بعد الغسل (2)، لعدم القوة الماسكة، إلا الحامل
التي مات ولدها، فإنها لا تمسح، حذرا من الإجهاض (3).
(وتنشيفه) بعد الفراغ من الغسل (بثوب)، صونا
للكفن من البلل.
(وإرسال الماء في غير الكنيف) المعد للنجاسة.
والأفضل أن يجعل في حفيرة خاصة به
(وترك ركوبه): بأن يجعله الغاسل بين رجليه.
(وإقعاده (4) وقلم ظفره وترجيل شعره) وهو تسريحه
ولو فعل ذلك (5) دفن ما ينفصل من شعره وظفره معه وجوبا.
414

(الثالث - الكفن)
(والواجب منه) ثلاثة أثواب،
(مئزر) بكسر الميم ثم الهمزة الساكنة، يستر ما بين
السرة والركبة.
ويستحب أن يستر ما بين صدره وقدمه.
(وقميص) يصل إلى نصف الساق، وإلى القدم أفضل ويجزئ
مكانه ثوب ساتر لجميع البدن على الأقوى.
(وإزار) بكسر الهمزة: وهو ثوب شامل لجميع البدن.
ويستحب زيادته على ذلك طولا بما يمكن شده من قبل
رأسه ورجليه، وعرضا بحيث يمكن جعل أحد جانبيه على الآخر.
ويراعى في جنسها القصد (1) بحسب حال الميت، فلا يجب
الاقتصار على الأدون، وإن ماكس الوارث، أو كان غير مكلف.
415

ويعتبر في كل واحد منهما أن يستر البدن بحيث لا يحكي ما تحته.
وكونه من جنس ما يصلي فيه الرجل، وأفضله القطن الأبيض
وفي الجلد وجه بالمنع مال إليه المصنف في البيان وقطع به
في الذكرى، لعدم فهمه من إطلاق الثوب (1)، ولنزعه عن الشهيد.
وفي الدروس
اكتفى بجواز الصلاة فيه للرجل كما ذكرناه.
هذا كله (مع القدرة).
أما مع العجز فيجزي من العدد ما أمكن ولو ثوبا واحدا.
، وفي الجنس يجزي كل مباح (2) لكن يقدم الجلد على الحرير (3).
416

وهو على غير المأكول: من وبر وشعر وجلد (1)، ثم
النجس (2). ويحتمل تقديمه على الحرير وما بعده، وعلى غير المأكول
خاصة (3)، والمنع من غير جلد المأكول مطلقا.
(ويستحب) أن يزاد للميت (الحبرة) بكسر الحاء وفتح
الباء الموحدة، وهو ثوب يمني، وكونها عبرية - بكسر العين نسبة
إلى بلد باليمن - حمراء (4).
ولو تعذرت الأوصاف أو بعضها سقطت، واقتصر
على الباقي ولو لفافة بدلها.
417

(والعمامة) للرجل، وقدرها (1) ما يؤدي هيئتها المطلوبة
شرعا: بأن تشتمل على حنك وذؤابتين من الجانبين تلقيان
على صدره، على خلاف الجانب الذي خرجتا منه (2) هذا بحسب
الطول، وأما العرض فيعتبر فيه إطلاق اسمها.
(والخامسة) وهي خرقة طولها ثلاثة أذرع ونصف في عرض
نصف ذراع إلى ذراع يثفر (3) بها الميت ذكرا أو أنثى
418

ويلف بالباقي حقويه وفخذيه إلى حيث ينتهي، ثم يدخل طرفها
تحت الجزء الذي ينتهي إليه.
سميت خامسة نظرا إلى أنها منتهى عدد الكفن الواجب: وهو
الثلاث، والندب: وهو الحبرة والخامسة.
وأما العمامة فلا تعد من أجزاء الكفن اصطلاحا وإن استحبت.
(وللمرأة القناع) يستر به رأسها (بدلا عن العمامة) ويزاد (1)
عنه لها (النمط): وهو ثوب من صوف فيه خطط تخالف
لونه، شامل لجميع البدن فوق الجميع.
وكذا تزاد عنه خرقة أخرى تلف بها ثدياها وتشد إلى ظهرها
على المشهور (2).
ولم يذكرها المصنف هنا، ولا في البيان.
419

ولعله لضعف المستند، فإنه خبر مرسل مقطوع، وراويه سهل
ابن زياد.
(ويجب إمساس مساجده السبعة بالكافور) وأقله مسماه
على مسماها.
(ويستحب كونه ثلاثة عشر درهما وثلثا) ودونه في الفضل
أربعة دراهم، ودونه مثقال وثلث، ودونه مثقال.
(ووضع الفاضل) منه عن المساجد (على صدره) لأنه
مسجد (1) في بعض الأحوال.
(وكتابة اسمه وأنه يشهد الشهادتين وأسماه الأئمة عليهم السلام)
بالتربة الحسينية، ثم بالتراب الأبيض (على العمامة، والقميص
والأزار، والحبرة، والجريدتين (2)) المعمولتين (من سعف النخل).
أو من السدر، أو من الخلاف، أو من الرمان (أو)
من (شجر رطب) مرتبا في الفضل كما ذكر (3).
420

يجعل إحداهما من جانبه الأيمن، والأخرى من الأيسر
(فاليمنى عند الترقوة) واحدة التراقي: وهي العظام المكتنفة
لثغرة النحر (1) (بين القميص وبشرته، والأخرى بين القميص
والأزار من جانبه الأيسر)، فوق الترقوة.
ولتكونا خضراوتين، ليستدفع عنه (2) بهما العذاب ما دامتا
كذلك (3).
والمشهور أن قدر كل واحدة طول عظم ذراع الميت، ثم قدر
شبر، ثم أربع أصابع (4).
421

(1) واعلم أن الوارد في الخبر من الكتابة ما روي: أن
الصادق عليه السلام كتب على حاشية كفن ابنه إسماعيل:
" إسماعيل يشهد أن لا إله إلا الله ".
وزاد الأصحاب الباقي: كتابة (1)
422

ومكتوبا (1) عليه، ومكتوبا (2) به للتبرك ولأنه خير محض، مع ثبوت
أصل الشرعية (3)، وبهذا (4) اختلفت عباراتهم فيما يكتب عليه
423

من أقطاع الكفن (1).
وعلى ما ذكر (2) لا يختص الحكم (3) بالمذكور (4) بل جميع
أقطاع الكفن في ذلك (5) سواء، بل هي (6) أولى من الجريدتين
لدخولها (7) في إطلاق النص، بخلافها (8).
(وليخط) الكفن إن احتاج إلى الخياطة (بخيوطه) مستحبا.
(ولا تبل بالريق) على المشهور فيهما، ولم نقف فيهما
على أثر.
(ويكره الأكمام المبتدأة) للقميص، واحترز به عما لو
كفن في قميصه، فإنه لا كراهة في كمه، بل تقطع منه
الأزرار (9).
(وقطع الكفن بالحديد) قال الشيخ: سمعناه مذاكرة
424

من الشيوخ، وعليه كان عملهم.
(وجعل الكافور في سمعه وبصره على الأشهر)، خلافا
للصدوق، حيث استحبه، استنادا إلى رواية معارضة بأصح منها
وأشهر (1).
(ويستحب اغتسال الغاسل قبل تكفينه) غسل المس إن أراد
هو التكفين.
(أو الوضوء) الذي يجامع غسل المس للصلاة فينوي فيه
الاستباحة، أو الرفع، أو إيقاع التكفين على الوجه الأكمل، فإنه
من جملة الغايات المتوقفة على الطهارة.
واو اضطر لخوف على الميت، أو تعذرت الطهارة غسل يديه
من المنكبين ثلاثا ثم كفنه.
ولو كفنه غير الغاسل فالأقرب استحباب كونه متطهرا، لفحوى
اغتسال الغاسل، أو وضوئه (2).
425

(الرابع - الصلاة عليه)
(وتجب) الصلاة (على كل من بلغ) أي أكمل
(ستا ممن له حكم الإسلام) من الأقسام المذكورة في غسله، عدا
الفرق المحكوم بكفرها من المسلمين.
(وواجبها القيام) مع القدرة، فلو عجز عنه صلى بحسب
المكنة كاليومية.
وهل يسقط فرض الكفاية عن القادر بصلاة العاجز؟
نظر: من (1) صدق الصلاة الصحيحة عليه. ومن (2)
نقصها عنه مع القدرة على الكاملة (3)، وتوقف في الذكرى (4)
لذلك (5).
426

(واستقبال) المصلي (القبلة وجعل رأس الميت إلى يمين المصلي)
مستلقيا على ظهره بين يديه، إلا أن يكون مأموما فيكفي كونه
بين يدي الإمام ومشاهدته له (1).
وتغتفر الحيلولة بمأموم مثله، وعدم (2) تباعده عنه بالمعتد به
عرفا.
وفي اعتبار ستر عورة المصلي وطهارته من الخبث في ثوبه وبدنه
وجهان (3).
(والنية) المشتملة على قصد الفعل: وهو الصلاة على الميت
427

المتحد أو المتعدد، وإن لم يعرفه، حتى لو جل ذكوريته وأنوثيته جاز
تذكير الضمير وتأنيثه مؤولا بالميت والجنازة (1) متقربا.
وفي اعتبار نية الوجه: من وجوب وندب - كغيرها من العبادات -
قولان للمصنف في الذكرى مقارنة للتكبير (2) مستدامة الحكم
إلى آخرها.
(وتكبيرات خمس) إحداها تكبيرة الإحرام في غير المخالف (3)
(يتشهد الشهادتين عقيب الأولى: ويصلي على النبي وآله عقيب الثانية)
ويستحب أن يضيف إليها الصلاة على باقي الأنبياء عليهم السلام
(ويدعو للمؤمنين والمؤمنات) بأي دعاء اتفق وإن كان المنقول
أفضل (عقيب الثالثة).
(و) يدعو (للميت) المكلف المؤمن (عقيب الرابعة
وفي المستضعف): وهو الذي لا يعرف الحق، ولا يعاند فيه
ولا يوالي أحدا بعينه (4) (بدعائه) وهو:
428

" اللهم اغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم
عذاب الجحيم ".
(ويدعوا) في الصلاة (على الطفل) المتولد من مؤمنين
(لأبويه)، أو من مؤمن له، ولو كانا غير مؤمنين دعا عقيبها
بما أحب.
والظاهر حينئذ عدم وجوبه أصلا (1).
والمراد بالطفل غير البالغ، وإن وجبت الصلاة عليه.
(والمنافق): وهو هنا المخالف مطلقا (2) يقتصر)
في الصلاة عليه (على أربع) تكبيرات).
(ويلعنه) عقيب الرابعة.
وفي وجوبه وجهان.
وظاهره هنا وفي البيان الوجوب، ورجح في الذكرى
والدروس عدمه.
والأركان من هذه الواجبات سبعة، أو ستة:
النية، والقيام للقادر، والتكبيرات (ولا يشترط فيها الطهارة)
من الحدث إجماعا.
(ولا التسليم) عندنا إجماعا، بل لا يشرع بخصوصه إلا مع
429

التقية فيجب لو توقفت عليه (1).
(ويستحب إعلام المؤمنين به) أي بموته، ليتوفروا على تشييعه
وتجهيزه، فيكتب لهم الأجر وله المغفرة بدعائهم، وليجمع فيه
بين وظيفتي التعجيل والإعلام، فيعلم منهم من لا ينافي التعجيل
عرفا، ولو استلزم المثلة حرم (2).
(ومشي المشيع خلفه، أو إلى أحد جانبيه).
(ويكره أن يتقدمه لغير تقية.
(والتربيع): وهو حمله بأربعة رجال من جوانب السرير الأربعة
كيف اتفق، والأفضل التناوب، وأفضله أن يبدأ في الحمل بجانب
السرير الأيمن: وهو الذي يلي يسار الميت فيحمله بكتفه الأيمن (3)
ثم ينتقل إلى مؤخره الأيمن فيحمله بالأيمن كذلك، ثم ينتقل
إلى مؤخره الأيسر فيحمله بالكتف الأيسر، ثم ينتقل إلى مقدمه
الأيسر فيحمله بالكتف الأيسر كذلك.
430

(والدعاء) حال الحمل بقوله: " بسم الله، اللهم صل
على محمد وآل محمد، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات ".
وعند مشاهدته بقوله: " الله أكبر، هذا ما وعدنا الله
ورسوله وصدق الله ورسوله اللهم زدنا إيمانا وتسليما، الحمد لله
الذي تعزز بالقدرة، وقهر العباد بالموت، الحمد لله الذي لم يجعلني
من السواد المخترم " (1): وهو الهالك من الناس على غير بصيرة
أو مطلقا (2)، إشارة إلى الرضا بالواقع كيف كان، والتفويض
إلى الله تعالى بحسب الإمكان.
(والطهارة ولو تيمما مع) القدرة على المائية مع (خوف الفوت)
وكذا بدونه على المشهور (3).
431

(والوقوف) أي وقوف الإمام، أو المصلي وحده (عند وسط
الرجل، وصدر المرأة على الأشهر).
ومقابل المشهور قول الشيخ في الخلاف: إنه يقف عند رأس
الرجل، وصدر المرأة.
وقوله في الإستبصار: إنه عند رأسها وصدره، والخنثى هنا
كالمرأة.
(والصلاة) في المواضع (المعتادة) لها، للتبرك بها بكثرة
من صلى فيها، ولأن السامع بموته يقصدها.
(ورفع اليدين بالتكبير كله على الأقوى).
والأكثر على اختصاصه بالأولى، وكلاهما مروي، ولا منافاة
فإن المندوب قد يترك أحيانا (1) وبذلك يظهر وجه القوة.
(ومن فاته بعض التكبيرات) مع الإمام (أتم الباقي بعد فراغه)
ولاء من غير دعاء (ولو على القبر) على تقدير رفعها ووضعها
فيه، وإن بعد الفرض.
وقد أطلق المصنف وجماعة جواز الولاء حينئذ، عملا بإطلاق
النص (2)
432

وفي الذكرى لو دعا كان جائزا، إذ هو نفي وجوب، لا نفي
جواز (1).
وقيده بعضهم بخوف الفوت على تقدير الدعاء، وإلا وجب
ما أمكن منه، وهو أجود (2) -
(ويصلي على من لم يصل عليه يوما وليلة) على أشهر
القولين (3) (أو دائما) على القول الآخر، وهو الأقوى.
والأولى قراءة " يصلي " في الفعلين مبنيا للمعلوم، أي يصلي
من أراد الصلاة على الميت إذا لم يكن هذا المريد قد صلى عليه، ولو
بعد الدفن المدة المذكورة، أو دائما سواء أكان قد صلي على الميت
أم لا.
هذا هو الذي اختاره المصنف في المسألة (4).
433

ويمكن قراءته مبنيا للمجهول فيكون الحكم (1) مختصا بميت
لم يصل عليه.
أما من صلي عليه فلا تشرع الصلاة عليه بعد دفنه، وهو
قول لبعض الأصحاب، جمعا بين الأخبار.
ومختار المصنف (2) أقوى.
(ولو حضرت جنازة في الأثناء) أي في أثناء الصلاة على جنازة
أخرى (أتمها ثم استأنف) الصلاة (عليها) أي على الثانية
وهو الأفضل مع عدم الخوف على الثانية.
وربما قيل بتعينه (3) إذا كانت الثانية مندوبة، لاختلاف
الوجه (4)، وليس (5) بالوجه.
وذهب العلامة وجماعة من المتقدمين والمتأخرين إلى أنه يتخير
بين قطع الصلاة على الأولى واستئنافها عليهما، وبين إكمال الأولى
وإفراد الثانية بصلاة ثانية، محتجين برواية علي بن جعفر
434

عن أخيه عليه السلام في قوم كبروا على جنازة تكبيرة، أو تكبيرتين
ووضعت معها أخرى؟
قال عليه السلام: إن شاءوا تركوا الأولى حتى يفرغوا من التكبير
على الأخيرة.
وإن شاءوا رفعوا الأولى وأتموا التكبير على الأخيرة، كل ذلك
لا بأس به (1).
قال المصنف في الذكرى: والرواية قاصرة عن إفادة المدعى
إذ ظاهرها أن ما بقي من تكبير الأولى محسوب للجنازتين، فإذا
فرغوا من تكبير الأولى تخيروا بين تركها بحالها حتى يكملوا التكبير
على الأخيرة، وبين رفعها من مكانها والإتمام على الأخيرة، وليس
في هذا دلالة على إبطال الصلاة على الأولى بوجه.
هذا مع تحريم قطع الصلاة الواجبة.
نعم لو خيف على الجنائز قطعت (2) الصلاة ثم استأنف عليها
لأنه قطع لضرورة، وإلى ما ذكره أشار هنا بقوله:
(والحديث) الذي رواء علي بن جعفر عليه السلام (يدل
على احتساب ما بقي من التكبير لهما ثم يأتي بالباقي للثانية، وقد حققناه
في الذكرى) بما حكيناه عنها.
435

ثم استشكل بعد ذلك الحديث بعدم تناول النية أولا للثانية فكيف
يصرف باقي التكبيرات إليها، مع توقف العمل على النية؟ (1).
وأجاب بإمكان حمله على إحداث نية من الآن لتشريك باقي
التكبير على الجنازتين.
وهذا الجواب لا معدل عنه، وإن لم يصرح بالنية في الرواية
لأنها أمر قلبي يكفي فيها مجرد القصد إلى الصلاة على الثانية " إلى آخر
ما يعتبر فيها.
وقد حقق المصنف في مواضع أن الصدر الأول ما كانوا يتعرضون
للنية، لذلك (2)، وإنما أحدث البحث عنها المتأخرون، فيندفع
الإشكال.
وقد ظهر من ذلك أن لا دليل على جواز القطع، وبدونه يتجه
تحريمه (3).
وما ذكره المصنف: من جواز القطع - على تقدير الخوف
436

على الجنائز - غير واضح، لأن الخوف إن كان على الجميع، أو
على الأولى فالقطع يزيد الضرر على الأولى ولا يزيله، لانهدام ما قد
مضى من صلاتها الموجب لزيادة مكثها، وإن كان الخوف
على الأخيرة فلا بد لها من المكث مقدار الصلاة عليها وهو يحصل
مع التشريك الآن والاستئناف.
نعم يمكن فرضه نادرا بالخوف على الثانية (1)، بالنظر
إلى تعدد الدعاء مع اختلافهما فيه: بحيث يزيد ما يتكرر منه
على ما مضى من الصلاة.
وحيث يختار التشريك بينهما فيما بقي ينوي بقلبه على الثانية
ويكبر تكبيرا مشتركا بينهما، كما لو حضرتا ابتداء ويدعو لكل
واحدة بوظيفتها من الدعاء مخيرا في التقديم إلى أن يكمل الأولى، ثم
يكمل ما بقي من الثانية.
ومثله ما لو اقتصر على صلاة واحدة على متعدد، فإنه يشرك
بينهم فيما يتحد لفظه ويراعي في المختلف - كالدعاء لو كان فيهم
مؤمن ومجهول ومنافق وطفل - وظيفة كل واحد.
ومع اتحاد الصنف يراعي تثنية الضمير وجمعه وتذكيره
وتأنيثه، أو يذكر مؤولا بالميت، أو يؤنث مؤولا بالجنازة
437

والأول (1) أولى.
(الخامس - دفنه)
(والواجب مواراته في الأرض)، على وجه يحرس (2)
جثته من السباع، ويكتم رائحته عن الانتشار، واحترز بالأرض
عن وضعه في بناء ونحوه وإن حصل الوصفان (مستقبل القبلة)
بوجهه ومقاديم بدنه (على جانبه الأيمن) مع الإمكان (3)،
(ويستحب) أن يكون (عمقه) أي الدفن مجازا، أو القبر
المعلوم بالمقام (4) (نحو قامة) معتدلة، وأقل الفضل إلى الترقوة.
(ووضع الجنازة) عند قربها (5) من القبر بذراعين، أو بثلاث
عند رجليه (أولا ونقل الرجل) بعد ذلك (في ثلاث دفعات)
حتى يتأهب للقبر وإنزاله في الثالثة،
438

(والسبق برأسه) حالة الإنزال.
(والمرأة) توضع مما يلي القبلة وتنقل. دفعة واحدة وتنزل (عرضا)
هذا هو المشهور، والأخبار خالية عن الدفعات (1).
(ونزول الأجنبي معه) لا الرحم، وإن كان ولدا
(إلا فيها) فإن نزول الرحم معها أفضل، والزوج أولى بها (2) منه
ومع تعذرهما فامرأة صالحة ثم أجنبي صالح.
(وحل عقد الأكفان) من قبل رأسه ورجليه.
(ووضع خده) الأيمن على التراب خارج الكفن.
(وجعل) شئ من (تربة الحسين عليه السلام معه) تحت
خده، أو في مطلق الكفن، أو تلقاء وجهه، ولا يقدح
في مصاحبته لها احتمال وصول نجاسته إليها، لأصالة عدمه -
439

مع ظهور طهارته الآن.
(وتلقينه) الشهادتين، والإقرار بالأئمة عليهم السلام واحدا
بعد واحد ممن نزل معه إن كان وليا، وإلا استأذنه، مدنيا فاه
إلى أذنه، قائلا له: اسمع ثلاثا قبله:
(والدعاء له) بقوله: " بسم الله وبالله وفي سبيل الله
وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وآله، اللهم عبدك نزل بك وأنت
خير منزول به، اللهم افسح له في قبره: وألحقه - بنبيه، اللهم
إنا لا نعلم منه إلا خيرا وأنت أعلم به منا (1).
(والخروج من قبل الرجلين)، لأنه باب القبر، وفيه
احترام للميت.
(والإهالة) (2) للتراب من الحاضرين غير الرحم (بظهور
الأكف مسترجعين) أي قائلين: " إنا لله وإنا إليه راجعون "
حالة الإهالة.
يقال: رجع واسترجع: إذا قال ذلك.
(ورفع القبر) عن وجه الأرض مقدار (أربع أصابع)
مفرجات إلى شبر لا أزيد ليعرف فيزار ويحترم.
ولو اختلفت سطوح الأرض اغتفر رفعه عن أعلاها وتأدت
السنة بأدناها (3).
440

(وتسطيحه) لا يجعل له في ظهره سنم (1) لأنه من شعار
الناصبة وبدعهم المحدثة، مع اعترافهم بأنه خلاف السنة، مراغمة
للفرقة المحقة.
(وصب الماء عليه من قبل رأسه) إلى رجليه (دورا)
إلى أن ينتهي إليه.
(و) يصب (الفاضل على وسطه)، وليكن الصاب
مستقبلا.
(ووضع اليد عليه) بعد نضحه بالماء، مؤثرة في التراب
مفرجة الأصابع.
وظاهر الأخبار أن الحكم مختص بهذه الحالة فلا يستحب
تأثيرها بعدها.
روى زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال:
وإذا حثي عليه التراب، وسوي قبره فضع كفك على قبره
441

عند رأسه، وفرج أصابعك واغمز (1) كفك عليه، بعد ما ينضح
بالماء والأصل عدم الاستحباب في غيره.
وأما تأثير اليد في غير التراب فليس بسنة مطلقا (2)، بل
اعتقاده سنة بدعة (مترحما) عليه بما شاء من الألفاظ، وأفضله.
" اللهم جاف الأرض عن جنبيه وأصعد إليك روحه، ولقه
منك رضوانا وأسكن قبره من رحمتك ما تغنيه عن رحمة من سواك "
وكذا يقوله كلما زاره مستقبلا.
(وتلقين الولي)، أو من يأمره (بعد الانصراف) بصوت
عال إلا مع التقية (3).
(ويتخير) الملقن (في الاستقبال والاستدبار)، لعدم
ورود معين.
(ويستحب التعزية) لأهل المصيبة: وهي تفعلة من العزاء
وهو الصبر، ومنه " أحسن الله عزاءك " أي صبرك وسلوك
يمد ويقصر.
والمراد بها الحمل على الصبر والتسلية عن المصاب بإسناد الأمر
إلى حكمة الله تعالى وعدله، وتذكيره بما وعد الله الصابرين، وما فعله
الأكابر من المصابين، فمن عزى مصابا فله مثل أجره، ومن عزى
442

ثكلى كسي بردا في الجنة (1)، وهي مشروعة (قبل الدفن) إجماعا
(وبعده) عندنا (2)؟
(وكل أحكامه) أي أحكام الميت (من فروض الكفاية)
إن كانت واجبة (أو ندبها) إن كانت مندوبة (3).
ومعنى الفرض الكفائي مخاطبة الكل به ابتداء على وجه يقتضي
وقوعه من أيهم كان وسقوطه بقيام من فيه الكفاية، فمتى تلبس به
443

من يمكنه القيام به سقط عن غيره سقوطا مراعى بإكماله (1)
ومتى لم يتفق ذلك أثم الجميع في التأخر عنه (2)، سواء في ذلك
الولي وغيره: ممن علم بموته من المكلفين، القادرين عليه.
(الفصل الثالث - في التيمم)
(وشرطه: عدم الماء): بأن يوجد مع طلبه على الوجه
المعتبر (3).
(أو عدم (4) الوصلة إليه) مع كونه موجودا، إما للعجز
444

عن الحركة المحتاج إليها في تحصيله لكبر (1)، أو مرض، أو ضعف
قوة ولم يجد معاونا ولو بأجرة مقدورة، أو لضيق (2) الوقت:
بحيث لا يدرك منه بعد الطهارة ركعة (3).
أو لكونه (4) في بئر بعيد القعر يتعذر الوصول إليه بدون الآلة
وهو عاجز عن تحصيلها ولو بعوض، أو شق (5) ثوب نفيس، أو
إعارة.
أو لكونه (6) موجودا في محل يخاف من السعي إليه على نفس
445

أو طرف (1)، أو مال محترمة (2) أو بضع، أو عرض (3)
أو ذهاب عقل ولو بمجرد الجبن، أو لوجوده بعوض يعجز
عن بذله، لعدم، أو حاجة ولو في وقت مترقب (4) ولا فرق
446

في المال المخوف ذهابه والواجب بذله عوضا، حيث يجب حفظ الأول
وبذل الثاني: بين القليل والكثير، والفارق (1) النص (2) لا أن
الحاصل بالأول العوض على الغاصب وهو مقطع، وفي الثاني الثواب
وهو دائم، لتحقق الثواب فيهما مع بذلهما اختيارا طلبا للعبادة
لو أبيح ذلك، بل قد يجتمع في الأول العوض والثواب، بخلاف الثاني

(1) أي متمكن من شراء المال.
(2) أي لا يتيمم.
447

(أو الخوف من استعماله لمرض) حاصل يخاف زيادته
أو بطؤه أو عسر علاجه، أو متوقع (1)، أو برد شديد يشق
تحمله، أو خوف عطش حاصل، أو متوقع في زمان لا يحصل
فيه الماء عادة، أو بقرائن الأحوال لنفس محترمة ولو حيوانا.
(ويجب طلبه) مع فقده في كل جانب (من الجوانب
الأربعة غلوة سهم) - بفتح الغين: وهي مقدار رمية من الرامي
بالآلة معتدلين (2) (في) الأرض (الحزنة) - بسكون الزاء المعجمة
خلاف السهلة.
وهي المشتملة على نحو الأشجار والأحجار، والعلو
والهبوط المانع من رؤية ما خلفه.
(و) غلوة (سهمين في السهلة).
ولو اختلفت في الحزونة والسهولة توزع بحسبهما (3).
وإنما يجب الطلب كذلك (4) مع احتمال وجوده فيها
448

فلو علم عدمه مطلقا (1)، أو في بعض الجهات سقط الطلب مطلقا
أو فيه (2) كما أنه لو علم وجوده في أزيد من النصاب وجب قصده
مع الإمكان ما لم يخرج الوقت، وتجوز الاستنابة فيه (3)، بل قد
تجب ولو بأجرة مع القدرة.
ويشترط عدالة النائب إن كانت اختيارية، وإلا فمع إمكانها
ويحتسب لهما على التقديرين (4)، ويجب طلب التراب كذلك
لو تعذر، مع وجوبه (5).
(ويجب) التيمم (بالتراب الطاهر والحجر) لأنه من جملة
الأرض إجماعا (6).
449

والصعيد المأمور به (1) هو وجهها، ولأنه تراب اكتسب
رطوبة لزجة وعملت فيه الحرارة فأفادته استمساكا.
ولا فرق بين أنواعه (2): من رخام (3)، وبرام، وغيرهما.
خلافا للشيخ حيث اشترط في جواز استعماله (4) فقد التراب
أما المنع منه مطلقا (5) فلا قائل به.
ومن جوازه (6) بالحجر يستفاد جوازه بالخزف بطريق أولى
لعدم خروجه بالطبخ عن اسم الأرض وإن خرج عن اسم التراب.
كما لم يخرج الحجر مع أنه أقوى استمساكا منه، خلافا
للمحقق في المعتبر محتجا بخروجه مع اعترافه بجواز السجود عليه.
وما يخرج عنها بالاستحالة يمنع من السجود عليه، وإن كانت
دائرة السجود أوسع بالنسبة إلى غيره (7).
450

(لا بالمعادن) كالكحل (1)، والزرنيخ، وتراب الحديد
ونحوه.
(و) لا (النورة) والجص بعد خروجهما عن اسم الأرض
بالإحراق (2)، أما قبله فلا.
451

(ويكره) التيمم (بالسبخة) بالتحريك فتحا وكسرا
والسكون (1): وهي الأرض المالحة النشاشة على أشهر القولين
ما لم يعلها ملح يمنع أصابة بعض الكف للأرض فلا بد من إزالته.
(والرمل)، لشبههما بأرض المعدن،
ووجه الجواز بقاء اسم الأرض.
(ويستحب من العوالي)، وهي ما ارتفع من الأرض
للنص (2)، ولبعدها من النجاسة، لأن الهابط تقصد للحدث
452

ومنه سمي الغائط (1) لأن أصله المنخفض، سمي الحال باسمه
لوقوعه فيه كثيرا.
(والواجب) في التيمم (النية) وهي القصد إلى فعله،
وسيأتي بقية ما يعتبر فيها، مقارنة لأول أفعاله (2): (و) هو
(الضرب على الأرض بيديه) معا: وهو وضعهما يسمى الاعتماد
فلا يكفي مسمى الوضع على الظاهر، خلافا للمصنف في الذكرى
فإنه جعل الظاهر الاكتفاء بالوضع.
ومنشأ الاختلاف تعبير النصوص بكل منهما (3)، وكذا عبارات
الأصحاب، فمن جوزهما جعله دالا على أن المؤدى واحد، ومن عين
453

الضرب حمل المطلق على المقيد (1).
وإنما يعتبر اليدان معا مع الاختيار، فلو تعذرت أحداهما، لقطع
أو مرض، أو ربط - اقتصر على الميسور ومسح الجبهة به وسقط
مسح اليد.
ويحتمل قويا مسحها بالأرض (2) كما يسمح الجبة بها لو كانتا

(1) التمعك: هو التمرغ في التراب والتقلب فيه كما يتمرغ الحمار
في التراب ويتقلب فيه.
454

مقطوعتين، وليس كذلك لو كانتا نجستين، بل يمسح بهما كذلك
مع تعذر التطهير إلا أن تكون متعدية، أو حائلة فيجب التجفيف
وإزالة الحائل مع الإمكان، فإن تعذر ضرب بالظهر إن خلا منهما
وإلا ضرب بالجبهة في الأول، وباليد النجسة في الثاني، كما لو كان
عليها جبيرة.
والضرب (مرة للوضوء) أي لتيممه الذي هو بدل منه
(فيمسح بهما جبهته من قصاص الشعر إلى طرف الأنف الأعلى)
بادئا بالأعلى كما أشعر به " من " و " إلى (1) "، وإن احتمل
غيره (2).
وهذا القدر من الجبهة
متفق عليه، وزاد بعضهم مسح الحاجبين، ونفى عنه المصنف في الذكرى البأس (3).
وآخرون مسح الجبينين: وهما المحيطان بالجهة يتصلان
بالصدغين (4).
وفي الثاني قوة، لوروده في بعض الأخبار الصحيحة (5)
455

أما الأول فما يتوقف عليه منه من باب المقدمة لا إشكال فيه، وإلا
فلا دليل عليه.
(ثم) يمسح (ظهر يده اليمنى ببطن اليسرى من الزند)
بفتح الزاي: وهو موصل طرف الذراع في الكتف (إلى أطراف
الأصابع، ثم) مسح ظهر (اليسرى) ببطن اليمنى (كذلك (1))
مبتدئا بالزند إلى الآخر، كما أشعر به كلامه.
(ومرتين للغسل) إحداهما يمسح بها جبهته، والأخرى يديه.
(ويتيمم غير الجنب) ممن عليه حدث يوجب الغسل عند
تعذر استعمال الماء مطلقا (2) (مرتين) إحداهما بدلا من الغسل
بضربتين، والأخرى بدلا من الوضوء بضربة.
ولو قدر على الوضوء خاصة وجب، ويتمم عن الغسل
كالعكس (3)، مع أنه يصدق عليه أنه محدث غير جنب، فلا بد
في إخراجه من قيد، وكأنه تركه اعتمادا على ظهوره.
(ويجب في النية) قصد (البدلية) من الوضوء، أو الغسل
إن كان التيمم بدلا عن أحدهما كما هو الغالب، فلو كان تيممه لصلاة
456

الجنازة، أو للنوم على طهارة، أو لخروجه جنبا من أحد المسجدين
على القول باختصاص التيمم بذلك كما هو أحد قولي المصنف (1)
لم يكن بدلا من أحدهما، مع احتمال بقاء العموم بجعله فيها بدلا
اختياريا (2).
(و) يجب فيه نية (الاستباحة) لمشروط بالطهارة (والوجه)
من وجوب، أو ندب، والكلام فيهما (3) كالمائية.
(والقرية) ولا ريب في اعتبارها في كل عبادة مفتقرة إلى نية
457

ليتحقق الإخلاص المأمور به في كل عبادة (1).
(و) تجب فيه (الموالاة): بمعنى المتابعة بين أفعاله بحيث
لا يعد مفرقا عرفا.
وظاهر الأصحاب الاتفاق على وجوبها (2).
وهل يبطل بالإخلال بها أو يأثم خاصة؟
وجهان (3).
وعلى القول بمراعاة الضيق فيه مطلقا (4) تظهر قوة الأول (5)
وإلا فالأصل يقتضي الصحة.
458

(ويستحب) نفض اليدين (1)) بعد كل ضربة بنفخ
ما عليهما من أثر الصعيد، أو مسحهما، أو ضرب إحداهما بالأخرى.
(وليكن) التيمم (عند آخر الوقت): بحيث يكون قد بقي
منه مقدار فعله مع باقي شرائط الصلاة المفقودة والصلاة تامة الأفعال
علما أو ظنا، ولا يؤثر فيه ظهور الخلاف (2) (وجوبا مع الطمع
في الماء) ورجاء حصوله ولو بالاحتمال البعيد (وإلا استحبابا)
على أشهر الأقوال بين المتأخرين.
والثاني - وهو الذي اختاره المصنف في الذكرى وادعى عليه
المرتضى والشيخ الإجماع - مراعاة الضيق مطلقا (3).
والثالث جوازه مع السعة مطلقا (4)، وهو قول الصدوق.
والأخبار بعضها دال على اعتبار الضيق مطلقا، وبعضها غير
مناف له، فلا وجه للجمع بينها بالتفصيل (5).
459

هذا في التيمم المبتدأ.
أما المستدام - كما لو تيمم لعبادة عند ضيق وقتها ولو بنذر
ركعتين في وقت معين يتعذر فيه الماء، أو عبادة راجحة بالطهارة
ولو ذكرا - جاز فعل غيرها به مع السعة.
(ولو تمكن من) استعمال (الماء انتقض) تيممه عن الطهارة
التي تمكن منها، فلو تمكن من عليه غير غسل الجنابة من الوضوء
خاصة (1)، انتقض تيممه خاصة، وكذا الغسل.
والحكم بانتقاضه بمجرد التمكن مبني على الظاهر.
وأما انتقاضه مطلقا (2) فمشروط بمضي زمان يسع فعل
المائية متمكنا منها، فلو طرأ بعد التمكن مانع قبله (3) كشف
عن عدم انتقاضه، سواء شرع فيها أم لا كوجوب الصلاة بأول
الوقت، والحج للمستطيع بسير القافلة مع اشتراط استقرار الوجوب
بمضي زمان يسع الفعل، لاستحالة التكليف بعبادة في وقت لا يسعها
460

مع احتمال انتقاضه مطلقا (1)، كما يقتضيه ظاهر الأخبار (2) وكلام
الأصحاب.
وحيث كان التمكن من الماء ناقضا، فإن اتفق قبل دخوله
في الصلاة انتقض إجماعا على الوجه المذكور (3) وإن وجده بعد
الفراغ صحت، وانتقض بالنسبة إلى غيرها.
461

(ولو وجده في أثناء الصلاة) ولو بعد التكبير (أتمها)
مطلقا (1) (على الأصح) عملا بأشهر الروايات (2) وأرجحها سندا
واعتضادا بالنهي الوارد عن قطع الأعمال (3).
ولا فرق في ذلك بين الفريضة والنافلة.
وحيث حكم بالإتمام فهو للوجوب على تقدير وجوبها فيحرم
قطعها والعدول بها إلى النافلة، لأن ذلك مشروط بأسباب مسوغة (4)
والحمل على ناسي الأذان قياس (5)، ولو ضاق الوقت فلا إشكال
في التحريم.
وهل ينتقض التيمم بالنسبة إلى غير هذه الصلاة على تقدير
عدم التمكن منه بعدها؟
الأقرب العدم، لما تقدم: من أنه مشروط بالتمكن ولم يحصل
والمانع الشرعي كالعقلي (6).
462

ومقابل الأصح أقوال: منها الرجوع ما لم يركع.
ومنها الرجوع ما لم يقرأ.
ومنها: التفصيل بسعة الوقت وضيقه، والأخيران (1) لا شاهد
لهما، والأول (2) مستند إلى رواية معارضة بما هو أقوى منها (3)
463

منشورات
جامعة النجف الدينية
- 32 -
اللمعة الدمشقية
للشهيد السعيد: محمد بن جمال الدين مكي العاملي
(الشهيد الأول)
قدس سره
734 - 786
الجزء الأول
القسم الثاني
الطبعة الثانية
منقحة ومزيدة بتحقيقات واسعة
بتحقيق وتعليق
السيد محمد كلانتر
465

كتاب الصلاة
466

كتاب الصلاة
فصوله أحد عشر:
(الأول - في أعدادها)
(والواجب سبع) صلوات:
(اليومية): الخمس الواقعة في اليوم والليلة (1)، نسبت
إلى اليوم تغليبا.
أو بناء على إطلاقه (2) على ما يشمل الليل.
(والجمعة والعيدان، والآيات، والطواف، والأموات
والملتزم بنذر وشبهه).
وهذه الأسماء إما غالبة عرفا، أو بتقدير حذف المضاف فيما عدا
الأولى، والموصوف فيها (3)، وعدها سبعة أسد مما صنع من قبله
467

حيث عدوها تسعة (1): بجعل الآيات ثلاثا بالكسوفين.
وفي إدخال صلاة الأموات اختيار إطلاقها عليها بطريق الحقيقة
الشرعية، وهو الذي صرح المصنف باختياره في الذكرى (2)
ونفي (3) الصلاة عمالا فاتحة فيها ولا طهور، والحكم بتحليلها
بالتسليم: ينافي الحقيقة.
وبقي من أقسام الصلاة الواجبة صلاة الاحتياط، والقضاء فيمكن
468

دخولهما في الملتزم (1)، وهو الذي استحسنه المصنف، في اليومية
لأن الأول مكمل لما يحتمل فواته منها، والثاني فعلها في غير وقتها
ودخول الأول في الملتزم (2)، والثاني في اليومية.
وله (3) وجه وجيه.
(والمندوب) من الصلاة (لا حصر له)، فإن الصلاة خير
469

موضوع، فمن شاء استقل، ومن شاء استكثر (1).
(وأفضله الرواتب) اليومية التي هي ضعفها
(فللظهر ثمان ركعات قبلها).
(وللعصر ثمان ركعات قبلها).
(وللمغرب أربع بعدها).
(وللعشاء ركعتان جالسا) أي الجلوس ثابت فيهما بالأصل
لا رخصة، لأن الغرض منهما واحدة، ليكمل بها ضعف الفريضة
وهو يحصل بالجلوس فيهما، لأن الركعتين من جلوس ثوابهما ركعة
من قيام.
(ويجوز قائما)، بل هو أفضل على الأقوى، للتصريح به
470

في بعض الأخبار (1) وعدم دلالة ما دل على فعلهما جالسا على أفضليته
بل غايته الدلالة على الجواز.
ومضافا إلى ما دل على أفضلية القيام في النافلة مطلقا (2).
471

(ومحلهما (ل‍) بعدها) أي بعد العشاء.
والأفضل جعلهما بعد التعقيب، وبعد كل صلاة يريد فعلها
بعدها.
واختلف كلام المصنف في تقديمها على نافلة شهر رمضان
الواقعة بعد العشاء، وتأخيرهما عنها.
ففي النفلية قطع بالأول.
وفي الذكرى بالثاني.
وظاهره هنا الأول، نظرا إلى البعدية (2).
وكلاهما حسن (3)،
(وثمان) ركعات صلاة الليل، وركعتا الشفع) بعدها
(وركعة الوتر، وركعتا الصبح قبلها) (4).
هذا هو المشهور رواية وفتوى.
وروي ثلاث وثلاثون بإسقاط الوتيرة.
وتسع وعشرون (5).
472

وسبع وعشرون بنقص العصرية أربعا، أو ستا مع الوتيرة.
وحمل على المؤكد منها لا على انحصار
السنة فيها.
(وفي السفر والخوف) الموجبين للقصر (تنتصف (1) الرباعية
وتسقط راتبة المقصورة)،
ولو قال: راتبتها كان أقصر، فالساقط نصف الراتبة سبع عشرة
ركعة، وهو في غير الوتيرة موضع وفاق، وفيه على المشهور.
بل قيل إنه إجماعي أيضا.
ولكن روى الفضل بن شاذان عن " الرضا " عليه السلام (2)
عدم سقوطها، معللا بأنها زيادة في الخمسين تطوعا، ليتم بها بدل
كل ركعة من الفريضة ركعتان من التطوع.
قال المصنف في الذكرى: وهذا قوي لأنه خاص ومتعلل
إلا أن ينعقد الإجماع على خلافه (3).
473

ونبه بالاستثناء (1) على دعوى ابن إدريس الإجماع عليه،
مع أن الشيخ في النهاية صرح بعدمه، فما قواه في محله.
(ولكل ركعتين من النافلة تشهد وتسليم).
هذا هو الأغلب.
وقد خرج عنه مواضع ذكر المصنف منها موضعين بقوله:
(و للوتر بانفراده) تشهد وتسليم.
(ولصلاة الأعرابي) من التشهد والتسليم (ترتيب الظهرين
بعد الثنائية) فهي عشر ركعات بخمس تشهدات وثلاث تسليمات
كالصبح والظهرين.
وبقي صلوات آخر ذكرها الشيخ في المصباح والسيد رضي الدين
بن طاووس في تتماته (2) يفعل منها بتسليم واحد أزيد من ركعتين
ترك المصنف والجماعة استثناءها، لعدم اشتهارها، وجهالة طريقها.
وصلاة الأعرابي توافقها في الثاني، دون الأول (3).
474

(للفصل الثاني - في شروطها)
(وهي سبعة):
(الأول - الوقت)
والمراد هنا وقت اليومية، مع أن السبعة شروط لمطلق الصلاة
غير الأموات في الجملة (1)، فيجوز عود ضمير شروطها
إلى المطلق (2)، لكن لا يلائمه (3) تخصيص الوقت باليومية
إلا أن يؤخذ كون مطلق الوقت شرطا (4) وما بعد ذكره مجملا
475

من التفصيل حكم آخر لليومية.
ولو عاد ضمير شروطها إلى اليومية لا يحسن (1)، لعدم
المميز مع اشتراك الجميع في الشرائط بقول مطلق، إلا أن عوده
إلى اليومية أوفق لنظم الشروط، بقرينة تفصيل الوقت وعدم اشتراطه
للطواف والأموات والملتزم إلا بتكلف وتجوز، وعدم (2)
اشتراط الطهارة: من الحدث والخبث في صلاة الأموات وهي أحد السبعة.
476

واختصاص (1) اليومية بالضمير مع اشتراكه، لكونها (2)
الفرد الأظهر من بينها، والأكمل مع انضمام قرائن لفظية بعد ذلك.
(فللظهر) من الوقت (زوال الشمس) عن وسط السماء
وميلها عن دائرة نصف النهار (المعلوم بزيد الظل) أي زيادته
مصدران (3) لزاد الشئ (بعد نقصه) وذلك في الظل المبسوط (4):
477

وهو الحادث من المقاييس القائمة على سطح الأفق، فإن الشمس
إذا طلعت وقع لكل شاخص (1) طويل قائم على سطح الأرض بحيث
يكون عمودا على سطح الأفق - ظل إلى جهة المغرب، ثم لا يزال
ينقص كلما ارتفعت الشمس حتى تبلغ وسط السماء فينتهي النقصان
إن كان عرض المكان المنصوب فيه المقياس (2) مخالفا لميل الشمس
في المقدار الظل ويعدم أصلا إن كان بقدره، وذلك في كل مكان
478

يكون عرضه مساويا للميل الأعظم للشمس، أو أنقص عند ميلها بقدره
وموافقته له في الجهة (1).
ويتفق في أطول أيام السنة تقريبا في مدينة الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم وما قاربها في العرض (2).
480

وفي مكة قبل الانتهاء بستة وعشرين يوما، ثم يحدث ظل
جنوبي إلى تمام الميل، وبعده (1) إلى ذلك المقدار، ثم يعدم يوما آخر.
والضابط: أن ما كان عرضه زائدا على الميل الأعظم لا يعدم
الظل فيه أصلا، بل يبقى عند زوال الشمس منه بقية تختلف زيادة
ونقصانا ببعد الشمس من مسامتة رؤوس أهله وقربها.
وما كان عرضه مساويا للميل يعدم فيه يوما وهو أطول أيام السنة.
وما كان عرضه أنقص منه كمكة وصنعاء يعدم فيه يومين
عند مسامتة الشمس لرؤوس أهله صاعدة وهابطة (2)، كل ذلك
مع موافقته له في الجهة كما مر (3).
أما الميل الجنوبي فلا يعدم ظله من ذي العرض مطلقا (4)، لا كما
قاله المصنف رحمه الله في الذكرى، تبعا للعلامة: من كون ذلك
بمكة وصنعاء في أطول أيام السنة، فإنه من أقبح الفساد.
وأول من وقع فيه (5) الرافعي من الشافعية، ثم قلده فيه جماعة
منا ومنهم من غير تحقيق للمحل.
وقد حررنا البحث (6) في شرح الإرشاد.
481

عند وصول الشمس - صاعدة - إلى النقطة رقم (1) من برج (جوزاء) يوم 7 (خرداد ماه)
المصادف (28 - مي) -، ينعدم الظل في مكة المكرمة، لمسامتة الشمس لرؤس أهلها عند الزوال.
وعند وصول الشمس - هابطة - إلى النقطة رقم (2) من برج (سرطان) يوم 24 (تير ماه) -
المصادف (15 - جولاي) - ينعدم الظل أيضا في مكة المكرمة، لمسامتة الشمس رؤس أهلها وقت الزوال
أما قبل وصولها إلى النقطة الأولى، وكذا بعد عبورها عن النقطة الثانية، فظل أهل مكة شمالي.
وأما عند كونها بين النقطتين، فظلهم جنوبي.
ولوحظ في الشكل: أن موقعية المدينة المنورة تبعد عن نقطة الميل الأعظم بدرجة
ونصف، لأن عرضها: (25 درجة)، أما نهاية الميل الأعظم فهي: (5 / 22 درجة). إذن
فالشمس لا تسامت رؤس أهل المدينة المنورة أبدا، ولا ينعدم ظلهم بتاتا.
483

وإنما لم يذكر المصنف هنا حكم حدوثه بعد عدمه، لأنه نادر
فاقتصر على العلامة الغالبة.
ولو عبر بظهور الظل في جانب المشرق كما صنع في الرسالة الألفية
لشمل القسمين بعبارة وجيزة.
(وللعصر الفراغ منها ولو تقديرا) بتقدير أن لا يكون قد صلاها (1)
فإن وقت العصر يدخل بمضي مقدار فعله الظهر بحسب حاله: من قصر
وتمام، وخفة، وبطء، وحصول الشرائط، وفقدها: بحيث لو اشتغل
بها لأتمها، لا بمعنى جواز فعل العصر حينئذ مطلقا.
بل تظهر الفائدة لو صلاها ناسيا قبل الظهر، فإنها تقع صحيحة
إن وقعت بعد دخول وقتها المذكور، وكذا لو دخل قيل أن يتمها (2).
(وتأخيرها) أي العصر إلى (مصير الظل) الحادث بعد الزوال
(مثله) أي ذي مثل (3) الظل: وهو المقياس (أفضل) من تقديمها
على ذلك الوقت، كما أن فعل الظهر قبل هذا المقدار أفضل.
484

بل قيل بتعينه، بخلاف تأخير العصر.
(وللمغرب ذهاب الحمرة المشرقية): وهي الكائنة في جهة
المشرق، وحده قمة الرأس (1).
(وللعشاء الفراغ منها) ولو تقديرا على نحو ما قرر للظهر.
إلا أنه هنا لو شرع في العشاء تماما تامة الأفعال فلا بد من دخول
المشترك وهو فيها، فتصح مع النسيان، بخلاف العصر.
(وتأخيرها) إلى ذهاب الحمرة (المغربية أفضل)، بل قيل
بتعينه كتقديم المغرب عليه (2).
أما الشفق الأصفر والأبيض فلا عبرة بهما عندنا (3).
485

(وللصبح طلوع الفجر) الصادق (1) وهو الثاني المعترض في الأفق.
(ويمتد وقت الظهرين إلى الغروب) اختيارا على أشهر القولين (2)
لا بمعنى أن الظهر تشارك العصر في جميع ذلك الوقت، بل يختص
العصر من آخره بمقدار أدائها، كما يختص الظهر من أوله به (3).
486

وإطلاق امتداد وقتهما باعتبار كونهما لفظا واحدا إذا امتد وقت
مجموعه من حيث هو مجموع إلى الغروب: لا ينافي عدم امتداد بعض
أجزائه - وهو الظهر - إلى ذلك، كما إذا قيل: يمتد وقت العصر
إلى الغروب (1) لا ينافي عدم امتداد بعض أجزائها: وهو أولها - إليه.
وحينئذ فإطلاق الامتداد على وقتهما (2) بهذا المعنى (3) بطريق
الحقيقة، لا المجاز إطلاقا لحكم بعض الأجزاء على الجميع أو نحو ذلك.
(و) وقت (العشائين إلى نصف الليل) مع اختصاص العشاء
من آخره بمقدار أدائها، على نحو ما ذكرناه في الظهر ين.
(ويمتد وقت الصبح حتى تطلع الشمس) على أفق مكان المصلي
وإن لم تظهر للأبصار (4).
(و) وقت (نافلة الظهر من الزوال إلى أن يصير الفئ)
وهو الظل الحادث بعد الزوال.
سماه في وقت الفريضة ظلا وهنا فيئا - وهو أجود، لأنه مأخوذ
من " فاء: إذا رجع " (5) مقدار (قدمين) أي سبعي قامة
487

المقياس، لأنها إذا قسمت سبعة أقسام يقال لكل قسم " قدم "،
والأصل فيه أن قامة الإنسان غالبا سبعة أقدام بقدمه.
(وللعصر أربعة أقدام) فعلى هذا تقدم نافلة العصر بعد صلاة
الظهر أول وقتها، أو في هذا المقدار، وتؤخر الفريضة إلى وقتها
وهو ما بعد المثل.
هذا هو المشهور رواية وفتوى (1).
وفي بعض الأخبار ما يدل على امتداد وقتهما بامتداد وقت فضيلة
الفريضة (2): وهو زيادة الظل بمقدار مثل الشخص للظهر، ومثليه
للعصر.
وفيه قوة.
488

ويناسبه المنقول من فعل النبي صلى الله عليه وآله والأئمة
عليهم السلام وغيرهم من السلف من صلاة نافلة العصر قبل الفريضة
متصلة بها.
وعلى ما ذكروه من الأقدام لا يجتمعان أصلا لمن أراد صلاة العصر
في وقت الفريضة.
والمروي أن النبي صلى الله عليه وآله كان يتبع الظهر بركعتين
من سنة العصر، ويؤخر الباقي إلى أن يريد صلاة العصر، وربما
اتبعها بأربع وست وأخر الباقي (1).
وهو السر في اختلاف المسلمين في أعداد نافلتيهما (2).
489

ولكن أهل البيت أدرى بما فيه (1).
ولو أخر المتقدمة على الفرض عنه لا لعذر نقص الفضل وبقيت
أداء ما بقي وقتها، بخلاف المتأخر فإن وقتها لا يدخل بدون فعله (2).
(وللمغرب إلى ذهاب الحمرة المغربية، وللعشاء كوقتها) فتبقى
أداء إلى أن ينتصف الليل، وليس في النوافل ما يمتد بامتداد وقت
491

الفريضة على المشهور سواها (1). (ولليل بعد نصفه) الأول (إلى طلوع الفجر) الثاني.
والشفع والوتر من جملة صلاة الليل هنا (2).
492

وكذا تشاركها في المزاحة (1) بعد الفجر لو أدرك من الوقت مقدار
أربع، كما يزاحم بنافلة الظهرين لو أدرك من وقتها ركعة (2) أما المغربية
فلا يزاحم بها مطلقا (3) إلا أن يتلبس منها بركعتين فيتمها مطلقا.
(وللصبح حتى تطع الحمرة) من قبل المشرق، وهو آخر
وقت فضيلة الفريضة، كالمثل، والمثلين للظهرين والحمرة المغربية
للمغرب، وهو يناسب رواية المثل (4) لا القدم.
493

(وتكره النافلة المبتدئة) وهي التي يحدثها المصلي تبعا
فإن الصلاة قربان كل تقي (1).
واحترز بها عن ذات السبب، كصلاة الطواف، والإحرام، وتحية
المسجد عند دخوله، والزيارة عند حصولها، والحاجة، والاستخارة
والشكر (2)، وقضاء النوافل مطلقا (3) في هذه الأوقات الخمسة
المتعلق اثنان منها بالفعل.
(بعد صلاة الصبح) إلى أن تطلع الشمس (والعصر)
إلى أن تغرب.
(و) ثلاثة بالزمان (عند طلوع الشمس) أي بعده حتى ترتفع
ويستولي شعاعها وتذهب الحمرة، وهنا يتصل وقت الكراهتين
الفعلي والزماني (4) (و) عند (غروبها) أي ميلها إلى الغروب
واصفرارها حتى يكمل بذهاب الحمرة المشرقية (5).
494

وتجتمع هنا الكراهتان في وقت واحد.
(و) عند (قيامها) في وسط السماء ووصولها إلى دائرة نصف
النهار تقريبا إلى أن تزول (إلا يوم الجمعة) فلا تكره النافلة فيه
عند قيامها، لاستحباب صلاة ركعتين من نافلتها حينئذ.
وفي الحقيقة هذا الاستثناء منقطع، لأن نافلة الجمعة من ذوات
الأسباب.
إلا أن يقال بعدم كراهة المبتدئة فيه أيضا، عملا بإطلاق النصوص
باستثنائه (1).
(ولا تقدم) النافلة الليلية على الانتصاف (إلا لعذر) كتعب
495

وبرد ورطوبة رأس وجنابة ولو اختيارية يشق معها الغسل، فيجوز
تقديمها حينئذ من أوله بعد العشاء بنية التقديم (1) أو الأداء، ومنها
الشفع والوتر.
(وقضاؤها أفضل) من تقديمها في صورة جوازه (2).
(وأول الوقت أفضل) من غيره (إلا) في مواضع ترتقي
إلى خمسة وعشرين ذكر أكثرها المصنف في النفلية، وحررناها مع الباقي
في شرحها، وقد ذكر منها هنا ثلاثة مواضع:
496

(لمن يتوقع زوال عذره) بعد أوله (1)، كفاقد الساتر
أو وصفه (2)، والقيام (3)، وما بعده (4) من المراتب الراجحة
على ما هو به إذا رجا القدرة في آخره.
والماء (5) على القول بجواز التيمم مع السعة ولإزالة النجاسة غير
497

المعفو عنها (1) (ولصائم يتوقع) غيره (فطره) ومثله من تاقت (2)
نفسه إلى الإفطار بحيث ينافي الإقبال على الصلاة.
(وللعشاءين) للمفيض
من عرفة (إلى المشعر) وإن تثلث الليل (3).
498

(ويعول في الوقت على الظن) المستند إلى ورد (1) بصنعة
أو درس ونحوهما (ومع تعذر العلم).
أما مع إمكانه فلا يجوز الدخول بدونه (فإن) صلى بالظن حيث
يتعذر العلم ثم انكشف وقوعها في الوقت، أو (دخل وهو فيها أجزأ)
على أصح القولين (2) (وإن تقدمت) عليه بأجمعها (أعاد) وهو
موضع وفاق.
499

(الثاني - القبلة)
(وهي) عين (الكعبة للمشاهد) لها (أو حكمه) وهو
من يقدر على التوجه إلى عينها بغير مشقة كثيرة لا تتحمل عادة
ولو بالصعود إلى جبل، أو سطح.
(وجهتها) (1): وهي السمت الذي يحتمل كونها فيه ويقطع
بعدم خروجها عنه لأمارة شرعية (2) (لغيره) أي غير المشاهد
ومن بحكمه كالأعمى (3).
وليست الجهة للبعيد محصلة عين الكعبة وإن كان البعد عن الجسم
يوجب اتساع جهة محاذاته، لأن ذلك لا يقتضي استقبال العين، إذ
لو أخرجت خطوط متوازية من مواقف البعيد المتباعدة المتفقة الجهة
على وجه يزيد على جرم الكعبة لم تتصل الخطوط أجمع بالكعبة ضرورة
وإلا لخرجت عن كونها متوازية (4).
500

وبهذا (1) يظهر الفرق بين العين والجهة، ويترتب عليه بطلان
صلاة بعض الصف المستطيل زيادة من قدر الكعبة لو اعتبر مقابلة العين.
والقول بأن البعيد فرضه الجهة أصح القولين في المسألة، خلافا
للأكثر، حيث جعلوا المعتبر للخارج عن الحرم استقباله، استنادا
إلى روايات ضعيفة (2).
501

عين الكعبة
يتبين من هذا الشكل: أن الخطوط المخرجة من مواقف المصلين في صف أطول من بين الكعبة لا تلقى كلها مع الكعبة
إذا كانت متوازية، سواء الصف القريب والبعيد.
502

عين الكعبة
يتبين من هذا الشكل أن الصفوف التي تكون أطول من عين الكعبة يجب أن ينحرفوا بخطوط غير متوازية لتلقى في عينها
وتبين مقايسة أحدا الصفين الأطول بالآخر الأبعد وأن الانحراف في الأقرب أكثر من الصف الأبعد،
فالشخص الأول من الصف الأبعد يكون انحرافه على زاوية مقدارها = (16 درجة) والشخص الثالث = (10 درجة وهكذا)
الشخص الأول من الصف الأقرب فيكون انحراف على زاوية مقدارها = (44 درجة) والشخص الثالث = (4 درجة) وهكذا
503

ثم إن علم البعيد بالجهة بمحراب معصوم، أو اعتبار رصدي (1)
وإلا عول على العلامات المنصوبة لمعرفتها نصا أو استنباطا.
(وعلامة) أهل (العراق ومن في سمتهم (2)) كبعض أهل خراسان (3)
504

ممن يقاربهم في طول بلدهم (1) (جعل المغرب على الأيمن، والمشرق
على الأيسر، والجدي) (2) حال غاية ارتفاعه، أو انخفاضه (خلف
المنكب الأيمن).
وهذه العلامة ورد بها النص خاصة علامة للكوفة وما ناسبها (3):
505

(3) يتبين من الشكل: أن البلد المرموز إليه بعلامة (ز) والبلد
المرموز بعلامة (و) متحدان في الطول، ومختلفان في العرض بعشر
درجات مثلا وهما معا متجهان إلى نقطة (ه‍)، لكن الاتجاهين ليسا
على حد سواء، بل الزاوية الحادثة في البلد (ز) تساوي (20) درجة.
أما زاوية البلد (و) فتساوي (33) درجة.
506

وهي موافقة للقواعد المستنبطة من الهيئة وغيرها (1) فالعمل بها متعين
في أوساط العراق، مضافا إلى الكوفة كبغداد والمشهدين والحلة (2).
وأما العلامة الأولى (3) فإن أريد فيها بالمغرب والمشرق الاعتداليان (4)
- كما صرح به المصنف في البيان، أو الجهتان اصطلاحا: وهما المقاطعتان
لجهتي الجنوب والشمال بخطين بحيث يحدث عنهما زوايا قوائم (5) -
507

كانت مخالفة للثانية كثيرا، لأن الجدي حال استقامته (1) يكون
على دائرة نصف النهار المارة بنقطتي الجنوب والشمال، فجعل المشرق
والمغرب على الوجه السابق (2) على اليمين واليسار يوجب جعل الجدي
بين الكتفين، قضية (3) للتقاطع.
فإذا أعتبر كون الجدي خلف المنكب الأيمن لزم الانحراف بالوجه
عن نقطة الجنوب نحو المغرب كثيرا، فينحرف بواسطته (4) الأيمن
عن المغرب نحو الشمال، والأيسر عن المشرق نحو الجنوب، فلا يصح
جعلهما معا علامة لجهة واحدة.
إلا أن يدعى اغتفار هذا التفاوت، وهو بعيد، خصوصا
مع مخالفة العلامة للنص (5) والاعتبار فهي إما فاسدة الوضع، أو تختص
ببعض جهات العراق، وهي أطرافه الغربية - كالموصل وما والاها -
508

فإن التحقيق أن جهتهم نقطة الجنوب، وهي موافقة لما ذكر في العلامة (1).
ولو اعتبرت العلامة المذكورة (2) غير مقيدة بالاعتدال (3)
ولا بالمصطلح، بل بالجهتين العرفيتين انتشر الفساد كثيرا (4) بسبب
الزيادة فيهما والنقصان الملحق لهما تارة بعلامة الشام، وأخرى بعلامة العراق
وثالثة بزيادة عنهما، وتخصيصهما حينئذ بما يوافق الثانية يوجب سقوط
فائدة العلامة (5).
509

شكل رقم (5)
يتبين من هذا الشكل: أن أوساط العراق عند اتجاههم إلى الكعبة ينحرفون
عن نقطة الجنوب إلى الغرب فوق العشرين درجة ويلزمهم أن يقع كوكب الجدي
القطبي خلف منكبهم الأيمن.
510

شكل رقم (6)
(1) اتجاه المصلي الذي يجعل منتهى المغرب الشمالي على يمينه، ومنتهى المشرق الجنوبي
على يساره بعلامة (أ - ب) فتراه منحرفا عن نقطة الجنوب نحو المغرب بستة عشر درجة تقريبا.
(2) اتجاه المصلي الذي يجعل منتهى المغرب الجنوبي على يمينه، ومنتهى المشرق الشمالي
على يساره بعلامة (ح‍ - د) فتراه منحرفا عن نقطة الجنوب نحو المشرق بستة عشر درجة تقريبا.
511

وأما أطراف العراق الشرقية كالبصرة وما والاها من بلاد خراسان
فيحتاجون إلى زيادة انحراف نحو المغرب عن أوساطها قليلا، وعلى هذا
القياس (1).
(وللشام) من العلامات (جعله) أي الجدي في تلك الحالة
(خلف الأيسر).
الظاهر من العبارة كون الأيسر صفة للمنكب بقرينة ما قبله، وبهذا
صرح في البيان، فعليه يكون انحراف الشامي عن نقطة الجنوب مشرقا
بقدر انحراف العراقي عنها مغربا.
والذي صرح به غيره، ووافقه المصنف في الدروس وغيرها:
أن الشامي يجعل الجدي خلف الكتف، لا المنكب، وهذا هو الحق
الموافق للقواعد، لأن انحراف الشامي أقل من انحراف العراقي المتوسط
وبالتحرير التام ينقص الشامي عنه جزءين من تسعين جزءا مما بين الجنوب
والمشرق، أو المغرب (2).
512

(وجعل سهيل) أول طلوعه - وهو بروزه عن الأفق -
(بين العينين) لا مطلق كونه، ولا غاية ارتفاعه، لأنه في غاية الارتفاع
يكون مسامتا للجنوب، لأن غاية ارتفاع كل كوكب يكون على دائرة
نصف النهار المسامتة له كما سلف (1).
(وللمغرب) والمراد به بعض المغرب كالحبشة والنوبة، لا المغرب
المشهور (2) (جعل الثريا والعيوق) (3) عند طلوعهما (على يمينه
وشماله) الثريا على اليمين، والعيوق على اليسار.
513

وأما المغرب المشهور فقبلته تقرب من نقطة المشرق، وبعضها يميل
عنه نحو الجنوب يسيرا.
(واليمن مقابل الشام) ولازم المقابلة أن أهل اليمن يجعلون سهيلا
طالعا بين الكتفين مقابل جعل الشامي له بين العينين، وأنهم يجعلون
الجدي محاذيا لأذنهم اليمنى: بحيث يكون مقابلا للمنكب الأيسر
فإن مقابله يكون إلى مقدم الأيمن (1)، وهذا مخالف لما صرح به
المصنف في كتبه الثلاثة (2) وغيره (3): من أن اليمني يجعل الجدي
بين العينين، وسهيلا غائبا بين الكتفين فإن ذلك يقتضي كون اليمن
مقابلا للعراق، لا للشام (4).
ومع هذا الاختلاف فالعلامتان مختلفتان أيضا، فإن جعل الجدي طالعا (5)
514

بين العينين يقتضي استقبال نقطة الشمال (1)، وحينئذ فتكون نقطة
الجنوب بين الكتفين: وهي موازية لسهيل في غاية ارتفاعه كما مر
لا غائبا (2).
ومع هذا فالمقابلة للعراقي، لا للشامي (3).
هذا بحسب ما يتعلق بعباراتهم.
515

وأما الموافق للتحقيق (1): فهو أن المقابل للشام من اليمن هو صنعاء
وما ناسبها وهي لا تناسب شيئا من هذه العلامات، وإنما المناسب لها
عدن وما والاها فتدبر.
(و) يجوز أن (يعول على قبلة البلد) من غير أن يجتهد
(إلا مع علم الخطأ) فيجب حينئذ الاجتهاد، وكذا يجوز الاجتهاد فيها
تيامنا وتياسرا وإن لم يعلم الخطأ (2).
والمراد بقبلة البلد محراب مسجده، وتوجه قبوره، ونحوه، ولا فرق
بين الكبير والصغير.
والمراد به بلد المسلمين فلا عبرة بمحراب (3) المجهولة كقبورها
516

كما لا عبرة بنحو القبر والقبرين للمسلمين، ولا بالمحراب المنصوب في طريق
قليلة المارة منهم (1).
(ولو فقد الأمارات) الدالة على الجهة المذكورة هنا وغيرها
(قلد) العدل العارف بها رجلا كان أم امرأة حرا أم عبدا.
ولا فرق بين فقدها لمانع من رؤيتها كغيم، ورؤيته (2) كعمي
وجهل (3) بها كالعامي مع ضيق الوقت عن التعلم على أجود الأقوال (4)
وهو (5) الذي يقتضيه إطلاق العبارة.
وللمصنف، وغيره في ذلك اختلاف.
ولو فقد التقليد صلى إلى أربع جهات متقاطعة على زوايا قوائم
517

مع الإمكان، فإن عجز اكتفى بالممكن.
والحكم بالأربع حينئذ (1) مشهور، ومستنده ضعيف (2) واعتباره
حسن، لأن الصلاة كذلك (3) تستلزم إما القبلة (4) أو الانحراف
عنها بما لا يبلغ اليمين واليسار، وهو (5) موجب للصحة مطلقا (6)
ويبقى الزائد عن الصلاة الواحدة واجبا من باب المقدمة، لتوقف الصلاة
518

إلى القبلة أو ما في حكمها (1) الواجب عليه (2) كوجوب الصلاة
الواحدة في الثياب المتعددة المشتبه بالنجس لتحصيل الصلاة في واحد
طاهر، ومثل هذا (3) يجب بدون النص، فيبقى النص له شاهدا
وإن كان مرسلا.
وذهب السيد رضي الدين بن طاووس هنا (4) إلى العمل بالقرعة
استضعافا لسند الأربع مع ورودها (5) لكل أمر مشتبه، وهذا منه
وهو (6) نادر.
519

ولو انكشف الخطأ بعد الصلاة) بالاجتهاد أو التقليد حيث
يسوغ أو ناسيا للمراعاة (لم يعد ما كان بين اليمين واليسار) أي ما كان
دونهما إلى جهة القبلة وإن قل (1).
(ويعيد ما كان إليهما) محضا (في وقته) لا خارجه
(والمستدبر): وهو الذي صلى إلى ما يقابل سمت القبلة
الذي تجوز الصلاة إليه اختيارا (2) (يعيد ولو خرج الوقت) على المشهور
جمعا بين الأخبار الدال أكثرها على إطلاق الإعادة في الوقت، وبعضها
على تخصيصه بالمتيامن والمتياسر وإعادة المستدبر مطلقا (3).
والأقوى الإعادة في الوقت مطلقا (4) لضعف مستند التفصيل
الموجب لتقييد الصحيح المتناول بإطلاقه موضع النزاع.
520

هذه الدائرة تحدد اتجاه قبلة البلاد، كل وفق أفقه فيجعل المصلي موقفه وسط الدائرة
ثم يتجه باتجاه السهم المشير إلى بلده وهكذا الدائرة التالية تعين اتجاه قبلة بقية البلاد الإسلامية
المشهورة أو ما يقطنها المسلمون.
521

(1) أربيل
(2) سامراء، خوي
(3) كركوك
(4) خانقين، تبريز، السليمانية
(5) بعقوبة، الحلة
(6) الديوانية أردبيل
(7) الكوت، زنجان، السماوة، كرمانشاه
(8) رشت، أنزلي
(9) الشطرة، الشاه عبد العظيم
(10) العمارة، بروجرد، الناصرية، قزوين
(11) دزفول، ساوة
(12) آمل، أهواز، خونسار، استراباد
كاشان، الكويت
(13) سمرقند، سمنان، عبادان
(14) بهبهان، بجنورد
(15) سبزوار
(17) يزد
(18) بخارا، بوشهر، شوشتر
(19) شيراز
(22) بلخ، الرياض، كرمان، قندهار
(25) بندر عباس
(29) دهلي، رامپور
(32) لكهنو
(50) عدن
(60) رنجبار (70) جدة
(73) اكسفورد (77) جنيف - سويسرا -
(78) ژن - إيطاليا -
(80) هامبرك - ألمانيا -
(82) الإسكندرية - مصر -
(83) ونيز - إيطاليا -
(88) رابغ - الحجاز -
(90) صيدا، صور
(92) لاذقية - لبنان -
(93) بعلبك
(94) حمص
523

وعلى المشهور كل ما خرج عن دبر القبلة إلى أن يصل إلى اليمين
واليسار يلحق بهما، وما خرج عنهما نحو القبلة يلحق بها (1).
(الثالث - ستر العورة)
(وهي القبل والدبر للرجل).
والمراد بالقبل: القضيب والأنثيان.
وبالدبر: المخرج لا الأليان في المشهور (2).
(وجميع البدن عدا الوجه): وهو ما يجب غسله منه في الوضوء
أصالة (3).
(والكفين) ظاهرهما وباطنهما من الزندين
(وظاهر القدمين) دون باطنهما، وحدهما مفصل الساق.
524

وفي الذكرى والدروس ألحق باطنهما بظاهرهما،
وفي البيان استقرب ما هنا، وهو أحوط (للمرأة) ويجب ستر
شئ من الوجه والكف والقدم من باب المقدمة، وكذا في عورة الرجل.
والمراد بالمرأة الأنثى البالغة، لأنها تأنيث " المرء "، وهو الرجل،
فتدخل فيها الأمة البالغة، وسيأتي جواز كشفها رأسها. ويدخل الشعر فيما يجب ستره، وبه قطع المصنف في كتبه،
وفي الألفية جعله أولى.
(ويجب كون الساتر طاهرا) فلو كان نجسا لم تصح الصلاة
(وعفي عما مر) من ثوب صاحب القروح والجروح بشرطه (1)
وما نجس بدون الدرهم من الدم.
(وعن نجاسة) ثوب (المربية للصبي)، بل لمطلق الولد وهو
مورد النص، فكان التعميم أولى (2) (ذات الثوب الواحد) فلو قدرت
525

على غيره ولو بشراء أو استئجار، أو استعارة لم يعف عنه، والحق
بها المربي، وبه الولد المتعدد (1).
وتشترط نجاسته ببوله خاصة، فلا يعفى عن غيره كما لا يعفى
عن نجاسة البدن به.
وإنما أطلق المصنف نجاسة المربية من غير أن يقيد بالثوب، لأن
الكلام في الساتر،
وأما التقييد بالبول فهو مورد النص (2) ولكن المصنف أطلق
النجاسة في كتبه كلها.
(ويجب غلسه كل يوم مرة) وينبغي كونها آخر النهار لتصلي
فيه أربع صلوات متقاربة بطهارة، أو نجاسة خفيفة.
(و) كذا عفي (عما يتعذر إزالته فيصلي فيه، للضرورة (3)
ولا يتعين عليه الصلاة عاريا، خلافا للمشهور (4).
526

(والأقرب تخيير المختار) وهو الذي لا يضطر إلى لبسه لبرد
وغيره (بينه) أي بين أن يصلي فيه صلاة تامة الأفعال (وبين الصلاة
عاريا فيومئ للركوع والسجود) كغيره من العراة قائما مع أمن المطلع
وجالسا مع عدمه.
والأفضل الصلاة فيه، مراعاة للتمامية، وتقديما لفوات الوصف
على فوات أصل الستر، ولولا الإجماع على جواز الصلاة فيه عاريا بل
الشهرة بتعينه لكان القول بتعين الصلاة فيه متوجها (1).
أما المضطر إلى لبسه فلا شبهة في وجوب صلاته فيه.
(ويجب كونه) أي الساتر (غير مغصوب) مع العلم بالغصب
(وغير جلد وصوف وشعر) ووبر (2) (من غير المأكول
إلا الخز): وهو دابة ذات أربع تصاد من الماء ذكاتها كذكاة السمك
وهي معتبرة في جلده، لا في وبره إجماعا (3).
527

(والسنجاب) مع تذكيته، لأنه ذو نفس (1).
قال المصنف في الذكرى: وقد اشتهر بين التجار والمسافرين أنه
غير مذكى، ولا عبرة بذلك، حملا لتصرف المسلمين على ما هو الأغلب.
(وغير ميتة) فيما يقبل الحياة كالجلد، أما ما لا يقبلها كالشعر
والصوف فتصح الصلاة فيه من ميت إذا أخذه جزا، أو غسل موضع
الاتصال (2).
(وغير الحرير) المحض، أو الممتزج على وجه يستهلك الخليط
لقتله (للرجل والخنثى).
واستثني منه ما لا يتم الصلاة فيه كالتكة (3) والقلنسوة وما يجعل
منه في أطراف الثوب ونحوها (4) مما لا يزيد على أربع أصابع مضمومة.
أما الافتراش له فلا يعد لبسا كالتدثر به، والتوسد، والركوب
عليه (5).
528

(ويسقط ستر الرأس) وهو الرقبة فما فوقها (عن الأمة المحضة)
التي لم ينعتق منها شئ، وإن كانت مدبرة، أو مكاتبة مشروطة
أو مطلقة لم تؤد شيئا، أو أم ولد، ولو انعتق منها شئ فكالحرة.
(والصبية) التي لم تبلغ، فتصح صلاتها تمرينا مكشوفة الرأس.
(ولا تجوز الصلاة فيما يستر ظهر القدم إلا مع الساق (1) بحيث
يغطي شيئا منه فوق المفصل على المشهور.
ومستند المنع ضعيف جدا (2) والقول بالجواز قوي متين.
(وتستحب) الصلاة (في) النعل (العربية)، للتأسي (3)
529

(وترك السواد عدا العمامة والكساء والخف) فلا يكره الصلاة فيها
سودا وإن كان البياض أفضل مطلقا (1)
(وترك) الثوب (الرقيق) الذي لا يحكي البدن، وإلا لم تصح.
(واشتمال الصماء)، والمشهور أنه الالتحاف بالإزار (2) وإدخال
طرفيه تحت يده وجمعهما على منكب واحد.
(ويكره ترك التحنك): وهو إدارة جزء من العمامة تحت
الحنك (مطلقا) للإمام وغيره بقرينة القيد في الرداء.
ويمكن أن يريد بالإطلاق تركه في أي حال كان وإن لم يكن
مصليا، لإطلاق النصوص باستحبابه
والتحذير من تركه، كقول الصادق
عليه السلام:
" من تعمم ولم يتحنك فأصابه داء لا دواء له فلا يلومن
530

إلا نفسه (1) ". حتى ذهب الصدوق إلى عدم جواز تركه في الصلاة.
(وترك الرداء): وهو ثوب أو ما يقوم مقامه يجعل على المنكبين
ثم يرد ما على الأيسر على الأيمن (للإمام).
أما غيره من المصلين فيستحب له الرداء، ولكن لا يكره تركه
بل يكون خلاف الأولى.
(والنقاب للمرأة واللثام لهما (2)) أي للرجل والمرأة، وإنما
يكرهان إذا لم يمنعا شيئا من واجبات القراءة (فإن منعا القراءة حرما)
وفي حكمها الأذكار الواجبة.
(وتكره) الصلاة (في ثوب المتهم بالنجاسة، أو الغصب)
في لباسه.
(و) في الثوب (ذي التماثيل) أعم من كونها مثال حيوان وغيره.
(أو خاتم فيه صورة) حيوان.
ويمكن أن يريد بها ما يعم المثال (3)، وغاير بينهما تفننا، والأول
أوفق للمغايرة.
531

(أو قباء مشدود في غير الحرب) على المشهور.
قال الشيخ: ذكره علي بن بابويه وسمعناه من الشيوخ مذاكرة
ولم أجد به خبرا مسندا.
قال المصنف في الذكرى بعد حكاية قول الشيخ: قلت: قد روى
العامة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " لا يصلي أحدكم وهو
محزم " وهو كناية عن شده الوسط.
وظاهر استدراكه لذكر الحديث جعله دليلا على كراهة القباء المشدود
وهو بعيد (1).
ونقل في البيان عن الشيخ كراهة شد الوسط.
ويمكن الاكتفاء في دليل الكراهة بمثل هذه الرواية.
(الرابع - المكان)
الذي يصلى فيه:
والمراد هنا ما يشغله من الحيز، أو يعتمد عليه ولو بواسطة
أو وسائط.
532

(ويجب كونه (1) غير مغصوب) للمصلي ولو جاهلا (2)
بحكمه الشرعي، أو الوضعي لا بأصله (3)، أو ناسيا له (4)، أو لأصله (5)
533

على ما يقتضيه إطلاق العبارة (1).
وفي الأخيرين (2) للمصنف رحمه الله قول آخر بالصحة.
534

وثالث (1) بها في خارج الوقت خاصة.
ومثله القول في اللباس.
واحترزنا بكون المصلي هو الغاصب عما لو كان غيره، فإن الصلاة
فيه بإذن المالك صحيحة في المشهور.
كل ذلك مع الاختيار، أما مع الاضطرار كالمحبوس فيه فلا منع (2).
(خاليا (3) من نجاسة متعدية) إلى المصلي أو محموله الذي
يشترط طهارته على وجه يمنع من الصلاة.
فلو لم تتعد أو تعدت على وجه يعفى عنه كقليل الدم، أو إلى ما لا يتم
الصلاة فيه (4) لم يضر.
535

(طاهر المسجد (1) بفتح الجيم: وهو القدر المعتبر منه في السجود
مطلقا (2).
(والأفضل المسجد (3)) لغير المرأة، أو مطلقا بناء على إطلاق
المسجد على بيتها (4) بالنسبة إليها كما ينبه عليه.
(وتتفاوت) المساجد (في الفضيلة) بحسب تفاوتها في ذاتها (5)
أو عوارضها ككثير الجماعة (6):
536

(فالمسجد (1) الحرام بمائة ألف صلاة) ومنه الكعبة وزوائده
الحادثة وإن كان غيرهما أفضل، فإن (2) القدر المشترك بينها فضله
بذلك العدد، وإن اختص الأفضل بأمر آخر لا تقدير فيه، كما يختص
المساجد المشتركة في وصف بفضيلة زائدة عما اشترك فيه مع غيره (3).
537

(والنبوي) بالمدينة (بعشرة آلاف) صلاة، وحكم زيادته الحادثة
كما مر.
(وكل من مسجد الكوفة والأقصى) سمي به بالإضافة إلى بعده
عن المسجد الحرام (1) (بألف) صلاة.
(و) المسجد (الجامع) في البلد للجمعة، أو الجماعة وإن تعدد
(بمائة).
(و) مسجد (القبيلة) كالمحلة في البلد (بخمس وعشرين).
(و) مسجد (السوق باثنتي عشرة).
(ومسجد المرأة بيتها): بمعنى أن صلاتها فيه أفضل من خروجها
إلى المسجد، أو بمعنى كون صلاتها فيه كالمسجد في الفضيلة، فلا تفتقر
إلى طلبها بالخروج.
وهل هو كمسجد مطلق، أو كما تريد الخروج إليه فيختلف بحسبه؟
الظاهر الثاني (2).
538

(ويستحب اتخاذ المساجد استحبابا مؤكدا) فمن بنى مسجدا بنى
539

الله له بيتا في الجنة.
وزيد في بعض الأخبار كمفحص قطاة (1): وهو كمقعد الموضع
الذي تكشفه القطاة وتلينه بجؤجؤها، لتبيض فيه، والتشبيه به مبالغة
في الصغر، بناء على الاكتفاء برسمه، حيث يمكن الانتفاع به في أقل
مراتبه وإن لم يعمل له حائط ونحوه.
قال أبو عبد الله الحذاء راوي الحديث: مربي أبو عبد الله
عليه السلام في طريق مكة وقد سويت بأحجار مسجدا، فقلت: جعلت
فداك نرجو أن يكون هذا من ذاك.
فقال: نعم.
ويستحب اتخاذها (مكشوفة) ولو بعضها، للاحتياج إلى السقف
في أكثر البلاد، لدفع الحر والبرد (2).
540

(والميضاة (1)) وهي المطهرة للحدث والخبث (على بابها)
لا في وسطها على تقدير سبق إعدادها على المسجدية (2) وإلا حرم
في الخبثية مطلقا (3) والحدثية إن أضرت بها.
(والمنارة مع حائطها) لا في وسطها مع تقدمها في المسجدية
كذلك (4) وإلا حرم.
ويمكن شمول كونها مع الحائط استحباب أن لا تعلو عليه، فإنها
إذا فارقته بالعلو فقد خرجت عن المعية وهو مكروه.
(وتقديم الداخل) إليها (يمينه والخارج) منها (يساره) عكس
541

الخلاء، تشريفا لليمنى فيهما (1).
(وتعاهد نعله) وما يصحبه من عصا وشبهه: وهو استعلام حاله
عند باب المسجد احتياطا للطهارة، والتعهد أفصح من التعاهد، لأنه يكون
بين اثنين والمصنف تبع الرواية (2).
(والدعاء فيهما) أي في الدخول والخروج بالمنقول وغيره.
(وصلاة التحية قبل جلوسه) وأقلها ركعتان وتتكرر بتكرر
الدخول ولو عن قرب وتتأدى بسنة غيرها وفريضة (3) وإن لم ينوها
معها (4)، لأن المقصود بالتحية أن لا تنتهك (5) حرمة المسجد بالجلوس
بغير صلاة، وقد حصل، وإن كان الأفضل عدم التداخل.
وتكره إذا دخل والإمام في مكتوبة، أو الصلاة تقام، أو قرب
إقامتها بحيث لا يفرغ منها قبله (6) فإن لم يكن متطهرا، أو كان له
عذر مانع عنها فليذكر الله تعالى.
542

وتحية المسجد الحرام الطواف، كما أن تحية الحرم الإحرام، ومنى
الرمي.
(ويحرم زخرفتها) وهو نقشها بالزخرف: وهو الذهب
أو مطلق النقش كما اختاره المصنف في الذكرى.
وفي الدروس أطلق الحكم بكراهة الزخرفة والتصوير، ثم جعل
تحريمها قولا.
وفي البيان حرم النقش والزخرفة والتصوير بما فيه روح.
وظاهر الزخرفة هنا النقش بالذهب، فيصير أقوال المصنف بحسب
كتبه، وهو غريب منه (1).
(و) كذا يحرم (نقشها بالصور) ذوات الأرواح دون غيرها
543

وهو لازم من تحريم النقش مطلقا (1) لا من غيره (2)، وهو قرينة
أخرى على إرادة الزخرفة بالمعنى الأول (3) خاصة، وهذا هو الأجود (4).
ولا ريب في تحريم تصوير ذي الروح في غير المساجد ففيها أولى (5).
أما تصوير غيره فلا.
(وتنجيسها) وتنجيس آلاتها كفرشها لا مطلق إدخال النجاسة
إليها في الأقوى.
544

(وإخراج الحصى منها) إن كانت فرشا، أو جزء منها.
أما لو كانت قمامة (1) استحب إخراجها، ومثلها التراب.
ومتى أخرجت على وجه التحريم (فتعاد) وجوبا إليها
أو إلى غيرها من المساجد، حيث يجوز نقل آلاتها إليه ومالها
لغناء الأول، أو أولوية الثاني (2).
(ويكره تعليتها) بل تبنى وسطا عرفا (والبصاق فيها (3))
(والتنخم) (4) ونحوه وكفارته دفنه.
(ورفع الصوت) المتجاوز للمعتاد، ولو في قراءة القرآن.
(وقتل القمل) فيدفن لو فعل (وبرئ (5) النبال) وهو
داخل في (وعمل الصنائع) وخصه، لتخصيصه في الخبر فتتأكد
545

كراهته (1). (وتمكين المجانين والصبيان) منها، مع عدم الوثوق بطهارتهم
أو كونهم غير مميزين.
أما الصبي المميز الموثوق بطهارته المحافظ على أداء الصلوات
فلا يكره تمكينه، بل ينبغي تمرينه كما يمرن على الصلاة.
(وإنفاذ الأحكام) إما مطلقا (2).
546

وفعل علي عليه السلام له بمسجد الكوفة خارج، أو مخصوص
بما فيه جدال وخصومة، أو بالدائم لا ما يتفق نادرا، أو بما
يكون الجلوس فيه لأجلها لا بما إذا كان لأجل العبادة فاتفقت الدعوى
لما في إنفاذها حينئذ من المسارعة المأمور بها. وعلى أحدها يحمل فعل علي عليه السلام، ولعله بالأخير أنسب
إلا أن دكة القضاء به لا تخلو من منافرة للمحامل.
(وتعريف الضوال) إنشادا ونشدانا (1) والجمع بين وظيفتي
تعريفها في المجامع وكراهتها في المساجد فعله خارج الباب -
(وإنشاد الشعر)، لنهي النبي صلى الله عليه وآله عنه، وأمره
بأن يقال للمنشد: فض (2) الله فاك.
547

وروي نفي البأس عنه، وهو غير مناف للكراهة.
قال المصنف في الذكرى: ليس ببعيد حمل إباحة إنشاد الشعر
على ما يقل منه وتكثر منفعته، كبيت حكمة، أو شاهد على لغة
في كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وآله، وشبهه، لأنه
من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وآله كان ينشد بين يديه البيت
والأبيات من الشعر في المسجد ولم ينكر ذلك.
وألحق به بعض الأصحاب ما كان منه موعظة، أو مدحا
للنبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام، أو مرثية للحسين
عليه السلام، ونحو ذلك لأنه عبادة لا تنافي الغرض المقصود
من المساجد، وليس ببعيد.
ونهي النبي صلى الله عليه وآله محمول على الغالب من أشعار
العرب الخارجة عن هذه الأساليب.
(والكلام فيها بأحاديث الدنيا)، للنهي عن ذلك (1) ومنافاته
لوضعها فإنها وضعت للعبادة.
548

(وتكره الصلاة في الحمام): وهو البيت المخصوص الذي
يغتسل فيه لا المسلخ وغيره من بيوته وسطحه.
نعم تكره في بيت ناره من جهة النار، لا من حيث الحمام.
(وبيوت الغائط)، للنهي عنه، ولأن الملائكة لا تدخل بيتا
يبال فيه ولو في إناء، فهذا أولى (1).
(و) بيوت (النار): وهي المعدة لإضرامها فيها كالأتون (2)
والفرن، لا ما وجد فيه نار مع عدم إعداده لها، كالمسكن، إذا أو قدت فيه وإن كثر.
(و) بيوت (المجوس)، للخبر (3)، ولعدم انفكاكها
549

عن النجاسة، وتزول الكراهة برشها.
(والمعطن) بكسر الطاء واحد المعاطن، وهي مبارك الإبل
عند الماء للشرب.
(ومجرى الماء) وهو المكان المعد لجريانه وإن لم يكن
فيه ماء.
(والسبخة) بفتح الباء واحد السباخ، وهي الشئ الذي
يعلو الأرض كالملح، أو بكسرها وهي الأرض ذات السباخ (1).
(وقرى النمل) جمع قرية: وهي مجتمع ترابها حول
جحرتها (2).
550

(و) في نفس (1) (الثلج اختيارا) مع تمكن الأعضاء
أما بدونه فلا مع الاختيار.
(وبين المقابر) وإليها ولو قبرا (إلا بحائل ولو عنزة)
بالتحريك: وهي العصا في أسفلها حديدة مركوزة، أو معترضة (2).
(أو بعد عشرة أذرع) ولو كانت القبور خلفه، أو مع أحد
جانبيه فلا كراهة.
(وفي الطريق) سواء أكانت مشغولة بالمارة، أم فارغة
إن لم يعطلها، وإلا حرم.
(و) في (بيت فيه مجوسي) وإن لم يكن البيت له (3).
(وإلى نار مضرمة) أي موقدة ولو سراجا، أو قنديلا.
وفي الرواية كراهة الصلاة إلى المجرة من غير اعتبار الإضرام
551

وهو كذلك (1)، وبه عبر المصنف في غير الكتاب.
(أو) إلى (تصاوير) ولو في الوسادة، وتزول الكراهة
بسترها بثوب، ونحوه.
(أو مصحف، أو باب مفتوحين) سواء في ذلك القارئ
وغيره.
نعم يشترط الإبصار.
وألحق به (2) التوجه إلى كل شاغل: من نقش وكتابة
ولا بأس به.
(أو وجه إنسان) في المشهور فيه، وفي الباب المفتوح، ولا نص
عليهما ظاهرا، وقد يعلل بحصول التشاغل به.
552

(أو حائط ينز من بالوعة) يبال فيها، ولو نز بالغائط
فأولى.
وفي إلحاق غيره من النجاسات وجه (1).
(وفي مرابض الدواب) جمع مربض: وهو مأواها ومقرها
ولو عند الشرب (إلا) مرابض (الغنم) فلا بأس بها، للرواية
معللا بأنها سكينة وبركة (2).
553

(ولا بأس بالبيعة والكنيسة (1) مع عدم النجاسة.
نعم يستحب رش موضع صلاته منها وتركه حتى يجف (2).
وهل يشترط في جواز دخولها إذن أربابها؟
احتمله المصنف في الذكرى تبعا لغرض الواقف، وعملا
بالقرينة (3)، وفيه قوة.
ووجه العدم إطلاق الأخبار بالإذن في الصلاة بها (4).
(ويكره تقدم المرأة على الرجل، أو محاذاتها له) في حالة
صلاتهما من دون حائل، أو بعد عشرة أذرع (على) القول
(الأصح).
والقول الآخر التحريم، وبطلان صلاتهما مطلقا، أو مع
الاقتران، إلا المتأخرة عن تكبيرة الإحرام.
554

ولا فرق بين المحرم والأجنبية، والمقتدية، والمنفردة
والصلاة الواجبة، والمندوبة.
(ويزول) المنع كراهة وتحريما (بالحائل) المانع من نظر
أحدهما الآخر ولو ظلمة وفقد بصر في قول، لا تغميض الصحيح
عينيه في الأصح (1).
(أو بعد عشرة أذرع) بين موقفهما.
(ولو حاذى سجودها قدمه فلا منع).
والمروي في الجواز كونها تصلي خلفه، وظاهره تأخرها.
في جميع الأحوال عنه، بحيث لا يحاذي جزء منه، وبه عبر
بعض الأصحاب، وهو أجود (2).
(ويراعي في مسجد الجبهة) بفتح الجيم (3): وهو القدر
المعتبر منه في السجود، لا محل جميع الجبهة: (أن يكون من الأرض
أو نباتها غير المأكول والملبوس عادة) بالفعل، أو بالقوة القريبة منه
555

بحيث يكون من جنسه (1)، فلا يقدح في المنع توقف المأكول
على طحن وخبز وطبخ، والملبوس على غزل ونسج وغير هما
ولو خرج عنه بعد أن كان منه كقشر اللوز (2) ارتفع المنع، لخروجه
عن الجنسية.
ولو اعتيد أحدهما (3) في بعض البلاد دون بعض، فالأقوى عموم
التحريم.
نعم لا يقدح النادر كأكل المخمصة (4) والعقاقير (5) المتخذة
للدواء من نبات لا يغلب أكله.
556

(ولا يجوز السجود على المعادن)، لخروجها عن اسم الأرض
بالاستحالة، ومثلها الرماد وإن كان منها (1).
وأما الخزف فيبنى على خروجه بالاستحالة عنها، فمن حكم
بطهره لزمه القول بالمنع من السجود عليه، للاتفاق على المنع مما خرج
عنها بالاستحالة، وتعليل من حكم بطهره بها (2).
لكن لما كان القول بالاستحالة بذلك ضعيفا كان جواز السجود
عليه قويا.
(ويجوز) السجود (على القرطاس) في الجملة (3) إجماعا
للنص الصحيح الدال عليه (4)، وبه خرج عن أصله المقتضي لعدم
جواز السجود عليه، لأنه مركب من جزأين لا يصح السجود عليهما:
وهما النورة وما مازجها: من القطن، والكتان، وغيرهما، فلا مجال
للتوقف فيه في الجملة (5).
والمصنف هنا خصه بالقرطاس (المتخذ من النبات) كالقطن
557

والكتان والقنب (1)، فلو اتخذ من الحرير لم يصح السجود عليه
وهذا إنما يبنى على القول باشتراط كون هذه الأشياء مما لا يلبس
بالفعل حتى يكون المتخذ منها غير ممنوع، أو كونه غير مغزول
أصلا إن جوزناه فيما دون المغزول، وكلاهما لا يقول به المصنف (2).
وأما إخراج الحرير فظاهر على هذا (3)، لأنه لا يصح السجود
عليه بحال.
وهذا الشرط على تقدير جواز السجود على هذه الأشياء ليس
بواضح، لأنه تقييد لمطلق النص، أو تخصيص لعامه (4) من غير
558

فائدة، لأن ذلك لا يزيله عن حكم مخالفة الأصل، فإن أجزاء
النورة المنبثة فيه بحيث لا يتميز من جوهر الخليط جزء يتم
عليه السجود كافية (1) في المنع، فلا يفيده ما يخالطها من الأجزاء
التي يصح السجود عليها منفردة (2).
وفي الذكرى جوز السجود عليه إن اتخذ من القنب.
واستظهر المنع من المتخذ من الحرير، وبنى المتخذ من القطن
والكتان على جواز السجود عليهما.
ويشكل تجويزه القنب على أصله، لحكمه فيها بكونه ملبوسا
في بعض البلاد (3)، وأن ذلك يوجب عموم التحريم، وقال فيها
أيضا: في النفس من القرطاس شئ. من حيث اشتماله على النورة
المستحيلة من اسم الأرض بالإحراق.
559

قال: إلا أن نقول: الغالب جوهر القرطاس (1) أو نقول:
جمود النورة يرد إليها اسم الأرض.
وهذا الإبراد متجه لولا خروج القرطاس بالنص الصحيح (2)
وعمل الأصحاب، وما دفع به الإشكال غير واضح، فإن أغلبية
المسوغ لا يكفي مع امتزاجه بغيره وانبثاث أجزائهما بحيث لا يتميز
وكون جمود النورة يرد إليها اسم الأرض: في غاية الضعف.
وعلى قوله رحمه الله لو شك في جنس المتخذ منه - كما هو
الأغلب - لم يصح السجود عليه، للشك في حصول شرط الصحة.
وبهذا ينسد باب السجود عليه غالبا (3)، وهو غير مسموع في مقابل
النص وعمل الأصحاب.
(ويكره) السجود (على المكتوب) منه مع ملاقاة الجبهة
لما يقع عليه اسم السجود خاليا من الكتابة (4).
وبعضهم لم يعتبر ذلك، بناء على كون المداد عرضا لا يحول
بين الجبهة وجوهر القرطاس، وضعفه ظاهر (5).
560

(الخامس - طهارة البدن من الحدث والخبث)
(وقد سبق) بيان حكمهما مفصلا (1).
(السادس - ترك الكلام (2)
في أثناء الصلاة: وهو - على ما اختاره المصنف والجماعة -
ما تركب من حرفين فصاعدا، وإن لم يكن كلاما لغة، ولا
اصطلاحا (3)، وفي حكمه الحرف الواحد المفيد كالأمر من الأفعال
561

المعتلة الطرفين، مثل " ق " من الوقاية، و " ع " من الوعاية
لاشتماله على مقصود الكلام وإن أخطأ بحذف هاء السكت (1) وحرف
المد (2) لاشتماله على حرفين فصاعدا.
ويشكل بأن النصوص خالية عن هذا الإطلاق (3)، فلا أقل
من أن يرجع فيه إلى الكلام لغة، أو اصطلاحا، وحرف المد - وإن طال
مده بحيث يكون بقدر أحرف لا يخرج عن كونه حرفا واحدا في نفسه
فإن المد - على ما حققوه - ليس بحرف ولا حركة، وإنما هو زيادة
562

في مط الحرف والنفس به (1)، وذلك لا يلحقه بالكلام.
والعجب أنهم جزموا بالحكم الأول مطلقا (2)، وتوقفوا
في الحرف المفهم من حيث كون المبطل الحرفين فصاعدا، مع أنه
كلام لغة واصطلاحا.
وفي اشتراط كون الحرفين موضوعين لمعنى وجهان (3)، وقطع
المصنف بعدم اعتباره.
وتظهر الفائدة في الحرفين الحادثين من التنحنح ونحوه.
وقطع العلامة بكونهما حينئذ غير مبطلين، محتجا بأنهما ليسا
من جنس الكلام، وهو حسن.
واعلم أن في جعل هذه التروك من الشرائط تجوزا ظاهرا
فإن الشرط يعتبر كونه متقدما على المشروط ومقارنا له، والأمر
هنا ليس كذلك (4).
563

(و) ترك (الفعل الكثير عادة) وهو ما يخرج به فاعله
عن كونه مصليا عرفا.
ولا عبرة بالعدد، فقد يكون الكثير فيه (1) قليلا كحركة
الأصابع، والقليل فيه كثيرا كالوثبة الفاحشة.
ويعتبر فيه التوالي، فلو تفرق بحيث حصلت الكثرة في جميع
الصلاة ولم يتحقق الوصف في المجتمع منها لم يضر، ومن هنا كان
النبي صلى الله عليه وآله يحمل أمامة وهي ابنة ابنته زينب (2)
ويضعها كلما سجد ثم يحملها إذا قام.
ولا يقدح القليل كلبس العمامة والرداء، ومسح الجبهة وقتل
الحية والعقرب وهما منصوصتان (3).
564

(و) ترك (السكوت الطويل) المخرج عن كونه مصليا
(عادة) ولو خرج به عن كونه قارئا بطلت القراءة خاصة.
(و) ترك (البكاء) بالمد، وهو ما اشتمل منه على صوت
لا مجرد خروج الدمع مع احتماله (1) لأنه البكا مقصورا، والشك
في كون الوارد منه في النص مقصورا أو ممدودا.
وأصالة عدم المد معارض بأصالة صحة الصلاة، فيبقى الشك
في عروض المبطل مقتضيا لبقاء حكم الصحة (2).
وإنما يشترك ترك البكاء (للدنيا) كذهاب مال وفقد محبوب
وإن وقع على وجه قهري في وجه (3).
واحترز بها عن الآخرة، فإن البكاء لها كذكر الجنة والنار
ودرجات المقربين إلى حضرته، ودركات المبعدين عن رحمته -
من أفضل الأعمال.
ولو خرج منه حينئذ حرفان فكما سلف (4).
565

(و) ترك (القهقهة): وهي الضحك المشتمل على الصوت
وإن لم يكن فيه ترجيع (1)، ولا شدة، ويكفي فيها وفي البكاء
مسماهما، فمن ثمة أطلق.
ولو وقعت على وجه لا يمكن دفعه ففيه وجهان، واستقرب
المصنف في الذكرى البطلان.
(والتطبيق) وهو: وضع إحدى الراحتين (2) على الأخرى
راكعا بين ركبتيه، لما روي من النهي عنه، والمستند ضعيف
والمنافاة به من حيث الفعل منتفية، فالقول بالجواز أقوى، وعليه
المصنف في الذكرى.
(والتكتف (3)) وهو: وضع إحدى اليدين على الأخرى
566

بحائل وغيره فوق السرة وتحتها بالكف عليه وعلى الزند (1)، لإطلاق
النهي عن التكفير الشامل لجميع ذلك.
(إلا لتقية) فيجوز منه ما تأدت به، بل يجب، وإن كان
عندهم سنة، مع ظن الضرر بتركها (2)، لكن لا تبطل الصلاة بتركها حينئذ لو خالف، لتعلق النهي بأمر خارج (3)، بخلاف
المخالفة في غسل الوضوء بالمسح (4).
567

(والالتفات إلى ما وراءه) إن كان ببدنه أجمع، وكذا بوجهه
عند المصنف وإن كان الفرض بعيدا، أما إلى ما دون ذلك كاليمين
واليسار، فيكره بالوجه ويبطل بالبدن عمدا من حيث الانحراف
عن القبلة.
(والأكل والشرب) وإن كان قليلا كاللقمة، إما لمنافاتهما
وضع الصلاة (1)، أو لأن تناول المأكول والمشروب ووضعه في الفم
وازدراده (2) أفعال كثيرة، وكلاهما ضعيف، إذ لا دليل على أصل
المنافاة (3).
فالأقوى اعتبار الكثرة فيهما عرفا، فيرجعان إلى الفعل الكثير
وهو اختيار المصنف في كتبه الثلاثة (4).
(إلا في الوتر لمن يريد الصوم) وهو عطشان (فيشرب) إذا
لم يستدع منافيا غيره، وخاف فجأة الصبح قبل إكمال غرضه منه (5).
ولا فرق فيه (6) بين الواجب والندب.
واعلم أن هذه المذكورات أجمع إنما تنافي الصلاة مع تعمدها عند
568

المصنف مطلقا (1)، وبعضها إجماعا (2)، وإنما لم يقيد هنا
اكتفاء باشتراطه تركها، فإن ذلك يقتضي التكليف به المتوقف
على الذكر، لأن الناسي غير مكلف ابتداء (3).
نعم الفعل الكثير ربما توقف المصنف في تقييده بالعمد
لأنه أطلقه في البيان، ونسب التقييد في الذكرى إلى الأصحاب
وفي الدروس إلى المشهور، وفي الرسالة الألفية جعله من قسم المنافي
مطلقا (4).
ولا يخلو إطلاقه هنا من دلالة على القيد، إلحاقا له بالباقي.
نعم لو استلزم الفعل الكثير ناسيا إمحاء صورة الصلاة رأسا
توجه البطلان أيضا، لكن الأصحاب أطلقوا الحكم (5).
569

(السابع - الإسلام: فلا تصح العبادة)
مطلقا (1) فتدخل الصلاة (من الكافر) مطلقا (2) وإن كان
مرتدا مليا، أو فطريا (وإن وجبت عليه) كما هو قول الأكثر
خلافا لأبي حنيفة، حيث زعم أنه غير مكلف بالفروع فلا يعاقب
على تركها.
وتحقيق المسألة في الأصول.
(والتمييز) بأن تكون له قوة يمكنه بها معرفة أفعال الصلاة
ليميز الشرط من الفعل، ويقصد بسببه فعل العبادة (3)
(فلا تصح من المجنون، والمغمى عليه و) الصبي (غير المميز
لأفعالها): بحيث لا يفرق بين ما هو شرط فيها وغير شرط، وما هو
واجب وغير واجب، إذا نبه عليه.
(ويمرن الصبي) على الصلاة (لست)، وفي البيان لسبع
وكلاهما مروي (4)،
570

ويضرب عليها لتسع (1)، وروي لعشر (2)، ويتخير بين نية
الوجوب والندب.
والمراد بالتمرين التعويد على أفعال المكلفين، ليعتادها قبل البلوغ
فلا يشق عليه بعده (3).
(الفصل الثالث - في كيفية الصلاة)
(ويستحب) قبل الشروع في الصلاة (الأذان والإقامة)
وإنما جعلهما من الكيفية خلافا للمشهور من جعلهما من المقدمات
نظرا إلى مقارنة الإقامة لها غالبا (4)، لبطلانها بالكلام ونحوه (5)
571

بينها وبين الصلاة، وكونها أحد الجزئين فكانا كالجزء المقارن (1)
كما دخلت النية فيها، مع أنها خارجة عنها، متقدمة عليها على التحقيق.
وكيفيتهما: (بأن ينويهما) أولا، لأنهما عبادة فيفتقر في الثواب
عليها إلى النية، إلا ما شذ (2).
(ويكبر أربعا في أول الأذان، ثم التشهدان) بالتوحيد والرسالة.
(ثم الحيعلات (3) الثلاث، ثم التكبير، ثم التهليل، مثنى
مثنى)، فهذه ثمانية عشر فصلا.
(والإقامة مثنى) في جميع فصولها: وهي فصول الأذان إلا ما يخرجه
(ويزيد بعد حي على خير العمل قد قامت الصلاة مرتين.
ويهلل في آخرها مرة) واحدة، ففصولها سبعة عشر تنقص
572

عن الأذان ثلاثة ويزيد اثنين، فهذه جملة الفصول المنقولة شرعا.
(ولا يجوز اعتقاد شرعية غير هذه) الفصول (في الأذان
والإقامة كالتشهد بالولاية) لعلي عليه السلام (وأن محمدا وآله خير
البرية) أو خير البشر (وإن كان الواقع كذلك) فما كل واقع حقا
يجوز إدخاله في العبادات الموظفة شرعا، المحدودة من الله تعالى
فيكون إدخال ذلك فيها بدعة وتشريعا، كما لو زاد في الصلاة ركعة
أو تشهدا، أو نحو ذلك من العبادات، وبالجملة فذلك من أحكام
الإيمان، لا من فصول الأذان.
قال الصدوق: إن إدخال ذلك فيه من وضع المفوضة: وهم
طائفة من الغلاة (1).
ولو فعل هذه الزيادة، أو إحداها بنية أنها منه أثم في اعتقاده
ولا يبطل الأذان بفعله، وبدون اعتقاد ذلك لا حرج.
وفي المبسوط أطلق عدم الإثم به، ومثله المصنف في البيان (2).
573

(واستحبابهما ثابت في الخمس) اليومية خاصة، دون غيرها
من الصلوات وإن كانت واجبة.
بل يقول المؤذن للواجب منها: الصلاة ثلاثا بنصب الأولين (1)
أو رفعهما، أو بالتفريق.
(أداء وقضاء، للمنفرد والجامع).
(وقيل) والقائل به المرتضى والشيخان: (يجبان في الجماعة)
لا بمعنى اشتراطهما في الصحة، بل في ثواب الجماعة (2) على ما صرح به
الشيخ في المبسوط، وكذا فسره به المصنف في الدروس عنهم مطلقا (3).
574

(ويتأكدان في الجهرية، وخصوصا الغداة والمغرب)، بل أوجبهما
فيهما الحسن مطلقا (1)، والمرتضى فيهما على الرجال، وأضاف إليهما
الجمعة، ومثله ابن الجنيد، وأضاف الأول الإقامة مطلقا (2)، والثاني
هي على الرجال مطلقا.
(ويستحبان للنساء سرا)، ويجوزان جهرا إذا لم يسمع الأجانب
من الرجال، ويعتد بأذانهن لغيرهن (3).
(ولو نسيهما) المصلي ولم يذكر حتى افتتح الصلاة (تداركهما
ما لم يركع) في الأصح (4).
وقيل: يرجع العامد دون الناسي، ويرجع أيضا للإقامة لو نسيها
لا للأذان وحده (5).
575

(ويسقطان عن الجماعة الثانية) إذا حضرت لتصلي في مكان
فوجدت جماعة أخرى قد أذنت وأقامت وأتمت الصلاة (ما لم تتفرق
الأولى) (1): بأن يبقى منها ولو واحد معقبا، فلو لم يبق منها أحد
كذلك (2) وإن لم تتفرق بالأبدان لم يسقطا عن الثانية.
وكذا يسقطان عن المنفرد بطريق أولى (3).
ولو كان السابق منفردا لم يسقطا عن الثانية مطلقا (4).
576

ويشترط اتحاد الصلاتين، أو الوقت والمكان عرفا (1).
وفي اشتراط كونه مسجدا وجهان، وظاهر الإطلاق (2) عدم
الاشتراط، وهو الذي اختاره المصنف في الذكرى.
ويظهر من فحوى الأخبار أن الحكمة في ذلك مراعاة جانب
الإمام السابق في عدم تصوير الثانية بصورة الجماعة ومزاياها.
577

ولا يشترط العلم بأذان الأولى وإقامتها، بل عدم العلم بإهمالها
لهما (1) مع احتمال السقوط عن الثانية مطلقا (2) عملا بإطلاق النص
ومراعاة الحكمة (3).
(ويسقط الأذان في عصري عرفة) لمن كان بها (والجمعة
وعشاء) ليلة (المزدلفة) وهي المشعر، والحكمة فيه مع النص (4)
استحباب الجمع بين الصلاتين.
والأصل في الأذان الإعلام، فمن حضر الأولى صلى الثانية
فكانتا كالصلاة الواحدة، وكذا يسقط في الثانية عن كل جامع (5) ولو جوازا.
والأذان لصاحبة الوقت، فإن جمع في وقت الأولى
578

أذن لها وأقام ثم أقام للثانية، وإن جمع في وقت الثانية أذن أولا
بنية الثانية، ثم أقام للأولى ثم للثانية (1).
وهل سقوطه في هذه المواضع رخصة فيجوز الأذان، أم عزيمة (2)
فلا يشرع؟
وجهان:
من أنه عبادة توقيفية (3)، ولا نص عليه هنا بخصوصه
والعموم مخصص بفعل النبي صلى الله عليه وآله، فإنه جمع بين الظهرين
والعشائين لغير مانع بأذان وإقامتين، وكذا في تلك المواضع.
والظاهر أنه لمكان الجمع لا لخصوصية البقعة (4).
579

ومن (1) أنه ذكر الله تعالى فلا وجه لسقوطه أصلا، بل تخفيفا
ورخصة.
ويشكل بمنع كونه بجميع فصوله ذكرا، وبأن الكلام في خصوصية
العبادة لا في مطلق الذكر، وقد صرح جماعة من الأصحاب منهم
العلامة بتحريمه في الثلاثة الأول، (2)، وأطلق (3) الباقون سقوطه
مع مطلق الجمع.
واختلف كلام المصنف رحمه الله ففي الذكرى توقف في كراهته
في الثلاثة استنادا إلى عدم وقوفه فيه على نص، ولا فتوى، ثم حكم بنفي
الكراهة وجزم بانتفاء التحريم فيها، وببقاء الاستحباب في الجمع بغيرها
مؤولا الساقط بأنه أذان الإعلام، وأن الباقي أذان الذكر والإعظام.
وفي الدروس قريب من ذلك، فإنه قال: ربما قيل بكراهته
في الثلاثة، وبالغ من قال بالتحريم.
وفي البيان: الأقرب أن الأذان في الثلاثة حرام مع اعتقاد
شرعيته، وتوقف في غيرها (4)، والظاهر التحريم فيما لا إجماع
على استحبابه منها، لما ذكرناه (5).
وأما تقسيم الأذان إلى القسمين فأضعف، لأنه عبادة خاصة
580

أصلها الإعلام، وبعضها ذكر، وبعضها غير ذكر وتأدى وظيفته
بإيقاعه سرا ينافي اعتبار أصله (1)، والحيعلات تنافي ذكريته، بل
هو قسم ثالث، وسنة متبعة، ولم يوقعها الشارع في هذه المواضع
فيكون بدعة.
نعم قد يقال: إن مطلق البدعة ليس بمحرم (2)، بل ربما
581

قسمها بعضهم إلى الأحكام الخمسة، ومع ذلك لا يثبت الجواز (1).
(ويستحب رفع الصوت بهما للرجل)، بل لمطلق الذكر
أما الأنثى فتسر بهما كما تقدم (2)، وكذا الخنثى (3).
(والترتيل فيه) ببيان حروفه، وإطالة وقوفه من غير استعجال.
(والحدر) هو الإسراع (فيها) بتقصير الوقوف على كل
فصل، لا تركه (4) لكراهة إعرابهما حتى لو ترك الوقف أصلا
فالتسكين أولى من الإعراب، فإنه لغة عربية، والإعراب مرغوب
عنه شرعا، ولو أعرب حينئذ ترك الأفضل ولم تبطل.
أما اللحن ففي بطلانهما به وجهان (5).
582

ويتجه البطلان لو غير المعنى كنصب رسول الله صلى الله عليه وآله
لعدم تمامية الجملة به بفوات (1) المشهود به لغة وإن قصده، إذ
لا يكفي قصد العبادة اللفظية عن لفظها.
(و) المؤذن (الراتب يقف على مرتفع) ليكون أبلغ في رفع
الصوت، وإبلاغه المصلين، وغيره يقتصر عنه (2) مراعاة لجانبه
حتى يكره سبقه به ما لم يفرط بالتأخر.
(واستقبال القبلة) في جميع الفصول خصوصا الإقامة، ويكره
الالتفات ببعض فصوله يمينا وشمالا وإن كان على المنارة عندنا (3).
(والفصل بينهما بركعتين) ولو من الراتبة، (أو سجدة
أو جلسة) والنص (4) ورد بالجلوس، ويمكن دخول السجدة فيه
583

فإنها جلوس وزيادة مع اشتمالها على مزية زائدة، (أو خطوة)
ولم يجد بها المصنف في الذكرى حديثا، لكنها مشهورة، (أو سكتة)
وهي مروية (1) في المغرب خاصة، ونسبها في الذكرى إلى كلام
الأصحاب مع السجدة والخطوة، وقد ورد النص في الفصل
بتسبيحة (2)، فلو ذكرها (3) كان حسنا.
(ويختص المغرب بالأخيرتين): الخطوة والسكتة (4).
أما السكتة فمروية فيه (5)، وأما الخطوة فكما تقدم.
وروي فيه الجلسة (6)، وأنه
إذا فعلها كان كالمتشحط بدمه
في سبيل الله فكان ذكرها أولى.
584

(ويكره الكلام في خلالهما) خصوصا الإقامة، ولا يعيده به
ما لم يخرج به عن الموالاة، ويعيدها به مطلقا (1) على ما أفتى به المصنف
وغيره، والنص ورد بإعادتها بالكلام بعدها (2) (ويستحب الطهارة)
حالتهما وفي الإقامة آكد، وليست شرطا فيهما عندنا من الحدثين (3)
نعم لو أوقعه في المسجد بالأكبر لغا، للنهي المفسد للعبادة (4).
(والحكاية لغير المؤذن) إذا سمع كما يقول المؤذن وإن كان
في الصلاة، إلا الحيعلات فيها فيبدلها بالحوقلة، ولو حكاها بطلت
لأنها ليست ذكرا، وكذا يجوز إبدالها في غيرها، ووقت حكاية
الفصل بعد فراغ المؤذن منه، أو معه.
وليقطع الكلام إذا سمعه غير الحكاية وإن كان قرآنا، ولو
دخل المسجد أخر التحية إلى الفراغ منه.
(ثم يجب القيام) حالة النية، والتكبير، والقراءة، وإنما
585

قدمه على النية والتكبير مع أنه لا يجب قبلهما، لكونه شرطا فيهما
والشرط مقدم على المشروط، وقد أخره المصنف عنهما في الذكرى
والدروس، نظرا إلى ذلك، وليتمخض جزءا من الصلاة (1)
وفي الألفية أخره عن القراءة ليجعله واجبا في الثلاثة، ولكل وجه
(مستقلا به) غير مستند إلى شئ بحيث لو أزيل السناد (2) سقط
(مع المكنة، فإن عجز) عن الاستقلال في الجميع (ففي البعض).
ويستند فيما يعجز عنه، (فإن عجز) عن الاستقلال أصلا
(اعتمد) على شئ مقدما على القعود فيجب تحصيل ما يعتمد
عليه ولو بأجرة مع الإمكان.
(فإن عجز) عنه ولو بالاعتماد، أو قدر عليه، ولكن عجز
عن تحصيله (قعد) مستقلا كما مر (4)، فإن عجز اعتمد.
(فإن عجز اضطجع) على جانبه الأيمن.
(فإن عجز) فعلى الأيسر.
هذا هو الأقوى ومختاره في كتبه الثلاثة (5) ويفهم منه هنا
586

التخيير (1) وهو قول.
ويجب الاستقبال حينئذ (2) بوجهه، (فإن عجز) عنهما (3)
(استلقى) على ظهره، وجعل باطن قدميه إلى القبلة ووجهه (4)
بحيث لو جلس كان مستقبلا كالمحتضر.
والمراد بالعجز في هذه المراتب حصول مشقة كثيرة لا تتحمل
عادة، سواء نشأ منها زيادة مرض، أو حدوثه، أو بطء برئه
أو مجرد المشقة (5)، لا العجز الكلي.
(ويومئ للركوع، والسجود بالرأس) إن عجز عنهما.
ويجب تقريب الجبهة إلى ما يصح السجود عليه، أو تقريبه
إليها، والاعتماد بها عليه، ووضع باقي المساجد معتمدا، وبدونه لو تعذر الاعتماد، وهذه الأحكام آتية في جميع المراتب السابقة
وحيث يومئ لهما برأسه يزيد السجود انخفاضا مع الإمكان، (فإن
عجز) عن الإيماء به (غمض عينيه لهما) مزيدا (6) للسجود تغميضا
587

(وفتحهما) بالفتح (1) (لرفعهما)، وإن لم يكن مبصرا مع إمكان
الفتح قاصدا بالأبدال (2) تلك الأفعال، وإلا أجرى الأفعال على قلبه
كل واحد في محله، والأذكار على لسانه، وإلا أخطرها بالبال
ويلحق البدل حكم المبدل في الركنية، زيادة ونقصانا مع القصد.
وقيل: مطلقا (3).
(والنية) وهي القصد إلى الصلاة المعينة، ولما كان القصد
متوقفا على تعيين المقصود بوجه ليمكن توجه القصد إليه اعتبر فيها
إحضار ذات الصلاة وصفاتها المميزة لها حيث تكون مشتركة (4)
588

والقصد إلى هذا المعين متقربا، ويلزم من ذلك كونها (معينة
الفرض) من ظهر، أو عصر، أو غيرهما (1).
(والأداء) إن كان فعلها في وقتها، (أو القضاء) إن كان
في غير وقتها (والوجوب).
والظاهر أن المراد به المجعول غاية (2)، لأن قصد الفرض
يستدعي تميز الواجب، مع احتمال أن يريد به الواجب المميز (3)
589

ويكون الفرض إشارة إلى نوع الصلاة، لأن الفرض قد يراد به ذلك
إلا أنه غير مصطلح شرعا، ولقد كان أولى، بناء على أن الوجوب
الغائي لا دليل على وجوبه كما نبه عليه المصنف في الذكرى، ولكنه
مشهور (1) فيجري عليه هنا (2).
(أو الندب) إن كان مندوبا، إما بالعارض كالمعادة، لئلا
ينافي الفرض الأول، إذ يكفي إطلاق الفرض عليه حينئذ كونه
كذلك بالأصل، أو ما هو أعم (3): بأن يراد بالفرض أولا
ما هو أعم من الواجب كما ذكر في الاحتمال، وهذا قرينة أخرى
590

عليه (1).
وهذه الأمور كلها مميزات للفعل المنوي، لا أجزاء للنية
لأنها أمر واحد بسيط وهو القصد، وإنما التركيب في متعلقه
ومعروضه: وهو الصلاة الواجبة، أو المندوبة المؤداة، أو المقضاة.
وعلى اعتبار الوجوب المعلل يكون آخر المميزات الوجوب (2)
ويكون قصده لوجوبه إشارة إلى ما يقوله المتكلمون: من أنه يجب
فعل الواجب لوجوبه، أو ندبه، أو لوجههما من الشكر، أو اللطف
أو الأمر، أو المركب منها، أو من بعضها على اختلاف الآراء
ووجوب (3) ذلك أمر مرغوب عنه،
591

إذ لم يحققه المحققون (1) فكيف يكلف به غيرهم؟
(والقربة): وهي غاية الفعل المتعبد به: وهو قرب الشرف
لا الزمان والمكان، لتنزهه تعالى عنهما.
وآثرها (2)، لورودها كثيرا في الكتاب والسنة ولو جعلها لله
تعالى كفى.
وقد تلخص من ذلك: أن المعتبر في النية أن يحضر بباله مثلا
صلاة الظهر الواجبة المؤداة، ويقصد فعلها لله تعالى، وهذا أمر
سهل، وتكليف يسير قل أن ينفك عن ذهن المكلف عن إرادته
الصلاة، وكذا غيرها وتجشمها (3) زيادة على ذلك وسواس شيطاني
قد أمرنا بالاستعاذة منه والبعد عنه.
(وتكبيرة الإحرام) نسبت إليه، لأن بها يحصل الدخول
592

في الصلاة ويحرم ما كان محللا قبلها من الكلام وغيره.
ويجب التلفظ بها باللفظ المشهور (بالعربية)، تأسيا بصاحب الشرع عليه الصلاة والسلام، حيث فعل كذلك وأمرنا بالتأسي به (1)
(و) كذا تعتبر العربية في (سائر الأذكار الواجبة).
أما المندوبة فيصح بها، وبغيرها (2) في أشهر القولين.
هذا مع القدرة عليها.
أما مع العجز، وضيق الوقت عن التعلم فيأتي بها حسب ما يعرفه
من اللغات، فإن تعدد تخير مراعيا ما اشتملت عليه من المعنى ومنه
الأفضلية (3).
(وتجب المقارنة للنية) بحيث يكبر عند حضور القصد المذكور
بالبال من غير أن يتخلل بينهما زمان وإن قل، على المشهور (4).
593

والمعتبر حصول القصد عند أول جزء من التكبير، وهو المفهوم
من المقارنة بينهما في عبارة المصنف، لكنه في غيره اعتبر استمراره
إلى آخره (1) إلا مع العسر، والأول أقوى (2).
(واستدامة حكمها): بمعنى أن لا يحدث نية تنافيها، ولو
في بعض مميزات المنوي (إلى الفراغ) من الصلاة، فلو نوى الخروج
منها ولو في ثاني الحال قبله (3) أو فعل (4) بعض المنافيات كذلك (5)
أو الرياء ولو ببعض الأفعال، ونحو ذلك (6) بطلت.
(وقراءة الحمد، وسورة كاملة) في أشهر القولين (7) (إلا مع
الضرورة) كضيق وقت، وحاجة يضر فوتها، وجهالة لها مع العجز
عن التعلم فتسقط السورة من غير تعويض عنها (8).
هذا (في) الركعتين (الأوليين) سواء لم يكن غيرهما كالثنائية
أم كان كغيرها.
594

(ويجزي في غيرهما) من الركعات (الحمد وحدها، أو التسبيح
بالأربع المشهورة (أربعا): بأن يقولها مرة (1) (أو تسعا) بإسقاط
التكبير من الثلاث على ما دلت عليه رواية حريز (2).
(أو عشرا) بإثباته (3) في الأخيرة (أو اثني عشر) بتكرير
الأربع ثلاثا.
ووجه الاجتزاء بالجميع ورود النص الصحيح بها.
ولا يقدح إسقاط التكبير في الثاني، لذلك (4) ولقيام غيره
مقامه، وزيادة (5).
595

وحيث يؤدي الواجب بالأربع جاز ترك الزائد فيحتمل كونه
مستحبا، نظرا إلى ذلك، وواجبا مخيرا، التفاتا إلى أنه أحد
أفراد الواجب (1) وجواز تركه (2) إلى بدل: وهو الأربع وإن كان
جزءه كالركعتين (3)، والأربع في مواضع التخيير.
وظاهر النص والفتوى: الوجوب، وبه صرح المصنف
في الذكرى، وهو ظاهر العبارة هنا، وعليه الفتوى.
فلو شرع في الزائد عن مرتبة فهل يجب عليه البلوغ إلى أخرى؟
596

يحتمله، قضية للوجوب (1)، وإن جاز تركه قبل الشروع.
والتخيير ثابت قبل الشروع فيوقعه على وجهه، أو يتركه حذرا
من تغيير الهيئة الواجبة.
ووجه العدم: أصالة عدم وجوب الإكمال، فينصرف إلى كونه
ذكر الله تعالى، إن لم يبلغ فردا آخر (2).
597

(والحمد) في غير الأوليين (أولى) من التسبيح مطلقا
لرواية محمد بن حكيم عن أبي الحسن عليه السلام (1).
وروي أفضلية التسبيح مطلقا (2)، ولغير الإمام وتساويهما.
وبحسبها (3) اختلفت الأقوال واختلف اختيار المصنف، فهنا
رجح القراءة مطلقا.
وفي الدروس للإمام، والتسبيح للمنفرد.
وفي البيان جعلهما له سواء.
وتردد في الذكرى، والجمع بين الأخبار هنا لا يخلو من تعسف (4).
598

(ويجب الجهر) بالقراءة على المشهور (في الصبح وأوليي
العشائين، والإخفات في البواقي) للرجل (1).
والحق أن الجهر والإخفات كيفيتان متضادتان مطلقا لا يجتمعان
في مادة (2).
599

فأقل الجهر: أن يسمعه من قرب منه صحيحا، مع اشتمالها
على الصوت الموجب لتسميته جهرا عرفا.
وأكثره أن لا يبلغ العلو المفرط.
وأقل السر: أن يسمع نفسه خاصة صحيحا، أو تقديرا
وأكثره: أن لا يبلغ أقل الجهر.
(ولا جهر على المرأة) وجوبا، بل تتخير بينه وبين السر
في مواضعه إذا لم يسمعها من يحرم استماع صوتها (1)، والسر
أفضل لها مطلقا (2).
(ويتخير الخنثى بينهما) في موضع الجهر إن لم يسمعها الأجنبي
وإلا تعين الإخفات (3).
وربما قيل بوجوب الجهر علبها، مراعية عدم سماع الأجنبي
مع الإمكان، وإلا وجب الإخفات، وهو أحوط (4).
(ثم الترتيل) للقراءة: وهو لغة:
600

الترسل (1) فيها والتبيين بغير بغي.
وشرعا قال في الذكرى: هو حفظ الوقوف، وأداء الحروف
وهو المروي عن ابن عباس، وقريب منه عن علي عليه السلام
إلا أنه قال: وبيان الحروف، بدل أدائها (2).
(والوقوف) (3) على مواضعه: وهي ما تم لفظه ومعناه
أو أحدهما.
601

والأفضل: التام، ثم الحسن، ثم الكافي على ما هو مقرر
في محله (1).
602

ولقد كان يغني عنه ذكر الترتيل على ما فسره به المصنف
فالجمع بينهما تأكيد (1).
نعم يحسن الجمع بينهما لو فسر الترتيل: بأنه تبيين الحروف
من غير مبالغة كما فسره به في المعتبر والمنتهى.
أو بيان الحروف وإظهارها من غير مد يشبه الغناء كما فسره به
في النهاية وهو الموافق لتعريف أهل اللغة.
(وتعمد (2) الإعراب) إما بإظهار حركاته وبيانها بيانا
شافيا: بحيث لا يندمج بعضها في بعض إلى حد لا يبلغ حد المنع (3).
أو بأن لا يكثر الوقوف الموجب للسكون خصوصا في الموضع
المرجوح، ومثله حركة البناء (4).
(وسؤال الرحمة والتعوذ من النقمة) عند آيتيهما (مستحب)
603

خبر الترتيل (1)، وما عطف عليه (2).
وعطفها (3) بثم الدال على التراخي لما بين الواجب والندب
من التغاير.
(وكذا) يستحب (تطويل السورة في الصبح) كهل أتى
وعم، لا مطلق التطويل.
(وتوسطها (4) في الظهر والعشاء) كهل أتيك والأعلى
كذلك (5).
(وقصرها في العصر والمغرب) بما دون ذلك.
وإنما أطلق ولم يخص التفصيل بسور المفصل، لعدم النص
604

على تعيينه بخصوصه عندنا، وإنما الوارد في نصوصنا هذه السور
وأمثالها، لكن المصنف وغيره قيدوا الأقسام بالمفصل، والمراد
به ما بعد محمد، أو الفتح، أو الحجرات، أو الصف، أو الصافات
إلى آخر القرآن.
وفي مبتدئه أقوال أخر (1) أشهرها الأول، سمي مفصلا
لكثرة فواصله بالبسملة بالإضافة إلى باقي القرآن، أو لما فيه
من الحكم المفصل، لعدم المنسوخ منه.
(وكذا يستحب قصر السورة مع خوف الضيق)، بل
قد يجب (واختيار هل أتى وهل أتيك في صبح الاثنين)، وصبح
605

(الخميس) فمن قرأهما في اليومين وقاه الله شرهما (1).
(و) سورة (الجمعة والمنافقين في ظهريها وجمعتها) على طريق
الاستخدام (2)، وروي أن من تركهما فيها متعمدا فلا صلاة له
حتى قيل بوجوب قراءتهما في الجمعة وظهرها، لذلك، وحملت الرواية
على تأكد الاستحباب جمعا (3)، (والجمعة والتوحيد في صبحها).
وقيل: الجمعة والمنافقين، وهو مروي أيضا (4).
(والجمعة والأعلى في عشاءيها): المغرب والعشاء.
وروي في المغرب: الجمعة والتوحيد (5)، ولا مشاحة
في ذلك، لأنه مقام استحباب (6).
606

(وتحرم) قراءة (العزيمة في الفريضة) على أشهر القولين
فتبطل بمجرد الشروع فيها عمدا، للنهي (1)، ولو شرع فيها ساهيا
عدل عنها وإن تجاوز نصفها، ما لم يتجاوز موضع السجود، ومعه
ففي العدول، أو إكمالها والاجتزاء بها، مع قضاء السجود بعدها
وجهان (2).
في الثاني منهما قوة (3).
ومال المصنف في الذكرى إلى الأول.
واحترز بالفريضة عن النافلة فيجوز قراءتها فيها، ويسجد لها
في محله، وكذا لو استمع فيها إلى قارئ، أو سمع على أجود القولين (4).
ويحرم استماعها في الفريضة فإن فعل، أو سمع اتفاقا وقلنا
607

بوجوبه له أومأ لها وقضاها بعد الصلاة.
ولو صلى مع مخالف تقية فقرأها تابعه في السجود ولم يعتد
بها على الأقوى (1).
والقائل بجوازها منا لا يقول بالسجود لها في الصلاة (2)
فلا منع من الاقتداء به من هذه الجهة، بل من حيث فعله ما يعتقد
المأموم الإبطال به.
(ويستحب الجهر بالقراءة في نوافل الليل، والسر في) نوافل
(النهار).
(وكذا قيل في غيرها من الفرائض: بمعنى استحباب الجهر
بالليلية منها، والسر في نظيرها نهارا كالكسوفين، أما ما لا نظير
له فالجهر مطلقا (3) كالجمعة والعيدين، والزلزلة.
والأقوى في الكسوفين ذلك، لعدم اختصاص الخسوف بالليل.
608

(وجاهل الحمد يجب عليه التعلم) مع إمكانه، وسعة (1)
الوقت.
(فإن ضاق الوقت قرأ ما يحسن منها) أي من الحمد.
هذا إذا سمي (2) قرآنا، فإن لم يسم، لقلته فهو كالجاهل
بها (3) أجمع (4).
وهل يقتصر عليه (5)، أو يعوض عن الفائت؟
ظاهر العبارة الأول (6).
وفي الدروس الثاني (7)، وهو الأشهر (8).
ثم إن لم يعلم غيرها من القرآن كرر ما يعلمه بقدر الفائت
وإن علم ففي التعويض منها (9)، أو منه قولان:
609

مأخذهما: كون (1) الأبعاض أقرب إليها.
وأن (2) الشئ الواحد لا يكون أصلا وبدلا.
وعلى التقديرين (3) فيجب المساواة له (4) في الحروف.
وقيل: في الآيات (5)، والأول أشهر.
ويجب مراعاة الترتيب بين البدل والمبدل، فإن علم الأول (6)
أخر البدل، أو الآخر (7) قدمه، أو الطرفين (8) وسطه
610

أو الوسط (1) حفه به، وهكذا (2) ولو أمكنه الائتمام قدم
على ذلك (3)، لأنه في حكم القراءة التامة.
ومثله (4) ما لو أمكن متابعة قارئ، أو القراءة من المصحف
بل قيل بإجزائه اختيارا، والأولى اختصاصه بالنافلة (5).
(فإن لم يحسن) شيئا منها (6) (قرأ من غيرها بقدرها)
أي بقدر الحمد حروفا.
وحروفها مائة وخمسة وخمسون حرفا بالبسملة، إلا لمن قرأ مالك
فإنها تزيد حرفا، ويجوز الاقتصار على الأقل، ثم قرأ السورة
إن كان يحسن سورة تامة ولو بتكرارها عنهما مراعيا في البدل المساواة.
(فإن تعذر) ذلك كله ولم يحسن شيئا من القراءة (ذكر الله
تعالى بقدرها) أي بقدر الحمد خاصة، أما السورة فساقطة كما مر (7).
611

وهل يجزي مطلق الذكر (1)، أم يعتبر الواجب في الأخيرتين (2)؟
قولان اختار ثانيهما المصنف في الذكرى، لثبوت بدليته عنها في الجملة (3).
وقيل: يجزئ مطلق الذكر وإن لم يكن بقدرها (4) عملا
بمطلق الأمر (5)، والأول أولى.
ولو لم يحسن الذكر قيل: وقف بقدرها، لأنه كان يلزمه
عند القدرة على القراءة قيام وقراءة، فإذا فات أحدهما بقي الآخر
وهو حسن.
(والضحى وألم نشرح سورة) واحدة (والفيل والإيلاف سورة)
في المشهور (6) فلو قرأ إحداهما في ركعة، وجبت الأخرى
على الترتيب.
612

والأخبار خالية من الدلالة على وحدتهما (1) وإنما دلت على عدم
إجزاء إحداهما.
وفي بعضها تصريح بالتعدد مع الحكم المذكور والحكم من حيث
الصلاة واحد، وإنما تظهر الفائدة في غيرها (2).
(وتجب البسملة بينهما) على التقديرين في الأصح لثبوتها بينهما
تواترا، وكتبها (3) في المصحف المجرد عن غير القرآن حتى النقط
والإعراب، ولا ينافي ذلك (4) الوحدة لو سلمت كما في سورة النمل.
613

(ثم يجب الركوع منحنيا إلى أن تصل كفاه) معا (ركبتيه)
فلا يكفي وصولهما بغير انحناء كالانخناس (1) مع إخراج الركبتين
أو بهما.
والمراد بوصولهما بلوغهما قدرا لو أراد إيصالهما وصلتا، إذ
لا يجب الملاصقة، والمعتبر وصول جزء من باطنه لا جميعه، ولا رؤوس
الأصابع (2).
(مطمئنا) فيه بحيث تستقر الأعضاء (بقدر واجب الذكر)
مع الإمكان.
(و) الذكر الواجب (هو سبحان ربي العظيم وبحمده
أو سبحان الله ثلاثا) للمختار، (أو مطلق الذكر للمضطر).
وقيل: يكفي المطلق مطلقا (3) وهو أقوى، لدلالة الأخبار
الصحيحة عليه (4).
614

وما ورد في غيرها معينا غير مناف له (1). لأنه بعض أفراد
الواجب الكلي تخييرا، وبه يحصل الجمع بينهما، بخلاف ما لو
قيدناه (2).
وعلى تقدير تعينه فلفظ " وبحمده " واجب أيضا تخييرا، لا عينا
لخلو كثير من الأخبار عنه (3).
ومثله القول في التسبيحة الكبرى (4) مع كون بعضها ذكرا
615

تاما (5).
ومعنى سبحان ربي تنزيها له عن النقائص، وهو منصوب
على المصدر بمحذوف من جنسه، ومتعلق الجار في " وبحمده "
هو العامل المحذوف، والتقدير سبحت الله تسبيحا وسبحانا (2)
وسبحته بحمده، أو بمعنى والحمد له، نظير " ما أنت بنعمة ربك
616

بمجنون " أي والنعمة له (1).
(ورفع الرأس منه)، فلو هوى من غير رفع بطل مع التعمد
واستدركه مع النسيان، (مطمئنا) ولا حد لها، بل مسماها (2)
فما زاد بحيث لا يخرج بها عن كونه مصليا.
(ويستحب التثليث في الذكر) الأكبر (فصاعدا)
إلى ما لا يبلغ السأم (2)، فقد عد على الصادق عليه السلام ستون
617

تسبيحة كبرى (1) إلا أن يكون إماما فلا يزيد على الثلاث، إلا مع
حب المأمومين الإطالة.
وفي كون الواجب مع الزيادة على مرة الجميع، أو الأولى
ما مر في تسبيح الأخيرتين.
وأن يكون العدد (وترا) خمسا، أو سبعا، أو ما زاد منه.
وعدد الستين لا ينافيه (2)، لجواز الزيادة من غير عد
618

أو بيان جواز المزدوج (والدعاء أمامه) أي أمام الذكر بالمنقول
وهو اللهم لك ركعت إلى آخره (1).
(وتسوية الظهر حتى لو صب عليه ماء لم يزل لاستوائه.
(ومد العنق) مستحضرا فيه آمنت بك ولو ضربت
عنقي (2).
(والتجنيح) بالعضدين والمرفقين: بأن يخرجهما عن ملاصقة
جنبيه، فاتحا إبطيه كالجناحين.
(ووضع اليدين) على عيني (الركبتين) حالة الذكر أجمع
مالئا كفيه منهما.
(والبدءة) في الوضع (باليمنى) حالة كونهما (مفرجتين)
غير مضمومتي الأصابع.
(والتكبير له) قائما قبل الهوي (رافعا يديه إلى حذاء
شحمتي أذنيه) كغيره من التكبيرات (وقول سمع الله لمن حمده
والحمد لله رب العالمين) إلى آخره (3) (في) حال (رفعه)
منه، (مطمئنا).
ومعنى سمع هنا استجاب تضمينا، ومن ثم عداه باللام كما
619

عداه بإلى في قوله تعالى: " لا يسمعون إلى الملأ الأعلى (1) "
لما ضمنه معنى يصغون، وإلا فأصل السماع متعد بنفسه وهو خبر
معناه الدعاء، لا ثناء على الحامد.
(ويكره أن يركع ويداه تحت ثيابه)، بل تكونان بارزتين
أو في كميه، نسبه المصنف في الذكرى إلى الأصحاب، لعدم وقوفه
على نص فيه (2).
ثم تجب سجدتان (على الأعضاء السبعة): الجبهة، والكفين
والركبتين، وإبهامي الرجلين.
ويكفي من كل منها مسماه حتى الجبهة على الأقوى (3)، ولا بد
620

مع ذلك من الانحناء إلى ما يساوي موقفه (1) أو يزيد عليه، أو ينقص
عنه بما لا يزيد عن مقدار أربع أصابع مضمومة (قائلا فيهما: سبحان
ربي الأعلى وبحمده، أو ما مر) من الثلاثة الصغرى اختيارا
أو مطلق الذكر اضطرارا، أو مطلقا على المختار.
(مطمئنا بقدره) اختيارا (ثم رفع رأسه) بحيث يصير
جالسا، لا مطلق رفعه (مطمئنا) حال الرفع بمسماه.
(ويستحب الطمأنينة) بضم الطاء (عقيب) السجدة (الثانية)
وهي المسماة بجلسة الاستراحة استحبابا مؤكدا، بل قيل بوجوبها.
(والزيادة على) الذكر (الواجب) بعدد وتر، ودونه (2)
غيره.
(والدعاء) أمام الذكر للهم لك سجدت إلى آخره (3).
(والتكبيرات الأربع) للسجدتين.
621

(إحداهما): بعد رفعه من الركوع مطمئنا فيه.
(وثانيتها): بعد رفعه من السجدة الأولى جالسا مطمئنا.
(وثالثتها): قبل الهوي إلى الثانية كذلك.
(ورابعتها): بعد رفعه منه معتدلا.
(والتخوية للرجل) بل مطلق الذكر إما في الهوي إليه:
بأن يسبق بيديه، ثم يهوي بركبتيه، لما روي أن عليا عليه السلام
كان إذا سجد يتخوى كما يتخوى البعير الضامر: يعني بروكه (1)
أو بمعنى تجافي الأعضاء حالة السجود: بأن يجنح بمرفقيه ويرفعهما
عن الأرض، ولا يفترشهما كافتراش الأسد.
ويسمى هذا تخوية، لأنه إلقاء الخوي (2) بين الأعضاء.
وكلاهما مستحب للرجل، دون المرأة، بل تسبق في هويها
بركبتيها، وتبدأ بالقعود، وتفترش ذراعيها حالته لأنه أستر، وكذا
الخنثى لأنه أحوط، وفي الذكرى سماها تخوية كما ذكرناه (3).
(والتورك بين السجدتين): بأن يجلس على وركه الأيسر
ويخرج رجليه جميعا من تحته، جاعلا رجله اليسرى على الأرض
وظاهر قدمه اليمنى على باطن اليسرى ويفضي بمقعدته إلى الأرض.
622

هذا في الذكر، أما الأنثى فترفع ركبتيها، وتضع باطن
كفيها على فخذيها مضمومتي الأصابع.
(ثم يجب التشهد: عقب) الركعة (الثانية) التي تمامها القيام
من السجدة الثانية، (وكذا) يجب (آخر الصلاة) إذا كانت
ثلاثية، أو رباعية: (وهو أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك
له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل على محمد
وآل محمد).
وإطلاق التشهد على ما يشمل الصلاة على محمد وآله إما تغليب
أو حقيقة شرعية.
وما اختاره من صيغته (1) أكملها، وهي مجزية بالإجماع
إلا أنه غير متعين عند المصنف، بل يجوز عنده حذف وحده
لا شريك له، ولفظة عبده مطلقا (2)، أو مع إضافة الرسول
إلى المظهر.
وعلى هذا فما ذكر هنا (3) يجب تخييرا كزيادة التسبيح.
ويمكن أن يريد انحصاره فيه، لدلالة النص الصحيح عليه (4).
وفي البيان تردد في وجوب ما حذفناه، ثم اختار وجوبه
تخييرا.
ويجب التشهد (جالسا مطمئنا بقدره، ويستحب التورك)
623

حالته كما مر (والزيادة في الثناء والدعاء) قبله، وفي أثنائه وبعده
بالمنقول (1).
(ثم يجب التسليم) على أجود القولين عنده، وأحوطهما عندنا (2).
(وله عبارتان: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
و (3) السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) مخيرا فيهما.
(وبأيهما بدأ كان هو الواجب) وخرج به من الصلاة
(واستحب الآخر).
أما العبارة الأولى فعلى الاجتزاء بها، والخروج بها من الصلاة
دلت الأخبار الكثيرة (4).
وأما الثانية فمخرجة بالإجماع، نقله المصنف وغيره (5).
وفي بعض الأخبار تقديم الأول مع التسليم المستحب (6).
والخروج بالثاني، وعليه المصنف في الذكرى والبيان.
624

وأما جعل الثاني مستحبا كيف كان كما اختاره المصنف هنا (1)
فليس عليه دليل واضح.
وقد اختلف فيه كلام المصنف فاختاره هنا وهو من آخر ما صنفه
وفي الرسالة الألفية وهي من أوله (2)، وفي البيان أنكره غاية
الإنكار فقال بعد البحث عن الصيغة الأولى:
وأوجبها بعض المتأخرين، وخير بينها، وبين السلام عليكم
وجعل الثانية منهما مستحبة، وارتكب جواز السلام علينا وعلى عباد الله
الصالحين بعد السلام عليكم، ولم يذكر ذلك في خبر، ولا مصنف
بل القائلون بوجوب التسليم واستحبابه يجعلونها مقدمة عليه (3).
وفي الذكرى نقل وجوب الصيغتين تخييرا عن بعض المتأخرين
وقال: إنه قوي متين، إلا أنه لا قائل به من القدماء.
وكيف يخفى عليهم مثله لو كان حقا؟.
ثم قال: إن الاحتياط للدين الإتيان بالصيغتين جميعا بادئا
بالسلام علينا، لا بالعكس، فإنه لم يأت به خبر منقول، ولا مصنف
مشهور سوى ما في بعض كتب المحقق، ويعتقد ندبية السلام علينا
ووجوب الصيغة الأخرى (4)، وما جعله احتياطا قد أبطله في الرسالة
625

الألفية فقال فيها: إن من الواجب جعل المخرج ما يقدمه
من إحدى العبارتين فلو جعله الثانية لم تجز.
وبعد ذلك كله فالأقوى الاجتزاء في الخروج بكل واحدة منهما
والمشهور في الأخبار تقديم السلام علينا وعلى عباد الله مع التسليم
المستحب، إلا أنه ليس احتياطا كما ذكره في الذكرى، لما قد عرفت
من حكمه بخلافه فضلا عن غيره (1).
(ويستحب فيه التورك) كما مر.
(وإيماء المنفرد) بالتسليم (إلى القبلة ثم يومئ بمؤخر عينه
عن يمينه (2)).
أما الأول فلم نقف على مستنده، وإنما النص (3) والفتوى
على كونه إلى القبلة بغير إيماء، وفي الذكرى ادعى الإجماع على نفي
الإيماء إلى القبلة بالصيغتين وقد أثبته هنا وفي الرسالة النفلية.
وأما الثاني فذكره الشيخ وتبعه عليه الجماعة واستدلوا عليه بما
626

لا يفيده (1).
(والإمام) يومئ (بصفحة وجهه يمينا): بمعنى أنه يبتدئ
به إلى القبلة ثم يشير بباقيه إلى اليمين بوجهه.
(والمأموم كذلك) أي يومئ إلى يمينه بصفحة وجهه
كالإمام مقتصرا على تسليمة واحدة إن لم يكن على يساره أحد.
(وإن كان علي يساره أحد سلم أخرى) بصيغة السلام عليكم
(مؤميا) بوجهه (إلى يساره) أيضا.
وجعل ابنا بابويه الحائط كافيا في استحباب التسليمتين للمأموم.
والكلام فيه وفي الإيماء بالصفحة كالإيماء بمؤخر العين: من عدم
الدلالة عليه ظاهرا لكنه مشهور بين الأصحاب لا راد له.
(وليقصد المصلي) بصيغة الخطاب في تسليمه (الأنبياء
والملائكة والأئمة عليهم السلام والمسلمين: من الإنس والجن):
بأن يحضرهم بباله، ويخاطبهم به، وإلا كان تسليمه بصيغة الخطاب
لغوا وإن كان مخرجا عن العهدة.
(ويقصد المأموم به) مع ما ذكر (الرد على الإمام)، لأنه
داخل فيمن حياه، بل يستحب للإمام قصد المأمومين به على الخصوص
مضافا إلى غيرهم، ولو كانت وظيفة المأموم التسليم مرتين فليقصد
بالأولى الرد على الإمام، وبالثانية مقصده (2).
627

(ويستحب السلام المشهور) قبل الواجب وهو السلام عليك
أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام على أنبياء الله ورسله
السلام على جبرائيل وميكائيل والملائكة المقربين، السلام
على محمد ابن عبد الله خاتم النبيين لا نبي بعده.
(الفصل الرابع - في باقي مستحباتها)
قد ذكر في تضاعيفها (1) وقبلها جملة منها، وبقي جملة
أخرى.
(وهي ترتيل التكبير) بتبيين حروفه، وإظهارها إظهارا شافيا
(ورفع اليدين به) إلى حذاء شحمتي أذنيه (كما مر) في تكبير
الركوع (2).
ولقد كان بيانه في تكبير الإحرام أولى منه فيه، لأنه أولها
والقول بوجوبه فيه زيادة (3).
628

(مستقبل القبلة ببطون اليدين) حالة الرفع، (مجموعة الأصابع
مبسوطة الإبهامين) على أشهر القولين،
وقيل: يضمهما (1) إليها، مبتدئا به عند ابتداء الرفع، وبالوضع
عند انتهائه على أصح الأقوال (2).
(والتوجه بست تكبيرات) أول الصلاة قبل تكبيرة الإحرام
وهو الأفضل، أو بعدها، أو بالتفريق في كل صلاة: فرض
ونفل على الأقوى، سرا مطلقا (3).
(يكبر ثلاثا) منها (ويدعو) بقوله: " اللهم أنت
الملك الحق لا إله إلا أنت " إلى آخره (4).
(واثنتين ويدعو) بقوله " لبيك وسعديك "
إلى آخره (5).
(وواحدة ويدعو) بقوله: " يا محسن قد أتاك المسئ "
629

إلى آخره (1).
وروي أنه يجعل هذا الدعاء قبل التكبيرات (2)، ولا يدعو
بعد السادسة، وعليه المصنف في الذكرى، مع نقله ما هنا والدروس
والنفلية، وفي البيان كما هنا، والكل حسن.
وروي جعلها ولاء من غير دعاء بينها (3)، والاقتصار
على خمس، وثلاث (4).
(ويتوجه) أي يدعو بدعاء التوجه: وهو " وجهت
وجهي للذي فطر السماوات والأرض " إلى آخره (5) (بعد
التحريمة) حيث ما فعلها.
(وتربع المصلي قاعدا) لعجز، أو لكونها نافلة بأن يجلس
على ألييه (6) وينصب ساقيه ووركيه، كما تجلس المرأة متشهدة
(حال قراءته، ويثني (7) رجليه حال ركوعه جالسا): بأن يمدهما
630

ويخرجهما من ورائه، رافعا ألييه عن عقبيه، مجافيا (1) فخذيه
عن طية ركبتيه، منحنيا قدر ما يحاذي وجهه ما قدام ركبتيه.
(وتوركه حال تشهده): بأن يجلس على وركه الأيسر كما
تقدم، فإنه مشترك بين المصلي قائما وجالسا.
(والنظر قائما إلى مسجده) بغير تحديق (2)، بل خاشعا به.
(وراكعا إلى ما بين رجليه وساجدا إلى) طرف (أنفه
ومتشهدا إلى حجره)، كل ذلك مروي (3) إلا الأخير فذكره
الأصحاب ولم نقف على مستنده (4).
نعم هو مانع من النظر إلى ما يشغل القلب ففيه مناسبة كغيره.
(ووضع اليدين قائما على فخذيه بحذاء ركبتيه، مضمومة
الأصابع) ومنها الإبهام.
(وراكعا على عيني ركبتيه الأصابع والإبهام مبسوطة) هنا
(جمع) تأكيد لبسط الإبهام والأصابع وهي مؤنثة سماعية فلذلك
أكدها بما يؤكد به جمع المؤنث.
631

وذكر الإبهام لرفع الإيهام (1) وهو تخصيص بعد التعميم، لأنها
إحدى الأصابع.
(وساجدا بحذاء أذنيه، ومتشهدا وجالسا) لغيره (على فخذيه
كهيئة القيام) في كونها مضمومة الأصابع بحذاء الركبتين.
(ويستحب القنوت) استحبابا مؤكدا، بل قيل بوجوبه (2)
(عقيب قراءة الثانية) في اليومية مطلقا (3)، وفي غيرها عدا
الجمعة ففيها قنوتان: أحدهما في الأولى قبل الركوع، والآخر
في الثانية بعده.
والوتر (4) ففيها قنوتان قبل الركوع وبعده.
وقيل يجوز فعل القنوت مطلقا قبل الركوع وبعده، وهو
حسن للخبر (5).
وحمله على التقية ضعيف، لأن العامة لا يقولون بالتخيير.
632

وليكن القنوت (بالمرسوم (1)) على الأفضل، ويجوز بغيره (2).
(وأفضله كلمات الفرج) وبعدها " اللهم أغفر لنا وارحمنا
وعافنا واعف عنا في الدنيا والآخرة إنك على كل شئ قدير "
(وأقله سبحان الله ثلاثا، أو خمسا).
ويسحب رفع اليدين به موازيا لوجهه بطونهما إلى السماء
مضمومتي الأصابع، إلا الإبهامين، والجهر به للإمام والمنفرد
والسر للمأموم.
ويفعله الناسي قبل الركوع بعده، وإن قلنا بتعينه قبله اختيارا
فإن لم يذكره حتى تجاوز قضاه بعد الصلاة جالسا، ثم في الطريق
مستقبلا.
(ويتابع المأموم إمامه فيه) وإن كان مسبوقا.
(وليدع فيه وفي أحوال الصلاة لدينه ودنياه من المباح).
والمراد به هنا مطلق الجائز وهو غير الحرام (3).
(وتبطل) الصلاة (لو سأل المحرم) عن علمه بتحريمه، وإن جهل
الحكم الوضعي وهو البطلان.
633

أما جاهل تحريمه ففي عذره وجهان (1) أجودهما العدم، صرح
به في الذكرى، وهو ظاهر الإطلاق هنا.
(والتعقيب): وهو الاشتغال عقيب الصلاة بدعاء، أو ذكر
وهو غير منحصر، لكثرة ما ورد منه عن أهل البيت عليهم السلام (2)
(وأفضله التكبير ثلاثا (3))، رافعا بها يديه إلى حذاء أذنيه
واضعا لهما على ركبتيه أو قريبا منهما مستقبلا بباطنهما القبلة.
(ثم التهليل بالمرسوم): وهو " لا إله إلا الله إلها واحدا ونحن له
مسلمون " إلى آخره (4).
(ثم تسبيح الزهراء عليها السلام)، وتعقيبها بثم من حيث
الرتبة، لا الفضيلة، وإلا فهي أفضله مطلقا، بل روي أنها أفضل
من ألف ركعة لا تسبيح عقبها (5).
(وكيفيتها أن يكبر أربعا وثلاثين) مرة (ويحمد ثلاثا وثلاثين
634

ويسبح ثلاثا وثلاثين ثم الدعاء) بعدها بالمنقول (1).
(ثم بما سنح، ثم سجدتا الشكر.
(ويعفر بينهما) جبينيه وخديه الأيمن منهما ثم الأيسر
مفترشا ذراعيه وصدره وبطنه، واضعا جبهته مكانها حال الصلاة
قائلا فيهما " الحمد لله شكرا شكرا مائة مرة، وفي كل عاشرة
شكرا للمجيب، ودونه شكرا مائة، وأقله شكرا ثلاثا.
(ويدعو) فيهما وبعدهما (بالمرسوم (2).
(الفصل الخامس - في التروك (3)
يمكن أن يريد بها ما يجب تركه، فيكون الالتفات إلى آخر
الفصل مذكورا بالتبع (4).
وأن يريد بها ما يطلب تركه أعم من كون الطلب مانعا
من النقيض (وهي ما سلف) في الشرط السادس.
635

(والتأمين) في جميع أحوال الصلاة، وإن كان عقيب الحمد
أو دعاء (إلا لتقية) فيجوز حينئذ، بل قد يجب.
(وتبطل الصلاة بفعله (1) لغيرها)، للنهي عنه (2) في الأخبار
المقتضي (3) للفساد في العبادة، ولا تبطل بقوله " اللهم استجب "
وإن كان (4) بمعناه.
وبالغ (5) من أبطل به كما ضعف قول من كره التأمين
636

بناء (1) على أنه دعاء باستجابة ما يدعو به، وأن الفاتحة تشتمل
على الدعاء.
لا (2) لأن قصد،
637

الدعاء بها (1) يوجب استعمال المشترك (2) في معنييه (3) على تقدير
قصد الدعاء بالقرآن، وعدم فائدة التأمين مع انتفاء الأول (4)
وانتفاء القرآن مع انتفاء الثاني (5)، لأن (6) قصد الدعاء بالمنزل منه
638

قرآنا لا ينافيه (1)، ولا يوجب الاشتراك لاتحاد المعنى، ولاشتماله (2)
على طلب الاستجابة لما يدعو به أعم من الحاضر.
وإنما (3) الوجه النهي.
639

ولا تبطل (1) بتركه في موضع التقية، لأنه (2) خارج عنها.
والإبطال (3) في الفعل مع كونه كذلك،
640

لاشتماله (1) على الكلام المنهي عنه.
(وكذا (2) ترك الواجب عمدا) ركنا كان أم غيره.
وفي إطلاق الترك على ترك الترك - الذي هو فعل الضد وهو
الواجب نوع - من التجوز (3).
(أو) ترك (أحد الأركان الخمسة ولو سهوا: وهي النية
والقيام، والتحريمة والركوع، والسجدتان معا).
أما إحداهما فليست ركنا على المشهور، مع أن الركن بهما يكون
مركبا، وهو (4) يستدعي فواته بفواتها.
641

واعتذار (1) المصنف في الذكرى: بأن الركن مسمى السجود
ولا يتحقق الإخلال به إلا بتركهما معا خروج (2) عن المتنازع فيه
لموافقته (3) على كونهما معا هو الركن وهو (4) يستلزم الفوات بإحداهما
فكيف يدعي أنه مسماه، ومع ذلك (5) يستلزم بطلانها بزيادة
642

واحدة، لتحقق المسمى، و (1) لا قائل به.
وبأن (2) انتفاء الماهية هنا غير مؤثر مطلقا، وإلا (3) لكان
الإخلال بعضو من أعضاء السجود مبطلا، بل المؤثر انتفاؤها (4) رأسا.
وفيه (5) ما مر.
والفرق (6) بين الأعضاء غير الجبهة، وبينها:
643

بأنها (1) واجبات خارجة عن حقيقته كالذكر والطمأنينة دونها.
ولم يذكر المصنف حكم زيادة الركن، مع كون المشهور
أن زيادته على حد نقيصته (2) تنبيها (3) على فساد الكلية في طرف
الزيادة، لتخلفه (4) في مواضع كثيرة،
644

لا تبطل (1) بزيادته (2) سهوا، كالنية (3)، فإن زيادتها مؤكدة
لنيابة الاستدامة الحكمية عنها تخفيفا فإذا حصلت كان أولى، وهي (4)
مع التكبير فيما لو تبين للمحتاط الحاجة إليه (5).
645

أو سلم (1) على نقص، وشرع في صلاة أخرى قبل فعل
المنافي مطلقا.
والقيام (2) إن جعلناه مطلقا ركنا كما أطلقه.
والركوع (3) فيما لو سبق به المأموم إمامه سهوا ثم عاد
646

إلى المتابعة.
والسجود (1) فيما لو زاد واحدة إن جعلنا الركن مسماه
وزيادة (2) جملة الأركان غير النية.
والتحريمة فيما إذا زاد ركعة آخر الصلاة وقد جلس بقدر
واجب التشهد (3)، أو أتم المسافر ناسيا إلى أن خرج الوقت.
647

واعلم أن الحكم بركنية النية هو أحد الأقوال فيها (1)، وإن كان
التحقيق يقتضي كونها بالشرط أشبه.
وأما القيام فهو ركن في الجملة (2) إجماعا على ما نقله العلامة
ولولاه (3) لأمكن القدح في ركنيته، لأن زيادته ونقصانه لا يبطلان
إلا مع اقترانه بالركوع، ومعه (4) يستغنى عن القيام، لأن الركوع
كاف في البطلان.
وحينئذ (5) فالركن منه،
648

إما (1) ما اتصل بالركوع ويكون إسناد الإبطال إليه (2) بسبب
كونه أحد المعرفين له، أو يجعل (3) ركنا كيف اتفق. وفي موضع
649

لا تبطل بزيادته ونقصانه يكون مستثنى كغيره.
وعلى الأول (1) ليس مجموع القيام المتصل بالركوع ركنا، بل (2)
الأمر الكلي منه، ومن ثم (3) لو نسي القراءة، أو أبعاضها
لم تبطل الصلاة، أو يجعل (4) الركن منه ما اشتمل على ركن
كالتحريمة، ويجعل من قبيل المعرفات السابقة.
وأما التحريمة فهي التكبير المنوي به الدخول في الصلاة
فمرجع ركنيتها إلى القصد لأنها ذكر لا تبطل بمجرده.
وأما الركوع فلا إشكال في ركنيته، ويتحقق بالانحناء إلى حده
وما زاد عليه: من الطمأنينة، والذكر، والرفع منه واجبات زائدة
عليه ويتفرع عليه بطلانها بزيادته كذلك وإن لم يصحبه غيره.
وفيه (5) بحث.
650

وأما السجود ففي تحقق ركنيته ما عرفته (1).
و (كذا الحدث) المبطل للطهارة من جملة التروك التي يجب
اجتنابها.
ولا فرق في بطلان الصلاة به بين وقوعه عمدا، وسهوا (2)
على أشهر القولين
(ويحرم قطعها) أي قطع الصلاة الواجبة (اختيارا)، للنهي
عن إبطال العمل المقتضي له (3) إلا ما أخرجه الدليل.
واحترز بالاختيار عن قطعها لضرورة كقبض غريم، وحفظ
نفس محترمة: من تلف، أو ضرر، وقتل حية يخافها على
نفس محترمة، وإحراز مال يخاف ضياعه، أو لحدث (4) يخاف ضرر
651

إمساكه ولو بسريان النجاسة إلى ثوبه أو بدنه، فيجوز القطع
في جميع ذلك
وقد يجب لكثير من هذه الأسباب.
ويباح لبعضها كحفظ المال اليسير الذي يضر فوته وقتل
الحية التي لا يخاف أذاها.
ويكره (1) لإحراز يسير المال الذي لا يبالي بفواته.
وقد يستحب (2) لاستدراك الأذان المنسي، وقراءة الجمعتين (3)
في ظهريها، ونحوهما (4) فهو (5) ينقسم بانقسام الأحكام الخمسة.
(ويجوز قتل الحية) والعقرب في أثناء الصلاة من غير إبطال
إذا لم يستلزم فعلا كثيرا، للإذن فيه نصا (6).
(وعد (7) الركعات بالحصى) وشبهها، خصوصا لكثير السهو.
652

(والتبسم (1): وهو ما لا صوت فيه من الضحك على كراهية.
(ويكره الالتفات يمينا وشمالا) بالبصر أو الوجه.
ففي الخبر: أنه لا صلاة لملتفت (2)، وحمل على نفي الكمال
جمعا (3).
وفي خبر آخر عنه صلى الله عليه وآله وسلم: أما يخاف الذي
يحول وجهه في الصلاة أن يحول الله وجهه وجه حمار (4).
والمراد تحويل وجه قلبه كوجه قلب الحمار في عدم اطلاعه
على الأمور العلوية، وعدم إكرامه بالكمالات العلية.
(والتثاؤب (5)) بالهمز، يقال تثاءبت ولا يقال: تثاوبت
قاله الجوهري.
(والتمطي (6)): وهو مد اليدين.
653

فعن الصادق عليه السلام أنهما من الشيطان (1).
(والعبث (2): بشئ من أعضائه، لمنافاته الخشوع المأمور به
وقد رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلا يعبث في الصلاة فقال:
" لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه (3) ".
(والتنخم (4)، ومثله البصاق وخصوصا إلى القبلة، واليمين
وبين يديه.
(والفرقعة (5)) بالأصابع.
(والتأوه (6) بحرف واحد)، وأصله قول (أوه) عند
الشكاية والتوجع.
والمراد هنا النطق به على وجه لا يظهر منه حرفان (7).
654

(والأنين (1) به) أي بالحرف
الواحد، وهو مثل التأوه
وقد يخص الأنين بالمريض.
(ومدافعة (2) الأخبثين): البول والغائط (والريح (3))
لما فيه من سلب الخشوع والإقبال بالقلب الذي هو روح العبادة، وكذا
مدافعة النوم.
وإنما يكره إذا وقع ذلك قبل التلبس بها مع سعة الوقت
وإلا حرم القطع، إلا أن يخاف ضررا.
قال المصنف في البيان: ولا يجبره (4) فضيلة الائتمام، أو
شرف البقعة.
وفي نفي الكراهة باحتياجه إلى التيمم نظر (5).
655

(تتمة) - المرأة كالرجل في جميع ما سلف، إلا ما استثني
وتختص عنه أنه (يستحب للمرأة) حرة كانت أم أمة (أن تجمع
بين قدميها في القيام، والرجل يفرق بينهما بشبر إلى فتر (1)، ودونه
قدر ثلاث أصابع منفرجات (2).
(وتضم (3) ثدييها إلى صدرها) بيديها (وتضع (4) يديها
فوق ركبتيها راكعة).
ظاهره أنها تنحني قدر انحناء الرجل، وتخالفه في الوضع.
وظاهر الرواية أنه يجزيها من الانحناء أن تبلغ كفاها ما فوق
ركبتيها، لأنه علله فيها بقوله: " لئلا تطأطأ كثيرا فترتفع عجيزتها (5) ".
656

وذلك لا يختلف باختلاف وضعهما، بل باختلاف الانحناء.
(وتجلس (1)) حال تشهدها وغيره (على ألييها) باليائين
من دون تاء بينهما على غير قياس، تثنية ألية بفتح الهمزة فيهما
والتاء في الواحدة.
(وتبدأ (2) بالقعود) على تلك الحالة (قبل السجود)، ثم
تسجد (فإذا تشهدت ضمت فخذيها، ورفعت ركبتيها من الأرض
وإذا نهضت انسلت) انسلالا معتمدة على جنبيها بيديها، من غير
أن ترفع عجيزتها. ويتخير (3) الخنثى بين هيئة الرجل والمرأة.
(الفصل السادس - في بقية الصلوات)
الواجبة، وما يختاره من المندوبة: (فمنها الجمعة، وهي ركعتان
كالصبح عوض الظهر) فلا يجمع بينهما، فحيث تقع الجمعة صحيحة
تجزي عنها.
وربما استفيد من حكمه بكونها عوضها مع عدم تعرضه لوقتها:
أن وقتها وقت الظهر فضيلة وإجزاء، وبه قطع في الدروس والبيان
وظاهر النصوص يدل عليه (4).
657

وذهب جماعة إلى امتداد وقتها إلى المثل خاصة، ومال إليه
المصنف في الألفية، ولا شاهد له (1) إلا أن يقال بأنه وقت
للظهر أيضا.
(ويجب فيها تقديم الخطبتين المشتملتين على حمد الله تعالى)
بصيغة " الحمد لله " (والثناء (2) عليه) بما سنح.
وفي وجوب الثناء زيادة على الحمد نظر، وعبارة كثير ومنهم
المصنف في الذكرى خالية عنه.
نعم هو موجود في الخطب المنقولة عن النبي وآله عليه وعليهم
658

السلام (1)، إلا أنها تشتمل على زيادة على أقل الواجب.
(والصلاة (2) على النبي وآله) بلفظ الصلاة أيضا، ويقرنها
بما شاء من النسب (3) (والوعظ (4)): من الوصية بتقوى الله
والحث على الطاعة، والتحذير من المعصية، والاغترار بالدنيا
وما شا كل ذلك.
ولا يتعين له (5) لفظ، ويجزي مسماه فيكفي أطيعوا الله
أو اتقوا الله (6) ونحوه.
659

ويحتمل وجوب الحث على الطاعة، والزجر عن المعصية
للتأسي (1).
وقراءة (2) سورة خفيفة) قصيرة، أو آية تامة الفائدة:
بأن تجمع معنى مستقلا يعتد به: من وعد (3)، أو وعيد (4)
أو حكم، أو قصة تدخل في مقتضى الحال، فلا يجزي مثل
" مدهامتان (5) "، و " ألقي السحرة ساجدين (6) "
ويجب فيهما (7) النية والعربية، والترتيب بين الأجزاء كما
ذكر (8)، والموالاة، وقيام الخطيب مع القدرة، والجلوس بينهما (9)
وإسماع العدد المعتبر (10)، والطهارة من الحدث، والخبث في أصح
660

القولين (1)، والستر، كل ذلك للاتباع
وإصغاء من يمكن سماعه من المأمومين، وترك الكلام مطلقا (2).
(ويستحب بلاغة الخطيب): بمعنى جمعه بين الفصاحة التي
هي ملكة يقتدر بها على التعبير عن مقصوده بلفظ فصيح، أي خال
عن ضعف التأليف، وتنافر الكلمات، والتعقيد، وعن كونها
غريبة وحشية.
وبين البلاغة التي هي ملكة يقتدر بها على التعبير عن الكلام
الفصيح المطابق لمقتضى الحال بحسب الزمان، والمكان، والسامع
والحال.
(ونزاهته) عن الرذائل الخلقية، والذنوب الشرعية (3):
بحيث يكون مؤتمرا بما يأمر به، منزجرا عما ينهى عنه، لتقع
موعظته في القلوب، فإن الموعظة إذا خرجت من القلب دخلت
في القلب، وإذا خرجت من مجرد اللسان لم تتجاوز الآذان.
661

(ومحافظته على أوائل الأوقات)، ليكون أوفق لقبول موعظته.
(والتعمم) شتاء وصيفا للتأسي (1) مضيفا إليها الحنك
والرداء، ولبس أفضل الثياب، والتطيب.
(والاعتماد على شئ) حال الخطبة: من سيف، أو قوس
أو عصا للاتباع (2).
(ولا تنعقد) الجمعة (إلا بالإمام) العادل عليه السلام
(أو نائبه) خصوصا (3)، أو عموما (4) (ولو كان) النائب
(فقيها) جامعا لشرائط الفتوى (مع إمكان الاجتماع في الغيبة)
هذا قيد في الاجتزاء بالفقيه حال الغيبة، لأنه منصوب من الإمام عليه السلام
عموما بقوله:
" انظروا إلى رجل قد روى حديثنا " إلى آخره (5)، وغيره (6).
662

والحاصل أنه مع حضور الإمام عليه السلام لا تنعقد الجمعة
إلا به، أو بنائبه الخاص وهو المنصوب للجمعة، أو لما هو أعم
منها، وبدونه (1) تسقط، وهو موضع وفاق.
وأما في حال الغيبة - كهذا الزمان - فقد اختلف الأصحاب
في وجوب الجمعة وتحريمها: فالمصنف هنا أوجبها مع كون الإمام
فقيها لتحقق الشرط وهو إذن الإمام الذي هو شرط في الجملة إجماعا (2)
وبهذا القول صرح في الدروس أيضا.
وربما قيل بوجوبها حينئذ وإن لم يجمعها فقيه، عملا بإطلاق
الأدلة (3).
واشتراط الإمام عليه السلام، أو نصبه إن سلم فهو مختص
بحالة الحضور، أو بإمكانه، فمع عدمه (4) يبقى عموم الأدلة:
من الكتاب والسنة خاليا عن المعارض، وهو ظاهر الأكثر ومنهم
المصنف في البيان، فإنهم يكتفون بإمكان الاجتماع مع باقي الشرائط (5).
وربما عبروا عن حكمها حال الغيبة بالجواز تارة، وبالاستحباب
أخرى، نظرا إلى إجماعهم على عدم وجوبها حينئذ عينا، وإنما تجب
663

على تقديره تخييرا بينها، وبين الظهر، لكنها عندهم أفضل من الظهر
وهو معنى الاستحباب، بمعنى أنها واجبة تخييرا، مستحبة عينا كما
في جميع أفراد الواجب المخير إذا كان بعضها راجحا على الباقي
وعلى هذا ينوي بها الوجوب وتجزي عن الظهر.
وكثيرا ما يحصل الالتباس في كلامهم بسبب ذلك (1) حيث
يشترطون الإمام، أو نائبه في الوجوب إجماعا، ثم يذكرون حال
الغيبة، ويختلفون في حكمها فيها فيوهم أن الإجماع المذكور يقتضي
عدم جوازها حينئذ بدون الفقيه، والحال أنها في حال الغيبة لا تجب
عندهم عينا، وذلك شرط الواجب العيني خاصة.
ومن هنا (2) ذهب جماعة من الأصحاب إلى عدم جوازها
حال الغيبة لفقد الشرط المذكور.
ويضعف بمنع عدم حصول الشرط أولا لإمكانه بحضور
الفقيه، ومنع اشتراطه ثانيا لعدم الدليل عليه من جهة النص فيما علمناه.
وما يظهر من جعل مستنده الإجماع فإنما هو على تقدير
الحضور.
أما في حال. الغيبة فهو محل النزاع فلا يجعل دليلا فيه مع
664

إطلاق القرآن الكريم (1) بالحث العظيم المؤكد بوجوه كثيرة مضافا
إلى النصوص المتضافرة على وجوبها بغير الشرط المذكور (2)، بل
في بعضها ما يدل على عدمه (3).
نعم يعتبر اجتماع باقي الشرائط ومنه الصلاة على الأئمة ولو إجمالا
ولا ينافيه ذكر غيرهم.
ولولا دعواهم الإجماع على عدم الوجوب العيني لكان القول به
في غاية القوة، فلا أقل من التخييري مع رجحان الجمعة، وتعبير
المصنف وغيره بإمكان الاجتماع يريد به الاجتماع على إمام عدل (4)
لأن ذلك لم يتفق في زمن ظهور الأئمة غالبا، وهو السر في عدم
665

اجتزائهم بها عن الظهر مع ما نقل من تمام محافظتهم عليها، ومن ذلك
سرى الوهم (1).
(واجتماع (2) خمسة فصاعدا أحدهم الإمام) في الأصح، وهذا
يشمل شرطين:
(أحدهما): العدد وهو الخمسة في أصح القولين لصحة
مستنده (3).
وقيل: سبعة.
ويشترط كونهم ذكورا أحرارا مكلفين مقيمين سالمين عن المرض
والبعد المسقطين، وسيأتي ما يدل عليه (4).
(وثانيهما): الجماعة بأن يأتموا بإمام منهم، فلا تصح فرادى
وإنما يشترطان في الابتداء لا في الاستدامة، فلو انفض (5) العدد
بعد تحريم الإمام أتم الباقون ولو فرادى، مع عدم حضور من ينعقد
به الجماعة (6)، وقبله تسقط.
ومع العود في أثناء الخطبة يعاد ما فات من أركانها.
666

(وتسقط) الجمعة (عن المرأة) والخنثى، للشك في ذكوريته
التي هي شرط الوجوب.
(والعبد (1)) وإن كان مبعضا واتفقت في نوبته مهايا (2)
أم مدبرا، أم مكاتبا لم يؤد جميع مال الكتابة، (والمسافر (3))
الذي يلزمه القصر، في سفره، فالعاصي به (4)، وكثيره (5)، وناوي
إقامة عشرة كالمقيم (6).
667

(والهم (1)) وهو الشيخ الكبير الذي يعجز عن حضورها
أو يشق عليه مشقة لا تتحمل عادة.
(والأعمى (2)) وإن وجد قائدا، أو كان قريبا من المسجد.
(والأعرج (3)) البالغ عرجه حد الإقعاد، أو الموجب
لمشقة الحضور كالهم.
(ومن (4) بعد منزله) عن موضع تقام فيه الجمعة كالمسجد
(بأزيد من فرسخين) والحال أنه يتعذر عليه إقامتها عنده، أو فيما
دون فرسخ (5).
668

(ولا ينعقد جمعتان في أقل من فرسخ) بل يجب على من يشتمل
عليه الفرسخ الاجتماع على جمعة واحدة كفاية.
ولا يختص الحضور بقوم إلا أن يكون الإمام فيهم (1)، فمتى
أخلوا به أثموا جميعا.
ومحصل هذا الشرط وما قبله أن من بعد عنها بدون فرسخ
يتعين عليه الحضور، ومن زاد عنه إلى فرسخين يتخير بينه وبين
إقامتها عنده، ومن زاد عنهما يجب إقامتها عنده، أو فيما دون الفرسخ
مع الإمكان، وإلا سقطت. ولو صلوا أزيد من جمعة فيما دون
الفرسخ صحت السابقة خاصة، ويعيد اللاحقة ظهرا (2)، وكذا
المشتبه مع العلم به في الجملة (3).
أما لو اشتبه السبق والاقتران وجب إعادة الجمعة مع بقاء
وقتها خاصة على الأصح مجتمعين، أو متفرقين بالمعتبر، والظهر
مع خروجه (4).
(ويحرم السفر) إلى مسافة، أو الموجب تقويتها (بعد الزوال
على المكلف بها) اختيارا لتفويته الواجب (5) وإن أمكنه إقامتها
669

في طريفه، لأن تجويزه على تقديره دوري (1).
نعم يكفي ذلك في سفر قصير لا يقصر فيه، مع احتمال
الجواز فيما لا قصر فيه مطلقا (2)، لعدم الفوات.
وعلى تقدير المنع في السفر الطويل يكون عاصيا به إلى محل
لا يمكنه فيه العود إليها، فتعتبر (3) المسافة حينئذ.
ولو اضطر إليه شرعا كالحج حيث يفوت الرفقة (4) أو الجهاد
حيث لا يحتمل الحال تأخيره، أو عقلا بأداء التخلف إلى فوات
غرض يضر به فواته لم يحرم، والتحريم على تقديره مؤكد.
670

وقد روي أن قوما سافروا كذلك (1) فخسف بهم (2).
وآخرون اضطرم عليهم خباؤهم (3) من غير أن يروا نارا (4).
(ويزاد في نافلتها) عن غيرها من الأيام (أربع ركعات)
مضافة إلى نافلة الظهرين يصير الجميع عشرين كلها للجمعة فيها (5).
(والأفضل جعلها) أي العشرين (سداس (6)) مفرقة ستا ستا
(في الأوقات الثلاثة المعهودة): وهي انبساط الشمس بمقدار ما يذهب
شعاعها وارتفاعها وقيامها وسط النهار قبل الزوال.
(وركعتان) وهما الباقيتان من العشرين عن الأوقات الثلاثة
تفعل (عند الزوال) بعده (7) على الأفضل، أو قبله بيسير
على رواية (8)، ودون بسطها كذلك جعل ست الانبساط بين الفريضتين
671

ودونه فعلها أجمع يوم الجمعة كيف اتفق.
(والمزاحم) في الجمعة (عن السجود) في الركعة الأولى
(يسجد) بعد قيامهم عنه، (ويلتحق) ولو بعد الركوع، (فإن
لم يتمكن منه) إلى أن سجد الإمام في الثانية، و (سجد مع ثانية
الإمام نوى بهما) الركعة (الأولى)، لأنه لم يسجد لها بعد، أو يطلق
فتنصرفان إلى ما في ذمته.
ولو نوى بهما الثانية بطلت الصلاة، لزيادة الركن في غير محله.
وكذا لو زوحم عن ركوع الأولى، وسجودها، فإن لم يدركهما
مع ثانية الإمام فاتت الجمعة، لاشتراط إدراك ركعة منها معه
واستأنف الظهر مع احتمال العدول لانعقادها صحيحة، والنهي
عن قطعها مع إمكان صحتها.
(ومنها (1): صلاة العيدين) - وأحدهما عيد مشتق من العود
لكثرة عوائد (2) الله تعالى فيه على عباده، وعود السرور والرحمة
بعوده، وياؤه منقلبة عن واو، وجمعه على أعياد غير قياس، لأن الجمع
يرد إلى الأصل، والتزموه كذلك، للزوم الياء في مفرده وتميزه
عن جمع العود (3).
(وتجب) صلاة العيدين وجوبا عينيا (بشروط الجمعة)
العينية، أما التخييرية فكاختلال الشرائط، لعدم إمكان التخيير هنا.
672

(والخطبتان بعدها)، بخلاف الجمعة (1)، ولم يذكر وقتها:
وهو ما بين طلوع الشمس والزوال، وهي (2) ركعتان كالجمعة.
(ويجب فيها التكبير زائدا عن المعتاد) من تكبيرة الإحرام
وتكبير الركوع والسجود.
(خمسا في) الركعة (الأولى، وأربعا في الثانية) بعد القراءة
فيهما في المشهور (3).
(والقنوت بينهما) على وجه التجوز (4)، وإلا فهو بعد كل
تكبيرة، وهذا التكبير والقنوت جزآن منها، فيجب (5) حيث تجب
ويسن (6) حيث تسن، فتبطل (7) بالإخلال بهما عمدا على التقديرين (8).
(ويستحب) القنوت (بالمرسوم) وهو: " اللهم أهل
673

الكبرياء والعظمة " إلى آخره (1)، ويجوز بغيره، وبما سنح.
(ومع اختلال الشروط) الموجبة (تصلى جماعة وفرادى
مستحبا) ولا يعتبر حينئذ تباعد العيدين بفرسخ.
وقيل مع استحبابها: تصلى فرادى خاصة، وتسقط الخطبة
في الفرادى.
(ولو فاتت) في وقتها، لعذر وغيره (لم تقض) في أشهر
القولين، للنص (2).
وقيل: تقضى كما فاتت.
وقيل: أربعا مفصولة (3).
وقيل: موصولة وهو ضعيف المأخذ (4).
674

(ويستحب الإصحار (1) بها مع الاختيار، للاتباع (2)
إلا بمكة) فمسجدها أفضل.
(وأن يطعم) بفتح حرف المضارعة فسكون الطاء ففتح العين
مضارع طعم بكسرها كعلم أي يأكل (في) عيد (الفطر قبل خروجه)
إلى الصلاة.
(وفي الأضحى بعد عوده من أضحيته) بضم الهمزة وتشديد
الياء، للاتباع (3)، والفرق لائح (4) وليكن الفطر في الفطر (5)
على الحلو، للاتباع (6).
675

وما روي شاذا من الإفطار فيه على التربة المشرفة محمول
على العلة جمعا (1).
(ويكره التنفل قبلها) بخصوص القبلية (2)، (ويعدها)
إلى الزوال بخصوصه للإمام والمأموم (إلا بمسجد النبي صلى الله
عليه وآله) فإنه يستحب أن يقصده الخارج إليها ويصلي به ركعتين
قبل خروجه، للاتباع (3).
نعم لو صليت في المساجد لعذر، أو غيره استحب صلاة
التحية للداخل، وإن كان مسبوقا والإمام يخطب، لفوات الصلاة
المسقط (4) للمتابعة (5).
676

(ويستحب التكبير) في المشهور.
وقيل: يجب، للأمر به (1) (في الفطر عقيب أربع) صلوات
(أولها المغرب ليلته، وفي الأضحى عقيب خمس عشرة) صلاة
للناسك (بمنى، و) عقيب (عشر بغيرها)، وبها لغيره (أولها
ظهر يوم النحر) وآخرها صبح آخر التشريق، أو ثانيه (2).
ولو فات بعض هذه الصلوات كبر مع قضائها، ولو نسي
التكبير خاصة أتى به حيث ذكر (وصورته: " الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله
والله أكبر، الله أكبر على ما هدانا ").
ويزيد في) تكبير (الأضحى) على ذلك (الله أكبر
على ما رزقنا من بهيمة الأنعام).
677

وروي فيهما غير ذلك بزيادة ونقصان (1).
وفي الدروس اختار: " الله أكبر " ثلاثا، لا إله إلا الله
والله أكبر الحمد لله على ما هدانا، وله الشكر على ما أولانا ".
والكل جائز، وذكر الله حسن على كل حال.
(ولو اتفق عيد وجمعة تخير القروي) الذي حضرها في البلد
من قرية قريبة كانت، أم بعيدة، (بعد حضور العيد في حضور الجمعة)
فيصليها واجبا وعدمه، فتسقط ويصلي الظهر، فيكون وجوبها
عليه تخييريا (2).
والأقوى عموم التخيير (3) لغير الإمام، وهو الذي اختاره
المصنف في غيره.
أما هو فيجب عليه الحضور، فإن تمت الشرائط صلاها
وإلا سقطت عنه، ويستحب له إعلام الناس بذلك في خطبة العيد.
(ومنها (4): صلاة الآيات)
جمع آية: وهي العلامة، سميت بذلك الأسباب المذكورة
لأنها علامات على أهوال الساعة، وأخاويفها، وزلازلها، وتكوير
678

الشمس، والقمر.
(و) الآيات التي تجب لها الصلاة (هي الكسوفان): كسوف
الشمس، وخسوف القمر، ثناهما باسم أحدهما تغليبا، أو لإطلاق
الكسوف عليهما حقيقة، كما يطلق الخسوف على الشمس أيضا، واللام
للعهد الذهني وهو الشائع من كسوف النيرين، دون باقي الكواكب
وانكساف الشمس بها (1).
(والزلزلة): وهي رجفة الأرض.
(والريح السوداء، أو الصفراء).
(وكل مخوف سماوي) كالظلمة السوداء أو الصفراء
المنفكة عن الريح، والريح العاصفة زيادة على المعهود وإن انفكت
عن اللونين (2) أو اتصفت بلون ثالث.
وضابطه: ما أخاف معظم الناس، ونسبة الأخاويف إلى السماء
باعتبار كون بعضها فيها، أو أراد بالسماء مطلق العلو، أو المنسوبة
إلى خالق السماء ونحوه (3) لإطلاق نسبته إلى الله تعالى كثيرا (4).
ووجه وجوبها للجميع صحيحة زرارة عن الباقر عليه السلام (5)
المفيدة للكل، وبها (6) يضعف قول من خصها بالكسوفين
679

أو أضاف إليهما شيئا مخصوصا كالمصنف في الألفية (1).
وهذه الصلاة ركعتان في كل ركعة سجدتان، وخمسة ركوعات
وقيامات، وقراءات.
(ويجب فيها النية، والتحريمة، وقراءة الحمد، وسورة
ثم الركوع، ثم يرفع) رأسه منه إلى أن يصير قائما مطمئنا.
(ويقرأهما) هكذا (خمسا ثم يسجد سجدتين)، ثم يقوم
(إلى الثانية ويصنع كما صنع أولا).
هذا هو الأفضل.
(ويجوز) له الاقتصار على (قراءة بعض السورة) ولو آية
(لكل ركوع، ولا يحتاج إلى) قراءة (الفاتحة إلا في القيام الأول).
ومتى اختار التبعيض (فيجب إكمال سورة في كل ركعة مع
الحمد مرة): بأن يقرأ في الأول (2) الحمد وآية، ثم يفرق
الآيات على باقي القيامات بحيث يكملها في آخرها.
(ولو أتم مع الحمد في ركعة سورة) أي قرأ في كل قيام
منها الحمد وسورة تامة (وبعض في) الركعة (الأخرى) كما ذكر
(جاز، بل لو أتم السورة في بعض الركوعات، وبعض
في آخر جاز).
والضابط: أنه متى ركع عن سورة تامة وجب في القيام عنه
الحمد ويتخير بين إكمال سورة معها وتبعيضها، ومتى ركع عن بعض
سورة تخير في القيام بعده بين القراءة من موضع القطع ومن غيره
680

من السورة متقدما ومتأخرا، ومن غيرها، وتجب إعادة الحمد فيما
عدا الأول (1) مع احتمال عدم الوجوب في الجميع.
ويجب مراعاة سورة فصاعدا في الخمس ومتى سجد وجب
إعادة الحمد سواء أكان سجوده عن سورة تامة أم بعض سورة كما
لو كان قد أتم سورة قبلها (2) في الركعة، ثم له أن يبني على ما مضى
أو يشرع في غيرها، فإن بنى عليها وجبت سورة غيرها كاملة
في جملة الخمس.
(ويستحب القنوت عقيب كل زوج) من القيامات، تنزيلا
لها منزلة الركعات، فيقنت قبل الركوع الثاني والرابع، وهكذا.
(والتكبير للرفع من الركوع) في الجميع عدا الخامس والعاشر
من غير تسميع (3)، وهو قرينة كونها غير ركعات (4).
(والتسميع): هو قول " سمع الله لمن حمده " (في الخامس
والعاشر خاصة) تنزيلا للصلاة منزلة ركعتين.
هكذا ورد النص (5) بما يوجب اشتباه حالها، ومن ثم حصل
681

الاشتباه لو شك في عددها، نظرا إلى أنها ثنائية أو أزيد.
والأقوى أنها في ذلك ثنائية، وأن الركوعات أفعال، فالشك
فيها في محلها يوجب فعلها، وفي عددها يوجب البناء على الأقل
وفي عدد الركعات مبطل. (وقراءة) السور (الطوال) كالأنبياء، والكهف (مع السعة)
ويعلم ذلك (1) بالأرصاد، وإخبار (2) من يفيد قوله الظن الغالب
من أهله، أو العدلين (3)، وإلا (4) فالتخفيف أولى، حذرا
من خروج الوقت خصوصا على القول بأنه (5) الأخذ في الانجلاء.
682

نعم لو جعلناه إلى تمامه اتجه التطويل، نظرا إلى المحسوس (1).
(والجهر فيها) وإن كانت نهارية على الأصح (2).
(وكذا يجهر في الجمعة والعيدين) استحبابا إجماعا.
(ولو جامعت) صلاة الآيات (الحاضرة) اليومية (قدم
ما شاء) منهما، مع سعة وقتهما، (ولو تضيقت إحداهما) خاصة (قدمها) أي المضيقة، جمعا
بين الحقين (ولو تضيقتا) معا (فالحاضرة) مقدمة، لأن الوقت لها
بالأصالة، ثم إن بقي وقت الآيات صلاها أداء، وإلا سقطت
إن لم يكن فرط في تأخير إحداهما، وإلا فالأقوى وجوب القضاء (3).
(ولا تصلى) هذه الصلاة (على الراحلة) وإن كانت معقولة (4) (إلا لعذر) كمرض، وزمن (5) يشق معهما النزول
مشقة لا تتحمل عادة فتصلى على الراحلة حينئذ (كغيرها
من الفرائض).
683

(وتقضى) هذه الصلاة (مع الفوات وجوبا مع تعمد الترك
أو نسيانه) العلم بالسبب مطلقا (1)، (أو مع استيعاب الاحتراق)
للقرص أجمع (مطلقا) سواء علم به، أم لم يعلم حتى خرج الوقت.
أما لو لم يعلم به، ولا استوعب الاحتراق فلا قضاء وإن ثبت
بعد ذلك وقوعه بالبينة، أو التواتر في المشهور.
وقيل: يجب القضاء مطلقا.
وقيل لا يجب مطلقا (2) وإن تعمد ما لم يستوعب.
وقيل: لا يقضي الناسي ما لم يستوعب.
ولو قيل بالوجوب مطلقا في غير الكسوفين، وفيهما مع الاستيعاب
كان قويا عملا بالنص (3) في الكسوفين، وبالعمومات في غيرهما (4).
(ويستحب الغسل) للقضاء (مع التعمد والاستيعاب) وإن
تركها جهلا.
بل قيل: بوجوبه.
(وكذا يستحب الغسل للجمعة) استطرد هنا ذكر الأغسال
المسنونة لمناسبة ما.
ووقته ما بين طلوع الفجر يومها إلى الزوال، وأفضله ما قرب
684

إلى الآخر، ويقضي بعده إلى آخر السبت كما يعجله خائف عدم
التمكن منه في وقته (1) من الخميس.
(و) يومي (2) (العيدين، وليالي فرادى شهر رمضان)
الخمس عشرة، وهي العدد الفرد من أوله إلى آخره (3).
(وليلة (4) الفطر) أولها
(وليلتي (5) نصف رجب، وشعبان) على المشهور في الأول
والمروي في الثاني (6).
685

(ويوم (1) المبعث): وهو السابع والعشرين من رجب
على المشهور (2).
(والغدير (3)) وهو الثامن عشر من ذي الحجة.
(و) يوم (4) (المباهلة)، وهو الرابع والعشرون من ذي
الحجة على الأصح.
وقيل: الخامس والعشرون (5).
(و) يوم (6) (عرفة) وإن لم يكن بها.
(ونيروز (7) الفرس).
والمشهور الآن أنه يوم نزول الشمس في الحمل وهو الاعتدال
الربيعي (8).
(والإحرام (9)) للحج، أو العمرة.
686

(والطواف (1)) واجبا كان، أم (2) ندبا.
(وزيارة (3)) أحد (المعصومين).
ولو اجتمعوا في مكان واحد تداخل كما يتداخل باجتماع أسبابه
مطلقا (4) (وللسعي (5) إلى رؤية المصلوب بعد ثلاثة) أيام
من صلبه مع الرؤية، سواء في ذلك مصلوب الشرع، وغيره
(والتوبة (6) عن فسق، أو كفر)، بل عن مطلق الذنب
وإن لم يوجب الفسق كالصغيرة النادرة (7).
ونبه بالتسوية على خلاف المفيد حيث خصه بالكبائر (8)
(وصلاة (9) الحاجة، و) صلاة (الاستخارة (10)) لا مطلقهما
بل في موارد مخصوصة من أصنافهما، فإن منهما ما يفعل بغسل
687

وما يفعل بغيره على ما فصل في محله (1)، (ودخول (2) الحرم)
بمكة مطلقا (3)، (و) (4) لدخول (مكة والمدينة) مطلقا (5)
شرفهما الله تعالى. وقيد المفيد دخول المدينة بأداء فرض، أو نفل
(و) (6) دخول (المسجدين) الحرمين، (وكذا) لدخول
(الكعبة) أعزها الله تعالى وإن كانت جزءا من المسجد إلا أنه
يستحب (7) بخصوص دخولها.
وتظهر الفائدة فيما لو لم ينو دخولها عند الغسل السابق، فإنه
لا يدخل فيه، كما لا يدخل غسل المسجد في غسل دخول مكة
إلا بنيته عنده، وهكذا (8) ولو جمع المقاصد تداخلت.
688

(ومنها (1): - الصلاة المنذورة وشبهها)
من المعاهد، والمحلوف عليه، (وهي تابعة للنذر المشروع
وشبهه) فمتى نذر هيئة مشروعة في وقت إيقاعها، أو عددا مشروعا
انعقدت.
واحترز بالمشروع عما لو نذرها عند ترك واجب، أو فعل
محرم شكرا، أو عكسه (2) زجرا، أو ركعتين بركوع واحد
أو سجدتين ونحو ذلك، ومنه (3) نذر صلاة العيد في غيره (4)
ونحوها (5).
وضابط المشروع ما كان فعله جائزا قبل النذر في ذلك الوقت (6)
فلو نذر ركعتين جالسا، أو ماشيا، أو بغير سورة، أو إلى غير
القبلة ماشيا (7)، أو راكبا، ونحو
689

ذلك (1) العقد، ولو أطلق فشرطها شرط الواجبة في أجود
القولين (2).
(ومنها (3): - صلاة النيابة بإجارة)
عن الميت تبرعا، أو بوصيته النافذة، (أو تحمل)
من: الولي وهو أكبر الولد الذكور (عن الأب) لما فاته من الصلاة
في مرضه، أو سهوا، أو مطلقا (4).
وسيأتي تحريره.
(وهي بحسب ما يلتزم به) كيفية وكمية.
(ومن المندوبات: صلاة الاستسقاء)
وهو طلب السقيا وهو أنواع أدناه الدعاء بلا صلاة، ولا خلف
صلاة، وأوسطه الدعاء خلف الصلاة، وأفضله الاستسقاء بركعتين
وخطبتين.
(وهي كالعيدين) في الوقت، والتكبيرات الزائدة في الركعتين
690

والجهر، والقراءة، والخروج إلى الصحراء، وغير ذلك، إلا أن
القنوت هنا بطلب الغيث، وتوفير المياه، والرحمة.
(ويحول) الإمام وغيره (الرداء يمينا ويسارا) بعد الفراغ
من الصلاة فيجعل يمينه يساره، وبالعكس، للاتباع، والتفاؤل (1)
ولو جعل مع ذلك أعلاه أسفله، وظاهره باطنه كان حسنا (2)
ويترك محولا حتى ينزع (3).
(ولتكن الصلاة بعد صوم ثلاثة) أيام، أطلق بعديتها عليها
تغليبا، لأنها تكون في أول الثالث (آخرها الاثنين) وهو منصوص (4)
فلذا قدمه، (أو الجمعة)، لأنها وقت لإجابة الدعاء حتى
روي (5) أن العبد ليسأل الحاجة فيؤخر قضاؤها إلى الجمعة.
(و) بعد (التوبة) إلى الله تعالى من الذنوب، وتطهير
الأخلاق من الرذائل، (ورد المظالم)، لأن ذلك أرجى للإجابة
691

وقد يكون القحط بسبب هذه كما روي (1)، والخروج من المظالم
من جملة التوبة جزءا، أو شرطا (2)، وخصها اهتماما بشأنها.
وليخرجوا حفاة ونعالهم بأيديهم في ثياب بذلة (3) وتخشع
ويخرجون الصبيان، والشيوخ، والبهائم، لأنهم مظنة الرحمة
على المذنبين، فإن سقوا، وإلا عادوا ثانيا وثالثا من غير قنوط (4)
بانين على الصوم الأول إن لم يفطروا بعده، وإلا فبصوم مستأنف.
692

(ومنها (1): نافلة شهر رمضان)
(وهي) في أشهر الروايات (ألف ركعة) موزعة على الشهر
(غير الرواتب في) الليالي (العشرين) الأول (عشرون كل ليلة (2)
ثمان بعد المغرب واثنتا (3) عشرة بعد العشاء)، ويجوز العكس (4)
(وفي) كل ليلة من (العشر الأخيرة ثلاثون) ركعة (5):
ثمان منها بعد المغرب، والباقي بعد العشاء.
ويجوز اثنتا عشرة بعد المغرب، والباقي بعد العشاء (6).
693

(وفي ليالي الإفراد (1)) الثلاث: وهي التاسعة عشرة
والحادية والعشرون والثالثة والعشرون (كل ليلة مائة (2)) مضافة (3)
إلى ما عين لها سابقا، وذلك تمام الألف: خمسمائة في العشرين (4)
وخمسمائة في العشر (5).
(ويجوز الاقتصار عليها فيفرق الثمانين) المتخلفة: وهي
العشرون في التاسعة عشر، والستون في الليلتين بعدها (على الجمع)
الأربع.
فيصلي في يوم كل جمعة عشرا بصلاة علي، وفاطمة، وجعفر
عليهم السلام.
ولو اتفق فيه خامسة تخير في الساقطة.
ويجوز أن يجعل لها (6) قسطا يتخير في كميته.
وفي ليلة آخر جمعة عشرون بصلاة علي عليه السلام.
وفي ليلة آخر سبت عشرون بصلاة فاطمة عليها السلام.
وأطلق تفريق الثمانين على الجمع مع وقوع عشرين منها ليلة
694

السبت تغليبا، ولأنها عشية جمعة تنسب إليها في الجملة.
ولو نقص الشهر سقطت وظيفة ليلة الثلاثين.
ولو فات شئ منها استحب قضاؤه ولو نهارا وفي غيره.
والأفضل قبل خروجه (1).
(ومنها (2): نافلة الزيارة)
للأنبياء والأئمة عليهم السلام. وأقلها ركعتان تهدى للمزور
ووقتها بعد الدخول والسلام، ومكانها مشهده وما قاربه، وأفضله
عند الرأس بحيث يجعل القبر على يساره، ولا يستقبل شيئا منه.
(و) (3) صلاة (الاستخارة) بالرقاع الست، وغيرها.
(و) (4) صلاة (الشكر) عند تجدد نعمة، أو دفع نقمة
على ما رسم في كتب مطولة، أو مختصة به.
(وغير ذلك) من الصلوات المسنونة كصلاة النبي صلى الله عليه وآله
يوم الجمعة، وعلي وفاطمة وجعفر، وغيرهم عليهم السلام (5).
695

(وأما النوافل المطلقة فلا حصر لها) فإنها قربان كل تقي
وخير موضوع فمن شاء استقل، ومن شاء استكثر (1).
(الفصل السابع)
(في) بيان أحكام (الخلل) الواقع (في الصلاة) الواجبة.
(وهو) أي الخلل (إما) أن يكون صادرا (عن عمد)
وقصد إلى الخلل، سواء أكان عالما بحكمه، أم لا.
(أو سهو) بعزوب (2) المعنى عن الذهن حتى حصل بسببه
إهمال بعض الأفعال.
(أو شك): وهو تردد الذهن بين طرفي النقيض، حيث
لا رجحان لأحدهما على الآخر.
والمراد بالخلل الواقع عن عمد وسهو ترك شئ من أفعالها
وبالواقع عن شك النقص الحاصل للصلاة بنفس الشك (3)، لا أنه
696

كان سببا للترك كقسيميه (1).
(ففي العمد تبطل) الصلاة (للإخلال) أي بسبب الإخلال
بالشرط) كالطهارة والستر، (أو الجزء) وإن لم يكن ركنا
كالقراءة، وأجزائها حتى الحرف الواحد.
ومن الجزء الكيفية، لأنها جزء صوري.
(ولو كان) المخل (جاهلا) بالحكم الشرعي كالوجوب
أو الوضعي كالبطلان (إلا الجهر والإخفات) في مواضعهما فيعذر
الجاهل بحكمهما، وإن علم به في محله، كما لو ذكر الناسي (2).
(وفي السهو يبطل ما سلف) من السهو عن أحد الأركان
الخمسة إذا لم يذكره حتى تجاوز محله (3).
697

(وفي الشك) في شئ من ذلك (لا يلتفت إذا تجاوز محله).
والمراد بتجاوز محل الجزء المشكوك فيه الانتقال إلى جزء آخر
بعده: بأن شك في النية بعد أن كبر، أو في التكبير بعد أن قرأ
أو شرع فيهما (1)، أو في القراءة وأبعاضها بعد الركوع، أو فيه
بعد السجود، أو فيه، أو في التشهد بعد القيام.
ولو كان الشك في السجود بعد التشهد، أو في أثنائه ولما يقم
ففي العود إليه قولان:
أجودهما العدم.
أما مقدمات الجزء كالهوي، والأخذ في القيام قبل الإكمال
فلا يعد انتقالا إلى جزء، وكذا الفعل المندوب كالقنوت.
(ولو كان) الشك (فيه) أي في محله (أتى به) لأصالة
عدم فعله، (فلو ذكر فعله) سابقا بعد أن فعله ثانيا (بطلت)
الصلاة (إن كان ركنا)، لتحقق زيادة الركن المبطلة، وإن كان
سهوا، ومنه (2) ما لو شك في الركوع وهو قائم فركع، ثم ذكر
فعله قبل رفعه في أصح القولين، لأن ذلك هو الركوع، والرفع
منه أمر زائد عليه كزيادة الذكر والطمأنينة.
(وإلا يكن) ركنا (فلا) إبطال، لوقوع الزيادة سهوا (3).
698

(ولو نسي غير الركن) من الأفعال ولم يذكر حتى تجاوز
محله (فلا التفات): بمعنى أن الصلاة لا تبطل بذلك، ولكن
قد يجب له شئ آخر: من سجود، أو قضاء، أو هما كما سيأتي
(ولو لم يتجاوز محله أتى به).
والمراد بمحل المنسي ما بينه وبين أن يصير في ركن، أو (1)
يستلزم العود إلى المنسي زيادة ركن، فمحل السجود والتشهد المنسيين
ما لم يركع في الركعة اللاحقة له وإن قام، لأن القيام لا يتمحض
للركنية إلى أن يركع كما مر، وكذا القراءة وأبعاضها وصفاتها
بطريق أولى.
وأما ذكر السجود وواجباته غير وضع الجبهة فلا يعود إليها
متى رفع رأسه، وإن لم يدخل في ركن.
وواجبات الركوع كذلك، لأن العود إليها يستلزم زيادة
الركن (2)، وإن لم يدخل في ركن.
(وكذا الركن) المنسي يأتي به ما لم يدخل في ركن آخر
فيرجع إلى الركوع ما لم يصر ساجدا (3)، وإلى السجود ما لم يبلغ
حد الركوع.
699

وأما نسيان التحريمة إلى أن شرع في القراءة فإنه وإن كان مبطلا
مع أنه لم يدخل في ركن إلا أن البطلان مستند إلى عدم انعقاد الصلاة
من حيث فوات المقارنة بينها وبين النية، ومن ثم جعل بعض
الأصحاب المقارنة ركنا فلا يحتاج إلى الاحتراز عنه، لأن الكلام
في الصلاة الصحيحة.
(وتقضى) من الأجزاء المنسية التي فات محلها (بعد)
إكمال (الصلاة السجدة) الواحدة.
(والتشهد) أجمع، ومنه الصلاة على محمد وآله.
(والصلاة على النبي وآله) لو نسيها منفردة، ومثله ما لو نسي
أحد التشهدين فإنه أولى بإطلاق التشهد عليه.
أما لو نسي الصلاة على النبي خاصة، أو على آله خاصة فالأجود
أنه لا يقضى، كما لا يقضى غيرها من أجزاء التشهد على أصح
القولين (1)، بل أنكر بعضهم قضاء الصلاة على النبي وآله.
لعدم النص ورده المصنف في الذكرى: بأن التشهد يقضى بالنص
فكذا أبعاضه، تسوية بينها.
وفيه نظر: لمنع كلية الكبرى (2)، وبدونها لا يفيد.
700

وسند المنع أن الصلاة مما تقضى، ولا يقضى أكثر أجزائها
وغير الصلاة من أجزاء التشهد لا يقول هو بقضائه (1)، مع ورود
دليله فيه.
نعم قضاء أحد التشهدين قوي، لصدق اسم التشهد عليه (2)
لا لكونه جزءا.
إلا أن يحمل التشهد على المعهود،
والمراد بقضاء هذه الأجزاء الإتيان بها بعدها من باب " فإذا
قضيت الصلاة " لا القضاء المعهود (3)، إلا مع خروج
701

الوقت قبله (1).
(ويسجد لهما) كذا في النسخ بتثنية الضمير، جعلا للتشهد
والصلاة بمنزلة واحد، لأنها جزؤه ولو جمعه كان أجود (2)
(سجدتي السهو).
والأولى تقديم الأجزاء على السجود لها كتقديمها عليه بسبب
غيرها وإن تقدم، وتقديم سجودها على غيره وإن تقدم سببه
أيضا (3).
702

وأوجب المصنف ذلك كله في الذكرى، لارتباط الأجزاء
بالصلاة، وسجودها بها.
(ويجبان أيضا) مضافا إلى ما ذكر (للتكلم ناسيا، وللتسليم
في الأوليين ناسيا)، بل للتسليم في غير محله مطلقا (1)، (و)
الضابط وجوبهما (للزيادة، أو النقيصة غير المبطلة (2)) للصلاة
703

لرواية سفيان بن السمط عن الصادق عليه السلام (1).
ويتناول ذلك زيادة المندوب ناسيا، ونقصانه حيث يكون
قد عزم على فعله كالقنوت.
والأجود خروج الثاني إذ لا يسمى ذلك نقصانا.
وفي دخول الأول نظر، لأن السهو لا يزيد على العمد.
وفي الدروس أن القول بوجوبهما لكل زيادة، ونقصان لم نظفر
بقائله ولا بمأخذه، والمأخذ ما ذكرناه (2)، وهو من جملة القائلين
به (3)، وقبله الفاضل، وقبلهما الصدوق.
(وللقيام في موضع قعود وعكسه) ناسيا، وقد كانا دخيلين
في الزيادة والنقصان، وإنما خصهما تأكيدا، لأنه قد قال بوجوبه لهما
من لم يقل بوجوبه لهما مطلقا (4).
(وللشك بين الأربع والخمس) حيث تصح مع الصلاة (5).
(وتجب فيهما النية) المشتملة على قصدهما، وتعيين السبب إن
تعدد، وإلا فلا.
704

واستقرب المصنف في الذكرى اعتباره مطلقا (1) وفي غيرها
عدمه مطلقا، واختلف أيضا اختياره في اعتبار نية الأداء، أو
القضاء فيهما (2)، وفي الوجه (3)، واعتبارهما أولى.
والنية مقارنة لوضع الجبهة على ما يصح السجود عليه، أو بعد
الوضع على الأقوى.
(وما يجب في سجو الصلاة): من الطهارة وغيرها من الشرائط
ووضع الجبهة على ما يصح السجود عليه، والسجود على الأعضاء
السبعة وغيرهما من الواجبات، والذكر، إلا أنه (4) هنا مخصوص
بما رواه الحلبي عن الصادق عليه السلام (5).
(وذكرهما (6) " بسم الله وبالله وصلى الله على محمد
وآل محمد ").
705

وفي بعض النسخ، " وعلى آل محمد ".
وفي الدروس " اللهم صل على محمد وآل محمد " (أو " بسم الله
وبالله والسلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ")، أو بحذف
واو العطف من السلام والجميع مروي (1) مجزئ.
(ثم يتشهد) بعد رفع رأسه معتدلا (ويسلم).
هذا هو المشهور بين الأصحاب، والرواية الصحيحة دالة
عليه (2).
وفيه أقوال أخر ضعيفة المستند.
(والشاك في عدد الثنائية، أو الثلاثية، أو في الأوليين
من الرباعية أو في عدد غير محصور): بأن لم يدر كم صلى ركعة؟
(أو قبل إكمال السجدتين) المتحقق بإتمام ذكر السجدة الثانية
(فيما يتعلق بالأوليين) وإن أدخل معهما غيرهما، وبه يمتاز عن الثالث
(يعيد) الصلاة.
706

لا بمجرد الشك. بل بعد استقراره بالتروي عند عروضه
ولم يحصل ظن بطرف من متعلقه، وإلا بنى عليه في الجميع، وكذا
في غيره من أقسام الشك (وإن أكمل) الركعتين (الأوليين) بما
ذكرناه من ذكر الثانية، وإن لم يرفع رأسه منها (وشك في الزائد)
بعد التروي.
(فهنا صور خمس) تعم بها البلوى أو أنها منصوصة (1)
وإلا فصور الشك أزيد من ذلك كما حرره (2) في رسالة الصلاة.
وسيأتي أن الأولى غير منصوصة.
(الشك بين الاثنتين والثلاث) بعد الإكمال.
(والشك بين الثلاث والأربع) مطلقا، (ويبني على الأكثر
فيهما ثم يحتاط) بعد التسليم (بركعتين جالسا، أو ركعة قائما).
(والشك بين الاثنتين والثلاث والأربع يبنى على الأربع، ويحتاط
بركعتين قائما ثم بركعتين جالسا على المشهور) ورواه ابن أبي عمير
عن الصادق عليه السلام (3)، عاطفا لركعتي الجلوس بثم كما ذكرنا
707

هنا، فيجب الترتيب بينهما.
وفي الدروس جعله أولى.
وقيل: يجوز إبدال الركعتين جالسا بركعة قائما، لأنها أقرب
إلى المحتمل فواته، وهو حسن (1).
(وقيل: يصلي ركعة قائما وركعتين جالسا) (2) (ذكره)
الصدوق (ابن بابويه) وأبوه وابن الجنيد (وهو قريب) من حيث
الاعتبار، لأنهما ينضمان حيث تكون الصلاة اثنتين، ويجتزي بإحداهما
حيث تكون ثلاثا، إلا أن الأخبار تدفعه.
(والشك بين الأربع والخمس، وحكمه قبل الركوع كالشك
بين الثلاث والأربع) فيهدم الركعة ويتشهد ويسلم ويصير بذلك شاكا
بين الثلاث والأربع فيلزمه حكمه، ويزيد عنه سجدتي السهو لما هدمه
من القيام، وصاحبه من الذكر.
(وبعده) أي بعد الركوع سواء أكان قد سجد، أم لا
(يجب سجدتا السهو) لإطلاق النص: " بأن من لم يدر أربعا
صلى، أم خمسا يتشهد ويسلم ويسجد سجدتي السهو " (3).
(وقيل: تبطل الصلاة لو شك ولما يكمل السجود إذا كان
قد ركع)، لخروجه عن المنصوص، فإنه لم يكمل الركعة حتى يصدق
708

عليه أنه شك بينهما، وتردده (1) بين المحذورين: الإكمال المعرض للزيادة، والهدم المعرض للنقصان.
(والأصح الصحة)، لقولهم عليهم السلام: ما أعاد الصلاة
ففيه يحتال فيها ويدبرها، حتى لا يعيدها (2) ولأصالة (3) عدم
الزيادة.
واحتمالها (4) لو أثر لأثر في جميع صورها، والمحذور
إنما هو زيادة الركن، لا الركن المحتمل زيادته.
(مسائل سبع)
(الأولى لو غلب على ظنه) بعد التروي (أحد طرفي ما شك فيه
أو أطرافه، بنى عليه) أي على الطرف الذي غلب عليه ظنه، والمراد
أنه غلب ظنه عليه ثانيا، بعد أن شك فيه أولا، لأن الشك لا يجامع
709

غلبة الظن، لما عرفت من اقتضاء الشك تساوي الطرفين، والظن
رجحان أحدهما.
ولا فرق في البناء على الطرف الراجح بين الأوليين وغيرهما
ولا بين الرباعية وغيرها، ومعنى البناء عليه (1) فرضه واقعا، والتزام
حكمه من صحة وبطلان، وزيادة ونقصان.
فإن كان (2) في الأفعال وغلب الفعل بنى على وقوعه، أو
عدمه (3) فعله إن كان في محله.
وفي عدد (4) الركعات يجعل الواقع ما ظنه من غير احتياط.
فإن غلب الأقل بنى عليه وأكمل.
وإن غلب الأكثر من غير زيادة في عدد الصلاة كالأربع تشهد
وسلم.
وإن كان زيادة كما لو غلب (5) ظنه على الخمس صار كأنه
زاد ركعة آخر الصلاة فتبطل إن لم يكن جلس عقيب الرابعة بقدر
التشهد وهكذا.
(ولو أحدث قبل الاحتياط، أو الأجزاء المنسية) التي
710

تتلافى (1) بعد الصلاة (تطهر وأتى بها) من غير أن تبطل الصلاة
(على الأقوى). لأنها (2) صلاة منفردة، ومن ثم وجب فيها
النية والتحريمة والفاتحة، ولا صلاة إلا بها (3)
وكونها (3) جبرا لما يحتمل نقصه من الفريضة ومن ثم وجبت
711

المطابقة بينهما: لا يقتضي (1) الجزئية، بل يحتمل ذلك (2)، والبدلية
إذ (3) لا يقتضي المساواة من كل وجه، ولأصالة (4) الصحة
وعليه (5) المصنف في مختصراته.
712

واستضعفه في الذكرى، بناء على أن شرعيته ليكون استدراكا
للفائت منها، فهو على تقدير وجوبه جزء، فيكون الحدث واقعا
في الصلاة ولدلالة ظاهر الأخبار عليه (1).
وقد عرفت (2) دلالة البدلية، والأخبار إنما دلت على الفورية
ولا نزاع فيها، وإنما الكلام في أنه بمخالفتها هل يأثم خاصة - كما
هو مقتضى كل واجب - أم يبطلها (3)؟
وأما الأجزاء المنسية فقد خرجت عن كونها جزء محضا
وتلافيها بعد الصلاة فعل آخر.
ولو بقيت على محض الجزئية كما كانت لبطلت بتخلل الأركان
بين محلها وتلافيها.
(ولو ذكر ما فعل فلا إعادة، إلا أن يكون قد أحدث)
أي ذكر نقصان الصلاة: بحيث يحتاج إلى إكمالها بمثل ما فعل صحت
الصلاة وكان الاحتياط متمما لها وإن اشتمل على زيادة الأركان:
من النية، والتكبير، ونقصان بعض كالقيام لو احتاط جالسا
، وزيادة الركوع، والسجود في الركعات المتعددة (4) للامتثال (5)
713

المقتضي للإجزاء.
ولو اعتبرت المطابقة محضا لم يسلم احتياط ذكر فاعله الحاجة
إليه، لتحقيق الزيادة وإن لم تحصل المخالفة (1).
ويشمل ذلك ما لو أوجب الشك احتياطين، وهو ظاهر
مع المطابقة، كما لو تذكر (2) أنها اثنتان بعد أن قدم ركعتي القيام
ولو ذكر أنها ثلاث احتمل كونه كذلك، وهو ظاهر الفتوى
لما ذكر (3).
وإلحاقه (4) بمن زاد ركعة آخر الصلاة سهوا (5).
وكذا لو ظهر الأول (6) بعد تقديم صلاة الجلوس، أو الركعة
قائما إن جوزناه.
ولعله (7) السر في تقديم ركعتي القيام.
714

وعلى ما اخترناه لا تظهر المخالفة إلا في الفرض الأول
من فروضها (1)، وأمره سهل مع إطلاق النص، وتحقق الامتثال
الموجب للأجزاء.
وكيف كان فهو أسهل من قيام ركعتين من جلوس مقام ركعة
من قيام إذا ظهرت الحاجة إليه في جميع الصور (2).
هذا إذا ذكر بعد تمامه، ولو كان في أثنائه فكذلك مع المطابقة (3)
أو لم يتجاوز القدر المطابق فليسلم عليه.
ويشكل مع المخالفة - خصوصا مع الجلوس - (4) إذا كان
قد ركع للأولى، لاختلال نظم الصلاة، أما قبله فيكمل الركعة
715

قائما، ويغتفر ما زاده من النية: والتحريمة كالسابق (1).
وظاهر الفتوى اغتفار الجميع (2)، أما لو كان قد أحدث
أعاد، لظهوره في أثناء الصلاة، مع احتمال الصحة (3).
ولو ذكر بعد الفراغ تمام الصلاة فأولى بالصحة، ولكن العبارة
لا تتناوله، وإن دخل في ذكر ما فعل، إلا أن استثناء الحدث ينافيه
إذ لا فرق في الصحة بين الحالين (4).
ولو ذكر التمام في الأثناء تخير بين قطعه وإتمامه، وهو
الأفضل.
(الثانية (5): حكم الصدوق) أبو جعفر (محمد بن بابويه
بالبطلان) أي بطلان الصلاة (في) صورة (الشك بين الاثنتين والأربع)
716

استنادا إلى مقطوعة محمد بن مسلم.
قال: سألته عن الرجل لا يدري أصلي ركعتين أم أربعا؟
قال: يعيد الصلاة (1).
(والرواية مجهولة المسؤول) فيحتمل كونه غير إمام، مع
معارضتها بصحيحة محمد بن مسلم عن الصادق عليه السلام فيمن لا يدري
أركعتان صلاته، أم أربع؟
قال: يسلم ويصلي ركعتين بفاتحة الكتاب، ويتشهد
وينصرف، وفي معناها غيرها (2).
ويمكن حمل المقطوعة (3) على من شك قبل إكمال السجود
أو على الشك في غير الرباعية.
(الثالثة (4) أوجب) الصدوق (أيضا الاحتياط بركعتين جالسا
لو شك في المغرب بين الاثنتين والثلاث، وذهب وهمه) أي ظنه
(إلى الثالثة (5)، عملا برواية عمار) بن موسى (الساباطي
عن الصادق عليه السلام) (6).
717

(وهو) أي عمار (فطحي) المذهب المنسوب إلى الفطحية
وهم القائلون بإمامة عبد الله بن جعفر الأفطح فلا يعتد بروايته، مع
كونها شاذة، والقول بها نادر، والحكم ما تقدم: من أنه مع ظن
أحد الطرفين يبني عليه من غير أن يلزمه شئ (1).
(وأوجب) الصدوق (أيضا ركعتين جلوسا للشاك (2) بين
الأربع والخمس، وهو) قول (متروك)، وإنما الحق فيه ما سبق
من التفصيل من غير احتياط، ولأن الاحتياط جبر لما يحتمل نقصه
وهو هنا منفي قطعا (3).
وربما حمل على الشك فيهما قبل الركوع، فإنه يوجب الاحتياط
بهما كما مر.
(الرابعة (4) خير ابن الجنيد (رحمه الله الشاك بين الثلاث
والأربع بين البناء على الأقل ولا احتياط، أو على الأكثر ويحتاط بركعة)
718

قائما (أو ركعتين) جالسا (وهو خيرة الصدوق) ابن بابويه
جمعا بين الأخبار الدالة على الاحتياط المذكور ورواية سهل بن اليسع
عن الرضا عليه السلام أنه قال:
" يبني على يقينه، ويسجد للسهو " (1) بحملها على التخيير
ولتساويهما في تحصيل الغرض من فعل ما يحتمل فواته، ولأصالة
عدم فعله، فيتخير بين فعله وبدله.
(وترده) أي هذا القول (الروايات المشهورة) الدالة
على البناء على الأكثر، إما مطلقا كرواية عمار عن أبي عبد الله
عليه السلام قال:
" إذا سهوت فابن على الأكثر، فإذا فرغت وسلمت فقم
فصل ما ظننت أنك نقصت.
فإن كنت أتممت لم يكن عليك شئ.
وإن ذكرت أنك كنت نقصت كان ما صليت تمام ما نقصت "
وغيرها (2).
وإما بخصوص المسألة كرواية عبد الرحمن بن سيابة، وأبي العباس
عنه عليه السلام:
" إذا لم تدر ثلاثا صليت، أو أربعا، ووقع رأيك على الثلاث
فابن على الثلاث
وإن وقع رأيك على الأربع فسلم وانصرف.
719

وإن اعتدل وهمك فانصرف وصل ركعتين وأنت جالس ".
وفي خبر آخر عنه عليه السلام: " هو بالخيار إن شاء صلى
ركعة قائما، أو ركعتين جالسا " (1).
ورواية ابن اليسع (2) مطرحة، لموافقتها لمذهب العامة (3)
أو محمولة على غلبة الظن بالنقيصة.
(الخامسة (4) قال علي بن بابويه رحمه الله في الشك بين الاثنتين
والثلاث: إن ذهب الوهم) وهو الظن (إلى الثالثة أتمها رابعة
ثم احتاط بركعة)،
(وإن ذهب الوهم إلى الاثنتين بنى عليه وتشهد في كل ركعة
تبقى عليه) أي بعدها.
أما على الثانية فظاهر، وأما على الثالثة فلجواز أن تكون رابعة
بأن تكون صلاته عند شكه ثلاثا، وعلى الرابعة ظاهر، (وسجد
للسهو، وإن اعتدل الوهم تخير بين البناء على الأقل والتشهد في كل
ركعة: وبين البناء على الأكثر والاحتياط).
720

وهذا القول مع ندوره لم نقف على مستنده.
(والشهرة) بين الأصحاب في أن حكم هذا الشاك مع اعتدال
وهمه البناء على الأكثر، والاحتياط المذكور (تدفعه).
والتحقيق أنه لا نص من الجانبين (1) على الخصوص.
والعموم يدل على المشهور، والشك بين الثلاث والأربع منصوص
وهو يناسبه (2).
واعلم أن هذه المسائل مع السابعة خارجة عن موضوع الكتاب
لالتزامه فيه أن لا يذكر إلا المشهور بين الأصحاب، لأنها من شواذ
الأقوال، ولكنه أعلم بما قال.
(السادسة (3) لا حكم للسهو مع الكثرة)، للنص الصحيح
721

الدال عليه معللا بأنه إذا لم يلتفت تركه الشيطان فإنما يريد أن
يطاع فإذا عصي لم يعد (1).
والمرجع في الكثرة إلى العرف وهي تحصل بالتوالي ثلاثا وإن
كان في فرائض (2).
والمراد بالسهو ما يشمل الشك، فإن كلا منهما يطلق على الآخر
استعمالا شرعيا، أو تجوزا، لتقارب المعنيين (3).
ومعنى عدم الحكم معها عدم الالتفات إلى ما شك فيه:
من فعل، أو ركعة، بل يبني على وقوعه وإن كان في محله حتى
لو فعله بطلت.
نعم لو كان المتروك ركنا لم تؤثر الكثرة في عدم البطلان (4)
722

كما أنه لو ذكر ترك الفعل في محله (1) استدركه ويبني على الأكثر
في الركعات ما لم يستلزم الزيادة على المطلوب منها فيبني على المصحح
وسقوط سجود السهو لو فعل ما يوجبه بعدها، أو ترك وإن وجب
تلافي المتروك بعد الصلاة تلافيا من غير سجود.
ويتحقق الكثرة في الصلاة الواحدة بتخلل الذكر (2)، لا بالسهو
عن أفعال متعددة مع استمرار الغفلة.
ومتى ثبتت بالثلاث سقط الحكم في الرابع، ويستمر إلى أن
تخلو من السهو والشك فرائض يتحقق فيها الوصف، فيتعلق به
حكم السهو الطارئ، وهكذا (3).
(ولا للسهو في السهو) أي في موجبه: من صلاة، وسجود
كنسيان ذكر، أو قراءة، فإنه لا سجود عليه.
نعم لو كان مما يتلافى تلافاه من غير سجود.
723

ويمكن أن يريد بالسهو في كل منهما الشك، أو ما يشمله
على وجه الاشتراك، ولو بين حقيقة الشئ ومجازه، فإن حكمه هنا
صحيح، فإن استعمل في الأول (1) فالمراد به الشك في موجب
السهو، من فعل، أو عدد، كركعتي الاحتياط فإنه يبني على وقوعه
إلا أن يستلزم الزيادة كما مر، أو في الثاني فالمراد به موجب
الشك كما مر، وإن استعمل فيهما فالمراد به الشك في موجب الشك
وقد ذكر أيضا، أو الشك في حصوله، وعلى كل حال لا التفات
وإن كان إطلاق اللفظ على جميع ذلك يحتاج إلى تكلف (2).
(ولا لسهو الإمام) أي شكه، وهو قرينة لما تقدم (3)
(مع حفظ المأموم، وبالعكس (4))، فإن الشاك من كل منهما
724

يرجع إلى حفظ الآخر ولو بالظن، وكذا يرجع الظان إلى المتيقن.
ولو اتفقا على الظن واختلف محله تعين الانفراد.
ويكفي في رجوعه (1) تنبيهه بتسبيح، ونحوه.
ولا تشترط عدالة المأموم، ولا يتعدى (2) إلى غيره وإن كان
عدلا.
نعم (3) لو أفاده الظن رجع إليه، لذلك (4)، لا لكونه
مخبرا.
ولو اشتركا (5) في الشك واتحد لزمهما حكمه، وإن اختلفا
رجعا إلى ما اتفقا عليه (6)، وتركا ما انفرد كل به، فإن لم تجمعهما
725

رابطة تعين الانفراد (1)، كما لو شك أحدهما بين الاثنين والثلاث
والآخر بين الأربع والخمس.
ولو تعدد المأمومون واختلفوا مع الإمام (2) فالحكم كالأول
في رجوع الجميع إلى الرابطة، والانفراد بدونها.
ولو اشترك (3) بين الإمام وبعض المأمومين رجع الإمام إلى الذاكر
منهم وإن اتحد، وباقي (4) المأمومين إلى الإمام (5).
ولو استعمل السهو في معناه (6) أمكن في العكس، لا الطرد (7)
بناء على ما اختاره جماعة منهم المصنف في الذكرى.
726

من أنه لا حكم لسهو المأموم مع سلامة الإمام عنه فلا يجب عليه
سجود السهو لو فعل ما يوجبه لو كان منفردا.
نعم لو ترك ما يتلافى مع السجود سقط السجود خاصة (1)
ولو كان الساهي الإمام فلا ريب في الوجوب عليه إنما الخلاف
في وجوب متابعة المأموم له وإن كان أحوط (2).
(السابعة (3) أوجب ابنا بابويه) علي وابنه محمد الصدوقان
(رحمهما الله، سجدتي السهو على من شك بين الثلاث والأربع وظن الأكثر).
ولا نص عليهما في هذا الشك بخصوصه، وأخبار الاحتياط خالية
منهما، والأصل يقتضي العدم.
(وفي رواية إسحاق بن عمار عن الصادق عليه السلام: " إذا
ذهب وهمك إلى التمام أبدا في كل صلاة فاسجد سجدتي السهو) (4)
فتصلح دليلا لهما، لتضمنها مطلوبهما (5).
727

(وحملت هذه) الرواية (على الندب).
وفيه (1) نظر، لأن الأمر حقيقة في الوجوب، وغيرها
من الأخبار لم يتعرض لنفي السجود فلا منافاة بينهما (2) إذا اشتملت
على زيادة، مع (3) أنها غير منافية لجبر الصلاة، لاحتمال النقص
فإن الظن بالتمام لا يمنع النقص.
بخلاف ظن النقصان، فإن الحكم بالإكمال جائز.
نعم يمكن ردها من حيث السند (4).
728

(الفصل الثامن - في القضاء)
(يجب قضاء الفرائض اليومية مع الفوات حال البلوغ
والعقل والخلو عن (1) الحيض، والنفاس، والكفر الأصلي) احترز به
عن العارضي بالارتداد فإنه لا يسقطه كما سيأتي.
وخرج بالعقل المجنون فلا قضاء عليه، إلا أن يكون سببه بفعله
كالسكران مع القصد والاختيار، وعدم الحاجة.
وربما دخل فيه (2) المغمى عليه، فإن الأشهر عدم القضاء عليه
وإن كان بتناول الغذاء المؤدي إليه، مع الجهل بحاله، أو الإكراه
عليه، أو الحاجة إليه كما قيده به (3) المصنف في الذكرى.
بخلاف الحائض، والنفساء، فإنهما لا تقضيان مطلقا، وإن
كان السبب من قبلهما.
والفرق (4) أنه فيهما عزيمة، وفي غيرهما رخصة، وهي
لا تناط بالمعصية.
729

والمراد بالكفر الأصلي هنا ما خرج عن فرق المسلمين
730

منه (1) فالمسلم يقضي ما تركه وإن حكم بكفره كالناصبي وإن استبصر.
وكذا ما صلاه فاسدا عنده (2).
731

(ويراعى فيه) أي في القضاء (الترتيب بحسب الفوات)
732

فيقدم الأول منه (1)، فالأول مع العلم.
هذا في اليومية، أما غيرها ففي ترتبه (2) في نفسه وعلى اليومية (3)
وهي عليه قولان.
ومال في الذكرى إلى الترتيب.
واستقرب في البيان عدمه، وهو أقرب
(ولا يجب الترتيب بينه، وبين الحاضرة) فيجوز تقديمها
عليه مع سعة وقتها وإن كان الفائت متحدا، أو ليوميه على الأقوى (3).
733

(نعم يستحب -) ترتيبها عليه ما دام وقتها واسعا، جمعا
بين الأخبار التي دل بعضها على المضايقة، وبعضها على غيرها (1):
بحمل الأولى على الاستحباب.
ومتى تضيق وقت الحاضرة قدمت إجماعا ولأن الوقت لها بالأصالة
(ولو جهل الترتيب سقط) في الأجود، لأن الناس في سعة
مما لم يعلموا (2)، ولاستلزام فعله بتكرير الفرائض على وجه يحصله
734

الحرج والعسر المنفيين في كثير من موارده، وسهولته في بعض
يستلزم إيجابه فيه إحداث قول ثالث (1).
وللمصنف قول ثان: وهو تقديم ما ظن سبقه، ثم السقوط (2)
اختاره في الذكرى.
وثالث (3): وهو العمل بالظن، أو الوهم (4)، فإن انتفيا
سقط، اختاره في الدروس.
ولبعض الأصحاب رابع (5): وهو وجوب تكرير الفرائض
حتى يحصله، فيصلي (6) من فاته الظهران من يومين ظهرا بين العصرين
735

أو بالعكس (1)، لحصول الترتيب بينهما على تقدير سبق كل واحدة.
ولو جامعهما (2) مغرب من ثالث صلى الثلاث قبل المغرب
وبعدها.
أو عشاء (3) معها فعل السبع قبلها وبعدها.
أو صبح (4) معها فعل الخمس عشرة قبلها وبعدها
736

وهكذا (1).
والضابط (2) تكريرها على وجه يحصل الترتيب على جميع
737

الاحتمالات:
وهي (1) اثنان في الأول، وستة (2) في الثاني، وأربعة (3)
وعشرون في الثالث، ومائة وعشرون في الرابع (4) حاصلة (5)
من ضرب ما اجتمع سابقا في عدد الفرائض المطلوبة.
738

ولو أضيفت إليها (1) سادسة صارت الاحتمالات سبعمائة
وعشرين
.
وصحته (2) على الأول من ثلاث وستين فريضة (3) وهكذا.
ويمكن صحتها من دون ذلك: بأن يصلي الفرائض جمع
كيف شاء مكررة عددا ينقص عنها بواحد (4)، ثم يختمه بما
739

بدأ منها فيصح فيما عدا الأولين (1) من ثلاث عشره في الثالث
وإحدى وعشرين في الرابع، وإحدى وثلاثين في الخامس.
ويمكن فيه (2) بخمسة أيام ولاء، والختم بالفريضة
740

الزائدة (1).
(ولو جهل عين الفائتة) من الخمس (صلى صبحا، ومغربا)
معينين.
(وأربعا مطلقة) بين الرباعيات الثلاث، ويتخير فيها بين
الجهر والإخفات.
وفي تقديم ما شاء من الثلاث، ولو كان في وقت العشاء ردد
بين الأداء والقضاء (2).
(والمسافر يصلي مغربا وثنائية مطلقة) بين الثنائيات الأربع
مخيرا (3) كما سبق، ولو اشتبه فيها القصر والتمام فرباعية مطلقة
ثلاثيا (4) وثنائية مطلقة رباعيا.
741

ومغرب يحصل الترتيب عليهما (1).
(ويقضي المرتد) فطريا كان أو مليا إذا أسلم (زمان ردته)
للأمر بقضاء الفائت (2) خرج عنه (3) الكافر الأصلي، وما في حكمه
فيبقى الباقي.
ثم إن قبلت توبته كالمرأة والملي قضى، وإن لم تقبل ظاهرا
كالفطري على المشهور فإن أمهل بما يمكنه القضاء قبل قتله قضى
وإلا (4) بقي في ذمته.
والأقوى قبول توبته مطلقا (5).
(وكذا) يقضي (فاقد) جنس (الطهور): من ماء
وتراب عند التمكن (على الأقوى) لما مر (6) ولرواية زرارة
742

عن الباقر عليه السلام فيمن صلى بغير طهور، أو نسي صلوات
أو نام عنها؟
قال: " يصليها إذا ذكرها في أي ساعة ذكرها، ليلا
أو نهارا " (1)، وغيرها من الأخبار الدالة عليه صريحا (2).
وقيل لا يجب، لعدم وجوب الأداء، وأصالة (3) البراءة
وتوقف (4) القضاء على أمر جديد.
ودفع (5) الأول واضح، لانفكاك (6) كل منهما عن الآخر
743

وجودا وعدما والآخرين (1) بما ذكر.
(وأوجب ابن الجنيد الإعادة على العاري إذا صلى كذلك)
744

لعدم الساتر (ثم وجد الساتر في الوقت (1) لا في خارجه، محتجا
بفوات شرط الصلاة: وهو الستر فتجب (2) الإعادة كالمتيمم (3)
(وهو بعيد)، لوقوع الصلاة مجزية بامتثال الأمر، فلا يستعقب
القضاء، والستر شرط مع القدرة، لا بدونها.
نعم روى عمار عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل ليس عليه
إلا ثوب، ولا تحل الصلاة فيه، وليس يجد ماء يغسله كيف
يصنع؟
قال: يتيمم ويصلي، وإذا أصاب ماء غسله وأعاد
الصلاة. (4)
وهو مع ضعف سنده لا يدل على مطلوبه، لجواز استناد الحكم
إلى التيمم (5).
745

(ويستحب قضاء النوافل الراتبة) اليومية استحبابا مؤكدا.
وقد روي أن من يتركه تشاغلا بالدنيا لقي الله مستخفا
متهاونا مضيعا لسنة رسول الله صلى الله عليه وآله (1).
(فإن عجز عن القضاء تصدق) عن كل ركعتين بمد، فإن
عجز فعن كل أربع، فإن عجز فعن صلاة الليل بمد وعن صلاة النهار
بمد، فإن عجز فعن كل يوم بمد.
والقضاء أفضل من الصدقة (2).
(ويجب على الولي): وهو الولد الذكر الأكبر.
وقيل: كل وارث مع فقده (3) (قضاء ما فات أباه)
من الصلاة (في مرضه) الذي مات فيه.
(وقيل): ما فاته (مطلقا وهو أحوط).
وفي الدروس قطع بقضاء مطلق ما فاته.
وفي الذكرى نقل عن المحقق وجوب قضاء ما فاته لعذر
كالمرض، والسفر، والحيض، لا ما تركه عمدا مع قدرته عليه
ونفى عنه البأس.
746

ونقل عن شيخه عميد الدين (1) نصرته.
فصار للمصنف في المسألة ثلاثة أقوال (2).
والروايات تدل بإطلاقها على الوسط (3).
والموافق للأصل (4) ما اختاره هنا.
وفعل الصلاة على غير الوجه المجزي شرعا كتركها عمدا
للتفريط (5).
واحترز المصنف بالأب عن الأم ونحوها من الأقارب، فلا يجب
القضاء عنهم على الوارث في المشهور.
والروايات مختلفة.
747

ففي بعضها ذكر الرجل.
وفي بعض الميت (1).
ويمكن حمل المطلق (2) على المقيد خصوصا في المخالف
للأصل (3).
ونقل في الذكرى عن المحقق وجوب القضاء عن المرأة ونفى عنه
البأس، أخذا بظاهر الروايات (4)، وحملا للفظ " الرجل "
على التمثيل (5).
ولا فرق - على القولين (6) بين الحر والعبد على الأقوى (7).
وهل يشترط كمال الولي عند موته؟
قولان:
واستقرب في الذكرى اشتراطه، لرفع القلم عن الصبي والمجنون (8)
748

وأصالة البراءة بعد ذلك.
ووجه الوجوب عند بلوغه إطلاق النص (1) وكونه في مقابلة
الحبوة (2) ولا يشترط خلو ذمته من صلاة واجبة، لتغاير السبب
فيلزمان معا.
وهل يجب تقديم ما سبق سببه؟
وجهان (3):
اختار في الذكرى الترتيب.
وهل له استئجار غيره؟
يحتمله، لأن المطلوب القضاء، وهو مما يقبل النيابة بعد الموت
ومن تعلقها (4) بحي، واستنابته ممتنعة.
749

واختار في الذكرى المنع، وفي صوم الدروس الجواز، وعليه
يتفرع تبرع غيره به (1).
والأقرب اختصاص الحكم (2) بالولي فلا يتحملها وليه (3)
وإن تحمل ما فاته عن نفسه.
ولو أوصى الميت بقضائها على وجه تنفذ سقطت عن الولي
وبالبعض وجب الباقي.
(ولو فات المكلف) من الصلاة (4) (ما لم يحصه)
لكثرته (تحرى) أي اجتهد في تحصيل ظن بقدر (ويبنى على ظنه)
وقضى ذلك القدر سواء أكان الفائت متعددا كأيام كثيرة، أم متحدا
كفريضة مخصوصة متعددة.
ولو اشتبه الفائت في عدد منحصر عادة وجب قضاء ما تيقن
به البراءة كالشك بين عشر وعشرين.
وفيه وجه بالبناء على الأقل (5) وهو ضعيف.
(ويعدل إلى) الفريضة (السابقة لو شرع في) قضاء (اللاحقة)
ناسيا مع إمكانه: بأن لا يزيد عدد ما فعل عن عدد السابقة
750

أو تجاوزه ولما يركع في الزائدة، مراعاة للترتيب حيث يمكن.
والمراد بالعدول أن ينوي بقلبه تحويل هذه الصلاة إلى السابقة
إلى آخر مميزاتها متقربا.
ويحتمل عدم اعتبار باقي المميزات، بل في بعض الأخبار
دلالة عليه. (1)
(ولو تجاوز محل العدول): بأن ركع في زائدة عن عدد
السابقة (أتمها ثم تدارك السابقة لا غير)، لاغتفار الترتيب
مع النسيان.
وكذا لو شرع في اللاحقة ثم علم أن عليه فائتة، ولو عدل
إلى السابقة ثم ذكر سابقة أخرى عدل إليها، وهكذا.
ولو ذكر بعد العدول براءته من المعدول إليها عدل إلى اللاحقة
المنوية أولا، أو فيما بعده، فعلى هذا يمكن ترامي العدول (2)
ودوره.
751

وكما يعدل من فائتة إلى مثلها فكذا من حاضرة إلى مثلها
كالظهرين لمن شرع في الثانية ناسيا، وإلى فائتة استحبابا على ما تقدم (1)
أو وجوبا على القول الآخر، ومن الفائتة إلى الأداء لو ذكر براءته
منهما، ومنهما إلى النافلة في موارد، ومن النافلة إلى مثلها: لا
إلى فريضة (2).
752

وجملة صوره ست عشرة: وهي الحاصلة من ضرب صور
المعدول عنه، وإليه وهي أربع: نفل، وفرض، أداء، وقضاء
في الآخر (1).
(مسائل):
(الأولى: ذهب المرتضى وابن الجنيد وسلار إلى وجوب
تأخير أولي الأعذار إلى آخر الوقت) محتجين بإمكان إيقاع الصلاة
753

...
754

تامة بزوال العذر، فيجب كما يؤخر المتيمم بالنص (1)، وبالإجماع
على ما ادعاه المرتضى.
(وجوزه الشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه الله أول الوقت)
وإن كان التأخير أفضل، (وهو الأقرب)، لمخاطبتهم بالصلاة
من أول الوقت بإطلاق الأمر (2)، فتكون مجزئة للامتثال.
755

وما ذكروه من الإمكان معارض بالأمر، واستحباب المبادرة
إليها في أول الوقت.
ومجرد الاحتمال لا يوجب القدرة على الشرط، ويمكن فواتها
بموت وغيره، فضلا عنه (1)، والتيمم خرج بالنص، وإلا لكان
من جملتها
نعم يستحب التأخير مع الرجاء خروجا من خلافهم، ولولاه
لكان فيه نظر (2).
(الثانية (3) - المروي (4) في المبطون) وهو من به داء
البطن - بالتحريك: من ريح، أو غائط على وجه لا يمكنه منعه
مقدار الصلاة (الوضوء لكل) صلاة، (والبناء) على ما مضى
منها (إذا فجأه (5) الحدث) في أثنائها بعد الوضوء، واغتفار
756

هذا الفعل وإن كثر، وعليه جماعة من المتقدمين.
(وأنكره بعض الأصحاب) المتأخرين، وحكموا باغتفار
ما يتجدد من الحدث بعد الوضوء، سواء وقع في الصلاة أم قبلها
إن لم يتمكن من حفظه نفسه مقدار الصلاة، وإلا استأنفها، محتجين
بأن الحدث المتجدد لو نقض الطهارة لأبطل الصلاة، لأن المشروط
عدم عند عدم شرطه، وبالأخبار الدالة على أن الحدث يقطع
الصلاة (1).
(والأقرب الأول، لتوثيق رجال الخبر) الدال على البناء
على ما مضى من الصلاة بعد الطهارة (عن الباقر عليه السلام).
والمراد توثيق رجاله على وجه يستلزم صحة الخبر، فإن التوثيق
أعم منه عندنا (2)، والحال أن الخبر الوارد في ذلك صحيح باعتراف
الخصم، فيتعين العمل به (3).
757

لذلك (1).
(وشهرته (2) بين الأصحاب) خصوصا المتقدمين.
ومن خالف حكمة (3) أوله: بأن المراد بالبناء الاستئناف.
وفيه (4): أن البناء على الشئ يستلزم سبق شئ منه يبنى عليه
ليكون الماضي بمنزلة الأساس لغة وعرفا، مع أنهم لا يوجبون
الاستئناف، فلا (5) وجه لحملهم عليه.
والاحتجاج (6) بالاستلزام مصادرة، وكيف يتحقق التلازم.
758

مع (1) ورود النص الصحيح بخلافه، والأخبار الدالة على قطع
مطلق الحدث لها (2) مخصوصة بالمستحاضة والسلس اتفاقا (3)
759

وهذا الفرد (1) يشاركهما بالنص الصحيح، ومصير جمع إليه
وهو (2) كاف في التخصيص.
نعم هو (3) غريب، لكنه ليس بعادم للنظير فقد ورد صحيحا
قطع الصلاة والبناء عليها في غيره (4).
760

مع أن الاستبعاد غير مسموع (1).
(الثالثة (2) - يستحب تعجيل القضاء) استحبابا مؤكدا
سواء الفرض والنفل، بل الأكثر على فورية قضاء الفرض، وأنه
لا يجوز الاشتغال عنه بغير الضروري: من أكل ما يمسك الرمق
ونوم يضطر إليه، وشغل يتوقف عليه (3)، ونحو ذلك (4) وأفرده
بالتصنيف جماعة (5).
وفي كثير من الأخبار دلالة عليه (6)، إلا أن حملها
761

على الاستحباب المؤكد طريق الجمع بينها، وبين ما دل
على التوسعة (1).
(ولو كان) الفائت (نافلة لم ينتظر بقضائها مثل زمان
فواتها): من ليل، أو نهار، بل يقضي نافلة الليل نهارا
وبالعكس (2)، لأن الله تعالى جعل كلا منهما خلفة للآخر (3)
وللأمر بالمسارعة إلى أسباب المغفرة (4) وللأخبار (5).
وذهب جماعة من الأصحاب إلى استحباب المماثلة استنادا
762

إلى رواية إسماعيل الجعفي عن الباقر عليه السلام: " أفضل قضاء
النوافل قضاء صلاة الليل بالليل، وصلاة النهار بالنهار (1)، وغيرها (2).
وجمع بينهما
بالحمل على الأفضل والفضيلة، إذ عدم انتظار
مثل الوقت فيه مسارعة إلى الخير وهو فضل، كذا أجاب في الذكرى
وهو يؤذن بأفضلية المماثلة، إذ لم يذكر الأفضل إلا في دليلها (3).
وأطلق (4) في باقي كتبه استحباب التعجيل، والأخبار به
كثيرة إلا أنها خالية عن الأفضلية (5).
(وفي جواز النافلة لمن عليه فريضة قولان، أقربهما الجواز)
للأخبار الكثيرة الدالة عليه (6) (وقد بينا مأخذه في كتاب الذكرى)
بإيراد ما ورد فيه من الأخبار، وحررنا نحن ما فيه في شرح
الإرشاد،
واستند المانع أيضا إلى أخبار دلت على النهي (7)
763

وحمله (1) على الكراهة طريق الجمع.
نعم يعتبر عدم إضرارها بالفريضة.
ولا فرق بين ذوات الأسباب، وغيرها (2).
(الفصل التاسع - في صلاة الخوف)
(وهي مقصورة سفرا) إجماعا، (وحضرا) على الأصح
للنص (3).
وحجة مشترط السفر بظاهر الآية (4) حيث اقتضت الجمع
764

مندفعة (1) بالقصر للسفر المجرد عن الخوف، والنص (2)
محكم فيهما (جماعة) إجماعا.
(وفرادى) على الأشهر، لإطلاق النص (3).
واستناد (4) مشترطها إلى فعل النبي صلى الله عليه وآله لها
765

جماعة لا يدل (1) على الشرطية، فيبقى ما دل على الإطلاق سالما.
وهي أنواع كثيرة تبلغ العشرة (2) أشهرها صلاة ذات
الرقاع (3)، فلذا لم يذكر غيرها. ولها (4) شروط أشار إليها
بقوله:
(ومع إمكان الافتراق فرقتين) لكثرة المسلمين، أو قوتهم:
بحيث يقاوم كل فرقة العدو حالة اشتغال الأخرى بالصلاة، وإن
لم يتساويا عددا.
(و) كون (العدو في خلاف) جهة (القبلة) إما في دبرها
أو عن أحد جانبيها: بحيث لا يمكنهم القتال مصلين إلا بالانحراف
عنها، أو في جهتها مع وجود حائل يمنع من قتالهم.
واشترط ثالث وهو كون العدو ذا قوة يخاف هجومه عليهم
حال الصلاة: فلو أمن صلوا بغير تغيير يذكر هنا (5)، وتركه
اختصارا، وإشعارا به من الخوف.
ورابع وهو عدم الاحتياج إلى الزيادة على فرقتين، لاختصاص
هذه الكيفية بإدراك كل فرقة ركعة، ويمكن الغناء عنه في المغرب (6).
766

ومع اجتماع الشروط (يصلون صلاة ذات الرقاع).
سميت بذلك لأن القتال كان في سفح جبل فيه جدد (1)
حمر، وصفر، وسود كالرقاع.
أو لأن الصحابة كانوا حفاة فلفوا على أرجلهم الرقاع من جلود
وخرق، لشدة الحر.
أو لأن الرقاع كانت في ألويتهم.
أو لمرور قوم به حفاة فتشققت أرجلهم فكانوا يلفون عليها
الخرق.
أو لأنها اسم شجرة كانت في موضع الغزوة، وهي على ثلاثة
أميال من المدينة عند بئر أروما (2).
وقيل: موضع من نجد: وهي أرض غطفان (3)
(بأن يصلي الإمام بفرقة ركعة) في مكان لا تبلغهم سهام
العدو، ثم ينفردون بعد قيامه (ثم يتمون) ركعة أخرى
767

مخففة (1) ويسلمون ويأخذون موقف الفرقة المقاتلة.
(ثم تأتي) الفرقة (الأخرى) والإمام في قراءة الثانية
(فيصلي بهم ركعة) إلى أن يرفعوا من سجود الثانية فينفردون
ويتمون صلاتهم، (ثم ينتظرهم) الإمام (حتى يتموا ويسلم بهم)
وإنما حكمنا بانفرادهم مع أن العبارة لا تقتضيه، بل ربما
دل سلامه بهم على بقاء القدوة، تبعا للمصنف حيث ذهب في كتبه
إلى انفرادهم.
وظاهر الأصحاب، وبه صرح كثير منهم بقاء القدوة.
ويتفرع عليه تحمل الإمام أوهامهم على القول به (2)،
وما اختاره المصنف (3) لا يخلو من قوة.
(وفي المغرب يصلي بإحداهما ركعتين) وبالأخرى ركعة مخيرا
في ذلك.
والأفضل (4) تخصيص الأولى بالأولى، والثانية بالباقي، تأسيا
بعلي عليه السلام ليلة الهرير (5)
768

وليتقاربا في إدراك الأركان (1)
769

والقراءة (1) المتعينة.
وتكليف (2) الثانية بالجلوس للتشهد الأول مع بنائها
771

على التخفيف يندفع (1)
773

باستدعائه زمانا على التقديرين (1) فلا يحصل بإيثار الأولى تخفيف.
ولتكليف (2)
774

الثانية بالجلوس للتشهد الأول (1) على التقدير الآخر (2).
(ويجب على) المصلين أخذ السلاح، للأمر به (3) المقتضي له:
وهو آلة القتال والدفع: من السيف، والسكين، والرمح
وغيرها وإن كان نجسا، إلا أن يمنع شيئا من الواجبات، أو يؤذي
غيره فلا يجوز اختيارا.
775

(ومع الشدة) المانعة من الافتراق كذلك، والصلاة جميعا (1)
بأحد الوجوه المقررة في هذا الباب (يصلون بحسب المكنة)
ركبانا ومشاة، جماعة وفرادى، ويغتفر اختلاف الجهة هنا (2)
بخلاف المختلفين في الاجتهاد لأن الجهات قبيلة في حقهم هنا (3).
نعم يشترط عدم تقدم المأموم على الإمام نحو مقصده (4)
والأفعال الكثيرة المفتقرة إليها مغتفرة هنا.
ويؤمون (إيماء مع تعذر الركوع والسجود) ولو على القربوس (5)
بالرأس، ثم بالعينين فتحا وغمضا كما مر (6).
ويجب الاستقبال بما أمكن ولو بالتحريمة، فإن عجز سقط.
(ومع عدم الإمكان) أي إمكان الصلاة بالقراءة، والإيماء
للركوع والسجود (يجزيهم عن كل ركعة) بدل القراءة، والركوع
والسجود. وواجباتهما:
(سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر)
776

مقدما عليهما (1) النية والتكبير، خاتما بالتشهد، والتسليم.
قيل: وهكذا صلى علي عليه السلام وأصحابه ليلة الهرير
الظهرين، والعشائين (2).
ولا فرق في الخوف الموجب لقصر الكمية، وتغير الكيفية
بين كونه من عدو، ولص، وسبع، لا من وحل وغرق
بالنسبة إلى الكمية.
أما الكيفية فجائز حيث لا يمكن غيرها مطلقا (3).
وجوز في الذكرى لهما (4) قصر الكمية مع خوف التلف
بدونه (5)، ورجاء (6) السلامة به، وضيق (7) الوقت: وهو (8)
777

يقتضي جواز الترك لو توقف (1) عليه.
أما سقوط القضاء بذلك فلا، لعدم الدليل (2).
(الفصل العاشر - في صلاة المسافر)
التي يجب قصرها كمية (وشرطها (3) قصد المسافة):
وهي ثمانية فراسخ كل فرسخ ثلاثة أميال، كل ميل أربع آلاف
ذراع، فتكون المسافة (ستة وتسعين ألف ذراع) حاصلة من ضرب
ثلاثة في ثمانية، ثم المرتفع في أربعة (4)
778

وكل ذراع أربع وعشرون إصبعا (1) كل إصبع سبع شعيرات
متلاصقات (2) بالسطح الأكبر.
وقيل: ست - عرض كل شعيرة سبع شعرات من شعر
البرذون (3).
ويجمعها (4) مسير يوم معتدل الوقت والمكان والسير لأثقال
الإبل (5).
ومبدأ التقدير من آخر خطة (6) البلد المعتدل وآخر محلته
في المتسع عرفا.
(أو نصفها (7) لمريد الرجوع ليومه) أو ليلته، أو الملفق
779

منهما (1)، مع اتصال السير عرفا، دون (2) الذهاب في أول
أحدهما، والعود في آخر الآخر، ونحوه في المشهور.
وفي الأخبار الصحيحة الاكتفاء به مطلقا (3)، وعليه جماعة
مخيرين في القصر والإتمام جمعا (4)، وآخرون في الصلاة خاصة (5)
وحملها الأكثر على مريد الرجوع ليومه فيتحتم القصر، أو يتخير (6)
وعليه (7) المصنف في الذكرى.
780

وفي الأخبار ما يدفع هذا الجمع بمعنييه (1) وخرج بقصد المقدر
السفر إلى المسافة بغيره (2) كطالب حاجة يرجع متى وجدها إلا أن
يعلم عادة توقفه (3) على المسافة،
وفي إلحاق الظن القوي به (4) وجه قوي (5).
وتابع (6) متغلب (7) يفارقه متى قدر مع إمكانه عادة.
ومثله (8) الزوجة والعبد يجوزان (9) الطلاق والعتق
781

مع ظهور أمارتهما (1).
ولو ظن التابع بقاء الصحبة قصر مع قصد المسافة ولو تبعا.
وحيث تبلغ المسافة يقصر في الرجوع مطلقا (2)، ولا يضم
إليه ما بقي من الذهاب بعد القصد متصلا به مما يقصر
عن المسافة (3).
(وأن (4) لا يقطع السفر بمروره على منزله) وهو ملكه
من العقار الذي قد استوطنه، أو بلده (5) الذي لا يخرج عن حدودها
الشرعية ستة أشهر فصاعدا بنية الإقامة الموجبة للاتمام، متوالية
أو متفرقة (6)، أو منوي الإقامة على الدوام مع استيطانه المدة
782

وإن لم يكن له به ملك.
ولو خرج الملك عنه، أو رجع عن نية الإقامة (1) ساوى
غيره
(أو نية مقام عشرة أيام) تامة بلياليها متتالية، ولو بتعليق
السفر على ما لا يحصل عادة في أقل منها (2).
(أو مضي ثلاثين يوما) بغير نية الإقامة وإن جزم بالسفر
(في مصر) أي في مكان معين.
أما المصر بمعنى المدينة، أو البلد فليس بشرط (3).
ومتى كملت الثلاثون أتم بعدها ما يصليه قبل السفر
ولو فريضة.
ومتى انقطع السفر بأحد هذه افتقر العود إلى القصر إلى قصد
مسافة جديدة، فلو خرج بعدها (4) بقي على التمام إلى أن يقصد
783

المسافة، سواء عزم على العود إلى موضع الإقامة أم لا.
ولو نوى الإقامة في عدة مواطن في ابتداء السفر، أو كان
له منازل اعتبرت المسافة بين كل منزلين وبين الأخير، وغاية
السفر فيقصر فيما بلغه، ويتم في الباقي وإن تمادى السفر.
(وأن لا يكثر سفره) (1) بأن يسافر ثلاث سفرات إلى مسافة
ولا يقيم بين سفرتين منها عشرة أيام في بلده، أو غيره مع النية (2)
أو يصدق عليه اسم المكاري وإخوته، وحينئذ فيتم في الثالثة (3)
ومع صدق الاسم (4) يستمر متما إلى أن يزول الاسم، أو يقيم
عشرة أيام متوالية، أو مفصولة بغير مسافة في بلده، أو مع نية الإقامة (5)، أو يمضي عليه أربعون يوما مترددا في الإقامة (6)
أو جازما بالسفر من دونه (7).
784

ومن يكثر سفره (كالمكاري) بضم الميم وتخفيف الياء: وهو
من يكري دابته لغيره ويذهب معها فلا يقيم ببلده غالبا لإعداده
نفسه لذلك.
(والملاح): وهو صاحب السفينة (والأجير) الذي يؤجر
نفسه للأسفار.
(والبريد) المعد نفسه للرسالة، أو أمين البيدر (1)
أو الاشتقان (2)
وضابطه من يسافر إلى المسافة ولا يقيم العشرة كما مر (3).
(وألا يكون سفره معصية) (4): بأن تكون غايته معصية
أو مشتركة بينها وبين الطاعة، أو مستلزمة لها كالتاجر في المحرم
والآبق والناشز والساعي على ضرر محترم، وسالك طريق يغلب فيه
العطب ولو على المال (5).
785

وألحق به تارك كل واجب به (1) بحيث ينافيه، وهي مانعة
ابتداء واستدامة، فلو عرض قصدها في أثنائه انقطع الترخص حينئذ
وبالعكس (2).
ويشترط حينئذ كون الباقي مسافة ولو بالعود، ولا يضم
باقي الذهاب إليه (3).
(وأن يتوارى عن جدران بلده) (4) بالضرب في الأرض لا مطلق
المواراة (5)، (أو يخفى عليه أذانه) ولو تقديرا كالبلد المنخفض
786

والمرتفع، ومختلف الأرض، وعادم الجدار والأذان، والسمع
والبصر.
والمعتبر
آخر البلد المتوسط فما دون ومحلته في المتسع، وصورة
الجدار والصوت
لا الشبح (1) والكلام.
والاكتفاء بأحد الأمرين مذهب جماعة.
والأقوى
اعتبار خفائهما معا ذهابا وعودا (2)، وعليه المصنف
في سائر كتبه،
ومع اجتماع الشرائط (3) (فيتعين القصر) بحذف الأخير
في الرباعية
(إلا في) أربعة مواطن:
(مسجدي مكة والمدينة) المعهودين.
(ومسجد الكوفة والحائر) الحسيني (على مشرفه السلام):
وهو ما دار عليه سور حضرته الشريفة، (فيتخير فيها) بين الإتمام
والقصر.
(والإتمام أفضل).
ومستند الحكم أخبار كثيرة، وفي بعضها أنه من مخزون
علم الله (4).
787

(ومنعه) أي التخيير (أبو جعفر) محمد بن (بابويه)
وحتم القصر فيها كغيرها.
والأخبار الصحيحة حجة عليه.
(وطرد المرتضى، وابن الجنيد الحكم في مشاهد الأئمة
عليهم السلام) ولم نقف على مأخذه.
وطرد آخرون الحكم في البلدان الأربع.
وثالث (1) في بلدي المسجدين الحرمين، دون الآخرين.
ورابع (2) في البلدان الثلاثة غير الحائر، ومال إليه المصنف
في الذكرى.
والاقتصار عليها (3) موضع اليقين فيما خالف الأصل (4).
(ولو دخل عليه الوقت حاضرا) بحيث مضى منه قدر الصلاة
بشرائطها المفقودة (5) قبل مجاوزة الحدين (6).
788

(أو أدركه بعد) انتهاء (سفره) بحيث أدرك منه ركعة
فصاعدا (أتم) الصلاة فيهما (في الأقوى) عملا بالأصل (1)
ولدلالة بعض الأخبار عليه (2)، والقول الآخر القصر فيهما
وفي ثالث (3) التخيير، ورابع (4) القصر في الأول، والإتمام
في الثاني، والأخبار متعارضة (5)، والمحصل ما اختاره هنا.
(ويستحب جبر كل مقصورة).
وقيل: كل صلاة تصلى سفرا (بالتسبيحات الأربع: ثلاثين مرة)
عقبها.
والمروي التقييد (6)، وقد روي (7) استحباب فعلها عقيب
كل فريضة في جملة التعقيب، فاستحبابها عقيب المقصورة
يكون آكد.
789

وهل يتداخل الجبر والتعقيب، أم يستحب تكرارها؟
وجهان:
أجودهما الأول لتحقق الامتثال فيهما (1).
(الفصل الحادي عشر - في الجماعة)
(وهي مستحبة في الفريضة) مطلقا (2)، (متأكدة في اليومية)
حتى أن الصلاة الواحدة منها تعدل خمسا، أو سبعا وعشرين صلاة
مع غير العالم، ومعه ألفا.
ولو وقعت في مسجد تضاعف بمضروب عدده في عددها (3).
ففي الجامع مع غير العالم ألفان وسبعمائة، ومعه (4) مائة ألف.
790

وروي أن ذلك مع اتحاد المأموم، فلو تعدد تضاعف في كل
واحد بقدر المجموع في سابقه (1) إلى العشرة، ثم لا يحصيه
إلا الله تعالى.
(وواجبة في الجمعة، والعيدين مع وجوبهما، وبدعة
في النافلة مطلقا (2) إلا في الاستسقاء، والعيدين المندوبة، والغدير)
في قول لم يجزم به المصنف إلا هنا، ونسبه في غيره إلى التقي.
ولعل مأخذه شرعيتها في صلاة العيد وأنه عيد (3).
791

(والإعادة) من الإمام، أو المأموم، أو هما وإن ترامت (1)
على الأقوى -
(ويدركها) أي الركعة (بإدراك الركوع): بأن يجتمعا
في حد الراكع ولو قبل ذكر المأموم. أما إدراك الجماعة فسيأتي أنه
يحصل بدون الركوع.
ولو شك في إدراك حد الإجزاء لم يحتسب ركعة، لأصالة
عدمه فيتبعه في السجود ثم يستأنف.
(ويشترط بلوغ الإمام) إلا أن يؤم مثله، أو في نافلة (2)
عند المصنف في الدروس، وهو يتم مع كون صلاته شرعية
لا تمرينية (3).
(وعقله) حالة الإمامة، وإن عرض له الجنون في غيرها
كذي الأدوار على كراهة.
(وعدالته): وهي ملكة نفسانية باعثة على ملازمة التقوى
التي هي القيام بالواجبات، وترك المنهيات الكبيرة مطلقا (4)
792

والصغيرة مع الإصرار عليها (1)، وملازمة (2) المروءة التي هي
اتباع محاسن العادات (3)، واجتناب مساوئها (4)، وما ينفر عنه
من المباحات، ويؤذن بخسة النفس ودناءة الهمة.
وتعلم (5) بالاختبار المستفاد من التكرار المطلق على الخلق
من التخلق، والطبع (6) من التكلف غالبا (7).
وبشهادة (8) عدلين بها، وشياعها واقتداء العدلين به
في الصلاة: بحيث يعلم ركونها إليه تزكية (9).
793

ولا يقدح المخالفة في الفروع، إلا أن تكون صلاته باطلة
عند المأموم (1).
وكان عليه أن يذكر اشتراط طهارة مولد الإمام، فإنه شرط
إجماعا كما ادعاه في الذكرى، فلا تصح إمامة ولد الزنا (2) وإن
كان عادلا. أما ولد الشبهة ومن تناله الألسن من غير تحقيق فلا.
(وذكوريته) إن كان المأمون ذكرا أو خنثى.
(وتؤم المرأة مثلها، ولا) تؤم (ذكرا، ولا خنثى)
لاحتمال ذكوريته.
(ولا تؤم الخنثى غير المرأة) لاحتمال أنوثيته وذكورية
المأموم لو كان خنثى (3).
(ولا تصح) مع جسم (حائل بين الإمام والمأموم) يمنع
المشاهدة أجمع (4) في سائر الأحوال للإمام، أو من يشاهده
من المأمومين ولو بوسائط منهم، فلو شاهد بعضه في بعضها
794

كفى (1)، كما لا تمنع حيلولة الظلمة والعمى.
(إلا في المرأة خلف الرجل) فلا يمنع الحائل مطلقا (2)
مع علمها بأفعاله التي حتى يجب فيها المتابعة.
(ولا مع كون الإمام أعلى) من المأموم (بالمعتد به) عرفا
في المشهور، وقدره في الدروس بما لا يتخطى (3).
وقيل: بشبر، ولا يضر علو المأموم مطلقا (4) ما لم يؤد
إلى البعد المفرط، ولو كانت الأرض منحدرة اغتفر فيهما (5).
ولم يذكر اشتراط عدم تقدم المأموم، ولا بد منه، والمعتبر فيه
العقب قائما (6)، والمقعد هو الألية جالسا (7)، والجنب
نائما (8).
795

(وتكره القراءة) من المأموم (خلفه في الجهرية) التي يسمعها
ولو همهمة (لا في السرية (1)، ولو لم يسمع ولو همهمة):
وهي الصوت الخفي من غير تفصيل الحروف (في الجهرية قرأ) المأموم
الحمد سرا (مستحبا) هذا هو أحد الأقوال في المسألة.
أما ترك القراءة في الجهرية المسموعة فعليه الكل، لكن على وجه
الكراهة عند الأكثر (2)، والتحريم عند بعض، للأمر بالإنصات
لسامع القرآن، وأما مع عدم سماعها وإن قل فالمشهور الاستحباب
في أولييها، والأجود إلحاق أخرييها بهما (3).
796

وقيل: تلحقان بالسرية.
وأما السرية فالمشهور كراهة القراءة فيها، وهو اختيار المصنف
في سائر كتبه، ولكنه هنا ذهب إلى عدم الكراهة، والأجود المشهور.
ومن الأصحاب من أسقط القراءة وجوبا، أو استحبابا مطلقا (1)
وهو أحوط.
وقد روى زرارة في الصحيح عن الباقر عليه السلام قال:
كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول:
من قرأ خلف إمام يأتم به بعث على غير الفطرة (2).
(ويجب) على المأموم (نية الائتمام) بالإمام (المعين)
بالاسم أو الصفة، أو القصد الذهني (3).
فلو أخل بها، أو اقتدى بأحد هذين، أو بهما وإن أنفقا
فعلا لم يصح (4).
797

ولو أخطأ تعيينه بطلت وإن كان أهلا لها (1).
أما الإمام فلا تجب عليه نية الإمامة، إلا أن تجب الجماعة
كالجمعة في قول، نعم يستحب.
ولو حضر المأموم في أثناء صلاته نواها بقلبه متقربا.
(ويقطع النافلة) إذا أحرم الإمام بالفريضة.
وفي بعض الأخبار قطعها متى أقيمت الجماعة ولما يكملها (2)
ليفوز بفضيلتها أجمع (3).
(وقيل): ويقطع (الفريضة) أيضا (لو خاف الفوت)
أي فوات الجماعة في مجموع الصلاة، وهو قوي، واختاره المصنف
في غير الكتاب، وفي البيان جعلها كالنافلة.
(وإتمامها ركعتين) ندبا (حسن)، ليجمع بين فضيلة
الجماعة، وترك إبطال العمل (4):
هذا إذا لم يخف الفوت وإلا قطعها بعد النقل إلى النفل.
798

ولو كان قد تجاوز ركعتين من الفريضة ففي الاستمرار، أو
العدول إلى النفل، خصوصا قبل ركوع الثالثة؟.
وجهان:
وفي القطع قوة.
(نعم يقطعها) أي الفريضة (لإمام الأصل (1)) مطلقا (2)
استحبابا في الجميع (3).
(ولو أدركه بعد الركوع): بأن لم يجتمع معه بعد التحريمة
في حده (سجد) معه بغير ركوع إن لم يكن ركع، أو ركع طلبا لإدراكه فلم يدركه، (ثم استأنف النية) مؤتما إن بقي
للإمام ركعة أخرى، ومنفردا بعد تسليم الإمام إن أدركه في الأخيرة.
(بخلاف إدراكه (4) بعد السجود) فإنه (5) يجلس معه
ويتشهد مستحبا إن كان يتشهد، ويكمل صلاته (فإنها تجزيه ويدرك
فضيلة الجماعة) في الجملة (في الموضعين):
وهما إدراكه بعد الركوع، وبعد السجود، للأمر بها (6)
799

وليس (1) إلا لإدراكها.
وأما كونها (2) كفضيلة من أدركها من أولها فغير معلوم
ولو استمر في الصورتين قائما إلى أن فرغ الإمام، أو قام أو جلس
معه ولم يسجد صح أيضا من غير استئناف (3)،
والضابط أنه (4) يدخل معه في سائر الأحوال، فإن زاد معه
ركنا استأنف النية، وإلا فلا، وفي زيادة سجدة واحدة وجهان
أحوطهما الاستئناف وليس لمن لم يدرك الركعة قطع الصلاة بغير
المتابعة (5) اختيارا.
(ويجب) على المأموم (المتابعة) لإمامه في الأفعال إجماعا:
بمعنى أن لا يتقدمه فيها، بل إما أن يتأخر عنه، وهو الأفضل
أو يقارنه.
800

لكن مع المقارنة تفوت فضيلة الجماعة، وإن صحت الصلاة
وإنما فضلها مع المتابعة.
أما الأقوال فقد قطع المصنف بوجوب المتابعة فيها أيضا
في غيره، وأطلق هنا بما يشمله، وعدم الوجوب أوضح إلا في تكبيرة
الإحرام، فيعتبر تأخره (1) بها، فلو قارنه (2)، أو سبقه
لم تنعقد.
وكيف (3) تجب المتابعة فيما لا يجب سماعه، ولا إسماعه
إجماعا، مع (4) إيجابهم علمه بأفعاله؟
وما ذاك (5) إلا لوجوب المتابعة فيها.
(فلو تقدم) المأموم على الإمام فيما يجب فيه المتابعة (ناسيا
801

تدارك) (1) ما فعل مع الإمام، (وعامدا يأثم ويستمر) على حاله
حتى يلحقه الإمام، والنهي (2) لاحق لترك المتابعة، لا لذات الصلاة
أو جزئها، ومن ثم لم تبطل، ولو عاد بطلت للزيادة.
وفي بطلان صلاة الناسي لو لم يعد قولان، أجودهما العدم
والظان كالناسي، والجاهل عامد.
(ويستحب إسماع الإمام من خلفه) أذكاره، ليتابعه فيها
وإن كان مسبوقا (3)، ما لم يؤد إلى العلو المفرط فيسقط الإسماع
المؤدي إليه (ويكره العكس) بل يستحب للمأموم ترك إسماع
802

الإمام مطلقا (1)، عدا تكبيرة الإحرام لو كان الإمام منتظرا له
في الركوع ونحوه (2)، وما يفتح به على الإمام (3)، والقنوت
على قول.
" وأن يأتم كل من الحاضر والمسافر بصاحبه (4)) مطلقا (5)
وقيل: في فريضة مقصورة، وهو مذهبه في البيان.
" بل بالمساوي " في الحضر والسفر، أو في الفريضة غير
المقصورة (6).
(وأن يؤم الأجذم والأبرص الصحيح)، للنهي عنه وعما
قبله في الأخبار (7)
803

المحمول (1) على الكراهة جمعا (2).
(والمحدود بعد توبته) للنهي كذلك (3)، وسقوط محله
من القلوب.
(والأعرابي) وهو المنسوب إلى الأعراب وهم: سكان البادية
(بالمهاجر) وهو المدني المقابل للأعرابي، أو المهاجر حقيقة من بلاد
الكفر إلى بلاد الإسلام.
ووجه الكراهة في الأول مع النص بعده عن مكارم الأخلاق
ومحاسن الشيم المستفادة من الحضر.
804

وحرم بعض الأصحاب إمامة الأعرابي عملا بظاهر النهي (1).
ويمكن أن يريد به من لا يعرف محاسن الإسلام وتفاصيل
الأحكام منهم المعني بقوله تعالى: " الأعراب أشد كفرا ونفاقا (2) "
أو على من عرف ذلك، وترك المهاجرة مع وجوبها عليه
فإنه حينئذ تمتنع إمامته، لإخلاله بالواجب من التعلم والمهاجرة.
(والمتيمم بالمتطهر بالماء) للنهي عنه (3)، ونقصه (4)
لا بمثله (5).
(وأن يستناب المسبوق بركعة)، أو مطلقا (6) إذا عرض
للإمام مانع من الإتمام، بل ينبغي استنابة من شهد الإقامة.
805

ومتى بطلت صلاة الإمام فإن بقي مكلفا فالاستنابة له (1)
وإلا فللمأمومين.
وفي الثاني (2) يفتقرون إلى نية الائتمام بالثاني، ولا يعتبر فيها
سوى القصد إلى ذلك.
والأقوى في الأول ذلك.
وقيل: لا، لأنه خليفة الإمام فيكون بحكمه.
ثم إن حصل (3) قبل القراءة قرأ المستخلف، أو المنفرد.
وإن كان في أثنائها ففي البناء على ما وقع من الأول، أو
الاستئناف، أو الاكتفاء بإعادة السورة التي فارق فيها أوجه؟
أجودها الأخير (4).
806

ولو كان بعدها (1) ففي إعادتها وجهان، أجودهما العدم.
(ولو تبين) للمأموم " عدم الأهلية " من الإمام للإمامة بحدث
أو فسق، أو كفر (في الأثناء انفرد) حين العلم.
والقول في القراءة كما تقدم (2).
(وبعد الفراغ لا إعادة) على الأصح مطلقا (3) للامتثال.
وقيل: يعيد في الوقت، لفوات الشرط، وهو ممنوع مع عدم
إفضائه إلى المدعى (4).
807

(ولو عرض للإمام مخرج) من الصلاة لا يخرج عن الأهلية
كالحدث (استناب) هو، وكذا لو تبين كونه خارجا ابتداء
لعدم الطهارة.
ويمكن شمول المخرج في العبارة لهما.
(ويكره الكلام) للمأموم والإمام (بعد) قول المؤذن:
(قد قامت الصلاة)، لما روي (1) أنهم بعدها كالمصلين.
(والمصلي خلف من لا يقتدى به)، لكونه مخالفا
(يؤذن لنفسه ويقيم) إن لم يكن وقع منهما (2) ما يجزئ عن فعله
كالآذان للبلد إذا سمعه، أو مطلقا (3).
(فإن تعذر) الأذان لخوف فوت واجب القراءة (اقتصر)
على قوله: (قد قامت الصلاة) مرتين (إلى آخر الإقامة) ثم يدخل
في الصلاة منفردا بصورة الاقتداء، فإن سبقه الإمام بقراءة السورة
سقطت، وإن سبقه بالفاتحة أو بعضها قرأ إلى حد الراكع وسقط عنه
ما بقي، وإن سبق الإمام سبح الله استحبابا إلى أن يركع، فإذا فعل
ذلك غفر له بعدد من خالفه وخرج بحسناتهم، روي ذلك
عن الصادق عليه السلام (4).
808

(ولا يؤم القاعد القائم) وكذا جميع المراتب، لا يؤم
الناقص فيها الكامل، للنهي (1)، والنقص (2).
ولو عرض العجز في الأثناء انفرد المأموم الكامل حينئذ (3)
إن لم يمكن استخلاف بعضهم.
(ولا الأمي): وهو من لا يحسن قراءة الحمد والسورة
أو أبعاضهما ولو حرفا، أو تشديدا، أو صفة واجبة (4)
(القارئ) وهو من يحسن ذلك كله، ويجوز بمثله مع تساويهما
في شخص المجهول (5)، أو نقصان المأموم (6)، وعجزهما
عن التعلم لضيق الوقت، وعن الائتمام بقارئ، أو أتم منهما.
ولو اختلفا فيه لم يجز (7) وإن نقص قدر مجهول الإمام
إلا أن يقتدي جاهل الأول بجاهل الآخر، ثم ينفرد عنه بعد تمام
معلومه كاقتداء محسن السورة خاصة بجاهلها (8)
809

ولا يتعاكسان (1).
(ولا المؤف اللسان) كالألثغ بالمثلثة وهو الذي يبدل حرفا
بغيره (2)، وبالمثناة من تحت وهو الذي لا يبين الكلام (3)، والتمتام
والفأفاء وهو الذي لا يحسن تأدية الحرفين (4) (بالصحيح).
أما من لم تبلغ آفته إسقاط الحرف، ولا إبداله، أو يكرره
فتكره إمامته بالمتقن خاصة (5).
(ويقدم الأقرأ) من الأئمة لو تشاحوا (6)، أو تشاح
المأمومون وهو (7) الأجود أداء
810

وإتقانا للقراءة، ومعرفة أحكامها ومحاسنها (1)، وإن كان أقل
حفظا (2).
فإن تساووا فالأحفظ.
فإن تساووا فيهما (فالأفقه) في أحكام الصلاة.
فإن تساووا فيها فالأفقه في غيرها.
وأسقط المصنف في الذكرى اعتبار الزائد، لخروجه عن كمال
الصلاة.
وفيه أن المرجح لا ينحصر فيها، بل كثير منها كمال في نفسه
وهذا منها مع شمول النص (3) له.
فإن تساووا في الفقه والقراءة (فالأقدم هجرة) من دار
الحرب إلى دار الإسلام.
هذا هو الأصل.
وفي زماننا قيل: هو (4) السبق إلى طلب العلم.
وقيل: إلى سكنى الأمصار مجازا عن الهجرة الحقيقية لأنها
مظنة الاتصاف بالأخلاق الفاضلة، والكمالات النفسية، بخلاف
القرى والبادية.
811

وقد قيل: إن الجفاء والقسوة في الفدادين (1) بالتشديد
أو حذف المضاف (2).
وقيل: يقدم أولاد من تقدمت هجرته على غيره.
فإن تساووا (3) في ذلك (فالأسن) مطلقا (4)، أو في الإسلام
كما قيده في غيره.
فإن تساووا فيه (فالأصبح) وجها، لدلالته على مزيد عناية الله
تعالى: أو ذكرا بين الناس، لأنه يستدل على الصالحين بما يجري
الله لهم على ألسنة عباده.
ولم يذكر هنا ترجيح الهاشمي، لعدم دليل صالح لترجيحه
وجعله في الدروس بعد الأفقه.
وزاد بعضهم في المرجحات بعد ذلك الأتقى، والأورع
ثم القرعة.
وفي الدروس جعل القرعة بعد الأصبح.
وبعض هذه المرجحات ضعيف المستند، لكنه مشهور.
812

(و) الإمام (الراتب) في مسجد مخصوص (1) (أولى
من الجميع (2)) لو اجتمعوا.
(وكذا صاحب المنزل) أولى منهم (3)، ومن الراتب.
(و) صاحب (الإمارة) في إمارته أولى من جميع من
ذكر (4) أيضا.
وأولوية هذه الثلاثة (5) سياسة أدبية (6) لا فضيلة ذاتية
813

ولو أذنوا لغيرهم انتفت الكراهة.
ولا يتوقف أولوية الراتب على حضوره، بل ينتظر لو تأخر
ويراجع إلى أن يضيق وقت الفضيلة فيسقط اعتباره.
ولا فرق في صاحب المنزل بين المالك للعين، والمنفعة وغيره
كالمستعير، ولو اجتمعا (1) فالمالك أولى.
ولو اجتمع مالك الأصل والمنفعة فالثاني أولى (2).
814

ويكره إمامة الأبرص، والأجذم، والأعمى بغيرهم)
ممن لا يتصف بصفتهم، للنهي (1) عنه المحمول على الكراهة جمعا
وقد تقدم.

(1) راجع (وسائل الشيعة) الجزء 5. ص 399 الباب 15.
الحديث 2. و ص 409. الباب 21. الحديث 2.
815